نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب التدبير
12451 - التدبير في وضع الشريعة اسم لتعليق العتق بالموت. كقول الرجل لعبده: أنت حر بعد موتي، أو أنت حر دُبُرَ موتي.
وهذا اللفظ شائع في اللسان في إرادة ذلك، فما زالت العرب تعرف التدبير، وتنطق به وتعتاده.
والتدبير في الأمر هو النظر في عواقبه وأدباره وما يُفضي إليه منتهاه؛ وأصل التدبير متفق عليه.
والذي يجب تقعيده في صدر الكتاب بيان اللفظ، ثم بيان حكمه على الجملة، ثم بيان حقيقته إذا أضيف إلى عقود العَتاقة:
12452 - فأما الكلام في اللفظ، فإذا قال لعبده: دبّرتك أو أنت مدبر، أو إذا مت فأنت حر، أو محرر، أو عتيق، على حسب اختلاف العبارات عن العتق، فهذه الألفاظ [هي] (1) المستعملة.
ثم النص أنه إذا قال لعبده: دبرتك، فهذا صريحٌ مغنٍ عن النية ومزيد تقييد في اللفظ، وإذا قاله السيد، وأطلقه، كان مقتضاه وقوعَ العتق عند الموت. ولو قال لعبده " كاتبتك " وذكر النجوم، فالنص أن مجرد لفظ الكتابة ليس صريحاً في موضوع العقد، حتى يقولَ معه: فإذا أديت النجوم، فأنت حر، فإن لم يقله، فَلْيَنْوِه بالقلب.
قال العراقيون: اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قال: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج: أحدهما - أن التدبير والكتابة كلاهما صريحان، وتوجيه ذلك
__________
(1) في الأصل: " من ".

(19/307)


في التدبير ظاهر، ووجهه في الكتابة أن لفظها اشتهر في الشرع اشتهار البيع والهبة وغيرهما من العقود.
والقول الثاني - أن التدبير والكتابة كنايتان في العقدين؛ لأنهما لا يستعملان إلا مع التقييد بالتعرض للحرية في منتهى الأمر، فلئن غلب اللفظ، فإنما غلب كذلك.
والطريقة الثانية: أن لفظ التدبير صريح مستغنٍ عن النية، ولفظ الكتابة كناية على ما اقتضاه النصان. وهذا هو الذي قطع به المراوزة، ولم يذكروا طريقة القولين، والفرق أن التدبير لم يزل مستعملاً على الإشاعة في الجاهلية، ثم ورد الشرع موافقاً لمقتضاه من غير تغيير في أصل المعنى، فتطابق فيه عرف اللسان والشرع.
أما الكتابة، فلم تكن مستعملة، ولم يشع في الشريعة شيوع الألفاظ المنقولة إلى عرف الشريعة، وكانوا قد يطلقونها في مخارجة المماليك وما يقدّرون عليهم من الوظائف، وإذا أرادوا صرفها إلى مقصود الكتابة، تعرضوا للحرية.
وما ذكرناه من تردد العراقيين في لفظ التدبير. فأما إذا قال: " إذا مت فأنت حر "، فهذا تصريح بالمقصود، لا شك فيه. وفي لفظ التدبير مسائل، ستأتي على ترتيب الكتاب (1) إن شاء الله.
والذي ذكرناه في حكم التمهيد.
12453 - فأما حكم التدبير، فالمدبَّر يعتِق عند موت المدبِّر إن وفَّى ثلثه، وإن ضاق الثلث عن احتماله، عَتَق منه مقدار الثلث من غير مزيد، ولو لم يخلف غير العبد عَتَقَ ثلثه، ورق للورثة ثلثاه.
وقد يخطر للفطن في هذا شيء. وهو أنه إذا لم يخلف غير العبد، وحكمنا بعتق ثلثه، والباقي للورثة ثلثاه بالجزئيّة، ولكن التبعيض يعيّب العبد، فلا يبلغ ثلثاه ثلثي ثمنه لو بيع كله، فكأنا لم نبق للورثة ثلثي التركة من طريق المالية، وإنما دخل عليهم هذا النقصان بسبب الوصية.
ولو قيل: يبقى للورثة من جزئية العبد ما يساوي ثمنه لو بيع كله، فإذ ذاك تتحقق
__________
(1) ت 5: " المكان ".

(19/308)


التجزئة المقصودة في المالية. ولكن هذا غير معتبر باتفاق الأصحاب، بل باتفاق العلماء، ويجري مثلُ ما ذكرناه في الوصية بثلث العبد وثلث الدار، فكان ما ينتقص بالجزئية من رأس المال تعلقاً بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: " إن الله أعطاكم ثلث أموالكم "، ثم لو حططنا الوصية، لكان ذلك على القطع أقل من الثلث بالجزئية والمالية، فكان هذا محتملاً وفاقاً.
ثم إذا تبيّن احتسابُ عتق المدبر من الثلث، فلا شك أن الدَّين مقوم عليه؛ وِبالجملة عتقُ المدبر ينفذ نفوذ الوصايا قدراً ومحلاً، ثم مذهب الشافعي أن التدبير لا يمنع السيد عن شيء من التصرفات التي كانت مسوغة له قبل التدبير، فله البيع، والهبة، والرهن وغيرها من أنواع التصرفات.
وسر المذهب أن التدبير ليس عقدَ عَتاقة، حتى يفرض مقصوداً في نفسه مُوقِعاً حكماً ناجزاً إلى وقوع منتهى المقصود، بخلاف الكتابة؛ فإنها توقع حيلولة في الحال من جانب السيد، وآية ذلك أن الكتابة لو جرت في الصحة، لزمت واحتسب العتق المترتب عليها من رأس المال، فلو جرت في مرض الموت، كانت إذ ذاك تبرعاً محسوباً من الثلث.
وأما التدبير فسواء قُدّر صدوره من الصحيح أو المريض، فالعتق الواقع به عند الموت محسوب من الثلث، وهذا جارٍ في قياس مذهب الشافعي، لا يميل المذهب فيه عما ذكرنا، إلا أن الشافعي قال: لو أصدق الرجل امرأته عبداً، فدبّرته، ثم طلقها قبل المسيس، لم يرتد إليه النصف منه، بل يرجع إلى نصف القيمة.
وهذا لا يخرم القاعدة التي ذكرناها؛ فإنا ذكرنا أن التدبير لا يؤثر في منع التصرفات التي كانت تسوغ قبل التدبير، وارتداد نصف العبد ليس مأخوذاً من تصرف ينشئه مالكٌ، ولكن تشطر الصداق [بدْع] (1) في جهات انتقاض الأملاك؛ من حيث إنه ليس فسخاً، والمرأة متسلطة على التصرف في جميع الصداق قبل الطلاق، فلا يقف شيء من تصرفاتها على تأكد النكاح بالمسيس، فلما تحقق الشافعي ذلك، لم ير أن
__________
(1) في الأصل: " نوع ". والمثبت من (ت 5).

(19/309)


يبطل على المرأة غرضها في عين الصداق وعَوّض الزوجَ عنها نصف القيمة، حتى قال: لو زادت عين الصداق زيادة متصلة، فللمرأة الاستمساك بالعين، وغرامة نصف القيمة، فقد أتى هذا من خاصيةٍ في الصداق، وهذا إلى خبط عظيم للأصحاب تقصيناه في موضعه.
هذا مقدار غرضنا في حكم التدبير ومقصوده.
12454 - فأما القول في حقيقة التدبير إذا نُسب إلى سائر التصرفات، فقد قال الأئمة: للشافعي قولان - في أن التدبير وصية أو تعليق عتق بصفة؟ أحد القولين - أنه وصية، وإليه ميل المزني، ووجهه أن مقصوده يقع بعد الموت، قياساً على سائر الوصايا، ولو كان في حقائق التعليق، لانقطع بالموت، ولبعُد أن يتعلق بالموت؛ فإن الرجل إذا قال لعبده: إذا دخلت الدار، فأنت حر، فدخل الدار بعد موت المعلق، لم يعتق، وإن وفّى الثلث.
والقول الثاني - أنه تعليق. ووجهه أن حكم الألفاظ يؤخذ من صيغها في التقسيم الأولي، والمعنيّ بالتعليق ربط العتق بصفة ماضية أو مرتقبة، والتدبير بهذه المثابة، والوصية تنشأ إيقاعاً بعد الموت لو يفرض فيها قبول، والتدبير بخلاف ذلك.
ثم على القولين لا يمتنع من تصرفات المولى شيء، وإنما فائدة القولين أنا إن جعلنا التدبير وصية، فيصح الرجوع عنه من غير تصرف، قياساً على الرجوع عن الوصايا. ثم في تفصيل ما يكون رجوعاً عن الوصايا باب في كتابها.
وإن قلنا: التدبير تعليق، فلا يمتنع فيه تصرف أيضاً، والمدبر كالعبد المعلق عتقه بالصفة، ولكن لو أراد الرجوعَ عن التدبير من غير تصرف في عين المدبر، لم يصح ذلك منه، كما لو أراد معلِّق العتق بالصفة أن يرجع عن التعليق، ويرد الأمر إلى ما كان قبل التعليق، فلا يجد إلى ذلك سبيلاً، فهذا ما رأينا تقعيده وتمهيده في أصل الكتاب.
12455 - ثم قسم الأئمة التدبير إلى المطلق والمقيد.
فالتدبير المطلق هو ما يقتضي حصولَ العتق بموت المدبِّر مطلقاً، من غير

(19/310)


تخصيص. ثم للشرع حكمُه بالحصر في الثلث، فإذا قال: دبّرتك أو إذا مت فأنت حر، فهذا تدبير مطلق.
والمقيد ما يتضمن تخصيصاً، مثل أن يقول: إن مت من مرضي هذا، أو إن قتلت، أو إن مت بحتف أنفي، فأنت حر. فهذه تقييدات ضمها إلى الموت، ثم الحكم عندنا لا يختلف بالتقييد والإطلاق، وكذلك تردد القول في حقيقة التدبير، وأنه وصية أو تعليق لا يختلف بالإطلاق والتقييد.
وقد يجوز أن يقال: تدبير المرأة العبد المُصْدَق إن كان مطلقاً يؤثر في منع الارتداد إلى الزوج عند الطلاق، وإن قيّدته، فقد أخرجت التدبير عن مقتضى إطلاقه، ولم تأت به مقصوداً في نفسه على المعتاد فيه، فسبيلها كسبيل المعلِّق أو الموصي. وغالب الظن أني أشرت إلى ذلك في الصداق. والأمر فيه قريب.
12456 - ثم قال الشافعي: " فإذا قال الرجل لعبده: أنت مدبر متى دخلت الدار ... إلى آخره " (1).
التدبير مقتضاه ما ذكرناه، فإن عُلق، تعلّق، ومقتضى تعليقه أن يقول: إن دخلت الدار، فأنت مدبر، وإنما ساغ هذا لأنه بين أن يكون وصية أو تعليقاً، فإن كان وصية فالوصية قابلة للتعليق، وإن كان تعليقاً، فالتعليق جارٍ في التعليق.
فإن السيد إذا قال لعبده: إن دخلت الدار، فأنت حر إذا كلمتَ زيداً، فهذا صحيح، وحاصله تعليق العتق بصفتين. ثم إذا علق التدبير بصفة في حياة المدبِّر، فوجدت الصفة، حصل التدبير، والتحق بالتدبير المطلق إن كان يختلف بهذا غرض.
فصل
قال: " ولا يعتق في مالٍ غائب حتى يحضر ... إلى آخره " (2).
12457 - صورة المسألة: إذا كان الثلث وافياً بقيمة المدبر، ولكن مات السيد،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 272.
(2) ر. المختصر: 5/ 272.

(19/311)


ولم يحضر من ماله غيرُ المدبر، وكان سائر ماله غائباً غيبة يُحتفل بها، فلا يُقْضى بتكميل العتق في المدبر؛ فإن هذا تنجيزُ الوصية، وإضافةُ حقوق الورثة إلى مالٍ قد يحول بينهم وبينه خطر، ووضع الشرع ألا تنفذ الوصية في مقدار حتى يَسْلَمَ للورثة ضعفه، ولكن هل يحكم بأنه يُعتق من المدبر ثلثُه وينتظر في تكميل العتق حضورُ المال الغائب؟
نص الشافعي على أنه لا يعتق من المدبر شيء في الحال، واختلف أصحابنا: فمنهم من قال بظاهر النص، ووجهه أنا لو حكمنا بتنفيذ العتق في جزء فيه، لأدّى هذا إلى تحيّفٍ على الورثة؛ فإنا إذا عجلنا العتق في ثلث المدبر، ولم نطلق يد الورثة في ثلثيه، كان ذلك تعجيلاً للوصية مع تأخير حق الورثة، ولا سبيل إلى ذلك، وليس كما لو لم يخلّف إلا العبد المدبر؛ فإنا نعتق الثلث، ونرق الثلثين، ونطلق فيهما حق الورثة.
ومن أصحابنا من قال: يعتِق الثلثُ في الحال؛ فإنه لا توقف فيه، ويستحيل تأخير الوصية فيما يستيقن نفوذها فيه، وأيضاً غيبة المال ينبغي أن لا تزيد على عدم المال، ولو لم يخلف إلا المدبر، لنفذنا العتق في الثلث.
فانتظم في المسألة إذاً قول منصوص، وآخر مخرج.
12458 - ثم بنى الأصحاب على ذلك مسألة، وهي أن رجلاً لو مات عن ابنين، ولم يخلّف شيئاً من الأعيان، إلا أن له ألفَ درهم على أحد الابنين، فالذي يقتضيه قياس القسمة أن يبرأ من عليه الدين من الابنين عن نصف الدين.
وقد اختلف أصحابنا في ذلك على وجهين مبنيين على القولين اللذين ذكرناهما الآن: أحدهما - أنه لا يبرأ عن شيء مما عليه؛ فإنا لو حكمنا ببراءته عن جزء، لكان مختصاً بحقه قبل أن يتوفر على شريكه مثلُ ما برِىء عنه، وإيجاب التسوية بينهما ينافي ما ذكرناه.
ومنهم من قال: يبرأ عن حصته؛ فإنه يملك مقداراً منه، ويستحيل أن يملك على نفسه ديناً، وإن قيل: إنه لا يملك (1)، فيجب أن لا يملك شريكه عليه شيئاً، وهذا
__________
(1) أي يبقى على ملك الميت.

(19/312)


يؤدي إلى تعلق التركة من غير إجراء ملك فيها، ومذهب الشافعي لا يحتمل هذا الفن.
12459 - ثم حكى الصيدلاني عن صاحب التقريب تفريعاً، ونحن نسوقه على وجهه، ثم نبحث عنه. قال صاحب التقريب حكاية عن ابن سريج: إذا مات المولى، وخلف المدبَّر ومالاً، يخرج المدبر معه عن ثلث التركة، ولكن لم يحضر إلا المدبر -كما صورناه- قال ابن سريج: لو أعتق الورثة هذا العبد واستكمل العتق فيه، ثم حضر المال -والتفريع على النص في أنه لا يعتق من المدبر الحاضر شيء- فإذا أعتقه الورثة، قال: ينفذ العتق عن الورثة، وينصرف الولاء فيه إليهم، فلو حضر المال، لم يتغير ما حكمنا به من قبل؛ فإنا نفذنا العتق عن الورثة، فلا نصرفه عنهم، فإذا كان كذلك، فالولاء لهم.
ثم قال الصيدلاني: يُخَرَّج في المسألة وجهٌ آخر: أن الولاء للميت تخريجاً على أن الوارث إذا أجاز الوصية، فإجازته تنفيذ للوصية وليس بابتداء عطية؛ فيكون الولاء للميت.
هذا مساق ما حكاه، ولم يردّ عليه، وهو في نهاية الإشكال؛ بل ما أرى له وجهاً في الصحة؛ فإن التدبير لا سبيل إلى ردّه بسبب غيبة المال، وإعتاق الورثة عن أنفسهم ردٌّ للتدبير، ويتضح هذا بصرف الولاء إلى الورثة، ثم عتق التدبير لو نفذ، فلا حاجة لإنشائه، فلا وجه إذاً إلا التوقف إلى عَوْد المال؛ فإن تحقق عودُه، فالوجه أن نقول: نتبيّن نفوذَ العتق عند الموت؛ إذ لا سبيل إلى تنفيذه بعد الموت، وإن تلف المال، نتبيّن نفوذَ العتق في ثلثه عن جهة التدبير، فإذا كان أنشأ الورثة إعتاقاً (1)، فنتبين أيضاً -عند تلف المال- نفوذ إعتاقهم عن أنفسهم في الثلثين.
وإنما التباس المسألة في (2) شيء، وهو أن المال الغائب إذا حضر، فالتعذر الذي كان أمس لا نتبين زوالَه، والقدرة على المال في الحال لا تعطف قدرة على ما مضى،
__________
(1) ساقطة من (ت 5).
(2) ت 5: " من شيء ".

(19/313)


فلو قلنا: يتبين وقوع العتق حالة الموت، لكنا نفذنا العتق مع تحقق التعذر في الثلثين، فإن احتملنا هذا، فالجواب ما قدمناه، وإن ترددنا فيه، فموجبه حصول العتق يوم القدرة.
ثم وإن قلنا بذلك، فتصرّف الورثة قبل هذا يجب أن يكون مردوداً؛ فإن العتق وإن لم ينفذ، فهو موقوف، وما استحق عن جهة الوصية لا ينفذ فيه تصرف الورثة، وإن لم تتم الوصية بعدُ، والدليل عليه أن من أوصى بوصية يفي الثلث بها لإنسان، وقلنا ملك الموصَى [له] (1) يتوقف على قبوله، فلو تصرف الوارث في الموصى به قبل القبول، لم ينفذ تصرفهم وإن كان قبول الموصى له متردداً، وكان ردّه (2) ممكناً.
ومما يتصل بذلك أن المدبِّر إذا مات وخلف العبد المدبر وتركةً يفي ثلثها بقيمة العبد لولا دين مستغرِق، فلا يحكم بنفوذ العتق ما لم يبرأ من الدين، فلو مرت أيام من موت المولى، فأبرأ مستحق الدين، فنتبين عتق المدبر عند الموت استناداً، أم نحكم بأنه يتنجز من وقت سقوط الدين؟ هذا فيه التردد الذي ذكرناه، والأظهر في هذه الصورة أن لا يستند العتق، بل يتنجز من وقت سقوط الدين.
فصل
قال: " ولو قال: إن شئتَ، فأنت حرّ متى ما متّ ... إلى آخره " (3).
12460 - إذا قال لعبده: أنت حر إن شئت، فالمذهب الذي عليه التعويل -وهو مقتضى النصوص- أن هذا يستدعي مشيئةً عاجلة، وكذلك إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شئت.
وذكر صاحب التقريب والشيخُ أبو علي أن هذا تعليق مجرد، لا يقتضي وجودَ الصفة (4) في الحال، وهو كقوله: أنتَ حر إن دخلتَ الدار، أو أنتِ طالق إن كلمت
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق. وقد سقطت من النسختين.
(2) ردّه: أي ردّ الوصية وعدم قبولها.
(3) ر. المختصر: 5/ 272.
(4) الصفة: المراد المشيئة، كما صرح بدلك الغزالي في البسيط.

(19/314)


فلاناًً، وإنما يقتضي الخطاب تعجيلَ الجواب فيما يتعلق بالمعاوضات.
وهذا الوجه غريب (1)، وإن كان منقاساً؛ إذْ أقصى (2) ما قيل في تعليل تعجيل المشيئة: إن ذلك يقتضي تمليكَها أمرها، أو تمليكَ العبد أمره، فيلتحق هذا بتمليك الإنسان الشيء في معاوضة أو تبرع. وهذا ضعيف، ثم (3) لو قال الرجل لامرأته: ملكتك نفسك، أو طلقي نفسك، ففي اقتضاء ذلك تعجيلَ الجواب قولان ذكرناهما.
وإذا قال لعبده: أنت مدبر إن شئت، أو دبرتك إن شئت، فلا بد من المشيئة، ثم القول في التعجيل والتأخير على ما ذكرناه.
ولو قال: أنت مدبر متى شئت، فهذا لا يشترط فيه تعجيل الجواب، ولكن لو مات المولى، فشاء بعد موته، فالذي أراه أن الموت يقطع هذا التعليق، وهو كما لو قال لعبده: إن دخلتَ الدار، فأنت حر، فمات السيد، ثم دخل الدار، لم يَعتِق، كذلك التدبير أمر يتممه المولى في حياته تنجيزاً، وقد يعلّقه، فتتحقق الصفة في حياته.
ولو قال: إذا مت، فأنت حر إن شئت، فهذا اللفظ فيه تردد، يحتمل أن يقال: معناه إن شئت بعد موتي، ويحتمل أن يقال: يطلب مشيئته في الحال، كما لو قال: دبرتك إن شئت، أو أنت مدبر إن شئت، فإذا تردد اللفظ بين هذين المعنيين، رجعنا إلى نيته، فإن قال: أردت تعليق التدبير بمشيئته في الحياة، فالرجوع إلى قوله، ثم يشترط تعجيل المشيئة، أم يجوز تأخيرها؟ فيه الكلام الذي قدمناه.
وإن قال: أردت تأخير المشيئة إلى ما بعد الموت، فقوله مقبول، ثم لا أثر للمشيئة في حياة المولى.
وإن قال: أطلقت اللفظ، ولم أرد به شيئاً، فحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه:
__________
(1) أي غريب في الحكاية.
(2) تعليل لصحة القياس، ببيان ضعف تعليل من قال بالتعجيل للمشيئة، مع قوله: إن المذهب الذي عليه التعويل هو التعجيل.
(3) استمرار لبيان ضعف تعليل القول بالتعجيل، حيث لا يقطع بتعجيل الجواب فيمن ملكها أمرها صراحة.

(19/315)


أحدها - أنه لا يحكم بالعتق أصلاً، حتى يشاء في حياته، ويشاء بعد الموت؛ فإن اللفظ متردد بين المعنيين جميعاً، فما لم يتحققا، لم تحصل الثقة بالعتق.
ومن أصحابنا من قال: مطلق ذلك محمول على المشيئة بعد الموت، وهو الذي صححه العراقيون؛ فإنه لما قال: أنت حر بعد موتي إن شئت، فقد ذكر المشيئة بعد وقت الحرية، فلتقع بعد الموت.
ومن أصحابنا من قال: يحمل اللفظ المطلق على المشيئة في الحال، وهذا متجه، لا بعد فيه؛ فإن قول القائل أنت حر بعد موتي عبارة عن قوله دبرتك، ولو قال: دبرتك إن شئت، فالمشيئة مطلوبة في حالة الحياة.
12461 - وقد نشأ من هذا المنتهى إشكال في شيء، وهو أن الرجل لو قال لعبده: إن رأيت عيناً، فأنت حر، والعين لفظ مشترك بين مسميات: منها العين الباصرة، وعين الماء، وعين الركبة، والدينار، وأحد الأخوين من أب وأم، فلو رأى العبد شيئاً مسمىً بالعين، فهل يعتق إذا لم يعين المعلِّق مسمىً بقلبه؟ والتفريع في مسألتنا على أن العبد لا يعتق ما لم يشأ في الحياة، وبعد الموت هذا فيه تردد.
والوجه: الحكم بأن الحرية تحصل في مسألة العين وما في معناها إذا رأى مسمىً واحداً ينطلق عليه اسم [العين] (1)، وهذا يُضعف -فيما نرى- الوجه الأول (2) في المشيئة.
ومن تمام الكلام في المسألة أنه إذا قال: أنت حر بعد موتي إن شئت، وزعم أنه أراد المشيئة بعد الموت، فلا خلاف بين الأصحاب أنا لا نشترط وصل المشيئة بالموت، ولكن لو انفصلت، جاز؛ فإنها إذا استأخرت عن الخطاب، ووجب وقوعها بعد الموت، فلا معنى لاشتراط اتصالها بالموت، وليست جواباً، والدليل عليه أن قبول الوصية في معنى قبول الهبة والبيع، ثم لما وقع بعد الموت، لم يشترط اتصاله بالموت.
ولو قال: إذا متُّ، فشئتَ، فأنت حر، فهذه الصيغة تقتضي وقوع المشيئة بعد الموت؛ فإنه ذكر الموت وعقّبه بالمشيئة، واختلف أصحابنا في أنا هل نشترط -
__________
(1) في الأصل: " العتق " وهو سبق قلم من الناسخ.
(2) المراد الوجه الأول من الوجوه الثلاثة في مسألة إطلاق المشيئة التي تقدمت آنفاً.

(19/316)


والصيغة هذه- أن تتصل المشيئة بالموت: فمنهم من قال: لا يشترط ذلك، كما لو قال: أنت حر بعد موتي إن شئت، وزعم أنه أراد إيقاع المشيئة بعد الموت.
والوجه الثاني - أنه لا بد من اتصال المشيئة بالموت إذا قال: إذا مت فشئتَ؛ لأن العطف إذا وقع بالفاء، اقتضى ذلك تعقيباً، ومن ضرورة التعقيب الاتصال. وقد ذكر الوجهين القاضي.
والذي أراه أنهما يجريان فيه إذا قال: إن دخلتِ الدار، فكلمتِ زيداً، فأنت طالق، فلو كلمته على الاتصال، طلقت، ولو انفصل التكليم عن دخول الدار انفصالاً معتداً به، ففي وقوع الطلاق وجهان.
فصل
قال: " ولو قال شريكان في عبد: متى متنا، فأنت حر ... إلى آخره " (1).
12462 - إذا كان بين رجلين عبد مشترك، فقالا له: إذا متنا، فأنت حر. فإذا مات أحدهما، لم يعتِق أصلاً؛ فإن كل واحد منهما علق عتق نصيبه بموته وموت شريكه، فلا يحصل العتق بموت أحدهما، وكل عتق أو طلاق علّق بوصفين، لم يقع بأحدهما، كما لو قال لعبده: إذا دخلتَ الدار، وكلمتَ زيداً، فأنت حر. فلا تحصل الحرية ما لم يوجد الشرطان: الدخول والكلام؛ فإذا مات أحد الشريكين، فللذي لم يمت بيع نصيبه؛ (2 فإن ملكه باقٍ كما كان، وغايته أن يكون مدبراً، أو معلق العتق، والتصرف نافذ في كل واحد منهما.
وأما الذي مات، فلا يجوز لورثته بيع نصيبه 2)، وإن لم يعتِق بعدُ؛ لأن الوصية انعقدت في نصيبه بموته، غير أن نفوذها معلَّق بمعنىً يحدث من بعدُ، وكل وصية تثبت بالموت، ونفوذها موقوف على معنىً (3) منتظر، فالوارث لا يملك قطعها، وإن لم يوجد ذلك المعنى المنتظر.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 272.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 5).
(3) سقطت من (ت 5).

(19/317)


وهذا كما إذا أوصى لواحدٍ بمال -والثلث وافٍ به- ومات الموصي، فنفوذ الوصية موقوف على قبول الموصى له، ثم الوارث لا يملك إبطال الوصية قبل القبول، وعلى هذا الأصل إذا قال لعبده: إذا متُّ، ودخلتَ الدار، فأنت حر، فإذا مات، لم يملك الورثة بيعه على هذا القياس الذي مهدناه، والتحقيق فيه أنه يصير بالموت مستحق العتاقة لو دخل الدار.
ولو قال المالك لعبده: إن دخلتَ الدار، فأنت حر، لم يمتنع عليه التصرف بسبب التعليق، وإن كان التعليق لا يتأتى رفعه مع دوام الملك، ولكن معنى التعليق: أن المالك يقول: أنا على سلطاني ما لم يدخل، فإذا وقع التعليق بعد الموت، فليس للوارث أن يقطع عليه ما بناه، وهذا يقرب من العارية والوصية بالمنفعة، فمن أعارَ مَلك الرجوع في العارية.
وإذا قال: أعيروا من فلان بعد موتي داري شهراً، لزم تنفيذ أمره، ولا يملك الوارث الرجوع، وإلا فالوصية بالمنفعة على صورة العارية. هذا منتهى ما جرى به الفكر.
وليس يخلو تعليق عتق العبد بالدخول بعد الموت عن احتمالٍ (1) من طريق المعنى، وقد رمز إليه القاضي، فإن كان لهذا (2) ثبات، فيلزم طرده في مسألة الشريكين، بل هو أولى؛ من جهة أنه ينتظر في عتقه موت الشريك الآخر، وليس ارتقابه مما يستغرب، وليس من الحزم إفساد قاعدة المذهب بمثل هذا، فالأصل ما ذكرناه (3).
ومما يتصل بذلك أن الشريكين إذا قالا: إذا متنا، فأنت حر، فليس واحد منهما مدبراً في الحال، بل كل واحد معلِّق. فإذا مات أحدهما، فقد صار الشريك الثاني بحيث يعتِق نصيبُه بموته؛ فيثبت لنصيبه الآن حكم التدبير، كما تقدم مقتضى التدبير وموجب التعليق.
__________
(1) أي عن احتمال جواز الورثة بيعه.
(2) أي هذا الاحتمال.
(3) أي ما ذكرناه من عدم جواز تصرف الوارث بعد موت الشريك.

(19/318)


فصل (1)
قال: " ولو قال سيد المدبر: قد رجعت ... إلى آخره " (2).
12463 - مضمون هذا الفصل قد سبق في تمهيد أصول الكتاب عند ذكرنا حقيقة التدبير، والقول الوجيز فيه أنا إن جعلنا التدبير وصيةً، فالرجوع عنه ممكن، وكل ما يكون رجوعاً عن الوصية، فهو رجوع عن التدبير إلا في واحدٍ (3) نرمز إليه الآن ونستقصيه في باب بعد هذا، إن شاء الله.
وذلك أن من أوصى لإنسان بجاريةٍ، ثم استولدها، أو وطئها، ولم يعزل، فنجعله راجعاً، وهذا الفن لا يكون رجوعاً عن التدبير؛ لما سنوضحه من بعدُ.
وإن قلنا: التدبير تعليق، فالرجوع عنه غير ممكن مع استمرار الملك، فإن باع المولى، جاز له ذلك، فلو عاد إليه، ففي عَوْد التدبير من الكلام ما في عَوْد الحنث في اليمين المعقودة على الطلاق أو العتَاق. فإذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم أبانها، ثم نكحها، ففي وقوع الطلاق قولان، لو دخلَتْ الدار في النكاح الثاني، وكذلك لو علّق عتق عبده، ثم باعه، وعاد إلى ملكه، ففي عود الحنث القولان المشهوران. وإذا عاد المدبَّر إلى ملك المولى بعد الزوال، فهو بمثابة ما لو باع العبد المعلَّق عتقُه، ثم عاد.
فصل
قال: " وجناية المدبر كجناية العبد ... إلى آخره " (4).
12464 - إذا جنى [المدبّر] (5) تعلَّقَ الأرش برقبته، والسيد بالخيار بين فدائه
__________
(1) من هنا بدأ سقط من نسخة (ت 5) نحو ورقتين، وسننبه عند انتهائه إن شاء الله.
(2) ر. المختصر: 5/ 272.
(3) كذا بدون موصوف لـ (واحد) ولعلّ التقدير: " في تصرف واحد ".
(4) ر. المختصر: 5/ 273.
(5) زيادة اقتضاها إيضاح العبارة.

(19/319)


وتسليمه للبيع، ولا اختصاص للمدبر بمزية في هذا الحكم، مع الحكم بأن [المولى] (1) يبيعه من غير جناية.
والذي يتعلق بهذا الفصل أنه إن بيع، ثم عاد، ففيه التفصيل الذي ذكرناه في عَوْد التدبير على قول التعليق، وقد ذكرناهما.
ولو جنى المدبر، ولم يتفق فداؤه ولا بيعه في الجناية حتى مات السيد، وكان التركة يفي ثلثها بالفداء، وقيمة الرقبة بعد الفداء؛ فقد ذكر العراقيون طريقةً وذكر صاحب التقريب أخرى. فنسوقهما ثم نذكر ما فيهما.
قال العراقيون: هذا يخرّج على القولين في أن العبد إذا جنى، وتعلق الأرش برقبته، فأعتقه سيده، فهل ينفذ فيه عتقه؟ وفيه قولان. قالوا: فإذا مات السيد، والمدبرُ جانٍ، فيخرّج على هذين القولين. فإن قلنا: ينفذ إنشاء العتق في الجاني، فإذا مات السيد والمدبر جانٍ، فيعتق المدبر، ويجب فداؤه. وإن قلنا: لا ينفذ إعتاق الجاني، فإذا مات السيد، لم يعتِق المدبر، والورثة بالخيار عند اتساع التركة، فإن فَدَوه، عَتَقَ، وإن سلّموه للبيع، كان لهم ذلك، وإن أدى إلى إبطال العتق واتسع الثلث. هذا طريق العراقيين.
فأما صاحب التقريب، فإنه قطع جوابه بأنه يجب على الورثة تحصيل العتق فيه إذا وفى الثلث بالفداء، بقيمة الرقبة، من غير فصلٍ وبناءٍ على إعتاق الجاني.
والذي ذكره العراقيون أمثل وأحسن.
ومما ذكره الأئمة أن المدبرة لو جنت، وأراد السيد بيعها في الجناية، وكان لها ولد صغير -قد (2) حكمنا بتعدي التدبير [إليه] (3) على قولٍ، كما سيأتي من بعدُ إن شاء الله- فإذا منعنا التفريق بين الأم والولد في البيع، فلو بعنا الولد، كان ذلك تسبباً إلى إبطال التدبير فيه؛ والجناية إنما وجدت من أمه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نبيع الولد مع الأم ولا نفرق. والثاني - أن نبيع الأم دون الولد؛ استبقاءً للتدبير في الولد،
__________
(1) في الأصل: " مولى ".
(2) جملة " قد حكمنا بتعدي التدبير إليه على قولٍ " في محل صفة لـ " ولدٍ صغير ".
(3) زيادة من المحقق حيث سقطت من الأصل، وما زلنا في موضع السقط من (ت 5).

(19/320)


ويجوز التفريق بين الوالدة وولدها في هذه الصورة للضرورة.
وعلى نحو هذا اختلف أئمتنا في أن من رهن جارية دون ولدها الصغير، ومست الحاجة إلى بيع الجارية في الدَّين، فيجب في وجبما بيع الولد معها، ويجوز في وجه بيعها دون الولد، ولا يحرم التفريق في هذه الصورة للضرورة الداعية إليه، وقد ذكرنا هذا في كتاب الرهون.
فصل
قال: " ولو أن سيده ارتد ... إلى آخره " (1).
12465 - إذا دبر عبداً، ثم ارتد المولى، فاختلاف الأقوال في زوال ملكه معروف، وقد أوضحناها في كتاب [المرتدّ] (2) توجيهاً وتفريعاً.
ونحن نقول هاهنا: إن قلنا: لا يزول ملك المرتد بالردة، فالتدبير يبقى. وإن قلنا: يزول ملكه، فلو عاد إلى الإسلام، فيعود ملكه، وهل يعود التدبير؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فقال بعضهم: هذا بمثابة ما لو باع المدبَّر، ثم عاد إلى ملكه، وقد مضى التفصيل فيه. ومن أصحابنا من قال: يعود التدبير عَوْدَ الملك، فإن الملك عاد لأن الزوال لم يكن زوالَ انبتات؛ إذ لو كان زوال انبتات، لما عاد بالإسلام.
وهذا بمثابة العصير يشتد، والغرض من صب العصير الخل، فإذا استحالت الخمر خلاًّ، فالملك قائم كما كان، ولو رهن عصيراً، فاستحال خمراً، ثم استحالت الخمر خلاًّ، فالخل مرهون، ونجعل كان تخلّل الشدة لم يكن، وهذا قد قررناه في كتاب الرهون.
وكذلكَ لو رهن شاة، فماتت، فيخرج إهابُها عن الاتصاف بكونه مرهوناً؛ فإن إهاب الميتة نجس العين، فإذا دبغ الجلد، فالرهن قائم، وإن لم يجدد بعد الدباغ، وقد ذكرنا محل الخلاف والوفاق في ذلك في كتاب الرهن.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 273. والعبارة هنا بمعنى ما في المختصر، لا بلفظه.
(2) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق، ثم أقول: إن الإمام سماه هناك (باب المرتد).

(19/321)


وقال قائلون: لئن زال ملك المرتد، فإذا عاد، فنجعل كأنه لم يزل، والتدبير مطرد، كما ذكرناه في العصير والجلد في حكم الرهن.
ومما يتصل بذلك أنا إذا قلنا: التدبير لا يزول، والملك لا يزول، فلو قتل على الردة، أو مات عليها فماله فيء، فإن وفى الثلث، نفذ عتق المدبر.
فإن قيل: إنما يفرض الثلث حيث يفرض الورثة، والمرتد ليس موروثاً؟ قلنا: نعم. ولكن ماله مصروف إلى جهة مستحِقه، فلا فرق بين أن يكون إرثاً وبين أن لا يكون إرثاً، والتدبير قد أنشأه في إسلامه، وثبت استحقاق العتاقة في ثلثه، فلئن شقي بالردة ومات عليها، فذلك الاستحقاق لا يزول.
ولو أنشأ المرتد التدبير في حالة الردة، فإن قلنا: لا ملك له، فتدبيره مردود، وإن قلنا: ملكه غير زائل، وقد يفرض عليه ضرب حجر من جهة القاضي، كما ذكرناه في كتاب أهل الردة، فإن دبر قبل الحجر، نفذ تدبيره، وإن دبر بعد الحجر، فهو كالمفلس يدبِّر أو يُعتِق، وقد ذكرنا تصرفاتِه في كتاب التفليس.
فصل.
قال الشافعي: " ولو قال لعبده: متى قدم فلان، فأنت حر ... إلى آخره " (1).
12466 - مضمون الفصل أن السيد إذا علق عتق عبده في حالة الصحة، ثم وجدت الصفة في حالة المرض، فالعتق محسوب من الثلث، أم هو نافذ من رأس المال؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن الاعتبار بحالة التعليق، وقد كان صحيحاً فيها، فالعتق من رأس المال، كما لو نجَّز العتقَ في الصحة. والثاني - أن الاعتبار بحالة وقوع العتق؛ فإن زوال الملك يحصل يومئذ.
وعلى هذا النحو اختلف الأصحاب في أن من علق طلاق امرأته في حالة الصحة، ووجدت الصفة في مرض موت المعلَّق، فهل نجعله فارّاً (2)؛ فيه الوجهان المذكوران.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 273.
(2) أي فارّاً من الميراث.

(19/322)


وعن هذا الأصل اختلف الأصحاب في أن شاهدين لو شهدا على تعليق العَتاق بصفة، وشهد آخران على وجود الصفة، وجرى القضاء بنفوذ العتق، ثم رجع الشهود بعد القضاء، فمن أصحابنا من قال: يجب الغرم عليهم بأجمعهم، ومنهم من قال: يختص بالغرم شهود التعليق، وليس على شهود الصفة شيء؛ فإن التعليق هو الموقع للعَتَاق، [وأما] (1) الصفةُ محلُّ وقوعه، فهي بمثابة المحل، والتعليق بمثابة العلّة، والحكم للعلة.
وكذلك جرى اختلاف القول في أن شهود الإحصان والزنا إذا رجعوا بعد نفوذ القضاء وإقامة الحد، فالغرم على من؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه على شهود الزنا، والثاني - أنه على شهود الزنا والإحصان جميعاً، وقد ذكرنا هذا في باب الرجوع عن الشهادة.
فإن قيل: من قال من الأصحاب: الاعتبار بحالة وقوع العتق، ولهذا يحتسب من الثلث، فلو قال قائل على هذا: إذا رجع شهود التعليق وشهود الطلاق، فهلا أوجبتم الغرم على شهود الصفة (2) فحسب، كما أنكم اعتبرتم الصفة الواقعة في مرض الموت، وجعلتم كأن العتق أنشىء في مرض الموت.
قلنا: هذا السؤال متجه، والجواب عنه عسر. ولكن لم يصر أحد من الأصحاب إلى أن شهود الصفة يختصون بالغرم، فهذا مما يجب فهمه وتعدّيه، والاقتصار على ما قطع به الأصحاب (3).
فصل
12467 - إذا ادعى العبد على سيده أنه دبره، فهل تسمع دعواه؛ ظاهر النص هاهنا أن الدعوى مسموعة، وهذا مشكل؛ لأن المدبَّر لا يستحق في الحال على مولاه شيئاً، وعماد الدعوى أن يستحق المدعي على المدعى عليه حقاً في الحال يملك
__________
(1) في الأصل: " وفي الصفة ".
(2) أي الصفة التي علق الطلاق عليها.
(3) إلى هنا انتهى السقط الموجود في (ت 5).

(19/323)


المطالبةَ به، وليس يملك المدبَّر على مولاه شيئاً في الحالة الراهنة، وقد نص الشافعي على أن صاحب الدين المؤجل لو أراد أن يدعيَه على المدعى عليه، لم يكن له ذلك، والتدبير كالدين المؤجل؛ من حيث إنه لا يثبت في الحال طلبه، ولكن التدبير عُلقة تُفضي إلى العتق في المآل، كما أن الدين المؤجل إذا انقضى أجله، توجهت الطلبة به، فاتفق الأصحاب على إجراء الخلاف في المسألتين، وإن لم يكن في الحال طلبٌ ناجز.
ثم هذا الذي أطلقناه منتظم في الدَّيْن المؤجل، وفيه غموض في التدبير من وجهين: أحدهما - أن السيد إذا أنكر -على قولنا بإثبات الرجوع فيه مع استمرار الملك- فهل يكون إنكاره بمثابة الرجوع؟ فنذكر هذا الطرف. ونقول: إن لم نثبت الرجوع، فلا سؤال من هذه الجهة، وإن أثبتناه، فهاهنا مسائل، نذكرها ونوضح تباينها واتفاقها:
فإذا ادعت المرأة على زوجها طلاقاً رجعياً، فأنكره، لم يكن إنكاره له رجعةً فيه؛ لأن الرجعة في حكم عقد مبتدأ مفيد لِحلٍّ جديد، ورَفْع تحريم واقعٍ، فلا يكون نفي موجَبه متضمناً إنشاءه. هذا متفق عليه.
ولو ادعى رجل على رجل آخرَ بيعاً فيه خيار للمدعى عليه، فأنكره فإنكاره له لا يكون فسخاً منه للبيع، وسينعطف على هذا ضرب من الاحتمال.
فأما إذا ادعى رجل وصيةً على الموصي، أو ادعى العبد عليه تدبيره، أو ادعى الوكيل على رجل أنه وكَّله، فأنكر هؤلاء الوصية، والتدبير، والتوكيل، فهل يكون إنكارهم رفعاً منهم لما ادُّعي عليهم؟ حاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: أحدها - أن هذه العقود بجملتها تنفسخ لو كانت ثبتت في علم الله تعالى؛ فإنها معرضة ليفسخ والرفع من جهة المدعى عليه.
ولو قال الموكل -بعد ثبوت التوكيل لوكيله-: لست وكيلي، وجب القطع بالخروج عن كونه وكيلاً، وفي قوله: ما وكلتك أمس هذا المعنى الذي ذكرناه؛ فإنه إذا لم يكن وكيله أمس، فليس الآن؛ وهذا جارٍ في الوصية والتدبير.
والوجه الثاني - أن هذه العقود لا تنفسخ بالإنكار؛ فإن الإنكار إخبار عن ماضٍ

(19/324)


لا تعلق له بالحال، فإذا كان كذباً، لم يؤثر في رفع العقود، والدليل عليه أن إنكار الأصل موجبه استحالة الرفع، فإن ما لم يقع لا يرفع، فنفي الأصل مع الرفع ضدان.
والوجه الثالث - أن الوكالة ترتفع من بينهما، ولا يرتفع التدبير والوصية؛ فإنهما عقدان يتعلق مقصودهما بغرضين ظاهرين لغير المنكر، فلم نجعل الإنكار فيهما رفعاً، وأما التوكيل، فالغرض الأظهر منه يرجع إلى الموكِّل، فإذا أنكر التوكيل، انقطعت الوكالة.
فإذا لاح ما ذكرناه، وجرى الحكم بكون الإنكار قطعاً للوصية والتدبير، فليس يبعد توجيه احتمالٍ إلى البيع الذي فيه خيار للمنكر، ولكنه بعيد.
12468 - فإذا ثبت هذا الأصلُ، عدنا إلى غرض الفصل: فإن لم نجعل الإنكار رجوعاً، فالقول في سماع الدعوى في التدبير والوصية والوكالة على التردد الذي ذكرناه.
والأوجه ردُّ الدعوى، وقبولُها في الدين المؤجل أقربُ؛ لأنه حق، وكيف لا؟ ونحن نكتفي به ركنا في عقد المعاوضة.
وإن حكمنا بأن الإنكار يكون رجوعاً في الأصول التي ذكرناها، فالذي ذكره الأئمة أن الدعوى لا تسمع على ذلك.
وهذا فيه نظر؛ فإن الدعوى إن كانت منساغة في الأصل، فليست مبنية على إنكار المدعى عليه لا محالة، فربما يقرّ، وربما يسكت ولا يقرّ ولا ينكر، فليس يمتنع (1) إجراء الخلاف، ثم المصير إلى أنه إذا أنكر، انقطعت الدعوى، والدعوى في أصلها فيها ضعيفة.
ومما يتم به البيان أن شهادة الحسبة في الطلاق والعتَاق مسموعتان -كما مهدناه في كتاب الدعاوي- وهل تسمع شهادة الحسبة على التدبير؟ هذا يخرج على الخلاف الذي ذكرناه في قبول الدعوى. فإن لم نقبلها لتحليف المدعى عليه، فلا نصغي إلى شهادة الحسبة من غير دعوى، فرد شهادة الحسبة أولى من ردّ الدعوى، فإن محل
__________
(1) سقطت من (ت 5).

(19/325)


الحسبة فيه إذا ثبت لله حق وهو مجحود، فينتهض من يشهد محتسباً في إثبات حق مجحود.
وقد ينقدح للفقيه فصلٌ بين شهادة الحسبة في غيبة المشهود عليه وبين الشهادة في حضوره، حتى يقال: الشهادة في الغيبة أولى بالقبول؛ من جهة تقدير مماتٍ أو فوات. وهذا بالحسبة أَلْيقُ، ولهذا. جوّز بعضُ الأصحاب استرجاعَ العين المغصوبة حسبةً في غيبة المغصوب منه، ولا ينبغي أن يجوز بحضرته مع قدرته على الاسترجاع أو الأمرِ به.
والأصح أن دعوى الاستيلاد مقبولة؛ فإنها تتضمن -لو ثبتت- عُلقةَ ناجزة لازمة.
ومن أصحابنا من ذكر خلافاً في دعوى الاستيلاد من غير مسيس حاجة إليها، وإن باع المستولِد أم الولد؛ فإذ ذاك لا خلاف في قبول الدعوى وشهادة الحسبة.
***

(19/326)


باب وطء المدبرة
12469 - وطء المدبرة جائز، وإذا استولدها المولى، فلا خفاء بثبوت الاستيلاد، ولا يبقى للتدبير أثر؛ فإن أمية الولد تُحصِّل العَتاقة على اللزوم، ولكن من طريق التقدير لا يكون الاستيلاد مناقضاً للتدبير؛ فإنه يوافق مقصودَه، ويؤكدُه.
وليس مساق الكلام في هذا كقولنا: الاستيلاد لا ينافي الكتابة؛ فإن المكاتبة إذا استولدها السيد، وعتقت بموت مولاها، استتبعت الكسب والولد، وهذا من آثار الكتابة، وليس يبقى لعتق التدبير خاصية، حتى يقال: إنها باقية (1) مع الاستيلاد، وليس من الفقه أن يقال: العتق معلل بعلتين، فإن خبط الأصوليين في هذا عظيم، ولسنا له الآن. نعم، إذا أوصى رجل بجاريته لإنسان، ثم استولدها، فهذا رجوع عن الوصية لمضادة الاستيلاد مقصود الوصية للغير، ولو وطئها ولم يعزل، فقد نجعل ذلك رجوعاً عن الوصية.
ولو وطىء المولى المدبَّرة ولم يعزل -والتفريع على أن الرجوع ممكن في التدبير بناء على أنه وصية- فلا يكون الوطء رجوعاً عن التدبير؛ فإن المنتظر منه العلوق؛ ولا منافاة بين مقتضاه وبين مقصود التدبير، فمن هذا الوجه تفترق الوصية والتدبير في مقدمة الاستيلاد.
ولو دبّر عبداً، ثم كاتبه -والتفريع على أن التدبير وصية- فهل تكون المكاتبة رجوعاً عن الوصية؟ فعلى قولين، نقلهما صاحب التقريب، ومنشأ التردد أن مقصود الكتابة العتُق أيضاً، ويخرج عندنا على هذا التردد ما لو علّق المولى عتق المدبر بصفة، وقد أطلق الأصحاب كون ذلك رجوعاً عن الوصية للغير. وقد ذكرت حكم الرجوع في موضعه.
__________
(1) ت 5: " كافية ".

(19/327)


وذكر الشيخ أبو علي أمراً بدعاً لا يليق به، فقال: إذا جعلنا التدبير وصية، فلو وَهَبَ المدبَّرَ ولم يسلِّم، كان راجعاً عن التدبير، وهذا منقاس، قال: وإن قلنا: التدبير تعليق، فهل تكون الهبة من غير إقباض إبطالاً للتدبير؟ فعلى وجهين.
ولست أعرف لهذا الاختلاف وجهاً، ولا طريق إلا القطع بأن الهبة بمجردها لا تُبطل التدبير. نعم، إذا اتصلت الهبة بالإقباض -فإن قلنا: الملك يحصل عند التسليم- فعنده ينقطع التدبير، وإن قلنا: نتبين استناد الملك إلى حالة الهبة، فهل نتبين استناد انقطاع التدبير؛ هذا فيه تردد.
وكذلك لو فرض بيع على شرط الخيار، وجعلناه مزيلاً للملك، فهل يبطل التدبير به قبل لزوم البيع؟ فيه تردد.
وأثر ذلك في أنا إن قلنا: إذا زال الملك على وجه اللزوم، وعاد، فالتدبير منقطع، فلو زال على الجواز، ثم عاد، فهل نحكم بانقطاع التدبير؟ فيه تردد بيّن.
يجوز أن يقال: ينقطع لزوال الملك، ويجوز أن يقال: لا ينقطع كالطلاق الرجعي إذا تداركته الرجعة، فإن الأيمان لا تنقطع، والعلم عند الله. وقد نجز هذا الغرض.
12470 - ونحن نأخذ بعده في تفصيل المذهب في ولد المدبرة. فنقول: إذا أتت المدبرة بولد بعد التدبير عن نكاحٍ أو سفاحٍ، وتبين حصول العلوق به بعد التدبير، فهل يثبت لولدها حكم التدبير؟ فعلى قولين منصوصين: أحدهما - لا يثبت، وهو القياس؛ فإن التدبير عرضةُ الرجوع في قولٍ، وهو بصدد الإبطال بالبيع في قولٍ، وما لا يلزم أو يتطرق إليه إمكان الرفع، فقياس المذهب فيه ألا يتعدى من الأم إلى الولد، اعتباراً بالرهن؛ فإنه لا يتعدى إلى الولد، وليس كولد المستولدة؛ فإن الاستيلاد لازمٌ، لا دفع له.
والقول الثاني - أنه يثبت التدبير للولد، تشبيهاً بالاستيلاد؛ فإن كل واحد منهما يتضمن العَتاقة عند الموت.
وبنى أصحابنا القولين على أن التدبير وصيةٌ أو تعليق، فإن قلنا: إنه وصية، لم يتعد إلى الولد، وإن قلنا: إنه تعليق، تعدى.

(19/328)


وهذا ليس بشيء؛ فإن الأئمة نقلوا قولين في أن تعليق عتق الأمة بالصفة هل يتعدى إلى الولد الذي تَعْلق به بعد التعليق؟ فمختار الأئمة طرد القولين، سواء قلنا: التدبير وصية أو تعليق.
وكان شيخي يقول: إذا أوصى الرجل بجارية، فعلقت بمولود بعد الوصية، الظاهرُ القطعُ بأن الوصية لا تتعدى إلى الولد، إذا حصل العلوق في حياة الموصي، ويمكن إجراء القولين كما ذكرناه في التدبير، والأظهر القطع؛ فإن الشافعي إنما ردد قوله في ولد المدبرة على مذهب التشبيه بالمستولدة، وهذا التشبيه يختص بعقد العَتاقة.
12471 - التفريع على أصل القولين في ولد المدبرة: إن قلنا: يتعدى التدبير إلى الولد الحادث من بعدُ، فلا كلام، وإن قلنا: لا يتعدى التدبير إليه، فلو كانت الجارية حاملاً لمّا (1) دبرها، فهل يثبت التدبير في ولدها الموجود حالة توجيه التدبير عليها؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنه يتعدى، لا للسريان، ولكن لاشتمال اللفظ على الحمل.
ومن أصحابنا من قال: لا يتعدى، ولم أرَ خلافاً أنه لو أعتقها وفي بطنها جنين، ثبت العتق في الجنين.
ثم إذا قلنا: يثبت التدبير في الجنين، ولا يثبت فيما يحدث العلوق به من بعدُ، فلو أتت بولد لدون ستة أشهر من وقت التدبير، فقد بان أنه كان موجوداً، وإن أتت به لأكثرَ من ستة أشهر -والتفريع على أن التدبير لا يتعدى إلى الولد الحادث بعد التدبير- فعند ذلك نُفَصِّل بين أن يكون لها من يفترشها بعد التدبير: بأن كانت مزوّجة، وبين ألا يفترشها بعد التدبير مفترش. والعهد قريب بهذا التفصيل في جر الولاء، والقول هاهنا كالقول ثَمَّ.
ثم إذا أثبتنا للولد حكمَ التدبير، فلا خلاف أن الأم لو ماتت قبل موت المَوْلى، لم يبطل التدبير في ولدها، ويعتِق الولد بموت المولى على حسب ما كانت الأم تعتِق لو
__________
(1) ت 5: " كما ". وهي بمعنى عندما.

(19/329)


بقيت، ولو باع الأم أو رجع عن التدبير فيها -على قول الرجوع- بقي التدبير (1) في الولد، وهذا يحقق أن التدبير تأصّل في الولد.
12472 - ومما يتصل بهذا المنتهى ما ذكره ابنُ الحداد في مسائلَ أتى بها بدداً من الكتب، قال: إذا مات السيد، وخلف تركةً، ومدبّرةً، وولدَها، وكان الثلث يفي بأحدهما دون الثاني - قال ابن الحداد: يقرع بين الأم والولد، كما لو دبّر عبدين، وقال بعض أصحابنا: يقسم العتق بينهما؛ فإنا لو أقرعنا، فقد تخرج القرعة على الولد، وترِق الأم، وهي الأصل، ومنها تعدى التدبير؛ فإن الولد لم يُدبّر، فيبعد أن ترِق ويعتِق الولد.
وهذا ليس بشيء. والوجه ما قاله ابن الحداد؛ فإن التدبير إذا ثبت، فلا نظر بعد ثبوته إلى ذلك، ولو صح هذا المعنى، لوجب أن يقال: تعتق الأم لا محالة، فإن بقي وفاء بالولد، فذاك، وإلا حُكم برقه، ولا قائل بذلك، وكذلك لا نعرف خلافاً أن المدبرة لو ماتت قبل موت المولى، فقد ماتت رقيقة، والتدبير لا ينقطع في الولد، فالأصل ما ذكره ابن الحداد.
12473 - ثم فرع الشافعي على قول جريان التدبير، وقال: لو اختلف المولى والمدبَّرة، فقال المولى: هذا الولد ولدتيه (2) قبل التدبير، فهو منّي وقالت: ولدته بعد التدبير، فالقول قول المولى؛ لأن الأصل بقاء ملكه على ولد أمته. وكذلك لو وقع هذا الاختلاف بينها وبين الوارث بعد موت المولى، فالقول قول الوارث.
وقد يتصور الخلاف بين الوارث وبين المدبرة على قولنا: لا يسري التدبير إلى الولد. وبيان تصويره أن الوارث لو قال: ولدتِ هذا الولد قبل موت المولى، فكان رقيقاًً، وقالت: بل ولدته بعد موته، فهو حر؛ فإن الحرة قط لا تلد رقيقاًً؛ فإنها وإن كانت حاملاً برقيق، فإذا عتَقَت عَتَق ولدها في بطنها؛ فإذا فرض النزاع كذلك،
__________
(1) ت 5: " ففي التدبير ".
(2) كذا في النسختين بإثبات الياء، وهي لغةٌ، وعليها جاء في حديث البخاري ومسلم قول ابن مسعود: " لئن كنت قرأتيه، فقد وجدتيه " (ر. البخاري ح 9539، ومسلم: 2125).

(19/330)


فالقول قول الوارث؛ جرياً على الأصل الذي ذكرناه.
فإن قيل: إذا انفصل، وكان الثلث لا يفي بها وبولدها، فكيف تحكمون بعتق الولد؟ قلنا: إذا خرجت قيمتها وهي حامل من الثلث، لم نعتبر قيمة الولد بعد الانفصال.
12474 - ومما يتم به البيان أنه إذا علّق عتقَ جاريته بدخول الدار، فأتت بولد، وقلنا: يتعدى التعليقُ إليه - فالذي ذكره الأصحاب أن الأم إذا دخلت الدارَ، وعَتقَت، عَتَق ولدُها، وإن لم يدخل الدار. فقَضَوْا بأن الولد يعتِق، بما تعتق به الأم.
وكان شيخي أبو محمد يقول: [معنى] (1) تعدِّي التعليق إلى الولد، أن الولد لو دخل، عَتَق، فأما أن يعتِق بعتق الأم، فلا.
وهذا وإن كان غريباً في الحكاية، فليس بعيداً في التوجيه؛ فإن الأصحاب إنما قالوا ما قالوه عن المدبَّرة إذا مات عنها مولاها ولها ولد، فإنهما يعتِقان، ولكن لا اختصاص للموت بالأم، بل مات المولى عنهما.
ولو ماتت الأم أولاً، ثم مات المولى، لعَتَق الولد، فموت المولى عنهما كموته عن عبدين دبرهما.
فأما إذا سرّينا التعليق، [وقلنا] (2): يعتق الولد بدخول الأم الدار، مع انتفاء الدخول عنه، فهذا تسرية عتق، وليس بتسرية التعليق. والله أعلم.
...
__________
(1) في النسختين: " متى " والمثبت تصرف من المحقق.
(2) في النسختين: " قلنا " بدون الواو.

(19/331)


باب تدبير النصارى
12475 - تدبير الذمي المعاهد والحربي جائز، وإعتاقهم عبيدَهم نافذٌ؛ فإن هذا من تصرفات المُلاّك في الأملاك، والملك ثابت لهم. ثم ذكر أن الذمي لو دبّر عبداً، ونقض العهد، فله حمل مدبَّره الكافر؛ فإنه رقيق، وهو عرضة تصرفات المولى؛ ولو كاتب عبداً ثم أراد حمله، لم يجد إليه سبيلاً.
ولو أسلم مدبَّر الكافر، فهل نبيعه عليه؟ فعلى قولين: أحدهما - يباع؛ فإنه قابل للبيع؛ فلا يدام عليه رق الكافر، مع القدرة على إزالته. والثاني - أنه يحال بينه وبينه على رجاء أن يعتِق؛ فإن إدامة هذا له أغبط عليه من بيعه لمسلم.
فرع (1):
12476 - إذا كان للرجل جاريةٌ حامل بولد رقيق، فدبّر حملها دونها، صح ذلك، ولو دبرهما جميعاً، ثم رجع عن التدبير فيها، بقي التدبير في الولد، وهل يصح الرجوع عن التدبير في الحمل إذا كنا نجوز الرجوع؟ فعلى وجهين: أصحهما - أن ذلك ممكن؛ فإنا وإن كنا نسرّي التدبير إلى الولد، فلا يبعد الرجوع عن التدبير فيه مع إبقائه في الأم. هذا هو المذهب.
ومن أصحابنا من امتنع من تصوير الرجوع في الولد -وهو حملٌ- مع إبقاء التدبير في الأم، وهذا هَوَسٌ غيرُ معتد به، ولا خلاف أن ذلك جائز على قول الرجوع بعد انفصال الولد.
فلو دبر الجنينَ دون الأم، ثم باع الأم، فقد ذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أنه إن قصد الرجوع عن تدبير الولد، صح البيع في الأم والولد، وإن لم ينوِ الرجوع عن تدبير الولد، فلا يصح البيع في الولد، ثم إذا لم يصح فيه، لم يصح في
__________
(1) هذا الفرع سقط من (ت 5).

(19/332)


الأم على الرأي الأصح فيه إذا باع جارية حبلى بولد حر، وهذا اختيار صاحب التقريب، لم يحك غيره.
والوجه الثاني - أنه يصح البيع في الأم والولد، وإن لم ينو رجوعاً وهذا هو القياس، ومنشأ الخلاف عندي من شيء وهو أن البيع هل يتناول الحمل حتى يقابل بقسط من الثمن؛ فإن قلنا: يتناوله، صح البيع؛ وإن قلنا: لا يتناوله، ثار منه التردد.
فرع:
12478 - عبد مشترك بين شريكين دبر أحدهما نصيبه، فالمذهب أن التدبير لا يسري إلى نصيب الشريك.
وذكر العراقيون والشيخ أبو علي وجهين في سريان التدبير: أظهرهما - أنه لا يسري. والثاني - أنه يسري، ويقوَّم على الشريك المدبِّر نصيبُ صاحبه على قياس سراية العتق. وهذا رديء لا أعرف له توجيهاً.
ولو كان العبد خالصاً، فدبر سيدُه نصفَه، فإن قلنا: يسري التدبير إلى نصيب الشريك، فلا شك في سريانه إلى عبده الخالص. وإن قلنا: لا يسري ثَمَّ، فلا يسري هاهنا.
فرع:
12479 - إذا دبر الرجل نصيبه من العبد المشترك، وقلنا: لا يسري التدبير، فلو أعتق صاحبُه نصيب نفسه، فهل يسري عتقه إلى نصيب المدبِّر؟ ذكر الإمام والعراقيون والشيخ قولين: أحدهما - أنه يسري، وهو القياس. والثاني - لا يسري لحق المدبِّر (1)؛ فإن السراية من ضرورتها نقل الملك، وهذا عندي شديد الشبه بالطلاق قبل المسيس، وقد دبرت المرأةُ العبدَ المصْدَق، فإن ذلك الارتداد قهري [كهذا] (2)، ولكن نقل الملك لتسرية العتق أقوى لسلطان العتق.
ثم إن قلنا: لا يسري، فلو رجع المولى عن التدبير، فهل يسري الآن؟ قال
__________
(1) عبارة الغزالي: " لأن السيد استحق العتق عن نفسه بالتدبير، فلا ينتقل إلى غيره (أي شريكه) قهراً " (ر. البسيط: ج 6 ورقة: 402).
(2) في الأصل: " هكذا ". وت 5: " لهذا ". والمثبت من تصرف المحقق.

(19/333)


الأصحاب: لا يسري؛ فإنه قد امتنع السريان حالة العتق، فلا يسري بعده، وهذا كما لو أعتق وهو معسر، ثم أيسر.
وحكى شيخي وجهاً: أنه يسري؛ فإنا منعنا السراية لرجاء العتق بسبب التدبير، فإذا زال التدبير سرّينا، ثم ذكر على هذا الوجه وجهين: أحدهما - أنا نسرّي كما (1) زال التدبير. والثاني - نتبين السريان مستنداً إلى العتق.
12480 - ثم عقد الشافعي باب في تدبير الصبي (2) المميز وتدبيرُه كوصيته، وإن لم نجعل التدبير وصية، وفي وصيته قولان ذكرناهما في كتاب الوصايا.
فإن قيل: إذا جعلتم التدبير تعليقاً، فلم تصححونه منه، والتعليق منه باطل؟ قلنا: لأنه تعليق في معنى الوصية؛ إذ العتق يحصل به بعد الموت.
...
__________
(1) كما: بمعنى عندما.
(2) ر. المختصر: 5/ 274.

(19/334)


كتَابُ المُكاتَبِ
12481 - الأصل في الكتابة: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33].
والأخبار والآثار في الكتابة قريبة مَن حد الاستفاضة، والإجماع منعقد عليها.
وقيل: اشتقاق الكتابة من الكَتْب، وهو الضم، يقال: كتبتُ البغلَةَ إذا جمعت بين شُفريها بحلقة، وكَتبتُ القِربة إذا خرزتها، وضممت أحدَ شقيها إلى الآخر، وسميت الكتابة كتابة لما فيها من ضم الحروف والكلم ونظمها، والكتيبة سميت كتيبة لانضمام بعض الناس إلى البعض، فالكتابة سميت كتابة لانضمام بعض النجوم منها إلى البعض.
12482 - ثم أصل الكتابة خارج عن قياس العقود والمعاملات من وجوه:
منها - أنها معاملة مشتملةٌ على العوض دائرةٌ بين السيد وعبده. وهذا بدع في الأصول.
ومنها: أنه يقابل عبده المملوك بما يُحصِّله العبدُ كسباً، وكسبُ العبد للمولى، فالعوض والمعوّض صادران عن ملكه.
ومنها: أن المكاتَب على منزلةٍ بين الرق المحقق وبين العتق، فليس له استقلال الأحرار، ولا انقياد المماليك، وينشأ منه خروج تصرفاته على التردد بين الاستقلال ونقيضه، ثم ينتهي الأمر إلى معاملته السيدَ، وانتظام الطلب بينهما، واستحقاق كل واحد على صاحبه، ثم يثبت للمكاتب ملكٌ، وقياس المذهب الجديد أن المملوك لا يملك، ثم يعتِق ويتبعه ما فضل من كسبه.
فأصل الكتابة إذاً خارج عن وضع قياس العقود، فرأى الشافعي الاتباع في الأصل، وتنزيلَ الكتابة على مورد الشرع، ولذلك رأى التنجيم فيها حتماً؛ فإنه لم يُلفِ كتابة

(19/335)


فيما بلغه من آثار الأولين إلا مشتملة على التنجيم، وأوجب الإيتاء بناء على ذلك أيضاً.
12483 - ثم العقود مبناها على المصالح، وأقدار الأغراض، وذلك بيّن في كل عقد، فلسنا نطيل الكلام بذكر وجوه المصالح فيها.
ثم مما يجب التفطن له في تمهيد ما ذكرناه أن ما يُفسد عقداً، قد يقع شرطاً في عقد، وهذا بمثابة قولنا: المعقود عليه في البيع يجب أن يكون موجوداً، والإجارة كما (1) أجيزت للحاجة والمصلحة، فهي لا تَرِد إلا على منافع معدومة، ثم الإعلام شرطٌ في الإجارة، إما بالمدة وإما بذكر ملتمسٍ معلومٍ، كخياطة الثوب ونحوها.
ومقصود النكاح لا يثبت إلا مجهولاً ممدوداً على أمد العمر، والتأقيت يفسده، كما أن التأبيد يفسد الإجارة؛ لأن اللائق بكل عقد ما أثبت فيه: إما تأقيتٌ أو تأبيد؛ وصحت الجعالة مع ظهور الجهالة فيها لمسيس الحاجة، حتى لا يُشترط في بعض صورها قبول وتعيين مخاطب؛ فيقول الجاعل: من رد عبدي، فله عليّ كذا.
ثم جرت هذه العقود على حاجاتٍ حاقّة، تكاد تعم، والحاجةُ إذا عمت، كانت كالضرورة، وتغلب فيها الضرورةُ الحقيقية؛ ثم أثبت الشرع معاملةً لا تظهر الحاجة فيها ظهورها في القواعد التي ذكرناها، ولكنها تتعلق بالاتساع في المعيشة، وتحصيل الزوائد والفوائد، كالقراض في تحصيل الأرباح، ثم أثبت الشرع فيه أمراً بدعاً لتحصيل الربح، وأثبت عوض عمل العامل جزءاً من الربح، ليكون ذلك تحريضاً له على بذل الجد في الاسترباح. والكتابة من وراء ذلك؛ فإن العبد يستفرغُ الوسع، ويتناهى في تحصيل الأكساب إذا كوتب.
والعتق محثوث عليه على الجملة، والرق من أظهر آثار القهر والسطوة، فرأى الشرع إثباتَ معاملة يحصل بها التقرب إلى الله تعالى بالعتق؛ فإن الكسب يُمْلَكُ من العبد مِلْكَه (2)، ثم لا يحصل الغرض بتعجيل العتق واتّباع معسر لا مال له؛ فإن
__________
(1) كما: بمعنى (عندما)، وهي في ت 5: (لمّا).
(2) المعنى أن الكسب من العبد، أي اكتسابه، يملكه منه مِلْك رقبته، أي كما تملك رقبته، ثم =

(19/336)


الرغبات تتقاعد عن ذلك؛ فكانت المكاتبة معاملة [تحقق] (1) الغرض الذي أشرنا إليه.
12484 - وكل عقد لم يعهد له نظير في العقود، فلا ينبغي أن يقال: لا يعقل معناه؛ فإن وضعه ومقصودَ الشرع منه معقول، ولكن لو رُدّ الأمر إلى نظرنا، لم نستنبط من قياس العقود وضعَ ما أحدثه الشرع لمقصود جديد، وإذا عقلنا معناه وخاصيته في مقصوده، تصرفنا بما فهمناه في تفصيل ذلك العقد، حتى نجيز ما يتوفر المقصود عليه، ونفسد ما يتخلف المقصود عنه.
وننظم في هذه المسالك أقيسة فقهية وأخرى شبهيّة وننوّعها إلى جلية وخفية، ولذلك تتسع مسائلُ كتابٍ، [فتبلغ] (2) آلافاً، وموضع النص منها معدود محدود، وليس لنا أن نفتتح مصالح، ونبني بحسبها عقوداً؛ فإن ما نتخيل من جهات المصالح لا نهاية لها، وقواعد الشرع مضبوطة، وإن فرضت مصلحة شبيهة بالمصلحة المعتبرة في الشرع، فقد نجوّز القياس فيها بطريق التشبيه إذا ظهر، وهذا مقام يجب أن يتأنق القائسُ فيه، ويحاذر البعدَ عن الاتباع، ولا يجري بالخَطْو الوساع.
هذا الشافعي لما رأى المساقاة قريبة من القراض، ورام أن ينظم بينهما تشبيهاً، لم يهجم على قياس المساقاة على القراض، بل استمسك بالحديث في المساقاة، ثم لما رام التعلُّقَ بالمعنى، قال: ليس للقراض ثبتٌ في الحديث، ولم يُجمع الأصحاب عليه إلا عمّا ظهر لهم في المساقاة - في كلام طويل وفيناه حقه من [التقرير] (3) في الخلاف (4).
__________
= بعقد الكتابة الذي هو عقد عتاقة، متقرب به إلى الله، تصير أكساب العبد ملكاً له يؤديها نجوماً يعتق بأدائها.
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: " تبلغ "، والمثبت من (ت 5).
(3) في الأصل: " التقريب "، والمثبت من (ت 5).
(4) هنا خرم في (ت 5). نحو عشر ورقات كاملة، وأعتقد أنها كراسة كاملة -الكراسة عشر ورقات- سقطت من الأصل الذي كتبت عنه نسخة (ت 5)، فإن الخرم ليس يبدأ من رأس الصفحة ونهايتها، مما يشهد بأن السقط كان من الأصل المنقول عنه.

(19/337)


12485 - ثم إنا نستعين بالله فنقول: وضع الكتابة على الاتباع، فلذلك وجب فيها التنجيمُ، والإيتاء، كما سيأتي إن شاء الله.
ثم انتظمت الكتابة معاوضة حقيقية بعد ما احتُمل [معاوضة] (1) الملك بالملك، ولم تصح على عين، لأنها ملك يُحصَّل للسيد، والكتابة للتحريض على تحصيل الكسب، واقتضى ذلك تسليطَه على الكسب على الاستقلال، على شرط ضرب الحجر عليه في التبرع، فقد يكتسب ويَضَعُ (2)، وابتنى على هذا معاملته للسيد؛ فإن عليه أداء النجوم، وله طلب النجم منه، فكان كل عوض في معاملة بهذه المثابة، ثم لو أعتقه السيد برىء؛ لأنا احتملنا عوضَ الكتابة لتحصيل العتق، فإذا حصل العتق، ارتدت النجوم، ولو أبرأ عن النجوم، حصل العتق على قياس المعاوضة؛ فإن استيفاء العوض والإبراء عنه بمثابة، وتعليق العتق بتأدية النجوم ضِمْنٌ (3)؛ فإذا قال: إن أديت، فأنت حر، لم يكن هذا تعليقاً محضاً، بل هو تعبير عن مقصود الكتابة ومآلها، وإلا فالكتابة في صحتها على حكم المعاوضة.
وإن فسدت الكتابةُ، فالعتق لا يفسد تعليقُه، وهو المقصود في تصحيح (4) الكتابة؛ ولولاه، لفسدت الكتابة، نظراً إلى مقاصد العقود، فانتظار هذا المقصود يُثبت للكتابة الفاسدة -في بعض قضاياها- حكمَ الصحة؛ حتى يستقل العبد، والكتابة جائزة؛ لأنه لم تتوفر عليها شرائط الصحة، فإذا حصل العتق، غلب عند حصوله مضاهاة الخلع؛ فإنه إذ ذاك عتق بعوض فاسد، فيثبت الرجوع إلى قيمة العبد، وهذا يناظر الرجوع إلى مهر المثل في الخلع الفاسد.
ثم الكتابة جائزة -وإن صحت- من جانب العبد؛ فإن السيد لا يخسر بتعجيزه (5)
__________
(1) في الأصل: " معاملة "، والمثبث تصرف من المحقق.
(2) ويضع: أىِ يضع المستحقَّ له عمن يعاملهم، ويُبرئهم عما يجب عليهم، تبرعاً منه.
(3) ضمنٌ: أي في مطاوي كلام العقد ودلالاته، فهو في حقيقته عقد معاوضة، وإن علق العتق على أداء النجوم.
(4) كذا. ولعلها في صحيح الكتابة.
(5) أي تعجيز العبد نفسه عن النجوم، وعوده إلى كمال الرق.

(19/338)


نفسَه، وهي لازمة -إذا صحت- من جانب السيد، حتى يثق العبد، [فيكتسب] (1).
ْهذا وضع الكتاب، وتمهيد قاعدتها.
ثم مسائل الكتاب تنعطف على هذه الأصول، وتتبين بها، والأصول تنبسط بالمسائل.
12486 - ونعود بعد ذلك إلى ترتيب المسائل، فنقول: إذا دعا العبد مولاه إلى المكاتبة، وكان كسوباً، مائلاً إلى الخير، فإجابته إلى الكتابة مستحبة، والأصل فيه قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، ولا تجب الإجابة خلافاً لداود (2) وطائفةٍ من السلف.
قال صاحب التقريب: ردد الشافعي جوابه في هذا في بعض مصنفاته، ولم يُبعد القولَ بوجوب الإجابة. ثم حكى قولاً مرسلاً للشافعي على هذا النحو، وعضده ببناء الشافعي أصل الكتابة على الاتباع، وقد أوجب الإيتاء تعويلاً على قوله تعالى: {وَآَتُوهُمْ} [النور: 33]، وذلك معطوف على قوله: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33].
وهذا غريب، لم أره لغيره، ولست أعتد به، وذلك أن الصيغة ليست ممتنعة عن الحمل على الندب، ولو حملناها على الإيجاب، لبطل أثر الملك، واحتكام الملاك، ولزوم اطراد الرق، فليس يليق بوضع الشرع إيجاب إنشاء الكتابة، ولا يمتنع أن يكون الإيتاء موجَباً لعقد الكتابة بعد اختيار الإقدام عليها؛ ومثل هذا لا يحيط به إلا مَنْ يألف مسالكنا في الأصول.
12487 - ولو لم يكن العبد كسوباً ولا أميناً، فلا تستحب مكاتبته؛ فإنه يجرّ بالاستقلال خبالاً، ثم قد يعجّز نفسه آخراً، ولو عَتَق، لكان كلاًّ على المسلمين.
قال العراقيون: إن لم يكن كسوباً، وكان رشيداً ذا خير، ففي استحباب مكاتبته وجهان ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه لا تستحب، وهو الذي قطع به المراوزة لما
__________
(1) تقدير من المحقق مكان كلمة استحالت قراءتها.
(2) ر. المحلى: 9/ 222.

(19/339)


أشرنا إليه [من] (1) أنه إذا لم يكن كسوباً، صار وبالاً بعد العتق يتكفف الوجوه.
والثاني - أنه تستحب إجابته؛ فإن أرباب الزكوات إذا رأوا رُشدَه وخيرَه، رغبوا في تخيّره لصرف سهم المكاتبين إليه، وهذا الوجه يعتضد بظاهر قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]؛ فإنه ليس في سياق الآية التعرض للكسب.
فأما إذا كان غير رشيد، وكان كسوباً، فلم ير أحد استحبابَ كتابته؛ لأن من لا يوثق به، فلا تعويل على معاقدته.
وهذا الفصل على ظهوره يستدعي مزيد كشف؛ فإن الإعتاق قُربةٌ في العبد، كيف فرض العبد محبوبٌ. وما ذكر من مصير العبد كلاًّ، لا تعويل عليه؛ فإن تنجيز العتق محبوب مع ذلك، فالتعويل على أنا لا نستحب للعبد المكاتبة؛ فإن الكتابة لا تنجز العتق، وإذا لم يكن أمانة وقوة، فيبعد رجاء العتق بطريق الكتابة، ولا يندب السيد إلى إيقاع الحيلولة بين نفسه وملكه من غير ظهور الرجاء في العتق. فهذا هو الأصل.
12488 - ثم ذكر الشافعي في بعض مجموعاته لفظة، ننقلها لغرض، قال: " أما أنا، فلا أمتنع -إن شاء الله- من كتابة عبد جمع القوة والأمانة " وظني أن ما حكاه صاحب التقريب مأخوذ من هذا، فإن كان كذلك، فلا وجه له؛ فإن الشافعي قال هذا بإيثاره في حق نفسه الخروجَ عن الخلاف، وابتدار الأحب والأفضل، وهذا كقوله: لو كنت أنا الواجد، لخمست القليل والكثير، ولو وجدت تجارة، لخمستها، وقال: أما أنا، فلا أَقْصر فيما دون ثلاثة أيام، وإن كان القصر مباحاً لي.
ومثل ذلك كثير.
فصل
قال: " ولا يكون الابتغاء من الأطفال والمجانين ... إلى آخره " (2).
12489 - كتابةُ الطفل باطلة، وكذلك كتابة المجنون، وتيمن الشافعي في ذلك بظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور: 33]، وقال: لا يكون الابتغاء من
__________
(1) في الأصل: " في ".
(2) ر. المختصر: 5/ 274.

(19/340)


الأطفال والمجانين، أراد لا حكم لابتغائهم.
وهذه المسألة مأخوذة من بطلان عبارة الطفل والمجنون في العقود، والمعوّل في صحة العقد المفتقر إلى الإيجاب والقبول على صحة العبارة من الموجِب والقابِل.
وقال أبو حنيفة (1): كتابة الصغير الذي لا يعقِل عقلَ مثله جائزة، وهذا بناء منه على تصحيح تصرف العبد الصغير إذا كان بإذن المولى، والسيدُ بإيجاب الكتابة له آذنٌ في القبول، وعندنا عبارة الطفل كعبارة المجنون.
فإن قيل: هلا ربطتم صحة العقد بعبارة الطفل المميز، كما أوقعتم الطلاق بقبول السفيهة المحجور عليها إذا خالعها زوجها؟ قلت: لا سبيل إلى ذلك؛ فإن السفه لا يبطل العبارة بالكلية. فإن قيل: ذكرتم اختلافاً في أن الزوج إذا قال لزوجته الصغيرة: أنت طالق إن شئت، فقالت: " شئت "، هل يقع الطلاق بعبارتها؟ قلنا: من ذكر ذلك الخلاف في المشيئة، لم يذكره في لفظ العقد؛ فإن العقود متضمّنها إلزامٌ، وعبارة الصبي بعيدة عن هذا المعنى، وقول القائل: شئتُ إذا صدر عن فهم يسمى مشيئة. ثم مع تسليم ذلك كلِّه إذا قال للسفيهة: " أنت طالق على ألف "، فقالت: قبلت، لم يثبت الخلع، ووقع الطلاق رجعياً، والكتابة إذا لم يثبت فيها مقتضى إلزام والتزام، فلا وقع لها، والطلاق ينقسم إلى الرجعي والبائن.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أن كتابة الصغير باطلة، لا يثبت لها حكم الكتابة الفاسدة، على ما سنجمع أحكام الكتابة الفاسدة، إن شاء الله، ولكن إن قال المولى: إن أديتَ كذا، فأنتَ حُرٌّ، فوجدت الصفة، قضينا بوقوع الحرية لوجود الصفة، ثم لا يرجع المولى [بقيمته عليه] (2)، بخلاف ما إذا فسدت الكتابة الجارية مع العبد العاقل البالغ لما ذكرناه من انتفاء الكتابة بالكلية وتمحُّض التعليق.
وفي النفس شيء من قوله: " إن أديت " فإن هذا أداء من حيث الصورة، وإن كان لا يتصور فيه التمليك، أم كيف السبيل فيه؟ وقد ذكرنا أن قول الرجل لامرأته: "إن
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 384، حاشية ابن عابدين: 5/ 60.
(2) في الأصل: " بقيمتها عليها " ولم يسبق في الكلام إشارة فرض المسألة في جارية.

(19/341)


أعطيتني ألفاً، فأنت طالق" يقتضي إعطاء مع إمكان التمليك، وسنأتي في هذا بما يكشف الغطاء في فصل الكتابة الفاسدة، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " وما جاز بين المسلمين في البيع والإجارة ... إلى آخره " (1).
12490 - كل ما جاز أن يكون عوضاً في البيع والإجارة والنكاح، جاز أن يكون عوضاً في الكتابة، إذا كان موصوفاً في الذمة منجماً، وهذا يستند إلى ما مهدناه.
فإذا التزمنا الاتباعَ، وسوّغنا معاملة الرجل ملكه بملكه للحاجة التي أومأنا إليها، فلا حاجة بعد تمهيد هذا إلى مخالفة قياس المعاوضات، فيجب أن نرعى فيها من الإعلام ما نرعاه في عقود المعاوضات. ثم تختص الكتابة بكون عوضها واقعاً في الذمة؛ لأن العبد لا يملك عيناً، وما في يده من الأعيان لمولاه، أو لأجنبي، ولا يصح إيراده الكتابة عليها.
فإن قيل: كسبه -لو اطرد الرق- لمولاه.
قلنا: غيرَ أن الكتابة تملكه الكسب، ولا تملكه الكتابة عيناً من أعيان مال السيد؛ فليكن عوضُ الكتابة موصوفاً في الذمة بمثابة المُسلَم فيه إن كان عَرْضاً، وإن كان نقداً غالباً أغنت العادة عن ذكر الأوصاف، كصنيعها في المعاوضات، وأثبت أبو حنيفة (2) العبد المطلق عوضاً، أو صرفه إلى عبد وسط.
فصل
قال: " ولا يجوز على أقل من نجمين ... إلى آخره " (3).
12491 - التأجيل ركن في الكتابة عند الشافعي رضي الله عنه، وكذلك التنجيم؛ فلا تصح المكاتبة إلا على نجمين فصاعداً، ومعتمد المذهب الاتباعُ، ولم يثبت عن
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 274.
(2) ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 62.
(3) ر. المختصر: 5/ 274.

(19/342)


الأولين تعرية الكتابة عن التأجيل [والتنجيم] (1).
وقال أبو حنيفة (2): الأجل يشترط في السلم لابتنائه على جرّ مرفقٍ موفور، وزعم أن الحلول ينافيه، ثم جوز الكتابة الحالّة ومبناها على المواساة لا غير.
وتعلق بعض أصحابنا بتحقق عجز المكاتب عن تأدية العوض لو كان حالاًّ (3).
ولست أعتمد ذلك في الخلاف، ولكني أذكره لربط مسائلَ مذهبية بطرده وعكسه.
قال أئمتنا: العبد إذا قبل الكتابة، فلا يتصور له مع حصول القبول ملكٌ عتيد (4) يِتهيأ تأدية العوض فيه، ففرض أصحاب أبي حنيفة مسائلَ نذكرها ونذكر المذهب فيها.
فإن قيل: لو أوصى إنسان له بمال قبل الكتابة، فمات الموصي قبل جريان الكتابة أو فرض إنشاء هبة؟
قلنا: كل ذلك بعد قبول الكتابة (5)، ولو قبل الوصية والهبة قبل قبول الكتابة، لم يصح قبوله على مذهبٍ، ويصح على وجه، ويقع الملك للمولى، وإن فرض القبول بعد قبول الكتابة، فيكون العوض لازماً قبل تمام قبول الوصية، ولا مال ولا تمكن في تلك الحالة.
فإن قيل: لو كاتبه على مقدار من الملح وهما على [مَمْلحة] (6)، فيقبل الكتابة ويسلِّم الملح.
قلنا: لا يملك الملح ما لم يأخذه، فالأخذ بمثابة قبول الوصية فيما قدمنا.
__________
(1) في الأصل: " والتنجيز " والمثبت من تصرف المحقق رعاية للسياق.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 411 مسألة 2097، رؤوس المسائل: 545 مسألة 204، مختصر الطحاوي: 384، المبسوط: 8/ 3، حاشية ابن عابدين: 5/ 60.
(3) أي جعل علة اشتراط التأجيل في الكتابة عجز المكاتب عن الأداء العاجل، فإنه لا ملك له عند الكتابة.
(4) عتيد أي حاضر مهيأ.
(5) المعنى أن كل ذلك لا يمكن أن يقع للعبد ملكه قبل قبول الكتابة، كما سيظهر من التفصيل بعده مباشرة.
(6) في الأصل: " مصلحة ".

(19/343)


فإن قيل: لو كان نصفه حراً وقد حصل له مال بنصفه الحر، فكاتب مالك الرق في نصفه النصف المملوك كتابة حالّة؟
قلنا: اختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من جوّز هذا لتمكنه من تأدية النجم، واقتران القدرة والملك بالعقد، ومن أصحابنا من منع ذلك.
والذي يستقيم على تحقيق الأصول المنع؛ فإنا لا نعتمد ما ذكره الأصحاب من تحقق العجز في أول الحال، بل التعويل عندنا في اشتراط [التأجيل] (1) الاتباعُ، وهذا يطرد في الصور، فلا تجوز الكتابة إلا على حسب ما عُهدت عليه.
فإن قيل: لو كاتب عبدَه على نجمين بينهما لحظة، وكل نجم مالٌ جم، ويبعد الاستمكان من مثله في مثل ذلك الزمان، فما الجواب؟
قلنا: أما من اعتمد اقتران العجز، فقد طردوا وجهين في هذه الصورة: أحدهما - الجواز لتصور الإمكان، ثم إن لم يتفق، فأصل التعجيز ممهّد. ومن أصحابنا من لم يصحح ذلك؛ لأن ما يندر الاقتدار عليه، فهو في عقود المعاوضات كالمعجوز عنه، ولهذا بَطَل السلمُ فيما يعزّ وجوده بطلانَه فيما يُستيقن عدمه.
وهذا لا أصل له مع الاتفاق على مبايعة المعسر الذي لا يملك شيئاً، مع إثبات ثمن قد لا يستقل به ذوو الثروة والغِنَى، وقد سمعت شيخي في بعض مجالس الإفادة يحكي وجهاً في فساد البيع، إذا كان الثمن زائداً على قيمة المبيع؛ فإن القيمة إن كانت مثلَ الثمن، أمكن صرف المبيع إلى الثمن.
وهذا بعيد لا أصل له، وإن نحن اتبعنا مورد الشرع، ولم نتمسك باقتران العجز، أمكن إجراء الوجهين: فأحدهما - على اتباع صورة التنجيم والتأجيل (2). والثاني - أن ذلك ممتنع؛ فإنا وإن اتبعنا، فلا ننكر فهم معنى المواساة؛ وإذا بعُد الإمكان، بطلت المواساة، وهذا يناظر اختلافَ القول في إلحاق المحارم بالأجنبيات في اللمس الناقض للطهارة.
__________
(1) في الأصل: " التعجيل " وهو سبق قلم واضح.
(2) أي يجوز العقد لأنه جرى على الاتباع في وجود صورة التنجيم والتأجيل.

(19/344)


وقد ذكر القاضي وجهين فيه إذا أسلم إلى مكاتَب عقب قبول الكتابة سلماً حالاًّ، وهذا بعينه هو الذي ذكره شيخي رضي الله عنه في البيع من المعسِر، ولكن بين المسلم فيه والثمن فرق على حال؛ ولذلك امتنع الاعتياض عن المسلم فيه، [وفي] (1) الاعتياض عن الثمن قولان، فالإسلام إلى المعسِر كالإسلام إلى المكاتب على أثر قبول الكتابة، فأما الثمن، فيحتمل ما لا يحتمله المسلم فيه، ولهذا ذهب معظم الأصحاب إلى أن انقطاع جنس الملتزم ثمناً لا يوجب انفساخ العقد، وفي انقطاع المسلم فيه قولان. وذهب المحققون إلى التسوية بين الثمن والمسلم فيه في جميع ذلك، وهذا يخرج حَسَناً (2) على إثبات حق الفسخ للبائع إذا أفلس المشتري بالثمن.
12492 - ثم قال الشافعي: " ولو كاتبه على مائة دينار موصوفة الوزن والعين إلى عشر سنين ... إلى آخره " (3).
مقصود الشافعي قطعُ وَهْم من يتوهم منعَ المزيد على نجمين، فالنجمان هما الأقل، ولا منتهى لما يجوز من المزيد على التراضي، ولا يشترط اتفاق النجوم في القدر، ولا استواء الأزمنة المتخللة.
ثم قال الشافعي: " ولا يَعتِق حتى يقول في الكتابة: إذا أديت، فأنت حر ... إلى آخره " (4).
هذا ما قدمناه في أول التدبير، فالنص أن لفظ التدبير صريح في موضوعه، ولفظ الكتابة ليس صريحاً حتى يقترن بالتصريح بتعليق الحرية على أداء النجوم.
وقد ذكرت اختلافَ الطرق في النقل والتخريج، وتنزيلَ النصين منزلتهما والفرقَ
__________
(1) في الأصل: " وعن " والمثبت من تصرف المحقق.
(2) كذا في الأصل. ويمكن أن تقرأ " حيناً ".
وعبارة الغزالي في هذا الموضع: " ومن المحققين من رأى التسوية بين الثمن والمسلم فيه في جميع الأحكام وهو متأيّد بمذهب الشافعي في إثبات الفسخ بسبب الإفلاس بالثمن " (ر. البسيط: 6/ورقة: 199 يمين).
(3) ر. المختصر: 5/ 274.
(4) ر. المختصر: 5/ 274.

(19/345)


بينهما، والذي نذكره الآن أن هذا التعليق ليس تعليقاً على الحقيقة، وإنما هو نطق بمضمون العقد على الغالب؛ إذ لو كان تعليقاً، لما حصل العتق إلا بالأداء، وإنما الغرض إزالة التردد في لفظ الكتابة، ولهذا قال الأصحاب: النية كافية من غير لفظ، ولو كان التعليق مقصوداً، لبعد حصوله بالنية في ظاهر الحكم. هذا ما أردنا التنبيه عليه.
فصل
قال "ولا بأس أن يكاتبه على خدمة شهر ودينار بعد الشهر ... إلى آخره" (1).
12493 - صورة المسألة أن يكاتب عبده على أن يخدمه شهراً، ويؤدي بعد الشهر ديناراً، قال الشافعي: الكتابة على هذا الوجه جائزة؛ فإن منافع المكاتب بعد انعقاد الكتابة بحكم المكاتَب (2)، فإذا وقع الشرط على صرف مقدارٍ منها إلى عوض الكتابة، ساغ ذلك.
وهذه المسألة تهذب الأصل الذي قدمناه في اشتراط التأجيل، أو التنجيم؛ فإن منفعة المكاتب متصلة بقبول الكتابة، ولا أَجَلَ فيها؛ والمدة المذكورة تثبت لتأديتها على حسب وجودها شيئاً فشيئاً، وإلا فاستحقاق المنفعة ثبت حالاًّ، وهذا يوضح أن شيئاً من عوض الكتابة إذا أمكن ثبوته مع التمكن من أدائه، فلا امتناع في حلوله، وإنما نشترط التأجيل في الأعواض التي نستيقن اقتران العجز عنها بعقد الكتابة، وهذا لا يتحقق في منافع المكاتب.
ولو فرض استئخار المنفعة المشروطة عوضاً عن وقت قبول العقد، لما صح العقد؛ فإنّ إضافة العقد اللازم إلى وقت منتظر للمنافع غير جائزة عندنا، ولهذا امتنع إجارة الدار الشهرَ الذي سيأتي، فالمنفعة إذاً لا تثبت عوضاً في الكتابة إلا متصلة، ثم استئخار أدائها على حسب التصور في وجودها، ولكن هذا إنما يتحقق في النجم
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 275.
(2) أي صارت منافعه ملكاً له.

(19/346)


الأول، ولا بد من فرض نجمٍ ثانٍ؛ فإن [التنجيم] (1) ركن الكتابة، ومن ضرورة محل النجم الثاني أن يتأخر. [و] (2) النجم الأول يجوز أن يكون حالاً في منفعة المكاتب لا غير؛ فإن الإمكان يتحقق فيها مع القبول، والنجم الثاني يتأجل لا محالة؛ فإنه لا يتحقق تعدد النجم إلا بتخلل فاصل زماني.
ثم لفظ الشافعي في المسألة قد يوهم وجوب تأجيل الدينار، بحيث يحل بعد انقضاء الشهر المذكور وقتاً للمنافع. وقد سبق هذا إلى فهم أبي إسحاق المروزي واعتقده مذهباً، وشرطَ انفصال محل الدينار عن منقرض الشهر ولو بلحظة، وخالفه كافة الأصحاب؛ فلم يشترطوا ذلك، وقالوا: لو كاتب عبده على منفعة شهر ودينار بعد القبول بيومٍ أو بلحظة جاز؛ فإن محل المنافع الساعة المتصلة بالقبول، وطوال الشهر لاستيفاء ما ثبت استحقاقه، فإذا انفصل محل الدينار عما بعد العقد بألطف ساعة، فقد تحقق التنجيم (3).
ولو أردنا أن نصور حلول نجم المنفعة [بعد] (4) حلول الدينار، لم يصح ذلك؛ فإن المنافع إذا انفصل استحقاقها عن العقد، كانت الإضافة إلى زمان منتظر، وهذا ما لا سبيل إليه.
ولو قال: كاتبتك على خدمة شهر، ثم زعم أن الخدمة من كل عشرة أيام من الشهر نجمٌ، لم يصح ذلك؛ فإن المنافع لو لم تستحق دفعة واحدة نجماً واحداً، لكان النجم الثاني مستحقاً على تقدير الإضافة إلى زمان منتظر، وقد يخرج في ذلك وجه إذا وقع التصريح بهذا التفصيل، وهذا الوجه مبني على ما إذا آجر الرجل داره من إنسان، ثم قال: إذا انقضت مدة الإجارة الأولى، فقد أجرتك شهراً آخر، ففي أصحابنا من
__________
(1) في الأصل: التنجيز، والمثبت تصرف من المحقق رعاية للمعنى الذي لا يستقيم إلا به.
(2) الواو زيادة من المحقق لاستقامة الكلام.
(3) المعنى أن محل النجم الثاني -الذي هو الدينار- تأخر عن محل النجم الأول -الذي هو المنفعة- حيث يحل النجم الأول بعد القبول متصلاً به، فالعبرة بحلول النجم الأول وليس بانتهائه، ولذا أجاز الأصحاب أداء الدينار بعد العقد بيومٍ أو ساعة، فذلك متأخر عن حلول النجم الأول كما ترى.
(4) في الأصل: " بغير "، والمثبت من المحقق إقامة للعبارة، وتصويباً لهذا التصحيف.

(19/347)


يصحح ذلك، إذا اتحد المستأجر، واتصل مبتدأ الإجارة الثانية بمنقرض مدة الإجارة الأولى. وهذا الوجه بعيد، ويخرج مثله فيما ذكرناه من الكتابة، والأصح المنع في الموضعين.
ولو كاتبه على خدمة شهر، وخدمة شهر آخر بعد الشهر الأول بعشرة أيام، فسدت الكتابة، لإضافة الاستحقاق إلى زمان منتظر في الشهر الثاني.
ولو أعتق عبده على أن يخدمه شهراً؛ فقبل، عتق في الحال؛ فإنه علق العتق ونجَّزه على قبول الخدمة، فإذا قبلها عَتَق، ثم عليه الوفاء؛ فإن الوفاء ممكن، فإن تعذرت الخدمة في الشهر كله، فالعتق لا مستدرك له، والرجوع إلى قيمة الأجرة، أو إلى قيمة العبد؟ فعلى القولين المذكورين في بدل الخلع، وفي الصداق المسمى إذا فرض فيهما التلف قبل التسليم.
فصل
[قال]: " وإن كاتبه على أن باعه شيئاً لم يجز ... إلى آخره " (1).
12494 - إذا شرط في عقد الكتابة أن يبتاع المكاتب منه شيئاً، فسدت الكتابة، وهذا من باب شرط عقد في عقد.
[فلو] (2) قال: كاتبتك، وبعت منك هذا العبد بألف، ونجّمه على الشرط المعلوم في الكتابة، فقال العبد: قبلتُ الكتابةَ والبيعَ، أو قال: قبلت البيعَ والكتابةَ، أو قال: قبلتهما، فللأصحاب طريقان في المسألة: ذهب الأكثرون إلى أن البيع لا ينعقد قولاً واحداً، وفي الكتابة قولان، مبنيان على القولين في الصفقة المشتملة على بيع ما يجوز وبيع ما لا يجوز: فإن قلنا: لا يصح البيع فيما يجوز إذا اقترن بما لا يجوز بيعه، فلا تصح الكتابة في مسألتنا، وإن صححنا العقد ثَمَّ فيما يجوز، صحت الكتابة ها هنا، ولا حاجة إلى البناء على القولين في الصفقة التي تجمع
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 275.
(2) في الأصل: " ولو ".

(19/348)


عقدين مختلفين كالإجارة والبيع؛ فإن ذلك الفن من التفريع فيه إذا صح إفرادُ كلِّ عقدٍ بالصحة، ومنشأ القولين من اختلاف المقصودين، وهذا المعنى وإن تحقق في البيع والكتابة، فلا حاجة إليه مع حكمنا بفساد البيع، فالوجه إلحاقه ببيع عبد مغصوب وعبد مملوك. ثم السبب في بطلان البيع أن أحد شقيه يقع لا محالة قبل انعقاد الكتابة، وذلك باطل؛ فإن الرقيق لا يخاطب بالبيع وإيجابه.
ثم تمام التفريع على هذه الطريقة أنا إن أفسدنا الكتابة، فسيأتي شرح الكتابة الفاسدة؛ وإن صححنا الكتابة، فهي مُجازةٌ بجميع الألف المذكور ثمناً ونجماً، أم هي مجازة بقسط من الألف؟ فعلى قولين: أصحهما - أنها مجازة بقسط، فالألف أُثبت ثمناً ونجماً، فلا يجوز تغيير موجب اللفظ. والقول الثاني -وهو فاسدٌ، لا اتجاه له مع اشتهاره- أن الألف بجملته يثبت عوضاً في الكتابة، ونجعل كان العبدَ وبيعَه لم يُذكرا، وهذا القول مشهور في تفريق الصفقة. هذه طريقةُ جمهور الأئمة.
ثم التوزيع إذا قلنا به، فمعناه تقويم المكاتب، وتقويم العبد المبيع، ودرك المبلغين، ثم توزيع الألف عليهما، وإسقاط ما يقابل قيمة المبيع، [وتقرير] (1) ما يقابل قيمة العبد.
ومن (2) أصحابنا من شبب بذكر خلاف في صحة البيع، واستشهد بمسألة في الرهن، وهي أن الرجل إذا قال: اشتريت عبدك هذا بألف، ورهنتك بالألف داري، فقال المخاطب: بعت وارتهنت، فالنص في الرهن دليل على صحة الرهن، وإن جرى أحد شقي الرهن قبل انعقاد البيع.
وهذا القائل يطبق تصوير البيع مع الكتابة على تصور الرهن مع البيع، وقد ذكرنا كيفية تصوير الرهن مع البيع، وأوضحنا تفصيل المذهب فيه، فالبيع مع الكتابة كالرهن مع البيع، فإن سلكنا هذا المسلك، وحكمنا بصحة البيع، فينتظم بعد هذا التقدير تخريج الكتابة والبيع جميعاً على تفريق الصفقة فيه إذا اشتملت على عقدين
__________
(1) في الأصل: " وتقدير ".
(2) هذه هي الطريقة الثانية.

(19/349)


مختلفي الحكم كالإجارة والبيع، ولا يتأتى هذا المسلك في الرهن والبيع؛ فإن الرهن تابعٌ للبيع، ومؤكد للعوض فيه، فلا يجري مع البيع مجرى عقدين تشتمل عليهما صفقة؛ ولذلك يصح اشتراط الرهن في البيع، ولا يصح اشتراط البيع في الكتابة، وعن هذا المسلك قال المحققون: البيع يبطل [في] (1) مسألتنا، قولاً واحداً.
والرهن يصح وإن اقترن بالبيع؛ لأنه من مصلحة البيع، وهو من توابعه.
فهذا حاصل القول في هذه المسألة، وبيان طريقي الأصحاب، والأصح الطريقة الأولى.
12495 - ثم قال: "ولو كاتبه على مائة دينار يؤديها في عشر سنين ... إلى آخره" (2).
الكتابة فاسدة على هذه الصفة لأن محل الأنجم مجهول، فينبغي أن يبين وقت حلول كل نجم من كل سنة، والقول في إعلام الآجال ابتداءً وانتهاءً مذكور في كتاب السلم وغيره، فلسنا لإعادة صور الوفاق والخلاف منهما في النفي والإثبات.
فصل
قال: " ولو كاتب ثلاثة كتابة واحدة على مائة منجمة ... إلى آخره " (3).
12496 - صورة المسألة أن يكاتب ثلاثة أو أربعة من عبيده على مالٍ واحد، وأجّله ونجّمه، وأعلم المحلّ، ولكن لم يبين حصة كل واحد من العبيد، بل قابلهم بالإيجاب، وذكر المال، فقبلوه من غير تفصيل وتوزيع، فالمنصوص عليه صحة الكتابة.
ونص على أنه إذا اشترى أربعة أعبد أو ما شئت من العدد من أربعة أشخاص، فالبيع فاسد. ونص على أنه إذا نكح نسوة وأصدقهن صدقة واحدة، ففي فساد التسمية
__________
(1) في الأصل: " من ".
(2) ر. المختصر: 5/ 275.
(3) ر. المختصر: 5/ 275.

(19/350)


قولان، ونص أيضاً على قولين في فساد بدل الخلع إذا قوبل به نسوة من غير توزيع.
فالنص في البيع على الفساد، وفي الكتابة على الصحة، وفي الخلع والصداق قولان.
فاختلف أصحابنا على طرق: فمنهم من ضرب النصوص بعضها ببعض، وأجرى في البيع والكتابة قولين، وهذه الطريقة هي المنقاسة الصحيحة؛ فإن إعلام الثمن في البيع، والعوض في الكتابة مرعيٌّ معتبرٌ على قضية واحدة، فإذا جرى في الصداق وبدل الخلع قولان؛ فالوجه جريانهما في البيع والكتابة.
ثم توجيه القولين في المسائل: من قال بالفساد، احتج بأن قال: لم يخص واحداً في العقود بمقدار ما يخصه؛ فكانت حصة كل واحد مجهولة، وجهالة العوض فيما يشترط إعلام العوض فيه مفسد.
ومن قال بالصحة؛ احتج بأن الجملة معلومة في مقابلة الجملة، والوصول إلى التفصيل ممكن بطريق التوزيع، فوجب الحكم بالصحة، كما لو قال: بعتك هذا العبد بما اشتريته، وكانا عالمين بالثمن المسمى في عقد المرابح، ثم قال على ربح " ده يازده " (1) فالعقد صحيح. وإن كان يحتاج في إعلام ما يلزم المشترى إلى حساب وجمع وضم، هذه طريقة.
12497 - ومن أصحابنا من أجرى النصوص على ظواهرها (2)، وفرّق بأن قال: البيع حريٌّ بالفساد؛ فإن العوض فيه آكد حكماً، بدليل أن فساده يُفسد البيعَ ويبطل المقصود منه، وفساد الصداق وبدل الخلع لا يفسدان المقصود منهما، وأما الكتابة، فإنها تنفصل عن الخلع والصداق من وجه آخر، وهو أن العبيد جميعهم ملك المولى، فكان صدورهم بالإضافة إلى جانب السيد عن ملك واحد.
وهذا تخييل لا حاصل له؛ فإن العبيد إذا قبلوا الكتابة، فهم متفرقون في شق
__________
(1) ده يازده: كلمة فارسية تشبه أن تكون مصطلحاً من مصطلحات السوق والتجارة، ومعناها: بعتك بالثمن المعروف الذي اشتريت به بزيادة 10%، وذلك أن كلمة (ده) تعني عشرة، وكلمة (يازده) تعني أحد عشر.
(2) هذه هي الطريقة الثانية.

(19/351)


القبول، والعقود متعددة بالإضافة إليهم، وإذا صححنا الكتابة، فالعقد في كل واحد منفرد بحكمه، كما سنوضح تفصيله في التفريع، إن شاء الله تعالى.
وما ذكره هذا القائل من كون العوض ركناً في عقد المعاوضة لا يفيد حاصلاً فيما هو مطلوب المسألة؛ فإن الجهالة تُفسد الصداقَ وبدلَ الخلع كما تفسد البيعَ، وكذلك القول في الكتابة، فلا خير في تخييلات لا تفضي إلى الفقه المطلوب مع استواء الأصول في اشتراط الإعلام، فهذا حاصل ما ذكره الأصحاب في أصل المذهب.
12498 - ثم اشتملت الطرق على ما أتبرّم بنقل مثله، فقال قائلون: البيع فاسد، والكتابة خارجة على القولين، وقال آخرون: الكتابة صحيحة، قولاً واحداً، والبيع خارج على القولين (1).
وكل ما يذكر في ذلك منشؤه مسلكان: أحدهما - التسوية بين المسالك، وهو الوجه لا غير، والثاني - اعتقاد الفَرْق بين البيع وبين بدل الخلع والصداق، مع الميل إلى أن البيع أولى بالفساد، واعتقاد الفرق بين الكتابة وغيرها، مع الميل إلى تصحيح الكتابة.
ثم إذا فرعنا على فساد الكتابة، فسيأتي على الاتصال بهذا الفصل بيان حكم الكتابة الفاسدة، وإن صححنا الكتابة، ففي كيفية توزيع العوض المسمى على المكاتبين قولان، ذكرهما الصيدلاني: أظهرهما -وهو الذي قطع به معظم الأئمة- أنه يوزع المسمى على أقدار القيم، حتى لو كانت قيمة الواحد مائة، وقيمة الآخر مائتين، وقيمة الثالث ثلاثمائة، فعلى من قيمته مائة السدس، وعلى من قيمته مائتان الثلث من العوض المسمى، وعلى من قيمته ثلاثمائة النصف.
والقول الثاني - أن العوض موزع على عدد الرؤوس من غير نظر إلى تفاوت القيم، وهو ضعيف، ولكن نقله الصيدلاني، وهو موثوق به، ووافقه القاضي في النقل، ثم طردا حكاية هذا القول في الصداق وبدل الخلع، فأما البيع، فلم يتعرضا له، ويبعد كل البعد التوزيع على رؤوس الباعة من غير نظر إلى قيم عبيدهم، وإن طرد القول
__________
(1) هذان هما الطريقة الثالثة والرابعة.

(19/352)


الضعيف في البيع طارد، لم يبعُد، لو صح هذا القول، ولكنه مما يجب القطع بفساده.
وينشأ من هذا أنا إن كنا نعتقد أن التوزيع على الرؤوس، فيجب أن نقطع بصحة هذه العقود لارتفاع الجهالة، وإن حكمنا بالتوزيع على القيم، فعند ذلك تختلف الأقوال، ونجري الطرق على ما رسمناها، ولا عود إلى هذا القول. ولا تفريع عليه.
12499 - ثم أول ما نفرعه بعد تمهيد الأصل أنا إذا صححنا الكتابة، فكل مكاتب مخاطب بمقدار حصته من غير مزيد، وإذا أدى واحد منهم حصته عَتَق، وقال أبو حنيفة (1): لا يعتق واحد منهم ما بقي على الواحد منهم درهم. واعتقد أن عتق جميعهم يحصل معاً، وذهب في هذا مذهب التعليق المحض؛ فإن المولى قال لهم: إذا أديتم، فأنتم أحرار.
وهذا ذهول عن وضع الكتابة الصحيحة، وقد ذكرنا أن التعليق غيرُ معتبر في مقتضى الكتابة الصحيحة، ودللنا عليه بأنه لو قال -والمكاتب واحد بعد ذكر النجوم- إذا أديتها، فأنت حر، لم يتوقف العتق على الأداء، بل قد يحصل بالإبراء عن نجوم الكتابة، فإذا كنا لا نرعى حقيقة الأداء والمكاتب واحد مع التصريح بتعليق العتق بالأداء، فكيف نرعى ذلك في تعدد المكاتبين.
فإذا وضح أن واحداً منهم لا يخاطَب بما على أصحابه، ولا يطالب إلا بحصته، فلو جاؤوا عند محِلّ النجم بمقدار من المال وأَدَّوْه، ثم اختلفوا: فقال بعضهم -وهو القليل القيمة- أدينا ما أدينا على عدد الرؤوس، وقال الكثير القيمة: بل أديناه على أقدار القيم، وكانت أملاكنا في المؤدى ثابتة على هذا النسق، فقد حكى بعض المصنفين نصين مختلفين في ذلك: أحدهما - أنه يُصدق من يدعي التسوية مع يمينه (2).
والثاني - أن المصدّق منهم من يدعي التوزيع على أقدار القيم، ثم في هذا
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 413 مسألة: 2100.
(2) وعلة ذلك اشتمال أيديهم على ما أدَّوْه، فالقول قول صاحب اليد.

(19/353)


التصنيف أن الأصحاب اختلفوا: فمنهم من أجرى في ذلك قولين، ومنهم من نزّل النصين على حالين. قال: إن كان هذا الاختلاف في النجم الأخير، ولو صدّقنا (1) القليل القيمة، [لكان] (2) له شيء مما أداه يحتاج المولى إلى رده، [فلا] (3) يُصدق من يدعي التسوية؛ فإن ظاهر الأداء يدل على اعتقاد الوجوب فيه، وعلى هذا ينزل النص الذي يقتضي تصديق من يدعي التوزيع على أقدار القيم.
وحيث قال: يُصدق مدعي التسوية، أراد إذا كان ذلك في أوساط النجوم أو في أوائلها، بحيث لو فضَل عن مقدار النجم الحالّ فاضل في حق القليل القيمة، فهو محمول على تعجيل مقدارٍ من النجم المنتظر، والذي ارتضاه الأئمة تصديق من يدعي التسوية قطعاً للقول، ولم يعرفوا اختلاف النص، واستمسكوا بما يجب القطع بأنه أصل الباب. وقالوا: المسألة مفروضة فيه إذا جاءوا بالنجم وأيديهم ثابتة عليه، فظاهر اليد في التداعي يقتضي استواءهم في الأيدي قطعاً. وهذا يقتضي تصديقَ من يدعي التسوية، فيجب إجراء هذا.
ولست أُنكر اتجاه خيال في النجم الأخير إذا كان يفضل -لو حملنا على التسوية في حق القليل القيمة- فاضل ويحتاج إلى استرداده. والعلم عند الله.
12500 - ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو أدى البعض من هؤلاء النجمَ عن البعض، فهذا على التحقيق تبرع منه، وسنذكر أن تبرع المكاتب إن انفرد به مردود، وإن صدر عن إذن السيد، ففيه قولان، [و] (4) سيأتي استقصاء ذلك، فإن كنا نصحح التبرع بإذن المولى، فإذا أتى واحد منهم بما ليس عليه، وأداه ذاكراً أن هذا عن أصحابي، فقبول السيد فيه بمثابة إذنه في التبرع على الأصح، وأبعد بعض أصحابنا، فاشترط سوى ظاهر القبض إذناً، وهذا ليس بشيء.
فإن فرعنا على بطلان التبرع -وإن صدر عن إذن المولى- فإذا أدى البعضُ الدينَ
__________
(1) عبارة الأصل: " ولو صدقنا صاحب القليل القيمة " وظني أنه لا محل لكلمة (صاحب).
(2) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.
(3) في الأصل: ولا.
(4) الواو زيادة من المحقق.

(19/354)


[عن] (1) البعض، ثم اتفق أن المؤدي عتق، قبل أن يسترد ما أداه من المولى -تفريعاً على رد التبرع وإن أذن المولى فيه- فالذي نص عليه الشافعي أنه لا يملك الرجوع بعد العتق، ونص على أن المولى لو جنى على المكاتب، فعفا المكاتب، وأبطلنا العفو على مذهب ردّ التبرع، فلو عتق المجني عليه العافي قبل قبض الأرش، فإن له مطالبة السيد بالأرش بعد العتق، فحصل قولان: أحدهما - أن تبرعه مردود وإن عتق؛ لأن الحجر عليه كان ثابتاً حالة التصرف؛ فيجب رد التصرف من غير نظر إلى ما تُفضي إليه العاقبة، والقول الثاني - أن التبرع ينفذ إذا اتصل بالعتق؛ فإن الحجر كان لحق الله في العتق، وقد حصل العتق.
والصحيح عندنا بناء هذين القولين على تصرفات المفلس في اطراد الحجر عليه؛ فإنا نقول: إن مست حاجة المضاربة إلى نقضها (2) نقضناها، فإن أُبرىء وانفك الحجر، ففي نفوذ التصرفات التي جرت في حالة الحجر قولان، وقول الصحة خارج على الوقف، فالمكاتب فيما نحن فيه يخرج تبرعه على هذه القاعدة.
ثم الذي اقتضاه النص، وأطبق عليه الأصحاب أن المؤدي عن أصحابه إذا استرد من المولى -لما تبين له الفساد- ثم عَتَق، فالعتق مسبوق بانتقاض التبرع، فالانعطاف على ما [مضى] (3) محال، وكذلك القول في العفو عن أرش الجناية إذا نقضه العافي وطالب بالأرش واستوفاه، وكأنا على قول الوقف، إنما نقف الأمر إذا لم ينقض التبرع، وجريان القولين فيه إذا لم يتفق نقضٌ، ولو طالب العافي بالأرش بناء على فساد العفو، أو طالب المؤدي عن أصحابه برد ما أدى عنهم، ولم يتفق تغريم في الأرش ولا استرداد، فهذا فيه احتمال مأخوذ من فحوى كلام الأصحاب.
12501 - ثم قال: " ولا يجوز أن يتحمل بعضهم عن بعض الكتابة ... إلى آخره " (4).
__________
(1) في الأصل: " على ".
(2) أي تصرفات المفلس.
(3) في الأصل: " يقضي ".
(4) ر. المختصر: 5/ 275.

(19/355)


هذا متصل بمكاتبة العبيد في عُقدة (1)، ومضمون الفصل من وجه لا يختص بتلك الصورة، فنقول: ضمان مال الكتابة لا يجوز، وقد فصّلنا ذلك في كتاب الضمان، وكذلك لا يصح الرهن به، والسبب فيه أنه ليس مستقراً، وليس آيلاً إلى الاستقرار، وضمان الثمن في زمان الخيار في البيع صحيحٌ؛ لأنه مُفضٍ إلى القرار في عقد موضوعه للزوم.
قال القاضي: كما لا يجوز ضمان نجم الكتابة، فكذلك لا يجوز الاستبدال عنه؛ فإن الاستبدال أعظم وقعاً من الضمان، [بدليل تعليل أن ضمان المسلم فيه صحيح] (2) والاعتياض عنه باطل، فالاستبدال يقتضي مزيداً في الاستقرار لا يقتضيه الضمان. فإذا بطل الضمان لعدم القرار بطل الاستبدال.
ولو كاتب جمعاً من العبيد، وشرط أن يضمن البعض منهم عن البعض، فالمنصوص عليه أن الكتابة فاسدة، ووجهه بيّن؛ فإن الضمان فاسد؛ فإذا [فسد شَرْطُه تفسد الكتابة بالشرط الفاسد] (3).
وقال مالك (4): يصح الشرط والعقد، وأضيف مذهبه إلى الشافعي قولاً في القديم. والممكن في توجيهه أن هذا الضمان من مصلحة هذا العقد الذي وصفناه، إذا أراد المولى ارتباط بعض المكاتبين بالبعض، ونحن قد نمنع ضماناً على قياس، ثم نجيزه لمصلحة العقد، وهذا بمثابة إفساده ضمان المجهول، والضمان عن المجهول، ثم صححنا ضمان الدَّرَك مع اشتماله على الجهالتين لمسيس الحاجة إليه في تأكيد مقصود العقود.
وهذا بعيد، لا معول عليه. وقد نجز الغرض في مكاتبة العبيد (5).
__________
(1) أي في عقدٍ واحد.
(2) عبارة الأصل: " بدليل تعليل أن الضمان المسلم فيه صحيح " والتعديل بالحذف وغيره من عمل المحقق.
(3) عبارة الأصل: " فإذا فسدت شرطه ثم تفسد الكتابة بالشرط الفاسد ".
(4) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 1000 مسألة 2034.
(5) إلى هنا انتهى الخرم الموجود في نسخة (ت 5).

(19/356)


فصل
قال: " ولو كاتب عبداً كتابة فاسدة، فأدى عُتق ... إلى آخره " (1).
12502 - مقصود الفصل بيانُ حكم الكتابة الفاسدة، وأول ما يجب افتتاحه تصوير الكتابة الفاسدة: والقولُ الكلي فيه أن الكتابة إذا صدرت إيجاباً وقبولاً ممن يصح عبارته، وظهور اشتمال الكتابة على قصد المالية، ولكنها لم تكن مستجمعة لشرائط الصحة، فهي الكتابة الفاسدة.
ثم من أحكامها أن المكاتب لو أدى ما شرط عليه، عَتَق، واستتبع الكسبَ والولدَ، فتنزل الكتابة الفاسدة منزلة الصحيحة فيما ذكرناه. وعند ذلك يتضح تمييز الفاسد في هذا النوع عن الفاسد في سائر العقود؛ فإن الكتابة الفاسدة أفضت إلى تحصيل مقصود الكتابة الصحيحة وخاصّيتها، أما المقصود، فالعتق، والخاصية استتباع الكسب والولد.
وسبب [هذا] (2) ما نبهنا عليه في صدر الكتاب عند تمهيد القواعد، حيث قلنا: إن العتق إذا كان يحصل لا محالة عند فرض الأداء، والكتابةُ إنما تصح لأجل العتق.
وإلا فقياسها بالنسبة إلى قياس الأصول الفساد، فإذا كنا نصمحح صحيحها ذريعة إلى العتق، ثم حصل العتق في الفاسدة، فلا يبعد أن يثبت حكمُ الصحة لتتم الذريعة.
12503 - ثم تمتاز الكتابة الفاسدة عن الصحيحة من وجوه: منها - أن الكتابة الصحيحة لازمة من جانب المولى، ما لم يَعْجِز المكاتَب، أو يُبْدِ امتناعاً، كما سيأتي إن شاء الله، والكتابة الفاسدة جائزة في حق المولى، فمهما (3) أراد فَسَخَها، وأثرُ فسخِه أن العتق لا يحصل بعد فسخها بصورة أداء النجم المسمى، وهذا قد يغمض تعليله؛ فإنا إن حصلنا العتق بطريق التعليق، ففسخ التعليق ممتنع، وإن بنينا الأمر
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 275.
(2) زيادة من (ت 5).
(3) مهما: بمعنى: (إذا).

(19/357)


على الجواز، فقد خرمنا التعليق، وتنعطف المسألة على نفسها، ولكن الممكن في ذلك ما قررناه في الأسلوب (1) وغيره من أن هذا تعليق في ضمن معاوضة، وكأن الحاصل يؤول إلى أن التعليق غيرُ مبتوت، والمعلِّق يقول: إن أديت، فأنت حر، ما لم أرجع؛ والعتق على هذا التقدير معلق بصفتين: إحداهما - الأداء، والأخرى - عدم الرجوع، ولسنا نطيل ذكر هذا، وقد استقصيناه في الخلاف على أقصى الإمكان.
ثم يترتب على ما ذكرنا أن السيد إذا مات في الكتابة الفاسدة، قبل حصول العتق، فالكتابة تنفسخ بموته، والأداء من الورثة (2) لا يُثبت العتق، [ولا] (3) حاجة إلى تعليل ذلك [بجواز] (4) الكتابة، والبناءِ على أن العقد الجائز ينفسخ بالموت، بل المعتمد أن العتق يحصل بالصفة، وقد قال المولى: إن أديت إليّ فأنت حر، أو " إن أديت " مطلقاً، والمطلق محمول على الأداء في حياة المعلِّق، وهذا سبيل جُملة التعليقات الصادرة من الأحياء؛ فإنها محمولة على مأ يوجد في حياة المعلِّق.
قال الشافعي في التعبير عن هذا المعنى: " إذا مات السيد المكاتِب كتابة فاسدة، فجاء العبد بالنجم المشروط، لم يحصل العتق؛ لأن الوارث ليس هو القائل: " إن أديت فأنت حر " (5).
أما موت المكاتَب، فلا يغمض أمره، وسنذكر أن موته في الكتابة الصحيحة يوجب انفساخ العقد، فما الظن بالفاسدة.
12504 - ومن خصائص الكتابة الفاسدة أن المكاتب إذا أدى النجم المشروط
__________
(1) الأسلوب: المراد به كتاب الإمام في الخلاف، المسمى بالأساليب، وسمي بذلك لأنه ينتقل من مسألة إلى مسألة بقوله: أسلوب آخر من كذا. وهو من كتبه المفقودة التي لما يعثر على أثره بعد.
(2) أي إلى الورثة.
(3) في الأصل: " فلا ".
(4) في الأصل: " لجواز " والمثبت من (ت 5).
(5) ر. المختصر: 5/ 275. والعبارة هنا فيها شيء من التصرف، وليست بألفاظ المختصر.

(19/358)


وعتق، فما أداه مردود عليه، والرجوع بقيمة رقبته عليه بعد حصول العتاقة، فالسيد والمكاتب بعد حصول العتاقة يترادّان، فإن كان ما قبضه المولى من جنس قيمة العبد، فقد تجري أقوال التقاص، كما ستأتي مشروحة إن شاء الله.
ثم ما ذكرناه من التراجع في هذا الطرف يضاهي الرجوع إلى مهر المثل، ورد العوض المقبوض في الخلع، فإن قيل: الخلع صحيح والبدل فاسد، والكتابة فاسدة في نفسها، قلنا: العتق نافذ هاهنا أيضاً، وتعليقه صحيح، فيصح تعليق العتق بالعوض الفاسد، ولا فرق، غير أن الخلع ثَمَّ إذا تم، نجز، ولا مستدرك، والكتابة لو انعقدت على الصحة، لم ينتجز فيها الغرض؛ وهي قابلة للفسخ بعد الصحة، فالوضعان مختلفان في البابين. والسبب في ذلك أن الكتابة تستدعي مَهَلاً وانشغالاً بالكسب، وهو عرضة للرفع، ومثل ذلك لا يتصور في الخلع.
12505 - ثم الذي يجب البوح به أن الكتابة الفاسدة تُسلِّط العبد على الاستقلال بالكسب، وهذا معنى قول الأصحاب: إذا عَتَق، تبعه الكسب. أي ما حصّله من الكسب استحقه على اللزوم عند وقوع العتق، وترتب على هذا لا محالة سقوط النفقة عن المولى، كما في الكتابة الصحيحة، فاستقلاله بنفسه يعارض (1) سقوطَ نفقته عن مولاه، وهذا واضح في معناه.
وذكر الأصحاب استتباعَ الأولاد، كما ذكرناه في الكسب، وقال الشيخ أبو علي: رأيت للشيخ أبي زيد أن المكاتب كتابة فاسدة في استتباع الأولاد بمثابة المدبر والمعلَّق عتقه بصفة، وقد ذكرنا قولين في أن التدبير هل يتعدى من الأم إلى الولد، وهذا في ظاهر الأمر له اتجاه؛ فإن الكتابة الفاسدة إنما يحصل العتق فيها من جهة التعليق، فإذا كان يجري في ولد المعلَّق قولان، لزم جريانهما في المكاتب كتابة فاسدة.
وقد يعتضد هذا بأن الأولاد ما قيل فيهم: " أنتم أحرار إذا أدى أبوكم النجم "، وهذا يناظر ما حكيناه من قول الشافعي بعد موت السيد: إن الوارث ليس هو القائل: " إن أديت، فأنت حر ".
__________
(1) يعارض: أي يقابل.

(19/359)


وهذا عندنا ذهاب عن سر المذهب في أولاد المكاتب؛ فإنا لا نحكم بعتق ولد المكاتب كتابة صحيحة إلا على مذهب استتباع الأكساب؛ فإن ولد المكاتب من جاريته بمثابة كسبه، غير أنه لا يبيعه، فإذا عَتَق المكاتَب واستتبع الكسبَ، استتبع ولدَه، وإذا استتبعه في زمان استقرار عتقه، عَتَق عليه، فإذا كان هذا مأخذ القول في ولد المكاتب -ثم الكسب يتبع المكاتب في الكتابة الفاسدة- فيلزم لا محالة أن يتبعه الولد، ويعتِق عليه، وسيأتي شرح هذا في أولاد المكاتبين (1). ولم أر أحداً من الأصحاب تشبث بمنع استتباع الكسب في الكتابة الفاسدة.
ويترتب على استتباع الكسب أمران لا بد منهما: أحدهما - سقوط النفقة عن المولى كما قدمناه. والثاني - أن المكاتَب كتابةً فاسدة يعامِل المولى معاملة المكاتَب كتابة صحيحة، هذا من ضرورة استقلاله بنفسه.
وذكر الأئمة الخلاف في حكمين متعلقين [بالاستقلال] (2): أحدهما - أن المكاتب كتابة صحيحة يسافر إن أراد الاستقلال، والمكاتب كتابة فاسدة هل يسافر؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يسافر لاستقلاله بالكسب. والثاني - لا يسافر؛ فإن الخروج عن ضبط السيد بالكلية -والكتابة ليست لازمة في حقه- بعيدٌ، فإن أذن، لم يخفَ الحكم، وقد يملك العبد نوعاً من الاستقلال بالكسب، ثم لا يسافر كالعبد الناكح بإذن مولاه؛ فإنه يصرف أكسابه إلى المهر ومؤن النكاح، ولا يسافر.
12506 - ومما اختلف الأصحاب فيه أن سهماً من الصدقة مصروف إلى المكاتبين على الصحة، وهل يجوز صرفه إلى المكاتب كتابة فاسدة؟ فعلى وجهين، ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه يجوز؛ بناء على استقلال المكاتب بالكسب؛ توصلاً إلى تحصيل العتق، والصدقاتُ من جهةٍ توصله إلى تحصيل العتق. والوجه الثاني - أنه لا تصرف الصدقة إليه؛ لأن الجهة غيرُ لازمة من جانب السيد، فلا تقع الثقة بقبض المكاتب.
__________
(1) من هنا بدأ خرم جديد في (ت 5) يقدّر بحجم كراسة كاملة من الأصل الذي أخذت عنه نسخة (ت 5).
(2) في الأصل: " بالاستقرار " وأُراها سبق قلم.

(19/360)


12507 - ومما يتعلق بأحكام الكتابة الفاسدة أن الشافعي قال: من أعتق المكاتب كتابة صحيحةً عن كفارته، لم يقع العتق عن جهة الكفارة. وهذا مشهور من المذهب، ولو أعتق المكاتَب كتابة فاسدة عن كفارته، فالذي كنا ننقله مطلقاً، أن العتق ينصرف إلى كفارةِ المعتِق، وقد حكى الشيخ أبو علي قَطْع القول بهذا عن نص الشافعي؛ فحصلت الثقة التامة.
ثم قال الشيخ أبو علي: مهما (1) أعتق السيد المكاتب كتابة فاسدة، نفذ إعتاقه، وكان ذلك فسخاً منه للكتابة وقطعاً لها، حتى لا يستتبع كسباً ولا ولداً؛ فإنا لو قلنا: يتبعه الكسب والولد، لكان العتق منصرفاً إلى جهة الكتابة، ويستحيل على المذهب براءة الذمة بالإعتاق عن الكفارة مع وقوع العتق عن جهة الكتابة، فالوجه حمل العتق على فسخ الكتابة الفاسدة ورفعها.
والذي يحقق ما ذكره أن الكتابة الفاسدة عند حصول العَتَاقة تلتحق بالكتابة الصحيحة في لزوم الاستتباع، ويفارقها ما ذكرناه من الجواز، فلو استتبع الكسبَ مع انصراف العتق إلى الكفارة، للزم مثل ذلك في الكتابة الصحيحة لا محالة.
قال الشيخ: لما خطر لي ما ذكرته في الكتابة الفاسدة من أن الكسب والولد لا يتبعان عند الإعتاق، عرضت ذلك على الشيخ القفال، فاستحسنه، وأقرني عليه، ولم ير غيره.
وهذا نجاز الحكم في ذلك، وفي جنون المولى في الكتابة الفاسدة، وجنون المكاتب فصلٌ ذكره الشافعي على الاتصال بهذا.
فصل
قال: "ولو لم يمت السيد ولكن حُجر عليه أو غُلب على عقله ... إلى آخره" (2).
12508 - مضمون الفصل الكلام في الجنون إذا طرأ على الكتابة. فلا تخلو الكتابة
__________
(1) مهما: بمعنى (إذا).
(2) ر. المختصر: 5/ 275.

(19/361)


إما أن تكون صحيحة أو فاسدة، فإن كانت صحيحة، فلا شك أنها لا تفسخ بالجنون، فإن جُن المولى، فالكتابة لازمة من جهته، فلا يؤثر الجنون في رفعها، وإن جن المكاتب، فالكتابة وإن كانت جائزة من جانبه، فهي مُفضية إلى اللزوم، والبيع في زمان الخيار لا ينفسخ بطريان الجنون على المتعاقدَيْن، أو على أحدهما؛ لإفضاء البيع إلى اللزوم.
ولكن يترتب على الجنون الطارىء في الكتابة ما نصفه، فنقول: إن قبض المولى في حال الجنون النجمَ، لم يصح قبضُه، ولم يترتب عليه العتق؛ فإنه لا يصح القبض منه، ولو تلف في يده ما أقبضه المكاتَب، فلا ضمان؛ فإن المكاتَب هو الذي ضيّع المال بوضعه في يد مجنون، ولو قبض القيّم النجمَ، تعلق الحكم بقبضه، وترتب على النجم الأخير حصولُ العَتاقة.
وإن سلّم المكاتب إلى المولى المجنون، فله أن يسترده منه؛ فإن حصوله في يده لم يُفده أمراً، بل هو متعرض للتَّوى (1) والضياع.
ولو جُن المكاتَب والمولى عاقل مستقل بقبض النجم من المجنون، قال الأصحاب: القبض صحيح، وعوّل المحققون في تعليل ذلك على أن قبض النجم مستحَق، ولو أخذه المولى من غير إقباضٍ من المكاتب، لوقع القبض موقعه، فوجود الإقباض وعدمِه من المكاتب بمنزلة.
وهذا يحتاج إلى فضل بيان: فإن عسُر على السيد الوصولُ إلى حقه إلا من جهة قبض ما يصادِف، فله ذلك، وإن أمكنه مراجعةُ من ينصبه القاضي ناظراً للمكاتَب، فلا وجه لاستبداده بالقبض عندنا، ولو استبد، لم يصح، وإذا كان لا يصح استبداده، فلو أقبض المجنونُ، لم يكن لإقباضه حكم، وفي كلام القاضي وغيره ما يدل على أن المولى يقبض النجم من غير فرض قيّم؛ ولعل الأئمة أثبتوا للمولى في هذا المقام حقَّ القيام بما يُحصِّل العتاقة (2)، وهذا بعيد إن ظنه ظان. ولا وجه إلا
__________
(1) التوى: الهلاك.
(2) عبارة الغزالي في البسيط: " وكأن الأصحاب رأوا كون السيد ولياً له؛ فلم يحوجوه إلى القاضي ".

(19/362)


ما ذكرناه من مراجعة القاضي، أو نصب قيم من جهته. وهذا كله في طريان الجنون على الكتابة الصحيحة.
12509 - فأما إذا كانت الكتابة فاسدة، وفرض طريان الجنون عليها، فظاهر كلام الشافعي في الجنون الطارىء على المولى أنه يتضمن انفساخ الكتابة كالموت، وقد ذكرنا أن موت المولى يوجب انفساخ الكتابة الفاسدة، وظاهر ما نقله على الاتصال بذلك أن المكاتَب لو جُنّ والكتابةُ فاسدة، لم تنفسخ الكتابة بجنونه، وهذان النصان متعاقبان على التضاد في سطر واحد من غير تنبيهٍ على التردد، واختلاف القول فيه، وهذا مشكل في نظم الكلام جداً.
والرأي أن نذكر المذهب في هذا، ثم نتكلم على النص، فنقول: إذا طرأ الجنون على أحدهما في الكتابة الفاسدة، فحاصل المذهب ثلاثة أوجه: أحدها - أن الكتابة لا تنفسخ، وهذا هو الأقيس والأصح؛ فإن الكتابة الفاسدة وإن كانت جائزة، فمصيرها إلى اللزوم، كما ذكرناه في البيع في زمان الخيار. والوجه الثاني - أن الكتابة تنفسخ بطريان الجنون إما على السيد وإما على المكاتب، فإنها جائزة من الطرفين، والعتق لا يحصل بها، وإنما يحصل بجهة التعليق.
والوجه الثالث - أن الكتابة تنفسخ بجنون المولى، ولا تنفسخ بجنون المكاتب، وهذا ظاهر النص (1)، فإن الكتابة الصحيحة جائزة في جانبه، ثم لا تنفسخ الكتابة الصحيحة بجنونه. هذا تصرف الأصحاب في المذهب.
فأما الكلام على النص؛ فللأصحاب فيه طريقان: منهم من قال: النص محمول على الكتابة الصحيحة، ووجه الفرق بين المولى والمكاتب عند هذا القائل أن المولى لو قبض في جنونه، لم يصح القبض منه، كما قدمناه، ولو فرض الجنون من المكاتَب، فقبْضُ المولى منه صحيح. وهذا قد فصلناه.
وما ذكره هؤلاء مستقيم في المذهب. ولكنه بعيد عن نظم اللفظ؛ فإن الشافعي
__________
(1) هنا لحق في هامش الأصل غير مقروء كاملاً، ونصّه: " ووجهه أن الجواز في جانب المكاتب لا مبالاة بوضع القلم " ا. هـ.

(19/363)


عطف هذا على أحكام الكتابة الفاسدة، فذكر الموتَ في الكتابة الفاسدة، ورتّب عليه الجنون، فبعُد حمل الجنون على ما جرى في الكتابة الصحيحة، فلا محمل للنص إلا الحكم بانفساخ الكتابة الفاسدة إذا طرأ الجنون على المولى بخلاف ما إذا طرأ الجنون على المكاتب، وهذا أحد الوجوه، والفرق عسير.
12510 - ومن تمام الكلام في ذلك أنا إذا حكمنا بانفساخ الكتابة على معنى أن العبد لا يستقل إذا أفاق بكسبه، فلو أدى ما شُرط عليه، ففي حصول العتق وجهان ذكرهما الأصحاب: أحدهما - أن العتق لا يحصل؛ فإن التعليق في الكتابة الفاسدة تبعٌ للكتابة وحكمها، فإذا زالت قضية الكتابة، تبع زوالَها زوالُ التعليق، كما لو فسخ السيد أو المكاتب الكتابة من غير فرض جنون؛ فإن الأصحاب مجمعون على أن الكتابة الفاسدة إذا فسخت، لم يحصل العتق بالأداء بعد فسخها.
ومن أصحابنا من قال: يحصل العتق بالأداء بعد ارتفاع مقتضى الكتابة؛ فإن التعليق قائم، وليس كما لو فسخ؛ فإن فسخه يتضمن رفع التعليق؛ إذ حاصل التعليق في الكتابة الفاسدة تعليق على صفتين: إحداهما - الأداء. والأخرى - عدم الرجوع.
وإذا زالت الكتابة بالجنون، لم يحصل فيه الرجوع عن التعليق.
وهذا خيالٌ لا حاصل وراءه؛ فإن ما ذكرناه في التعليق على عدم الرجوع ضِمْن يحكم الفقيه به، وقد لا يهجس في نفس المولى، [وهذا الحكم يزول بالجنون.
فإن قلنا: العتق لا ينفذ، فلا كلام] (1)، وإن قلنا: العتق ينفذ، فالوجه القطع بأنه لا تراجع، فإن التراجع يتلقى من مالية الكتابة الفاسدة، وقد زالت، فبقي التعليق المحض.
ومن أصحابنا من أثبت الرجوع على العبد بالقيمة، ومساقُه أن يتبعه الكسب، وهذا في حكم [البناء] (2) على ما مضى في الحكم بارتفاع الكتابة الفاسدة، فإنا إذا
__________
(1) عبارة الأصل هكذا: " وهذا الحكم يزول بالجنون إن كان يزول، إن قلنا: العتق لا ينفذ، فلا كلام " والتعديل بالحذف والإضافة من عمل المحقق.
(2) في الأصل: " الندم ".

(19/364)


أبقينا فيها اتباع الكسب والرجوعَ بالقيمة -والعتقُ قد حصل- فلم نرفع من الكتابة الفاسدة شيئاً.
12511 - ثم نقل المزني لفظاً عن الشافعي، فقال: قال الشافعي: " ولو كان العبد مخبولاً، عَتَق بأداء الكتابة، ولا يرجع أحدهما على صاحبه بشيء " (1). فظاهر ما نقله أن العبد كان مخبولاً وقت العقد.
وروى الربيع هذه الصورة بهذه اللفظة، وقال: يتراجعان بالقيمة، وهذا يتضمن كونَ الكتابة الجارية مع المجنون كتابة فاسدة يتعلق بها التراجع عند حصول العتق، وهذا على نهاية الإشكال؛ فإن المجنون لا عبارة له؛ وإذا لفظَ، فلا حكم للفظه، وقبوله لا يثبت قضيةً في [المعاوضة] (2)، لا على الصحة ولا على الفساد.
وقد ذكرنا أن الكتابة الفاسدة هي التي تجري بين شخصين هما من أهل العبارة، ويتخلف عن العقد شرط من شرائط الصحة، أو يشترط فيه زائد مفسد، أو يفسد عوضُها، فأما إذا كان تعلق العقد بلفظ مجنون، فيستحيل أن يكون للفظه حكم.
وقد أوضحنا أن الكتابة الفاسدة تضاهي الكتابة الصحيحة في كثيرٍ من المقاصد، ولو أطلق الفقيه الصحةَ في تلك المقاصد، لم يكن لفظه حائداً عن سَنَن الصواب، [فالعتق] (3) يحصل صحيحاً، والاستتباع يقع صحيحاًً، [والاستقلال] (4) يثبت كذلك على صفة الصحة. فهذه أحكام صحيحة، فكيف يقتضيها لفظُ مجنون؟ نعم، لو حصل العتق بتعليق المولى، فليس ذلك بدعاً، ولكن النص الذي نقله الربيع صريح في إثبات الأحكام، نقله الصيدلاني، والعراقيون، وكلُّ موثوق به في المذهب، والذي نقله المزني على مخالفة منقول الربيع.
قال ابن سريج، فيما نقله الصيدلاني: والصحيح ما نقله الربيع، وقال أبو إسحاق: الصحيح ما نقله المزني.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 275.
(2) في الأصل: " المقاوضة ".
(3) في الأصل: " بالعتق ".
(4) في الأصل: " والاستقبال ".

(19/365)


ومن أصحابنا من قال: في المسألة قولان.
وقد ظهر عندنا أن ابن سُريج لم يصحح ما رواه الربيع فقهاً، ولكنه [رآه] (1) أوثق في النقل. والمزني نقل ما [يستدّ] (2) في الفقه، فتبين أهل [العناية] (3) بالنقل أن ما نقله الربيع أصح، وما يستدّ على القياس -حتى لا يسوغ غيره- ما ذكره المزني.
12512 - ثم أجمع الأصحاب النقلة منهم والفقهاء أن الكتابة إذا جرت مع الصبي المميز، فهي تعليق محض، لا يتعلق بعقباها تراجع، ولا يثبت لها حكم من أحكام الكتابة الفاسدة.
ثم أخذ متكلفون -فيما نقله الصيدلاني- في الفرق بين الجنون والصبا، ورأوا الجنون عارضاً متعرضاً للزوال، والصبا أصل الفطرة. ومن انتهى إلى هذا الحد، فقد خرج خروجاً لا يستحق فيه [المناطقة] (4)؛ مع ما تمهد في الشرع من سقوط أقوال المجانين، وللصبي أقوالٌ تصح وفاقاً، وفي عباراته في العقود اختلاف العلماء، ولا شك في صحة عقله، وانتظام كلامه (5).
وإنما أكثرت في ذلك ليثق الناظر إذا انتهى إليه بما نقلته.
ثم اعلم أن الشادي في الفقه لا يستريب في ميل منقول الربيع عن قاعدة الفقه.
وقال بعض أصحابنا: ما نقله الربيع محمول على الجنون الطارىء على كتابة فاسدة، وما نقله المزني محمول على الجنون المقترن بالعقد، وهذا الكلام منتظم في وضعه، ولكنه مخالف لما نقله الربيع نصاً.
__________
(1) في الأصل: " رواه ".
(2) في الأصل: " يستبدّ ". والمثبت من المحقق، ومعنى يستدّ: أي يستقيم، كما فسرناها مراراً.
(3) في الأصل: " العبارة ".
(4) في الأصل: " الماطقة ".
(5) أي أنه أولى من المجنون بقبول لفظه، وهو بهذا يردّ قولَ من يحاول توجيه نقل الربيع بجعله الصبا أسوأ حالاً من الجنون، لينقض بذلك توجيه نقل المزني بإبطال عبارة الصبي اتفاقاً، وما ينبني عليه من إبطال عبارة المجنون بطريق الأولى.

(19/366)


فصل
قال: " ولو كاتبه كتابة صحيحة، فمات السيد، وله وارثان ... إلى آخره" (1).
فصل
12513 - صدْرُ هذا الفصل في منازعةٍ مفروضة بين عبدٍ يدعي الكتابة، وبين وارثين، ولا بد من تمهيد [أصل] (2) في مقدمة الفصل، ثم نرجع بعده إلى مقصود الفصل.
فنقول: إذا كاتب الرجل عبداً ومات، وخلّفه مكاتباً، وترك ابنين معترفين بالكتابة، فهذا يتعلّق بأطراف الكلام في مكاتبة بعض العبد، وسيأتي فيها باب معقود، [ولو لم] (3) نلتزم الجريان على ترتيب (السواد)، لأخرنا هذا الفصل إلى ذاك الباب؛ لانعطافه في جوانبه على مضمون ذلك الباب، ولكن نتبع الترتيب، ومسلكَ الشارحين، ثم ما نرى إضافته إلى ذلك الباب، أضفناه، فنقول:
العبد مكاتب بإقرار الوارثَيْن، وغرضنا من هذه الصور أن أحد الابنين [لو أعتق نصيبه من المكاتب] (4)، نفذ عتقه إجماعاً (5). ولو أبرأه أحد الابنين عن حصته من
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 275.
(2) في الأصل: " فصل ".
(3) في الأصل: " ولم ".
(4) في الأصل: " لو أعتق فأبرأه نصيبه من المكاتب " وتعديل العبارة بالحذف من عمل المحقق؛ فإن الإبراء سيأتي بعد هذا مباشرة.
(5) إجماعاً: المراد إجماع الأصحاب من حملة مذهبنا.
ثم لم يستمر هذا الإجماع من الأصحاب، فقد ذهب البغوي (ت 516 هـ) إلى أن الأصح أنه لا يعتق بإعتاق أحد الابنين الوارثين، ونص عبارته: "إذا أبرأ أحد الابنين عن نصيبه، أو أعتق نصيبه، أو استوفى النجوم بإذن الآخر -وقلنا: يستبد به- وجب أن يكون في عتق نصيبه قولان: أصحهما - لا يعتِق نصيبه -وعليه يدل النص- بل يوقف، فإن الشافعي رضي الله عنه قال: " فأعتق أحدهما نصيبه، فهو برىء عن نصيبه " [المختصر: 5/ 275]، ولم يقل عَتَق نصيبه، ثم ذكر -أي المزني- قوله: وقال في موضع آخر: " يعتق نصفه عجز أو لم يعجز " ففيه دليل على أن أحد الابنين إذا أبرأ عن نصيبه أو أعتق نصيبه، لا يعتق على أحد القولين، بل =

(19/367)


النجوم برىء، وعَتَقت حصته المبرىء عندنا خلافاً لأبي حنيفة (1)؛ فإنه لم يحكم بالعتق ما بقي عليه درهم، ووافق في نفوذ العتق فيه، فأما إذا استوفى أحد الابنين [بأداء] (2) حصته من النجوم، فتصوير الاستيفاء لا يتأتى شرحه الآن، فنضيف هذا الطرف إلى الباب الذي سيأتي في كتابة بعض العبد، إن شاء الله.
فإذا ثبت نفوذ العتق - إذا صرح به أحدهما - وثبت من مذهبنا نفوذُه بالإبراء، كما ذكرناه، فهل نحكم بسريان العتق إلى نصيب الابن الذي لم يُعتق ولم يُبرىء؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يسري؛ لأن العتق ينفُذ على حكم الكتابة، وكأن المعتِق هو المورِّث (3)، والوارث نائب عنه، وصدَرُه عمن هو في مرتبة الخلافة والنيابة.
والقول الثاني - أن العتق يسري إلى نصيب الابن الذي لم يبرىء، ولم يُعتق؛ لأن المكاتب مملوك للورثة إلى أن يَعتِق، وعتقُ المعتِق صادرٌ عن ملكه، والخلافةُ تقتضي نزول الوارث في ملك رقبة المكاتب منزلة الموروث، ثم العتق اقتضاؤه الملك، والدليل على ثبوت الملك أن من زوّج ابنته من مكاتبه، ثم مات قبل عتق المكاتب، فالزوجة ترث شيئاً من رقبة الزوج، وينفسخ النكاح بذلك؛ ولولا حصول الملك في رقبة المكاتب للمولى، لما انفسخ النكاح.
ثم قال القاضي: الأَوْلى بناء القولين على أن الدَّين هل يمنع حصول الملك للورثة في عين التركة، وقد مهدنا هذا على بيان شافٍ، فالمكاتب [مستحَق] (4) العَتَاقة في
__________
= يكون موقوفاً .. " (ر. التهذيب: 8/ 435).
وقد أشار الرافعي إلى كلام البغوي قائلاً: " وقال صاحب (التهذيب): " قضية سياق (المختصر) حصول قولين في عتق أحد الابنين نصيبه: أحدهما - العتق، وأصحهما - المنع، بل يوقف ... إلخ " (ر. الشرح الكبير: 13/ 491)، وانظر أيضاً (روضة الطالبين: 12/ 241).
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 424 مسألة 2116.
(2) في الأصل: " فأبرأه " والمثبت من المحقق، بناء على السياق.
(3) والمعنى أن العتق لا يسري، لأنه ينفذ على حكم الكتابة، والذي كاتب العبدَ هو المورّث، فالابن الوارث يعتق نيابة عنه، فكأن المعتق في الحقيقة هو الميت، والميت لا ذمة ولا ملك له، فهو معسرٌ، فكيف يسري عتقه.
(4) في الأصل: " يستحق ".

(19/368)


حكم [المستغرَق] (1) باستحقاق العتق، فيجري قولان في أن الورثة هل يملكون رقبة المكاتب، كما جريا في أنهم هل يملكون أعيان التركة مع تعلق الدين بها؟
ثم قال القاضي: إذا منعنا سريان عتق أحد الابنين، فلا اتجاه لذلك إلا على نفي الملك، وصرفِ العتق إلى حكم النيابة (2)، وهذا القياس يقتضي ألا ينفسخ نكاحُ بنت السيد مع المكاتب (3)، ورأى هذا التخريجَ واقعاً في القياس، ثم قال: إنه مخالف للنص، وما أطبق عليه الأصحاب، فَردَّ نظره إلى بيان احتمالٍ في مسلك القياس.
وما ذكره متجه حسن، لو قلنا: إذا كاتب الشريكان عبداً، ثم أعتق أحدهما نصيبه، فالعتق يسري، وقد رأيت الطرقَ متفقةً على ذلك، إلا شيئاً غريباً سأذكره في أثناء الفصل، حيث أرى ذكره.
فإذا كنا نقطع بتسرية عتق أحد الشريكين، وإن كان العتق لو سرى متعدياً إلى جزء من مكاتَب، ثم ذكرنا قولين في سريان عتق أحد الابنين، فلا محمل لترديد القول إلا التردد في أن الورثة هل يملكون رقبةَ المكاتب؟
فإن قيل: كيف يستقيم هذا، وقد نفذتم عتقَ الوارث وما استنيب في العتق، وإنما نفذ عتقه لصَدرِه عن ملكه.
قلنا: إذا لم يملك الوارث رقبة المكاتب، ورّثناه نجوم الكتابة، فإن أبرأ، فالإبراء يتضمن العتق، ولا نظر إلى بقاء بعض النجوم عليه للذي لم يبرئه؛ فإن المبرىء أسقط جميع ما يملك، فكان بمثابة المولى إذا أبرأ عن جميع النجوم.
فإن اعترض في هذا المنتهى السؤال عن استيفاء أحد الابنين حظّه، فهذا قد أحلناه
__________
(1) في الأصل: " المتفرق "، والمثبت من تصرف المحقق.
(2) المعنى أن الوارث لا يملك رقبة المكاتب، وإنما يرث نجوم الكتابة، فإذا أعتق، تضمن عتقه الإبراء عن نجوم الكتابة -كما سيبين ذلك بعد سطور- فكانه أعتق أو أبرأ - يتصرف في الكتابة نيابة عن مورثه، وليس عن تصرفه فيما يملك.
(3) لأنها لم تملك جزءاً من زوجها المكاتب، لأنا نفرع على نفي ملك الوارث للمكاتب، وإنما عتقه له بحكم النيابة عن المورّث. هذا كلام القاضي.

(19/369)


مرّةً (1)، ونحن [نجدد] (2) إحالته؛ فإن في تصوير انفراد أحدهما باستيفاء حصته عُسْراً، سيأتي كشفه، إن شاء الله.
فإن قيل: ما ذكرتموه في الإبراء، فما وجه تنفيذ عتقه؟ قلنا: وجه نفوذه تضمنه الإبراء، والإبراء يقتضي العتق.
12514 - فإذا تبين القولان في سريان العتق، فالتفريع عليهما: إن قلنا: لا يسري، فقد حصل العتق في مقدار حصته، ويتعلق بهذا الآن الحكم في الولاء، وأنا أرى تأخيره، ونستوفي تفريع السراية نفياً وإثباتاً، ثم أنعطف على بيان الولاء في الصور، وأسوق ما يتعلق به حتى يُلفى منتظماً غيرَ مبدّد في أثناء المسائل.
ثم إذا لم يسر العتق، بقي الابن الثاني على حصته في الكتابة.
وإن حكمنا بأنه يسري عتقُ أحد الابنين إلى نصيب الثاني، فمتى يسري، وكيف وجه السريان؟
12515 - نقدم على هذا أصلاً، وهو أن الشريكين في العبد إذا كاتباه معاً، ثم أعتق أحدهما نصيبه، نفذ العتق، وسرى إلى نصيب صاحبه، قطع الأئمة بذلك، ثم في وقت السريان قولان في الشريكين: أحدهما - أنه لا يسري العتقُ في الحالة الراهنة؛ فإن في تسريته إبطال الكتابة، ولكنا ننتظر ما سيكون، فإن رق ذلك القدرُ، ولم [تَجْرِ] (3) الكتابة إلى منتهاها، فإذ ذاك يسري عتق الشريك وإن استمرت الكتابة، وأفضت إلى العتق، فلا سريان. والقول الثاني - إنّ عتق أحد الشريكين يسري في الحال.
وليقع التفريع على قول تعجيل السراية، وهذا القول موجه بمقتضى السراية؛ فإن
__________
(1) سبق أن أحاله في أوائل الفصل حيث قال: " ... فتصوير الاستيفاء لا يتأتى شرحه الآن، فنضيف هذا الطرف إلى الباب الذي سيأتي في كتابة بعض العبد - إن شاء الله" وهو هنا يجدد إحالته.
(2) في الأصل: " نحذر " هكذا تماماً رسماً ونقطاً (انظر صورتها)، والمثبت من عمل المحقق.
(3) في الأصل: " تحبّر " هكذا تماماً، رسماً، ونقطاً، وتشديداً.

(19/370)


العتق الساري مقطوع به، فلا يجوز أن يكون مقتضاه في السراية متأخراً على خلاف القياس.
التفريع:
إن حكمنا بأن العتق لا يسري ما لم يرِقّ نصيب الشريك، فالسريان على هذا القول لا يصادف كتابةً ولا ينقضها، فإن شرط نفوذ السراية على هذا القول تقدم ارتفاع الكتابة.
وإن رأينا أن نسرّي العتق في الحال، فهل تنفسخ الكتابة في نصيب الشريك، أم يسري العتق في نصيب الشريك على حكم الكتابة، من غير تقدير انفساخ؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن الكتابة تنفسخ، ويترتب السريان على الانفساخ. والثاني - لا تنفسخ الكتابة، بل يسري العتق ويجري، ونصيب الشريك مُقَر على حكم الكتابة.
12516 - ونعود إلى إعتاق أحد الابنين الوارثين المكاتَبَ، ونقول: إن نفذنا سراية العتق، فمتى يسري؟ فعلى قولين كما ذكرناه في عتق أحد الشريكين حَذْوَ القُذَّة بالقُذّة، ثم أحد القولين أن العتق لا يسري ما لم يرِق نصيب الابن الثاني. والقول الثاني - أنه يسري في الحال، ثم في انفساخ الكتابة في نصيب الابن الوجهان المذكوران في مسألة الشريكين.
12517 - ونحن من هذا الموضع ننعطف على ما تقدم لبيان حكم الولاء، فإن قلنا: لا يسري عتق الابن، بل يقتصر على مقدار حصته في رقبة المكاتب، فالنصيب الثاني مكاتب لا محالة، فإن عتق ذلك النصيب بأداء النجوم، أو بإبراء، أو إعتاق، فالولاء في رقبة المكاتب للميت لا غير، ثم يرث الابنان بولاء الأب، كما مهدناه في قاعدة الولاء، هذا إذا عتق نصيب الثاني أيضاً.
فأما إذا رقّ نصيب الثاني -والتفريع على عدم السريان- فقد انفسخت الكتابة في المقدار الذي رَقَّ، وذكر الأصحاب وجهين في أن الولاء في النصف الذي عَتَق مصروف إلى من؟ فمن أصحابنا من قال: هو للمبرىء من الابنين، لا حظ فيه للذي رق نصيبه، ومنهم من قال: هو مصروف إليهما.
وهذا الذي نقلناه عن الأصحاب كلام مبهم لا بد من كشفه، فنقول: إذا انفسخت

(19/371)


الكتابة في نصيب أحد الابنين بأن رَقَّ لما عجز، فهل نقضي بالانفساخ في نصيب المبرىء منهما؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نحكم بانفساخها في ذلك النصيب أيضاً. والثاني - لا نحكم.
وهذا إشكاله أعظم مما قدمناه؛ فإن العتق إذا نفذ على حكم الكتابة، أو بسبب الإبراء، فلا سبيل إلى استدراك ما نفذ، ولو قلنا: نتبين أن العتق صادف ملكَ المعتِق، والرقَّ المستحق له، لكان هذا خرماً عظيماً للقاعدة، وتبيُّناً في غير موضعه، فإن كل ما نتبيّنه من الأحكام، فلا بد وأن نتبين له فيما مضى مقتضياً، ولم يظهر لنا مقتضٍ [آخِراً] (1) يوجب تبين انفساخ الكتابة. [وإنما يجري ذلك في الكتابة] (2) ما لم يكن التبعيض بين الوارثين؛ فإن مبنى الكتابة في حياة السيد على نفوذ العتق، أو على ارتداد الجميع رقيقاًً، وكأنّ الإبراء عن بعض النجوم لا يوجب تحصيل شيء من العتق، والآن لما انقسم المكاتب بين الوارثَيْن، فيعتِق، ثم يضاف إلى أحدهما بإبرائه عن نصيب نفسه في النجوم، وهذا لا بد من احتماله، وقد يموت والكتابة منشأة في المرض، فيضيق الثلث، ويرق بعض المكاتب، فهذه التغايير لا بد من احتمالها.
فالوجه عندنا القطع بأن الكتابة لا يتبين انفساخها في نصيب من أبرأ من قبل أو أعتق، وإذا كان كذلك فالذي رَقَّ يخلص لأحد الابنين؛ إذ لو رددنا ذاك ميراثاً بينهما، [لجرّ] (3) ذلك محالاً؛ من قِبل أن الذي أبرأ عن نصيبه كان إبراؤه بمثابة استيفائه حقه، فيستحيل أن يستوفي أحدهما على الخصوص حقه من النجوم، ثم يشارك صاحبه فيما يرق.
فقد تحصل مما ذكرناه أن الرقيق مختص بالذي رق عليه، والعتق نافذ عن جهة
__________
(1) في الأصل: " أجزاء ".
(2) ما بين المعقفين مكان كلمة استحالت قراءتها، فقد رسمت هكذا: " نجرّد في الكتابة " (انظر صورتها) والمعنى أن تقدير الفسخ في الكتابة بعد أداء نصف النجوم -أو أقل أو أكثر- والعجز عن أداء الباقي، إنما يجري هذا الفسخ، ويكر راجعاً على ما أدّى من النجوم، إذا لم يوجد التبعيض بين الوارثين، كما بسطها الإمام.
(3) في الأصل: " يجر " والمثبت من المحقق.

(19/372)


الكتابة في الذي عَتَق، وإذا كان كذلك، فيجب نسبة الولاء إلى الميت، وقد أوضحنا في قاعدة الولاء أنه لا يورث بل يورث به، وإذا كان كذلك، فالوارث بالولاء من ينتسب بالعصوبة إلى من له الولاء، والابنان جميعاً متساويان في جهة العصوبة من المولى.
ولكن وإن كان كذلك، فللأصحاب خلاف. فمنهم من يجري على القياس الذي نبهنا عليه؛ وقال: الابنان: من رق نصيبه ومن أبرأ مشتركان في الإرث بالولاء، وهذا إنما يُخرَّجُ على قولنا: مَن بعضه حر وبعضه رقيق موروث، وفيه الاختلاف والتفصيل الطويل المذكور في الفرائض.
فتحصّل مما ذكرناه أن الحكم بانفساخ الكتابة في الذي عتق محال، ويجب صرف الولاء فيه إلى الميت، ثم الأصح بعده أنهما يشتركان في الاستفادة بذلك الولاء [إن حصلت] (1) استفادة.
ومن أصحابنا من قال: يختص بتلك الاستفادة المبرىء؛ فإنا وإن كنا لا نورّث الولاء، فيبعد أن يكون أحد الابنين مستوفياً حقه من الرقبة رقاً، ومشاركاً للثاني في فائدة الولاء، وهذا الوجه وإن كان مشهوراً، فمبناه على استبعاد محض لا حاصل له.
12518 - ومما يتعلق بهذا المنتهى أن أحدهما إذا أبرأ -كما صورناه- ولم يتبين في النصيب الثاني بعدُ انقلابٌ إلى الرق، أو جريانٌ إلى العتق، فمن رأى في المسألة الأولى -وهي إذا رق نصيب أحدهما- أن يشتركا في فائدة الولاء، فلا شك أنه يحكم بهذا في هذه الصورة، ومن خصص المبرىء في الصورة الأولى بفائدة الولاء، فهاهنا ماذا يصنع؟ هذا فيه تردد عظيم.
وقد ذكر القاضي وجهين هاهنا، وليس ذلك على تثبت، والوقف بهذا المقام ألْيَقُ: فإن عَتَق النصيبُ الثاني على حكم الكتابة، فالولاء مشترك، يعني الاستواء في فائدته، وإن رَقّ النصيب الثاني، فقد مضى الحكم فيه، وتبين اختلافُ الأصحاب
__________
(1) في الأصل: " أن نصوّب " كذا رسماً ونقطاً، وتشديداً.

(19/373)


ووجههُ، ولا يتجه عندنا إلا هذا، ولا فائدة في غيره؛ فإنا لا نعقل فيما نحن فيه فائدةً للولاء إلا الإرث -إذا قلنا به في الشخص المبعض- وإنما مجرى الإرث إذا مات الشخص الذي فيه نتكلم، وإذا مات في أثناء الأمر، انفسخت الكتابة في نصفه الثاني، ووقع القضاء بتحقق الرق فيه، فيعود الكلام لا محالة إلى صورة جريان الرق في أحد النصيبين.
فهذا تمام الكشف في ذلك. وجميع ما ذكرنا تفريع على أن العتق لا يسري.
12519 - فإن حكمنا بأن العتقَ يسري، فقد ذكرنا في وقت السراية قولين: فإن قلنا: لا يسري العتقُ ما لم يرِقَّ النصيب الثاني، فلا شك أنه إذا رَقّ، ثم عتق بحكم السريان، فالولاء فيما رق للابن المعتِق، أو المبرىء؛ فإن الكتابة انفسخت في ذلك النصيب، وقدرنا نقل الملك فيه إلى المعتق، ثم نفذنا العتق عليه، فله فيه ولاء المباشرة، وأما الولاء في النصف الذي عتق على حكم الكتابة، فيجب القطع بانصرافه إلى المتوفى، ولا يَتَخَيّلُ انفساخَ الكتابة فيه تبيّناً من هو على بصيرة في درك حقيقة هذا الفصل.
ثم يعود خلاف الأصحاب في أن المعتق هل يختص بفائدة الولاء في ذلك النصف، أم يشترك الابنان فيها؟ والأصح اشتراكهما، لما ذكرناه من فصل الانتساب بالعصوبة، وفيه الوجه الآخر.
فأما إذا قلنا: يسري عتقُ المبرىء، أو المعتِق في الحالة الراهنة، فقد ظهر خلاف الأصحاب في أن الكتابة هل تنفسخ فيما يسري العتق فيه؟ فمنهم من قال: إنها تنفسخ، فعلى هذا يرِقّ ذلك النصف، ثم ننقل الملك فيه، ثم نعتقه على المعتِق، ويعود التفريع إلى القول الأول، وهو إذا رأينا انتظار الرق، فرَقَّ، ثم سرى، وأمرُ الولاء على ما مضى في ذلك القسم.
فإن قيل: كيف يتجه فسخ الكتابة، ولا سبيل إلى التسبب إلى فسخها من جهة السادة، ما لم يَعجِز المكاتَب؟
قلنا: إنما يقرب احتمال ذلك لمكان حصول العتق، وإذا حصل العتق، فهو

(19/374)


مقصود الكتابة، فكأنا على هذا الوجه لا نمنع فسخ الكتابة بجهة الإعتاق عن غير الكتابة.
وهذا غير سديد، فقد يلزم عليه الحكم بأن إعتاقَ سيدِ المكاتب ابتداءً يوجب فسخَ الكتابة، ثم يجب احتماله لتحصيل مقصود الكتابة.
وقد ينقدح الانفصال عن هذا بأن يقال: الإعتاق تصرف في مقصود الكتابة بالتعجيل، فلا يتضمن فسخاً، والسريان من ضرورته نقل الملك، ورقبة المكاتب لا تقبل الملك مع اطراد الكتابة، والسريان لا بد منه، فنضطر إلى نقض الكتابة لتتصور السراية.
هذا إذا قلنا: تنفسخ في ذلك النصيب.
فأما إذا قلنا: لا تنفسخ الكتابة، ويسري عتق المبرىء على حكم الكتابة، فهذا قد يتطرق إليه السؤال؛ فإن السراية من ضرورتها نقلُ الملك إلى من عليه السريان، والمكاتب لا يقبل نقل الملك؛ وقد يُجاب عن هذا بأن كل فعل لا يؤدي إلى فسخ الكتابة، فهو محتمل، وإنما الممتنع تقدير فسخ الكتابة، وسنذكر قولاً قديماً في تصحيح بيع المكاتب على تقدير بقاء الكتابة واطرادها، حتى كأن البيع وارد على النجوم. وهذا مما سيأتي شرحه، إن شاء الله تعالى.
12520 - فأما تفريع الولاء على قولنا: إن الكتابة لا تنفسخ مع سريان العتق، فالمذهب الذي يجب القطع به صرفُ الولاء إلى الميت، ثم اشتراك الابنين في فائدة الولاء، ولا يجوز إجراء خلاف؛ فإن الكتابة لم تتبعض بقاء وارتفاعاً، بل حصل العتق في الجميع على حكمها. هذا ما أردنا أن نذكره في الولاء.
12521 - ثم مهما حكمنا بانفساخ الكتابة، فلا شك أن قضاياها تزول، ويظهر أمر هذا في الصورة الأخيرة؛ فإذا قلنا: يسري العتق بتقدير رد ذلك النصيب إلى الرق، وفسخ الكتابة، فلا يستتبع مَنْ عَتَقَ الكسبَ والولدَ في النصيب الذي رفعنا الكتابة فيه.
هذا لا بد منه.
فلو قال قائل: إذا قدَّرنا رقّاً في ذلك النصيب، فما يخص ذلك النصيب من

(19/375)


الكسب والولد لمن؟ أهو لمن يسري عتقه، أم هو للثاني الذي لم يبرىء ولم يُعتِق؟ قلنا: هو للذي لم يبرىء ولم يُعتق؛ فإنا نقدر الرق أولاً، ثم نقدر نقله، وإذا تقدم الرق -وإن لم يكن له زمان محسوس- ثم يترتب عليه النقل، فما يقتضيه الرق لمن حصل الرق في حقه.
وقد تم ما نريد في ذلك. وقد حكينا اتفاق الطرق على أن الشريكين في العبد إذا كاتباه، ثم أعتق أحدهما نصيبه، سرى عتقه، وإنما تردد القول في وقت السريان، وحكينا اختلاف القول في الوارِثَيْن في أَنَّ عتقَ أحدهما هل يسري، كما مضى، وهذا هو المذهب المعتمد.
وحكى صاحب التقريب قولاً بعيداً -أراه مخرجاً- في أن عتق أحد الشريكين في العبد لا يسري؛ فإنا لو سرّيناه في الحال، لتضمن نقضاً للكتابة، وهذا بعيد، وإن توقفنا إلى انقلاب ذلك النصف رقيقاًً، فهذه سراية بعيدة؛ فإن السريان إذا امتنع حالة الإعتاق لم يجر بعده، والدليل عليه أن من أعتق حصته من العبد المشترك وكان معسراً، ثم أيسر من بعدُ، فالسراية التي رددناها بالإعسار المقترن بالإعتاق، لا ننفِّذْها باليسار الطارىء، فخرج من ذلك تعذر السراية. كيف فرض الأمر.
وهذا متجه في القياس، ولكنه ليس بالمذهب، فلا اعتبار به، ولذلك لم أذكره في أثناء المسائل، فأخرته إلى نجاز ترتيب المذهب.
وقد تم الآن ما أردنا ذكره في إعتاق أحد الورثة، وأحلنا على الباب المنتظر ما وجبت إحالته.
12522 - ومما يجب ختم الفصل به أن أحدهما إذا حُمل على قبض نصيبه من النجوم إجباراً عليه -حيث يتصور ذلك، كما سيأتي- فالعتق إذا حصل بهذه الجهة لا سريان له بلا خلاف؛ فإن هذا عتق حصل بسببٍ لا اختيار فيه، وإذا كان كذلك، فلا سريان، والحالة هذه؛ ولذلك قلنا: من ورث البعض ممن يعتق عليه، وعَتَق عليه، لم يسر العتق إلى الباقي، وإن كان الوارث موسراً، فهذا تمام المراد.
12523 - ونعود بعده إلى مقصود الفصل، فنقول: إذا مات رجل وخلف ابنين

(19/376)


وعبداً، فادعى العبد عليهما أن أباهما كاتبه؛ فإن صدقاه، فالأمر على ما قدمناه.
وإن كذباه، فالقول قولُهما مع اليمين، يحلفان بالله لا يعلمان أن أباهما قد كاتبه، فإن حلفا، انتهت الخصومة إذا لم تكن بينة، وإن نكلا عن اليمين، حلف العبد، وحُكم بالكتابة.
وإن أراد العبد إثبات الكتابة بالبينة، فلا يخفى أنا نُحْوِجُه إلى إقامة شهادة عدلين؛ فإنه يبغي مقصودَ العتاقة، وليس يطلب مالية، فلا يثبت مقصوده إلا بعدلين.
وإن صدّقه أحدُ الابنين، وكذبه الآخر، فنصيب المصدِّق مكاتَب، والقول قول المكذب في نصيبه مع اليمين؛ فإن نكل وحلف العبد يمين الرد حُكم بالكتابة في الجميع، وإن حلف، فنصيبه قنُّ، فيستكسب العبدُ، فما يحصل من أكسابه يدفع نصفه إلى المكذِّب بحكم الرق، والنصفُ يبقى في يده يدفعه إلى المصدِّق عند حلول النجم، فيعتِق به، ثم هذا العتق لا يسري قطعاً؛ فإنه مرتب على [أداءٍ] (1) قهري لا يجد المصدق محيصاً، وقد ذكرنا أن الأمر إذا كان كذلك، فلا سريان.
فأما إذا أعتقه المصدق، أو أبرأه عن حصته، ففي سريان العتق الخلافُ المقدم، ورأى الأصحاب السريانَ هاهنا أقرب وأولى؛ لأن من يسري عليه معترف بالرق، فكانت السراية محتملة على موجب قوله.
وليس هذا ترتيباً معتداً به، ولكن إن كان العبد مكاتباً في علم الله تعالى، فالأمر في تسرية العتق على ما قدمناه، وإن سُئلنا عن حكم الظاهر، فمن كذب يظهر مؤاخذاً بموجب إقراره وهو المعني بالترتيب.
وهاهنا أمر يجب التنبه له، وهو أن المصدِّق إذا أبرأ ولم يُعتق، فالمكذب ينكر حصولَ العتق في نصيب المصدق المبرىء؛ فإن الإبراء في [القن] (2) لا معنى له، وعلى موجب تكذيبه يجب ألا يسري العتق إلى نصيبه، ولكن الاختلاف مع هذا قائم؛ فإن المصدِّق قولُه مقبولٌ في نصيبه، فإذا أتى بما يقتضي العتق، فالسريان بعده
__________
(1) في الأصل: " آداب ". والمثبت من المحقق.
(2) في الأصل: العين. والمثبت تقديرٌ منا.

(19/377)


أمر قهري لا يُربط بالرضا. نعم، إذا أعتق المصدِّق، فيجب القطع بمؤاخذة المكذب بعتق نصيبه إذا سرَّينا عاجلاً، لأنه معترف بأن نصيبه قد عتق. وهذا نجاز الفصل.
12524 - وقد قال الصيدلاني إذا ادعى العبد الكتابة، فصدقه أحدهما وكذبه الثاني، فشهد المصدِّق بالكتابة، وانضم إليه شاهد آخر، قال: تثبت الكتابة، وقُبل شهادة أحد الوارِثَيْن على الثاني.
وهذا مشكل؛ فإنه بشهادته يثبت لنفسه حقوقاً -في الكتابة أو النجوم- موروثةً، فإطلاق القول بقبول شهادةٍ بعقدٍ عوضه للشاهد محال، وإن فرضت شهادته بعد الإبراء، فيتصور له أغراض في السراية إن سرّينا، فقبولى الشهادة مطلقاً بعد الإبراء لا وجه له، نعم يجب تخريجه على نفي السراية حتى إذا لم يكن للوارث الشاهد غرض ينسب إلى جر، فإذ ذاك تقبل شهادته.
فصل
قال: " والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم ... إلى آخره " (1).
12525 - إذا كاتب الشخص عبداً خالصاً على نجوم، ثم قبض معظمها، لم يعتِق من العبد شيء في مقابلة ما استوفى من النجوم. هذا مذهب معظم العلماء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم " (2).
وعن علي رضي الله عنه أنه كان يوزع العَتاقة على النجوم، ويحكم بأنه يحصل من
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 276.
(2) حديث: " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم " رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال النسائي: هذا حديث منكر. وذكر الحافظ عن الشافعي قوله: " لا أعلم أحداً روى هذا إلا عمرو بن شعيب. ولم أر من رضيت من أهل العلم يثبته، وعلى هذا فتيا المفتين " ا. هـ. والحديث رواه مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر موقوفاً، ورواه ابن قانع عنه مرفوعاً، وأعلّه (ر. أبو داود: العتق باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت، ح 3926، 3927، النسائي في الكبرى: ح 25026، 25027، الحاكم: 2/ 218، التلخيص: 4/ 398 ح 2728، 2729).

(19/378)


العتق مقدارُ ما قبض من النجوم على نسبة الجزئية، حتى إن جرى القبض في نصف النجوم، حصل العتق في نصف المكاتب (1)، ولا قائل بهذا المذهب الآن.
وما ذكرناه من تبعض العتق في الوارثَيْن سببه تعدد الشخصين، وسنعود إليه في باب تبعيض الكتابة.
12526 - ثم ذكر الشافعي أن المكاتب كتابةً صحيحة إذا مات قبل العتق، انفسخت الكتابة بموته. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة (2): إن خلّف وفاء، أُديت النجوم منه، والمسألة مشهورة في الخلاف، ومعتمد المذهب أن رقبة المكاتَب موَرِدُ العتق قبل القبض (3).
فصل
قال: " فإن جاء بالنجم، فقال السيد: هو حرام ... إلى آخره " (4).
12527 - إذا أتى المكاتب بالنجم، فقال السيد هو حرام، وامتنع عن قبوله، أُجبر على القبول إلا أن يبرىء؛ فإن القول قولُ المكاتب في ملك ما في يده، وهذا بيّن.
ثم إن ذكر السيد لذلك المال مستحِقاً، أجبرناه على قبوله، ثم نؤاخذه بالإقرار بعد القبض، ونلزمه أن يسلمه إلى المقَر له. وإن لم يعيِّن (5) مستحِقاً، واقتصر على قوله: هو حرام، وأجبرناه على قبوله، فالمذهب أنه لا ينتزع من يده، لأنه [لم يعترف به لمتعين] (6). ومن أصحابنا من قال: ينتزعه الحاكم من يده، ويضعه في بيت المال.
__________
(1) أثر علي رواه النسائي في الكبرى (العتق: باب ذكر المكاتب يؤدي بعض كتابته، ح 5003)، والبيهقي (10/ 326).
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 431 مسألة 2125، رؤوس المسائل: 546 مسألة 403، المبسوط: 7/ 216، طريقة الخلاف: 177 مسألة: 70.
(3) إلى هنا انتهى الخرم والسقط الذي أشرنا إليه من قبل في نسخة (ت 5).
(4) ر. المختصر: 5/ 276.
(5) ت 5: "يعتق".
(6) في الأصل: " لو لم يعترف به، لتعين " والمثبت من (ت 5).

(19/379)


فإن قلنا: لا ينتزع من يده، فلو كذب نفسه، وقال: صدق المكاتَب في ادعاء الملك، وإنما ناكدته فيما قلتُ، فالمذهب أن ذلك مقبول منه، وتصرفه نافذ، بحسبه. وإن قلنا: الحاكم يزيل يده؛ فالظاهر أنه لو كذّب نفسه، لم يقبل منه.
12528 - ومما يليق بهذا الفصل أن المكاتب لو جاء بالنجم عند محله، فالسيد مجبر على قبوله: كما قدمناه، ولو امتنع عن القبول ولم يبرىء، قَبَضَ القاضي عنه.
ولو جاء بالنجم قبل محله، ولم يكن للسيد غرضٌ في الامتناع عن القبول، فهو مُجبر على القبول، واختلف القول في سائر ديون المعاملات إذا كانت مؤجلة، فأتى بها من عليه الدين قبل المَحِل، فهل يجبر مستحق الدين على قبوله؟ فيه قولان تقدم ذكرهما في الأصول التي سبقت، ونجمُ الكتابة مما يقطع القول فيه بالإجبار على القبول، فقد رُوي: " أن سيرين كان مملوكاً لأنس بن مالك، فكاتبه على مال عظيم، فجاء بآخر النجوم معجلاً له على محله، فأبى أنس أن يأخذ إلا يوم المحل، فرفعه إلى عمر، وقال: إنه يريد أن أموت فيأخذ مالي وولدي، فقال عمر: تأخذه، أو أضعه في بيت المال، فأخذه أنس وعتق سيرين " (1). ومعنى قول عمر أضعه في بيت المال، أحفظه عليك وأقبضه عنك قهراً، ولم يُرد أنه يصير مالاً للمسلمين.
وعلى هذا لو غاب السيد، فجاء المكاتب بالنجم قبل محله إلى الحاكم، قبلَه الحاكم عن الغائب، وحكم بعتق المكاتب.
وهذا كله إذا لم يكن على السيد ضرر في أخذ المعجل؛ فإن كان عليه ضرر في القبول، لم يجبره على القبول مذهباً واحداً، وذلك أن يكون الوقت وقتَ نهب وغارة، ولو قبل، خاف النهب، فلا يكلفه التعرض للضرر، اتفق الأصحاب عليه، وإنما يُجبر على القبول تشوّفاً إلى تحصيل العتق إذا لم يكن على القابض ضرر، ولو كان له غرض في ألا يقبل، ولم يكن عليه ضرر، فالغرض لا مبالاة به، وحديث أنس شاهد فيه.
__________
(1) أثر سيرين رواه البيهقي في الكبرى (10/ 334، 335).

(19/380)


ثم النجم الذي يأتي به - لا فرق بين أن يكون آخر النجم الذي يتعلق العتق بتأديته، وبين أن يكون أول نجم أو نجماً متوسطاً. فإن لكل نجم أثراً في تحصيل العتاقة.
ولو كان على إنسان دينٌ به رهن، والدين مؤجل، فأتى الراهن بالدين قبل المحل، فله غرض ظاهر في تعجيل الدين، لينفك الرهن، فقد قطع القاضي بأن مستحِق الدين يجبر على القبول إذا لم يكن عليه ضرر، كما يجبر السيد على قبول النجم قبل محله. ولم أر في ذلك خلافاًً في الطرق.
فصل
قال: " وليس له أن يتزوج إلا بإذن سيده ... إلى آخره " (1).
12529 - اتفق الأصحاب على أن المكاتب لا يتزوج إلا بماذن سيده، لأنه يتعرض في النكاح لغُرم المهر والنفقة، وهذا يتعلق بكسبه، وليست يده مطلقة في إكسابه حتى يصرفها إلى ما يشاء من مآربه، وإذا أذن له المولى في التزوج، ففي انعقاد نكاحه بإذن المولى قولان مبنيان على أن تبرعاته هل تَنْفُذ بإذن المولى؛ وفي ذلك قولان سيأتي شرحهما، مع استقصاء ما يكون تبرعاً من المكاتب وما لا يكون تبرعاً.
وذهب بعضر المحققين إلى أن نكاحه يصح بإذن المولى قولاً واحداً؛ فإنه يتعلق بحاجته، وإنما القولان في هباته وتبرعاته التي لا تتعلق بحاجاته، وهذه طريقة حسنة، والطريقة المشهورة طريقة القولين.
وقد نص الشافعي على أن المكاتبة لا تختلع نفسها بإذن مولاها، وذهب جمهور الأصحاب إلى أن هذا جواب من الشافعي على أحد القولين في أن المكاتب لا يتبرع بإذن المولى، وإلا فلا فرق.
وأشار بعض الأصحاب إلى القطع بأنه لا يصح منها أن تختلع وإن أذن المولى، وهذا وإن ذكره الصيدلاني، فليس له وجه، أعني أن قطع القول لا وجه له، ولم يصر
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 276.

(19/381)


أحد من الأصحاب إلى إلحاق اختلاعها بنكاح العبد، من جهة أنه يعدّ من حاجاتها، وهذا لا قائل به.
وأما المكاتبة هل تُزوّج؟ قال القفال - فيما حكاه القاضي عنه: لا تُزوَّج المكاتبة بحال قولاً واحداً، لأنها غيرُ مالكة للإذن، وإذنها لا بد منه، فصارت في تزويجها كالصغيرة.
وهذا غير مرضي، والذي ذهب إليه الجمهور أن تزويج المكاتبة بإذن المولى يُخَرّجُ على تزوج المكاتب بإذن المولى، فإن تزويجها من حاجاتها، كما أن تزوّج العبد من حاجته، بل إذا تزوجت المكاتبة، استحقت النفقةَ والمهرَ، وإذا تزوج المكاتب التزم المهر والنفقة.
ثم قال القاضي: الأظهر أنها تُزَوّج لما ذكرناه، ولفقهٍ آخر: وهو أنها بالنكاح لا يلزمها أن تُسلِّم نفسَها إلى الزوج تسليم الحرة، حتى يُقدَّرَ الزوجُ شاغلاً عن الاكتساب، بل سبيلها وسبيل. الزوج معها كسبيل الأمة إذا زوجها مولاها، لأنها محتاجة إلى الاكتساب، فمنفعتُها مستثناة كمنفعة الرقيقة.
وهذا في نهاية الحسن، فإن ظن ظان أنها إذا تزوجت، وصحّ ذلك، فقد التزمت التسليم التام، قيل: هلاّ لزم مثل هذا في تزويج السيد أمته؟ فلا وجه إلا ما ذكره القاضي.
12530 - ثم تكلم الأصحاب في أن المكاتب هل يتسرّى جارية من جواريه؟ وهذا خارج على التبرعات. فليس له أن يتسرّى بغير إذن السيد، وفي التسرّي بالإذن القولان.
ثم ذكر الأصحاب ثبوت الاستيلاد، وطرفاً من أحكام الولد، ولا ينبغي أن نخوض في هذا الآن البتة؛ فإنا سنجمع أحكام الأولاد في باب إن شاء الله، ونذكر ولدَ المكاتب والمكاتبة. ثم نذكر أميّة الولد حتى نذكر تلك الفصول المتناسبة في موضع واحد.

(19/382)


فصل (1)
قال: " ويجبر السيد على أن يضع من كتابته شيئاً ... إلى آخره " (2).
12531 - مذهب الشافعي أنه يجب على المولى أن يؤتي المكاتبَ شيئاً. فالإيتاء مستحَق. وقال أبو حنيفة (3): هو مستحب.
ومعتمد الشافعي ظاهر قوله تعالى: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} [النور: 33]، وأشار رضي الله عنه إلى الآثار، وهي المعتمدة عندنا في تأسيس الكتابة، ووضعِ أصلها، ولم يكاتِب أحد إلا وضع من مكاتبه شيئاً، أو آتاه شيئاً، وعن ابن عمر أنه كاتب عبداً له على خمسة وثلاثين ألفَ درهم، ووضع منه خمسةُ آلاف درهم (4)، فقد شبه الشافعي الإيتاء بالمتعة في مجاري كلامه، وإنما ذكرنا هذا لأن الحاجة قد تمسّ إليه في تفصيل المذهب.
وأول ما تذكره بعد ثبوت الأصل، اختلافٌ في أن الأصل في الإيتاء إعطاء شيء أو حطُّ شيء من النجوم؟ فمنهم من قال: الأصل الحط؛ فإن الغرض من الإيتاء الإعانة، وهي تحصل بالحط ناجزاً. ومنهم من قال: الأصل بذل شيء له. تعلقاً بظاهر قوله: {وَآَتُوهُمْ} ثم قالوا: أثر هذا الخلاف ماذا؟ ولا خلاف أن الغرض [يحصل] (5) بكل واحد منهما.
فقيل: من آثار الخلاف أن المكاتب كتابة فاسدة إذا عتق، ففي استحقاقه شيئاً على
__________
(1) من هنا بدأ سقط آخر من نسخة (ت 5) استغرق هذا الفصل والفصول الثلاثة التالية، وهو نحو خمس ورقات من ورقات (ت 5)، ولكنها ليست من بداية الصفحات ونهاياتها.
(2) ر. المختصر: 5/ 276.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 384، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 412 مسألة: 2099، المبسوط: 7/ 206، رؤوس المسائل: 547 مسألة 404.
(4) أثر ابن عمر رواه مالك في الموطأ، والبيهقي (ر. الموطأ: 2/ 788، البيهقي: 10/ 330، التلخيص: 4/ 440 ح 2735).
(5) في الأصل: " يسقط ".

(19/383)


المولى وجهان، فإن قلنا: الأصل الحط، لم يستحق؛ فإنه لا نجم على المكاتب كتابة فاسدة، حتى يجب حطُّ شيء. فإذا لم يثبت الأصل، لم يثبت [البدل] (1)، وإن قلنا: الأصل الإعطاء والبذل، فلا يمتنع إيجاب شيء على المولى تشبيهاً للكتابة الفاسدة بالكتابة الصحيحة؛ فإنها شابهتها في معظم المقاصد، ثم إذا أوجبنا إعطاء شيء ومن موجب الكتابة الفاسدة استحقاق السيد قيمةَ الرقبة، فلو حط من قيمة الرقبة، كفى ذلك عن جهة الإيتاء؛ فإنا وإن جعلنا الأصل الإعطاء، فالإبراء يحل محله، وهذا إبراء عما وجب بسبب الكتابة الفاسدة.
وإذا أعتق الرجل عبده على مال أو باعه من نفسه -كما سنفصل سائر عقود العتاقة من بعد، إن شاء الله- فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أنا لا نوجب الإيتاء في غير الكتابة، وإنما ظهر تردد الأصحاب في إلحاق الكتابة الفاسدة بالصحيحة، فأما ما عداها من عقود العتاقة، فلا يجب الإيتاء فيها.
وحكى شيخي عن بعض الأصحاب المصير إلى وجوب الإيتاء في كل عقد عَتاقة فيه عوض، ولا خلاف أن من أعتق عبده من غير عوض لم يلتزم شيئاً، وإن كنا قد نوجب المتعة لكل مطلقة على قول بعيد، فالعتق المنجز لا ينزل منزلة الطلاق.
12532 - ثم إنا بعد هذا نتكلم في فصول: منها - وقتُ وجوب الإيتاء، ومنها - الكلام في مقداره، ومنها - الكلام في جنسه.
فأما القول في وقت الوجوب، فالذي ظهر لنا من كلام الأصحاب، فيه مسلكان: أحدهما - أن الإيتاء يجب لحصول (2) العتق، ولكنا نستحب تقديمه عليه حتى يستعين المكاتَب به، ووجه ذلك أن المكاتب إذا عَتَق، فهو بمثابة الزوج (3) تُطَلَّق. وما يؤتيه المولى بُلْغةٌ يضطرب فيها العتيق إلى أن يكتسب مزيداً؛ فإن الغالب أنه يستفرغ ما في يده في النجوم.
__________
(1) في الأصل: " البذل ".
(2) أي لوقت حصول العتق.
(3) كذا: (الزوج) بدون علامة التأنيث، وهي اللغة الفصحى التي جاء بها القرآن، ولكن الفقهاء جَرَوْا على إثبات علامة التأنيث في كتابي النكاح والفرائض خاصة منعاً للبس.

(19/384)


والمسلك الثاني للأصحاب - أن الإيتاء يجب قبل العتق، وهذا يعتضد بظاهر القرآن، فإنه تعالى قال: {فَكَاتِبُوهُمْ ... {وَآَتُوهُمْ} [النور: 33]، وقد يظهر للناظر أن المقصود الظاهر من الإيتاء الإعانة إما بإعطاء شيء وإما بتخفيفٍ بالحط. ولم يصر أحد من الأصحاب إلى إيجاب الإيتاء وقت العقد على التضييق، حتى تتوجه الطَّلِبةُ به قبل الانتهاء إلى النجم الأخير. [هذا قولنا] (1) في وقت وجوب الإيتاء.
12533 - فأما الكلام فيما يتادى به واجب الإيتاء، فقد قال طوائف من الأئمة: يكفي منه ما يتموّل أو يجوز أن يكون عوضاً، فإن زاد، فهو تكرم وذهب ذاهبون إلى أنه لا يقع الاكتفاء بأقل ما يتمول، ومتعلق الأولين أنه [لم يُرَ] (2) في الشرع توقيف يرشد إلى تقدير أو تقريب، أما التقدير، فبين، وأما التقريب، فمثل ما اقتضاه ظاهر قوله تعالى: {مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]. فتلقى العلماء من المعروف التوسط بين التقليل والتكثير، كما مضى مشروحاً في بابه. والإيتاء ليس مقدراً ولا مقيداً بما يقتضي تقريباً، فإنه تعالى قال: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} [النور: 33]، ومقتضى {مِن} التبعيض، وإذا نظمنا معناه، كان التقدير (وآتوهم بعض ما آتاكم الله) واسم البعض ينطلق على القليل والكثير.
ومن تمسك بالمسلك الثاني: احتج بأن الإيتاء مأمور به لغرضٍ لا يخرج من (3) الإعانة وتمهيد بُلغة بعد العتق، ومن أنكر ذلك من مقصود الشارع، فهو جاحد، والحبة فما دونها لا تسدّ مسدّاً في إعانة، ولا في بلغة، وليس هذا كالمهر؛ فإن الغرض من إثباته أن [لا] (4) يثبت البضع مجرداً عن مقابل، وهذا يتحقق بما يصح أن يكون عوضاً.
فإن اعتبرنا أقل ما يتمول، فلا إشكال يختص بما نحن فيه، وقد ذكرت في مواضع معنى ما يتمول، ومن اعتبر الغرض، فالأوجه معنى الإعانة، وهذا يختلف
__________
(1) في الأصل: " هذا قوله ".
(2) في الأصل: " لم يزل ".
(3) (من): بمعنى: (عن).
(4) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها.

(19/385)


بقلة النجم وكثرته، فإن الحاجة إلى الإعانة تختلف باختلاف المَبالغ، ومن راعى بلغةً بعد العتق، فقد يخطر له تنزيل تلك البلغة منزلة المتعة، ولست أرى ذلك معتبراً، -وإن كنا قد نلتفت إلى المتعة- فإنا لو اعتبرنا ذلك في التفصيل، للزمنا إيجابُ الإيتاء في العتق المنجّز.
[ثم إذا راعينا الغرض، فلا ندري لذلك مردّاً يُرجع إليه إلا أن يجتهد القاضي] (1) عند فرض نزاع، ولا معدل عن هذا إذا تُصور اختلاف بين السيد والعبد. فإن قيل: فالقاضي إلى ماذا يرجع مع العلم [بأن] (2) الاحتكام لا سبيل إليه، قلنا: يرجع إلى ما له أثر في الإعانة، وعدمُه يورث تضييقاً أو كلفة. وهذا يختلف بقدر النجم وقوة العبد، وإن غيرنا العبارة قلنا: المقدار الذي يفرض العجزُ بفقدانه، ويترتب التعجيز عليه هو المُغني المؤثر، ثم مستند النظر فيه حدسٌ وتخمين، والمعلوم منه أن المكاتب على عشرة آلاف في سنتين لا يغني عنه حط المائة شيئاً، فما نستيقن أنه لا وقع له لا يكفي، وما نستيقن له وقعاً كافٍ، وما نتردد فيه فقدر التردد محتمل يتعارض فيه بقاء الإيتاء وبراءة ذمة المولى، ويلتحق بأطراف تقابل الأصلين. والذي نستيقن وَقْعَه يشتمل على زيادة قطعاً. هذا منتهى الإمكان في ذكر المقدار.
12534 - فأما الكلام في الجنس، فإن حط من نجمٍ، جاز، وإن أعطى من عين ما أخذ جاز، وإن أعطى من مالٍ آخر غيرِ مجانس لما أخذ، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين فيه: أحدهما - أنه يتعين الإعطاء من عين ما أخذ؛ تعلقاً بقوله تعالى: {مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} [النور: 33]، وهذا محمول عندنا على النجوم، وهي من مال الله في هذه الآية.
ثم قال الشيخ أبو علي: لو آتى من غير جنس النجم، لمِ يعتد به، وشبّه هذا بإخراج الدراهم من الدنانير في الزكاة، من حيث إن الإيتاء قُربة تثْبتُ تعبداً، وهي أبعد
__________
(1) عبارة الأصل: " ثم إذا راعينا الغرض، فلا ندري ذلك يرجع إليه إلى أن يجتهد القاضي " وهي كما ترى غير مستقيمة، والمثبت من تصرف المحقق؛ إقامةً للعبارة، ورعاية للسياق.
(2) في الأصل: " فإن ".

(19/386)


عن المعني من الزكوات (1)؛ إذ يتعلق بها سدّ الخلات، وهو معنىً كلّي تدركه العقول [بمباديها] (2)، ثم غير الجنس لا يجري فيها.
ووجدت في كلام بعض الأئمة ما يدل على أن غير الجنس يجزىء، لأن هذا ملتحق بالمعاملات، فلا يُنحى به نحو العبادات.
ثم ما أراه أن ما ذكر الشيخ وحكى الوفاق فيه معناه أن السيد لو جاء به لم يجبر المكاتب على قبوله، فأما إذا قبله المكاتب، واعتاض عن حقه، جاز ذلك. وقد نقول: إذا منعنا نقل الصدقة وانحصر المستحقون أن لهم أن يعتاضوا عروضاً عن حقوقهم.
12535 - ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك أنه إذا لم يبق من النجوم إلا المقدارُ الذي لو حطه أو أعطاه، لكان كافياً، فقد قال الأئمة: لا يَسْقُط ذلك المقدارُ، فإنا وإن جعلنا الحط أصلاً، فللمولى أن يؤتي بدلاً عنه، هكذا ذكر الأئمة. وقالوا: يرفعه المكاتب إلى الحاكم حتى يرى رأيه، ويفصلَ الأمر في ذلك؛ وإن امتنع أجبره على منهاج الحق.
وإن جعلنا الإيتاء أصلاً، فقد قال القاضي: إذا بقي على العبد المقدارُ الذي لا اكتفاء بدونه، ولم يجده العبد، فللمولى أن يعجّزه، ثم في تعجيزه إياه، وعوده رقيقاً سقوطُ الإيتاء، وارتفاع العقد من أصله؛ وهذا عندي غيرُ صحيح؛ فإن المكاتب إن وجب عليه ما بقي، فعلى السيد مثله، ونحن قد نقول في مثل هذا بالتقاصّ، وأيضاً - فإن الإيتاء إنما شرع حتى لا يَعْجِز العبدُ بهذه البقية، وإذا شهد أخصُّ مقاصد الحكم في أمرٍ، لم تَسُغ مخالفتُه.
فقد انتظم أنا إن جعلنا الأصل الحط، فلا تعجيز، وإن جعلنا الأصل الإيتاء، فقد نقل عن القاضي التعجيز، وهو عندي وهم من الناقل. والوجه ما ذكرته، ويبعد كل
__________
(1) أي أن الإيتاء في النجوم أقرب إلى التعبد، وأبعد عن التعليل من الزكوات، فكان تعين الإعطاء من عين ما أخذ لهذا.
(2) مكان كلمة تعذرت قراءتها، حيث رسمت هكذا " بماديها ". (انظر صورتها).

(19/387)


البعد أن ينتهي التفريع التقديري الآيل إلى اللفظ إلى منتهى يناط به إثباتُ تعجيز ونفي تعجيز.
12536 - ثم قال الشافعي: " ولو مات المولى بعد قبض جميع النجوم قبل الإيتاء، استحق العبد في تركته ... إلى آخره " (1).
الوجه أن نذكر فقه الفصل، وما لا يجوز اعتقاد خلافه في قاعدة المذهب، ثم نذكر النص، والإشكال في فحواه، واضطراب الأصحاب بحسبه.
فأما ما يجب التعويل عليه، وهو أن الإيتاء حق مستحق، إذا عتق المكاتب بتأدية جميع النجوم، صار ما يستحقه ديناً، فإذا مات المولى قُدِّم ما يستحقه العتيق على الوصايا وحقوق الورثة كسائر الديون، وإن كثرت الديون، ضارب المكاتَب أصحاب الديون.
فإذا تبين هذا - فقد قال الشافعي فيما نقله المزني: " حاصّ المكاتَب الذي عتق أهلَ الوصايا " (2)، وهذا يُشكِل، لما نبهنا عليه، واضطربَ رأي الأصحاب في هذا النص اضطراباً جرّ خبالاً عن أصل المذهب.
فحكى العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أن واجب الإيتاء في مرتبة الوصايا، والديونُ مقدمة عليه؛ فإن الإيتاء مكرُمة وإن وجبت، وقال الشيخ أبو حامد: الوجوب في الإيتاء ضعيف، ورمز إلى ضعف متعلق المذهب في ذلك.
وهو غير سديد مع وجوب الإيتاء، والأصول لا تصَادم بأمثال هذا، ولو قدّمنا ديناً على دين، فقد نجد له نظيراً، فأما إيقاع الإيتاء في مرتبة الوصايا، فلا اتجاه له، ولا شك أن هذا القائل يقول: إذا ضاق الثلث، فلا مزيد، وهذا على نهاية البعد.
والوجه الثاني للعراقيين - أن ما يراه القاضي باجتهاده، فالقول فيه أن المتمول منه دين، والزائد عليه -وإن أوجبناه- في رتبة الوصايا، وهذا كقولنا فيمن أوصى
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 276. وعبارة المختصر بنصها: " ولو مات السيد، وقد قبض جميع نجوم الكتابة، حاصَّ المكاتب بالذي له أهل الدين والوصايا ".
(2) ر. المختصر: السابق نفسه: العبارة ذاتها.

(19/388)


بإحجاج رجل عنه من بلده وكان حَجُّ الإسلام دينا عليه، فمقدار أجر العمل من الميقات دينٌ، والزائد عليه وصية.
وهذا أيضاً ليس بشيء، فإن القاضي إذا أثبت واجباً، فليكن ديناً، وليس له أن يزيد على مقدار الواجب، ولا ينبغي للفقيه أن يحيد عن المسلك المستقيم ويُصغي إلى التخييلات، فالمذهب المقطوع به ما ذكرناه.
وتأويل النص أن المولى لو كان قدَّر مبلغاً في الإيتاء، ورأيناه أكثر من قدر الكفاية، فالزائد على قدر الكفاية في رتبة الوصايا، وفرض هذا فيه أولى من إضافته إلى القاضي.
ومما يجب أن يعتقده من ينتحل مذهب الإمام المطلبي أنه يبني فرعه على أصول الشريعة، وقد صح في منصوصاته أنه قال: إذا بلغكم عني مذهب، وصح عندكم خبر على مخالفته، فاعلموا أن مذهبي موجَبُ الخبر، والظن به أنه لو زل قلم ناسخ عنه عن أصلِ أنّ مذهبه موجَبُ الأصل، وما نُقل محمول على تحريف أو غفلة.
فصل
قال: " وليس لولي اليتيم أن يكاتب عبده ... إلى آخره " (1).
12537 - ليس لمن يلي أمر الطفل، قريباً كان، أو قيماً، أو قاضياً، أن يكاتب مملوكَ الطفل؛ فإن المكاتبة في حكم التبرع المحض؛ من حيث إنها إعتاق الرقبة بكسبٍ، لو اطرد الملك، لكان ملكاً للطفل.
وعند أبي حنيفة (2) لولي الطفل أن يكاتب عبده.
وليست الكتابة في معنى بيع مال الطفل نسيئة من مليء وفيّ على شرط الغبطة، مع الاستيثاق، كما تقدم في كتاب البيوع؛ فإن ذلك يعد مجلبةً للمال، ومكسبةً فيه، بخلاف المكاتبة، وسأذكر في تبرعات المكاتب قولاً جامعاً، فيما نعتبر في كل تبرع، ثم في حق كل واحد.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 276.
(2) ر. مختضر اختلاف العلماء: 4/ 415 مسألة: 2104.

(19/389)


12538 - ثم قال: " ولو اختلف السيد والمكاتب تحالفا ... إلى آخره " (1).
ولو اختلفا في قدر النجوم وجنسها، أو في مقدار الأصل، تحالفا، ثم إن جرى ذلك قبل العتق، انفسخت الكتابة، أو فسخت، وينقلبُ المكاتب إلى الرق، ويخلص للسيد ما قبضه.
وقد يفرض الاختلاف بعد حصول الوفاق على الحرية، وذلك بأن يدعي السيد الكتابة بألفين، وقال العبد: بل كانت بألف، وكان قد سلم إلى سيده ألفين، وزعم أنه سلم أحدهما عن مال الكتابة، وسلّم الآخر وديعة، وقال السيد: بل سلمتَهما عن جهة الكتابة، فالعتق متفق عليه لا مرد له، وموجَب الانفساخ أن يرد المولى الألفين، ويرجع على العبد بقيمته.
فصل
قال: " ولو مات العبد، فقال سيده: قد أدى إليّ كتابته ... إلى آخره " (2).
12539 - إذا تزوج المكاتب معتَقَةً، فأتت منه بأولادٍ، فلا شك أنهم أحرار، لأن الحرة لا تلد إلا حراً، وعليهم الولاء لمولى الأم، فإذا عتق المكاتب، انجر ولاء الأولاد إلى معتِقه، فلو مات المكاتَب واختلف السيد وموالي الأم، فقال السيد عَتَق مكاتَبي قبل أن مات، وانجر إليّ ولاء الأولاد، وقال موالي الأم: بل مات رقيقاًً، والولاء على الأولاد مستدام لنا، فالقول قول موالي الأم؛ فإن الأصل استمرار الولاء، وبقاء الرق في المكاتب إلى الموت.
فصل
قال: " ولو قال: استوفيت مالي على أحد مكاتَبيَّ، أقرع بينهما ... إلى آخره " (3).
12540 - إذا كاتب عبداً في صحته، ثم اعترف في مرض موته بأنه قبض منه
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 276.
(2) ر. المختصر: 5/ 276.
(3) ر. المختصر: 5/ 276.

(19/390)


النجوم، فإقراره مقبول والحكم به نافذ؛ فإنه أقر بما لو أنشأه في مرض الموت يصح منه، وإقراره للمكاتب في معنى الإقرار للأجنبي، وليس كالإقرار للوارث.
12541 - ولو كان كاتب عبدين في صحته، ثم قال: استوفيت مالي على أحدهما، فهذه المسألة لا اختصاص لها بالمرض والإقرار فيه، وحكمها أنه إذا أَبهم الإقرارَ، كان مطالباً بالبيان، مرفوعاً إلى مجلس القاضي، كما تمهد ذلك في نظائر هذه المسألة في إبهام الطلاق والعتق، فلو أبهمَ ثم عيّنَ، وقال: إني استوفيت نجومَ هذا، فيعتق الذي عيّنه، ولا تنقطع الطّلبة من جهة الآخر، فأقله أن يدّعي عليه، ولتكن دعواه: " إنك استوفيت نجومي "، فإذا ادعى كذلك، فالقول قوله (1) مع يمينه وبقي (2) الاستيفاء، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، رُدت اليمين على المكاتب، فإن حلف، حكمنا بعتقه، وقد عَتَق الأول بالإقرار.
ولو قال المكاتب الثاني: عنيتني بالإقرار الذي أبهمته، فالأصح أن دعواه مردودة على هذا الوجه؛ فإنه ليس يدعي حقاً ثابتاً، وإنما يدعي إخباراً، قد يكون صدقاً، وقد يكون كذباً، ولا اختصاص لما ذكرناه بهذه المسألة، بل لو ادعى إنسان على أحد، وقال: قد أقررتَ لي بألف، فالذي ذهب إليه المحققون أن الدعوى على هذا الوجه لا تسمع؛ فإنه لم يدع لنفسه حقاً. نعم، لو ادعى ألفاً، وأقام بينة على إقرار المدعى عليه بالألف، لكان ذلك منتظماً مفيداً يحصّل الغرض.
ولو مات هذا الذي أَبهم إقراره قبل البيان، طالبنا الورثة بالبيان. ولكن اليمين المتوجهة عليهم عند التداعي تكون على نفي العلم، فإذا حلفوا لا يدرون من عيّن موروثهم من المكاتبَيْن، انقطعت الخصومة عنهم.
ثم في المسألة قولان في أنا هل نقرع بين المكاتَبين؟ أشهرهما - أنا نقرع بينهما (3)، والقول الثاني - أنا لا نقرع، حكاه الصيدلاني (4).
__________
(1) قوله: أي السيد.
(2) (وبقي): أي إذا حلف المولى تستمر الكتابة ويبقى استيفاء النجوم.
(3) لأنه عتقٌ استبهم، والقرعة وردت في العتق.
(4) لأنه دين استبهم، ولا قرعة في هذا.

(19/391)


توجيه القولين: من منع الإقراع احتج بأنه لو كان له غريمان، وهو يستحق على كل واحد منهما مقداراً من الدين، فقال: استوفيت ما كان لي على أحدهما ومات قبل البيان، ولم يبين الورثة، فلا إقراع، فالإقرار باستيفاء النجوم بهذه المثابة.
ومن أقرع، احتج بأن قال: المطلوب العَتاقة، والاستيفاء يقع ضمناً، والقرعة تجري في استبهام العتق.
فإن جرينا على إجراء القرعة -وهو الأصح- هان التفريع، وإن فرّعنا على أن القرعة لا تجري، فالذي يقتضيه ظاهر القياس الوقفُ إلى اصطلاحٍ، أو بيانٍ، أو قيامِ بينة.
وقد ينقدح في التفريع على هذا القولِ الضعيف أن يقول الوارث: قد امتنع المكاتبان جميعاً، وإنما العتيق أحدهما بحكم إقرار المولى، والامتناع يثبت حق الفسخ، فلو قال: فسخت الكتابة فيكما، لم يمتنع نفوذ الفسخ في الكتابة الثانية في علم الله تعالى، وجاز أن يقال: هذا بمثابة ما لو قال من له حق التعجيز: للمكاتَبِ وعبدٍ قنٍّ معه أو حُرٍّ: عجزتكما، فالتعجيز ينفذ على من يقبل التعجيز، ويلغو في الآخر، ثم ترتب على ذلك أن أحدهما (1) حر، والثاني رقيق، وقد استبهم الأمر، فيقرع (2) بينهما.
وفي أصل المسألة غائلة عظيمة، وهي أن من أعتق عبداً من عبدين على التبيين، ثم استبهم الأمر، فلا يقرع، وإنما الإقراع في موضعين: أحدهما - أن المريض إذا استوعب التركة بالإعتاق، واقتضى الشرعُ إرقاقَ بعض العبيد وإعتاقَ بعضهم، فهذا أصل القرعة ومحلها، وفيه ورد حديث عمران، والمحل الثاني للقرعة أن يبهم السيد الإعتاق، ولا يعين بقلبه ويموت، فالإقراع يعمل إذا لم يَقُم الوارثُ مقام الموروث، على ما فصلناه في بابه.
فأما إذا تعيّن العتق وقوعاً، ثم استبهم، فلا جريان للقرعة، والحالة هذه،
__________
(1) أحد المكاتبين في أصل المسألة، وليس في المثال المضروب لبيان إلغاء العبارة فيما لا تصح فيه.
(2) أي أن الوارث فسخ الكتابة فيهما، وأحدهما لا بعيانه حرٌّ بإقرار المورّث، فيقرع الوارث بينهما.

(19/392)


ولا انفصال عن هذا السؤال، لا بتخريجه على أصلٍ قدمناه، وهو أن المريض إذا أعتق عبداً، ثم عبداً، وتحققنا التقدم، واستبهم عينُ المتقدم، ففي الإقراع قولان، قدمنا ذكرهما، وبنيناهما على نظيرهما في الجمعة والنكاح، وهما جاريان حيث نعلم المتعيّن ونيئَس من الوصول إلى دركه.
فنعود بعد هذا التنبيه إلى المسألة ونقول: من أجرى القرعة، فهو مفرع على أحد القولين، ومن منع القرعة لأجل أن القرعة لا تجري في الاستيفاء، فلو صح التعجيز كما صورناه، التحق هذا بالقولين في أن القرعة هل تجري في مثل هذا المقام [وهذا نهاية] (1) كشف المسألة.
12542 - ثم قال: " ولو ادعى أنه دفع، أُنظر يوماً ... إلى آخره " (2).
إذا ادعى المكاتب أنه سلّم النجوم، وأنكر السيد، فالقول قول السيد، فإن قال المكاتب: إن لي بينة، أنظرناه يوماً، فإن استزاد، فمنتهى مدة الانتظار ثلاثة أيام، فإن لم يقم بينة، ولم يؤذ النجم عجّزه المولى، ثم يكفيه إقامةُ شاهدٍ وامرأتين؛ فإنه يبغي إثبات تسليم مال.
ولو كان يريد إثبات تسليم النجم الأخير الذي يستعقب أداؤه العتقَ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنّه لا بد من عدلين، ولا يقبل شاهد وامرأتان؛ فإن المقصود والأغلب في النجم الأخير إثبات العَتاقة، وهذا قد سبق في كتاب الشهادات موضحاً.
فصل
قال: " ولو أدى كتابته، فعتق، وكان عَرْضاً ... إلى آخره " (3).
12543 - نجم الكتابة لا يكون إلا ديناً، وكل دين ثبت في عقد، فاستوفاه مستحقه، ولم يجده على النعت المستحَق، ردّه، ولا يرتد العقد برّه، ولكنه يعود
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) ر. المختصر: 5/ 276.
(3) ر. المختصر: 5/ 276.

(19/393)


إلى طلب حقه، ثم إن كان ما قبضه من غير جنس حقه، فالرضا به لا أثر له، وهو على حقه، وما قبضه لم [يملكه] (1)، إلا أن يعتاض عن حقه ما قبضه، حيث يجوز الاعتياض.
ولو كان ما قبضه من جنس حقه، ولكن كان به عيبٌ، فإن رضي به، استمر الملك فيه، وإن رده، وأراد حقه الموصوفَ، فهل نقول: جرى ملكه فيما قبضه، ثم انتقض بالرد، أم نقول -إذا رد- تبيّنا أنه لم يملكه؟ فعلى قولين بنينا عليهما مسائلَ في البيع: منها - أن عقد التصارف لو ورد على الذمة، ثم جرى التسليم والتسلُّم في المجلس، وحصل الافتراق بعد ذلك، فوجد أحدهما بما قبضه عيباً، وردّه، فإن قلنا: ملك ما قبض، فالعقد (2) صحيح؛ فإن التفرق كان على ملك العوضين. وإن قلنا: نتبين أنه لم يملكه، فالعقد فاسد؛ فإن المتعاقدين تفرقا قبل التقابض.
ومما يبتني على هذا الأصل أن من أسلم في جاريةٍ، ثم قبض الجاريةَ، فلم يجدها على الصفات المذكورة؛ إن رضي بها، استمر العقد، وإن ردها، فالعقد قائم، وهو يطلب الجارية التي يستحقها، ولكن هل يجب على المسلَم إليه استبراء الجارية التي رُدت عليه؟ فعلى القولين: فإن قلنا: ملكها قابضها، ثم زال الملك، استبرأها المسلَم إليه، وإن قلنا: لم يملكها، فالمسلم إليه لا يستبرئها؛ وقد تبين استمرار ملكه فيها.
ومما نُجريه في اطراد هذا الأصل -قبل الخوض في مقصود الفصل- أن من قبض موصوفاً -كما ذكرنا- ولم يكن على الصفات المشروطة، ورضي به، فمتى يحصل ملكه؟ هذا بعينه ما قدمناه، ففي قولٍ يحصل الملك عند الرضا، وفي قول يحصل الملك بالقبض، ويتأكد بالرضا.
وتتمة الكلام في ذلك أن من اشترى عيناً وقبضها، واطلع على عيب قديم بها، فحق الرد فيها على الفور، كما ذكرناه في كتاب البيع. وإذا قبض موصوفاً في الذمة، ولم يكن على كمال الصفة، واطلع على ذلك، فإن قلنا: إنه لا يملك بالقبض ما لم
__________
(1) في الأصل: " يملك ".
(2) ت 5: " فالملك ".

(19/394)


يرض، فلا شك أن معنى الفور لا يتحقق، بل الملك موقوف على الرضا متى كان، وإن قلنا: يحصل الملك بالقبض، فاطلع على النقص، فيجوز أن يقال: حق الرد على الفور، والأوجه أنه ليس على الفور، وإن حكمنا بحصول الملك بالقبض؛ لأنه ليس معقوداً عليه، وإنما يثبت الفور فيما يؤدي رفعه إلى رفع العقد محاماة على بقاء العقد. فهذا مقدار غرضنا في مقدمة الفصل.
12544 - ونحن نعود بعده إلى الغرض، ونقول: إذا قبض السيد النجم الأخير مثلاً، ولم يكن على الصفة المطلوبة، والمجلس جامع، ولو فرض الرضا والتساهل، لاستمر الملك، ونفذ العتق، فلا يخلو إما أن يرضى وإما أن يبغي الرد، فإن رضي، حصل العتق.
واختلف الأصحاب في وقت حصوله، فمنهم من قال: يحصل العتق عند الرضا، ومنهم من قال: يحصل العتق بالقبض، ولا يعسر على الفطن تلقي هذا مما مهدناه.
وإن [كان] (1) اطلع وأراد الرد والاستبدال، فهل نحكم بحصول العتق، أم كيف السبيل؟ هذا يبتني على القولين المذكورين في أنا هل نحكم بحصول الملك بالقبض، ثم نقضي بانتقاضه في المقبوض الموصوف، فإن قلنا: لا نحكم بالملك، بل نتبين أنه لم يحصل أصلاً. فإن قلنا: نتبين أن الملك لم يحصل (2)، فالعتق غير حاصل، وإن قلنا: ارتد العتق، كان توسعاً وتساهلاً في الكلام، بل لم يحصل أصلاً. والمعنيّ برده الحكمُ بانتفائه أصلاً، وهذا متجه بيّن.
وإن قلنا: يحصل الملك في المقبوض، فلا ينسدّ على المولى باب الرد باتفاق الأصحاب، ولكن اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: إذا ردّ، تبيّنا أن العتق لم يحصل. وهذا هو الذي لا يستقيم على قاعدة المذهب غيره؛ فإن العتق لو حصل، لامتنع ارتداده؛ إذ ليس هو من التصرفات التي يتطرق النقض إليها.
فإن قيل: إذا حكمتم بالملك في المقبوض، فلِم لَم تقضوا بنفوذ العتق؟ قلنا:
__________
(1) زيادة من (ت 5).
(2) كذا في النسختين، وكأني بالجملتين، تغني إحداهما عن الأخرى، فالتكرار فيهما واضح.

(19/395)


لأن العتق يحصل في الكتابة الصحيحة بقضية المعاوضة، والعتق مقابَل بملكٍ لازم متأكد، لا يتطرق إليه إمكان الرفع والقطع، فإذا ردّ، تبينا أن العوض على مقتضى العقد لم يَجْر فيه ملك، والعتق لا يكتفى في حصوله بجريان ملك جائز على عوض ناقص.
ومن أصحابنا من قال: ينفذ العتق على الجواز، كما حصل الملك في العوض على الجواز، فإن حصل الرضا، لزم الملك والعتق، وإن اتفق الردُّ، ارتد العتق بعد نفوذه، وهذا ضعيف لا أصل له، ولكن حكاه القاضي وزيّفه، وقد نجد له نظيراً في تفريعات العتق في العبد المشترى في زمان الخيار، ولا أحد يصير إلى تنفيذ العتق على اللزوم.
ومما يتصل بهذا الفصل أن القابض لو تلف ما قبضه، ثم اطلع على ما كان به من نقص، فإن رضي به، فقد قال الصيدلاني: ينفذ العتق، فإن لم يرض به وأراد الرجوع إلى الأرش، فنتبين أن العتق لم ينفذ.
هكذا قال الأئمة، حتى إن فرض عجز عن تأدية الأرش، فللمولى أن يعجّز المكاتب به، كما يعجزه بالعجز عن مقدارٍ من النجوم.
12545 - وفي هذا مزيد بحث يستدعي تقديمَ أصل في ذلك. فنقول: من اشترى عيناً وتلفت في يده، واطلع على عيب، فالرضا والإغضاء إبراءٌ عن حق ثابت أم لا؟ ما دلّ عليه فحوى (1) كلام الأئمة أنه لا حاجة إلى إنشاء الإبراء، والرضا كافٍ، وتعليله أن الأرش في حكم العوض عن حق الرد، ثم حق الرد يكفي في [سقوطه] (2) الرضا، فليكن الأرش بمثابته، وإن طلب الأرشَ، تقرر حقه، ثم لا يسقط ما لم يسقطه، ولا يخفى أن طلب الأرش ليس على الفور، وإنما الفور في الرد.
فإذا تبين هذا في العين المبيعة المقبوضة إذا تلفت، فلو كان المقبوض عينَ ملتزم في الذمة، فإذا فات في يد القابض، فالذي ذكره الأئمة أنه إن رضي، استمر العتق، ولا إشكال.
__________
(1) ت 5: " مجرى ".
(2) في الأصل: " سقوط ".

(19/396)


ومتى يحصل العتق؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يحصل عند الرضا. والثاني - أنا نتبين حصوله مستنداً إلى القبض، وهذا يناظر ما قدمناه من الرضا بالعيب عند بقاء العين، وإن لم يرض وطلب الأرش، تبين أن العتق لم يحصل، وقد يخرج الوجه الضعيف الذي حكيناه في أن العتق يحصل، ثم يرتد.
فإذا تمهد هذا، فالكلام بعده في الأرش، وقد اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: الأرش نقصان العين المقبوضة، حتى إن كان النقصان عُشراً، رجع بمثل عُشر ما قبض. ومن أصحابنا من قال: الأرش هو الرجوع بمثل نسبة ذلك النقص من الجانب الثاني. فإن كان عُشراً رجع بعُشر قيمة العبد، وهذا قياس الأروش في المعاوضات، كما مهدناه في كتاب البيع على الاستقصاء.
هذا ما ذكره الأصحاب.
فنوجّه الوجهين الأخيرين، ثم نذكر إشكالاً وجواباً عنه:
أما من أثبت الرجوع بجزء من قيمة العبد، فوجهه الجريان على قياس الأرش في البيع وغيره من المعاوضات. ومن لم يسلك هذا المسلك قال: المقبوض عن ملتزم ليس ينتصب ركناً، ولذلك لا يرتد العقد برده، فلا يسترد في مقابلة نقصه [جزءاً] (1) من العوض، كما لا يسترد المعوَّضَ إذا كان [باقياً] (2) عند ردّ العوض المعين.
وأما الإشكال، فلو قيل: إيجابُ جزء زائد في المقدار في مقابلة الصفة المعدومة تغييرٌ لتقدير العوض، وإن رجعنا في جزء من قيمة رقبة المكاتب، فهذا لا يليق بالكتابة الصحيحة؛ فإن الرجوع بقيمة الرقبة إنما يثبت عند فساد الكتابة، وتمام ذلك أنه لو قيل: يغرم هذا الذي قبض النجم مثلَ ما قبضه (3)، ويطالب بالمسمى الموصوف، لكان أمثل مما قدمنا ذكره، سيّما إذا قلنا: القبض لا يملِّك ما لم يثبت الرضا، ثم قلنا: إذا ثبت الرضا، حصل الملك عنده. ولم يتعرض أحد من
__________
(1) في الأصل: " مجزوءاً "، والمثبت من (ت 5).
(2) في الأصل: " نافياً ".
(3) أي يرد السيد ما قبضه من بدل النجم، ويطالب بالنجم السليم. كما عبر بذلك العز بن عبد السلام.

(19/397)


الأصحاب لذلك. ولعلهم رأَوْا أن التلف إذا اتصل بالمقبوض، جرى الملكُ فيه لا محالة، وإنما يجري القولان إذا كانت العين قائمة.
ثم على هذا ذكروا وجهين في الأرش، كما قدمنا ذكرهما، وما وجهنا به كلام الأصحاب ليس بقاطع، والاحتمال الذي ذكرناه باقٍ، وهو يجري في قبض كل موصوف، فأما ما ذكرناه من الإشكال في الوجهين الذين ذكرهما الأصحاب، فلا يخفى الانفصال عنه: أما الزيادة في المقدار على وجهٍ، ففي مقابلة نقصان الصفة، وأما تقدير قيمة جزء من العبد، فهو على مذهب فوات المعوَّض، ويكثر نظير ذلك في المعاوضات.
وقد نجز الغرض، وتم النقل والتنبيه على وجوه الإشكال.
12546 - ونحن نأخذ بعد هذا في فصلٍ يقرب مأخذه مما ذكرناه، فنقول: إذا قبض السيد النجمَ، فخرج مستحَقاً، وتبين أنه لم يكن للمكاتَب، فلا شك أن المقبوض مردود، والعتق غير حاصل؛ فإن حصوله موقوف على ثبوت الملك في المقبوض؛ والمستحَق لا يملكه القابض. وفي ذلك نظر وبحث، فنبيّنه في أثناء الكلام.
ولو قال المولى لعبده: أنت حر على ألف درهم، فقال: قبلت، ثم جاء بألف مغصوب، فالعتق قد وقع بالقبول، وطلبُ الألف بعد وقوع الحرية، وكذلك إذا قال لامرأته: أنت طالق على ألف، فإذا قبلت وكانت مُطْلَقة (1)، وقع الطلاق، وهذا في الكتابة لا يتحقق؛ فإن القبول فيه لا يفيد العتاقة، بل لا بد من رعاية أحكام وقضايا، وبعد جميعها العتاقةُ.
ولو قال لمكاتَبه كتابة فاسدة: إن أديت ألفاً، فأنات حر، فلو جاء بألف مغصوب، فهل تحصل الحرية؟ فعلى قولين، وقد ذكرنا في نظير ذلك من الطلاق أن الرجل إذا قال لامرأته إن أعطيتني ألفاً، فأنت طالق، فجاءت بألف مغصوب، ففي وقوع الطلاق الخلاف، كما تقدم في الخلع.
__________
(1) مطلقة: أي غير محجورة.

(19/398)


وسبب الخلاف أن الإعطاء من وجه يقتضي تمليكاً، فينبغي أن يكون الألف المعطى (1 بحيث يتصور من المعطي تمليكه، ولا يقتضي تمليكاً من وجه آخر؛ فإن المعطى 1) في الطلاق وفي الكتابة الفاسدة مسترد (2)، ويجب الرجوع إلى غيره (3) عند قرار الغرم. فإذا كان كذلك، فلا أثر لكون الألف المُحضَر مما يتأتى التمليك فيه.
والضابط في الفصل أن الخلع إذا كان وارداً على التزام شيء في الذمة، اكتفي بالقبول الآتي جواباً عن الإيجاب، والطلاقُ يقع بالقبول نفسه، ولا أثر لكون الدراهم مغصوبة أو مستحقة، وإذا كان الخلع مُورداً على الإعطاء، مثل أن يقول: " إن أعطيتني "، فهل يشترط كون الدراهم مملوكة؟ فيه الاختلاف، ونظير ذلك من الكتابة، الكتابةُ الفاسدة؛ فإن عمادها التعليق، ووجهه أن يقول المولى للمكاتب: إن أعطيتَ كذا، فأنت حر، فتقع الكتابة على فسادها مناظِرة للخلع الوارد على الإعطاء، وإن صحت الكتابة، فمن ضرورتها ورودها على الذمة، فهي في الظاهر تناظر الخلع الوارد على الذمة، ولكنها تفارقه؛ من جهة أن الفراق يتعلق في الخلع بالقبول، ثم طلبُ العوض يقع وراء البينونة، والعتق لا يقع في الكتابة بالقبول، بل يقع بحصول الغرض في العوض على مقتضى المعاوضة، لا على اعتبار تحقيق التعليق. وهذا تفصيل هذه المسألة.
12547 - ثم موجب ما ذكرناه [في] (4) الكتابة الصحيحة أن العوض المقبوض إذا خرج فيها مستحَقاً، فلا وجه للحكم بحصول العتق، وإن نحن أجرينا الحكم به ظاهراً، فالباطن مخالف للظاهر، وإذا ظهر الباطن، تبينا أن لا عتق ظاهراً، وزال ما كنا نظنه، وليس هذا كالرضا بالعيب؛ فإنه ممكن، واستقرار العوض به مُتصوّر.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 5).
(2) وذلك لأن فساد العوض في الخلع، وفساد الكتابة، يقرب عليه ردّ المقبوض عوضاً، والرجوع إلى مهر المثل في الخلع، وإلى قيمة العبد في الكتابة.
(3) غيره: أي مهر المثل، وقيمة العبد، كما أشرنا في التعليق السابق.
(4) في الأصل: " من ".

(19/399)


وإنما أطلت الكلام في تفصيل هذه المسائل على ظهورها، لأن كلام الأصحاب يُلفى مختلفاً. وصاحب التقريب ينقل نصوصاً، بعضها في الكتابة الصحيحة، وبعضها في الفاسدة، وهي تعتمد التعليق، كالخلع الوارد على الإعطاء، فليردّ (1) المطلعُ على النصوص المختلفة تلك النصوصَ على التفاصيل التي ذكرناها، فلا وجه غيرها قطعاً.
ثم تمام الكلام أن المولى إذا قبض ما حسبه عوضاً، وقال بحسبه للمكاتب: قد عَتَقت، أو أنت حر، فإذا خرج المقبوض مستحَقاً، فقال المكاتب: أنت مؤاخذ بإقرارك، وقد قلت: إنك حر، فكيف السبيل في هذا؟
قلنا: القول في ذلك مبني على ما أجريناه في الدعاوى على قربٍ من العهد، فإذا اشترى الرجل عبداً وقبضه، فنُوزع فيه، فقال للمدّعي: لا يلزمني تسليم العبد إليك، فأقام المدعي بيّنة على استحقاقه؛ وتبين بطلانُ الشراء بحسبها، فللمشتري الرجوع بالثمن على البائع، وبمثله لو قال المشتري في أثناء النزاع: هذا العبد ملكي، ثم أفضت الخصومة إلى ثبوت استحقاق المدعي بالبينة؛ فلما أراد المشتري الرجوع بالثمن على البائع، قال البائع: قد أقررت بكون العبد ملكاً لك، ومن ضرورة إقرارك هذا -وقد تلقيت الملك مني- أن تكون معترفاً بأنه كان ملكي إلى أن بعتُه، فلا تملك الرجوع عليّ، ففي ذلك مذهبان: أظهرهما -وبه الفتوى- أنه يملك الرجوع، فإن قوله العبد ملكي مبني على ظاهر الحال، فإذا بيّنت البينةُ استحقاقَ المدعي، وزال الظاهر [المظنون] (2)، فيزول بزواله قولُ المشتري.
ومن أصحابنا من قال: لا يملك الرجوع على البائع.
12548 - عاد بنا الكلام إلى ما نحن فيه، فإذا قال المولى: قد عَتَقْتَ أو أنت حرّ، فهذا مأخوذ مما ذكرناه، فمن أجرى قوله على الظاهر، أبطل أثره عند زوال الظاهر [المظنون] (2)، ولم نر مؤاخذته بموجب قوله، وهذا هو الذي نص عليه الشافعي.
__________
(1) ت 5: " فلينزل ".
(2) في النسختين: " المضمون ".

(19/400)


ومن قال في مسألة الشراء والنزاع فيه: إن المشتري لا يملك الرجوع على البائع عند ثبوت الاستحقاق، فلا شك أنه لا يدرأ الحرية، وإن ثبت الاستحقاق في المقبوض، ويرى مؤاخذة المولى بقوله؛ من جهة أنه كان مستغنياً عن التلفظ بما ذكر، مع تجويزه خروج ما قبضه مستحقاً.
12549 - وقد أورد الصيدلاني -على أنه لا يؤاخذ بموجب لفظه إذا جرى الاستحقاق في مقبوضه (1) - فرعاً في الطلاق، ننقله على وجهه ونبين اختلاله:
وذلك أنه قال: إذا قالت المرأة لزوجها: أطلقتني؟ فقال الزوج: نعم، فهذا إقرار منه بالطلاق ظاهراً، فلو قال بعد ذلك: كنتُ أطلقتُ لفظاً حسبته مقتضياً لوقوع الطلاق، فأجريت إقراري بحسبه، ثم راجعت العلماء فأفتَوْني بأنه لم يكن طلاقاً، قال: هذا مقبول من الزوج، وقد وجدته كذلك في بعض المصنفات.
وفيما نقله الصيدلاني مزيد تأكيد؛ فإنه قال: إذا قال القائل للزوج: طلقتَ امرأتك؟ فقال: نعم طلقتها، ثم ادعى ما وصفناه، فالقول قوله.
وعندي أن هذا وهم وغلط؛ فإن الإقرار جرى مقصودًا بصريح الطلاق، فقبول خلافه حملاً على ظن يدعيه، ويتعارض فيه صدقه وكذبه، محال. ولو فتحنا هذا الباب، لما استقر إقرار بمقَرّ به، وليس هذا كما ذكرناه من إطلاق السيد لفظ الحرية على أثر قبض النجوم؛ فإنه محمولٌ ظاهراً على الإخبار عما يقتضيه القبض، فإذا انتقض القبض، تبعه القول المحمول عليه، على المسلك الظاهر، وليس هذا كما لو سئل الزوج عن الطلاق مطلقاً، من غير إشارة إلى واقعةٍ، ولفظةٍ فأقر المسؤول بالطلاق على الإطلاق، ثم رام فيه تأويلاً وحملاً على ظن ادعاه في لفظ خاص ذكره، ولم يقع السؤال عنه، فلا وجه إذاً إلا القطع بالمؤاخذة في مسألة الطلاق.
ولو قال في الكتابة: حرّرتُكَ، أو أعتقتك، وهو يبغي بذلك تحقيق الغرض، لو فرض استحقاق في المقبوض، كالذي يضم سبباً إلى سبب، طالباً تأكيداً، فهذا لا مردّ له، والمولى مؤاخذ به، وإن خرج العوض مستحَقة.
__________
(1) من هنا بدأ السقط مجدداً في (ت 5) وهو نحو خمس ورقات.

(19/401)


فصل
قال: " ولو عجز أو مات وعليه ديون بُدىء بها على السيد ... إلى آخره " (1).
12550 - هذا الفصل نجمع فيه تفصيل المذهب في الديون المجتمعة على المكاتب: عن معاملة، أو جناية، أو نجم كتابة، ونوضح ما نقدّم منها وما نؤخر وننظم اختلاف طرق الأصحاب بعون الله تعالى.
ومقصود الفصل كثيرُ التداور في مسائل الكتاب شديدُ المخامرة لها، فإذا أوضحناه، زالت عنا مؤنةٌ عظيمةٌ، فنذكر أولاً ديونَ السيد إذا انفردت، ثم ننعطف على اجتماع ديون الغير مع دين السيد.
فأما السيد إذا اجتمع له على مكاتبه نجومُ الكتابة، وأرشُ جنايةٍ كانت صدرت منه على السيد، أو على ماله؛ فإن كان الذي في يد المكاتب وافياً بالديون كلها، فلا إشكال، والمكاتب يوفّر حقوق السيد عليه، فلو أدى نجوم الكتابة أولاً، ورضي السيد بتقديمها فيعتِق بأداء النجوم لا محالة، وهل يبقى عليه أرشُ الجناية؟ هذا يُبنى على أن القِنَّ إذا جنى، وتعلّق الأرش برقبته، ثم عتق، فهل يطالب بالأرش، أو بالفاضل منه عن الفداء؟ فيه اختلاف قدمنا ذكره وبنيناه على أن العبد هل له ذمة في الجناية أم لا؟ هذا قولنا في الرقيق.
فأما المكاتَب إذا عتق، ففي بقاء الأرش عليه مسلكان: أحدهما - التخريج على القولين المذكورين في القِنّ. والثاني -وهو الأصح- أن الأرش لا يسقط مذهباً واحداً، فإنه عند ثبوته، اقتضى توجيه الطَّلِبة به على المكاتَب على حسب توجيه الطَّلِبة في ديون المعاملة، فإذا عَتَق، دامت المطالبة، وليس ذلك كما ذكرناه في القن؛ فإنه لم يطالب في استمرار الرق عليه.
هذا إذا رضي السيد بتقديم نجوم الكتابة.
ولو كان الذي في يد المكاتب بحيث لا يفي بالنجم والأرش جميعاً، فقد ذكر
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 276.

(19/402)


الصيدلاني في ذلك طريقاً - نحن نطرده على وجهه، وذلك أنه قال: إذا كان الذي في يده وافياً بالنجوم، ولم يكن وافياً بها وبالأروش جميعاً، فلو أراد المولى -وقد تحقق ذلك-[أن يعجِّز] (1) المكاتب؛ بناء منه على علمه بقصور ما في يده عن النجوم والأرش، فليس له تعجيزه، ولكن له أن يقول: أطالبك بدين الجناية أولاً، ولا أقبل منك شيئاً من مال الكتابة، حتى توفر عليّ الأرش كَمَلاً، فإذا استوفى منه أرش الجناية، فلم يبق في يده شيء، أو قَصَرَ ما في يده عن النجم المستحَق الحال، فيعجّزُ السيد حينئذ.
فإن قيل: هلا قلتم أن الخِيَرة إلى المكاتَب في تسليم ما في يده، فله أن يقول: أبدأ بتأدية النجوم، وعلى السيد موافقته فيما يبغيه من [إيفاء] (2) النجوم؛ بناء على ما سبق تمهيده من أن المكاتب إذا جاء بالنجم قبل محِلّه، فيتعين على السيد قبوله؟ قلنا: إنما يجبر السيد على القبول، إذا لم يكن عليه ضرر في قبول النجم قبل المحِلّ، ولو كلفنا السيد فيما نحن فيه قبول النجوم قبل أرش الجناية، لعتق المكاتب، ثم لا يجد السيد مرجعاً على مفلس في أرش الجناية، ففي هذا إسقاط حقه. هذا كلامه.
12551 - ثم فرعّ على هذا، وقال: لو أدى المكاتب ما في يده إلى سيده مطلقاً، ولم يتعرض واحد منهما للجهة، فإذا قال المكاتب: نويت به أداء النجوم، وأنكر السيد ذلك، فقد قال الصيدلاني حكايةً عن القفال: إن القول في ذلك قول المكاتب مع يمينه، أنه قصد ذلك، كما لو كان على الحرّ نوعان من الدين، فأدى أحدَهما مطلقاً، ثم زعم أنه أراد به الدينَ الذي به الرهن، ورام فكاكه، فقوله مقبول. هكذا حكاه من قول القفال.
ثم قال الصيدلاني: القياس عندي في مسألة المكاتب، إذا أطلق الأداء أن القول قول السيد أني قبضته عن الأرش، بخلاف سائر الديون؛ فإن الاختيار في هذه الصورة
__________
(1) في الأصل: " أن تعجيز ". والتصويب من المحقق.
(2) في الأصل: " إبقاء ".

(19/403)


إلى السيد في قبض ما شاء، فينبغي أن يكون القول قوله، وهذا حسن بناء على ما تقدم.
وحقيقة القول فيه أن العبد لو نوى بأدائه النجومَ، والسيد نوى القبضَ عن جهة الأرش، وأقر كل واحد منهم بصورة الحال من غير نزاع، فالذي ذكره القفال يقتضي أن يقع عما يراه المكاتب، وهو النجم؛ فإنا وإن جوّزنا للسيد المطالبةَ بالأرش ابتداء، والامتناعَ عن قبول غيره، فإذا كان الأداء مطلقاً، فالعبرة بقصد المؤدِّي، وما ذكره الصيدلاني يقتضي أن يكون المؤدى يقع على حسب قصد السيد القابض، والعبرة بقصده في القبض، لا بقصد المؤدِّي.
فعلى موجب ذلك قال القفال: القول قول المكاتب في الإطلاق. وقال الصيدلاني: القول قول السيد، فإذا صدّق كل واحد صاحبه فيما نواه، وحصل التقارّ عليه، فمذهب القفال الرجوعُ إلى نية المكاتب المؤدِّي، وما اختاره الصيدلاني الرجوع إلى نية السيد القابض، وكل ما ذكرته محكي الصيدلاني وطريقه.
وذهب غيره من الأئمة في أصل الكلام إلى أنه مهما (1) علم السيد أن الذي في يد المكاتب قاصر عن الأرش والنجم على الاجتماع، وتحقق ذلك، فله تعجيزه وردُّه إلى الرق، ولا يتوقف جواز التعجيز على أن يأخذ ما في يده عن الأرش.
وهذا متوجه عندي جداً؛ فإنه لو طالبه بالدينين معاً، لكان له ذلك، ثم هو يعجِز لا محالة في قسطٍ من النجوم، وإذا كانت الطَّلِبة يمكن توجيهها بالدينين، ثم من ضرورة ذلك العجز، فينبغي أن يملك التعجيز؛ بناء على طلبهما جمعاً، وعدمِ وفاء ذات اليد بهما، فأما تكليف السيد أن يطالب بالأرش أولاً، ثم يطلب النجوم بعده، فلا وجه له، مع تصوير المطالبة بهما، فهذا مقدار غرضنا الآن في ديون المولى.
12552 - فأما إذا ثبتت عليه ديونُ الأجانب، وعلى المكاتب بقيةُ النجوم، فنقول: إذا اجتمع عليه النجم، ودين المعاملة للأجنبي، ودين جناية للأجنبي أيضاً، وليس للسيد إلا النجم، فحسب، فإن كان الذي في يد المكاتب يفي بجميع ما عليه،
__________
(1) مهما: بمعنى إذا.

(19/404)


فلا إشكال، وإن كان لا يفي بجميعها، بل ضاق عنها، نُظِر: فإن لم يحجر القاضي عليه، وكان المكاتب مطلقاً، فأراد أن يقدم ديناً من الديون، فله ذلك، كما يكون ذلك للحر المعسر، الذي أحاطت به الديون، ولا حجر بعدُ، وليس هذا من التبرعات، حتى يمتنعَ على المكاتب؛ فإن تقديم دين على دين ليس بتبرعٍ إجماعاً.
ولو اجتمع غرماء المكاتب، واستدعَوْا من القاضي أن يحجر عليه -ولسنا نعني بالحجر ردّه إلى الرق، وإنما نعني تَفْليسه ليصرف ما في يده إلى غرمائه، على موجب الشرع، ويقصُر يده عن التقديم والتأخير- فإذا اتفق ذلك، وحجر القاضي عليه، فقد قال الشافعي: " إن لم يعجّز المكاتب -على ما سنذكر التفصيل في تعجيزه على أثر هذا إن شاء الله- وقد اجتمع عليه الأرشُ، والنجم، ودين المعاملة، فيقسم ما في يده بالسوية، لا يقدَّم دين على دين، والتقسيط على أقدار الديون ". هذا هو النص.
والذي صار إليه معظم الأصحاب أن دين المعاملة للأجنبي مقدم على النجم، وعلى أرش الجناية -إن ثبت الأرش للأجنبي- فإنه يتعلق دين المعاملة بما في يده، ولا متعلق له سواه أصلاً، ولأرش الجناية متعلق آخر، وهو الرقبة، وكذلك حق السيد عند العجز يتعلق بالرقبة، فإن المكاتب يرتد رقيقاًً، فصاحب دين المعاملة مقدم.
ثم أرش الجناية على الأجنبي مقدم على النجم أيضاً؛ فإن أرش الجناية ألزمُ، والنجم بعرض السقوط مهما (1) شاء المكاتب، وأيضاً فإن أرش الجناية على الأجنبي أقوى من حق مالك الرقبة؛ فإن العبد إذا جنى بِيع في الجناية، إن لم يَفْده السيد.
فهذا ما ذكره الأصحاب.
وقد حكى صاحب التقريب هذا. ثم قال صاحب التقريب: الأصح عندي الجريان على ظاهر النص، وهو أن ما في يده يقسم على النجم، والأرش، ودين المعاملة، على أقدارها ومبالغها؛ فإن جميع الديون متعلقة بما في يده، بدليل أن كل واحد لو
__________
(1) مهما: بمعنى إذا.

(19/405)


انفرد، لتعلق به، والجناية إنما تتعلق بالرقبة إذا لم يكن في يده كسب؛ فينبغي أن يتضاربوا.
هذا اختيار صاحب التقريب. وهو ظاهر النص، وفيما حكاه العراقيون، إشعار بمصير بعض الأصحاب إلى موافقة النص، كما حكيناه، وسنذكر في التعجيز كلاماً على الاتصال.
12553 - وإذا عجّز المكاتب نفسه، فلا شك في سقوط النجم بالتعجيز، فإذا بقي في يده من كسبه شيء، وعليه دين معاملة، وأرش جناية على أجنبي، فالذي صار إليه الأئمة، أن دين المعاملة أولى بذلك الشيء الذي في يده، إذا كان لا يفي إلا بأحدهما؛ فإنه لا تعلق لدين المعاملة سواه؛ وأرش الجناية يتعلق بالرقبة؛ فلا يسقط بتقديم دين المعاملة.
وذكر صاحب التقريب في هذه الحالة أن المكاتب إذا عجّز نفسه، فالذي في يده مقسوم على أهل الجنايات، ودينُ المعاملة يتأخر عن أرش الجناية، واحتج بأن قال: دينُ المعاملة ثبت بالمراضاة، فكان مؤخراً عَن الدين الثابت قهراً، من غير رضا المجني عليه؛ فإنا نقول لأصحاب ديون المعاملات، قد رضيتم بذمته، وعلمتم حاله وماله، فكنتم مؤاخذين بحكم ضعف الدين، وأرشُ الجناية لم يثبت بالرضا، وله تعلق بما في اليد مقدم.
وهذا قاله صاحب التقريب صريحاً (1)، وهو غريب، لم أرَه لغيره، ومقتضى هذا أنهم لو ازدحموا ولم يعجّزوه، وقلنا بتقديم بعض الديون على بعض، أن دين الجناية يقدم على دين المعاملة، لما ذكره من قوة دين الجناية. والذي ذكره الأصحاب تقديم دين المعاملة، وما ذكره صاحب التقريب فرضه في الكسب الباقي بعد التعجيز، فأما قبل التعجيز، فلم يحكِ إلا مسلكين: أحدهما - أنهم يتضاربون بالسوية، وهو ظاهر النص، والثاني - أن دين المعاملة مقدم، وقياسه يقتضي تقديم دين الجناية [بعد] (2) التعجيز، وإن لم يقله.
__________
(1) كذا، ولعلها: تخريجاً.
(2) في الأصل: " قبل "، والمثبت من المحقق رعاية للسياق.

(19/406)


فأنتظم بعد التعجيز نقلاً وحكاية أن النجوم تسقط لا محالة، وكذلك ديون معاملة السيد، وفيما بقي عليه من ديون معاملةٍ لأجنبي، وأرش جناية على أجنبي أوجه: أحدها -وهو ما مال إليه معظم الأصحاب- أن دين المعاملة مقدم، والثاني - وهو الذي ذكره صاحب التقريب -أن أرش الجناية مقدم- وحكى شيخي وجهاً ثالثاً- أنهما سواء.
وكل ذلك في التعلق بما صادفناه من كسبه بعد التعجيز، والوجه الثالث الذي حكاه شيخي رأيته في طرق العراق، وكان شيخي يقول: لا يصح عندي غيره.
12554 - ولو مات المكاتَب، فقد رق بالموت، فإن كان خلف كسباً، وعليه دينُ معاملة لأجنبي، وأرشُ جناية -والتفريع على مذهب الجمهور في أن دين المعاملة مقدم في الحياة بعد التعجيز- فعلى هذا؛ إذا مات، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن دين المعاملة أولى استصحاباً لهذا التقديم في حالة الحياة، والوجه الثاني - أنهما سواء. وذلك لأن لكل واحد منهما تعلقاً بالكسب، وكنا نؤخر أرش الجناية في التعلق بالكسب لتعلقه بالرقبة، وقد فاتت الرقبة بالموت، فاستويا، وإن جمعنا اختيار صاحب التقريب إلى ما ذكرنا جرى وجهٌ ثالث في أن أرش الجناية مقدم.
وإنما غرضنا بالتصوير فيما بعد الموت التنبيهُ على الفرق الذي ذكرناه، وتخريج وجهين بعد الموت. وإن قطعنا على مذهب الجمهور بأحدهما في حالة الحياة.
12555 - ومن تمام البيان في هذا الفصل شيئان: أحدهما - بيان من له حق التعجيز، فنقول: السيد له حق التعجيز لأجل النجوم، ولو جنى على سيده، فضاق ما في يده عن الأرش والنجوم، فهل للسيد حق التعجيز؟ قد ذكرت هذا ونقلت طريقة الصيدلاني، ومسلكَ غيره، ودينُ معاملة السيد في هذا المعنى كأرش الجناية عليه، هذا في السيد.
فأما الأجانب، فنقول: إذا جنى على أجنبي، وضاق ما في يده عن أرش الجناية، فقد قال الأصحاب: للأجنبي حقُّ تعجيزه، لتباع رقبته في جنايته، وأطلق الأصحاب ذلك، وظاهر قولهم أنه يعجِّزه بنفسه من غير قاضٍ، ولا يبعد عندنا أن

(19/407)


يقال: يرفعه إلى القاضي [ليفسخ] (1)؛ فإنه ليس هو العاقد، فانفراده بالفسخ بعيد.
ثم لو همّ بتعجيزه، فأراد السيد أن يفديه، فهذا فيه احتمال ظاهر، متلقى من قول الأصحاب؛ من جهة أن السيد إنما يفدي إذا تعلق الأرش بالرقبة، وهذا لا يتحقق ما دامت الكتابة، وليس السيد في المكاتبة بمثابة مولى المستولدة، حتى يُجعل بالكتابة مانعاً، كما جُعل مولى المستولدة بالاستيلاد مانعاً. هذا وجه.
ويجوز أن يقال: له أن يفديه؛ فإنه رقيقه، وقد يكون له غرض في تتميم العتاقة فيه.
والظاهر أن الفداء لا يجب قبوله ما دامت الكتابة.
ولو ثبت دين المعاملة لأجنبي، فقد قال الصيدلاني وغيره: ليس له التعجيز بسبب دين المعاملة؛ فإنه لا يستفيد بالتعجيز شيئاً؛ إذ لا يتعلق حقه إلا بالكسب قبل التعجيز وبعده، والمجني عليه يستفيد بالتعجيز تعلقَ حقه بالرقبة، فهذا أحد الشيئين.
والثاني - أنه إذا اجتمع على المكاتب ديون الأجانب من الجهات التي قدمناها، فكلها مقدمة على النجوم في الرأي الظاهر، فلو كان للسيد على مكاتبه ديونُ معاملة؛ فقد قال بعض الأصحاب: يضارب بها ديون المعاملات للأجانب، وإن لم يضارب بالنجم؛ فإن دين المعاملة للسيد إذا سقط، لم يستبدل عنه، والنجمُ إذا سقط، عاد السيد إلى الرقبة.
وقال بعض أصحابنا: لا يضارب السيد بدين المعاملة إذا قلنا: لا يضارب بالنجم؛ فإن ديون السيد عرضة للسقوط بالتعجيز، بخلاف ديون الأجانب.
فهذا تمام المراد، ونهاية الكشف في ديون المكاتب في حالاته: في الحياة، والممات، وما قبل التعجيز، وبعده.
12556 - ثم حكى صاحب التقريب في أثناء الكلام شيئاً غريباً، لم أوثر حكايته في ترتيب المذهب، ولم أر تركَ ما حكاه إمام عظيم، قال رضي الله عنه: إذا ثبت لأجنبي
__________
(1) في الأصل: " لينفسخ ". والمعنى يفسخ القاضي عقدَ الكتابة، فالأجنبيُّ ليس هو العاقد حتى ينفرد بالفسخ.

(19/408)


دين معاملة على مكاتب، ثم ارتفعت الكتابة بالتعجيز، وليس ثمَّ كسبٌ، فالمذهب المقطوع به أن دين المعاملة لا يتعلق برقبة المكاتب كدين الجناية، قال صاحب التقريب: من أصحابنا من صار إلى ذلك. ثم قال: ولست أعرف له وجهاً، وما حكاه مجانب لمذهب الشافعي وقياسِه، ولا نعرف خلافاً بين الأصحاب في أن ديون معاملات العبد المأذون لا تتعلق برقبته إذا زادت الديون على ما في يده، فإن سلم صاحب الوجه الغريب ذلك، لم نجد فرقاً، وإن طرد مذهبه في هذه الصورة، كان تاركاً لأصل المذهب.
وأبو حنيفة (1) يحكم بتعلق ديون المعاملة برقبة المأذون. والله أعلم (2).
...
__________
(1) سبقت هذه المسألة في كتاب المأذون.
(2) إلى هنا انتهى الخرم الذي أشرنا إليه في نسخة (ت 5).

(19/409)


باب كتابة بعض عبد، والشريكين في العبد يكاتبانه
قال: " ولا يجوز أن يكاتب بعض عبد إلا أن يكون باقيه حراً ... إلى آخر الباب " (1).
12557 - الكلام في مضمون الباب يتعلق بفصول: أولها -
[الفصل الأول]
القول في ذكر مواضع الوفاق والخلاف في مكاتبة بعضٍ من شخص، فنقول:
من نصفه حر، ونصفه عبد، إذا كاتبه مالك رقه في نصفه الرقيق، صحت الكتابة، بلا خلاف، فإن غرض الكتابة استقلالُ المكاتب، وهذا المعنى يحصل فيمن ذكرناه؛ فإنه يستفيد الاستقلال في نصفه الرقيق، وله حقيقة الاستقلال في نصفه الحر.
وإذا كان بين رجلين عبد مشترك، فكاتباه جميعاً على نجوم، ولم يختلفا في مقدار النجوم، والآجال، بل أثبتاها على استواء في النصيبين، فهذا صحيح وفاقاً، ولم نعن بالاستواء أن يكونا مستويين في الحصتين، بل إذا كان أحدهما مالكَ ثلثه والثاني مالكَ ثلثيه لم يؤثر ذلك. ولكن ينبغي أن يكون لصاحب الثلث ثلث النجوم المذكورة والآجال لا تختلف، فهذا ما أردنا بالاستواء.
ولو أراد أحد الشريكين أن يكاتب نصيبه، ولم يكاتب الثاني، فإن جرى ذلك بإذن الشريك، ففي صحة المكاتبة قولان منصوصان: أحد القولين - أنها صحيحة، اعتباراً بالعتق، والتعليق، والتدبير؛ فإن هذه التصرفات مقصودُها العَتاقة، ثم جرت في
__________
(1) ر. المَختصر: 5/ 276. والعبارة في الأصل: " ولا يجوز أن يكاتب عبداً إلا أن يكون باقيه حراً " والتصويب من نص المختصر.

(19/410)


بعضها جريانَها في الكل، فلتكن الكتابة كذلك، وأيضاً؛ فإنه يستقل في نصفه استقلالَ من عَتَق نصفُه، فإذا كان لا يمتنع عتقُ البعض، وجب ألا يمتنعَ عقدُ العَتاقة في البعض.
والقول الثاني - أن الكتابة فاسدة. فإنه لا يملك المسافرة، وهي إحدى جهات الاستقلال، وتتعلق بها جهة ظاهرة في المكاسب، وأيضاً فإن صرف الصدقة إليه لا يجوز، فإن ما يأخذه إذا لم تكن مهايأة ينبسط على نصفيه، وذلك مستحيل في النصف الرقيق.
فقد ذكرنا صورتين في صحة الكتابة قولاً واحداً، ونصصنا على الصورة التي أجرى الشافعي قولين فيها.
12558 - ونحن نذكر بعد ذلك صوراً تردد فيها طرق الأصحاب: منها - أن من ملك عبداً خالصاً، فكاتب بعضه؛ فالذي ذهب إليه الأكثرون وهو ظاهر النص أن الكتابة فاسدة، لما أشرنا إليه من نقصان الاستقلال، والسيد مقتدر هاهنا على الإكمال؛ فإن العبد خالص.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً مخرجاً في تصحيح الكتابة قياساً على التدبير والتعليق، ثم هذا يعتضد بحصول الاستقلال في ذلك المقدار، ونحن لا نشترط فيه دَرْكَ الكمال.
ومن الصور - أن أحد الشريكين إذا كاتب نصيبه من غير إذن صاحبه، فالذي ذهب إليه الأكثرون فسادُ الكتابة في هذه الصورة، وتخصيصُ القولين بما إذا فرض من أحد الشريكين عقد الكتابة بإذن صاحبه، وذهب طائفة من المحققين إلى تخريج القولين في هذه الصورة؛ وهذا منقدح؛ من جهة أن إذن الشريك لا يغيّر قضيةَ الكتابة في النصف، ولا يتضمن تكميل الاستقلال؛ حتى يقال: إذن الشريك تسليط له على المسافرة، أو يتضمن تجويزَ صرف الصدقة إليه؛ فإذا كان إذنه لا يؤثر في مقتضى الكتابة، فلا يبقى إلا تخيل تضرر الشريك إذا فرض نفوذ العتق، وهذا لا حاصل له مع نفوذ عتق الشريك.

(19/411)


وإن قيل: العتق المجرد له سلطان، والكتابة تتعرض للفساد والصحة، ثم للاستمرار والنقض، فلا يكاد يتضح بهذا فرق؛ فالتخريج في الكتابة بغير إذن الشريك أوضح من التخريج في كتابة بعض العبد الخالص للمكاتب.
ومن الصور التي نذكرها - أن الشريكين إذا كاتبا معاً على الصحة والاستواء، فلو عجز المكاتب، فارقّه أحد الشريكين، وأراد الثاني أن يُنظره إلى ميسرةٍ ومقدرة، فقد اختلف أصحابنا على ثلاث طرق: فقال بعضهم: تنفسخ الكتابة في نصيب المُنْظِر قولاً واحداً.
وقد أورد المزني هذه المسألة واستشهد بها في نصرة منع الكتابة في صورة القولين، ووجه هذه الطريقة أن الإرقاق يرد الشريك الذي رام التعجيز إلى حقيقة الملك، ونقض ما جرى الإذن به، أو التوافق عليه، فكان صاحبه في الإنظار كمن يكاتب نصيبه من غير إذن الشريك.
وقد قطع الشافعي جوابه بهذا ونص على القولين فيه إذا كاتب أحد الشريكين نصيبه بإذن شريكه.
ومن أصحابنا من قال: نصيب من يريد الإنظار يبقى على القولين، فإن التوافق على الكتابة رضاً من كل واحد بما يصنعه صاحبه، وإذا وقع الرضا به، فهو رضاً بتمام أحكامه، ومن أحكامه جواز الإنظار عند العجز.
ومن أصحابنا من ذكر طريقة ثالثة - وهي أن الكتابة تبقى في حق المنظر قولاً واحداً، وهذا التبعض محتمل في الانتهاء، وإن كنا لا نحتمله في الابتداء؛ لأن دوام العقود أقوى من ابتدائها، وهذا وإن أمكن توجيهه؛ من جهة أن الشرائط لا تُرعى في الدوام، وإنما تعتبر في ابتداء العقود، والطريقة غريبة مخالفة للنص.
ومما نذكره متصلاً بهذا: أن من مات، وخلف مكاتباً ووارثَيْن، فعجَز المكاتبُ، فارق أحدُهما نصيبه، وأراد الثاني إنظاره، فما ذكرناه من الطرق يجري في حق الوارث المُنظِر، ولعل الانفساخ أظهر في الوارثَيْن؛ لأن الكتابة جرت على جميع العبد ابتداء، فيبعد بقاؤها على البعض انتهاء.
ووجه تخريج الطرق أن الكتابة بعد الموت بين الوارثَيْن بمثابة كتابةٍ تصدر من

(19/412)


شريكين، ولذلك يعتق نصيب أحد الابنين بإبرائه عن حصت من العموم، وهذا حكم حدث بعد موت المولى لتعدد الورثة، ولو أعتق أحد الوارثَيْن نصيبَه، وقلنا: لا يسري عتقه، فلو رق نصيبُ الثاني، ولم يُنظره، فهذا لا يعطف الفسخَ على ما عتق على حكم الكتابة؛ فإن العتق لا يُستدرك، وإذا نفذ على جهةٍ لم نغيّر الجهة.
ومما يتعلق بالكلام في هذا الفصل: أن العبد إذا كان مشتركاً بين الشريكين مناصفةً، فلو كاتبه أحدهما في نصيبه على ألف، وكاتبه الثاني على ألفين، أو غايرا بين نجوم الكتابة، أو لم تنشأ الكتابة معاً، فكل ذلك يخرّج على القولين، وإنما يتفق على صحة الكتابة، إذا حصل الاستواء في النجم مقداراً، وتأجيلاً، وحصل الإنشاء معاً، ولو أنشآ على الاختلاف معاً، فقبل المكاتب، فهذا بمثابة ما لو انفرد أحدهما بمكاتبة نصيبه بإذن شريكه؛ فإن الشريك وطّن النفس على الكتابة، فلم يبق له حق مُتخَيَّل يُرعى فيه إذنه.
هذا نجاز الكلام في الفصل الأول، وقد وضح فيه ما يصح ويفسد، وما يختلف فيه في إيراد الكتابة على البعض من العبد.
الفصل الثاني
12559 - فيه إذا كاتب الشريكان العبد على الصحة حيث يمطع بها، والمقصود بيان كيفية الأداء إلى الشريكين، فنقول:
ينبغي أن لا يسلّم إلى واحد حصته من نجمٍ، حتى يسلّم حصة الثاني إليه، فإذا وفّر الحصتين من النجوم على الجمع والاقتران، حصل العتق، ولو أراد أن يقدم أحدهما بحصته لم يكن له ذلك من غير إذن من يؤخِّرُه، وليس هذا كالديون المجتمعة على معسرٍ لم يُحْجَر عليه؛ فإنه قبل الحجر يقدم من يشاء، والمريض في مرض موته يقدم [من غرمائه] (1) من يشاء.
أما الشريكان في المكاتب، فحقهما يتعلق بكسبه، ولكل واحد منهما حقُّ الملك
__________
(1) في الأصل: " من غير ما به "، والمثبت من (ت 5).

(19/413)


في الكسب، والمكاتب بينهما كعبد مشترك بين شريكين، ولو سلم المكاتب إلى أحدهما تمام حصته من غير إذن صاحبه، لم يعتق منه شيء؛ لأن أداءه لا يصح، ونزيد، فنقول: لو سلّم إلى أحدهما تمام النجوم، فالمذهب أنه لا يعتق منه شيء، ولو سلّم الكل إلى أحدهما وقال له: وكلتك بتسليم حصة شريكك مما قبضت، فلا يَعْتِق منه شيء، والسبب فيه أن الشريك لم يملك ما لم يسلم إليه، ويستحيل أن يملك القابض شيئاً ما لم يملك شريكُه مثلَه.
هذا هو المذهب المعتمد.
وحكى العراقيون وجهاً بعيداً أنه إذا سلّم إليه التمامَ عَتَق منه نصيب القابض، ووجّهوا هذا بأن قالوا: لا يجب عليه أن يرفع يده إلا عن نصف ما قبض، فليقع الحكم باستقرار ملكه في حصته.
وهذا ليس بشيء؛ فإن الأصحاب مجمعون على أنه لا يحصل للقابض ملك في شيء مما قبض، حتى يحصل لصاحبه الملك، ولا ينفع مع هذا تلبيسٌ [برفع] (1) اليد -إذا كان الملك يحصل عند رفع اليد- فليقع النظر إلى حالة حصول الملك.
ولو وكل أحد الشريكين صاحبه بأن يقبض حصته من النجوم، ثم جاء المكاتب بالنجوم وسلمها إلى الشريك الوكيل، فيحصل العتق، ويجري ملك الشريكين في المقبوض.
ولو أذن أحد الشريكين للمكاتب في تقديم شريكه، فجرى على إذنه، ووفّر على الشريك حصته، ففي صحة الأداء قولان. واختلف أصحابنا في أصلهما: فمنهم من قال: هما مبنيان على القولين في مكاتبة أحد الشريكين بإذن صاحبه، فالإذن في التبعيض آخراً كالإذن في التبعيض أولاً. ومن أصحابنا من قال: أصل القولين تبرع المكاتب إذا جرى بإذن السيد، وهذا البناء أوضح وأفقه. فإذا لم يصح التبرع بالإذن، فلا يحصل الملك، وإذا لم يحصل الملك، لم يترتب العتق.
وكل ما ذكرناه في الكتابة الصحيحة.
__________
(1) في الأصل: " لرفع ". والمثبت من (ت 5).

(19/414)


12560 - فأما إذا فسدت الكتابة بوجه من الوجوه التي ذكرناها، فالعتق يحصل على الجملة، ويثبت التراجع بين المقبوض والقيمة، على ما تمهد ذكره في أحكام الكتابة الفاسدة.
وإن كاتب الشريكان على الفساد وجاء المكاتب إلى أحدهما ووفر عليه نصيبه، فالذي جاء به لا يتأتى التمليك في كله، فهو كما لو جاء المكاتب بمغصوب وقبضه السيد، وفي حصول العتق قولان، قدمنا ذكرهما، وسبب جريان القولين اعتمادُ الكتابة الفاسدة الصفةَ (1)، وقد ذكرنا أصل هذا وتفصيله مستقصى فيما سبق.
وإذا كاتب أحد الشريكين نصيبه حيث يُقطع في بعض الطرق بالفساد لو كاتب مالك العبد بعضه وحكمنا بالفساد، فإذا وجدت الصفة، حصل العتق. واستتباع الكسب بحسبه، وجرى فيه التراجع. وهذا لا يضر ذكره على وضوحه.
الفصل الثالث
12561 - مقصوده السراية، فنقول: إذا كاتب الشريكان العبد وصحت الكتابة، فلو أبرأ أحدهما عن حصته، أو أعتق حصته، سرى العتق إلى نصيب صاحبه على مذهب الأصحاب.
وقال صاحب التقريب: ذهب بعض أصحابنا إلى أن العتق لا يسري؛ فإن الباقي منه مكاتب، والمكاتب لا يقبل نقلَ الملك، وإن أجزنا السراية يبطل نظمُ المذهب في السراية.
وقد قدمنا هذا وزيّفناه، وبنينا المذهب على القطع بتسرية عتق أحد الشريكين، وإجراءِ القولين في تسرية عتق أحد الوارثَيْن؛ من حيث إن ذلك تصرف من الوارث في مُكَاتَب الميت، وقد شببنا فيه بأن الملك لا ينتقل إلى الورثة في رقبة المكاتب على قول، فالبناء إذاً على سريان عتق الشريك، إذا حصل عتق حصته بالإبراء أو الإعتاق.
فإن قيل: لو قبض أحدُهما حصتَه، وعتق نصيبُه، فهل يسري العتق الحاصل بجهة
__________
(1) الصفة: المراد الصفة المعلق عليها، وهي في الكتابة الفاسدة الأداءُ.

(19/415)


الأداء، قلنا: هذا مُرتَّبٌ على صحة الأداء، وقد ذكرنا تفصيلاً طويلاً في قبض أحد الشريكين، وأوضحنا أن ذلك لو لم يكن بإذن الشريك، لم يصح أصلاً، فإن فرضنا تقديمه بإذن الشريك، ونفذنا ذلك، فيعتق حينئذ نصيبه، وإذا عتق سرى.
ْفإن قيل: هلا قلتم: لا يسري العتق؛ فإنه مجبر على قبول ما يسلّمه المكاتب إليه، وإذا حصل العتق بسبب لا اختيار فيه، فالوجه ألا يسري، كما إذا ورث الرجل النصف من أبيه، وعتق عليه؛ فإن العتق لا يسري إلى الباقي. قلنا: الأداء وإن كان يقترن به الإجبار على القبض، فالسيد بالمكاتبة جر هذا إلى نفسه، فكان كالمختار فيه وهو كما لو قال أحد الشريكين للعبد المشترك: إذا طلعت الشمس، فنصيبي منك حُر، فإذا طلعت عَتَق نصيبه، وسرى كذلك. نعم، لو مات المولى وخلّف وارثَيْن، وصححنا على حسب ما ذكرنا تخصيص أحدهما بحصته، فإذا قبض حصته بإذن صاحبه وعتق، لم يسرِ قولاً واحداً؛ فإنه مجبر على القبض، والكتابة لم تصدر منه، فلا جَرَمَ لم يسر عليه.
ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن أحدهما إذا قبض حيث يصح القبض، وعتق نصيبه، فإن سرّينا، فلا كلام، وإن لم نُسرِّ، لم تنفسخ الكتابة في الباقي، ولا يخرج هذا على القياس الذي ذكرناه فيه إذا أرَقَّه أحدُهما وأَنْظر الثاني؛ فإن صاحب الإرقاق متمسك بملكه، وضرر التبعيض ينجرُّ عليه، وهذا لا يتحقق فيه إذا عتق نصيب أحدهما، فإنه لا يبقى لمن عَتق نصيبه تعلُّق. وأيضاً؛ فإنا نصحح [عتق] (1) من نصفه حر ابتداءً، فجرى التبعيض على هذا الوجه اتتهاء، وهذا واضح لا خفاء به.
الفصل الرابع
في الإقرار والإنكار
12562 - فلو ادعى العبد المشترك على الشريكين أنهما كاتباه، فإن أقام البينة، فلا كلام، والبينةُ شاهدان عدلان؛ فإن مقصود الكتابة العتقُ، وصفةُ البينة تُتلقَّى من المقصود، وفصل هذه الخصومة بيّن.
__________
(1) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق، وسقطت من النسختين.

(19/416)


ولو كاتباه جميعاً، واعترفا بالكتابة، فقال المكاتب وَفَّرت عليكما حصتكما، فصدقه أحدهما دون الآخر، فنصيب الجاحد رقيق إذا حلف أنه ما قبض، ونصيب المُقِر عتيق بحكم إقراره، ثم الجاحد بالخيار: إن شاء، رجع على صاحبه بنصف ما اعترف بقبضه؛ فإنه يقول: قد اعترفتَ بقبض هذا المقدار، فو بيننا، وإن أراد أن يطالب المكاتب بتمام نصيبه، فله ذلك؛ فإنه يقول: وضعتَ الحق في غير موضعه، وأنا على طلب حقي منك بكماله.
فإن ناصف صاحبَه، وأخذ منه نصف ما قبضه، فيأخذ من المكاتب باقي حقه [ليتم له نصف النجوم ثم المقرّ لا يرجع على المكاتب بشيء] (1)؛ لأن المكاتب يقول له: ظلمك الشريك، بأن أخذ نصف ما في يدك، فلا ترجع على غير من ظلمك، وإن رجع [بجميع] (2) حقه على المكاتب، لم يرجع المكاتب على المقر بشيء أيضاً للعلة التي ذكرناها؛ فإن الشريك المقِر يقول للمكاتب: أنت مظلوم من جهة شريكي، فلا ترجع عليّ بما ظلمك به غيري. وهذا بيّن.
ولكن يتصل به كلام في السراية، وهو أن الذي اعترف بقبض حصته ينفذ العتق في حصته، فهل يسري هذا العتق إلى نصيب صاحبه؟ اختلف نص الشافعي. وذكر الأصحاب مسألتين، ونصين مختلفين، والذي تحصّل لنا قولان في السراية: أحدهما - أن العتق يسري لحصوله في حصة المقر، فصار كما لو أنشأ أو أبرأ.
والثاني - لا يحصل السريان؛ فإنا إنما حكمنا بالعتق في حصة المقر تمسكاً بإقراره، وهو أقر بعتق النصيبين، [ولو نفذ] (3) العتق في نصيب الشريك، لما كان للسريان معنى، فليس في إقراره ما يوجب السراية عليه، ولا ينبغي أن يزيد على موجب إقراره، فعلى هذا يقف العتق على حصته، ويبقى الحكم ببقاء الرق في حصة الشريك.
__________
(1) عبارة الأصل: " ليتم له نصف النجوم عن المقر، ثم لا يرجع على المكاتب بشيء " والمثبت عبارة (ت 5).
(2) في الأصل: " فجميع ". والمثبت من (ت 5).
(3) في الأصل: " ولم يُفد ".

(19/417)


فرع:
12563 - إذا أذن أحد الشريكين للمكاتب في تقديم صاحبه بحصته، وجوّزنا ذلك، فإذا وفّر عليه نصيبه، وكان بيده وفاءٌ بحصة الآخر، فكيف الحكم فيه؟ ولو عجز عن أداء حصة الآخر، فكيف الوجه؟
فنبدأ بما إذا عجز، فقد قال الأصحاب: للشريك الآذن أن يناصف صاحبه فيما قبض، لأن ما قبضه كسبُ عبدهما، وما تبرع الآذنُ بتمليكٍ، وإنما تبرع بتقديمٍ، فلا يخلص المقبوض للقابض بالإذن في التقديم، وسنبين نتيجة هذا في التفريع.
وقال ابن سريج: لا يستردّ الآن مما في يد القابض شيئاً؛ فإن القابض يقول: لما قدمتني، فقد رضيتَ بوقوع حقك من النجم في ذمته، فجرى ملكي جرياناً لا يُنْقَض، فهذا فيه فقه.
التفريع:
إن فرّعنا على مذهب ابن سريج، عتق نصيب القابض، وفي السراية من التفصيل ما قدمنا.
وإن قلنا: للشريك الآذن أن يأخذ نصف ما في يد القابض، فنتبيّن أنه لم يعتق منه شيء، فإن واحداً منهما لم يقبض حصته، فيخرج منه أن العتق موقوف.
وبهذا الفرع يتهذب ما قدمناه مجملاً في الأصول. هذا إذا عجز، وقد أدى حصته بالإذن.
فأما إذا كان في يده وفاء بحصة الآن، فالذي رأيت للأصحاب القطعُ بأنه لا يسري العتق، بل يؤدي حصةَ الآخر، وذلك لأن الإذن إنما جرى بالتقديم، ومن ضرورة التقديم توفير نصيب الآخر مع الإمكان، واتساع الوفاء. وهذا حسن فقيه.
فخرج منه أن قبض أحد الشريكين نصيبَه على وجه يُسَرِّي إلى نصيب صاحبه عسِر التصور، وإنما يجري على مذهب ابن سريج في صورة العجز، وقد يجري فيه إذا عجز المكاتب، وأرقه أحدهما، وأنظره الثاني، وصححنا ذلك، فيكون نصفه مكاتباً ونصفه رقيقاًً، وأكسابه منقسمة، فإذا وفّر على المنُظِر حصته، وأدى بحق الرق مثله إلى الشريك، فيعتق نصيبُ المنظِر، ويسري كما قدمناه.
ولو كاتب أحد الشريكين نصيبه بإذن الثاني، وصححنا ذلك، فيتصور أن يتوفر

(19/418)


عليه النجم، مع توفير مثله على الشريك، ثم يحصل العتق، كما قدمناه ويسري.
فرع:
12564 - قد ذكرنا أن المكاتَب بعضُه لا يأخذ الصدقة، هذا ما نقله الجمهور. ورأيت في بعض كلام الأصحاب ما يدل على جواز أخذ (1) الصدقة، وما قيل من وجوب انقسام المقبوض على المكاتب والرقيق لا يتجه، بل يجوز أن يقال: يختص ذاك بالقدر المكاتب منه، فإن ذاك لا يجوز أن يكون كسبَ رقيق.
وقد تفصل الباب بما فيه تأصيلاً وتفصيلاً.
...
__________
(1) ت 5: " بعض الصدقة ".

(19/419)


باب ولد المكاتبة
قال الشافعي: " ولد المكاتبة موقوت ... إلى آخره " (1).
12565 - نجمع في هذا الفصل تفصيلَ القول في ولد المكاتبة، وولد المكاتب.
فأما ولد المكاتبة، فنبدأ به، ونقول: إذا أتت المكاتبة بولد من زناً أو نكاح، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه قِنٌّ للسيد لا تسري إليه الكتابة. والقول الثاني - إن الكتابة تسري إليه، على ما سنفصله في التفريع.
والقولان في ولد المكاتبة، كالقولين في ولد المدبَرَّة، غيرَ أن حكم ولد المكاتبة يخالف حكم ولد المدبرة وولدَ أم الولد، فإن موت الأم في الكتابة يوجب رقَّ الولد؛ لأنه كان لحقها في حق عقد، [وإذا ماتت، ارتفع العقد وماتت قناً] (2)، وموت المدبَّرةِ وأمِّ الولد لا يوجب بطلانَ الحق في الولد.
وولدُ المكاتبة يخالف ولدَ المدبرةِ وولدَ أم الولد في شيء آخر، وهو أن عتق المكاتبة يوجب عتقَ الولد، وإذا أعتق السيد المدبرة، أو أم الولد، لم يعتِق الولدُ، بل لا يعتقان إلا بإعتاق السيد إياهما أو بموته، والسبب في ذلك أن إعتاق المكاتبة يُحَصِّل عتقَها على حكم (3) الكتابة، وهذا قد يتجه مثله في المستولدة، ولكن الأمر على ما وصفناه.
فنعود إلى التفريع على القولين:
فإن قلنا: الكتابة لا تسري إلى ولد المكاتبة، فهو رقيق قِنٌّ للسيد، كسائر مماليكه، لا يتبع الأم في العتق. وإن قلنا: الكتابة تسري إلى الولد، فلسنا نعني به
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 278.
(2) في الأصل: " وإذا مات ارتفع العقد، ومات قناً ". والمثبت من (ت 5).
(3) ت 5: " على حسب الكتابة ".

(19/420)


أنه مكاتب في نفسه مطالَبٌ بالنجوم، ولكن المَعْنِيّ به أن الأم إذا عَتَقَتْ على حكم الكتابة، عَتَق ولدها.
ثم على هذا القول حق الملك في الولد قبل اتفاق العَتاقة لمن؟ فعلى قولين آخرين: أحدهما - أن حق الملك فيه للسيد، وإن كان قد يعتق بعتق الأم، والقول الثاني - إن حق الملك فيه للأم.
12566 - وأهم ما نذكر في التفريع على هذين القولين الأخيرين ثلاثة أشياء: أحدها - حكم كسب الولد. والثاني - حكم النفقة. والثالث - حكم إعتاقه إنشاءً.
فأما الكسب، فنقول: إن قلنا: حق الملك فيه للسيد، فالصحيح على هذا أن الكسب لا يصرف إلى السيد، ولا يصرف إلى المكاتبة، ولكن يوقف كسب الولد؛ فإن عتقت الأم وعتق الولد تبعاً، تبعه كسبُه، فيصرف الكسب إذ ذاك إلى الولد. وإن رق الولد، لمّا رقت الأم، فيصرف الكسب إلى السيد حينئذ.
ووجه هذا، أنا وإن جعلنا حق الملك في الولد للسيد، فليس للسيد أن يتصرف في الولد بالبيع وغيره، بل يتوقف فيه إلى أن يتبين أنه يعتِق أو يرِق، فليكن كسبه بمثابة نفسه.
وذكر العراقيون قولاً آخر بعيداً أن كسبه يصرف إلى السيد عاجلاً من غير توقف، وهذا ضعيف جداً حكَوْه وزيّفوه، والقياس تنزيل كسبه منزلَة رقبته، فإذا لم ينفذ تصرف المولى في رقبته، لم ينفذ تصرفه في كسبه، هذا كله إذا فرعنا على أن حق الملك في الولد للمولى.
وإن قلنا: إن حق الملك فيه للأم المكاتبة، فعلى هذا القول يصرف كسبه إلى المكاتبة يوماً يوماً من غير توقف؛ لتستعين به في الكتابة، وتتصرف فيه بما تتصرف في سائر مالها، وهذا اتفاق على هذا القول.
ولو عتقت وعتق الولد وفي يده بعض كسبه، فهو للأم، وليس للولد أصلاً، وكسب ولدها بمثابة كسب عبيدها.
12567 - ومما فرّعه الأئمة أن قالوا: إذا قلنا كسب الولد موقوف -تفريعاً على أن

(19/421)


حق الملك للمولى- فإن عتق، صرف إلى الولد، كما مضى. فعلى هذا لو فرض الرق في الأم، فلا يخلو: إما أن تُعجِّز نفسها، (1 وتُبطلَ الكتابةَ من غير عجز، وإما أن تَعْجِز، ويضيقَ كسبها. فإن أرقت نفسها 1)، وفسخت الكتابة من غير عجز، فتعود رقيقةً، ويعود ولدها رقيقاً للسيد، والكسبُ الموقوف للسيد.
ولو قال الولد عند ذلك: قد أبطلت أمي حقَّها، ولستُ أبطل أنا حقي فأؤدي نجومَ أمي من كسبي لتعتِق، حتى إذا عَتَقتْ عَتَقتُ، فليس للولد ذلك؛ إذ لا اختيار له في العتق، وتأديةِ النجوم، وإنما هو تابع لعتق الأم ورقها، والاختيار في الإرقاق لها؛ فلا يُلتفت إلى قول الابن: " أؤدي عنها "؛ فإن النجوم ليست مضروبة عليه، وما وظفت النجوم عليه، فكيف يتصور أن يؤدي إذا أَرَقَّت الأم نفسَها اختياراً مع القدرة.
فأما إذا عَجَزَتْ عن أداء النجوم، وللولد كسبٌ موقوف، فهل لها على هذا القول أن تأخذ من كسب ولدها الموقوف وتستعينَ به على أداء النجوم؟ فعلى قولين: ذكرهما العراقيون: أحدهما - ليس لها ذلك؛ إذ لا حق لها في الكسب على هذا القول، وإنما هو للسيد، أو حق الولد لو عتق.
والقول الثاني - لها أن تأخذه قهراً إذا عجزت؛ فإن الأولى للولد ذلك، إذ لو عجزت لرَقّت ورَقّ الولد، وصار كسبه للسيد، ولو استعانت بالكسب، لعتقت وعتق، وربما يبقى له فضل كسب.
[والأصح] (2) أنه ليس لها أن تستعين بكسب الولد؛ فإن ما نذكره تفريع على أن حق الملك للمولى، فإذا كان الكسب موقوفاً عن المولى، وجب أن يكون موقوفاً عن الأم. هذا كله كلام في الكسب.
12568 - فأما النفقة: فالترتيب المستحسن فيه للعراقيين. قالوا: إن قلنا: إن كسب الولد للأم، فهو مصروف إليها من غير توقف، فالنفقة على الأم وإن لم يكن
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 5).
(2) في الأصل: " فالأصح ".

(19/422)


كسب، ولو كان كسبٌ فالخِيَرةُ إليها: إن شاءت، أنفقت من كسبه، وإن شاءت، أنفقت من سائر مالها.
وإن قلنا: إن الكسب مصروف إلى السيد في الحال من غير توقف فيه -وهو القول الضعيف الذي حكيناه- فالنفقة على السيد على كل حال، سواء كان للولد كسب أو لم يكن.
وإن قلنا: إن كسبه يوقف، فإن كان له كسب، فهو مصروف إلى نفقته على قدر الحاجة قولاً واحداً، فما فضل عن نفقته، فيوقف حينئذ، وهذا متفق عليه، على هذا القول، لا يسوغ فرض خلاف فيه، ولو لم يكن له كسب أصلاً، أو كان كسبه لا يفي بنفقته، فنفقته في هذه الصورة إذا لم يكن كسب، أو الزائد على الكسب على من؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنها على السيد؛ فإنا إنما نقف كسبه على قولنا: إن حق الملك فيه للسيد، فعليه النفقة؛ إذ حق الملك له.
والوجه الثاني - أن النفقة لا تكون على السيد؛ إذ من الإجحاف [به] (1) ألا يُصرفَ إليه الكسبُ عاجلاً لو كان كسبٌ، وتلزمه النفقة، فعلى هذا تكون النفقة في بيت المال، وهذا ضعيف جداً، وقد نجز القول في النفقة متعلقاً بالكسب مفرعاً عليه.
فأما الفصل (2) الثالث وهو إعتاق الولد
12569 - فهذا رتّبه العراقيون على ما قدمناه في الكسب. فقالوا: إن قلنا: الكسب يصرف إلى السيد من الوقت من غير توقف، فإذا أعتقه، نفذ عتقه فيه؛ فإن حق الملك له في رقبته وكسبه جميعاً. وإن قلنا: إن كسبه مصروف إلى الأم، فلا ينفذ عتق السيد فيه؛ فإنا إنما نصرف الكسب إلى الأم إذا جعلنا حق الملك للأم، فالولد بمثابة سائر أكسابها.
وإن قلنا: كسب الولد موقوف، وقلنا لو عجزت الأم، لم تستعن به أصلاً، فينفذ
__________
(1) في الأصل: " فيه ". والمثبت من (ت 5).
(2) لم يعنون الإمام لهذه القضايا الثلاث من قبل بالفصول، وإنما قال: نتكلم في ثلاثة أشياء: 1 - كسب الولد 2 - نفقته 3 - إعتاقه.

(19/423)


عتق السيد في الولد؛ فإنا على وقف الكسب نجعل حق الملك في الولد للسيد، ولا حقّ للأم في رقبته، ولا في كسبه.
وإن قلنا: إن الكسب يوقف، ولكن لو عجزت الأم، فلها الاستعانة به، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - وهو ما قطع به العراقيون أنه لا ينفذ عتق السيد في الولد؛ فإن للأم حقاً في كسبه على الجملة؛ وفي تنفيذ عتقه قطعُ حقها من كسبه، عند تقدير العجز.
والوجه الثاني - أن عتق المولى ينفذ؛ فإنا نفرعّ على أن حق الملك في الولد للمولى.
12570 - فإذا تمهدت هذه الفصول الثلاثة - الكسب والنفقة والإعتاق، فمما نفرعه بعدها على القولين، الكلام في أروش الجناية على الولد، فإذا جنى جانٍ عليه، لم يخل: إما أن يجني على طرفه، أو يقتله، فإن كانت الجناية على الطرف، لم تنته إلى القتل، فتفصيل المذهب في أرش الجناية كتفصيل المذهب في كسبه حرفاً حرفاً، وقد سبق.
وإن قتله الجاني، فلا يتأتى في هذه الصورة وقفُ قيمته؛ فإنا إنما نقف كسبه، وأروش أطرافه لتوقع عتقه في ثاني حاله، فإذا قُتل لم يتحقق هذا، ولكن في قيمته قولان: أحدهما - إنها للسيد. فيصرف إليه من غير وقف. والثاني - أنها للمكاتبة، فيصرف إليها، لتتصرف فيها بما تتصرف به في سائر مالها.
وذكر الصيدلاني وجهاً أنه إذا قُتل ولدها، فالقيمة مصروفة إلى السيد قولاً واحداً؛ لأن القتل والهلاك قطع أثر الكتابة في الولد، فعاد التفريع إلى قولنا: إن ولدها رقيق قن للسيد.
وهذا غير سديد، والصحيح إجراء القولين؛ فإن ولدها في قولٍ بمثابة عبد اشترته، غير أنها [لا تبيعه] (1). فلا وجه لقطع القول بصرف القيمة إلى السيد.
وقد نجز منتهى غرضنا في ولد المكاتبة.
__________
(1) في الأصل: " لا تتبعه ". والمثبت من (ت 5).

(19/424)


12571 - فأما المكاتب إذا استولد جارية، فأتت منه بولد، فلا خلاف أن الولد يتبعه، يعتِق بعتقه، ويرِق برقه، ولا يُخَرَّج فيه قولٌ أنه رقيق للسيد، وليس كولد المكاتبة، والفرق أن هذا الولد ولدته أمتُه المحكوم بأنها ملكُ المكاتب، فيقدَّر كأنها أتت به من نكاح أو سفاح، فيكون حقُّ الملك للمكاتب، وولد [المكاتبة] (1) من نفسها، وهي ما ملكت نفسها، ولو ملكت نفسها، لعَتَقَت.
ثم إنا نقول في ولد المكاتب من أمته: حق الملك فيه للمكاتب قطعاً، ولو اكتسب، فلا يوقف كسبه، بل يصرف إلى المكاتَب؛ ليعمل به ما يعمل بسائر أكساب نفسه وعبيده، تعجيلاً من غير وقف، وهذا واضح بعد ما وقعت الإحاطة بما ذكرناه من أن ولد المكاتب من جاريته في حق الملك كولد جاريته من نكاح أو زناً، غير أنه لا يبيع ولدَ نفسه، فيعتق بعتقه ويرِق برقه، ولو عَتَقَ المكاتب وتبعه ولده في العتق، فصادف في يد ولده فضلَ كسب، كان قد اكتسبه في الكتابة، فهو مصروف إلى الوالد، لا حظ فيه للولد، ولو كان يُصرف إلى الولد إذا عتق، لوُقف له، وهذا لا شك فيه.
ويترتب على ما ذكرنا أن نفقة الولد على المكاتب على كل حال، والجملة أنه بمثابة سائر عبيده، غير أنه يبيع عبيدَه، ولا يبيع ولده، ولا ينفذ فيه عتقُ السيد، كما لا ينفذ عتقه في عبيد المكاتب، وهذا لا خفاء به.
12572 - وقد ذكر العراقيون مسألة في الجناية، واضطربوا فيها، ونحن ننقل كلامهم على وجهه، قالوا: لو جنى الولد جناية، فتعلقت برقبته، إن كان له كسب، كان له (2) أن يفديه من كسبه، وإن لم يكن له كسب، باعه في الجناية.
وهذا عندنا غلط ظاهر، وزلة تُفضي إلى هدم أصل المذهب.
والذي قطع به المراوزة أنه لا يملك فداء ولده، وإن كان في كسب ولده ما يفي بالفداء؛ فإن الفداء في معنى الشراء، ولم يختلف الأصحاب في أنه لو صادف ولده
__________
(1) في الأصل: " المكاتب ". والمثبت من (ت 5).
(2) الضمير يعود على الأب المكاتب.

(19/425)


رقيقاً، لم يكن له أن يشتريه؛ فإنه يبذل في شرائه مالاً يملك التصرف [فيه ولا يملك التصرف] (1) في رقبة ولده، فهذا يلتحق بتبرعه، وما ذكروه من جواز الفداء في كسب الولد لا خير فيه، فإن كسب الولد التحق بسائر أموال المكاتب، من جهة أنه يتصرف فيه تصرفه في سائر ماله.
ثم قال العراقيون: إذا جنى ولد المكاتب، ولا كسب، وأراد بيعه في الجناية، فله أن يبيع كله، وإن كانت قيمته تزيد على الأرش، ثم قالوا: يبيعه ويصرف قدر الأرش إلى المجني عليه ويأخذ الباقي، وهذا خطأ أيضاً.
والذي قطع به أئمتنا المراوزة أنه لا يباع [منه] (2) إلا بقدر الجناية؛ إذ لولا الجناية، لما جاز بيع شيء منه، فليقع البيع على قدر الجناية، وهذا كما أن المرهون إذا جنى، فإنه يباع منه بقدر الجناية، فقد اختلف أجوبة العراقيين في الجناية من ولد المكاتب. واستدوا (3) في كل ما قدمناه من القواعد.
وهذا نجاز الكلام في ولد المكاتبة والمكاتب.
12573 - ونحن نختتم ما قدمناه بذكر تحقيقٍ. فنقول: أما ولد المكاتبة، فمأخذ اختلاف القول فيه في الأصول من اختلاف القول في ولد المدبرة؛ من جهة أن الكتابة عرضة للرفع كالتدبير، وليست هي مالكةً لنفسها، حتى يكون ولدها مستفاداً من
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق، وفي (ت 5): " فإنه يبذل في شرائه ما لا يملك بالتصرف في ولد رقبته ".
هذا وقد استأنسنا في تعديل العبارة، بصياغة الغزالي في البسيط، حيث قال: " ... فليس له أن يفديه وإن كان للولد كسب، لأنه لا يتصرف في رقبة الولد، ويتصرف في الكسب، فيكون كشرائه" (ر. البسيط: 6 ص 442 مخطوطة مرقمة الصفحات).
وكذلك بعبارة العزّ بن عبد السلام، فقد قال: " ولا خلاف أن المكاتب والمكاتبة لا يشتريان ولدهما، فإنه إبدال ما يجوز التصرف فيه بما لا يقبل التصرف، فإذا جنى ولد المكاتب، لم يملك فداءه، لأن فداءه كشرائه " (الغاية في اختصار النهاية: 5/ورقة: 454 ش).
(2) في الأصل: " فيه "، والمثبت من (ت 5).
(3) كذا في النسختين " استدّوا " أي استقاموا، والمعنى أنهم استدوا في كل ما تقدم من القواعد غير هذه.

(19/426)


ملكها. وولد المكاتب من جاريته في حكم أكساب المكاتب، وإلا فلا وجه لإتباعه إياه في العتق والرق؛ فإن صفة الولد في الرق والحرية تُتَلَقَّى من صفة الأم، والأم رقيقة، فكان ولدها في معناها، غير أن المكاتَب لا يقدر على بيعه.
وقد خرج مما ذكرناه أن الولد لا يكون مكاتباً على التحقيق؛ إذ لا يتعلق به طَلِبةٌ في النجم، وخرج مما مهدناه أن المكاتب لا يشتري ولده (1)، وكذلك المكاتبة لا تشتري ولدَها، لِما أشرنا إليه من أن هذا بذل مال، هو عرضة التصرف في مقابلة ما لا يتأتى التصرف فيه. نعم، لو قبلا الوصيةَ بالولد، أو هبةَ الولد، صح ذلك، ثم يمتنع بيعُه، ولكنهما ينتفعان بكسبه وبأروش الجناية عليه، وسيأتي في هذا فضل بيان عند خوضنا في تبرعات المكاتب.
وخرج مما ذكرناه أن قول العلماء ولد المكاتَب مكاتبٌ عليه محمولٌ على أنه يعتق بعتقه ويرِق برقه، فأما أن تثبت له حقيقة الكتابة فلا.
12574 - ومما نختتم به الفصل - القولُ في أمية الولد، فنقول: المكاتب إذا أحبل جارية من جواريه بإذن السيد، أو من غير إذنه، فحكم الولد ما قدمناه، فأما الأم، فهل تصير أمّ ولدٍ له؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها لا تصير أم ولد؛ لأن الاستيلاد إنما يثبت إذا علقت الأمةُ بولد حر، وهذه علقت بولد رقيق، فهي كسائر الجواري، يتصرف فيها بالبيع، وغيره من الجهات المُنَفَّذة، ئم إذا لم يثبت الاستيلاد في الحال، فلو عَتَق المكاتب، وتلك الجارية في يده، فلا تصير الآن أم ولد أيضاً؛ فإنها علقت برقيق، فصار كما لو نكح الحر أمة، فولدت منه ولداً رقيقاًً، ثم اشتراه الزوج، فلا تصير أم ولد له.
والقول الثاني - أنها تصير أم ولد، فيثبت لها في الحال من الحرمة ما يثبت للولد، فلا يبيعها، ولو عَتَق المكاتب، استقر الاستيلاد فيها، ولو رق وعجز، رقَّت أم الولد، وحرمتها لا تزيد على حرمة الولد.
__________
(1) ت 5: " لا يسري أم ولده ".

(19/427)


فرع:
12575 - إذا استولد المكاتب جارية من جواريه، وقلنا: لا تصير الجارية أم ولد، فلو عتق المكاتب، وولدت الجارية ولداً آخر بعد العتق بزمانٍ يحتمل أن يكون العلوق به بعد العتق، ويحتمل أن يكون في حال الكتابة؛ فإن أقر بوطءٍ بعد العتق يمكن ترتيبُ العلوق عليه، تثبت أميةُ الولد على الاستقرار، وإن لم يوجد من المكاتب إقرار بوطء بعد العتق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها لا تصير أمَّ ولد؛ فإن الولادة التي سبقت في الكتابة، لم يثبت لها حكم أصلاً، وقد ارتفعت الكتابة بالعتق، ولم يثبت إقرار جديد بالوطء بعد تغير الحكم بالعتق.
والثاني - تصيرُ أمَّ ولدٍ له؛ فإن الولد يَلحق المكاتَب، وهذه وإن لم تصر أمَّ الولد بما جرى في الكتابة، فقد صارت فراشاً له، فإذا أتت بولد بعد العتق، وقد صارت مفترشة حقيقة وحسّاً بما مضى، فيلحقه الولد، وتصير أم ولد بعد العتق.
وقد ذكرنا نظائر لذلك في كتاب العِدد، إذا اشترى الحر زوجته الأمة، وأتت بولد بعد ارتفاع النكاح لزمان يحتمل أن يكون العلوق به في ملك اليمين، ولم يوجد منه إقرار بالوطء في ملك اليمين.
***

(19/428)


باب المكاتبة بين اثنين يطؤها أحدهما أو كلاهما
قال: " وإذا وطئها أحدهما، فلم تحبل ... إلى آخره " (1).
12576 - المكاتبة المشتركة بين اثنين، إذا وطئها أحدهما - فلا يخلو إما أن يتصل الوطء بالإحبال، وإما أن يعرى عن الإحبال.
فإن لم يُحبلها، التزم مهر المثل لها، وسلمه إليها، فكان من جملة أكسابها. وإن أحبلها، نُظر: فإن كان معسراً، فيصير نصيبه أم ولد، ولا منافاة بين أمية الولد والكتابة، وسنبين أن مكاتبة أم الولد ابتداءً صحيحة، ثم لا سريان؛ لكونه معسراً، وفي الولد قولان حكاهما الصيدلاني: أحدهما - أن النصف منه حر، والنصف رقيق؛ فإن الوطء المُعْلِق صادف مشتركة، وانتفى السريان، فكما اقتصرت أمية الولد على النصف، وجب اقتصار الحرية على نصف الولد.
والقول الثاني - أن الولد يعلق حراً؛ فإن الرق لا يتبعض ابتداءً، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم مع نظائرَ وأمثلةٍ.
ثم إن حكما بتبعيض الحرية، فالنصف الرقيق سبيله سبيل ما لو كان جميع الولد رقيقاً، وقد مضى التفصيل في ولد المكاتبة، فإنه رقيق، [وتسري] (2) الكتابة إليه، إلى آخر التفصيل.
وأما النصف الذي وقع الحكم بحريته، فإن قلنا: ولد المكاتبة من زنا أو نكاح رقيق للمولى، فهذا النصف الذي انعقد حراً لا يضمن الواطىء قيمتَه؛ فإنه لو كان رقيقاًً، لكان له، وإن قلنا: لو كان رقيقاً، لسرت الكتابة إليه، فإذا انعقد حراً، فَمَنْع الرق بمثابة إتلاف الرقيق، وقد تقدم التفصيل في أن ولد المكاتبة إذا قتله أجنبي،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 278.
(2) في الأصل: " إذ تسري ".

(19/429)


فقيمته لمن؛ فإن قلنا: القيمة للمولى، فلا قيمة في مسألتنا على المولى في النصف الذي انعقد حراً، وإن قلنا: القيمة للمكاتبة، غرم لها نصفَ القيمة، ومنعْ الرق كالإتلاف.
ولو حكمنا بأن الولد حر كله، فالقول في النصف، كما مضى، والنصف الآخر لا شك أنه يجب على الواطىء قيمته، والكلام في أنه يصرف إلى المكاتبة أو إلى الشريك، ولكن الواطىء معسر، فيقع ذلك النصف في ذمته إلى أن يجد.
هذا كله إذا كان الواطىء معسراً.
فأما إذا كان الواطىء المعْلِق موسراً: أما الولد، فلا خلاف أن الولد يعلق حراً؛ لأنا نعلّق بهذا الوطء الاستيلاد في الجارية، وإنما الخلاف في وقت السريان، وكل وطء يتعلق به أمية الولد عاجلاً أو آجلاً، فالولد يكون حراً، لا محالة.
وقد يعلق الولد حراً إذا جرى الوطء بشبهة في ملك الغير، ولا يثبت الاستيلاد في الجارية (1)، وقد نقول: لا يثبت أيضاً إذا ملك الموطوءة، فإذا تعلقت حرمة (2) الاستيلاد بالوطء، فلا يخفى أن الولد يعلق حراً.
ثم أول ما نذكره إذا كان المُعْلِق موسراً، تفصيل القول في وقت سريان الاستيلاد، فنقول: إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من المكاتب، ففي سريان العتق -والمعتق موسر- قولان: أحدهما - أنه يتنجز في الحال. والثاني - أنه يتأخر إلى عجز المكاتب في باقيه. وقد مضى هذا مفصلاً.
12577 - ونعود بعد تجديد العهد إلى الاستيلاد. وقد اختلف أصحابنا في وقت سريانه على طريقين: فمنهم من قال: في الاستيلاد ووقت سريانه قولان كالقولين في العتق. ومنهم من قطع بتأخر سريان الاستيلاد إلى عجز المكاتبة في باقيها ورقها، وهذا ظاهر النص؛ فإن الشافعي قطع جوابه بتأخير سريان الاستيلاد، وردّد القول في العتق.
__________
(1) ت 5: " ولا يثبت الاستيلاد في الحال ".
(2) كذا في النسختين " حرمة الاستيلاد " وهي بمعنى حقيقة الاستيلاد.

(19/430)


والفرق أن تسرية العتق في الحال يقتضي نقلَ الملك، ونقلُ الملك في المكاتب في ظاهر القياس يتضمن فسخ الكتابة، كما ذكرنا طرق الأصحاب في ذلك، ولكنا نحتمل هذا -في قولٍ- من جهة أن الكتابة إن كانت تزول، فالعتق الناجز يخلفُها، فلو قلنا: يثبت الاستيلاد ناجزاً، لاقتضى سريانُه نقلَ الملك في حصة الشريك إلى المستولد، وهذا يتضمن لا محالة رفعَ الكتابة على الطريقة الظاهرة، فلو صرنا إليه، لكنا رافعين للكتابة بأمية الولد، وأمية الولد ليست تنجيز عتق، وإنما هي توقع عتق، والكتابة لازمة من جهة المولى، فلا يسوغ رفعها من غير أن يخلفها عتقٌ ناجز.
فإن قال من أجرى القولين: أمية الولد أثبتُ (1) من الكتابة؛ فإن الكتابة عرضةُ الفسخ بخلاف الاستيلاد، قيل له: الأمر كذلك، ولكن حصول المقصود مربوط بالموت، وأداءُ النجوم أقرب إلى التوقع من الموت في شخص، والبقاء في شخص، وقد يُظن ذلك ثم ينعكس الأمر.
هذا قولنا في الاستيلاد ووقت سريانه.
12578 - فأما الكلام في قيمة الولد: فإن جرينا على المسلك الأصح، وقلنا: يتأخر سريانُ العتق إلى العجز في الباقي، فالكلام ينقسم في شطري -الولد- وإن كان كله حراً- أما النصف الذي يقابل حصةَ المستولد، فقد جرى فيه منعُ الرق.
فإن قلنا: حقُّ الملك للمكاتبة في ولدها، فلا شك أن السيدَ المستولدَ يغرَم لها نصفَ القيمة ناجزاً. وعلى هذا لا توقف في النصف الثاني؛ فإن حق الولد -على القول الذي نفرع عليه- للمكاتبة، والكتابة بعدُ قائمة؛ فإن النصف الذي ثبت الاستيلاد فيه لم ترتفع الكتابة عنه، ولم يَجْرِ الاستيلاد في النصف الآخر، فليغرَم تمامَ القيمة لها.
وإن قلنا: ولد المكاتبة رقيق، فلا يغرم المستولد على مقابلة حصته شيئاً، ويغرم في الحال قيمة النصف الآخر لشريكه، وسريان الاستيلاد منتظر.
__________
(1) ت 5: " أمية الولد من الكتابة " (سقطت كلمة " أثبت ").

(19/431)


ومن أحاط بما قدمناه في ولد المكاتبة، لم يخف عليه تخريج هذه المسائل على ما تقدم.
ولا شك أن ما نذكره فيه إذا انفصل الولد حياًً، هذا هو التفصيل البين المفرّع على تأخير سريان الاستيلاد.
فإن قلنا على الطريقة البعيدة: ينفذ الاستيلاد في الحال، ثم قلنا: تنفسخ الكتابة في نصيب الشريك، للاحتياج إلى نقل الملك، فلا شك أنا على ذلك نقول: بقيت الكتابة في نصفه منهما، وانفسخت الكتابة في النصف الذي كان لشريكه، وخَلَفَت الكتابةَ أميةُ الولد.
فأما قيمة الولد، فالكلام يقع في شقي الولد، فأما النصف الذي يقابل نصيب المستولد، فهو مخرج على أن الحق في ولد المكاتبة لمن؟ وأما النصف الآخر الذي حكمنا بانفساخ الكتابة، فالقول فيما يقابل ذلك النصف -وقد انفسخت الكتابة فيه- مأخوذ من استيلاد أحد الشريكين الجارية القِنَّة -والتفريع على تعجيل السريان- فالولد حر.
وفي قيمة الولد قولان: أحدهما - أنها لا تجب. والثاني - أنه يجب نصف قيمة الولد للشريك، وهذا مبني على أن العلوق على الحرية هل يقترن بنقل الملك، أم يقع بعده، أم يتقدم على النقل؟ وكل هذا مما مضى.
ومن انتهى من هذا الكتاب إلى هذا الموضع وطلب الإحاطة بما فيه، لم تخف عليه أمثال ذلك. هذا تمام البيان.
12579 - وقد خلط الصيدلاني هذا الفصل، وأتى بكلام متهافت، وأنا أرى نقلَ كلامه بلفظه، ثم نتتبعه.
قال: "والولد حر ثابت النسب، وينظر في قيمة الولد، فإن جاءت به قبل أن عجزت، فنصف قيمة الولد واجب عليه، وإن جاءت به بعد أن عجزت وأدى القيمة، فلا يلزمه من قيمة الولد شيء، وإن جاءت به بعد أن عجزت، وقبل أن أدى القيمة - فإن قلنا: السراية تقع يوم الإحبال في سائر المواضع -وهاهنا يوم التعجيز- فلا

(19/432)


يلزمه من قيمة الولد شيء، وإن قلنا: يوم أداء القيمة، غرم نصف قيمة الولد".
ْهذا لفظ الصيدلاني في كتابه. وهو خطأ صريح. ومن أحاط بما ذكرناه، لم يخف عليه أن ما سواه غلط، ومعنى ما ذكره أن الولد حر لا محالة، وهذا سديد، ثم قال: " فإن جاءت به قبل (1) أن عجزت "، أراد إن ولدته، فنصف قيمة الولد واجب على المستولد. وأين هذا من التفصيل المطلوب في قيمة الولد: وأنها للمكاتبة، أو للمولى، وما وجه الاقتصار على نصف القيمة؟
ثم قال: إن جاءت به بعد العجز وأداء القيمة عند السريان، فلا يلزمه من قيمة الولد شيء - أراد بذلك أنها إذا عجزت في باقيها ورقت، وربما فرض عجزها في النصف الذي يثبت الاستيلاد فيه ابتداء، فإذا أتت بالولد وهي مستولدة، وقد زالت الكتابة بالتعجيز، فقد تحقق الولاد في ملكه، والاعتبار بحالة الولادة؛ ولهذا قلنا لو انفصل الولد ميتاً، لم يجب الضمان، فإذا وقعت الولادة في حالة خلوصها له، فلا ضمان أصلاً.
هذا ما فهمتُه من كلامه، وانقدح لي من توجيهه، وهو ليس بشيء؛ فإنا ذكرنا في قيمة الولد عند جريان الاستيلاد من أحد الشريكين في الجارية المشتركة قولين: أحدهما - أنه يجب مقدار حصة الشريك من القيمة، وهذا مبني على تقدم العلوق على انتقال الملك، ثم الولادة تقع بعد هذا الحكم، وبعد الانتقال بأشهر، وكذلك الأب إذا استولد جارية الابن، وأوجبنا عليه قيمة الولد على قولٍ، فهو جارٍ على القياس الذي ذكرناه في الجاربة المشتركة، وإن كانت الولادة تقع بعد انتقال الملك.
وذاك الذي خيّلنا به من تشبيه انفصال الولد في ملكه بانفصاله ميتاً ليس بشيء؛ فإن الحرية إذا تحققنا تقدمها؛ ثم علمنا حياة الولد -والحر وإن انفصل في حالة كون الأم مملوكة- فلا حق في الحر لمالك الأم، وإذا انفصل الولد ميتاً، فلم تتحقق حياته، فكان [كالعديم] (2) الذي لا حكم له في موجب الغرم، فلم يتحصل مما ذكره شيء.
__________
(1) ت 5: " بعد ".
(2) في الأصل: " كالغريم " والمثبت من (ت 5).

(19/433)


وباقي كلامه مختبط؛ فإنه بناه على ما ذكرناه، ولا يلتبس على من شدا طرفاً من الفقه أن المسلك الحق في ترتيب المذهب ما قدمناه، وما عداه خبط وخيال.
12580 - ومن تمام الكلام في هذا الفصل أنا رأينا الاستيلاد وسريانه أولى بالتأخير من العتق، والذي ذهب إليه [معظمُ المرتبين] (1) أن أحد الشريكين إذا أعتق الجارية المشتركة، ففي سريان العتق الأقوالُ المعروفة.
ولو استولدها، وقلنا: العتق يتعجل سريانه، فالاستيلاد أولى بالتعجيل. ومن أصحابنا من قال: لا فرق. وقد ذكرنا في هذا الفصل أن الاستيلاد أولى بالتأخير من العتق. والفرق بين القاعدتين أن الاستيلاد في الرقيقة القنة يصادف ملكاً يقبل النقل، بخلاف ما إذا جرى في المكاتبة. ثم احتملنا تعجيل سريان العتق في المكاتبة على قولٍ؛ لأن العتق يعجل مقصود الكتابة، والاستيلاد توقع المقصود، وهذا على ظهوره لا يضر ذكره (2).
فصل
قال: " فإن وطئاها ... إلى آخره " (3).
12581 - قد ذكرنا في الفصل المتقدم وطء أحد الشريكين إذا عَرِيَ عن الاستيلاد، أو أفضى إليه، وهذا فيه إذا وطئاها جميعاً، فإن لم يثبت استيلاد، فعلى كل واحد منهما مهرُ مثلِ المكاتبة لها؛ فإن المهر عوضُ منفعة البضع، فهو مصروف إليها، فإن لم يتفق منهما غرم المهرين حتى ماتت المكاتبة، وجرى الحكم برقها، أو لم يغرما حتى عجَّزت نفسَها، فإن استوى مقدار المهرين، جرى بين الشريكين التقاص، وسنذكره مفصلاً على القرب، إن شاء الله، وإن تفاوت المقدار بسبب تفاوت الزمان، واختلاف صفة الموطوءة فيما يلحقها من التغايير، لم يَخْفَ التفصيلُ.
__________
(1) زيادة من (ت 5).
(2) من هنا بدأ خرم جديد في (ت 5) استغرق فصلاً بتمامه من أوله إلى آخره.
(3) ر. المختصر: 5/ 278.

(19/434)


ولو وطئا وأتت بولد، وأمكن أن يكون منهما على البدل، فحكم النسب لا يخفى، فإن ادعياه، أَرَيْنا الولدَ القائفَ، وإنما غرضُنا من الفصل بيانُ الاستيلاد والغُرم، وليقع الغرض فيه إذا كانا موسرين، وادعى كلُّ واحد منهما أن الولدَ ولدُه، والجارية أمُّ ولده، فإذا تنازعا كذلك، وأَرَيْنا الولدَ القائفَ، فألحقه القائفُ بأحدهما، التحق النسب، وقدّرنا كأنه المنفرد بالاستيلاد، ويصير قول القائف حجةً في الواقعة؛ فإن النسب إذا ثبت، فلا شك أن الولد ولدها، فإذا انتسب إلى أحدهما، فهي أم ولده، وهذا بمثابة إثباتنا الولادة في النكاح بشهادة نسوةٍ [والفراش] (1) يلحق النسب، وإن كان النسب لا يثبت بشهادة النسوة المجردات.
ولو فرضنا هذه المسألة في الرقيقةِ القِنة، لكان ذلك أقربَ إلى إيضاح الغرض، حتى لا نحتاج إلى تأخير الاستيلاد وفرض العجز، فليقع الكلام في الرقيقة، والحكم ما ذكرناه من نفوذ الاستيلاد، ولحوق الولد.
ثم إذا نفذنا استيلادَه، فلا يغرَم لشريكه قيمةَ نصيبه؛ لأنه ادعى أن الجارية مستولدتُه، وهو مؤاخذ بموجَب إقراره، ولو صح ما قاله، لما وجب على شريكه غُرم، هذا إذا وجدنا القائف.
فأما إذا لم نجد وعسُر الأمر، والمتداعيان موسران، فنحكم بثبوت الاستيلاد في نصف كل واحد منهما، فيعم الاستيلادُ الجاريةَ، ولكن يضاف إلى كل شريك نصفُ الاستيلاد، والسبب فيه أنهما مستويان، وليس أحدهما أولى بالتصديق من الثاني، ويدُ كل واحدٍ ثابتة على النصف، والملكُ مترتب على [اليد] (2)، وليس أحدهما أولى بالسراية من الثاني. فالوجه عند إشكال النسب ما ذكرناه، ثم لا تراجُعَ بينهما لما نبهنا عليه.
ولو أقرا بالوطأين، ولم يتعرضا للتداعي في الولد [بل] (3) سكتا عنه (4)، فالولد
__________
(1) (الواو) زيادة اقتضاها السياق، فهي في الأصل: " الفراش " بدون (واو).
(2) في الأصل: " السيد ".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) المعنى أنهما لم يتنازعا الاستيلاد، بل سكتا.

(19/435)


نُري القائفَ، فإذا ألحقه بأحدهما، التحق به، وثبت الاستيلادُ وسريانُه في حقه، ثم يلزمه أن يغرَمَ لصاحبه قيمةَ نصيبه، والأمر في الولد على ما ذكرناه في الجارية المشتركة إذا انفرد أحدهما بوطئها واستيلادها، والغرض من هذه الصورة أن قول القائف، اقتضى ذلك كلَّه، ولم يوجد من الشريك إقرارٌ ينافي الغرم، فجرى الأمر على ما وصفناه.
ومما يتعلق بهذا الفصل، أنا إذا لم نجد القائفَ، راجعنا الولد بعد بلوغه، كما تفصل في موضعه، فإذا التحق بأحدهما لحقه.
فليت شعري: ماذا نقول في الغرم، والشريكان ساكتان؟ أنثبته بقول الولد، كما أثبتناه بقول القائف؟ أو نقول لا يثبت الغرم بقول الولد؟ هذا فيه احتمال وتردد بيّن، والأصحابُ وإن لم يصرحوا به، ففي قواعد كلامهم ما يشير إلى التردد.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانا موسرين.
فأما إذا كانا معسرين، فلا سريان في الاستيلاد، فإذا تردد الولد بينهما، ثم فرض إلحاقٌ من القائف، لم يخفَ التفريع، فيثبت الاستيلاد في حصة من لحقه النسب، ولا سريان، ويثبت الاستيلاد في نصيب الثاني لإقراره، وإذا وضحت الأصول، وتكررت الفروع، لم يكن في إعادتها معنى.
فصل
قال: " ولو ادعى كل واحد منهما أن ولده وُلد قبل صاحبه ... إلى آخره " (1).
12582 - صورة المسألة: أن تأتي الجارية بولدين من الشريكين، والتحق بكل واحد منهما ولد، فقال كل واحد منهما: ولَدَتْ مني هذا الولد قبلَ أن وَلَدَتْ منك الولدَ الذي لك، والولدان متقاربان في السن، وأشكل الأمرُ، فالاستيلاد ثابت، ولا ندري أن الجارية أُتمُ ولد مَن منهما؟ وليس أحدهما أولى بالتصديق من الثاني، والفرض في القِنة، والشريكان موسران، والتفريع على تعجيل السراية، ثم هما
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 279.

(19/436)


جميعاً مؤاخذان بالإنفاق عليها، فإذا مات أحدهما، عَتَقَ نصفُها في ظاهر الحكم؛ فإن كل واحد منهما مؤاخذ بإقراره فيما هو تحت ملكه ويده، ولو ماتا، عَتَقَت ظاهراً وباطناً، وولاؤها موقوف؛ فإنا لا ندري من المعتِق منهما.
ولو كانا معسرين وجرى ما وصفناه وماتا، فلا شك أنها تعتِق، ولكن لا إشكال في الولاء (1)، فيثبت لكل واحد نصفُ الولاء.
وحكى الربيع في المعسَرَيْن، حيث انتهى التصوير إليه أن الولاء موقوف. وهذا غلطٌ بإجماع الأصحاب، لا يعد مثله من المذهب، وذلك بيّن. وإنما نذكر أمثاله حتى نوضح وجهَ الزلل فيه. والله أعلم.
...
__________
(1) ت 5: " الإشكال في الولاء ".

(19/437)


باب تعجيل الكتابة
12583 - مضمون الباب شيئان: أحدهما - القول في تعجيل المكاتَب النجمَ، وهذا مما قدمناه، ولكنا نزيد فضلَ تفصيل حتى لا يَعْرَى البابُ عن مزيد: فإذا عجل المكاتبُ النجمَ قبل حلوله، تعين على السيد قبولُه، إذا لم يكن على السيد في قبوله ضرر، وقد فصلنا هذا فيما مضى، والذي نَزِيدُه أن ابتداء الكتابة لو كان في زمان نهب وغارة، ثم استمرت تلك الحالة، فجاء المكاتَب بالنجم، فقال السيد: لا أقبله للضرر، وقال المكاتَب: لقد كانت هذه الحالةُ مقترنةً بالعقد، ولم يتجدد أمر لم يكن، ففي هذه الصورة وجهان للأصحاب: أحدهما - أن السيد لا يُجبر على قبول النجم المعجَّل. والثاني - أنه مُجبر عليه؛ لاستواء الحال.
فصل
قال: " ولو عَجّل بعضَ الكتابة على أن يبرئه من الباقي ... إلى آخره " (1).
12584 - صورة المسألة: أن السيد إذا استدعى من المكاتب أن يُعجِّل له نجماً، فقال المكاتب: أُعجل لك بشرط أن تَحُطَّ عني بعضَ النجم، فقد نقل المزني في هذا ترديداً في النص، وجعل المسألة على القولين في أن الإبراء هل يصح على هذا الوجه [، وهل يصح الأداء] (2) على هذا الوجه؟
وقد ذهب المحققون من الأصحاب إلى تغليط المزني ونسبتِه إلى الوهم والزلل؛ فإن الإبراء المعلَّقَ بالشرط باطلٌ، وتعجيلُ أداء النجم -إذا عُلق بشرطٍ- غيرُ صحيح، وليس هذا مما يجوز التماري فيه.
وذهب الأكثرون إلى حمل كلام الشافعي على غير الشرط، وقالوا: المسألة
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 280.
(2) في الأصل: مكان بين المعقفين " قبل الأداء ".

(19/438)


مفروضة فيه إذا عجّل المكاتب، فتفضّل السيد من تلقاء نفسه وأبرأ عن مقدارٍ، فأما إذا جرى الشرط على حقيقته، فليس إلا الفساد، فإن جرى الإبراء معلَّقاً بشرط التعجيل، فسد، والدَّينُ بكماله باقٍ، وإن عجل المكاتَب الأداءَ، وشرطَ الإبراء، فأداؤه باطل.
ولست أستجيز أن أنقلَ جملةَ ما اختلف الأصحاب فيه في هذا الفصل؛ فإني لست أرى فيه مزيد فقه، ولا كلاماً مُخيلاً تَمَسُّ الحاجةُ إلى نقله ليعتمد، هذا مضمون الباب.
12585 - ثم نقل الأصحاب عن الشافعي شيئاً، إذا أفسدنا الأداء المشروط وهو مذكور في (السواد) قال: " إن أراد أن يَسْلَم له مقدارٌ من النجم، فليقل للمكاتَب: عجِّز نفسك وأنا أُعتقك على المقدار الذي أبغيه منك " (1).
وهذا الذي ذكره الشافعي مشكل، فإنه إذا عجّز نفسه، انقلب إلى السيد جميع ما في يده، فمن أي موضع يؤدي المشروط أولاً؛ ثم السيد بعد جريان التعجيز يستبد بجميع ما في يده، وتنقلب رقبته إليه رقيقاًً، ولا يلزمه الوفاء بإعتاقه على مال، فذلك العوض يقع في ذمته، وقد فاز السيد بجميع ما كان منسوباً إلى مِلْكه قبل التعجيز، فكيف ينتصبُ هذا ذريعة إلى تحصيل التعجيل، مع تحقيق غرض المكاتَب في التخفيف عنه في مقدارٍ من النجم، وهذا استئصالُ جميعِ ما في يده مع إلزامه مزيداً في ذمته.
ووراء ما ذكرناه نوعان من الإشكال آخران: أحدهما - أن غرض المكاتَب استتباعُ أكسابه وأولاده، وإذا عجّز نفسَه، وانقطعت المكاتبة، لم يتبعه الكسب والولد بعد انقطاعها. هذا وجه. والوجه الثاني - نورده جواباً عن سؤال، قال صاحب التقريب: إن أراد المكاتب أن يثق بموعد السيد، لم يُسعفه بما قال، حتى يقول المولى: إذا عجَّزت نفسك، ثم أعطيتني ألفاً، فأنت حر، فتحصل الثقة بعد حصول التعليق.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 280. والذي نقله الإمام هنا ليس لفظ المختصر، بل بمعناه.

(19/439)


وهذا فيه نظر؛ من جهة أن تعليق العتق بالأداء يقع إنشاؤه في حالة استمرار الكتابة، وما لم ترتفع الكتابة، لم يصح إثبات عقد عَتاقة آخر على مال، فكأنه أوقع تعليق عقد في وقت لا يملك إنشاءه، ومن مذهب الشافعي أن ما لا يصح تنجيزُه في وقت لا يصلح تعليقُه فيه، وهذه أمور مضطربة، لا يشك الفقيه في خروجها عن ضبط المذهب على أي وجه قُدِّر، ثم إن جُوِّز مثلُ هذا التعليق، تعويلاً على استمرار الملك، فكيف الجواب عن استتباع الكسب والولد.
وقد قال شيخي أبو محمد رضي الله عنه: من أصحابنا من قال: إذا أدى بعد التعجيز ما شرط عليه، استتبع الكسبَ والولدَ، فإن هذا شرطٌ جرى في كتابةٍ لتحصيل غرض المولى.
وهذا عندي لا مساغ له، وهو هدمُ أصل المذهب، وإثبات ما لا يليق مثلُه بقاعدة الشافعي، وإن لم يكن من مثل هذا بدٌ؛ رعايةً لغرض المولى والمكاتب، فما ذكره المزني من نقل قولٍ في صحة الأداء والشرط أمثلُ من هذا، ولا خير في شيء منه.
والوجه أن يقال: في نقل ذلك خلل، أو بادرةٌ صدرت من غير فكر من ناقلٍ على قياس مذهب الشافعي. والله أعلم. ثم المعلَّقُ عتقه بالأداء إذا أدى ما لا يملك، ففيه كلام طويل وتفصيل، ثم عاقِبتُه أن يغرم قيمةَ نفسه، ويفوزَ السيد بما يأتي به من حساب ارتداد الأكساب إليه بسبب تعجيز المكاتب نفسه، وبالجملة هذا سوء تدبير العبد.
***

(19/440)


باب بيع المكاتب وشرائه (1)
قال: " وبيعُ المكاتَب وشراؤه ... إلى آخره " (2).
12586 - مقصودُ الباب ضبطُ المذهب فيما ينفذ من معاملات المكاتَب، وفيما لا يصح منه الاستقلال به، ولو فعله بإذن المولى، ففيه قولان.
فنقول: بيعُه بثمن المثل من غير أجلٍ نافذٌ، وشراؤه إذا لم يتضمن التزامَ غَبْن، صحيحٌ، وانفرادُه بما هو تبرع من المريض محسوب من الثلث مردودٌ، وإذا تبرع بإذن السيد، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أن تصرفه ينفذ؛ فإن الحق لا يعدوهما. والثاني - أنه لا ينفذ؛ لأن المكاتب باستقلاله خرج عن التعرض لإذن المولى، فضعف من هذا الوجه إذنُه، وامتنع انفراده بالتبرع؛ فانتظم من ذلك انحسام التبرع عليه؛ فإن الإذن إنما يقع الموقع ممن يملك الاحتكام، وليس السيد كذلك، وهذا مذهب أبي حنيفة (3).
ثم ألحق الأصحاب بما يمتنع على المكاتب التسري؛ بما فيه من الإفضاء إلى الإعلاق، وتعريض الموطوءة لخطر الطَّلْق، وهذا بمثابة منعنا الراهنَ من وطء الجارية المرهونة. وكان شيخي لا يُبعد إجراءَ الوجهين في وطء الجارية يُؤْمَنُ حَبَلُها.
وهذا غير مرضيٍّ -وإن أجرى الأصحاب هذين الوجهين في الراهن والمرهونة- من جهة أن المكاتب عبدٌ، وهو بالوطء يتصرف في نفسه بما يوهي القوة ويُضعف المُنَّة، ولا ضبط يُتخذ مرجوعاً للمذهب فيما يجوز من ذلك ويمتنع، والوجه الحسم، وإن أراد التسري بالإذن، ففيه الخلاف المذكور، كما تقدم في جميع التبرعات.
__________
(1) ت 5: " باب نكاح المكاتب وشرائه ".
(2) ر. المختصر: 5/ 280.
(3) ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 63، الفتاوى الهندية: 5/ 6.

(19/441)


12587 - ومما ألحقه الأصحاب بقبيل التبرع البيعُ نسيئة من المليء الوفى، وإن فُرض تأكيد الثمن بوثيقة الرهون، وهذا فيه بعض الغموض؛ فإن مثل هذا مما نجوّزه للقيّم، أو للأب، في مال الطفل مع شدة العناية بالنظر له، ورعايةِ نهاية الغبطة.
والذي أراه أن هذا لا يُخَرَّجُ على قانون المذهب في منع الوكيل المطلق عن البيع نسيئة؛ فإنا نُدير أطراف تلك المسألةِ على العادة إذا اطردت، وعليها إذا اضطربت، والمالك للأمر هو الموكِّل، وليس المكاتَب متصرفاً للسيد، حتى يُحمَلَ تصرفُه على ما يقترن بالإذن المطلق من العادات، ولكن الوجه فيه أن رفع اليد عن المبيع غررٌ في الحال، والكسبُ حقُّ السيد، وإنما أثبت الشرع للمكاتب التصرفَ فيه على شرط ألا يركب غرراً ناجزاً، ورفعُ اليد عن المبيع غرر، وفيه تحقيق للضرر على ارتقاب فائدةٍ في العاقبة، وهذا تصرف من المكاتب في الكسب، حقُّه أن يكون للمولى بما يقطع السلطان عنه في الحال، ويستبدل عن النقد وعداً قد يُخلف.
وليس تصرفه كتصرف الولي في مال الطفل؛ فإنه محمول على ما يعدّ مصلحة، والبيع الموصوف يُعدُّ مصلحةً، والمكاتب لم ينصبه الشرع ناظراً، والكسب في الحقيقة ليس له؛ فلينحصر تصرفه على أمر ناجز يكون ذريعةً إلى تحصيل العتق، والدليل عليه أن المريض إذا باع نسيئة طال نظر الفقيه في اعتبار تصرفه من الثلث، على تفاصيلَ قدمناها في الوصايا، والسبب فيه أنه في الثلثين متصرفٌ في حق الورثة، فلم ينصبه الشرع ناظراً لهم، فهذا تحقيق ما أردناه.
والذي أراه القطعُ بأنه يبيع العَرْضَ بالعَرْض؛ إذ لا [غرر] (1) والمالية هي المرعية، بخلاف الوكيل؛ فإن أمره مفارقٌ لأمر المكاتَب، والمريض ينفذ منه بيع العَرْض إذا عريت الصفقة عن غبينة.
12588 - وأما إذا أراد أن ينكح، فلا شك أن النكاح يجر إليه مؤناً، ويُلزمه في الحال المهر، وليس مستبدِلاً عنه مالاً على الحقيقة، ولكن الحاجة قد تمسّ، فاضطرب أصحابنا: فمنهم من نزّل نكاحه منزلةَ التبرعات في الاستقلالِ، والصدورِ
__________
(1) في الأصل: " غرض " وفي (ت 5): " عرض ".

(19/442)


عن الإذن، وهذا هو القياس المعتمد. ومنهم من قطع القول بصحة النكاح، إذا صدر عن إذن المولى؛ للحاجة التي أشرنا إليها.
وهذا ليس بشيء؛ من وجوه: منها - أن أحداً من الأصحاب لم يُطلق انفرادَه بالنكاح، ولو تحقق التعويل على الحاجة، لوجب إلحاق نكاحه بأكله وشربه حتى يستبدَّ به، ولم يصر إلى هذا أحد. والآخر - أن التسري يلزم إخراجُه على قياس النكاح، وإن كان فيه تعريضُ الجارية لخطر الطَّلْق. والآخر - أن مدة الكتابة متناهية، فلا يبعد تكليفُه الصبرَ، وارتقابَ الخلاص من الرق.
وأما تزويج المكاتبة، فالنظر فيه على وجه آخر، فإنه ليس من التبرع، حتى يُلحقَ بما قدمناه، ولكن عَسُر مُدرك تصحيحه؛ من جهة أنها لا تستقل، والسيد لا يليها، وليس مالكَها المستقل؛ فمن هذا الوجه التحق تزويجها في ظاهر الأمر بتزوج المكاتب، وإن بَعُد المأخذان، وإنما يتشابهان في ظاهر الحال (1)، ومن الأصحاب من يقطع بالمنع، لما نبّهنا عليه.
12589 - ومما ذكره الأصحاب أن المكاتب إذا باع بنقدٍ لم يبدأ بالتسليم للمبيع؛ فإن هذا رفعُ اليد من (2) المال على غرر، فكان في معنى البيع نسيئة.
واختلف أصحابنا في أن المكاتب هل يُسْلمُ في أجناس الأموال على شرط الغبطة؟ فمنع منه الأكثرون، على القياس الممهد؛ فإن مقتضى السَّلَم تسليمُ رأس المال في المجلس، وانتظار المسلَم فيه بعده، سيّما إذا كان السلَم مؤجلاً، وجوّز بعض أصحابنا السلَم، وهذا هوسٌ مع منع البيع نسيئة، وكنا نود لو وُجد مذهب في تجويز البيع نسيئة، لما قدّرنا فيه من الغبطة، فإذا لم نجده، وجب طرد قياس الباب، ولم أر هذا القياس إلا في بعض التصانيف، ولست أعتدّ به.
ولا يهبُ المكاتب بالثواب المجهول، وإن كنا قد نصحح الهبةَ كذلك من الحر المطلَق، والسبب فيه أن من العلماء من يُنزل الهبة بالثواب المجهول -إذا صحت-
__________
(1) ت 5: " في ظاهر الخلاف ".
(2) (مِن): بمعنى (عن).

(19/443)


على ما يسمى ثواباً، وقد يجري بهذا حكم حاكم، وأيضاً فلا وصول إلى استحقاق الثواب إلا بتسليم الموهوب أولاً، وهذا لا نسوّغه.
ولو وهب بثواب معلومٍ على شرط الغبطة، فإن قلنا: هذه الهبةُ بيعٌ، ولا يشترط في إثبات الملك فيها الإقباض (1)، فهي مُجْراةٌ على قياس البيع، وإن شرطنا الإقباض، ففيها من النظر ما ذكرناه مع سؤالٍ، وهو أن من شرط الإقباض لا يوجبه، فلا يمتنع أن يصحح الهبةَ، وَيمْنعَ من الابتداء بالإقباض، حتى يسبق قبض العوض، وهذا لا يبعد عن وجه الرأي، وليس كالبيع نسيئة؛ فإن موجَبَه وجوبُ تسليم المبيع قبل القبض في الثمن.
12590 - فإن قيل: ذكرتم هذه المسائل المرسلة، فهل من ضابط؟ قلنا: الأصل المتبع فيها ألا يرفع يدَه عن جزء من كسبه، لا بتبرع، ولا بركوب خطر، ويحصر تصرفه على ما لا يزيل يدَه عن عوضِ ما يُخرجه من غير قبول حطيطة وغبن لا يتساهل في مثله طلابُ الأموال؛ فإن الكسب في الحقيقة للمولى، وإنما ملّكه الشرع التبسط فيه على شرط الاقتصار على ما ذكرناه.
وكان شيخي رضي الله عنه يقول: لا يُحلّ له أن يتبسط في الملابس والمآكل، ولا نكلفه أيضاً الإقتار المفرط، بل ليكن ما أشرنا إليه لائقاً بحاله، من غير سرف ولا تقتير.
12591 - ومما نذكره أن هباتِه وتبرعاتِه إذا صدرت عن إذن المولى، خرجت على القولين في سائر التبرعات.
[ولو أذن له المزني في إعتاق عبد من عبيده، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من خرَّج ذلك على القولين في سائر التبرعات] (2)، ومنهم من قطع برد العتق لمكان الولاء، ولو قدر العتق، لاضطرب الرأي في الولاء، على ما سنصفه الآن في التفريع.
__________
(1) عبارة (ت 5): " فإن قلنا: هذا بيع، ولا نشترط الهبة في إثبات الملك فيها الإقباض ".
(2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 5).

(19/444)


فإن حكمنا بأن العتق مردود وإن صدر عن الإذن، فلا كلام. وإن نفذنا العتق: ففي الولاء قولان مشهوران: أحدهما - أن الولاء يكون لسيد المكاتب؛ فإن إثباته للمكاتب محال، وهو رقيقٌ بعدُ، وتعليق الولاء ووقفُه إلى أن يَبينَ أمرُه في المستقبل بعيد، (1 وتعرية العتق عن الولاء لا وجه له. وإذا كنا نجعل ولاء المكاتب للمولى إذا عَتق 1)، فلا يبعد أن نجعل ولاءَ معتَقه للمولى أيضاً. هذا قول.
والقول الثاني - أن الولاء موقوف؛ فإنْ عَتَقَ المكاتب، فولاء معتَقه له، وإن رقَّ فالولاء موقوف بعدُ؛ فإنا نرتجي عتقه بعد العجز من أوجه، فإن مات رقيقاًً فيكون الولاء حينئذ لسيده.
وهذا فيه بعضُ النظر، فلا يمتنع أن نقول: إذا رق المكاتب، فولاء معتقه لمولاه من غير أن نرتقب عتقاً آخر، فإنا نتبين إذا رق أن تصرفه على حكم استقلال الكتابة قد انقطع، فإن فُرض عتقه بعد الرق من وجه آخر، لم يتعلق ما تقدم في حال الكتابة بهذا العتق الواقع بعد انفساخ الكتابة. والله أعلم.
وذكر صاحب التقريب في الولاء أنا إذا نفذنا العتق، وقلنا: الولاء للسيد في الحال، فلو عتق المكاتب، فهل ينجر الولاء إليه من سيده؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا ينجر، وهو القياس.
[وجرّ الولاء ليس أمراً منقاساً] (2)، والواجب اتباعُ موضع الإجماع فيه، ومحل الوفاق جرّ ولاء السراية من موالي الأم إلى موالي الأب، إذا فرض إعتاق الأب، فأما الجر من السيد إلى المكاتب بعد العتق، فليس في معنى ما ذكرنا.
والوجه الثاني - أنا نجر؛ لأنا أثبتنا الولاء للسيد إثباتَ ضرورة؛ من حيث لم نجد بداً من إثباته، ولم نجد من نضيف الولاء إليه غيرَ السيد، فإذا عتق المكاتب، جررنا إليه؛ فإنه المباشر، وقد انتهى إلى حالةٍ يُتَصَّور منه إنشاء الإعتاق فيها، واستحقاق الولاية.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 5).
(2) عبارة الأصل: " وهو أن جر الولاء ليس أمراً منقاساً "، والمثبت من عبارة (ت 5).

(19/445)


وحقيقةُ الجرِّ صرفُ الولاء إلى جهةٍ قوية بعد ثبوته لجهة دونَها في القوة.
12592 - ومما يتعلق بتفصيل القول في ولاء معتِق المكاتَب، أنا إذا حكمنا بكونه موقوفاً، فلو مات معتَق المكاتب قبل عتق المكاتب، ولم يخلّف من يتقدم على المولى، فما حكم ميراثه؟
قال صاحب التقريب: في المسألة وجهان: أحدهما - أنا نقف إلى أن نتبين أمرَ الولاء. والثاني - أنا نصرفه إلى بيت المال، وذلك لأن المكاتب لو عَتَق مثلاً، فإنا نُثبت له الولاء الآن، ولا نُسند ثبوتَه إلى ما تقدم، هذا لا شك فيه إذا فُرض عتقه، وإنما يتردد نظر الفقيه إذا مات المكاتب رقيقاً، وأثبتنا الولاء للسيد، فقد يظن الظان أنا نتبين ثبوت الولاء حالة الإعتاق، ويعارضه ألا نقول ذلك مصيراً إلى أن استقلال المكاتب في حالة الكتابة ينافي ثبوت الولاء للمولى، فيجب صرف الولاء إليه من وقت موته رقيقاًً على التفاصيل التي ذكرناها، وهذا فيه احتمال بيّن، وكأن الولاء معلق، وليس على قياس الموقوفات التي يستند الأمر فيها إلى ماضٍ على طريق التبين، وإذا كان كذلك، فالوجه صرف الميراث الناجز إلى بيت المال.
وعن اضطراب القول في الولاء ذهب ذاهبون من الأصحاب إلى قطع القول بأن العتق لا ينفذ من المكاتب قولاً واحداً -وإن أذن المولى-.
ومما نذكره من حكم الولاء أن المكاتب إذا عَتَقَ، فولاؤه لمولاه، لم يختلف الأصحاب فيه.
ولو باع السيد عبدَه من نفسه بمالٍ في الذمة، وصححنا هذه المعاملة، على ما سيأتي شرحها في فروع الكتابة، عند ذكرنا عقودَ العتاقة إن شاء الله، فيعتق العبد إذا قبل البيع، والأصح أن ولاءه لمولاه؛ قياساً على ولاء المكاتب. ومن أصحابنا من قال: لا ولاء عليه، فإنه يملك بالابتياع نفسَه، ويعتق على نفسه، فلو ثبت الولاء، لثبت له. وهذا محال، فالوجه نفي الولاء في هذه المعاملة.
ولا خلاف أن من اشترى من يعتق عليه، فالولاء للمشتري؛ فإن الولاء ترتب على ملكه، وهذا القائل يفرق بين شراء العبد نفسه وبين الكتابة، ويقول: موضوع الكتابة

(19/446)


على تحصيل العتق بملك السيد، فكان هو المعتِق في الحقيقة، وليس كذلك بيع العبد من نفسه؛ فإن العوض يقع في الذمة يؤديه بعد الحرية، وسيأتي شرح الكلام في بيع السيد عبدَه من نفسه، وإنما ذَكَرْنا هذا المقدارَ لأجل الولاء.
فرع (1):
12593 - إذا كاتب المكاتب عبداً من عبيده، فهذا من تبرعاته، فيمكن أن يُلحَق بهباته، ويمكن أن يلحق بتنجيز العتق في ترتيب المذهب، ثم إن صححنا منه الكتابة بالإذن، نظرنا، فإن عتق المكاتب الأول، ثم عَتَق الثاني، فولاء المكاتب الثاني للمكاتب الأول، وإن عتق المكاتب الثاني قبل الأول؛ ففي ولائه القولان المذكوران.
فرع:
12594 - لا يشتري المكاتب من يعتِق عليه مستقلاً؛ فإن هذا بذل مالٍ في مقابلة ما لا يملك التصرفَ فيه، فإن جرى ذلك بإذن المولى، فهو بمثابة سائر التبرعات.
ولو وُهب للمكاتَب من يعتق عليه، أو أوصي له به، فقبل: نُظر. فإن كان زمِناً غير كسوب، لم يصح انفراده بالقبول، لأنه يستجرّ بهذا القبول مؤناً إلى نفسه، وليس فيما يفعله غرضٌ مالي، وإن كان الموهوب كسوباً، بحيث يفي كسبُه بمؤنه؛ فقد قال الأصحاب: يصح منه القبول؛ فإنه ليس باذلاً مالاً، ولا جارّاً إلى نفسه مؤنةً.
ثم إذا قَبِلَ، فمَرِض المقبولُ في يده، فلا بد من الإنفاق عليه من المال الذي في يده؛ إذ لا سبيل إلى قطع ما ألزمناه وحكمنا بثبوته.
وقد حكى الشيخ أبو علي عن أبي إسحاق المروزي أنه جوّز للمكاتب أن يشتريَ أباه بذن مولاه قولاً واحداً إذا كان كسوباً؛ قد يستفيد من كسبه مالاً جماً، وفيه صلة الرحم.
وهذا فاسد لا أصل له.
ثم إذا اتهب المكاتب أباه الكسوب، أو قبل الوصيةَ فيه، وصححناه على التفصيل المقدم، فلا يجوز للمكاتب أن يبيعه.
__________
(1) سقط من (ت 5) هذا الفرع والفروع التي تليه وفصلان بعدها.

(19/447)


وحكى الشيخ أبو علي عن ابن أبي هريرة أنه يصح من المكاتب بيع أبيه وولده، وهذا غريب، لم أره إلا للشيخ في شرح الفروع، ولا يجوز الاعتداد بذلك، وفيه هدمُ أصلٍ عظيم في المذهب، وهو تكاتب الولد (1) -على ما تقدم التفصيل فيه- ولو صح هذا للزم على قياسه تجويز بيع الولد الذي تأتي به جاريته منه، فإن طرده كان خارقاً للإجماع، وإن لم يطرده كان ناقضاً لمذهبه.
ومما يتصل بذلك أنه إذا جُوّز للمكاتب بيع أبيه وولده، فينبغي ألا يُمنع الشراء فيهما؛ فإنهما ينزلان منزلة سائر العبيد، وهذا تخليط لا سبيل إلى التزامه.
ولو اتهب نصف ما يعتق عليه، ثم عَتَق المكاتب، فيعتِق عليه ذلك النصفُ الذي ملكه، وهل يسري الآن إلى النصف الثاني؟ قال ابن الحداد: يسري العتق إلى النصف الثاني إن كان المكاتَب موسراً يوم العتق، فإنه يملك نصفه قصداً، فاقتضى ذلك السراية، وقال القفال: لا يسري العتق. فإن السراية لم تثبت ابتداء، فلا تثبت بعدها. قال الشيخ أبو علي: الصحيح ما قاله ابن الحداد، فإن السراية ما تأخرت عن العتق، ولكن العتق حصل يوم العتق للمكاتب.
فرع:
12595 - ظهر اختلاف الأصحاب في أن العبد إذا وُهِب له شيء، فقَبِله من غير إذن سيده، فهل يصح منه قبوله؟ فعلى وجهين سبق ذكرهما في مواضع، وإذا صح قبوله، دخل ما قبله في ملك السيد، فلو وُهب للعبد أَبُ سيده، فإن كان السيد فقيراً بحيث لا يلزمه نفقَةُ القريب، فقبِل العبد الهبة -والتفريع على تصحيح قبوله للهبة- فيدخل أب السيد في ملك السيد، ويعتق عليه.
وإن كان السيد موسراً، وكان أبوه القن كسوباً بحيث لا تجب نفقته -والتفريع على صحة قبول الهبة- فيصح، ويدخل في ملك السيد، ويعتِق عليه.
ولو كان الأب زمِناً بحيث لو عَتَق على ابنه الموسر، لاستوجب النفقة بالقرابة.
فإذا قبله العبد منفرداً بالقبول، فلا يصح منه القبول؛ لأن فيه إضراراً بالسيد، ولو قبل
__________
(1) يشير إلى أن ولد المكاتب -على المذهب- يتبع أباه في عقد الكتابة، ويعتق بعتقه. هذا معنى قوله: " تكاتب الولد ".

(19/448)


العبد نصفَ أبيه وسيدُه موسر والأبُ بحيث لا تلزم نفقتُه، فهل يصح القبول تفريعاً على تصحيح قبول الهبة؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما - يصح ويعتق على السيد النصفُ، ولا يسري العتق؛ فإنه لم يدخل في ملكه بقصده، فصار كما لو ورث نصفَ أبيه.
والوجه الثاني - أنه لا يصح قبولُ العبد نصفَ أب سيده، فإنه لو صح، لعتق على السيد، ولسرى؛ فإن قبول العبد كقبول السيد. وهذا ضعيف في القياس.
قال الشيخ: تفصيل القول في قبول العبد بعضَ من يعتق على سيده، كتفصيل القول في أن وليَّ الطفل هل يقبل له نصفَ أبيه، والطفلُ موسرٌ، فعلى وجهين: أحدهما - يقبله، إذا كان لا تجب نفقتُه ولا يسري، والثاني - لا يصح قبوله أصلاً.
فرع:
12596 - المكاتب إذا اشترى أبَ سيده، صح ذلك منه؛ فإنه لا ضرار على المكاتب، ولا نقصَ، فلو أنه باعه بابن سيده، ثم عاد المكاتَب رقيقاًً فابن السيد يَعتِق على السيد، لا شك فيه. فلو أنه وجد بابنه عيباً قديماً، فلا يرده، فإنا حكمنا بعتقه عليه، ولكن يثبت له الرجوع بالأرش، والأرش قسط من الثمن، فإذا كان العيب ينقص من قيمة ابنه عُشراً، فله أن يرجع بعشر [أبيه] (1)، وهو الثمن، ثم إذا رجع بعُشر [أبيه] (1) أرشاً، فذلك العشر يعتق عليه.
وهل يسري العتق إلى الباقي؟ قال الشيخ: إن كان المكاتَب هو الذي عجّز نفسَه ولم يكن للسيد فيه اختيار، فيعتِق عليه عُشر أبيه أرشاً، ولا يسري العتق أصلاً؛ فإنه لم يوجد من السيد في ذلك قصد، ولو أن السيد عجّز المكاتَبَ، ثم حكمنا بعتق العُشر، فهل يسري؟ فعلى وجهين سبق لهما نظائر.
والذي يتم بيان الفرع به أنه إذا عتق الابن على السيد، وثبت له الرجوع بقسطٍ من أبيه أرشاً -كما قدمنا- فهل ينقلب إليه ذلك الأرش قهراً، أم لا بد من اختياره فيه، حتى لو لم يُرِدْه، لم يرجع؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه ينقلب إليه من غير اختياره ويعتق عليه، وهذا اختيار الشيخ أبي علي. والثاني - أنه لا ينقلب إليه من غير
__________
(1) في الأصل: " ابنه ".

(19/449)


اختياره. وقد ذكرت طرفاً من ذلك في خروج النجم المقبوض معيباً فيما تقدم من الفصول.
فإن قلنا: ينقلب قسطٌ من الأب من غير اختيارٍ، والسيدُ هو المعجّز، فعلى وجهين. وإن قلنا: لا بد من اختياره في استرجاع الأرش، فالظاهر السريان في هذه الحالة.
فرع في بقية تصرفات المكاتب:
12597 - اختلف القول في أن المكاتب هل يسافر من غير إذن مولاه؟ فيما حكاه صاحب التقريب والعراقيون: أحد القولين - أنه لا يسافر؛ إذ لو سافر يخرج عن مراقبة السيد، وانسلّ عن حكم ضبطه بالكلية.
وهذا سرفٌ ومجاوزة حد.
والقول الثاني -وهو القياس- أنه يسافر، لِما له من حق الاستقلال، وإذا قلنا: له الانفراد بنفسه ومسكنه في البلد، لم يغادر من الضبط شيئاً؛ فإن العبد المخلّى قد يخرج ويسافر، ثم قال العراقيون: اختلف أصحابنا في محل القولين، فمنهم من خصصهما بالسفر الطويل، وقطع القول بجواز السفر القصير، وهو القاصر عن مسافة القصر، ومنهم من طرد القولين في السفر الطويل والقصير.
فرع:
12598 - قد ذكرنا قولين في نفوذ تبرعات المكاتب بإذن المولى، وكان شيخي يقول: لو وهب المكاتب لمولاه شيئاً، صح قولاً واحداً، ولم يخرج على القولين. وذكر العراقيون في ذلك طريقين: إحداهما - ما ذكره شيخي. والأخرى - طرد القولين، وهو القياس.
ويتجه القطع بمسألة لا خلاف فيها، وهي أن المكاتب لو عجّل ديناً مؤجلاً عليه لأجنبي، لكان متبرعاً، فإن استقل، لم يجز، وإن كان بإذن السيد، فقولان، و [أما] (1) تعجيلُ المكاتب للسيد النجم، فيصح مذهباً واحداً، ولا فرق في ذلك بين النجم الأخير والنجم الأول، وقد ينقدح في ذلك فرق ظاهر، والمسألة على الجملة -أعني الهبة من السيد- محتملة، كما نبهنا عليه.
__________
(1) زيادة من المحقق.

(19/450)


فصل
12599 - للمكاتب أن يعامل مولاه كما يعامل الأجانب، فيبايعه ويشاريه، ويأخذ الشفعة من مولاه، ويأخذ المولى الشفعة منه، ولو ثبت- له دين على المولى، وثبت للمولى دين عليه، فيتصل هذا الفصل من هذا الموضع بالتقاصّ؛ وقد أحلنا استقصاءه على هذا الكتاب، ونحن نخوض الآن فيه، ونستعين بالله تعالى، وهو خير معين، فنقول:
في غير المكاتب والمولى، إذا ثبت لزيد على عمرو دينٌ، وثبت لعمرو على زيد مثلُه، واتحد الجنس والنوع، وكان الدينان حالّين، ففي التقاصّ أربعة أقوال، نص الشافعي عليها في كتب متفرقة: أحدها - أن التقاص لا يقع، ولو رجعنا به، لم يصح أيضاً؛ فإنه إبدال دين بدين، وهو لو صح على حقائق المعاوضة، وبيع الدين بالدين ممتنع.
والقول الثاني - أن التقاص يصح إذا تراضيا به، ويسقط الدينان، ولا يكون ذلك معاوضة محضة، ولكنه إسقاط دين بإزاء دين، وهو قريب الشبه من الحوالة؛ فإنها ليست معاوضة محضة وإن كان فيها معنى التقابل.
والقول الثالث - أن التقاص يثبت إذا دعا إليه أحدهما، وإن أبى الثاني، وهذا بمثابة ما لو دعا أحد الشريكين إلى قسمة الدار القابلة للقسمة؛ فإن الثاني مجبر على الإجابة، كذلك القول في التقاص.
والقول الرابع - أن الدينين إذا تساويا: قدراً، ونوعاً، وحلولاً، تساقطا من غير احتياج إلى فرض رضاً من أحد الجانبين؛ وذلك لأن أحدهما لو طلب عين ما طلب منه لكان ذلك في حكم العبث الذي لا يجزىء ولا يفيد، والمعاملات الشرعية مبنية على الإفادة.
قال صاحب التقريب: التقاص على الاختلاف الذي ذكرناه يجري في الدراهم والدنانير إذا اتحد النوع، وهل يجري في غيرهما من ذوات الأمثال؟ فعلى وجهين،

(19/451)


وسبب الاختلاف أن ما عدا النقدين قد يظهر التفاوت فيه بعضَ الظهور، ولو أجرينا التقاص في ذوات الأمثال -وهو الأصح- فهل يجري التقاص بين عَرْضين موصوفين في الذمة على قضية واحدة؟ هذا أولاً يستند إلى أن التقاص ليس معاوضةً محضة؛ إذ لو كان معاوضة، لامتنع إجراؤه في المسلم فيه، والعَرْضُ إنما يثبت في الذمة مسلماً فيه أو حالاً محله، وقد ذكرنا في الحوالة على السلم والحوالة به تفصيلاً، والتقاص عندي أبعد من المعاوضة من الحوالة، فإن التقاص تساقط ليس فيه إيفاء واستيفاء.
فإذا حصل التنبيه لما ذكرناه ففي التقاص بين العَرْضَين المتساويين نعتاً ووصفاً وجهان، مرتبان على الوجهين في ذوات الأمثال.
ولا تقاص بين مؤجل وحالّ، ولا بين مكسر وصحاح، وإن فرض منهما تسامح، فليس هذا من التقاص في شيء، وإنما يقع تعاوضاً لو وقع، وذلك ممنوع في الدينين.
ولو فرضنا دينين مؤجلين، فهل يجري التقاص بينهما، ولا طلبة في واحد منهما؟ هذا فيه احتمال عندي، والأوجه إجراء ثلاثة أقوال. فأما القول الرابع -وهو التساقط من غير رضاً- فلست أرى له وجهاً، والأجل عتيد والمَهَل كائن، وليس يبعد جريان هذا القول أيضاً.
وقد نجز ما أردناه في حقيقة التقاص.
فصل
" ولا يكفِّر في شيء من الكفارات إلا بالصوم ... إلى آخره " (1).
12600 - لا يستقل المكاتب بالتكفير بالمال، كما لا يستقل العبد القن بالتكفير بالمال، وإن ملّكه المولى، وفرّعنا على أن العبد يملك، فلو أذن المولى في التكفير بالإطعام والكُسوة، نفذ ذلك من الرقيق المملَّك على القول القديم، أما المكاتب، فهل يكفِّر بالمال إذا أذن المولى؟ فعلى قولين مبنيين على تبرعاته.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 280.

(19/452)


فإن قيل: هلا رأيتم التكفير بالمال ديناً على المكاتب حتى يؤديَه من غير مراجعة؟ قلنا: هو في ماله كالمعسر، ولذلك لا يتبرع -كما قدمناه- مستقلاً بنفسه.
ثم ذكر الصيدلاني طريقةً، فقال: إذا قلنا: العبد لا يملك، فالمكاتَب لا يكفِّر بالمال -وإن أذن المولى- قولاً واحداً، وإن قلنا: العبد يملك؛ فإذا ملّكه المولى، وأذن له في التكفير، كفر، والمكاتَب هل يكفِّر بالإذن؟ فعلى قولين، وهذا فيه فقه؛ من جهة أنا وإن حكمنا للمكاتب بالملك، فهو ملك ضرورة، وكأنه على ترتيب الرقيق فيما يتعلق بالتبرعات، حتى يقالَ: إذا قلنا: الرقيق لا يملك، فالمكاتب لا يتبرع قولاً واحداً، وإذا قلنا: الرقيق يملك، فحينئذ في المكاتب القولان.
وهذه الطريقة غير مرضية؛ فإن القولين في تنفيذ تبرع المكاتب وردّه منصوصان في الجديد، وما ذكره الصيدلاني يقتضي تفرعهما على القديم، فلا وجه إلا أن يقال: المكاتب من أهل الملك على الجملة، بخلاف القن. وفي تبرعاته قولان، سواء قلنا: يملك القن أو قلنا: لا يملك. فإنا وإن منعنا تمليك القن، فلسنا ننكر ثبوت الملك للمكاتب.
ثم في (السواد) مسائل تقدم ذكر جميعها، فلا نعيد منها شيئاً (1).
فصل
قال: " وبيع نجومه مفسوخ ... إلى آخره " (2).
12601 - المنصوص عليه في الجديد أن بيعَ رقبة المكاتَب فاسدٌ، ونص في القديم على جواز بيعه.
توجيه القولين: من منع البيعَ احتج بأن الكتابة لازمة من جهة السيد، فبيعه إياه لا يخلو: إما أن يرفع استحقاق العَتاقة، فإن كان كذلك، فهذا انفراد منه برفع حقٍّ لازم بجهة البيع، ومن أجار إعتاق الراهن، لم يُجز بيعه، وإن بقيت الكتابة، فيجب
__________
(1) إلى هنا انتهى الخرم الذي أشرنا إليه من (ت 5) منذ عدة صفحات.
(2) ر. المختصر: 5/ 280.

(19/453)


رد البيع؛ فإن استحقاق العَتاقة يمنع البيع، كحرمة الاستيلاد.
ووجه القول القديم أن المكاتب ينتقل إلى الورثة مملوكاً إرثاً، فلا يمتنع بيعه على هذا النحو. وهذا مدخول؛ فإن الإرث بابه أوسع، وهو يجري فيما لا يصح البيع فيه، إذ طريقه طريقُ الخلافة، وتنزيلُ الوارث منزلةَ الموروث، حتى كأن الحكم مستدام والمستحِق متبدِّل.
التفريع:
12602 - إن منعنا البيع، فلا كلام، وإن جوّزناه، فمعناه أنه في حق المشتري بمثابته في حق البائع قبل البيع، فيملك رقبته مكاتباً، ويستحق مطالبتَه، ومعتمد هذا القول حديثُ بريرة، فإنها جاءت إلى عائشة تستعين في كتابتها، فقالت رضي الله عنها: " إن شاء أهلك، صببت لهم ثمنك، وأعتقتك "، فرجعت إلى سادتها، ثم عادت وقالت: إن أهلي أبَوْا أن يبيعوني إلا أن يكون الولاء لهم، فأخبرت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: " اشتري واشترطي لهم الولاء ". ثم أصبح خطيباً، فقال: " ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، من شرط شرطاً ليس في كتاب الله، فهو باطل. كتاب الله أحق وشرطه أوثق. والولاء لمن أعتق " (1).
وفي الحديث إشكال إن صح. فإنه عليه السلام قال لعائشة: " اشترطي "، ثم أبان أن لا حكم لشرطها، وهذا يكاد يكون تغريراً، والرسول صلى الله عليه وسلم معصوم عن خائنة الأعين، فضلاً عما يضاهي التلبيس.
ْثم المشكل في التفريع على القديم أمر الولاء، فإنا لم نقطع الكتابة، ولم نفسخها، بل شبهنا انتقال الملك في المكاتب إلى المشتري بانتقاله إلى الوارث، ثم إذا عتق المكاتب على حكم الكتابة بعد موت المولى، فالولاء للمولى، وهذا في الشراء متردد مشكل؛ فإن الوارث خلف الموروث في استبقاء الأمر كما كان، والمشتري بخلاف ذلك، وحديث بريرة -إن صح- شاهد على أن الولاء للمشتري،
__________
(1) حديث بريرة واستعانتها بعائشة في كتابتها، متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (ر. البخاري: الصلاة، باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، ح 456، مسلم: العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، ح 1504).

(19/454)


فالأمر في الولاء متردد، والظاهر أنه للمشتري.
ولو كان عقد الكتابة فاسداً، فبيعه مع العلم بفساد الكتابة صحيح، وهو فسخٌ للكتابة.
وإن ظن البائع أن الكتابة صحيحة، فباعه على اعتقاد الصحة [أو وصى به] (1) على هذا الاعتقاد، فحاصل ما ذكره الأصحاب في البيع والوصية ثلاثةُ أقوال: أحدها - الصحة فيهما؛ فإن الظن لا يغير موجَبَ الحقيقة، والكتابةُ الفاسدة لا تمنع التصرف.
والقول الثاني - أنهما يفسدان، نظراً إلى موجَب العقد، وهذا يقرب من بيع الإنسان مالَ أبيه على ظن بقائه وهو حالةَ البيع ميتٌ في علم الله، والقول الثالث - أن الوصية صحيحة، والبيع مردود؛ فإن الوصايا تثبت مقترنة بالأغرار والأخطار، والبيع لا يحتملها، هذا في بيع المكاتب.
12603 - فأما بيع نجوم الكتابة: فقد منعه الأصحاب؛ من جهة أنها ليست لازمة، وللمكاتب أن يسقطها متى شاء، والبيع يستدعي ملكاً ثابتاً، فإذا كان لا يصح بيع المبيع قبل القبض، لبقائه في ضمان البائع، فبيع النجم -وهو غير متصف باللزوم- أولى بالامتناع.
وخرّج ابن سريج قولاً في جواز بيع النجوم إذا جوزنا بيع الديون، وفي بيعها قولان، تقدم شرحهما.
12604 - قال الأئمة: الاستبدال عن النجوم يخرج على بيع النجوم، فإن جوزنا بيعها، جوزنا الاستبدال عنها، وإن لم نجوّز بيعها؛ ففي الاستبدال عنها وجهان، والمذهب الذي عليه التعويل منعُ ضمان النجوم، وهذا يؤكد منع (2) الاستبدال، وإنما يترتب الاستبدال على البيع؛ من جهة جواز الاستبدال عن الديون اللازمة قولاً واحداً،
__________
(1) في الأصل: " إذا وصى به "، وفي ت 5: " وأوصى به ".
والمثبت من كلام العز بن عبد السلام. (ر. الغاية في اختصار النهاية: 5/ 459 - مخطوطة مرقمة الصفحات).
(2) سقطت من (ت 5).

(19/455)


مع اختلاف القول في بيعها. وسبب ذلك أن المبيع مقصود ملكاً وتوفية، وما يستبدل عنه، فالمقصود عوضه، وسقوط المستبدل عنه.
فإن جرينا على المذهب، ومنعنا بيع النجوم، فلو قبض المشتري النجومَ بتسليط البائع إياه على قبضها؛ ظاناً أنه يقبضها لنفسه، فهل يَعتِق المكاتب بقبضه إياها؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يعتق. لأنه سُلِّط من جهة سيد المكاتب على قبضها، فكان بمثابة الوكيل. والقول الثاني - أنه لا يعتِق؛ لأنه قبضها لنفسه، ولم يقبل الوكالة، بل لم يعمل بها، ونحن إن لم نشترط القبول في الوكالة، اشترطنا العمل بموجبها؛ فإن قلنا: يعتِق المكاتب، انقطعت الطَّلِبةُ عنه، وعلى المشتري رد ما قبض بعينه إلى البائع، وإن قلنا: لا يعتِق المكاتب، فبائع النجوم يطالب المكاتب بالنجوم، وهو يسترد من المشتري ما قبضه منه.
فإن قيل: قد ذكر بعض الفقهاء أن بيع المكاتب إذا صححناه، فمقصوده آيل إلى بيع النجوم، فكيف الوجه في ذلك؟
قلنا: المبيع في القديم رقبة المكاتب. والنجوم ثابتة تبعاً، ولا يرعى بين ثمن العبد وبين نجوم الكتابة تعبدات الربا.
***

(19/456)


باب كتابة النصراني
12605 - الذمي والحربي إذا كاتب عبده على شرط الإسلام (1)، فإذا أدّى، حصل العتق، ولكن لو قهر الحربيُّ مكاتَبه الكافرَ، انقلب رقيقاً (2)، فلا يقع الحكم بلزوم الكتابة في حقه، وإذا كان يرِقّ الحرُّ الكافرُ بالقهر، فعُلْقة العتاقة في المكاتب تزول بالقهر.
وإن كانت الكتابة فاسدة على موجب الشرع: مثل أن تُفرض بخمر أو خنزير، فإن حصل قبض العوض بكماله في الشرك، نفذ العتقُ، ولا مراجعةَ بعد الإسلام، وانقطعت الطلبة.
ولو جرى الإقباض في معظم العوض، واتصلت الكتابة بالإسلام، أو بالتزام الأحكام، والنزول على حكم حكام الإسلام، فإذا جرى القبضُ في البقية بعد ذلك، رجع المولى على العبد بقيمته، ولا حكم لما جرى القبضُ فيه من قبل، ولا نوزِّع القيمةَ على المقبوض قبل الإسلام والالتزام وعلى ما جرى الإقباضُ فيه في الإسلام؛ حتى يسقط ما يقابل المقبوض في الشرك، نظراً إلى ما لو جرى قبض الكل في الشرك.
والسبب فيه أن النجوم في الكتابة لا تثبت لها حقيقة العوضية إلا عند التمام؛ إذ لو
__________
(1) أي على شروط الكتابة الصحيحة في الإسلام.
(2) يشير بقهر مكاتَبه إلى أن عقد المكاتبة -الذي في أصله اللزوم من جهة السيد- ليس لازماً من جهة السيد الحربي؛ فإنه لا يلتزم الأحكام، ودارُهم دار قهرِ ومغالبة، يُسترق فيها الحر بالقهر والغلبة، فما بال المكاتب، بل لو غلب العبد سيده، وقهره، لاسترقه، وصار هو السيد.
هذا معنى هذه العبارة من كلام الإمام.
وقد صرح بما قلناه الرافعي حين قال: " ثم لو قهره السيد بعد ما كاتبه، ارتفعت الكتابة، وصار قناً، ولو قهر المكاتب سيدَه، صار حرّاً، وصار السيدُ عبداً؛ لأن الدار دار قهر، ولذلك لو قهر الحر حراً هناك ملكه، بخلاف ما لو دخل السيد والمكاتب دار الإسلام بأمان، ثم قهر أحدهما الآخر لا يملكه؛ لأن الدار دار حق وإنصاف " (ر. الشرح الكبير: 13/ 465).

(19/457)


فُرض عجزٌ في المكاتبة الصحيحة، بأن أن ما قبض من قبلُ لم يكن عوضاً؛ وإنما [كان] (1) كسبَ رِقٍّ مستَحَقٍّ لمالك الرق، فإذا تم القبضُ [عَتَق] (2) الكلُّ من غير تبعيض عوض، فلم يقبل التقسيط، والأعواض إجراؤها على حكم العوضية في المعاوضات، فانتظم فيها التوزيع. وهذا مما ذكرناه في كتاب النكاح وغيره.
12606 - ثم قال: " فإن أسلم العبد ... إلى آخره " (3).
إذا أسلم العبدُ الكافرُ تحت يد الذمي، حملناه على بيعه، فإن أبى، بعناه عليه، فإن كاتبه، فهل تسقط الطَّلِبةُ بالكتابة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا تسقط، وتفسخ الكتابة، ويباعُ العبدُ؛ فإن الفسخ ممكن بخلاف أمية الولد، والثاني - ننكف عنه؛ فإن الكتابة توجب استقلالَ المكاتب، وانقطاعَ سلطان المالك، وهي أجدى على العبد من حيث تُفضي إلى عتقه.
ولو كاتب الكافر عبدَه الكافرَ، فأسلم المكاتَب، فهذا يُبنى على ما قدمناه: فإن قلنا: الكتابةُ بعد الإسلام [تقطع] (4) الاعتراض على المولى، وتوجب الاكتفاء بها، فالإسلام إذا طرأ على المكاتَب، لم يؤثر. وإن قلنا: لا يُكتفَى في العبد المسلم بأن كاتبه مالكه. فإذا طرأ الإسلام على المكاتب، فهل تنفسخ الكتابة، ونبيعه؟ أم نديم الكتابة؟ فعلى وجهين، والفرق قوة الدوام.
ولو أسلم عبدُ الكافر، فطالبناه بالبيع؛ فدبّره، لم نكتف بذلك؛ فإن سلطانه باقٍ.
وإن دبر عبدَه الكافر، فأسلم، فهل نبيعه، أم نستبقي التدبير؟ ونضرب الحيلولة بينه وبين مولاه، كما نفعل ذلك في المستولدة، فعلى وجهين: أصحهما -على القياس- أنه يباع؛ فإن المدبر رقيق في جميع أحكامه. والذي يقتضيه القياس أن يباع على الكافر ما يصح بيعه. والله أعلم.
...
__________
(1) في الأصل: " بان ". والمثبت من (ت 5).
(2) في النسختين: " قبل " ولم أر لها وجهاً؛ فكان هذا المثبت منا.
(3) ر. المختصر: 5/ 281.
(4) في الأصل: " لا تقطع ". والمثبت من (ت 5).

(19/458)


باب كتابة الحربي
12607 - المعاهد أو الذمي إذا كاتب عبداً، ثم نقض العهد، ورام الالتحاقَ بدار الحرب، فللمكاتب أن يمتنع عن الخروج معه؛ لأن عقد الكتابة يقتضي هذا، ومما يجب التنبه له أن هذا العبد وإن كان كافراً، فله الامتناع، لأنه تعلق بذمة دار الإسلام، فنقره على موجَب الإسلام، ونجعل السيد معه، وإن جمعهما الكفر، بمثابة السيد المسلم إذا أراد المسافرة بمكاتبه، ورام المكاتَب التخلفَ عنه.
ثم ذكر الشافعي حكمَ المعاهد يُودِع عندنا، ويلتحق بدار الحرب فيموت، أو يسبى ويرِق، فكيف سبيل أمواله؟ وقد استقصينا هذا على أبلغ وجه وأحسنه، في كتاب السير.
1608 - ثم عقد بابا في كتابة المرتد (1)، وكتابتُه خارجة على أقوال الملك، وهي بمثابة تصرفاته، وقد ذكرناها، وذُكر الحجر عليه على قول بقاء ملكه، فلا خفاء بشيء من مضمونه.
...
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 282.

(19/459)


باب جناية المكاتب على سيده
12609 - ذكر المزني أحكام جناية المكاتب وأحكام الجناية عليه في أبواب، ولو نظم جميعَها في تقسيمٍ، لكان أضبط، ولكنا نتيمن بالجريان على مراسمه.
أما إذا جنى على سيده جنايةَ قصاص، وجب القصاص، وإن جنى عليه، أو على ماله، فهو مطالب بالأرش، كما لو جنى على أجنبي، وغَمْرةُ هذه الأبواب التعرضُ لاجتماع النجم، وديون المعاملة، وأروش الجناية للسيد والأجانب، وقد استقصينا هذا.
ومما نزيده أن المكاتب إذا جنى على سيده، أو على أجنبي، فبكم يطالب إذا كان أرشُ الجناية أكثرَ من قيمته؟ فعلى قولين، ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يطالَب بتمام الأرش؛ فإنه فيما يطالب به -ما دامت الكتابة- كالحرّ، والأرش لا يتعلق برقبته ما استمرت الكتابة.
والقول الثاني - أنه لا يطالب إلا بمقدار قيمة رقبته إذا زاد الأرش عليها؛ لأنه يملك تعجيز نفسه، وإذا فعل، فلا مرجع إلا إلى رقبته. هذا فيه إذا كان هو الجاني.
فأما إذا جنى عبدٌ من عبيده، فأراد أن يفديه، وكان الأرش أكثر من قيمته، فليس له أن يفديه بالأرش -وإن قلنا: الحر يفدي عبده بالأرش بالغاً ما بلغ -والسبب فيه أن الحر لا يلزمه الفداء. نعم، لو أراد الفداء، فأحد القولين أنه يفديه بالأرش التام، وإن أبى سلّمه للبيع.
فنقول: للمكاتب: ليس لك أن تفديه إذا قلنا: الفداء بالأرش التام، بل سلِّمه ليباع؛ فإنّ بذل الزيادة تبرعٌ، وهو ممنوع منه.
ولو قال: أبذل مقدار القيمة، فاتركوه، ولا تبيعوه -والتفريع على أن الفداء بالأرش- لم يُجَب إلى ما يبغيه.

(19/460)


12610 - ولو جنى المكاتَب على سيده جناية توجب مالاً، فأعتقه السيد، نُظر: فإن لم يكن في يده شيء، فقد قال الأصحاب: سقط الأرش؛ فإن السيد هو الذي أزال ملك الرقبة، وكانت متعلَّقاً للأرش؛ إذ لا مال غيرُ الرقبة، ويتطرق إلى هذا احتمال؛ أخذاً من استقلال المكاتَب ما دامت الكتابة والأرش متعلق بالذمة، والمملوك القن لو جنى على مولاه، فأعتقه، فلا خلاف أنه لا يستحق عليه شيئاً؛ فإن المولى لا يستحق في ذمة العبد شيئاً إذا كان قناً، حتى يفرض اتباعه به، بخلاف المكاتب؛ فإنا أوضحنا فيه احتمالاً على بعد.
ولو أعتق السيد المكاتبَ الجانيَ عليه وفي يده شيء، فهل يتعلق أرش الجناية بما في يده؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يتعلق؛ فإن الأرش لا يتعلق إلا بالرقبة عند ارتفاع الكتابة. والوجه الثاني - أنه يتعلق بما في يده، وفوات الرقبة بالعتق كفواتها بالموت، ولو مات المكاتب بعد ما جنى على سيده، وخلف وفاء، فقد ذكرنا اختلاف الأصحاب في ذلك.
ولو جنى المكاتب على أجنبي، ثم عَتَق بأداء النجوم، فلا يلتزم السيد فداءه بسبب حصول العتق؛ فإن الكتابة تقدمت على الجناية، والأداء حصل. مترتباً على الكتابة السابقة، ولو أعتق السيدُ المكاتبَ بعد الجناية أو أبرأه، فيصيرُ ملتزماً للجناية، فإن هذا اختيار منه لإزالة الرق بعد الجناية، فصار كما لو جنى رقيقه فأعتقه؛ فإنه يصير بالإعتاق ملتزماً لأقل الأمرين.
12611 - ولو جنى ابن المكاتب، لم يفده؛ فإنه إنما يفدي من يملك شراءه، والفداء بمنزلة الشراء، ولا يملك شراء من يعتق عليه؛ لأنه لا يملك بيعَه إذا ملكه.
ولو جنى ابنُه على عبده، فهل يملك بيعَه؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا يملك بيعَه، وهو الصحيح؛ فإنه لا يثبت في رقبته مالٌ؛ لأنه عبده، والأصل منع بيع الابن. والثاني - أنه يملك بيعه إذا (1) كان الأرش على قدر الرقبة؛ لأن
__________
(1) ت 5: " وإذا ".

(19/461)


عبد المكاتب إذا قتل عبده، لم يتعلق بالعبد القاتل شيء، إلا (1) القصاص على ما سنصفه؛ فإنه كان قبل الجناية يملك بيعه واقتناءه، وهو على ما كان عليه. والابن كان لا يباع قبل الجناية، فيجوز أن تفيد الجنايةُ بيعَه.
12612 - ولو قتَل عبدٌ للمكاتب عبداً آخر قَتْلَ قصاص [أو قتل عبدٌ لأجنبي عبداً للمكاتب قَتْل قصاص] (2) فالذي أطلقه الأصحاب أنه يثبت للمكاتَب حق الاقتصاص، وإن كان فيه [إسقاطُ] (3) المالية.
وخرّج الربيع قولاً، أنه لا قصاص للمكاتَب، إذا لم يُرد السيد ذلك، بل عليه أخذ الأرش؛ رعايةً لحق المولى في استبقاء المالية، وهذا مردود متروك عليه، وقد أجرى الربيع قوله هذا في قتل عبد المكاتب عبداً آخر، وفي قتل عبد لأجنبي [عَبْده] (4)، وفي بعض التصانيف تخصيص هذا التخريج بما إذا قتل عبد لأجنبي عَبْده. وهذا التخصيص لا أصل (5) له، والأئمة نقلوا التخريج على العموم.
12613 - ولو جنى السيد على يد مكاتبه، فأبانها، وقلنا: يجوز طلب الأرش قبل الاندمال -وفيه قولان ذكرناهما في الديات- فإذا كان ذلك الأرش على مقدار النجم، وكان من جنسه، وفرّعنا على وقوع التقاص من غير تراضٍ مثلاً، أو شرطنا التراضي، وتراضيا، حصل العتق، فلو سرت الجراحة، وأدت إلى الهلاك، وجب على السيد الجاني الديةُ الكاملة.
فإن قيل: الدية إبل، ولا يجري التقاص بين الإبل والدراهم، وقد بأن آخراً أن الواجب الإبل، فكيف حكمتم بالعتق، وهلاّ تبينتم أن لا عتق لبطلان التقاص؟
قلنا: إذا أوجبنا الأرش، أجرينا الملك فيه، فإذا بان آخراً وجوب الدية، نقضنا الملك بعد ثبوته، ولا نتبيّن أنه لم يقع الملك في الأرش المبني على الرق ودوامه.
__________
(1) ت 5: إذ القصاص.
(2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 5).
(3) في الأصل: " إثبات المالية ". والمثبت من (ت 5).
(4) في الأصل: " عنده ". والمثبت من (ت 5).
(5) ت 5: " لا أثر له ".

(19/462)


وهذا بمثابة ما لو أبق العبد المغصوب [وغَرم] (1) الغاصب للمغصوب منه قيمته، ثم عاد العبد فالغاصب يرده، ويسترد القيمة، ويكون ذلك نقضاً للملك في القيمة، لا رفعاً له من أصله، فالتقاص يبتني على هذه القاعدة، ويترتب العتق عليه، ثم إذا وجبت الدية، فلا مردّ للعتق.
ثم أعاد الأصحاب فصولاً في الجنايات، لم أرَ ذكر شيء منها. وقد أتيت على كل ما رأيت فيه فائدة من أبواب الجنايات.
ثم ذكر المزني أبواباً في إعتاق السيد المكاتب في مرض موته. وفي إنشاء المريض الكتابة، وفي وصيته بالكتابة، وقد أتيت على هذه الأبواب فقهاً وحساباً في كتاب الوصايا، ولم أغادر فيها مزيداً لمتنفس، ومهدت الأصول، ونظمت المسائل تترى، " وعند الصباح يحمد القوم السرى " (2).
ثم ذكر باباً في موت سيد المكاتب، ولست أرى فيه مزيداً.
...
__________
(1) في الأصل: " غرم ". (والواو) زيادة من (ت 5).
(2) مثل سائر (ر. الأمثال، لأبي عبيد: 170).

(19/463)


باب عجز المكاتب
12614 - قال الأئمة: الكتابة جائزة من جانب المكاتب، مهما (1) أراد فسخها، سواء كان قادراً على أداء النجوم أو عجز عنها.
وذكر العراقيون طريقةَ تخالف طريقةَ المراوزة، فقالوا: لا ينشىء المكاتَب فسخَ الكتابة، ولكن له الامتناع عن أداء النجوم مع القدرة، ثم إذا امتنع، فللسيد الفسخ، إذا لم تصل يده إلى النجوم، وهذا كرّروه مراراً، وصرحوا به.
وهذا بعيد؛ فإن الامتناع عن أداء النجوم مع أنه لا يملك الفسخ كيف يسوغ؟ وما ذكروه على الحقيقة عكسُ الصواب؛ فإنهم ألزموا الكتابة في جانبه، وجوزوا له ألا يفي (2) بها. وهذا كلام متناقض، والذي به العمل والفتوى أن المكاتب يفسخ الكتابة متى شاء، وما ذكروه يداني مذهب أبي حنيفة (3).
فأما السيد، فالكتابة في جانبه لازمة لا يملك فسخها، إلا إذا حل النجم، وعجز المكاتب، أو امتنع، فيثبت له حقُّ الفسخ، ويتصف العقد بالجواز في هذه الحالة من الجانبين.
فلو حلّ النجم، فاستنظر المكاتبُ، لم يَلْزمه إنظارُه إلا ريثما يخرج النجم من مخزن، أو دكان، ولو كان ماله غائباً، عجّزه المولى، ولم يَلْزمْه الإنظار.
فأما إذا كان المكاتب غائباً بنفسه، وحل النجم، فالمذهب أن للسيد أن يعجِّزه بنفسه، ولا حاجة لرفع ذلك إلى حاكم، وذكر العراقيون هذا وصححوه، وحكَوْا وجهاً آخر - أنه يجب رفع الواقعة إلى مجلس الحاكم؛ فإنه نائب عن كل غائب، ثم
__________
(1) مهما: بمعنى (إذا).
(2) ت 5: " أن يفي ".
(3) ر. الفتاوى الهندية: 5/ 17.

(19/464)


مهما (1) رفع السيد الأمر إلى القاضي واستدعى منه أن ينشىء الفسخَ، فالقاضي لا يجيبه، ما لم يتحقق عنده الأمر من حلول النجم، وظهورِ الامتناع، أو العجزِ، ولو فسخ السيد بنفسه، لكفاه ذلك.
وليس هذا حقاً ثابتاً على الفور، فلو أخره أياماً، ثم فسخ، جاز له الفسخ، ولو أنظره ثم بدا له، جاز له الفسخ.
12615 - ومما يجب التنبه له أن المكاتب لو امتنع عن أداء النجوم، وقدر السيد على رفعه واستيداء النجم منه، ولكن آثر الفسخ لما امتنع المكاتب، فكيف الوجه؟ وهذا غمرة الباب، والغرض منه يبين بذكر أصلٍ بيّن، وهو أن من عليه الدين إذا امتنع وقدر المرتهن على استيفاء الدين منه، فليس له مبادرة بيع الرهن، وإن لم يكن له رهن، فليس له أخذُ غير جنس حقه، نعم إذا تحقق التعذر، ففيه الكلام.
رجعنا إلى غرضنا، فإن ما قدمناه قد قررناه في موضعه، فنقول: لا يجب على العبد أداءُ النجم، فلا يتأتى توجيهُ الطّلبة عليه، وهذا واضح على طريق العراقيين، وهو على طريقنا بيّن؛ فإنَّ طلب الجائز (2) حملاً على تحصيل المطلوب محال، ولهذا لا يطالَب المشتري بالثمن في زمان الخيار، وإذا كان كذلك، فلا يتوقف الفسخ على تعذر الاستيفاء، بل إذا لم يوفِّ المكاتَب، فسخَ السيد.
ولو حل النجم، فجاء المكاتَب، فأنظره المولى، وخرج المكاتبُ بإذنه، فلو أراد الفسخَ كما (3) بدا له، لم يكن له ذلك. نعم، يُعلمه أنه ندم على ما قدم، ثم على المكاتب أن يسرع الكرة، فإن أخر بحيث يقال: قصّر، فللسيد الفسخ حينئذ. وهذا الطرف يضاهي عَوْد الشفيع على قول الفور للطلب، كما قدرناه في موضعه.
12616 - فلو جن المكاتب، وقلنا لا تنفسخ الكتابة على الرأي الظاهر، فإن عرف السلطان له مالاً -وقد حلّ النجم- أداه عنه.
__________
(1) مهما: بمعنى: إذا.
(2) ت 5: " الجاني ".
(3) كما: بمعنى (عندما).

(19/465)


وهذا فيه تأمل على الفطن؛ لأنه في حكم ولاية على مملوك، ولو كان مفيقاً ربما كان يفسخ، [أو لا يؤثر الأداء] (1).
ولو لم يصادف القاضي له مالاً، فإن فسخ السيد بنفسه، فلا كلام، وإن أفاق، وأقام بينة على أنه كان قد أدى، حكمنا ببيّنته، وتبيّنا فساد التعجيز.
ولو أفاق، وعرفنا أنه كان له مال؛ إذ عجّزه السيد، نُظر: فإن كان له مال في يد السيد، فالتعجيز مردود، وإن كان له مال لا يعرفه السيد، فالتعجيز نافذ بناء على قاعدة الباب، والسر الذي كشفناه في مأخذ الكلام في التعجيز.
ولو حل النجم، وفي يد المكاتب عَرْضٌ، والنجم من نقد البلد، فإن تأتى بيع العَرْض على الفور (2)، [لم يكن] (3) للسيد أن يفسخ. وإن كان ذلك العرض كاسداً، ولا يتأتى بيعه إلا بعد زمان، فظاهر ما ذكره الصيدلاني أن السيد لا يفسخ، ولست أرى الأمر كذلك، لما مهدته من أن المكاتب إذا لم يأت بالنجم، فهو المقصر، ويثبت للسيد عنده سلطان التعجيز، وقيمة العرض غائبة، فيتجه أن نجعلها كمالٍ غائب. والعلم عند الله تعالى.
فرع:
12617 - المولى إذا استسخر المكاتب مدةً، فموجب الواقعة أن يغرم له أجرة مثله في تلك المدة، (4 فإذا حل النجم، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يعجزه إن لم يكن معه وفاء؛ فإن المدة 4) التي استخدمه فيها عَوَّضه عنها، وقيمةُ المتلفِ تخلُف المتلفَ. وهذا هو القياس. والقول الثاني - أنه يلزمه أن يُنظره في مثل تلك المدة؛ فإنه ربما كان يتفق له في مدة الاستسخار تحصيلُ النجم، ولا يمكن سد باب التعجيز، فأقصى الإمكان أن يمهل مثلَ تلك المدة؛ فإنه لم يفته إلا ظنٌّ فيعوّضه عنه فسحةً للظن، تضاهي الفسحة الأولى.
ثم إذا أمهله على هذا القول، لم يستردَّ الأجرة؛ فإن الأجرة بدلُ متلف، وهذه
__________
(1) في الأصل: " إذ لا يؤثر الأداء "، وفي (ت 5): " أو لا يؤثر الإباء ".
(2) ت 5: " الغرر ".
(3) في الأصل: " ولم يكن ".
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 5).

(19/466)


الفسحة لمقابلة ظن بظن. وما دامت الكتابة قائمة، فليست المنافع للسيد، حتى يقال: هذا جمعُ عوضين عليه، أحدهما: الأجرة والثاني: الإمهال. والأقيس القول الأول.
وقد ذكرنا لهذا نظائر في كتاب النكاح إذا استخدم السيد العبد، وامتنع عليه الاكتسابُ للمهر والنفقة، وهذا تشابه في المأخذ.
ثم تفريع كل أصل على حسب ما يليق به.
ولو حبس غاصبٌ المكاتَبَ، وقلنا: إن حبسه المولى، لأمهله، فهل يمهله المولى؛ ذكر العراقيون على هذا القول وجهين. ومساق هذا يلزمهم أن يقولوا: لو مَرض لجرى هذا الخلاف أيضاً، وهذا بُعدٌ عظيم عن سَنَنِ المذهب، يجر خبالاً لا يرتضيه المحصل، ولكل أصل مأخذ، والفقيه من يحوّم عليه.
وقد ذكرنا مأخذَ التعجيز ومقتضاه مصرِّح ببطلان ما قالوه، وقد يلزمهم أن يقولوا: إذا كسد عملُ المكاتب، ولم يكن منه تقصير، أو لم تتفق الصدقات، فإنه يمهل وهذا خُرْقٌ لا ينتهى إلى ارتكابه فقيه. والله أعلم.
***

(19/467)


باب الوصية بالمكاتَب والوصية له
قال: " وإذا أوصى به لرجل وعَجَز قبل الموت ... إلى آخره " (1).
12618 - إذا أوصى برقبة المكاتب لإنسان، وأطلق الوصية، ولم يقيدها بعجز المكاتب وانقلابه إلى الرق، فالوصية باطلة، حتى لو عجز المكاتب ورَقَّ قبل موت الموصي، فلا ننفذها عند موته، كما لو أوصى بعبد إنسان، ولم يعلق الوصية بدخولها في ملكه؛ فإن الوصية تبطل.
ولو قال: إن ملكت هذا العبدَ، فقد أوصيت به لفلان، أو قال: إن عجز مكاتبي هذا، فقد أوصيت به لفلان، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أقيسها - بطلان الوصية اعتباراً بحالة التعليق، وقياساً على ما لو قال إن ملكت هذا العبد، فهو حر، وإن نكحت هذه المرأة، فهي طالق. والوجه الثاني - أن الوصية تصح؛ فإنها تقبل ما لا يقبل غيرُها، ووقت نفوذها وقت زوال ملك الموصي، يعني أنها تنفذ عند موت الموصي، وهو وقت انقطاع الملك.
والوجه الثالث - أن الوصية تصح في المكاتب، إذا تقيدت بعجزه وَرِقِّه؛ من جهة أنها تعتمد في الحال ملكاً، ولا تصح الوصيةُ المضافة إلى ملك الغير، وإن تقيدت بتقدير ملك الموصي؛ فإنها لم تعتمد ملكاً في الحال. ولا فقه في هذا الوجه.
وكل هذا مما أجرينا ذكره في تعليق الطلاق قبل الملك، ولم يخل كتاب الوصايا عنه أيضاً.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 285.

(19/468)


فصل
قال: " ولو قال: ضعوا عنه أكثر ما بقي عليه ... إلى آخره " (1).
12619 - الوصية بنجوم الكتابة جائزة إذا خرجت من الثلث، فإذا صحت الوصية، وأداها إلى الموصى له عَتَق. وإن خرج بعضها من الثلث أدى ذلك القدر إلى الموصى له، وأدى الزيادة إلى الورثة، ويعتِق.
فإن عجز، فقال الموصى له: أُنظره حتى يجدَ، وقال الوارث أعجّزه، ثم في تعجيزه رده إلى الرق، وسقوط جميع النجوم، فللوارث أن يعجزه، وإن أدى تعجيزه إياه إلى بطلان الوصية، وتعليل ذلك بيّنٌ، وليس إلى الموصى له تعجيزه في هذا المقام إذا لم يعجِّزه الوارث.
ولو كان أوصى برقبة المكاتب على تقدير عجزه، وصححنا الوصية، ثم إنه عجز بعد موت السيد، فقال الوارث: أُنظره، لم يكن له ذلك، بل يُعجَّز وتُسلّم رقبته إلى الموصى له، وإنما يتعاطى ذلك القاضي إذا تحققت الواقعة في مجلسه.
ولو قال: ضعوا عن هذا المكاتب أكثرَ ما بقي عليه، ووفى الثلثُ واتسع، فالورثة يضعون عنه أكثر من نصف النجوم، ولو بزيادة حبة؛ فإن هذا أكثر ما عليه.
والمسألة فيه إذا لم يكن أدى شيئاً، وعلة ما ذكرناه أن الوصايا تنزل على أقل موجب اللفظ، والنصف وأدنى زيادة ينطلق عليه اسم الأكثر، وإن زاد الورثة على ما ذكرناه وبلّغوا الزيادة دراهم فصاعداً، فقد قال الصيدلاني: كل ما يضعونه محمول على الوصية. ولا يكون ذلك منهم ابتداءَ تبرع؛ فإن اسم الأكثر، كما يمكن تنزيله على النصف وأدنى زيادة، فهو محتمل لما يزيد على هذا المبلغ، فإلى الورثة أن يحملوا اللفظ على محتملاته، ولهم تنزيلُه على أقل معانيه.
وهذا الذي ذكره مأخوذ عليه؛ فما يزيد على الأقل المجزىء، فهو تفضل من الورثة على الابتداء، إذ لو اقتصروا على الأقل المجزىء، لقيل: لم ينقصوا من
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 285.

(19/469)


الوصية شيئاً، وإن كان الثلث متسعاً لأضعاف الوصية، وليس إلى الورثة تكثير الوصية وتقليلها، وإنما المستحق بها ما يجوز الاقتصار عليه، وهذا الذي ذكرناه يجري في كل وصية مرسلة لا تتقدر لفظاً بمقدار.
ولو قال: ضعوا عن المكاتب أكثر مما عليه، فمقتضى هذا اللفظ أن يوضع عنه الكل وزيادة. ولفظ الزيادة لغو، فوضعنا الكل، وألغينا الزيادة.
ولو قال: ضعوا عن مكاتبي ما شاء من الكتابة، فشاء الكل؛ لم نضعه، بل نبقي شيئاً وإن قلّ، لأنه قال: " من الكتابة "، وهذا يقتضي التبعيض.
ولو قال: ضعوا عنه ما شاء، ولم يقل من الكتابة، فشاء الكل، والثلث متسع، فهل نضع الكل عنه؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنا نضع عنه؛ فإنه لا تبعيض في اللفظ. والثاني - لا بد من تبقية شيء؛ فإنه لو أراد الكل، لقال: ضعوا عنه الكل إذا شاء.
فرع:
12620 - إذا حل النجم على المكاتب، فجاء متبرع وأدى النجم عن مكاتَبه، فالسيد لا يلزمه قبوله؛ قياساً على مثل ذلك في جميع الديون، ولو قبله السيد، فهل يقع عن المكاتَب إذا كان ذلك بغير إذن المكاتب؟ ذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين أحدهما - أنه لا يقع عن المكاتب، وليس كالرجل يتطوع بأداء دين غيره بغير إذن من عليه؛ وذلك أن الكتابة الصحيحة -وإن كانت على حكم المعاوضة، وغلبت المعاوضة فيها- فلا بد من رعاية طرف من الاختصاص، والتعلّق بحكم التعليق، ولا تعلّق للعبد بهذا الأجنبي، ولم يرتبط به أيضاً إذن من المكاتب، فلا أثر لأدائه إذا كانت الحالة هذه.
والوجه الثاني -وهو القياس- أن العتق يحصل إذا قبل السيد؛ اعتباراً بجميع الديون. وإذا حكمنا بالعتق عند الإبراء عن النجوم -وإن كان معلقاً على أدائها- لم نبق للتعليق أثراً أصلاً (1).
فرع:
12621 - إذا جُن المكاتب، وحل النجم، وعجَّزه السيدُ، وكان ينفق عليه
__________
(1) من هنا بدأ خرم آخر في نسخة (ت 5) بقدر ورقتين من قياس النسخة نفسها.

(19/470)


بعد التعجيز إنفاقَه على المماليك، فأفاق المجنون، وأقام البينة على أنه كان أدى النجم، فهل يرجع بما أنفقه؟ قال العراقيون: لا يرجع بما أنفقه؛ فإنه في حكم المتبرع.
ولو ادعى أنه جهل الأداء أو نسيه، وأنفق على تقدير الرق -فالذي قاله ممكن- فهل يملك الرجوع بما أنفق -والحالة هذه-؟ فعلى وجهين، والذي قطع به أئمتنا أنه لا يرجع؛ فإن إنفاقه عليه مطلقاً فمَحْمَلُه الظاهرُ التبرعُ لا غير.
[من عقود العتاقة التي تردد فيها الأصحاب] (1)
12622 - ذكر الشيخ أبو علي في [شرح] (2) التلخيص ما يشكل من عقود العتاقة، ويتعلق به تردد الأصحاب.
فمما ذكره أن السيد إذا قال لعبده: بعتك من نفسك بألف درهم، فقال: قبلت، فالمذهب الصحيح أن العقد يصح، ويَعتِق العبدُ بالقبول، والألف يقع في ذمته، وخرّج الربيع قولاً أن ذلك لا يصح ويلغو، ولا يترتب عليه عتق، ولا حكم له أصلاً؛ [فإنه لا يعامل رقيقه بالبيع المحقق] (3)، وهذا وإن كان له وجه في القياس، فهو مزيف مردود، غير معدود من متن المذهب.
فإذا فرعنا على الأصح -وهو الصحة- فإذا ابتاع نفسه، فالوجهُ تنزيل ذلك منزلة ما لو اشترى الإنسان من يعتِق عليه حتى يخرَّجَ الكلامُ، فإن خيار المجلس هل يثبت؟ وهل يصح فيه شرط الخيار؟ وقد ذكرنا هذا في شراء الإنسان قريبه.
وحكى الشيخ أن الأصحاب خرّجوا عتق العبد على ما إذا اشترى الإنسان عبداً، ثم أعتقه في زمان الخيار. وهذا ذكره ما دام في المجلس، وهو تفريع منه على أضعف
__________
(1) هذا العنوان من وضع المحقق.
(2) زيادة اقتضاها تصويب الجملة؛ فإن الشيخ أبا علي صاحب شرح التلخيص، وليس التلخيص.
(3) عبارة الأصل: " فإنه لما قبل رقيقه بالبيع المحقق ". والمثبت من المحقق، رعاية للسياق، واستئناساً بما قاله الغزالي في البسيط، والرافعي في الشرح الكبير، والنووي في الروضة.
وقد حاولنا -كدأبنا- أن نؤدي المعنى بأقل تغييرٍ ممكن في اللفظ الموجود بالأصل.

(19/471)


الوجهين في شراء الرجل من يعتِق عليه، وهو منسوب إلى أبي بكر الأُودَني، فإنه أثبت خيار المجلس في شراء الرجل مَنْ يعتق عليه.
وبالجملة شراء العبد نفسه أقرب إلى مقصود العَتاقة من شراء الرجل من يعتِق [عليه] (1).
12623 - ولو قال السيد لعبده: أنت حر على ألف درهم، فقال العبد: قبلته، صح ذلك، ونفذ العتق في الحال، وهو بماثبة ما لو قال الزوج لزوجته: أنت طالق على ألف، فقبلته.
فأما إذا قال لعبده: إن أعطيتني ألفاً، فأنت حر، أو إن أديت ألفاً، فأنت حر، فإذا أحضر ألفاً، فهذا -أولاً- فيه غموض؛ من جهة أنه لا يأتي بألف هو له؛ إذ لا ملك للعبد، ويقع هذا فيما إذا قال الرجل لزوجته: إن أعطيتني ألفاً، فأتت بألف مغصوب. ولكن نفرع على العتق، ونقول بعده: ما سبيل هذه المعاملة وكيف تنزيلها؟
ذكر الشيخ ثلاثه أوجه: أحدها - أن حكمه حكم الكتابة الفاسدة في التراجع: رداً ورجوعاً إلى القيمة، ثم يتبع الكسب.
والوجه الثاني - أنه لا يتبعه الكسب والولد، ولكن نغرمه قيمتَه.
والوجه الثالث - أنه لا نغرمه قيمتَه أيضاً.
وفي وضع هذا الكلام اضطراب لا بد من كشفه، ونحن نقول: الكسب والولد الحاصلان قبل هذا التعليق لا يتبعان بلا خلاف، وإنما هذا التردد فيما حصل بعد التعليق من كسبٍ أو ولد، وكأن حاصل الكلام فيه يرجع إلى أن هذا اللفظ من السيد هل يكون كتابة فاسدة؛ فإن جعلناه كتابة فاسدة، يقع ما بعده من كسب وولد كما ذكرناه من كتابة فاسدة.
ومن الأصحاب من لم يجعله كتابة فاسدة، ثم هؤلاء اختلفوا: فقال بعضهم: تعليق محضٌ، لا يتضمن الرجوع بالقيمة أيضاً. وقال آخرون - لا بد من ثبوت
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(19/472)


الرجوع عليه بالقيمة، كما لو قال الزوج لزوجته: إن أعطيتني ألفاً، فأعطته مغصوباً؛ فإنه يرجع عليها عند وقوع الطلاق، والقائل الأول يقول: كانت المرأة من أهل الالتزام لما خوطبت، بخلاف العبد القن، فحُملت المعاملة مع العبد على التعليق المحض.
وقد نجزت مسائل السواد في الكتاب. واتفق أن ابن الحداد بعد نجاز ترتيب الكتب ذكر مسائل [من مولَّداته أشتاتاً] (1)، وعطفها على الكتب من غير ترتيب، ولو أوردها في مواضعها، لكان ذلك أولى، ولكن إذا لم يتفق، فنحن نأتي بما نعلم أنه لم يَسبق له ذكرٌ أو تردُّدٌ فيه، فإن اتفقت إعادة، لم تضر، وهي أولى من الإخلال.

مسائل مشتتة لابن الحداد
فروع في البيع:
12624 - منها - إذا اشترى جاريةً مزوّجة، وشرط أن تكون بكراً، فلو خرجت ثيباً، ففي ثبوت الخيار له وجهان: أحدهما - أنه لا خيار له؛ فإن بُضع الجارية مستحَقٌّ للزوج، لا حظ للمشتري فيه، فلا يتخلف عنه بالثيابة غرض، والوجه الثاني - أنه يثبت له الخيار؛ فإن الثيابة نقصٌ بالإضافة إلى البكارة، وقد يتوقع موت الزوج أو تطليقه إياها قبل الافتضاض.
فرع:
12625 - إذا اشترى الرجل جاريةً، وكانت وضعت قبل البيع ولداً، ووضعت بعد البيع ولداً، لأقل من ستة أشهر من انفصال الولد الأول، فنعلم أنهما حمل واحد، فظاهر نص الشافعي أن الولد من البائع، وهذا خلاف القياس؛ فإن الجارية وإن ولدت في يد البائع أحد التوأمين، فالثاني مجتن حالة البيع متصل، فينبغي أن يتناولَه العقدُ، ولا أثر في هذا المقام لكونهما توأمين.
قال الشيخ أبو علي: كان الشيخ الخِضري يحكي قولين في المسألة، أحدهما - ما
__________
(1) في الأصل: " من مولداتها شتاتاً " والمثبت من المحقق، فقد سبق للإمام أن عقد فصلاً بعنوان مسائل من مولدات ابن الحداد.

(19/473)


نسبناه إلى النص. والثاني - ما رأيناه الصواب الذي لا يسوغ غيره، ثم إذا حكمنا بأن الحمل للبائع، فيجب أن نحكم بفساد البيع في الأم على ظاهر المذهب، كما لو باع جارية حاملاً بولد [منه و] (1) كما لو باع جاريةً حاملاً فاستثنى.
فرع:
12626 - إذا اشترى الرجل جارية، فأتت الجارية بولد فقال المشتري: ولدت هذا الولد بعد الشراء، وقال البائع: بل ولدته قبل البيع، فهذه المسألة كتبها الحليمي إلى الشيخ أبي زبد يستفتيه فيها، فأجاب بأن القول قول البائع؛ فإن الأصل ثبوت ملكه في الحمل، والأصل عدم البيع في وقت الولادة، هكذا حكاه الشيخ أبو علي، ولم يزد عليه.
فرع:
12627 - إذا باع رجل عبداً بثوب، ثم إن من أخذ الثوب فصّله وقطعه، فوجد الثاني بالعبد عيباً قديماً، فله ردُّه بالعيب، ثم إذا ردّه، فقد حكى الشيخ وجهين: أحدهما - أنه يسترد الثوب مقطوعاً، ويسترد أرش النقص، وهذا هو القياس؛ فإن الثوب لو تلف في يد آخذه، ثم رد عليه [عبده] (2) بالعيب، لكان يغرم تمام القيمة عند تلف الثوب، فكذلك يجب أن يغرم أرش النقص مع رد الثوب، وليس هذا كما لو تعيّب المبيع في يد البائع؛ فإنا نقول للمشتري: إما أن تفسخ البيع، أو ترضى به معيباً، وليس لك طلب الأرش، وذلك لأن المبيع غير مضمون على البائع بالقيمة. ولو تلف المبيع قبل القبض، لم يغرم قيمته؛ فلما لم يكن المبيع مضموناً عليه بالقيمة لو تلف، لم يكن بعضه مضموناً عليه بالأرش.
والوجه الثاني - أنه إذا رد العبدَ، وصادف الثوب مقطوعاً معيباً، فهو بالخيار: إن شاء رضي بالثوب معيباً، واسترده من غير أرش، وإن شاء ترك الثوبَ، ورجع بقيمته غيرَ معيب؛ فإن اختار الثوب، فلا أرش له.
قال الشيخ رضي الله عنه: اشتهر من كلام الأصحاب أن المتبايعين إذا تحالفا،
__________
(1) كلمة " منه " مكان كلمة غير مقروءة بالأصل. و" الواو " زيادة من المحقق. (انظر صورة عبارة الأصل).
(2) في الأصل: " عَرْضه ".

(19/474)


وكان عاب المعقود عليه في يد أحدهما، فإنهما يترادان، ويُرجَع على من نقص العوض في يده بأرش النقص عند التفاسخ، ولا فرق بين هذه المسألة وبين مسألة العبد والثوب. فإن طرد صاحبُ الوجه الثاني مذهبَه في مسألة التحالف، كان ذلك قُرْباً من خرق الإجماع، وإن سلّمه، بطل هذا الوجه في المعيب أيضاً، وشبب الشيخ أبو علي بإجراء الخلاف في مسألة التحالف.
فروع في الوكالة
12628 - أحدها - إذا وكّل إنساناً ببيع متاعه مطلقاً، فباعه وشرط الخيارَ للمشتري وحده، أو لنفسه، وللمشتري، فالبيع باطل؛ فإن الوكيل المطلق لا يبيع عندنا بأجلٍ؛ لما فيه من تأخر الطلب، والخيار شرّ من الأجل؛ فإنه يمنع الملكَ، أو لزومَ الملك.
ولو باع وشرط الخيار لنفسه، ففي صحة البيع وجهان: أحدهما - يصح؛ فإن الخيار للبائع مزيدُ حق، وليس يقتضي جوازاً في جانب المشتري. والوجه الثاني - أنه لا يصح؛ لأن الوكيل أثبت مزيداً لا يقتضيه مطلقُ البيع، ولو صح الشرط، لثبت للوكيل الخيار، وهذا حق أثبته لنفسه من غير إذن موكله.
ولو وكّله بشراء عبد، فاشتراه بثمن مثله مؤجلاً، وكان ذلك المبلغ بحيث لو قدر نقداً، لما كان المشتري مغبوناً؛ ففي صحة الشراء عن الموكِّل خلاف، والأصح الصحة؛ فإن الأجل في هذه الصورة زيادةٌ محضة. ومن منع انصراف الشراء إلى الموكل، احتج بأن التوكيل المطلق بالبيع والشراء يجب تنزيله على ما ينزل العقد عليه إذا كان مطلقاً، والعقد المطلق لا يقتضي أجلاً.
فرع:
12629 - إذا وكل رجلاً ببيع شيء، ولم يصرح بتوكيله بقبض الثمن، فهل له قبضُ الثمن بمطلق الوكالة؟ فعلى وجهين مشهورين، وليس للوكيل تسليم المبيع قبل قبض الثمن، فلو سلم المشتري الثمنَ إلى الموكل، فالوكيل يسلم المبيعَ لا محالة، ولفظ التسليم مستعار في هذه الصورة؛ فإن المشتري إذا وفر الثمن، فله الاستقلال بأخذ المبيع من غير تسليمٍ من البائع.

(19/475)


فرع (1):
12630 - إذا قال لرجل: وكِّل فلاناًً بأن يبيع ثوبي، فهذا المخاطَب موكّل بالتوكيل، وليس له أن يبيع؛ فإنه لم يفوِّض إليه البيعَ، فإذا وكل المأمورُ وكيلاً، فالوكيل بالبيع وكيل الموكِّل الأول، وليس وكيلاً للوكيل؛ حتى لو أراد عزله، لم يملكه، وإنما يعزله الموكِّل الأول، والسبب فيه أنه وكّل الأول بأن يوكل، وقد وكل، وتم ما فُوِّض إليه وانقضى تصرفه. [فمآله العزل] (2).
وهو كما لو وكل رجلاً ببيع متاع، فإذا باعه، لم يكن له بعد البيع نقضُ البيع، وبمثله لو وكل رجلاً، وجوز له أن يستنيب ويوكل في البيع المفوض إليه، فإذا فعل ذلك، فالوكيل الثاني وكيل صاحب المتاع أم هو وكيل الوكيل الأول؟ فعلى وجهين، وفائدة ذلك أن الوكيل الأول -على أحد الوجهين- يعزل الوكيل الثاني، وكأنا نجعل الثاني فرعاً للأول، والفرق بين هذه الصورة والأولى؛ أن الوكيل الأول إذا كان موكلاً بالبيع، فوكل من يبيع، فسلطان الوكيل الأول باقٍ في البيع لو أراده، فما انقضى تصرفه، بخلاف المسألة الأولى.
مسألة في الإقرار بالنسب
12631 - قد ذكرنا من مذهب الشافعي أن من مات، فأقر بعضُ ورثته المناسبين بوارث، لم يثبت النسب، حتى يتفق الورثة. وذلك بيّن ممهّدٌ في موضعه.
فلو أقر الكافة إلا زوجاً، أو زوجة، فالمذهب الأصح أن النسب لا يثبت حتى يوافق الزوج، أو الزوجة، فإنهما من الورثة، وجملة الورثة ينزلون منزلةَ الموروث؛ فإقرار جميعهم بمثابة إقرار الموروث في حقوقه.
وحكى الشيخ وجهاً ثانياً أن النسب يثبت وإن أنكره أحد الزوجين، لأنهما ليسا من أهل النسب، وإن كانا من جملة الورثة، والأصح الأول.
ولو مات رجل، وخلف بنتاً، فأقرت بابن لموروثها، لم يثبت نسبه؛ فإن البنت ليست مستغرقة للميراث، بل نصف الميراث لها، والباقي مصروف إلى المسلمين.
__________
(1) من هنا عادت نسخة (ت 5) بعد انتهاء الخرم الذي أشرنا إليه آنفاً.
(2) في النسختين: " فما له والعزل " والمثبت من تقدير المحقق.

(19/476)


فلو أقرت بنسب ابنٍ وساعدها على الإقرار الإمامُ، فقد ذكر الشيخ وجهين: أحدهما - أن النسب يثبت بموافقة الإمام، وهو لسان أهل الإسلام، فكأنهم أقروا مع البنت. والوجه الثاني -وهو الذي لا يجوز غيره- أن النسب لا يثبت؛ فإن الإمام في حكم النائب، وإقرار النائب في هذا المقام لا ينفع؛ فإن من خلف ولدين أحدُهما طفل، فاعترف البالغ منهما بنسب ابن ثالث، وساعده قيّم الطفل، لم يثبت النسب حتى يبلغ الطفل، فينظر: أيساعِد في الإقرار، أم يخالِف، فإذا خلف بنتاً في ظاهر الحال - فلو جاء ابن وادعى أنه للمتوفى، فإقرار البنت لا يكفي؛ لأنها ليست مستغرِقة، ولو فرضنا إنكارها، فقد قال الشيخ: إذا أنكرت، لم تحلّف؛ فإنا لو حلّفناها ونكلت، ورددنا اليمين، فلا حكم لما يجري من ذلك.
وعندنا أن يمين الرد لو جعلناها بمثابة البينة، فيتجه تحليفها رجاء أن تنكُل، فترد اليمين، ويتنزل حلف المردود عليه منزلة بينة تقوم على النسب، وهذا ضعيف؛ من قِبل أن القضاء بالنسب لا يقع على البنت، وإنما يقع على الميت، وقد ذكرنا أن يمين الرد لا تنزل منزلة البينة في حق غير المستحلف (1).

مسائل في المواريث
12632 - إحداها - إذا مات رجل وخلّف ابني عم، أحدهما أخ لأم؛ فالمذهب المشهور للشافعي أنا نفرض سدس المال للذي هو أخ لأم، والباقي نقسم بينهم للعصوبة.
وقال عمرُ، وابنُ مسعود (2): يدفع تمام المال إلى الذي هو أخ لأم، ويقوى تعصيبه بزيادة القرابة، قياساً على الأخ من الأب والأم مع الأخ من الأب.
قال الشيخ رضي الله عنه: من أصحابنا من خرج للشافعي قولاً مثل مذهب عمر
__________
(1) بدأ سقط آخر من (ت 5) وهو نحو ثلاث ورقات من قياس النسخة ذاتها.
(2) مذهب عمر وابن مسعود رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والبيهقي (ر. مصنف عبد الرزاق 10/ 249، 287، 288، مصنف ابن أبي شيبة: 2/ 180، 181، السنن الكبرى: 6/ 255، موسوعة فقه عمر: ص 46، موسوعة فقه ابن مسعود: ص 70).

(19/477)


وابن مسعود، وهذا غريب غيرُ معتد به.
ولو كان للمعتِق ابنا عم أحدهما أخ لأم، فللشافعي قولان - هكذا قال الشيخ: أحدهما - أن أخوة الأم تَسقُط، ولا يبقى لها أثر، وإذا سقطت بقي ابنا عم المعتق، فالميراث نصفان بينهما. والقول الثاني - أن ابن العم الذي هو أخ من الأم أولى بالميراث ويسقط الآخر. وهذا القول مذكور في عصبات الولاء.
قال ابن الحداد: لو خلف المتوفى بنتاً وابني عم، أحدهما أخ لأم: فللبنت النصف. وباقي المال للذي هو أخ لأم. قال: وليس هذا تفريعاً على مذهب ابن مسعود. وهذا جواب ابن الحداد.
وقد اختلف أصحابنا في ذلك. فقال قائلون: للبنت النصف والباقي بين ابني العم، لأن أخوة الأم صارت محجوبةً بالبنت، وصارت كأنها لم تكن، فقُسم باقي المال بينهما، ومن أصحابنا من قال: الصحيح ما قاله ابن الحداد؛ فإن أخوة الأم لم يمكن التوريث بها مع البنت، فلما تعذر استعمالها في التوريث بها وحدها، أعملناها في الترجيح، وتقوية العصوبة.
وهذا الخلاف بعينه هو الذي ذكرناه في ابني عم المعتق إذا كان أحدهما أخاً لأم.
والجامع أن الأخوة محققة في المسألتين، وامتنع إعمالها في الولاء وحدها لاستحالة التوريث [بها] (1)، والبنت في المسألة التي كنا فيها حجبت أخوة الأم، فأنتظم قولان في الصورتين.
مسألة:
12633 - إذا اجتمع في الشخص قرابتان، يحل في الإسلام التسبب المؤدي إلى جمعهما، فيجوز التوريث بهما جميعاً، وذلك مثل أن يكون ابن العم أخاً من أم.
فأما إذا اجتمع في الشخص قرابتان لا يحل التسبب المفضي إليهما في الإسلام، وإنما يجتمعان بسبب شبهة وغلط في الإسلام، ويتصور اجتماعهما على خلاف الملة، كما يقدّر بين المجوسيين؛ فإذا اجتمعت قرابتان كذلك، فيقع التوريث عند
__________
(1) في الأصل: " بهما ".

(19/478)


الشافعي رضي الله عنه بأقربهما، ويسقط أضعفهما، ولا يقع التوريث بهما جميعاً.
وذهب ابن سريج إلى التوريث بالقرابتين في بعض الصور، على ما سنصفه في أثناء الكلام.
فلو وطىء المجوسي ابنته، فولدت بنتاً، فهذه البنت الصغرى بنت الكبرى وأختها من أبيها، فإنها ولد أبيها. فلو ماتت الكبرى، ولم تخلّف سوى بنتها التي هي أختها من أبيها، فقد اجتمع فيها البنوة والأخوة، فمذهب الشافعي أنها ترث بالبنوة، ولا ترث بالأخوة أصلاً. فلها نصف الميراث بالبنوة.
وقال ابن سريج -في هذه الصورة- إنها ترث بالقرابتين، فلها النصف بكونها بنتاً، والباقي لها بكونها أختا (1).
وحقيقة أصله: أنه إذا اجتمع قرابتان، كل واحدة منهما لو انفردت، لاقتضت فرضاً مقدراً، فإذا اجتمعتا، لم يقع التوريث إلا بإحداهما، وهي أقواهما، ولا سبيل إلى الجمع بين فرضين. وإن كانت إحدى القرابتين بحيث تقتضي فرضاً والأخرى تعصيباً، فيثبت التوريث بالفرض والتعصيب جميعاً، فعلى هذا لو ماتت الصغرى في الصورة التي قدمناها، ولم تخلف إلا أمها وهي أختها من الأب أيضاً، فلا نورثها إلا بكونها أماً؛ فإن الأمومة أقوى، ولا ترث بالأخوة؛ لأنها لو ورثت بها، لاجتمع لها فرضان.
12634 - فإذا تمهد ما ذكرناه، فنذكر صوراً لابن الحداد في ذلك:
فإذا وطىء المجوسي بنته، فولدت بنتاً، ثم هو بعينه وطىء البنت الصغرى، فولدت ابناً، فماتت البنت الصغرى أم الغلام، ثم مات الابن، فنقول: لما ماتت البنت، فقد خلفت أبوين وابناً، فللأبوين السدسان، والباقي للابن. فلما مات الابن، فقد خلف أباً وجدة: هي أم الأم، وهي أيضاً بعينها أخت الابن المتوفى،
__________
(1) استحقت بالأخوة -على مذهب ابن سريج- باعتبار الأخت عصبة مع البنت، وهذا أصل ابن سريج الذي سيأتي بيانه الآن، وأنه يجوز الجمع بين الفرض والتعصيب، ولا يجوّز الجمع بين فرضين.

(19/479)


فللجدة السدس، والباقي للأب، ولا ترث الجدة بكونها أختاً؛ فإن الأب يسقط الأخت، فورثت بالجدودة المحضة.
ولو كانت الصورة كما ذكرناها، ولكن مات الأب أولاً، ثم مات الابن، وبقيت البنتان: فأما الأب لما مات، فقد خلف ابناً وبنتين، فالمال بينهم: للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا توريث إلا بهذه الجهة. فلما مات الابن، فقد خلف أما هي أخت -وهي الصغرى- وجدة -وهي أخت أيضاً- وهي الكبرى؛ فأما الأم، فترث بالأمومة الثلث، ولا ترث بالأخوة، وأما الجدة، فلا ترث بالجدودة؛ فإن الأم تُسقط أمَّ الأم، ولكنها ترث بالأخوة، فللأم الثلث، وللجدة بالأخوة النصف، والباقي لبيت المال، هذا جواب ابن الحداد، وافقه الأئمة فيه.
وبمثله، لو مات الأب أولاً، ثم ماتت البنت الصغرى -أم الغلام- ثم مات الغلام، فنذكر ميراث الغلام -فهو المقصود- ونقول: قد خلّف الغلام جدة، هي أخت من الأب، قال الشيخ: ذكر ابن اللبان (1) في هذه المسألة وجهين: أحدهما - أنا نورثها بالأخوة، فتأخذ نصف الميراث؛ فإن نصيبها بالأخوة أكثر. والثاني - أنا نورثها بالجدودة سدساً، وهو الصحيح، لأن الجدودة أقوى بدليل أن الجدة أم الأم لا يحجبها الأب، ولا أحد من الأولاد، والأخ يسقطه هؤلاء، فلا نعتبر الكثرة، وإنما نعتبر القوة.
مسألة في قسم الصدقات
12635 - إذا دفع من عليه الزكاةُ شيئاً من سهم ابن السبيل إلى إنسان ليسافر، ولم تكن له أُهبة، فورث مالاً، أو اتهبه، أو أُوصي له به، فقبله قبل أن يسافر، فالذي أخذه يردُّه؛ فإنه أخذه لحاجته وقد زالت. والسفر أمر متوقّع في ثاني الحال.
ولو دَفَع إلى فقيرٍ أو مسكين شيئاً من الصدقة، فاستغنى بعد ذلك بمالٍ أصابه، فلا
__________
(1) ابن اللبان: محمد بن عبد الله بن الحسن، الإمام أبو الحسين بن اللَّبَّان، البصري الشافعي.
إمام عصره في الفرائض وقسمة التركات، توفي ببغداد سنة 402 هـ. (طبقات السبكي: 4/ 154، العبادي: 100، الشيرازي: 99، الإسنوي: 2/ 362، وتاريخ بغداد: 5/ 472).

(19/480)


يرد ما أخذه؛ فإنه استحقه بوصف قائمٍ متحقَّق، فزواله لا يوجب الرد، وابن السبيل استحق لاْمر سيكون منه في الثاني، ولو أخذ ليسافر، ثم بدا له، فعليه ردُّ ما أخذه مذهباً واحداً.
وما ذكرناه في ابن السبيل يجري في الغازي، فلو أخذ ليخرج غازياً، فلم يخرج، ردّ ما أخذ.
قال الشيخ: لو سلمنا إلى ابن السبيل شيئاً، فخرج وعاد، وقد فضلت فضلة مما أخذه مع انقضاء وطره في سفره، فيلزمه ردُّ الفاضل، والغازي لو خرج وعاد مع فضلة، فلا يردها، هكذا قال الشيخ؛ فإن خروجه يرجع إلى مصلحة المسلمين، فكأنه كالمستأجر في خَرْجَته، وهذا لا يتحقق في ابن السبيل.
ولو دفع شيئاً إلى الغارم، فأبرأه مستحق الدين، فهل يستردُّ منه ما دفعه إليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسترد كما يسترد من ابن السبيل. والثاني - لا يسترد، كما لا يسترد من الفقير إذا استغنى بعد الأخذ.
وعلى حسب ذلك اختلفوا في أنا إذا سلمنا إلى المكاتب شيئاً من سهم الرقاب، فأعتقه سيده، فهل نسترد منه ما أخذه من الصدقة؛ فعلى وجهين.
ومما ذكره الشيخ أنه لو كان الدين مؤجلاً على الغارم أو المكاتب، فهل يجوز صرف الصدقة إليهما، فعلى ثلاثة أوجه: أحدها - لا يجوز؛ فإنهما غير مطالَبَيْن.
والثاني - يجوز لثبوت الدين؛ فإن عين المطالبة لا تشترط؛ إذ الفقير لا يطالب بالدين. والثالث - أنه يصرف إلى الغارم، دون المكاتب؛ فإن المكاتب مهما شاء عجّز نفسه، وهذا الوجه الثالث بالعكس أولى، فإن ما ذكرناه يتحقق في النجم الحالّ أيضاً؛ فالوجه أن نقول: المؤجل في حق المكاتب كالحالّ؛ فإنه لو جاء بالنجم قبل حلوله لأجبر السيد على قبوله، مذهباً واحداً.
مسألة من النكاح
12636 - إذا ادعى الرجل على أبِ بنتٍ أنه زوّج منه بنته، فلا تخلو البنت: إما أن تكون ثيباً وقت الدعوى أو بكراً، فإن كانت بكراً، لم يخل إما أن تكون صغيرة أو

(19/481)


كبيرة، فإن كانت صغيرة بكراً، فلا يخلو الأب المدعى عليه إما أن يقر بأنه زوجها أو ينكر، فإن أقر للمدّعي، فيقبل إقراره، ويثبت النكاح؛ فإنه لو أنشأ تزويجها، لنفذ، فإذا تصور منه الإنشاء، قُبل منه الإقرار.
ولو أنكر، وقال: ما زوّجتها أصلاً، فتتوجه عليه اليمين، فإن حلف، انتفى النكاح، وإن نكل ردت اليمين على المدعي، فإن حلف، ثبت النكاح.
12637 - ثم فرعّ الشيخ على ذلك. وقال: لو ادعى أجنبي على الأب: أنك بعت مني هذا العبدَ من مال طفلك، فإن أقرّ به، قُبل إقراره اعتباراً بالإنشاء، فإذا ثبت أنه يصح منه [الإنشاء، يصح منه] (1) الإقرار.
فلو أنكر البيعَ، قال الشيخ: يحلّفه المدعي، كما ذكرناه في النكاح، ويجري حكم الرد والنكول على القياس المتقدم.
ثم قال الشيخ: كان يجري بيني وبين الشيخ القفال كلام، فقال: الأب لا يحلّف في هذه الصورة إذا تعلقت الخصومة بمال الطفل، ولكن يوقف الأمر حتى يبلغ الطفل ويحلف أو ينكل؛ فإن اليمين لا تدخلها النيابة؛ وهذه اليمين متعلقة بحق الطفل، قال الشيخ: الوجه عندي القطع بأنه يحلف اعتباراً بالإقرار، فيتخذ قبول الإقرار أصلاً في جواز التحليف عند الإنكار؛ وقياس ما ذكره القفال أن لا يحلّف الأب في التزويج أيضاً؛ إذ لا فرق. وهذا فيه بُعْد.
ولو اختلف الأب ومن اشترى منه شيئاً من مال الطفل في مقدار الثمن، تحالفا عند الشيخ، وقياس ما ذكره القفال أن لا يتحالفا.
هذا كله إذا كانت البنت صغيرة بكراً.
12638 - فأما إذا كانت بالغة بكراً، فادعى على الأب تزويجها منه، فإن أقر بتزويجها، قبل إقراره عليها -وإن أنكرت هي- فإنه يملك إجبارها، فيملك الإقرار بها.
ولو أنكر الأب، فهل يحلّفه المدعي؟ قال الشيخ: اختلف أصحابنا في ذلك:
__________
(1) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.

(19/482)


منهم من قال: إنه يحلّف الأب، كما يحففه لو كانت صغيرة بكراً؛ إذ الإجبار والإقرار يجريان في الصورتين، والتحليف مأخوذ من قبول الإقرار. وهذا ما أجاب به ابن الحداد.
فعلى هذا: إذا حلف الأب، لم يخفَ حكمه، ولو نكل وحلف هو يمين الرد، ثبت النكاح.
ولو حلف الأب، فله أن يدعي على البنت بعد سقوط الدعوى عن الأب بالحلف؛ فإن أقرت، قُبل إقرارها على الصحيح، وإن أنكرت، حلّفها، فإن نكلت، حلف يمين الرد، وثبت النكاح، وإن كان حلف الأب، فلا يقدح ذلك في يمينه المبنية على نكولها، ولو حلفت، سقط حقه حينئذ لاجتماع حلف الأب والبنت.
والوجه الثاني - في الأصل أنه ليس للمدعي تحليف الأب، وإن كان يُقبل إقراره؛ فإنه قادر على تحليف المرأة البالغة، فهي باليمين أولى.
هذا كله إذا كانت المرأة بكراً.
فأما إذا كانت ثيباً، فادعى على الأب تزويجها، فليس له تحليف الأب؛ فإنه لو أقر، لم يُقبل إقراره، إذ لو أنشأ تزويجها في صغرها ثيباً، لم ينفذ، والإقرار معتبر بالإنشاء.

مسائل في الجراح
12639 - منها - مسألة نقول في مقدمتها: من قطع طرف رجل، فطلب المجني عليه الأرش، ففيه اختلاف النصوص، والأقوال، وطرق الأصحاب.
ولو طلب القصاص، فالمذهب أن له ذلك.
وحكى الشيخ أن من أصحابنا من جعل في القصاص قولين، وهذا بعيد، لا أعرف له وجهاً.
ومما نذكره في المقدمة: أن الرجل لو قطع يدي رجل، فمات المظلومُ، ثم قطع وليُّه يدي الجاني، فاندمل، فأرادوا طلب المال في النفس، فليس لهم ذلك؛ فإنهم قد استَوْفَوْا ما يقابل ديةَ النفس، وهذا معلوم في أصول المذهب.

(19/483)


ولو قطعت امرأة يدي رجل، فمات المظلوم، فقطع الولي يديها، ثم أراد المطالبة بمال، قال: في المسألة وجهان: أحدهما - لا يجب شيء من المال؛ فإن يديها في مقابلة نفسها، ولو ماتت، لكان نفسها بنفسه، فكذلك يداها تقعان في مقابلة دية الرجل، فلا مطالبة بالمال بعد قطع يديها.
والوجه الثاني - أنه يجب عليها نصفُ دية الرجل؛ فإن الولي استوفى ما يقابل نصف دية الرجل، فتبقى الطلبة في نصف الدية.
رجعنا بعد ذلك إلى مسألة ابن الحداد، قال: لو قطع رجل يدي رجل، فاندملت الجراحة ظاهراً، فقطع المجني عليه إحدى يدي الظالم قصاصاً، وأخذ أرشَ الأخرى، ثم انتقضت جراحة المظلوم، وسرت إلى نفسه، والظالم باقٍ، فليس لورثة المظلوم طلبةٌ على الجاني في قصاص ولا دية، أما سقوط القصاص في النفس، فسببه أن في إتلاف النفس إتلاف الطرف، وقد عفا عنه؛ إذ أخذ الأرش، ولا دية أيضاً؛ فإنه قد استوفى ما يقابل ديةً كاملة. وهو القصاص في يدٍ والأرش في الأخرى.
12640 - ثم ذكر ابن الحداد صورة أخرى، فقال: لو قطع يدي رجل ظلماً، فاندملت جراحةُ المظلوم حقيقةً، ثم إنه قطع إحدى يدي الظالم قصاصاًً، وأخذ أرش اليد الأخرى، ثم سرت يد الظالم إلى نفسه ومات، قال: لا يسترد ورثة الظالم من المظلوم أرش اليد الذي أخذه أصلاً.
قال الشيخ: هذا يخرّج على قولين مبنيين على أن الطرف إذا فات بسراية القصاص، فالسراية في الأطراف هل يقع بها القصاص؟ فعلى قولين سبق ذكرهما في الأصول: أحدهما - أن السراية في الأطراف لا يقع بها القصاص، كما لا يجب بها [الدية] (1) والثاني - يقع بها القصاص.
فإن قلنا: لا يقع بها القصاص، فالجواب ما قاله ابن الحداد؛ فإن المظلوم اقتص عن يد واحدة، ثم سرى القصاص إلى النفس، وفي موت النفس ضياع الطرف، ولا مبالاة به. وإن قلنا: السراية في الطرف يقع بها القصاص، فنقول: قد استوفى
__________
(1) في الأصل: " القصاص ".

(19/484)


طرفاً وسرى إلى الطرف الآخر، فإنه لما مات، فقد فات ذلك الطرف، فوقع القصاص في الطرفين قطعاً وسراية، فعليه حينئذ أن يرد ما أخذه من الأرش. والصحيح من القولين ما فرعّ عليه ابن الحداد (1).
مسألة أخرى من الجراح
12641 - إذا قطع عبد يد عبد، واستوجب القصاص، ثم إن المظلوم عَتَق، وسرت الجراحة إلى نفسه، فعلى العبد الظالم القصاص في النفس والطرف، وحق القصاص في الطرف يثبت للسيد؛ فإنّ قطعَ اليد اتفق في ملكه، وحقُّ القصاص في النفس يثبت لورثته الأحرار؛ فإنه هلك حراً. فلو أن السيد استوفى القصاص من طرف العبد الظالم، فمات الظالم منه، فقد وقع النفس بالنفس؛ فإن الظالم مات بعد موت المظلوم بالقصاص. وهذا حسن.
وقد يخطر للفقيه فيه إشكال؛ من جهة أن السيد المقتص من الطرف لا حقَّ له في قصاص النفس، ومن له الحق في النفس، لم يستوف القصاص في الطرف. ولكن لا وجه إلا ما ذكرناه؛ فإن النفس فاتت بطريق القصاص، وكأن السيد وإن لم يملك القصاص في النفس، ملك ما هو استيفاء للنفس، ونحن قد نصرف إليه من دية هذا الذي مات حراً جزءاً، وإن كان مالك الرق لا يستحق بدل الحرية، وهذا حسن بالغ، لا وجه غيره.
ولو أن ورثته الأحرار عفَوْا عن القصاص في النفس، قبل أن يستوفي السيد القصاص في الطرف، قال الشيخ: سألت القفال عنه. فقال: ينبغي أن يسقط القصاص في الطرف أيضاً؛ فإن ورثته الأحرار، ثبت لهم إتلافُ الأطراف باستيفاء النفس، فلهم من هذا الوجه شركة في الطرف، فإذا عَفَوْا عن النفس، وجب أن يسقط القصاص في الطرف.
قال الشيخ: القياس عندي أن السيد له حق الاقتصاص في الطرف؛ فإن ذلك ثبت
__________
(1) إلى هنا انتهى السقط الأخير من نسخة (ت 5).

(19/485)


له مقصوداً، ولا خلاف أنه لو أراد استيفاء الطرف، لم يحتج إلى استئمار ورثته الأحرار، ولو كانت لهم شركة معتبرة، لوجب استئذانهم.
مسألة من الحدود
12642 - قال رضي الله عنه: العبرة في الحدود وصفتُها ومبالغُها بوقت الوجوب، وبيانه أن الحر [الذمي] (1) إذا زنى، ورضي بحكمنا، فحكمنا عليه بالرجم؛ إذ كان محصناً، فلو أفلت، ونقض العهد، ولحق بدار الحرب، ووقع في الأسر، وأَرَقَّه الإمام، فإنا نرجمه رقيقاً بالزنا السابق، وهذا على أن الحد لا يسقط بالهرب؛ فمانَّ نقض العهد زائد على الهرب.
ولو قذف ذمِّيٌّ مسلماً محصناً، واستوجب بقذفه ثمانين جلدة، ثم نقض العهد، واستُرِق؛ فإنا نحده ثمانين جلدة، وإن كان حدُّ الرقيق أربعين جلدة.

مسائل من السير
12643 - منها: إذا أسر الإمام رجالاً من الكفار، فأسلم بعضُهم، فالأصح أنه يبقى له الخيار فيمن أسلم بين المن، والفداء، والاسترقاق، ولا شك في سقوط القتل.
ومن أصحابنا من قال: من أسلم، فقد رَقَّ، وهذا ظاهر النص؛ فإن الشافعي رضي الله عنه قال: " لو أسلموا بعد الإسار رَقّوا " وقد أوضحنا [هذا] (2) في الأصول.
فلو قبل أسيرٌ الجزيةَ بعد الإسار، وكان كتابياً، ففي تحريم قتله وجهان مشهوران: فإن قلنا: لا يحرم قتله، تخير الإمام بين خمسة أشياء: إن شاء منّ، أو فادى، وإن شاء قتل، أو استرق، أو قبل الجزية.
وإن قلنا: يحرم قتله بقبول الجزية، فقد قال الشيخ: إن حكمنا بأن من أسلم
__________
(1) زيادة من (ت 5).
(2) زيادة من المحقق.

(19/486)


رَق، فهذا هل يرق بقبول الجزية؛ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرِق، كما لو أسلم، وهذا ضعيف، لا اتجاه له.
مسألة أخرى من السير
12644 - إذا نكح المسلم حربية، فهل تسبى زوجته؟ فعلى وجهين مشهورين.
تقدم ذكرهما: فلو نكح مسلم حربية، وقلنا: إنها تسترق، فسُبيت واسترقت، فلا يخلو، إما أن تكون مدخولاً بها أو لا تكون، فإن لم تكن مدخولاً بها، فكما (1) رقت، ارتفع النكاح لمعنيين: أحدهما - أنه ارتفع (2) ملكها عن نفسها، فلأن يرتفع حق الزوج عنها أولى، وأيضاً، فإنها صارت أمةً كتابية، فلا يدوم النكاح عليها.
ولو كانت مدخولاً بها، فَرَقَّت لما سبيت، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: ارتفع النكاح، وانبت من غير توقف، حتى لو عَتَقَت بعد ذلك، والعدة باقية، أو أسلمت، فلا حكم لشيء من ذلك.
ومن أصحابنا من قال: إذا اتفق العتق والإسلام قبل انقضاء العدة، فالنكاح قائم، كما لو ارتد أحد الزوجين بعد الدخول، فعلى هذا إذا عَتَقَت وأسلمت في العدة، دام النكاح؛ فإنها عادت حرة مسلمة.
وإن عتقت في العدة، ولم تُسلم، فكذلك؛ فإنها حرة كتابية، والتصوير فيه إذا كانت يهودية أو نصرانية لا محالة.
ولو أسلمت في العدة، وثبتت رقيقة، فإن كان الزوج ممن يحل له نكاح الإماء، دام نكاحه عليها، وإن كان ممن لا يحل له نكاح الإماء، فهل يحل له استدامة النكاح على الأمة المسلمة؛ ذكر الشيخ وجهين في هذا المنتهى: أحدهما - ليس له ذلك، والثاني - له الاستدامة، وهو الصحيح إذا فرّعنا على هذا الوجه.
وقد أطلق الأصحابُ القولَ بأن الزوج إذا اشترى زوجته الأمة، انبت النكاح، حتى لو أعتقها في زمان العدة، لم نتبين دوامَ النكاح. وما ذكره الشيخ من الاختلاف في
__________
(1) فكما: بمعنى: فعندما.
(2) سقطت من (ت 5)، فعبارتها: أنه ملكها عن نفسها.

(19/487)


تغير حال المسبيّة قد يُطرِّق احتمالا إلى شراء الزوجة، ولكن لا سبيل إلى مخالفة ما اتفق الأصحاب عليه.
فإن قيل: لا معنى لهذه المسألة؛ فإن الزوجة إذا ملكا الزوج، فلا عدة، قلنا: العدة ثابتة، لو فرض تزويجها من الغير.
12645 - ثم أجرى الشيخ في أثناء الكلام أن الحربية إذا وطئها مسلم، وعلقت منه بولد مسلم، فإذا سبيت، وجرى الرق عليها، فلا يجري الرق على حملها، ثم لا تباع ما دامت حاملاً بالولد الحر على القياس المعلوم، وإذا وَضَعت، جاز بيعها، ولا يكون ذلك تفريقاً بين الأم والولد؛ فإن قولي التفريق فيه إذا كان الولد رقيقاً، بحيث يتصور بيعه مع الأم، فإذا بيعت الأم وحدها، كان على قولين، فأما إذا كان الولد حراً، فلم يصر أحد من الأصحاب إلى منع بيع الأم حتى يستقل الولد.
ومما جرى في أثناء الكلام زلل وقع لابن الحداد؛ فإنه قال: لو أن المسلم سُبي ولده الصغير، فالحكم كذا وكذا، وهذا غلط؛ فإن المسلم ولده الصغير مسلم، فلا يتصور أن يغنم.
مسألة أخرى من السير
12646 - نقول في مقدمتها: ما يغنمه المسلم بالقتال مخموس، وأهل الذمة إذا قاتلوا أهل الحرب منفردين، لا مسلم معهم، فما يغنمونه لا يخمس، بل ينفردون به، وحكى الشيخ وفاق الأصحاب فيه، وسببه أن الخمس يصرف إلى تدارك خلاّتٍ عامة في المسلمين، على ما لا يخفى مَصرِف الخُمس، وذلك من الجهات الغالبة، والذمي لا يكلَّف القيامَ بسدّ خلات المسلمين في الجهة العامة، ولذلك لا تضرب الزكاة عليه، وإن كانت الكفارة قد تجب عليه.
فإذا ثبت هذا، فلو خرج مسلم وذمي، وغنما، فهل يخمس المغنوم بجملته، أم يخمّس نصيب المسلم دون نصيب الذمي؟ فعلى وجهين، ذكرهما الشيخ.
وهذا فيه اختلاط، والكشف فيه أن يقال: ما ذكره مأخوذ من أصل مضى تمهيده في قَسْم الفيء والغنيمة، وهو أن الذمي حقُّه الرضخ، وهو دون السهم، ثم الرضخ

(19/488)


في حقه، وفي حق صبيان المسلمين من أي موضع يؤخذ؟ فيه اختلاف أوضحته في موضعه: من أصحابنا من قال: الرضخ من سهم المصالح، فعلى هذا: لا حق لصاحب رضخٍ في مغنم، حتى لو كان في الجند مسلم واحد، والباقون أهل ذمة، فلا حظ لهم في شيء من المغنم، وإنما المغنم للمسلم وجهة الخمس (1). وهذا الوجه مائل عن القاعدة وإن كان مشهوراً.
والصحيح أن أصحاب الرضخ يستحقون من المغنم.
ثم اختلف الأصحاب بعد ذلك: فمنهم من قال: يؤخذ الرضخ من رأس المغنم قبل التخميس، وكأنه كالمؤنة تلحق المغنمَ، بمثابة نقل المغانم إلى المكان الذي تتأتَى القسمة فيه.
ومنهم من قال: يخرج الخمس من جملة المغنم، ثم يزدحم أصحاب الرضح وأصحاب السهام في الأربعة الأخماس.
فما ذكره الشيخ من أن نصيب الذمي هل يخمس؟ هو بعينه الاختلاف الذي ذكرناه في أن التخميس بعد الرضخ أو قبله.
ولو غنم طائفة من الصبيان بالقتال، فلا خلاف أنه مخموس، فإنا إذا كنا نوجب الزكاة في أموالهم، فلا يبعد أن يُخَمَّس ما يغنمون.
مسألة أخرى من السير
12647 - نقول في مقدمتها: إذا قهر أهل الحرب بعضهم بعضاً، فالمقهور يصير مملوكاً للقاهر، ولو كان للحربي عبد، فقهر العبدُ مولاه، عتَقَ العبد، وصار السيد رقيقاً له، ولا يكفي في ذلك قصدُ القهر، بل لا بد من صورة القهر، ثم لا بد من قص الاستعباد.
ثم لو قهر حربي رجلاً حربياً، مَلَكه، والمسلم لو أسر حربياً [لم يُجرِ] (2) الرقَّ عليه، حتى يَرِقَّه الإمام أو نائبه، وسبب ذلك أن في أسير الكفار اجتهاداً في خصال،
__________
(1) ثم يأخذ أصحاب الرضخ من سهم المصالح، وهو أحد الأسهم التي يقسم إليها الخمس.
(2) في النسختين: " لم يجز ".

(19/489)


ولا يتحقق مؤاخذة الحربي بها، فتعين قهره للرق.
ثم قال الأصحاب: إذا قهر حربي حربياً، لم يُشترط قصدُ الإرقاق، بل يكفي صورة القهر. وهذا فيه نظر عندي؛ فإن القهر قد يجري استخداماً، فلا يتميز قهر الرق إلا بقصد الارقاق.
رجعنا إلى مقصود المسألة، فنقول: إذا باع الحربي زوجته من مسلم، فإن لم يقهرها، لم يصح البيع؛ فإن التملك (1) إنما يجري بالقهر، وإلا فبيع الحرة باطل، والتراضي لا يصححه.
وكذلك لو قهر ابنه، وباعه من مسلم، فهل يصح ذلك، أم لا؛ إن لم يكن قهرٌ، فلا. وإن قهره، فهل نقول: إنه يعتق عليه، فلا يستقر له عليه ملك؛ فعلى وجهين: أحدهما -وبه أجاب الشيخ أبو زيد- أنه يصح (2) منه بيعُ ولده إن قهره، ولا يعتِق عليه؛ لأن القهر سبب الملك، وإذا دام القهر، فقد دام السبب، فإن تخيلنا عتقاً على الأب، فالقهر يزيل العتق، بل دوامه يمنع حصولَه.
والوجه الثاني - أنه لا يجوز له بيع ولده، ولا يبقى له عليه ملك، وهذا اختيار ابن الحداد.
والمسألة من المسائل التي أرسلها الحَليمي إلى الشيغ أبي زيد يستفتيه فيها.
وإن فرعنا على ما اختاره ابن الحداد، فيتجه أن نقول: لا يملك الأب ابنه بالقهر، لاقتران السبب المقتضي للعتق بالقهر. فلو قال قائل: فامنعوا شراء الأب ابنه، لما ذكرتموه! قلنا: إنما جاز ذلك ذريعةً إلى تخليصه من الرق، وهذا لا ينافي ما ذكرناه من امتناع جريان الرق بالقهر.
وكل ما ذكرناه في الأب إذا قهر ابنَه، يجري في الابن إذا قهر أباه.
مسألة أخرى من السير
12648 - إذا وقع طائفة من رجال الكفار في الأسر، فقد ذكرنا أن صاحب الأمر
__________
(1) ت 5: " الملك ".
(2) ت 5: " لم يصح ".

(19/490)


يتخير فيهم بين القتل، والمن، والفداء، والإرقاق.
فلو لم يُمضِ فيهم رأيه، فابتدر مسلم، وقتل واحداً منهم، فقد أساء، وللإمام تعزيره، ولا يستوجب شيئاً؛ فإنه قتل كافراً لا أمان له، ولم يجر الرق عليه، ولا يلتزم بمنع الرق ضماناً، بخلاف ولد الغرور؛ فإن الرق يجري لولا الغرور، والرق لا يتعين في الأسير.
ولو أسلم واحد منهم، فقتله مسلم حر، فإن قلنا: من أسلم رَق، فلا قصاص على الحر، وإن قلنا: لا يرِق بالإسلام، فيجب القصاص على قاتله؛ فإنه قتل حراً مسلماً.
وفي هذا أدنى نظر؛ من جهة أنه يجوز إرقاقه، فكأنه مستحق الإرقاق، ولكن لا التفات إلى هذا؛ فإن القتل يخرجه عن إمكان ذلك، والاعتبار بصفته حالة القتل.
مسألة أخرى
12649 - قد ذكرنا في القواعد من كتاب السير أن المعاهد إذا أودع عندنا أموالاً، ثم التحق بدار الحرب، فيبقى على تفصيل عُلقة الأمان في ماله، ثم قال الأصحاب: له أن يعود ليأخذ مالَه من غير أن نجدد له أماناً.
قال الشيخ: الذي أراه أنه لا يفعل ذلك، ولو فعله، اغتلناه في نفسه؛ لأن أمانه في نفسه قد انتقض، فلا بد من تجديد ذلك.
وإنما رسمت هذه المسألة لحكاية هذا، وإلا فالمسألة مستقصاة بجوانبها.
ثم قال الشيخ: لا أعرف خلافاً أن المسلم لو دخل دار الحرب، فسلم إليه حربي بضاعةً، ثم أراد الحربي أن يبيع البضاعة، ويدخل دار الإسلام من غير أمان، لم يكن له ذلك، ولو فعل اغتيل في نفسه. هكذا قال.
وفي المسألة احتمال على طريقة الأصحاب.
...
وقد نجزت المسائل المشتتة التي ذكرها ابن الحداد في آخر المولَّدات، وقد أعدت فيها أشياء كثيرة، ولم أُخلها عن زوائد وفوائد.

(19/491)


[فصل] (1)
12650 - وأنا أذكر الآن فصلاً ذكره صاحب التلخيص (2)، وجمع فيه مسائل يفترق فيها الحر والعبد، وأنا أذكر منها ما أرى فيه مزيداً.
فمما ذكره أن العبد إذا نذر لله حجاً، فهل يُلزمه النذرُ شيئاً؟ تردد فيه، واختلف الأصحاب: فمنهم من قال: لا يلزمه بالنذر شيء في الحال، ولا في المآل إذا عتق، وليس كنذر الصوم والصلاة؛ فإنه يُتَصَوَّر الوفاء بهما في الرق.
والمذهبُ صحةُ النذر في الحج، فعلى هذا، لو وفى بنذره في رقه، فهل يبرأ، أم لا يبرأ ما لم يعتق؟ فعلى أوجهٍ: أحدها - أنه يبرأ؛ لأن الأداء لا يمتنع وقوعه في وقت الالتزام؛ فإذا لم ينافِ الرقُّ الالتزامَ، لم يناف الأداء. والوجه الثاني - أن أداءه لا يصح في الرق، كما لا يصح منه حجةُ الإسلام في الرق. والوجه الثالث -وهو الذي ذكره صاحب التلخيص ولم يذكر غيره- أنه إن حج بذن مولاه، برئت ذمته (3)، فإن حج دون إذنه، لم تبرأ ذمته، وهذا ساقط لا أصل له.
12651 - ومما ذكره في أحكام العبد؛ أن العبد لا يجوز أن يكون وكيلاً في التزويج للولي (4). وفيه وجه ذكرناه في النكاح أنه يجوز.
وهل يصح أن يكون وكيلاً في قبول نكاح الغير؟ إن كان بإذن السيد جاز؛ فإنه من أهل التزوج لنفسه، فلا يمتنع وكالته في هذا الشق.
وإن قبل النكاح بغير إذن السيد، فقد قال أبو زيد: يجوز ذلك؛ إذ لا عهدة فيه، وقال القفال: لا يصح منه هذا دون إذن السيد، كما لا يصح منه قبول النكاح لنفسه.
__________
(1) العنوان من عمل المحقق، أخذاً من عبارة الإمام الآتية.
(2) ر. التلخيص: 675.
(3) ر. التلخيص: 676.
(4) السابق نفسه.

(19/492)


ولا خلاف أنه يجوز أن يكون وكيلاً في تطليق زوجة الغير، وهذا بسبب جواز انفراده بتطليق زوجته من غير مراجعة المولى.
12652 - ومما ذكره في أحكام العبد ضمانُه (1)، فنقول: إذا ضمن مالاً، لم يخلُ: إما أن يضمن بإذن السيد، أو بغير إذنه، فإن ضمن بغير إذنه، لم يصح ضمانه على المذهب المشهور. وفيه وجه آخر، ذكره ابن سُريج أنه يصح الضمان منه، ويتعلق المضمون بذمته يُتبع به إذا عَتَق، والأصح فساد الضمان، وأنه لا يلتزم شيئاً في الحال ولا في المآل.
ولو ضمن بإذن السيد، صح، ثم ننظر، فإن لم يكن مأذوناً له في التجارة، صح ضمانه، وبماذا يتعلق المضمون؟ اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قال: يتعلق بكسبه، وهو الأصح، كما لو نكح بإذن سيده؛ فإن المهر والمؤن تتعلق بكسبه.
ومنهم من قال: يتعلق المضمون بذمته -وإن كان الضمان بإذن السيد- يتبع إذا عتق؛ إذ لا مال له في الرق، وليس الضمان من حاجاته، بخلاف النكاح.
وذكر الشيخ وجهاً ثالثاً: أن دَيْن الضمان يتعلق برقبته، وهذا مزيف، ولولا تصريحه به لما حكيته.
هذا إذا لم يكن مأذوناً (2)، فإن كان مأذوناً، وفي يده شيء، فلا يخلو إما أن يكون عليه دين، وإما ألا يكون، فإن لم يكن دين؛ فيصح الضمان، وفي وجهٍ يتعلق بذمته، ومعناه معلوم، وفي وجه بعيد يتعلق برقبته، وفي وجه يتعلق بكسبه، فعلى هذا: يتعلق بما سيكسبه من ربح، وهل يتعلق بما في يده من المال؟ فعلى وجهين ذكرناهما في النكاح.
وإن كان عليه دين، نُظر؛ فإن كان مستغرِقاً، فيصح الضمان، ويتعلق بالذمة في وجه، وبالرقبة في وجه، وبالكسب في وجه، والدين السابق هل يقدم على دين الضمان؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أحدهما - يقدم الدين المتقدم. والثاني -
__________
(1) السابق: 677.
(2) أي في التجارة.

(19/493)


أنهما سواء، [كديني] (1) معاملة أحدهما متقدم والثاني متأخر. وكل ذلك قبل الحجر عليه.
12653 - ومما ذكره في أحكام العبيد: قبول الهبة (2). فلو قبل العبد هبةً بغير إذن المولى، ففي صحته وجهان مشهوران: فإن قلنا: يصح، دخل الموهوب في ملك السيد قهراً، وهل للسيد رده بعد ما قبله العبد؟ فعلى وجهين ذكرهما: أحدهما - له رده، فإن قلنا بذلك، فنقول: انقطع ملك السيد من وقت رده، أو يتبين لنا أنه لم يدخل في ملكه؟ فعلى وجهين، ذكرهما صاحب التلخيص (3).
ويظهر أثرهما فيه إذا كان الموهوب عبداً، وقد أهلّ هلال شوال بين قبول العبد ورد السيد، [ففي] (4) وجوب زكاة الفطر على (5) الذي ردّه الخلاف (6). ووجه التبيين في التحقيق يكاد يكون على وقف الهبة على إذنه، ولكن من جوّز الرد، لم يشترط القبول.
12654 - ومما ذكره (7): أنه لو وكل السيد عبده حتى يؤاجر نفسه، صح، ولو وكله حتى يبيع نفسه، المذهب أنه يصح.
ومن أصحابنا من قال: لا يصح، ولا وجه له.
ولو وكّله أجنبي بأن يشتري نفسه من سيده (8)، فالأصح الجواز. ومن أصحابنا من منعه.
__________
(1) في الأصل: " كدين " والمثبت من (ت 5).
(2) ر. التلخيص: 677.
(3) السابق نفسه.
(4) في النسختين: " وفي " والمثبث من تصرف المحقق.
(5) (على) بمعنى (عن).
(6) مبنى الخلاف على تحقق الملك للسيد وانقطاعه بالرد، فتجب زكاة فطرة العبد المردود، وإذا قلنا: تبين أن الملك لم يحصل للسيد، فلا تجب الفطرة حينئذِ.
(7) السابق نفسه.
(8) السابق نفسه.

(19/494)


فهذا ما رأيت ذكره من كلام صاحب التلخيص.
وكنت وعدت أن أجمع أحكام مَنْ بعضه رقيق وبعضه حر. ثم بدا لي، ولم أر الإطالة [بالتكرير] (1)؛ فإن أحكامه جرت على الاستقصاء في الكتب. والله الموفّق للصواب.
...
__________
(1) مزيدة من (ت 5).

(19/495)