الفتاوى الكبرى الفقهية على مذهب الإمام الشافعي

ج / 1 ص -13-          "كتاب الطهارة".
"سئل" رضي الله عنه عما لو كان مع الشخص إداوة أو كوز فيه ماء فأراد أن يتوضأ, فلقي فيه قليل نجاسة يابسة مثل الحمصة فهل ينجس الماء إذا كان من بعر الغنم أو غيره؟ وهل إذا مست الأجنبية وضوءه هل يبطل الوضوء به؟ وما السبب لذلك؟ وهل إذا جاءت الريح بشيء فألقته في الإناء الذي فيه ماء قليل ما الحكم في ذلك؟ وهل إذا كان الإناء فيه أثر لبن ولم يمتزج بالماء فتوضأ أجزأه أم لا؟
"فأجاب" - نفع الله بعلومه - إذا كان الماء دون القلتين ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة وإن قلت سواء كانت من بعر الغنم أو غيره, ويجوز الوضوء مما مسته الأجنبية ومما ألقت الريح فيه ترابا ومما فيه أثر لبن إذا لم يتغير الماء به تغيرا كثيرا والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه عن مسألة اختلف في الجواب عنها جماعة صورتها شخص تنجس ثوبه فأعطاه فاسقا, وأمره بتطهيره من تلك النجاسة فغاب عنه الفاسق بالثوب ثم جاء به وعليه أثر الغسل وأخبر أنه طهره فهل يقبل قوله في طهارة الثوب المذكور أم لا؟.
أجاب الأول فقال: لا يقبل قوله في طهارته لأمور أحدها: أن الأئمة رضي الله عنهم قالوا بعدم قبول قوله في نجاسة الإناء وقياسه عدم قبول قوله في طهارة الثوب. الأمر الثاني: أن الشيخ جمال الدين الإسنوي رحمه الله ذكر في شرح المنهاج بحثا: أن قول الفاسق في تغسيل الميت لا يقبل ونقله الشيخ شهاب الدين الأذرعي في كتابه المسمى بالتوسط عن بعض الأئمة من غير مخالفة له, وهو كالصريح في عدم قبول قوله في تطهير الثوب. الأمر الثالث: أن الفاسق لو أخبر من جهل القبلة أنه رأى الكعبة في هذه الناحية وهو على جبل أو بناء عال أنه لا يقبل قوله على المذهب في شرح المهذب وغيره, وطهارة الثوب شرط من شروط الصلاة كاستقبال القبلة وقياسه عدم قبوله قوله في طهارة الثوب انتهى جواب الأول, وأجاب الثاني فقال: الأظهر أنه يقبل قوله في طهارة الثوب لأمور أيضا أحدها: أن قبول قوله في طهارة الثوب هو الأفسح للناس الأمر الثاني: أن الشيخ محيي الدين النووي نقل في زوائد الروضة عن الإمام المتولي, وفي شرح المهذب نقل عنه وعن غيره من الأئمة من غير مخالفة له أن الفاسق يقبل قوله في ذكاة الحيوان وعلله بأنه من أهل الذكاة, ونقله أيضا جماعة من المتأخرين منهم الإمام نجم الدين بن الرفعة - رحمه الله -.

 

ج / 1 ص -14-          وهو بعمومه كالصريح في قبول قوله في تطهير الثوب إذ لو لم يقبل قوله في تطهير الثوب لما قبل في ذكاة الحيوان المأكول لحمه؛ لأن تذكيته سبب لطهارته بعد موته. كما أن إيراده على الثوب المتنجس, وإزالة عين النجاسة سبب لطهارة الثوب ولأن الفاسق من أهل الطهارة للثوب كما أنه من أهل الذكاة الأمر الثالث: أن الفاسق لو أخبر بعدم الماء جاز التيمم الأمر الرابع: أن النووي أيضا نقل في شرح المهذب عن الجمهور: أن إخبار الصبي يقبل فيما طريقه المشاهدة فالفاسق مثله الأمر الخامس: أن القدوة بالفاسق صحيحة اعتمادا على إخباره عن طهارة الحدث والخبث, ولا يشترط مشاهدتنا لطهارته وقد قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: صلى ابن عمر خلف الحجاج وكفى به فاسقا, ومعلوم أن ابن عمر وغيره من الجم الغفير لم يشاهدوا طهارة الحجاج مع تحققهم أنه كان يبول ويتغوط فاقتضى مقام التوسيع والتسهيل على الأمة اعتماده في ذلك, ومعلوم أن التضييق لا يتلقى من التوسيع فقد يمنع أيضا إلحاق قوله: بلت في الإناء بقوله: ذبحت الشاة, وإن كان من فعله لمعارضته لأصل الطهارة الذي راعوا فيه التوسيع. الأمر السادس: أن في اشتراط عدالة المأمور بطهارة الثوب مشقة والمشقة تجلب التيسير لما في البحث عن عدالة المطهر من المشقة, ولما يشهد له من منقول المذهب الأمر السابع: أنه يعتبر اعتماد خبر الفاسق عن حاجته وتوقانه إلى النكاح حتى يجب إعفافه الأمر الثامن: أن قياس الأول لإخباره بالتطهير على إخباره بنجاسة الإناء ممنوع بتضمن المقيس عليه فيما إذا أخبر بنجاسة الإناء للتوسيع على الأمة في التمسك بأصل الطهارة لقوته بحيث لا يقاومه خبر الفاسق فلا يتلقى منه التضييق بالمنع من رد الثوب إلى أصل الطهارة بخبر الفاسق عن تطهيره له حيث أمكن, وقد اكتفوا بإمكان طهر فم الهرة المعلوم نجاسته حيث غابت فلم يحكموا بنجاسة قليل ولغت فيه بعد ذلك عملا بأصل طهارة الماء مع أن الأصل استمرار نجاسة فمها كما أن الأصل عدم إزالة الفاسق للنجاسة ولو عولوا على هذا الأصل ولم يكتفوا بخبره لما صححوا القدوة بالفاسق إلا بشرط مشاهدة طهارته كما سبق. الأمر التاسع: أن النووي أيضا قال في شرح المهذب: قال أصحابنا: يقبل قول الفاسق والكافر في الإذن في دخول الدار وحمل الهدية كما يقبل قول الصبي فيهما قال: ولا أعلم في هذا خلافا, ودليله الأحاديث الصحيحة أن النبي قبل هدايا الكفار المحمولة على أيدي بعضهم إليه ا هـ. فإذا رجع إلى إخبار الكافر والفاسق بذلك لإفادته في الجملة ظنا به, فكيف لا يرجع بإخبار الفاسق عما هو أهل له إلى أصل الطهارة في مسألتنا, وما صرحوا به من صحة توكيل مسلم لكافر وفاسق وصحة معاملتهما على ما بأيديهما ظاهر في الرجوع إليهما في ذلك والتعويل على قولهما أتينا بالتصرف المأذون فيه في ذلك الأمر العاشر: أن الإمام بدر الدين الزركشي ذكر في كتابه الخادم في الكلام على إخبار الفاسق بنجاسة الماء أنه يستثنى ما لو أخبر الفاسق عن فعله كقوله: بلت في هذا الإناء فقد ذكروا فيما لو وجدت شاة مذبوحة فقال كتابي أنا.

 

ج / 1 ص -15-          ذبحتها تحل ا هـ. فأنيط قبول خبره بالتنجيس الناشئ عن فعله من قبول خبر الكافر بمقتضى الحل والطهارة الناشئين عن فعله: فالفاسق أولى فانظر إلى السلف فإنهم كانوا يأكلون من ذبائح أهل الكتاب مع احتمال عدم إتيانهم بالشرط في الذكاة؛ ولم يمتنع أحد منهم عن أكلها لعدم مشاهدته لذبحها منهم بل عولوا عليهم في ذلك لأهليتهم له رجوعا إلى أصل الإباحة الأمر الحادي عشر أن ما نقله في الجواب الأول عن التوسط للإمام الأذرعي لم أره فيه بل تضمن كلامه أنه لم ير التصريح به فإنه قرر أن المراد من عبارة أصل الروضة استحباب كون غاسل الميت أمينا كما قاله الشيخ أبو حامد وكثيرون فإن صح عنه ما ذكر حمل على أنه إذا أخبر بأن الميت غسل فلو أخبر أنه غسله قبل قوله. وقد صرح الكمال الدميري في شرح المنهاج "بأن الفاسق إذا غسل الميت وقع الموقع" وقال في المنهاج: "وليكن الغاسل أمينا" قال الإمام الأذرعي فأشعر بالوجوب ووجه بأن غيره لا يوثق به, ولا يقبل خبره إلا في مسائل لم يعدوا هذا منها ا هـ. كلام الأذرعي. قال بعض المتأخرين: وقد يدعى أن سكوتهم عن عدها للعلم بصحة غسله فهو أهل له ولدخوله في عموم قولهم بصحة استئجار من يغسل الميت.
فأغنى ذلك مع ذكرهم لقبول خبره في الذبائح عن ذكرها ا هـ. الأمر الثاني عشر: أن الإمام الشافعي قال لو مر مجتازون بميت في صحراء لزمهم القيام به؛ فإن تركوه أثموا فإن كان ليس عليه أثر غسل ولا تكفين وجب عليهم غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه, وإن كان عليه أثر الغسل والكفن والحنوط دفنوه وإطلاق هذا النص يقتضي أنه لا فرق بين أن يتبين أن الذي غسله كان فاسقا أم لا فإذا اكتفينا بوجود أثر الغسل والتكفين والحنوط مع أن تقديم إزالة النجاسة التي على قبل الميت ودبره شرط لصحة الغسل على الراجح كما نقله الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم عن الأصحاب, فقبول قوله في تطهير الثوب مع وجود أثر الغسل عليه أولى. الأمر الثالث عشر: أن الشيخ نور الدين السمهودي حكى عن شيخه شرف الدين يحيى المناوي أنه حكى عن شيخه أبي زرعة ولي الدين العراقي "رحمه الله تعالى" أنه إذا تنجس له ثوب يأمر فتاه بتطهيره ولا ينظر إليه حالة التطهير فإذا أخبره أنه طهره لبسه وحال الفتيان لا يخفى والله أعلم. وأجاب الثالث فقال: الأقرب أنه إن أخبر بأن الثوب طهر لم يقبل قوله وإن أخبره أنه طهره قبل قوله؛ لأنه إخبار عن فعل نفسه كقوله: بلت في هذا الإناء أو أنا متطهر أو محدث وكمسألة ما إذا أخبر بأن الميت غسل فلو أخبر بأنه غسله قبل قوله وكمسألة المتولي المذكورة وهذا مستثنى من أصل عدم قبول قول الفاسق والله أعلم. فظهر لنا من جواب الثاني والثالث قبول قول الفاسق في تطهير الثوب. فهل جوابكم كذلك؟ فقد ذكر الشيخ شرف الدين المناوي أن الفاسق يقبل قوله في مسائل لا تخفى على الفقيه المطلع على كتب الأئمة وفتاويهم فلعل مسألتنا أن تكون من هذا القبيل أوضحوا لنا القول في ذلك بجواب شاف أثابكم الله الجنة. "فأجاب" - نفع الله بعلومه - المعتمد من هذه الأجوبة وهو الثالث.

 

ج / 1 ص -16-          ومن ثم جريت على التفصيل في شرح العباب وعبارتي من شرح العباب "وخرج بعدل الرواية الصبي" ولو مراهقا نعم تصح رواية الصبي بعد بلوغه كل ما سمعه في صباه على الصحيح فعليه لو أخبر بعد بلوغه عما شاهده في صباه من تنجس إناء أو ثوب أو نحوهما قبل, ووجب العمل بمقتضاه في الزمن الماضي أيضا وأما الفاسق والكافر والمجهول فلا تقبل أخبارهم وإن كان الأولى - كما قاله جمع - الاحتياط باجتناب ما أخبر المميز بتنجسه سيما إن جرب بالصدق وينبغي أن يلحق به في نحو ذلك نحو فاسق جرب صدقه لأن خبرهم يورث شبهة من أخبر منهم عن فعل نفسه كقوله: بلت في هذا الإناء قبل كما قاله جمع قياسا على ما لو قال: أنا متطهر أو محدث وكما يخبر الذمي عن شاته أنه ذكاها وكإخباره عن فعله بالأولى إخباره المتواتر إذ القبول حينئذ من حيث إفادته العلم لا من حيث الإخبار وبما تقرر يعلم أن قول نحو الفاسق ممن ذكر: طهرت الثوب مقبول لأنه أخبر عن فعل نفسه بخلاف قوله طهر وبه أفتى المناوي وغيره بل صدر كلامه صريح في اعتماد قوله مطلقا, وفرق بينه وبين إخباره بالنجاسة بأن ذلك فيه خروج عن الأصل وهو الطهارة وبالمشقة لكثرة الاحتياج إلى الغسالين مع فسقهم وحيث قبل إخباره بالطهارة بأن يقول: طهرته فالظاهر أنه لا بد من معرفته مدلولها عند المخبر بخلاف قوله: غمسته في الماء وهو مما يطهر بالغمس. وقول الأذرعي: لا يقبل قوله في تغسيل الميت بحث من عنده استدل له بأنه لا يقبل خبره إلا في مسائل لم يعدوا هذه منها وهو مردود لأنهم إنما سكتوا عن عدها لكونها في معنى ما ذكروه ومن قبول خبره عن فعل نفسه, فينبغي حمل كلامه على ما إذا أخبر بأنه غسل وطهر بخلاف قوله: غسلته أو طهرته. وفي المجموع عن الجمهور في الأذان "يقبل قول الصبي فيما طريقه المشاهدة كالغروب لا النقل كالإفتاء والتدريس والمعتمد" بل قال الإسنوي: "الصواب ما فيه في موضع آخر" وفي غيره عن عدم قبول خبره مطلقا إلا فيما رأى وفي نحو قوله في هدية ودخول دار وإجابة صاحب وليمة ا هـ. كلام شرح العباب, وبه يعلم أن المعتمد التفصيل الذي ذكره المجيب الثالث على أن الثاني أشار إليه في الأمر العاشر والحادي عشر وغيرهما لكن في كلامه نظر من وجوه كثيرة لا بأس بالإشارة لبعضها: منها قوله هو الأفسح للناس كأنه أخذه مما مر عن المناوي والوجه خلافه وأنه لا يقبل إلا إن قال: طهرته إذ الأفسح للناس إنما هو القبول حينئذ لا مطلقا ومنها ما نقله عن الروضة وشرح المهذب في قبوله في الذكاة, وإطلاقه مردود لأن كلامهم إنما هو فيما إذا أخبر عن فعل نفسه بأن قال: ذكيتها كما قدمته في عبارة شرح العباب ومنها قوله: لو أخبر الفاسق بعدم الماء جاز التيمم وهو باطل بل يلزمه الطلب وإن ظن عدم الماء, وخبر الفاسق لا يصل لظن العدم إلا إن وقع في القلب صدقه ومع ذلك لا يقبل هنا لما علمت من تصريحهم بوجوب الطلب, وإن ظن العدم ومنها ما ذكره في الرابع عن المجموع وقد قدمت أنه ضعيف ومنها ما قاله في الأمر الخامس وهو إخباره عن فعل نفسه فلا حجة له.

 

ج / 1 ص -17-          فيه بل الحجة فيه لنا ومنها: قوله ومعلوم أن التوسيع..إلخ وهو كلام كما تراه على أنه يعود بالبطلان على ما قاله أولا من قبول قوله في الطهر قياسا على قبول قوله في الذكاة ومنها: ما ذكره في الأمر السادس وهو عين ما ذكره في الأمر السابع وهو إخباره عن فعل نفسه فلا حجة له فيه بل الحجة فيه لنا أيضا ومنها: ما ذكره في الثامن من رد قياس الأول ولم يصب كل منهما بل إن أخبر عن فعل نفسه قبل في الطهارة والنجاسة وإن أخبر لا عن فعل نفسه لم يقبل فيهما وفرق الثاني بينهما مجرد خيال لا أثر له وإنما اكتفوا بإمكان طهر فم الهرة في عدم تنجس ما ولغت فيه؛ لأنه تيقن الطهارة فلا ينجس بالشك وإن حكمنا ببقاء نجاسة فم الهرة بالاستحباب وهو أضعف من اليقين فالحاصل أن هذين الأمرين تعارضا نجاسة فمها بالاستصحاب, وطهارة الماء باليقين فحكمنا بكل منهما بالنسبة لبقائه على حاله ولم نحكم بأن الأضعف وهو الاستحباب ينجس الأقوى وهو تيقن الطهارة على أن قياس مسألة الهرة أن الثوب حيث غاب عنا, وأمكن تطهيره لا ينجس ما وقع فيه مع الحكم ببقائه على نجاسته فعلم أنه لا فرق بين فم الهرة والثوب في أن كلا منهما إن أمكن طهره في الغيبة لم ينجس ما وقع فيه لا من حيث إخبار الفاسق بل لإمكان طهره ولو بوقوعه في ماء كثير وإن لم يغب عنا فهو باق على نجاسته, وينجس ما وقع فيه فاندفع ما ذكره من الاستدلال بمسألة الهرة. وقوله: ولو عولوا على هذا الأصل..إلخ جوابه إنما صح الاقتداء بالفاسق لأنه يقبل إخباره عن طهارته لما مر أنه إخبار عن فعل نفسه وهو مقبول كما مر. ومنها: ما ذكره في الأمر التاسع ولا حجة له فيه لأنه مما استثني للحاجة وجريان المسامحة فيه في سائر الأعصار بلا إنكار فلا يقاس به غيره مما ليس كذلك ولا دليل له في صحة معاملته لأن يده قرينة شرعية على أن ما فيها ملك له أو تحت ولايته, فاكتفينا في جواز معاملته بهذه القرينة الشرعية لا بمجرد قوله فتأمله وما ذكره في العاشر والحادي عشر صريح فيما قلناه من التفصيل ومنها قوله وإطلاق هذا النص يقتضي أنه لا فرق بين أن يتبين أن الذي غسله كان فاسقا أم لا؟ كلام لا معنى له ولا حجة له فيه لأنه إذا بان أن الذي غسله فاسق وقع الموقع بلا نزاع, ولا كلام فيه, وإنما الكلام فيما لو قال الفاسق: هذا الميت غسل أو أنا غسلت هذا الميت فيقبل في الثاني دون الأول دلالة لكلام الشافعي - رضي الله تعالى عنه - على واحد من هذين. وقوله: "مع أن تقديم إزالة النجاسة..إلخ" ضعيف والمعتمد أن إزالتها بغسلة مستقلة ليست شرطا في الحي ولا في الميت وإنما سكت النووي عن الاستدراك في باب الجنائز لأنه قدمه في باب الغسل فلم يحتج إلى إعادته وقال بعضهم بل بينهما فرق وهو أن الميت يحتاط له أكثر ويرد بأنا لا نسلم ذلك, بل الحي هو الذي يحتاط له في مثل هذا لمباشرته للصلاة وغيرها فإذا اكتفوا فيه بغسلة واحدة مع ذلك وكونه مكلفا بإزالتها فلا أقل أن يكون الميت مثله إن لم يكن أولى منه, وما ذكره عن أبي زرعة صريح فيما قلناه لأن الفتى لم يخبره بأنه طهر بل بأنه طهره, ونحن قائلون بقبول.

 

ج / 1 ص -18-          خبره حينئذ. وأما ما قاله الأول من جميع ما استدل به فإنه لا يفيده الإطلاق الذي زعمه من عدم القبول لأن جميعه إنما هو مفروض فيما ليس بإخبار عن فعل نفسه ونحن قائلون بعدم القبول حينئذ فظهر بجميع ما قررناه أن الحق في هذه المسألة هو التفصيل, ويوجه بأنه يبعد عادة كذبه عن فعل نفسه بخلاف إخباره عن فعل الغير فإنه لا يبعد فيه ذلك فقبلنا الأول منه عملا بتلك القرينة التي أبعدت احتمال كذبه فافهم ذلك فإنه مهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" أيضا - رضي الله تعالى عنه - عما لو سقط في ماء قليل ميتة نحو ذباب, فصب شخص هذا الماء وهي فيه في ماء آخر ولم يبلغ قلتين فهل هو مثل ما لو أوقع ميتة في الماء أم لا؟ وعما لو خلط زبادا فيه شعرتان أو ثلاث بزباد فيه مثل ذلك أو لا شيء فيه فهل ينجسان أم لا؟ "فأجاب" - نفع الله تعالى به - بقوله أما الأولى: فالذي يتجه فيها أنه كما لو أوقع ميتة في الماء فيتنجس الماءان, وأما الثانية: فبحث بعض المتأخرين أن محل العفو عن قليل شعر غير المأكول ما لم يكن بفعله فعليه ينجس الزبادان والله تعالى أعلم.
"وسئل" رضي الله تعالى عنه عن الماء القليل الذي خالطه شيء مستغنى عنه فغير أحد أوصافه الثلاثة فسلب الطهورية ثم زال التغير بنفسه فهل يعود طهورا كالماء الكثير الذي ينجس بالمخالط المتغير أحد أوصافه الثلاثة إذا زال التغير بنفسه أم لا يكون كذلك؟ "فأجاب" بقوله الجواب عن هذه المسألة هو أن الذي يصرح به كلامهم عود الطهورية وهذا ظاهر لا مرية فيه ومن ثم قلت في شرح الإرشاد: "وظاهر أنه لو تغير بما مر ثم زال تغيره عادت طهوريته". ا هـ. ومما يوضح ذلك أنهم أناطوا سلب الطهورية بوجود التغير بشرطه من غير أن يفرقوا في ذلك بين قليل الماء وكثيره, فإذا زال ما به سلب الطهورية عادت لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما ما لم يخلفها شيء آخر, وهنا لم يخلف تلك العلة أعني: التغير شيء آخر يقتضي سلب الطهورية والله تعالى أعلم.
"وسئل" رضي الله تعالى عنه عما لو خاف شخص من استعمال الماء المشمس هل يحرم عليه استعماله كما يحرم عليه استعمال المسخن عند خوف الضرر كما نبه عليه المحب الطبري أو لا يحرم عليه ذلك؟ لأن العلماء اختلفوا في ثبوت الكراهة في استعمال المشمس في البدن مع بقية الشروط التي ذكروها فقال الشافعي رضي الله عنه بالكراهة. وقال الأئمة الثلاثة بعدمها كما نقله عنهم المراغي في شرح الزبد. وقال النووي المختار عدم الكراهة وصححه في تنقيحه, وقال في المجموع: "أنه الصواب" وقال فيه لو برد الماء هل تزول الكراهة؟ فيه أوجه. ثالثها: إن قال طبيبان أنه يورث البرص كره وإلا فلا ا هـ. قال السائل: فإن كان في التحريم نص عند خوف الضرر فبينوه لنا؟ وإن كان التحريم إنما كان بالقياس على ما ذكره المحب الطبري في المسخن فأوضحوا ذلك؟ - جزاكم الله تعالى خيرا -.

 

ج / 1 ص -19-          فإن ما ذكره الطبري من التحريم في المشمس مشكل علينا بقول الشافعي رضي الله عنه "أن المضطر. إذا خاف من الطعام المحضر إليه أنه مسموم" جاز له تركه والانتقال إلى الميتة إذ مقتضاه أنه يجوز له أكله ولا يجب عليه تركه. ونص الشافعي المذكور نقله النووي في المجموع في كتاب الأطعمة ا هـ. وهو مشكل أيضا بقولهم في باب التيمم أنه إذا خاف من استعمال الماء محذورا يبيح التيمم ومقتضاه: جواز استعمال الماء أو ندبه, وإن خاف محذورا يبيح التيمم ولا نعلم أحدا صرح بحرمة استعماله حينئذ بينوا لنا ذلك فالمقصود التفهم والانتفاع لا الاعتراض على كلام العلماء بالاستشكال من غير إحاطة واطلاع كما يقع ذلك لبعض النفوس الشريرة والطباع - آجركم الله وزادكم كمال الاطلاع -. "فأجاب" - رضي الله تعالى عنه - بقوله: الجواب عن هذه المسألة يتوقف على مقدمة وهي أن ابن عبد السلام قال لم لا؟ قالوا بتحريم استعمال المشمس لما فيه من الضرر إذا شهد عدلان أنه يورث البرص وأجاب بأن الضرر لا يترتب عليه إلا نادرا بخلاف استعمال المسموم ا هـ. قال الزركشي عقبه وفيما قاله نظر بل يحصل أي الضرر لمن داوم عليه ولهذا قال المحب الطبري: متى خاف الضرر حرما. كلام الزركشي فهو ناقل عن المحب الطبري التصريح بالتحريم, ويوافقه قول بعض المتأخرين لو أخبره عدل بضرر المشمس وأنه يورث البرص وجب عليه التيمم وهذا نص في التحريم أيضا, وكأنه أخذ ذلك من قول السبكي متى شهد طبيبان أو طبيب واحد بأنه يوجب البرص تعين القول بالكراهة أو التحريم ا هـ. ويؤيد التحريم قوله في الحلبيات: استعمال المريض الماء مع ظن ترتب ضرر يخاف منه حرام ومع الشك أو غلبة السلامة جائز نعم هذا, ولك أن تجمع بين القول بالكراهة الذي هو ظاهر كلام الأصحاب, والقول بالتحريم الذي مر عن المحب الطبري ومن بعده بأنه لا تنافي بينهما لأن العدلين أو العدل بناء على الاكتفاء به الذي يصرح به كلام المجموع وغيره كما بينته في شرح العباب تارة يخبران بضرر المشمس من حيث هو وتارة يخبران بضرره لإنسان بخصوصه لمقتض قام بمزاجه فالأول: هو محل الكراهة لا الحرمة لأن ما ندر ترتب الضرر عليه لا يحرم. كما صرح به ابن عبد السلام وجعل منه المشمس إذ هو من حيث هو لا بالنسبة لمزاج مخصوص لا يترتب عليه الضرر إلا نادرا كما صرح به رئيس الأطباء ابن النفيس في شرح التنبيه. والثاني: هو محل الحرمة ويؤيده تصريحهم بأنه لو أخبر طبيب بضرر الماء لبرد أو مرض حرم استعماله ولا ينافي ما ذكرته في المجموع من حكاية وجه أن المشمس لا يكره إلا إن قال طبيبان أنه يورث البرص؛ لأن صاحب هذا الوجه لم يثبت عنده أن الماء المشمس يتولد عنه برص فاشترط شهادة طبيبين في ثبوته له من حيث هو فهم لا يخالف غيره في الكراهة حينئذ, وإنما تخالفهما قبل شهادتهما فهو ينفي الكراهة إن لم يثبت عنده موجبها وغيره قبل شهادتهما لأن موجبها ثابت من غير شهادة كما بينته في شرح العباب بما حاصله أنه جاء في الخبر الصحيح : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ولا شك أن.

 

ج / 1 ص -20-          استعماله مريب, وقد رد الزركشي وغيره دعوى النووي أن الموافق للدليل عدم الكراهة بأنه صح عن عمر أنه كرهه. وقال: إنه يورث البرص ولم ينقل عن أحد من الصحابة مخالفته؛ فكان إجماعا ثم الظاهر أنه قال: توقيفا إذ لا مجال للاجتهاد فيه ويؤيده الخبر الضعيف خلافا لمن زعم وضعه عن عائشة رضي الله عنها سخنت للنبي ماء في الشمس فقال "لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص", وقول النووي لم يثبت عن الأطباء فيه شيء شهادة نفي وكفى في إثباته إخبار السيد عمر رضي الله عنه عنه الذي هو أعرف بالطب من غيره, وقد تمسك به الشافعي من حيث إنه خبر لا تقليد فهو وقول جمع آخرين لم يذهب أحد من الأطباء إلى أنه يورث البرص يرد بذلك أيضا. قال الزركشي ولقد أحسن الإمام علاء الدين بن النفيس في شرحه على التنبيه وبين هذا أي أنه لا يورث البرص لكن على ندور وهو عمدة في ذلك لجلالته فيها. وقد سقت عبارته بتمامها في شرح العباب وهي مشتملة على مسائل نفيسة فينبغي مراجعتها, وقوله عنه أنه عمدة في ذلك لجلالته فيه هو كذلك كما شهدت به كتبه وتراجم الأئمة له ومن ثم كان عمدة الأطباء بعده إلى زماننا بإجماع الفرق؛ فثبت بما ذكرته ظهور مذهب الشافعي وأن الكراهة هي الحق الموافق للدليل. والمعنى وإن كثر المتنازعون فيها لا تتوقف على شهادة أحد من الأطباء بعد إخبار عمر رضي الله عنه, وبما جمعت به بين القول بالكراهة والقول بالحرمة يعلم أن ما هنا من حرمة المشمس والمسخن عند إخبار طبيبين أو طبيب بناء على ما مر من أنه يضر المستعمل بالنسبة لمقتض قام بمزاجه لا ينافي ما في السؤال عن الشافعي رضي الله عنه في المضطر إذا خاف السم لأنه في مجرد خوف لم يستند لعلامة تغلب على الظن الضرر وما هنا في خوف استند لعلامة هي إخبار العدل أو معرفته نفسه بالطب يغلب على الظن الضرر فمن ثم جاز تناول الطعام في مسألة المضطر وحرم استعمال المشمس والمسخن في مسألتنا وقد صرح ابن عبد السلام بأن ما ظن ترتب الضرر عليه غالبا حرام؛ لأن الشارع أقام الظن مقام العلم في أكثر الأحكام وما شك في ترتبه عليه جائز كما مر عن السبكي في حلبياته وكذا يقال في السؤال عنهما في التيمم لأنه مجرد خوف لا ظن معه كما مر التصريح به عن السبكي والله أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عما إذا انغمس جنب في ماء دون قلتين فنوى في حالة انغماسه وارتفع حدثه ثم لو أحدث حدثا آخر كان له أن يرفعه بما انغمس فيه ولو مسح جميع رأسه ثم ردد الماء لم يحصل التثليث لأن الماء صار مستعملا وإن لم ينفصل عن الرأس وحينئذ فقد حصل للنفل مزية على الفرض ما الجواب عن ذلك؟ فإنه في غاية الإشكال. "فأجاب" رضي الله عنه بأنه لم يحصل للنفل مزية فيما ذكر لأن ذلك مبني على عدم الحكم بالاستعمال على الماء في الأولى وهو ظاهر لبقاء صورة الاستعمال كما قاله النووي وعلى الحكم عليه في الثانية, وهذا هو المشكل ومن ثم استشكله كثير من المتأخرين وتكلف بعضهم الجواب.

 

ج / 1 ص -21-          عن ذلك بما فيه نظر, وقد بينت ذلك مع الجواب الصحيح الذي لا غبار عليه في كتابي شرح مختصر الروض فاطلبه فإنه مهم.
"وسئل" رضي الله عنه بما صورته قال ابن النقيب في مختصر الكفاية "لو كانت النجاسة في نحو أحد الكمين أو أحد طرفي العمامة واشتبه فهل يجتهد؟ فيه وجهان: أصحهما لا. وعليهما يخرج ما لو أخبره شخص بوقوع النجاسة في أحدهما فهل يجوز له قبول خبره؟ إن قلنا يجتهد جاز وإلا فلا" ا هـ. فما وجه التخريج فإنه أشكل على كثير. "فأجاب" - نفع الله تعالى به - بقوله الظاهر أن هذا التخريج طريقة لبعض الأصحاب وإلا فكلام الأكثرين يقتضي قبول خبره مطلقا وهو الوجه الذي لا محيد عنه لأنه حيث كان المخبر ثقة وبين النجاسة, أو كان موافقا للمخبر في باب تنجيس الثياب ونحوها وجب قبول خبره. وإن قال له وقعت النجاسة في نحو أحد الكمين من غير أن عرف عين المتنجس كان هذا الإيهام لا يقتضي طعنا في الخبر لإفادة خبره تحقق نجاسة أحدهما وعند تحققهما يجب غسلهما على الأصح ويجتهد على مقابله فنتج من ذلك أن الوجه قبول خبره سواء أقلنا يجتهد أم لا ولك أن تقول قد يمكن توجيه تلك الطريقة المذكورة في السؤال بأن الإيهام في الخبر يورث فيه ريبة لكنها ليست قوية فلم تقو على رده مطلقا بل مع القول بعدم الاجتهاد لما يترتب على ذلك من مشقة وجوب غسلهما بخلاف ما إذا قلنا بجواز الاجتهاد فإنه لا مشقة حينئذ فجاز القبول ثم فرضه الخلاف في جواز القبول وعدمه به نظر إن أراد بالجواز إباحة؛ لأنه لا وجه للقول بحرمة القبول على القول به بل هو غلط فاحش فإن أراد به ما يشمل الوجوب كان له وجه وحينئذ يكون المراد بهل يجوز قبول إلخ؟ هل يجب؟.
"وسئل" رضي الله عنه عن امرأة على يدها أساور فتوضأت فجرى الماء على يدها فإذا وصل للأساور فمنه ما يعلو فوقها ثم يسقط على يدها ومنه ما يجري تحتها ثم يجري الجميع على باقي يدها بعد الأساور فهل يكفي جريانه مرة واحدة بهذه الصفة؟ "فأجاب" - نفع الله تعالى به - بقوله: قضية كلامهم أنه لا يصير مستعملا بذلك وأنه يكفي جريانه مرة واحدة بهذه الصفة المذكورة.
"وسئل" رضي الله عنه عن ثوب صبغ بنيل متنجس فهل يشترط خروجه صافيا؟ وحينئذ فما الفرق بينه وبين ما إذا تنجس نحو تراب أو عجين فأورد عليه ماء وأوصله لجميع أجزائه فإنه يطهر. "فأجاب" - نفع الله تعالى به - بقوله: نعم يشترط المبالغة في الغسل بحيث تزول أوصاف الصبغ ولا يبقى إلا ما عسر زواله من لون أو ريح؛ لاختلاط النجاسة بأجزائه فما دام فيه شيء من أوصاف النيل المتنجس الذي أقمناه مقام العين النجسة مع سهولة التمييز فالنجاسة باقية في الثوب كما يدل له كلام الأنوار وصرح به الماوردي حيث قال بأن اللون عرض, والنجاسة لا تخالط الأعراض وإنما تخالط العين فإذا زالت العين التي هي محل.

 

ج / 1 ص -22-          النجاسة زالت النجاسة بزوالها. وعبارة البغوي "إذا صبغ الثوب بصبغ نجس فما دام عين الصبغ عليه فهو نجس. فإن زالت العين وبقي اللون فهو طاهر كلون الحناء النجس". وعبارة الغزالي "وما تعسر إزالته كأثر الحناء النجس وما في معناه يعفى عنه", ويحكم بطهارة المحل مع بقاء أثره كما في أثر الدم وكلام هؤلاء مصرح باشتراط ما ذكرناه أما قول القاضي لو صبغ الثوب بصبغ نجس, ثم غسل بالماء وانغمس وبقي اللون قالوا يحكم بطهارته؛ لأن الماء يقدر على إزالة النجاسة ورفعها ولا يقدر على قطع الألوان ورفعها من المحل فإذا أورد الماء عليه علمنا أن ما غمره الماء من النجاسة قد زال وإنما بقي اللون ويدل عليه أن الصبغ النجس عند الانفراد إذا غمر بالماء يحكم بطهارته, واللون دائم كما قبل الغسل فضعيف إلا أن يؤول بما يوافق ما مر وفارق ذلك ما نظر به السائل بأن المتنجس في مسألتنا مائع وهو متعذر التطهير بخلافه فيما ذكره.
"وسئل" رضي الله عنه عما صورته ما الفرق بين المستعمل إذا جمع فبلغ قلتين والقليل المكمل قلتين بمائع لا يغيره حيث يتأثر هذا الثاني بوقوع النجاسة فيه, وإن لم يتغير بخلاف الأول وأيضا فقد نزلوا المائع المستهلك في الثاني منزلة الماء في جواز استعمال الجميع لا في دفع النجاسة عن نفسه. وأجيب بأن رفع الحدث وإزالة النجس من باب الرفع ودفع النجاسة من باب الدفع, والدافع أقوى من الرافع فالدافع لا بد أن يكون أقوى من الرافع قيل وهذا هو الجواب عن كون المستعمل إذا بلغ قلتين كان في عوده طهورا وجهان ولو استعمل القلتين ابتداء لم يصر مستعملا بلا خلاف ا هـ. فهل هذا الفرق صحيح؟ وكيف صورة الدفع وصورة الرفع؟ وما وجه قوة الدافع؟ "فأجاب" - نفع الله به - بقوله: هذا يتوقف على مقدمة وهي أن القليل المستعمل هل العلة في عدم طهوريته كونه مسلوبا أو مغلوبا؟ وفي ذلك وجهان: أصحهما الثاني ومعنى السلب أن الطهور به قوة التطهير, فإذا استعمل بشرطه سلب محل الحدث تلك القوة منه كما أن الحناء فيه قوة الصبغ فإذا حنيت به يد سلبت منه تلك القوة بحيث إنه إذا حني به ثانيا لم يصبغ. ومعنى كونه مغلوبا أنه إذا تطهر به مع قلته فأصل معنى التطهير باق فيه إلا أنه ضعف بانتقال المانع إليه فصار مغلوبا لذلك. إذ المانع حينئذ شبيه بنحو صبر المحل في ماء فعذوبة الماء باقية فيه غير مسلوبة عنه لكن مرارة الصبر قد انتقلت إليه فغلبت عذوبته فالمانع مثله في انتقاله من العضو إلى الماء إذا تقرر هذا. فالمستعمل إذا بلغ قلتين إن قلنا: إنه مسلوب, فالسلب باق مع كثرته أيضا إذ المسلوب لا يمكن عوده فهو كالمائع لا يرفع حدثا, ولا يزيل نجسا ولا يدفع به فإن قلنا: إنه مغلوب فما ذاك إلا لضعفه بالقلة فإذا استعمل وهو كثير لم يتأثر بالاستعمال فإذا جمع القليل المستعمل حتى كثر زال ضعفه فبرز معنى الطهورية الكامن فيه فصار رافعا للحدث ومزيلا للنجس, ودافعا له فلم يتأثر به إذا وقع فيه بخلاف الذي بلغ قلتين بتكميل المائع ولم يغيره فإنه طهور؛ لبقاء اسمه فهو كما كان قبل انضمام المائع له لأنه كالمعدوم.

 

ج / 1 ص -23-          حينئذ حتى يجوز استعماله ولا يجب تبقية قدر المائع إلا أنه لا يدفع النجس عن نفسه لمفهوم إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا وهذا لم يبلغ قلتين بمحض الماء, فهو ناقص عنهما في الحقيقة إذ المخالط في معنى المعدوم. فإن قيل بل هو موجود حسا, وقد جعلتموه كالماء في الطهارة به فليكن كالماء في دفع النجاسة كما أشير إليه في السؤال. قلنا: وجوده بالنسبة إلى دفعها كعدمه كما مر فإنه وإن كثر المائع لا يدفع النجاسة ووجوب استعماله في رفع الحدث ليس بكون المائع صار ماء ولا مثله في الدفع بل إنه لم يسلبه اسم الماء لقلته, فالحكم للماء وإذا سلم قول القائل أن الدافع لا بد أن يكون أقوى من الرافع فعود الطهورية للقلتين اللتين من محض الماء وإن كان استعمل لكونهما أقوى من قلتين: بعضهما ماء وبعضهما مائع نعم إطلاق القول بأن الدافع لا بد أن يكون أقوى ليس على إطلاقه إذ الطلاق رافع للنكاح غير دافع له والإحرام دافع له غير رافع. والطلاق بالنسبة إلى النكاح أقوى من الإحرام فالرافع هنا أقوى وكالإحرام عدة الشبهة وحقيقة الرافع أن يكون في محل أثر ويرد عليه ما يرفع ذلك الأثر كالطلاق إذا ورد على النكاح بخلاف ما إذا ورد عقد نكاح الرجل على مطلقته الرجعية فإن النكاح لا يندفع بذلك الطلاق السابق, وإن صدق عليها أنها مطلقته وحقيقة الدفع أن يرد شيء على محل قابل لتأثره به لو لم يكن دافع فيصادف في ذلك المحل شيئا يدفعه ويمنع تأثره فيه كالإحرام فإنه إذا ورد عقد النكاح على المحرمة مثلا دفعه الإحرام فلا ينعقد وإن ورد الإحرام على النكاح لا يرفعه بل يدوم معه والأغلب أن كل رافع دافع وعكسه, وقد يكون الشيء دافعا فقط كالإحرام وعدة الشبهة وقد يكون رافعا فقط كالطلاق والماء القليل.
"وسئل" رضي الله تعالى عنه عن شجر بأرض الحبشة يخرج منه عند انتشار الرياح بخار كالدخان ويرشح مائعا كالماء سواء بسواء فهل له حكم الماء في الطهورية؟ "فأجاب" - نفع الله تعالى به - بقوله: ليس حكمه حكمه في ذلك بل هو كالمائع جزما, وفارق بخار الطهور المغلي بأن ذلك من الماء بخلاف هذا إذ هو كماء الشجر وهو ليس بطهور قطعا قال بعضهم: وبلغني أن القوافل بأرض الحبشة إذا عدموا الماء حفروا حفرة ثم ستروها بشيء من الشجر وتركوها مدة ثم يصعد بخار من الحفرة يعلق بالشجرة يرشح مائعا على هيئة الماء ويجتمع منه في الحفرة ما يكفيهم وهو غير طهور كما هو ظاهر إذ هو ماء شجر أيضا.
"وسئل" رضي الله عنه بما صورته حركت الريح التراب المختلط بالنجاسة وحملت منه أجزاء كالذر وألقته على شيء من المائعات هل ينجسه؟ "فأجاب" - نفع الله تعالى به - بقوله: ذكر الغزالي في البسيط أنه يعفى عن ذلك وظاهره أنه لا فرق بين أن يدركه الطرف أم لا.
"وسئل" رضي الله عنه بما صورته لو تنجس حب أو أعيان متعددة صغيرة أو كبيرة فجمع الحب أو الأعيان في إناء طاهر أو متنجس, وأورد عليه ماء قليل وأدير حتى غمر.

 

ج / 1 ص -24-          الأعيان وجوانب الإناء وزالت عين النجاسة فإن قلتم بالطهارة فذاك وإلا فما الحكم لو كان الموضوع في الإناء عينا واحدة أهو كذلك أيضا أو لا؟ "فأجاب" - نفع الله تعالى به - بقوله: إذا وضعت أعيان أو عين متنجسة نجاسة حكمية في إناء متنجس نجاسة حكمية أيضا, ثم صب عليها ماء حتى غمرها وغمر جوانب الإناء أو أداره حتى طهرت جوانبه طهر الإناء وما فيه وإلا فلا.
"وسئل" رضي الله تعالى عنه بما لفظه قال النووي في شرح المهذب فيما إذا جرى الماء على عضو المتطهر إلى عضوه الآخر وإن كان المتطهر جنبا فقال صاحب الحاوي والبحر فيه وجهان: أحدهما يصير مستعملا ولا يرفع الجنابة عن العضو الذي انتقل إليه كالمحدث قالا وأصحهما لا يصير مستعملا حتى ينفصل عن كل البدن لأنه كله كعضو. وقال الفوراني والمتولي وصاحب العدة إذا صب الجنب على رأسه الماء فسقط من الرأس إلى البطن وخرق الهواء صار مستعملا لانفصاله, وحكى إمام الحرمين هذا الكلام عن بعض المصنفين ويعني به صاحب الإبانة الفوراني. قال الإمام في هذا فضل نظر فإن الماء إذا كان يتردد على الأعضاء وهي متفاوتة الخلقة وقع في جريانه بعض التقاذف من عضو إلى عضو لا محالة, ولا يمكن الاحتراز من هذا كيف ولم يرد الشرع بالاعتناء بهذا أصلا فما كان من هذا الجنس فهو عفو مطلقا وأما التقاذف الذي لا يقع إلا نادرا فإن كان عن قصد فهو مستعمل, وإن اتفق ذلك بلا قصد لم يمتنع أن يعفى عنه فإن الغالب على الظن أن أمثال هذا للأولين وما وقع عنه بحث من سائل ولا تنبيه مرشد ا هـ. لفظ شرح المهذب. وعبارة التحقيق "ولا يصير مستعملا ما دام يتردد على العضو فإن فارقه صار ويقال: لا من يد إلى يد وبدن جنب كعضو محدث وقيل: لا يضر انفصاله إلى باقي بدنه وقيل إن نقله ضر" ا هـ. هذه عبارته التي وقفت عليها وفي العمدة لابن النحوي لا يصير الماء مستعملا ما دام مترددا على العضو فإن فارقه صار, وقيل: لا من يد إلى يد؛ لأنهما كعضو وبدن جنب كمحدث كما صححه في التحقيق, وقيل: يضر انفصاله إلى باقي بدنه, وقيل: إن تقاصر ا هـ. لفظ العمدة. فعبارته فيها حذف لا بعد قيل فهل يقال: إنه وقف على نسخة من نسخ التحقيق بحذف لا؟ وعبارة جامع المختصرات "أو جرى على عضو أصغر قيل: أو أكبر" وفي شرحه إذا انفصل الماء من عضو إلى آخر يجري الماء إليه, فإن كان في الحدث الأصغر فمستعمل وفي اليدين وجه شاذ أو في الأكبر. فالأصح في التحقيق وفاقا للروياني والماوردي بقاء طهوريته إذ جميعه كعضو, ورجح الخراسانيون خلافه ا هـ. وعبارته في المنتقى وإن انفصل من عضو لآخر في الوضوء فمستعمل وفي البيان وجه شاذ في اليدين أو الجنابة صحح الحاوي والبحر المنع كما في التحقيق, ورجح الخراسانيون خلافه وقال الإمام: إن قصد فنعم وإلا فلا ا هـ. فهذا الإمام النسائي الموصوف بالتحقيق العظيم لكلام الشيخين نقل عن التحقيق عدم الاستعمال, واعتمد ابن النحوي عدم الاستعمال ونقل في المهمات عن

 

ج / 1 ص -25-          التحقيق الاستعمال, وكذا ابن أبي شريف وكذا الشيخ زكريا, ونقله عن كلام الروضة وعبارته في الغرر "ولو انفصل ماء الجنب من عضو إلى آخر فوجهان: الأصح عند صاحبي الحاوي والبحر منع استعماله ورجح الخراسانيون خلافه" حكاه النووي في الروضة ورجح في تحقيقه الثاني ووهم من قال أنه رجح فيه الأول وعبارته فيه "ولا يصير مستعملا ما دام مترددا على العضو" فإن فارقه صار وبدن جنب وكعضو محدث وقيل لا يضر انفصاله إلى باقي بدنه ا هـ. وكان الشيخ زكريا يقدر عبارة التحقيق بنحو هذا التقدير وبدن جنب كعضو محدث أي فلا يصير مستعملا ما دام يتردد على بدن الجنب, فإن فارق الماء بدن الجنب ولو إلى محل آخر منه صار مستعملا؛ فيحسن مع التقدير. هذا إثبات لنا, ولنا أن نقول معنى قوله فإن فارقه صار؛ أي فارق البدن جميعه وانفصل عنه إلى خارج وليس المراد المفارقة إلى بعضه لأن كله كعضو واحد, ومع هذا يسقط احتجاجه ويدل لنا ما يأتي عن شرح المهذب فتأملوا كلامه هذا في اعتماد الاستعمال فإن تعليلهم للوجه الضعيف فيما إذا انتقل ماء المتوضئ من يد إلى يد بأنه لا يصير مستعملا على هذا الوجه بأنهما كعضو واحد يرد ما قاله, وكذا قوله في شرح المهذب بعد هذا والصواب الأول لأنهما عضوان متميزان وإنما عفونا عن ذلك في العضو الواحد؛ للضرورة فيه. أعظم شاهد على رد ما اعتمده الشيخ زكريا وفي شرح المهذب في التيمم ما لفظه "قالوا: فإن قيل: إذا سقط فرض الراحتين صار التراب الذي عليهما مستعملا فكيف يجوز مسح الذراعين به ولا يجوز نقل الماء الذي غسلت إحدى اليدين به إلى الأخرى؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أن اليدين كعضو واحد ولهذا جاز تقديم اليسار على اليمين ولا يصير مستعملا إلا بانفصاله والماء ينفصل عن اليد المغسولة فيصير مستعملا. الثاني: أنه يحتاج إلى هذا هنا فإنه لا يمكن أن ييمم الذراع بكفها, بل يفتقر إلى الكف الأخرى فصار كنقل الماء من بعض العضو إلى بعضه, وهذان الجوابان ذكرهما ابن الصباغ وهما مشهوران في كتب العراقيين" ا هـ. المقصود من كلام شرح المهذب. فقوله: "كنقل الماء من بعض العضو إلى بعضه" فيه أعظم شاهد ودليل على أن نقل الماء من بعض أعضاء الجنب إلى بعض لا يصيره مستعملا, وإن كان الشيخ زكريا بحث هنا في شرح الروض أنه ينبغي أن يكون مراده بنقل الماء مفارقة الذي يغلب كما عبر به الرافعي ا هـ كلامه. وبحثه هذا يأباه كلام المهذب وفي شرح المهذب في باب الوضوء لما ذكر مذهب من لم يشترط الترتيب فيه واحتجاجهم بأنه طهارة؛ فلم يجب فيها ترتيب كالجنابة ما لفظه "والجواب عن قياسهم على غسل الجنابة أن جميع بدن الجنب شيء واحد فلم يجب ترتيبه كالوجه بخلاف أعضاء الوضوء فإنها متغايرة ومتفاصلة, والدليل على أن بدن الجنب واحد أنه لو جرى الماء من موضع إلى غيره أجزأه كالعضو الواحد في الوضوء؛ بخلاف الوضوء فإنه لو انتقل من الوجه إلى اليد لم يجزئه" ا هـ. وفي شرح المهذب واستدل مالك وأبو ثور وغيرهم على طهارة المستعمل بأنه صلى الله عليه وسلم اغتسل ونسي لمعة ثم عصر

 

ج / 1 ص -26-          عليها شعرا. قال: وجوابه من أوجه: أحدها أنه ضعيف. والثاني: لو صح حمل على بلل باق من الغسلة الثانية أو الثالثة. والثالث: أن حكم الاستعمال إنما يثبت بعد الانفصال عن العضو وهذا لم ينفصل, وبدن الجنب كعضو واحد؛ ولهذا لا ترتيب فيها. وفي هذا أيضا دليل على اعتماد عدم الاستعمال فحينئذ القصد من تفضلكم إمعان النظر في هذه المسألة وتبيين ما تعتمدونه فيها فإن كثيرا من العلماء المتأخرين ممن اجتمعت به وأخذت عنه يعتمد الاستعمال في المسألة, ولكن تأملوا الكلام الذي ذكرته واكتبوا الجواب بما يترجح. "فأجاب" - شكر الله سعيه - بقوله: سبب اختلاف المتأخرين - رحمهم الله تعالى وشكر سعيهم - في فهم عبارة التحقيق والنقل عنها أن نسخه مختلفة ففي بعضها بل أكثرها ما حكاه السائل - نفع الله بعلومه وبركته - بقوله: وعبارة التحقيق "ولا يصير مستعملا..إلخ" وهو ما حكاه شيخنا زكريا خاتمة المحققين - سقى الله عهده صوب الرحمة والرضوان وأعلى درجته في الجنان آمين - لكنه حذف من العبارة حكاية الضعيف لعدم غرض له فيه. وفي بعضها, وقيل: لا ويضر انفصاله بزيادة واو فمن نقل عنه ترجيح الاستعمال كالإسنوي ومن تبعه كشيخنا لعله إنما رأى النسخة التي سقطت منها الواو ومن نقل عنه ترجيح عدم الاستعمال كالنشائي ومن تبعه لعله إنما رأى النسخة التي ثبتت فيها الواو وعبارة ابن الملقن المذكورة في السؤال لا توافق كلا من النسختين. والظاهر أن نسخته فيها حذف لا مع الواو فإن قلت: ما وجه فهم ما ذكر من العبارة على كلا الطريقين؟ قلت: أما على إثبات الواو فيكون معنى العبارة وبدن جنب كعضو محدث في حالة تردد الماء عليه بلا انفصال فلا يكون مستعملا وقيل لا فيكون مستعملا ثم قال ويضر انفصاله إلى باقي بدنه فاتجه حينئذ نقل عدم الاستعمال عند الجري على الاتصال عن عبارة التحقيق, فإن قلت: تعبير النشائي بالانفصال ينافي ما ذكرت قلت: قوله يجري الماء إليه ظاهر فيما ذكرت من أن الكلام في الجري على الاتصال. وعلى تسليم ظاهر التعبير بالانفصال فهو محمول على انفصال يغلب فيه التقاذف فإنه لا يضر كما يأتي عن الرافعي وغيره, وأما على حذف الواو فيكون معنى العبارة وبدن جنب كعضو محدث في أن الماء يصير مستعملا لمفارقته بعض الأعضاء إلى بعض آخر وقيل لا يضر انفصاله إلى باقي بدنه فاتضح حينئذ نقل الاستعمال لكن عند جريان الماء لا على الاتصال كما يفهمه التعبير بالمفارقة, وبتأمل هذا الذي قررته يتضح أنه لا مخالفة في الحكم بين ما فهمه الإسنوي والنشائي؛ لأن كلا فهم حالة حكمها صحيح ولك أن تسلك في وجه اختلاف فهمها من العبارة طريقا آخر, وإن سلمنا أنهما إنما اطلعا على النسخة المحذوف منها الواو لكونها الأكثر, وذلك لأن قول التحقيق ولا يصير الماء مستعملا ما دام يتردد على العضو فإن فارقه صار فيه حكمان: هما عدم الاستعمال عند التردد, والاستعمال عند المفارقة. وقوله: "وبدن جنب كعضو محدث" يحتمل أن التشبيه.

 

ج / 1 ص -27-          فيه في كل من الحكمين, وأنه في الأول أو الثاني لكن قوله "وقيل لا يضر انفصاله إلى باقي بدنه" صريح في أن التشبيه في الحكم الثاني؛ لأن هذا الوجه المحكي مقابل له فقط, والتشبيه في الحكم الأول محتمل الوجود والانتفاء إذ لا قرينة على أحدهما فمن نقل عنه عدم الاستعمال فهم أن التشبيه إنما هو في الحكم الأول فقط, وهو فهم بعيد لأن قرينة قوله: وقيل لا يضر انفصاله تبعد من ذلك ومن نقل عنه الاستعمال فهم أن التشبيه في الحكم الثاني بقرينة حكاية الوجه المذكور وهو فهم قريب لقيام القرينة عليه, ومن ثم ساغ لشيخنا أن يحكم على الفهم الأول بأنه وهم لما تقرر من أن آخر العبارة أعني حكاية الوجه السابق يرده. نعم شيخنا لم يوهمه من حيث الحكم لما أشرنا إليه فيما مر ولما سنذكره بل من حيث فهم ذلك من العبارة ونقله عنها وإنما يتم هذا للشيخ إن كانت النسخة التي رآها النشائي بحذف الواو كما تقرر. أما إذا كانت التي رآها بإثباتها فما فهمه من التشبيه في الحكم الأول فقط هو صريح العبارة فلا اعتراض عليه ولا إيهام وقع منه هذا, والأوجه في العبارة المحذوف منها الواو أن يجعل التشبيه فيها راجعا لكل من الحكمين وقول السائل - نفع الله تعالى به - اعتراضا على ما فهمه شيخنا من العبارة ولنا أن نقول معنى قوله فإن فارقه صار أي فارق البدن جميعه وانفصل عنه إلى خارج. وليس المراد المفارقة إلى بعضه..إلخ يجاب عنه بأن قول التحقيق: "فإن فارقه صار. ويقال: لا من يد إلى يد" صريح في أن مراده بالمفارقة ما يشمل المفارقة من أحد اليدين إلى الأخرى بدليل قوله: "ويقال لا من يد إلى يد" وما يشمل المفارقة بالكلية فاتضح ما فهمه شيخنا كالإسنوي وغيره من العبارة, واندفع الاعتراض بما ذكر واعتماد هؤلاء للاستعمال في مسألة المفارقة الذي هو صريح كلام التحقيق كما تقرر لا يرده تعليلهم الوجه الضعيف خلافا لما في السؤال لأنهم حكموا بالاستعمال. عند انفصال الماء من إحدى اليدين إلى الأخرى مع كونهم جعلوهما كعضو واحد في عدم وجوب الترتيب ونحوه فعلمنا أن تعليل الوجه الضعيف بما ذكر لا ينتج للسائل ما ذكر. وكون الضعيف لا يعلل بما يوافقه الصحيح عليه كثير لا أكثري فضلا عن كونه كليا, وقول المجموع "والصواب..إلخ" ليس فيه رد لما مر من اعتماد الاستعمال بل قوله وإنما عفونا عن ذلك في العضو الواحد للضرورة مؤيد للاستعمال؛ لأن عضو المحدث يضطر فيه لانتقال الماء من بعضه لمزيد القرب بين المحلين, وبدن الجنب لا يضطر في جميعه إلى ذلك بل إنما يضطر إلى ذلك فيما يغلب فيه التقاذف فقط كما يأتي, وقول المجموع "كنقل الماء من بعض العضو إلى بعض" يتعين تأويله بما ذكره شيخنا حتى يوافق ما ذكره عن الرافعي وما سنذكره وأيضا فإبقاء كلامه هذا على ظاهره يفهم منه أنه لو انفصل الماء من كف المحدث ثم عاد إلى مرفقه لا يضر, وليس كذلك كما سنذكره إذ الفرق بين عضو المحدث وبدن الجنب واضح كما أشرت إليه فيما مر. وكلام المجموع في عضو المحدث فلا يقاس به بدن الجنب على إطلاقه لما مر ولما يأتي وكلام المجموع المذكور في السؤال الذي في الوضوء, وما بعده محمول على التفصيل الآتي فلا شاهد فيه إذا تقررت هذه الجمل وعلم ما يتعلق بالسؤال فلا بأس

 

ج / 1 ص -28-          بالإشارة إلى خلاصة حكم هذه المسألة أعني بدن الجنب, وإن كنت أشرت إلى ما يفيده فيما مر والحاصل أن النووي نقل فيها الخلاف في الروضة والمجموع كما ذكر في السؤال. ولم يرجح في الكتابين من ذلك شيئا لكنه رجح في التحقيق كما تقدم مبسوطا الاستعمال عند المفارقة وعدمه عند التردد على عضو المحدث وبدن الجنب بلا مفارقة والحكم بعدم الاستعمال عند الجري على الاتصال المحسوس لا خلاف فيه كما يعلم مما يأتي, وصرح به ابن النقيب في مختصر الكفاية وأما عند الانفصال فتارة يكون بأن يخرج عن البدن ويخرق الهواء ثم يرجع إليه كأن ينفصل من رأسه ويفقأ طولا على فخذه, وهذا هو محل الخلاف والراجح أنه يصير مستعملا لكن يستثنى منه كما جزم به الرافعي في باب التيمم وتبعه ما يغلب فيه التقاذف فلا يصير الماء مستعملا بالانفصال إليه, وعلى هذا يحمل ما صححه في الكفاية من منع الاستعمال وكذا ما نقله النشائي وغيره عن التحقيق كما مر تارة يكون بأن ينفصل عن بعض الأعضاء إلى بعض بتردد وجريان من غير خروج في الهواء وليس فيه اتصال حسي وهذا لا يكون مستعملا قطعا كما أشار إليه الإمام وصاحب البيان وحاول في الكفاية مجيء وجه فيه ولا وجه له كما قاله الزركشي وقال كشيخه الأذرعي في قول الروضة وقال الإمام: إن نقله قصدا وإلا فلا. هذا ما قاله الإمام في التقاذف الذي لا يقع إلا نادرا وأما الذي لا يمكن الاحتراز عنه فقال: إنه عفو قطعا لأن البدن ليس سطحا بسيطا ومما يزيح الإشكال جميعه في هذه المسألة عبارة الغزالي في بسيطه وهي "لو انفصل من عضو وتقاطر على عضو آخر يحتمل أن يقال: إن جميع. البدن في حكم العضو الواحد" ويحتمل أن يقال إنه مستعمل وهو المنقول في المذهب, وعدم المنع من الأولين لذلك محمول على الغالب في ترادف قطرات ماء وتتابعها وذلك بيان لمن تأمله انتهى. فاشدد بهذه العبارة يديك فإنك لن تجد في هذا المحل أحسن منها واحمل عليها كلام إمامه الذي حكاه السائل عنه عن المجموع وتأمل قوله وهو المنقول في المذهب يتضح لك ما مر عن الإسنوي وشيخنا وغيرهما من اعتمادهم الاستعمال. ويتضح لك أيضا أنه الحقيقي بالاعتماد وأنه يتعين تأويل ما أوهم خلافه من ظواهر عبارات أشير إلى بعضها في السؤال وكان هذا هو الحامل للزركشي على قوله, والتحقيق أنه يصير مستعملا لأن الماء لو انفصل من العضو صار مستعملا بالنسبة إليه فكيف بالنسبة إلى غيره انتهى.
"وسئل" رضي الله عنه بما لفظه ذكر في شرح المهذب ما لفظه "إذا كان على عضو من أعضاء المتوضئ أو المغتسل نجاسة حكمية فغسله مرة واحدة بنية رفع الحدث وإزالة النجس أو بنية رفع الحدث وحدها حكم بطهارته عن النجاسة بلا خلاف وهل يطهر عن الحدث أو الجنابة فيه وجهان حكاهما الماوردي والشاشي وغيرهما أصحهما يطهر وبه قطع القاضي أبو الطيب والشيخ نصر المقدسي في كتابه الانتخاب وابن الصباغ لأن مقتضى الطهارتين واحد فكفاهما غسلة واحدة كما لو كان عليه غسل جنابة وغسل حيض.

 

ج / 1 ص -29-          والثاني لا يطهر وبه قطع القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي وصححه الشافعي في كتابه المعتمد والرافعي, والمختار الأول. ذكر القاضي أبو الطيب والقاضي حسين والبغوي والشيخ نصر هذه المسألة في هذا الباب وذكرها صاحب الشامل في باب الاجتهاد في الأواني والمتولي في المياه والماوردي والشاشي والروياني في باب الغسل, ولو كان على يده عجين أو طين ونحوه فغسلها بنية رفع الحدث لا يجزئه وإذا جرى الماء إلى موضع آخر لا يحسب عن الطهارة لأنه مستعمل ذكره القاضي حسين والله أعلم ا هـ. لفظ شرح المهذب بحروفه. وكماله ذكره في الكلام على النية والمقصود من السؤال قوله وإذا جرى الماء إلى موضع آخر لا يحسب عن الطهارة لأنه مستعمل في أي صورة هذا الكلام وإنما سقنا الكلام إلى آخره مع شهرة ما قبل ذلك. ووضوحه ومعرفة طريقة القاضي حسين لتبينوا لنا كلامه هذا هل له تعلق بما تقدم كما هو صريح كلام السمهودي فإنه ذكر في كتابه درر السموط ما لفظه. "ومعنى قوله وإذا جرى الماء إلى موضع آخر..إلخ" أنه جرى الماء الذي غسل به النجاسة إلى موضع آخر من اليد ليس عليه حائل لا يحسب عن الطهارة؛ لأنه صار مستعملا في غسل النجاسة وهذا على طريقة القاضي في أن الغسلة الواحدة لا تكفي للحدث والنجس؛ ولهذا نسبه للقاضي ثم ذكر تمام الكلام في ذلك فتلقفوا عليه فعلى هذا ما جواب مسألة العجين بنفسها إذا انفردت؟ فإذا كان على يده عجين أو طين ونحوه وغسلها بنية رفع الحدث وجرى الماء إلى موضع آخر وكان غير متغير هل يقال يحسب عن الطهارة وكذا لو كان متغيرا ما حكمه؟ ورأيت في التجريد للمزجد ما لفظه لو كان على يده عجين أو طين ونحوه فغسلها بنية رفع الحدث لم يجزه. وإذا جرى الماء إلى موضع آخر لم يجزه عن الطهارة لأنه مستعمل نقله النووي عن القاضي. قلت هذا إطلاق منتقد إذا لم يرفع الماء حدثا فما وجه الحكم باستعماله نعم إن تغير بالعجين ونحوه تغيرا فاحشا اتجه عدم رفعه لتغيره لا لكونه مستعملا ا هـ كلام المزجد وفهم المزجد هذا غير ما فهمه السمهودي كما قدمناه ولا يليق فهم المزجد هذا بكلام نقله الإمام النووي - نفع الله به - عن الإمام القاضي حسين وقرره وعلله بالاستعمال فليتأمل المسئول ذلك تأملا حسنا ويوضح ذلك الإيضاح الذي لا يبقى معه ريب, ونقل في العمدة شرح المنهاج للإمام ابن النحوي مسألة العجين ونحوه مستقلة ولم يصدرها بما صدر بها الإمام النووي ولفظه: "فرع لو كان على يده عجين أو طين ونحوهما فغسلها بنية رفع الحدث لا يجزؤه وإذا جرى إلى موضع آخر لا يحسب عن الطهارة لأنه مستعمل نقله المصنف في باب نية الوضوء عن القاضي حسين" ا هـ. وكذا نقلها مستقلة الدميري في شرحه على المنهاج ذكر ذلك في باب الغسل ا هـ. فتأملوا نقل ابن النحوي والدميري المسألة مستقلة وأوضحوه لنا وما معنى الحكم بالاستعمال مع كونهما ذكراها مستقلة؟ ولا ينبغي أن ينسب إلى الإمام ابن النحوي والدميري التقرير على التعليل بالاستعمال لشيء لا يحكم فيه.

 

ج / 1 ص -30-          بالاستعمال؛ لأن هذا لا يخفى على أحد إلا أن يكون لكلامهما معنى آخر لم يدركه فهمنا فبالله أمعنوا النظر في المسألة وانظروا تعليق القاضي حسين وغيره من مصنفاته وانظروه نظرا تاما وأمعنوا في تحقيق طلب ذلك فضلا منكم مأجورين. "فأجاب" - شكر الله سعيه - بقوله: قول المجموع "لو كان على يده عجين..إلخ" ظاهر في أنه مسألة مستقلة لا تعلق لها بما قبلها وهو ما فهمه ابن الملقن الدميري وغيرهما كالفتى وصاحب الأنوار فقال لو كان على يده عجين أو في شقوقها شمع أو تحت أظفاره وسخ فالغسلة التي تزيله لا تحسب من الوضوء ا هـ. لكن قيد ذلك تلميذ القاضي الإمام البغوي بما إذا تغير الماء بذلك, ثم قال وإن لم يتغير فإن كان ذاكرا للنية حسبت أي الغسلة عن الطهارة وإلا فوجهان كما لو نوى التنظيف وهو ناس للنية ا هـ. وقضية تشبيهه عدم الحسبان وهو الأوجه الأليق بكلامهم فإن قلت: إطلاق القاضي عدم الإجزاء هل له وجه؟ قلت إن كان الفرض أن الحائل يمنع وصول الماء إلى العضو ولا يزول بتلك الغسلة فالإطلاق صحيح, وإن كان الفرض أنه لا يمنع ويتغير الماء به فكذلك وإن كان الفرض أنه لا يمنع ولا يتغير الماء به وقصد مع رفع الحدث إزالة ذلك الحائل بغسلة واحدة فيوجه عدم ارتفاع الحدث حينئذ بأنه يشترك بين واجب وغيره, وذلك الغير لا يحصل ضمنا فضر قصده بخلاف نية التبرد مثلا فإنه يحصل ضمنا وإن لم ينو فلم يضر قصده وإن كان الفرض أنه لا يمنع ولا يتغير الماء به ولا قصد مع رفع الحدث شيئا آخر فلا وجه للقول بأن الغسلة حينئذ لا ترفع الحدث وبتأمل تفصيل البغوي بين التغير وعدمه الذي قدمته وأنه من الموافقين للقاضي في أنه لا يكفي للحدث والخبث غسلة واحدة يعلم أن مسألتنا هذه لا تعلق لها بما قبلها في المجموع من مسألة الحدث والخبث إذ لو كان كذلك لم يمكن البغوي التفصيل المذكور لأن الغسلة عنده لا تجزئ عن الحدث المقارن للخبث وإن لم يتغير الماء كما هو مقرر في محله, ولما كان لإطلاق القاضي عدم الإجزاء وجه بل كان القياس أن يقول أجزأه عن الخبث لأنه لا يقبل الصرف إذ لا يحتاج إلى نية بخلاف الحدث فلما أطلق عدم الإجزاء, وفصل تلميذه بين التغير وعدمه وأنه تارة يكون ذاكرا للنية وتارة لا علمنا أن هذه المسألة لا تعلق لها بتلك المسألة أصلا, وأن كلامهما في مسألتنا هذه إنما هو لمعنى ومدرك آخر غير مدركهما في مسألة اجتماع الحدث والخبث فإن قلت: قياس ما قاله القاضي في مسألتنا أنه في مسألة الاجتماع لا يزول الخبث فلأي معنى فرق بين المسألتين قلت الفرق بينهما ظاهر, وهو أن النجاسة تطلب الطهارة فلم يعد قصد إزالتها صارفا منافيا لقصد إزالة الحدث فأجزأت الغسلة عن الحدث والخبث عند من يقول بالاندراج أو عن الخبث فقط عند القاضي وغيره فمن يقول بعدم الاندراج بناه على قاعدته وهو أنه لا يمكن ارتفاع الحدث إلا بعد زوال الخبث فتلخص أن مسألة العجين لا تعلق لها بمسألة اجتماع الحدث والخبث أصلا وحينئذ فقول المجموع "وإذا جرى الماء إلى موضع..إلخ" يحتمل عوده إلى مسألة النجاسة.

 

ج / 1 ص -31-          ويكون النووي وسط مسألة العجين لأن لها تعلقا بمسألة النجاسة من حيث المشابهة التي مرت الإشارة إليها, والجواب عنها وهذا ما فهمه السيد السمهودي وعليه فلا إشكال في التعليل بقوله لأنه مستعمل. ويحتمل عوده إلى مسألة العجين وهو الأقرب لظاهر العبارة وهو ما فهمه ابن الملقن وغيره وعليه فالتعليل بالاستعمال مشكل إلا أن يجاب عنه بأن القاضي أراد الاستعمال اللغوي الذي نشأ منه عدم ارتفاع الحدث عن محل العجين لما تقرر فإذا جرى إلى محل آخر لا يرفع حدثه أما عند فرض التغير فواضح, وأما عند عدم فرضه فلأن جريانه إلى المحل الآخر حصل من غير قصد من المتطهر إلى إجرائه؛ ولذا عبر بجرى ولم يعبر بأجري فانتفاء رفعه لاستعماله في الأول الناشئ عند جريانه إلى الموضع الثاني من غير قصد فأطلق الاستعمال على ما يعم الاستعمال اللغوي ووجه ذلك: أن الاستعمال اللغوي هو الذي نشأ منه عدم الرفع لما تقرر من أنه نشأ منه الجريان إلى المحل الآخر من غير قصد, وأما قصده رفع الحدث أولا فغير صحيح بناء على ما مر عن القاضي ولك حمله على الاستعمال الشرعي. ووجهه أنه إذا صب الماء على نحو العجين الغالب أنه لا بد أن يمس الماء شيئا من محاذي الحائل لأن مس الماء للعجين فقط من غير مس لشيء مما حاذاه ولا شيء عليه في غاية الندرة وواضح أن ماء ذلك الجزء المحاذي الذي لا حائل عليه مستعمل, وقد اختلط ببقية الماء وإذا جرى الماء جميعه إلى محل آخر بعد جريانه على ذلك وعدم تغيره به لا يرفع حدثا لأنه مستعمل إذ الطهور إذا اختلط به مستعمل يصير كله مستعملا فإن قلت شرط المستعمل الانفصال قلت القاضي حسين لا يشترط ذلك, بل يثبت للماء حكم الاستعمال وإن لم ينفصل كما هو مقرر في مذهبه في مسألة اجتماع الحدث والخبث فظهر صحة تعليله بقوله لأنه مستعمل. وإن فرضنا انقطاع مسألة العجين عما قبلها, وأن مراده الاستعمال الشرعي لا اللغوي وأن ذلك صحيح بالنسبة إلى طريقته ولما لم يظهر للسيد السمهودي هذا الحمل بقسميه جعل هذا متعلقا بمسألة النجاسة ورأى أن حمله على ذلك نظرا لصحة المعنى بحسب ما فهمه أولى وإن كان ظاهر العبارة يأبى ذلك ولما ظهر لابن الملقن ومن تبعه صحة حمله على نحو ما ذكر نقلوه وأقروه مشيا مع ظاهر العبارة وإن كان فيها تجوز بعيد بالنسبة للحمل الأول وحمل على ما يوافق الغالب لا مطلقا بالنسبة للحمل الثاني. والتجوز البعيد يقع في كلام الأئمة كثيرا اتكالا على فهم الناظرين في كتبهم وكان اللائق بالمزجد أن يؤول كلام القاضي على نحو ما أولنا به ولا يعترض على ظاهر العبارة لأن المراد منها واضح لكن عذره في ذلك أن الناظرين في كلام غيرهم تختلف مقاصدهم فمنهم: من يترجح عنده النظر إلى ظواهر العبارات مع قطع النظر عن القواعد وغيرها فيبين ما فيها من اعتراض ونقد وإن كان معلوما رده من محل آخر أو كان جليا قصد بتبيينه الأغبياء وتشحيذ أذهان غيرهم ومنهم: من يترجح عنده النظر مع ذلك إلى مراعاة القواعد والنظائر فلا يعترض على كثير منها تعويلا على الفروع.

 

ج / 1 ص -32-          والقواعد المقررة في أبوابها ومحالها, والمتأخرون - رحمهم الله - انقسموا إلى هذين الفرقتين وكلاهما حسن لكن الثانية قد يترجح حسنها, ومن ثم لما نقل النووي هذا الكلام عن القاضي, وتعليله بالاستعمال لم يعترضه بأن المستعمل أن يزيل مانعا وهذا ليس كذلك لأن الفقهاء قد يريدون بالاستعمال الاستعمال اللغوي. إذا تقرر ذلك فنعود إلى ما في السؤال فنقول بتأمل ما أوضحناه يعلم الجواب عن قول السائل فعلى هذا ما جواب مسألة العجين إذا انفردت. إلخ؟ وحاصله أن الأوجه فيها ما مر عن البغوي مبسوطا من أنه إن تغير الماء أو لم يزل الحائل لم يرتفع الحدث وإن لم يتغير وزال الحائل بتلك الغسلة فإن قصد رفع الحدث أو أطلق ارتفع الحدث, وإن قصد إزالة الحائل فإن كان ذاكرا للنية فكذلك وإلا لم يرتفع لأن قصد الإزالة حينئذ صارف. وعن قوله: "ولا يليق فهم المزجد..إلخ" وذلك لما تقدم من أن تقرير النووي للقاضي بناء على أن كلامه مستقل إنما هو لوضوح المراد والعلم به مما قدمه وهذا لا يمنع الاعتراض على ظاهر العبارة بناء على سلوك الطريقة الأولى السابقة وإن كان خلافها قد يكون أحسن وعن قوله: "وما معنى الحكم بالاستعمال مع كونهما ذكراها مسألة مستقلة؟ وذلك لما قدمته من أنهما فهما أن القاضي أراد الاستعمال اللغوي أو الشرعي بالطريقة التي قدمناها وبهذا علم الجواب عن قوله أيضا, ولا ينبغي أن ينسب إلى الإمام ابن النحوي والدميري التقرير على التعليل بالاستعمال..إلخ" فوضح المراد في هذه المسألة وزال ما فيها من الإشكال نسأل الله التوفيق والسداد في القول والعمل آمين.
"وسئل" - نفع الله تعالى به - بما لفظه إذا انغمس المحدث حدثا أصغر في ماء قليل فهل يرتفع حدثه عن جميع أعضاء الوضوء كما هو ظاهر إطلاق المنهاج وغيره في آخر باب الوضوء وهل يصح أن يقال: لا يرتفع حدثه إلا عن وجهه فقط لأنه بمجرد انغساله يصير الماء مستعملا بالنسبة إلى بقية الأعضاء لوجوب الترتيب, وتعدد محل الحدث فيصير حينئذ كجنبين انغمسا في ماء قليل, وتقدمت نية أحدهما فيصير مستعملا بالنسبة لمن تأخرت نيته. وإطلاق المنهاج وغيره في آخر باب الوضوء مقيد بما ذكره في أول الكتاب بقوله: "والمستعمل في فرض الطهارة غير طهور" فاكتفى بهذا عن إعادته في باب الوضوء كما اكتفى بقوله: في باب الوضوء أو الغسل "إن المحدث إذا كان على بدنه نجاسة يكفي لها غسلة واحدة" عن إعادته في باب الجنازة في قوله: "والواجب تعميم شعره وبشره بعد إزالة النجس. وهل صرح أحد بأنه لا فرق بين القليل والكثير؟ وهل فرق بين تعدد المحل في الموضعين؟ "فأجاب" بأن قضية قولهم لو انغمس جنب في ماء قليل ناويا رفع الجنابة ثم أحدث فيه قبل خروجه منه حدثا أصغر أو أكبر صح رفع حدثه الثاني به, وإن كان بعد رفع رأسه منه فيعيد الانغماس فيه للمحدث الثاني ويجزئه أن المنغمس في ماء قليل للوضوء به كالجنب فيما ذكر فيرتفع حدثه وبه صرح الإمام حيث قال بعد انغماس الجنب, ومثله المتوضئ ونقله عنه.

 

ج / 1 ص -33-          في المجموع, وأقره وبه صرح أيضا الخوارزمي في كافيه حيث قال: إنما يحكم باستعمال الغسالة بعد الفصل حتى لو دخل جنب ماء قليلا ثم انغمس فيه ارتفعت جنابته فلو أحدث قبل أن يخرج ثم انغمس ثانيا صحت طهارتها. فما مشى عليه الشرف المناوي كالشرف ابن المقري من أن حدثه لا يرتفع إلا عن الوجه لوجوب الترتيب فيه بخلاف الجنب يرد حكما بأن المنقول خلافه كما علمت, وتعليلا بأنهم صرحوا في مسألة ارتفاع الحدث في مسألة الانغماس المذكورة في الوضوء بأن علة ارتفاعه بذلك مع فقد الترتيب فيه أن الترتيب تقديري في لحظة لطيفة, وأنه يصير وضوءه غسلا والمعتمد هو العلة الأولى وكل من العلتين تقتضي ارتفاع جميع حدثه ولا نظر لوجوب الترتيب لما تقرر من أنه تقديري فلا يلاحظ أو أنه صير وضوءه غسلا وهو لا يجب فيه ترتيب, فاعتماد بعضهم للثاني وتأويله لكلام صاحب الكافي الذي ذكرته بما يصرفه عن ظاهره ليس في محله, وبما تقرر يعلم الفرق بين ما نحن فيه وجنبين أو محدثين انغمسا في ماء قليل وتقدمت نية أحدهما. ومشى الزركشي في الخادم على ما مر عن صاحب الكافي ولم يؤوله بل ارتضى ظاهره وما وقع له فيه مما يخالف ذلك مبني على ضعيف كما يعلم بمراجعة كلامه ولا ينافي ذلك قوله في الوضوء: "إن نفي الخلاف فيما إذا راعى الترتيب في الوضوء, محله إذا كثر الماء وإلا كان بارتفاع الحدث عن وجهه مستعملا لكله فلا يجزئه عن غيره للفرق الظاهر بين وقوع الانغماس مرتبا على ترتيب أعضاء الوضوء فلا يكفي عن غير الوجه؛ إذ لا يمكن تقدير الترتيب حينئذ وعلى هذا قد يحمل كلام الشرفين, بل كلام الأول كالصريح فيه وبين أن لا يقع كذلك بأن تؤخر النية إلى تمام الانغماس فيكفي, ويرتفع حدثه عن جميع أعضاء الوضوء لإمكان تقدير الترتيب حينئذ فاعتمد ذلك ولا تغتر بما خالفه.
"وسئل" رضي الله عنه لو تنجس الفم وبين الأسنان أعيان فهل تجب إزالتها بنحو تخليل أو يكفي التمضمض لتطهير الفم؟ وتلك الأعيان إذا زال به أوصاف النجاسة. "فأجاب": بأنه لا يجب إزالة ما بين الأسنان فيها بل يكفي إيصال الماء إلى ما وصلت إليه النجاسة منها بشرط أن لا يتغير ولا يزيد وزنه, وأن يزول أوصاف النجاسة بتفصيله المعروف ولا يقال النجاسة تسري إلى جميع أجزائها لأن الماء على تقدير تسليم ذلك له قوة سريان أكثر فهو يصل إلى ما وصلت إليه النجاسة الأولى.
"وسئل" رضي الله عنه عما لو تنجس شعر شخص أو جسده وهو مدهن الادهان المعروف بحيث لو لمس لظهر بملامسته أثر منه ولا يمكن إزالته بإجراء الماء عليه بل يحتاج إلى نحو سدر أو كان أثره ضعيفا كماس اللحم والألية يعلق بيده أثر فهل يكفي إجراء الماء إذا كانت النجاسة حكمية أو عينية وزالت بقية أوصافها دون ذلك الأثر؟ بينوا لنا حد أثر الادهان الذي يطهر بنفس جريان الماء من غير احتياج إلى غير ذلك وما يعفى ويتسامح فيه.

 

ج / 1 ص -34-          من ذلك؛ فالادهان من المندوبات وضروري خصوصا في مظان البر. "فأجاب" بأنهم صرحوا بأن من أكل ميتة ولا يمكن إزالة دسومتها من أسنانه إلا بالسواك وجب عليه الاستياك لتوقف إزالة النجاسة عليه فقياسه أنه متى تنجس الشعر أو البدن وعليه دهن ولم يمكن إزالة الدهن إلا بنحو سدر أنه يجب لأنه صار متنجسا, وإزالته الواجبة متوقفة على ذلك وما توقف عليه الواجب كان واجبا ولا نظر إلى كون الادهان قربة؛ لأن المدار في باب تطهير النجاسة على إزالتها بجميع أوصافها إلا اللون أو الريح إن عسر من غير نظر إلى كونه عصى بسبب ذلك أم لا, ألا ترى أنه لو وجب عليه أكل الميتة للاضطرار وتوقفت إزالة الدسومة على نحو السواك أنه يجب. فمسألة الادهان كذلك من باب أولى.
"وسئل" رضي الله عنه عن ميتة لا دم لها سائل وقعت في ماء قليل ثم زيد عليه - وهي فيه - ماء آخر فهل يبقى العفو؟ "أجاب" بقوله: يمكن تخريج هذه المسألة على مسألة ابن أبي الصيف المشهورة بجامع أن كلا فيه ما يضر في الأصل لكنه عفي عنه للمشقة, فمن نظر إلى خصوص المشقة يقول فيها بالتأثير إذ لا مشقة في خصوص هذه وكذا في صورة السؤال, ومن نظر إلى أن المشقة اقتضت طهورية الماء وألغى هذا المانع يقول بعدم التأثير, ثم رأيتني صرحت بالمسألتين في شرح الإرشاد. وجعلت صورة السؤال شاهدا لما رجحته في مسألة ابن أبي الصيف من عدم التأثير وعبارته: "ولو صب متغير بخليط لا يؤثر على غير متغير فغيره كثيرا ضر, وإن كان كثيرا على ما ارتضاه جمع لسهولة الاحتراز عنه, لكن مشى آخرون على أنه لا يضر وهو الأقرب ألا ترى أنه لو وقع ذباب في مائع ولم يغيره فصب على مائع آخر لم يؤثر فيه كما هو ظاهر لطهارته المستثنية عن مشقة الاحتراز, فكذلك لا يضر هذا لطهوريته المستثنية عن ذلك انتهت.
"وسئل" رضي الله عنه عن أرواث الفئران هل يعفى عنها وعن آثارها لشدة البلوى بها كذرق الطيور أو لا؟ "فأجاب" بقوله: صرح بالعفو عنها بعض المتأخرين كما نقلته في شرح الإرشاد والعباب وفيه وقفة والذي يتجه خلافه لأن الابتلاء بها لم يعم كعمومه بذرق الطيور كما هو جلي, والمشاهدة قاضية بذلك فيتعين الاحتياط في ذلك.
"وسئل" - نفع الله به - عن إخبار القصار الكافر بتنجس الثوب عنده مع بيان سببه وبغسله وإخباره عن غسل الثوب الذي كان متنجسا قبل التسليم إليه مع عدم علمه بشروط التطهير هل يعتمد خبره بذلك أم لا؟ وهل الكافر كالفاسق في الإخبار أم لا؟ "فأجاب" بقوله: "أطلق الأصحاب أنه لا يقبل إخبار الفاسق والكافر بنجاسة ولا بطهارة ويستثنى منه ما إذا بلغ المخبر من الفاسق أو الكافر عدد التواتر, بأن كانوا جمعا يؤمن تواطؤهم على الكذب, وأخبروا عن عيان فيقبل خبرهم كما صرح به الفقهاء والأصوليون ثم إنهم إن وافقوا المخبر في مذهبه في باب النجاسة والطهارة لم يشترط بيان السبب وإلا اشترط, ويستثنى منه أيضا.

 

ج / 1 ص -35-          ما إذا أخبر الكافر أو الفاسق عن فعل نفسه وبين السبب كقوله: بلت في هذا الإناء أو طهرت الثوب بماء كذا حتى زالت عين النجاسة عنه, فيقبل خبره هنا أيضا ففي الروضة عن المتولي وفي المجموع عنه وعن غيره أنه لو وجدت شاة مذبوحة فقال ذمي: أنا ذبحتها حلت لأنه من أهل الذكاة انتهى. فإذا قبل إخبار الكافر عن فعل الذكاة قبل إخباره عن فعله التنجيس أو التطهير مع بيان سببها بالمساواة إن لم يكن بالأولى؛ لأن الذكاة يحتاط فيها ما لا يحتاط في ذينك وقد أطلق السلف إباحة ذبائح أهل الكتاب ولم يشترطوا مشاهدتنا لذبحها, بل عولوا عليهم في ذلك توسيعا في الرجوع إلى أصل الإباحة وما يؤيد ذلك صحة الاقتداء بالفاسق وإن شوهد سبق حدثه ولم يشاهد وضوءه وليس ملحظه إلا أنه لو أخبر بأنه توضأ قبل خبره؛ لأنه إخبار عن فعل نفسه قال شيخ الإسلام فقيه عصره وأستاذ أهل مصره الشرف المناوي: كان شيخنا شيخ الإسلام الولي أبو زرعة إذا تنجس ثوبه دفعه لفتاه وأمره بتطهيره فإذا أتاه به وقال طهرته لبسه وحال الفتيان لا يخفى ا هـ. وأشار الشرف بذلك إلى أن ذلك الفتى الذي كان الولي يدفع إليه ثوبه ليطهره لم يكن معلوم العدالة, وإلا لم يقل الشرف وحال الفتيان لا يخفى وحينئذ فهذا من الولي وتلميذه الشرف اعتماد لمقتضى القياس الذي قدمته على إخبار الذمي بالذكاة, وأن الفاسق ومثله الكافر متى قال طهرته أو نجسته وبين السبب أو كان الفاسق موافقا عارفا بالطهارة أو النجاسة قبل خبره وقد أفتى المناوي بذلك كما يأتي ومما يؤيد ذلك أيضا إطباقهم بحسب ما اقتضاه كلامهم على ما قاله بعضهم على من استأجر فاسقا أي عن نفسه, بأن كان معضوبا ليحج عنه صحت إجارته وقبل قوله حججت من غير يمين ولا بينة؛ لأن مرجعه إلى النية ولا يمكن الاطلاع عليها. ومن ثم قال الدبيلي لو قال للأجير جامعت في إحرامك فأفسدته لم تسمع هذه الدعوى فلا يحلف الأجير وكذا لو ادعى عليه تأخر إحرامه عن الميقات أو نحوه؛ لأنه من حقوق الله تعالى وهو أمين عليها. وصرحوا أيضا بأن المطلقة ثلاثا لو قالت تزوجت برجل وطئني ثم طلقني واعتددت قبل قولها بلا يمين أي وإن كانت فاسقة كما اقتضاه إطلاقهم ولا يؤثر في تصديقها في ذلك إنكار الزوج الثاني ما نسبته إليه, ثم إن ظن الأول صدقها نكحها بلا كراهة وإن لم يظن ذلك ندب له الإعراض عنها فإن صرح بكذبها امتنع عليه تزوجها حتى يقول تبينت صدقها. وقول الفوراني وتبعه الغزالي: "إذا غلب على ظنه كذبها لم تحل له" غلط عند الأصحاب كما في الروضة فقد نقل الإمام اتفاقهم على الحل حيث أمكن صدقها وإن غلب على الظن كذبها, وبه يصرح نص الأم, وصرحوا أيضا بصحة الاستئجار على تغسيل الميت ولم يشترطوا كون الأجير ثقة فاقتضى ذلك قبول قوله حيث لم يكذبه المستأجر؛ لأن الحق هنا للغير وبه يفرق بينه وبين ما مر في مدعية التحليل. وقد قال الأذرعي في توسطه عند قول الروضة: "ينبغي أن يكون الغاسل أمينا" كذا عبارة جماعة والمراد أنه يستحب ذلك كما قاله الشيخ أبو حامد وكثيرون ثم قال وعبارة المنهاج تشعر.

 

ج / 1 ص -36-          بالوجوب ووجه بأن غيره لا يوثق به ولا يقبل خبره إلا في مسائل لم يعدوا هذه منها ا هـ. وأجيب بأنهم إنما سكتوا على استثنائها لأنها في معنى ما ذكروه من إخبار الذمي بالذكاة, وفي التوسط أيضا عند الكلام على الازدحام على الغسل أن قضية كلام الشيخين أن الصبا والفسق لا يؤثران قال: وفيه نظر؛ لأنها أمانة, وليسا من أهلها. وقد جزم الصيمري بأنه لا حق للفاسق ولا لغير البالغ في الصلاة, وينبغي أن يكون الحكم هنا كذلك بل أولى ا هـ. واعترض بأن ما ادعاه من عدم الأهلية ممنوع وأقول: ما ذكره وإن سلم لا يعكر على ما نحن فيه؛ لأن ما ذكره في تزاحم ذوي حقوق فلا يقدم منهم على الباقين إلا كامل, والصبي والفاسق ليسا كذلك فعدم تقديم الفاسق هنا؛ إنما هو لما ذكرته فلا يقتضي بوجه من الوجوه عدم قبول قوله إذا أخبر عن فعل نفسه. فإن قلت اتفق أصحابنا على قبول قول الفاسق والكافر في الإذن في دخول الدار وإيصال الهدية كما يقبل قول الصبي فيها للأحاديث أنه قبل هدايا الكفار أي المحمولة إليه على أيديهم كما ذكره في المجموع هذا مع أن الأصل عدم الإباحة, والإذن في الدخول والإرسال, وهما فعل غيره فإذا قبلوا قول الفاسق والكافر هنا مطلقا فلم لا يقبل قولهما في النجاسة والطهارة مطلقا قلت في هذا تأييد ظاهر لما قدمته من قبول خبرهما عن فعلهما وإنما لم نأخذ بقضية هذا من قبول خبرهما مطلقا لأن السلف والخلف اكتفوا بهما فيما ذكر دون غيره لعموم إضرار الناس إلى إنابتهما في نحو الإذن والإرسال؛ لأنا لو كلفنا أن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه أو لا يستنيب فيه إلا ثقة لشق ذلك على الناس مشقة عظيمة؛ فاقتضت الضرورة المسامحة في قبولهما في ذلك فلا يقاس به غيره مما لا مشقة فيه لكنها ليست مثل تلك المشقة. وممن صرح بأن ذلك إنما جاز للمشقة ابن عبد السلام في قواعده فقال لو أذن في الدخول أو في حمل الهدية فاسق فالذي أراه أنه يجوز الإقدام قولا واحدا لأن قوله مقبول شرعا وجراءته أبعد من جراءة الصبيان أي المكتفى بإخبارهم في ذلك حيث لم يجرب عليهم كذب, ولا وقفة عندي في المستور وعليه عمل الناس من غير إنكار واستثني ذلك لما على المالك من المشقة في مباشرة ذلك على أن الأشياء إذا ضاقت اتسعت ا هـ. وأيده الزركشي بأنه صلى الله عليه وسلم جعل ابن أم أريقط الليثي وهو مشرك دليلا حين هاجر إلى المدينة فعلم من قول ابن عبد السلام "واستثني ذلك..إلخ" قبول قول الكافر أو الفاسق في مسألتنا إذا أخبرا عن فعل نفسهما بالأولى لا سيما في التطهير؛ لأن تعاطيه بالنفس لو وجب لشق ذلك على الناس مشقة عظيمة فاقتضى التوسيع المتلقى من أصول الشريعة السمحاء قبول قوله: طهرته إذا وافق مذهب المخبر أو بين السبب, وأما إفتاء بعضهم بعدم قبول قولهما مطلقا في التطهير كما لو أخبرا بالتنجيس أو بأن الكعبة في هذه الجهة فهو غير معتمد؛ لما سبق من كلام الأصحاب في غير موضع مما يصرح بخلافه, وقياسه عن التنجيس غير صحيح؛ لأن فيه الذي في التطهير فهما على حد سواء من قبول خبر الكافر أو الفاسق عنهما إن أخبر عن

 

ج / 1 ص -37-          فعل نفسه وقد بين السبب أو وافق المخبر. ويلحق بهما الصبي المميز الذي لم يجرب عليه الكذب. وقياسه على الإخبار عن الكعبة غير صحيح أيضا لأنه لم يخبر عن فعل نفسه ونحن إنما نعتمد خبره إن كان عن فعل نفسه وممن أفتى بنحو ما ذكرته: السيد السمهودي - شكر الله تعالى سعيه - وكذا شيخه المناوي, وملخص عبارته "الأظهر قبول خبر الفاسق فإنه الأصلح للناس وكما يقبل خبره بتذكية شاة وبعدم الماء فيجوز التيمم" وفي المجموع عن الجمهور يقبل خبر الصبي فيما طريقه المشاهدة فالفاسق مثله, وقياس صحة القدوة بالفاسق صحة اعتماد إخباره عن طهارته عن الحدث والخبث ومن نظائر ذلك اعتماد خبر الفاسق عن حاجته وتوقانه إلى النكاح حتى يجب إعفافه, فحينئذ الأصح ما قلناه ما عليه من عمل الناس ولما في البحث عن حال المطهر من المشقة ولما يشهد له من منقول المذهب وإن كان في بعض ما يشهد له نظر فقد قوي بانضمامه إلى غيره. وقد استثني في الخادم من عدم قبول خبر الفاسق بنجاسة الإناء ما لو كان التنجيس من فعله كما لو قال: بلت في الإناء, والتطهير مثله؛ لأنه من فعل نفسه وما نقل عن بعض الأئمة مما يخالف ذلك لعله وجه ضعيف ا هـ. وقوله: "وبعدم الماء فيجوز التيمم" لم أره لغيره والوجه خلافه بل لا يجوز اعتماد المخبر بالماء أو بفقده إلا إن كان ثقة وقوله: وفي المجموع عن الجمهور..إلخ هو أعني ما فيه ضعيف والمعتمد أنه لا يقبل خبر الصبي إلا في نحو دخول الدار وإيصال الهدية والدعوة للوليمة.
"وسئل" - نفع الله بعلومه - عن قول الفقهاء: "مقدار القلتين بالمساحة في المربع ذراع وربع طولا وعرضا وعمقا وفي المدور ذراعان طولا وذراع عرضا وعمقا. وفي شرح الروض المراد بالطول في المدور العمق, وبالعرض فيه ما بين حائطي البئر من سائر الجوانب فعلى هذا التقدير هل يساوي المدور المربع في المقدار أو يتفاوت ما بينهما؟ وإن تفاوت فهل التفاوت قدر ما يعفى عنه أو لا؟ "فأجاب" بقوله: نعم يتفاوتان لكن بالقدر المعفو عنه, وبيانه يعلم من سوق عبارتي في شرح العباب مع فوائد أخرى نفيسة اشتملت عليها, وهي: وهما بالمساحة في الموضع المربع قال في الكفاية: "المستوي الأضلاع أي الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والعمق, ذراع وربع طولا وذراع وربع عرضا وذراع وربع عمقا كما في زوائد الروضة, وبيان ذلك يظهر بأن يكعب ما سبق بأن يضرب الطول في العرض والحاصل في العمق لكن بعد أن يبسط كلا منها أرباعا للكسر الزائد على الذراع وهو الربع فبسط الطول خمسة أرباع تضربها في خمسة العرض ثم الحاصل في خمسة العمق يحصل مائة وخمسة وعشرون ربعا يخص كل ربع أربعة أرطال, ثم اجعل هذا ميزانا تنسب إليه وتقيس عليه ما شئت فتكعبه بعد البسط أرباعا أيضا كما صنعت في الميزان لتتضح لك النسبة بينهما. فإن ساواها فقلتان وإلا فانقص أو زد لائقا بالحال ثم بينت فيه أن المراد بالذراع هنا ذراع الآدمي, وأنه شبران تقريبا وأن ذلك هل هو على مرجح النووي في رطل بغداد فقط أو على.

 

ج / 1 ص -38-          مرجح الرافعي أيضا وأن الذي ينبغي أنه عليهما لأن التفاوت بينهما يسير, ثم بينت ما يتعلق بمنحرف الأضلاع وما وقع للناس في ذلك من الوهم بكلام طويل مبسوط ثم قلت: والعبرة في المدور كما ذكره القاضي عن المهندسين وجرى عليه ابن الصلاح والعجلي وغيرهما ذراعان طولا أي عمقا بذراع النجار كما قاله الزركشي أخذا من كون القاضي حكاه عن المهندسين وهو متعين لما يأتي. قال شيخنا أي زكريا - رحمه الله -: وهو بذراع الآدمي ذراع وربع تقريبا وقال غيره: اعتبرته فوجدته ذراعا ونصفا ا هـ. وفيه نظر؛ لأن اعتبار كونه ذراعا ونصفا يؤدي إلى زيادة ذلك على مقدار القلتين بكثير كما يعلم مما يأتي قريبا, ثم رأيت الأذرعي أشار في غير هذا الباب إلى أنه ذراع وثلث وبه يتأيد ما قاله الشيخ. وذراع بذراع الآدمي المذكور في المربع عرضا وإنما لم يكن الذراع في الكل واحدا قال شيخنا؛ لأنه لو كان الذراع في طول المدور, أي عمقه, وطول المربع واحدا مما مر؛ لاقتضى ذلك أن يكون الطول في المدور ذراعين ونصفا تقريبا إذا كان العرض ذراعا, وجهه أن يبسط كل من العرض ومحيطه, وهو ثلاثة أمثاله وسبع والطول أرباعا لوجود مخرجها في القلتين في المربع ثم يضرب نصف العرض وهو اثنان في نصف المحيط وهو ستة وسبعان تبلغ اثني عشر وأربعة أسباع وهو بسط المسطح فيضرب في بسط الطول وهو عشرة تبلغ مائة وخمسة وعشرين ربعا مبلغ مقدار مسح القلتين في المربع وهو مائة وخمسة وعشرون ربعا مع زيادة خمسة أسباع ربع, وبها حصل التقريب فلو كان الذراع في طول المدور والمربع واحدا, وطول المدور ذراعين لكان الحاصل مائة ربع وأربعة أسباع ربع, وهي أنقص من مقدار مسح القلتين بخمس تقريبا ا هـ. وبه يندفع قول الزركشي. نقل القمولي عن العجلي أنه في المدور ذراع في عمق ذراعين وهو تحريف لا يمكن صحته فإن المربع إذا كان ذراعا وربعا طولا وعرضا كذلك كان دوره خمسة أذرع فإذا كانت في عمق ذراع وربع كانت ستة وربعا, والمدور إذا كان عرضه ذراعا كان دوره ثلاثة أذرع وسبع ذراع فإذا كان عمق ذراعين كان مجموعه ستة أذرع وسبعي ذراع, والسبعان أكثر من الربع ا هـ. فاعتمد في التغليط على ما ذكره آخرا من أن السبعين أكثر من الربع, وفاته أن التفاوت بينهما لا نظر إليه؛ لأن الأمر في ذلك تقريبي كما تقرر على أنه جزم بهذا الذي غلط فيه القمولي قبل ذلك ونقل ثانيا عن العجلي كذلك وكان سبب الاشتباه أنه عبر فيما جزم ونقله عن العجلي بالطول وفيما نقله عن القمولي بالعمق فظن التخالف, وإن كان صرح بعد ذلك بأن المراد بالطول العمق وبالعرض ما بين حائطي البئر من سائر الجوانب, ووقع هذا التوهم للريمي في تفقيهه وسقت عبارته وعبارة الجواهر مع اختلاف نسخها, وبسطت ما في ذلك وغيره مما لا حاجة لنا ببسطه هنا وإن كان مما يتعين الوقوف عليه لنفاسته, والحاصل أنه علم مما تقرر أن بسط المدور كبسط المربع إلا أن المدور يزيد بشيء يسير مما يعفى عنه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

 

ج / 1 ص -39-          "وسئل" رضي الله عنه عما إذا تغير الماء بما على العضو من زعفران ونحوه ولم يمنع وصول الماء إلى البشر هل يصح الوضوء أم لا؟ "فأجاب" بقوله: المنقول المعتمد أنه يضر تغير الماء بما على العضو من مخالط كزعفران أو سدر سواء في ذلك الحي والميت كما بسطت ذلك وحررته في شرحي العباب والإرشاد وغيرهما ووقع لجماعة من المتأخرين في هذه المسألة ما لا ينبغي أن يلتفت إليه ولا يعول عليه فاحذره.
"وسئل" - فسح الله في مدته - عمن وضع يده في إناء بنية الاغتراف فانغسل ظاهرها وباطنها فيه ثم خرج بالماء الذي فيها وغسل به ساعده فهل يرتفع حدث ظاهر يده بانغساله في الماء قبل خروجها أو لا بد من جريان الماء الذي فيها على ظاهرها بعد خروجها؟ "فأجاب" بقوله: لا بد مما ذكر؛ لأن من لازم نية الاغتراف منعها لارتفاع حدث العضو الملاقي للماء فيه, فحينئذ لا تطهر اليد بما فيها إلا بعد خروجها من الماء, والماء بعد خروجها إنما يلاقي باطنها فلا بد من إمراره على ظاهرها كباطنها يرتفع في الماء فلا يحتاج بعد خروجها إلى إمراره على ظاهره بل له غسل ساعدها بما فيها على المنقول المعتمد.
"وسئل" - نفع الله به - عما لو كان بكفيه نجاسة وغسلهما معا هل يطهران أم لا بد لطهارتهما من غسل كل كف منفردا لأنهما عضوان؟ إذ حكم الخبث في الاستعمال وعدمه حكم الحدث كما صرحوا به ففي زوائد الروضة أن الماء إذا جرى من عضو المتوضئ إلى عضو آخر صار مستعملا على الصحيح, وفي هذه الصورة وجه شاذ محكي في كتاب التيمم من البيان أنه لا يصير مستعملا لأن اليدين كعضو ا هـ. كلام الروضة. لكن في مهمات الإسنوي ما لفظه: "قد سبق أن الماء إذا طهر أحد اليدين لا يجوز نقله إلى تطهير الأخرى على المعروف فإذا استحضرت ما قالوه وجدته هنا مشقا يقع فيه كل مغترف ولا يمر بالبال فتأمله ولا أظن أحدا هنا يوجب ما تقتضيه تلك المقالة, وحينئذ فيكون مخالفا والصواب ما دل عليه كلامهم هنا ا هـ. فما في المهمات دال على الطهارة في المسألة المسئول عنها فهل هو كذلك؟ وحينئذ يكون كلام الروضة محمولا على غير صورة الكفين أو يكون ضعيفا. "فأجاب" بقوله: إن صب الماء على الكفين المتنجسين معا, ولم يتقاطر من ماء أحدهما المستعمل على الأخرى شيء ارتفع خبثهما إذ لا موجب للاستعمال حينئذ لما تقرر أن الفرض أن الماء صب عليهما معا مع انفصال كل عن الأخرى وأما إذا صب عليهما معا وإحداهما أسفل من الأخرى فجرى الماء على العليا ثم على السفلى فلا يطهر إلا العليا دون السفلى؛ لأن الماء الواصل إليها مستعمل لانفصاله عن محله وقد تقرر أن كلا من اليدين في هذا الباب عضو مستقل. وزعم الوجه الشاذ أنه لا ترتيب بينهما فكانا كجنب برد كما بسطته في شرح العباب بأن الترتيب إنما سقط ثم للعسر فلرعايته جعل بدنه كعضو واحد مطلقا, وأما سقوطه هنا فهو لاتحاد الاسم للمشقة, واتحاده لا دخل له في جعل

 

ج / 1 ص -40-          الانفصال الحسي كغيره بخلاف المشقة. وأنت مع هذا الذي تقرر في الفرق خبير بقوة هذا الوجه لقوة قياسه فدعوى الروضة فيها شذوذه فيها نظر إلا أن يجاب بأنه شاذ نقلا لا معنى ولا ينافي ما تقرر قول القاضي وتبعه البغوي وغيره لو كانت نجاسة بمحلين فمر الماء على أعلاهما ثم على الأخرى طهرا؛ لأن صورة المسألة كما بينته في الشرح المذكور أن يكونا على بدن واحد ويجري الماء إليهما على الاتصال وكذا إن انفصل وكان المحلان قريبين بحيث يغلب على الظن التقاذف من أحدهما إلى الآخر أخذا مما قالوه في الجنب. أما إذا تباعدا ولم يجر على الاتصال فإن الخبث لا يرتفع لأن الماء صار مستعملا بانفصاله المذكور, وانفصاله من اليد إلى الأخرى كهذا الانفصال الضار لا كالانفصال في إحدى الصورتين الأوليين فتأمله, وأما ما نقله السائل عن المهمات فإنه لم يذكره على عبارة الروضة التي ساقها السائل وإنما ذكره على قولها في باب الوضوء ثم من يدخل يده في الإناء ولم يتيقن طهارتها يكره له ذلك من قبل الغسل فقال عقب ذلك فيه أمور: أحدها: أن تعبيره بقوله: "ولم يتيقن طهارتها يدخل فيه أربعة أقسام وهي تيقن النجاسة وظنها وتوهمها, واستواء الأمرين ودخولها صحيح إلا القسم الأول ثم قال: الأمر الثاني قد سبق في الطهارة أن الماء إذا طهر إحدى اليدين إلى آخر ما ذكره السائل, وهو كلام غير مستقيم وإن نقله غير واحد وأقروه, وبيان ذلك أن كلامه إن كان في الخبث بأن كانت يداه نجستين لم يخل إما أن يغترف بيده إلى يده الأخرى من ماء كثير أو قليل فإن كان الأول طهرت اليد بغمسها فيه بشرطه, وإن كان الثاني فالماء كله صار نجسا فلم يصح ما قاله في صورة الخبث فإن قلت يمكن تصويره بأن يدخل يده في الكثير ولا تطهر لبقاء وصف النجاسة السهل الإزالة قلت هذا نادر ولا مشقة فيه فلا يصدق عليه كلامه. وإن كان في الحدث بأن يكون مراده فرض ذلك في الاغتراف بيده إلى الأخرى بعد كمال غسل الوجه لم يخل أيضا إما أن يغترف من كثير أو قليل, فإن كان الأول فقد ارتفع حدثه بدخولها فيه فالماء الذي فيها غير مستعمل فيصح أن تطهر به الأخرى, وإن كان الثاني بأن لم ينو الاغتراف أو نواه فما أخذه بيده يطهرها ولا يرفع حدث الأخرى لو نقله إليها, ثم إن كان نوى الاغتراف احتاج إلى غرفة ثانية ليده الأخرى إذا لم يغترف بها لاستعمال ماء الأولى وهذا كله ظاهر معلوم من كلامهم في بحث المستعمل, ولم يذكروا هنا ما يخالفه أصلا لأن الذي ذكروه هنا أن إدخال اليدين في الإناء مع عدم تيقن طهرهما مكروه وإن نجس الماء في صورة تيقن النجاسة, واستشكال الإسنوي رده جماعة كما بسطته في شرح العباب. فليس في هذا اغتراف. ولا مخالفة لما ذكروه في بحث المستعمل من أن إحدى اليدين منفصلة عن الأخرى في الحدث والخبث فاندفع قوله, ولا أظن أحدا هنا..إلخ وبان واتضح أنه لا مخالفة بين الموضعين وأن التصويب والاعتراض اللذين ذكرهما في غير محلهما فتأمل ذلك فإنه مهم, لأن جماعة نقلوا كلام الإسنوي هذا وسكتوا عليه, وهو عجيب لوضوح فساده كما يظهر.

 

ج / 1 ص -41-          بأدنى تأمل فإن قلت قد يقع لبعض الناس أنه يغترف بيده المتنجسة من القليل لتطهير الأخرى ولبعضهم أن يغترف من القليل بلا نية اغتراف لتطهير يده الأخرى قلت: لا يسع الإسنوي أن يصوب في هذه ما يوهمه كلامهم هنا أن هذا الماء يطهر يده الأخرى ولم يبالوا بهذا الإيهام لو فرض وجوده وإلا فالصواب أنه لا إيهام كما علم مما قدمته؛ لأن حكم ذلك معلوم من كلامهم في المستعمل, ومثل هذا السفساف لا يورد على الأئمة. فإن قلت: قد يقع أيضا أن بعض الناس يدخل يده بنية الاغتراف فيأخذ بها الماء لتطهير الأخرى وهو لا يطهرها؛ لأنه صار مستعملا برفعه حدثها قلت: لا يصح فرض كلام الإسنوي في هذه أيضا؛ لأن سلب الطهورية فيها هو صريح قول الروضة "أن الماء إذا جرى من عضو المتوضئ إلى عضو آخر صار مستعملا" فكيف يصوب خلاف ذلك الموافق للوجه الشاذ المتقدم قريبا, وبسبر هذه الصور مع بيان عدم صحة تأتي كلام الإسنوي فيها "بأن فساد عبارته هذه كما تقرر وبعد أن تتأمل ذلك كله يظهر لك اندفاع قول السائل فما في المهمات. إلخ. ووجه اندفاعه ما تقرر أنه غير صحيح بل لا معنى له وبفرض صحته فهو في الاغتراف, والمسئول عنه ليس فيه اغتراف واندفاع قوله أعني السائل, وحينئذ يكون كلام الروضة. إلخ. ووجه اندفاع هذا أيضا أن كلام الروضة يشمل الاغتراف بإحدى اليدين والصب عليهما ليصل الماء إلى الأخرى, وكله صحيح لا غبار عليه فتأمله يظهر لك الصواب إن شاء الله تعالى.
"وسئل" - نفع الله به - أيما أفضل الأنهار؟ "فأجاب" بقوله: نيل مصر لما رواه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "نيل مصر سيد الأنهار سخر الله له كل نهر من المشرق والمغرب".
"وسئل" رضي الله عنه أيما أفضل ماء زمزم أو الكوثر؟ "فأجاب" بقوله قال شيخ الإسلام البلقيني ماء زمزم أفضل؛ لأن الملائكة غسلوا به قلبه صلى الله عليه وسلم حين شقوه ليلة الإسراء مع قدرتهم على ماء الكوثر فاختياره في هذا المقام دليل على أفضليته ولا يعارضه أنه عطية الله لإسماعيل, والكوثر عطية الله لنبينا لأن الكلام في عالم الدنيا لا الآخرة ولا مرية أن الكوثر في الآخرة من أعظم مزايا نبينا صلى الله عليه وسلم ومن ثم قال تعالى:
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] بنون العظمة الدالة على ذلك, وبما قررته علم الجواب عما اعترض به على البلقيني.
"وسئل" رضي الله عنه عن أرواث الفئران إذ عمت البلوى بها في بلاد مليبار هل يعفى عنها لأن عموم البلوى بها أكثر وأظهر من ذرق الطيور أو لا؟ "فأجاب" - نفع الله بقوله - صرح النووي في مجموعه بأنه يعفى عن النجاسة التي على منفذ الفأر إذا وقعت تلك الفأرة وعلى منفذها النجاسة في ماء قليل أو مائع, ونقله ابن الرفعة في الكفاية عن الأصحاب. ولما ذكرت ذلك في شرح العباب قلت عقبه: "ويؤخذ من ذلك بالأولى العفو عما تلقيه.

 

ج / 1 ص -42-          الفأرة في بيوت الأخلية من النجاسة ويؤيده قول الفزاري يعفى عن بعرها إذا وقع في مائع وعمت البلوى بها, ويوافقه ما نقله ابن العماد عن مشايخ مشايخه من العفو عن بعر الشياه الواقع في اللبن حال الحلب, لكن في هذا نظر فإن الاحتراز لا يعسر عن ذلك عسرا يلحقه بما قبله وما بعده, ونقل أيضا عن بعض مشايخه أنه يعفى عن مماسة العسل للكوارة المجعولة من روث البقر ونحوه ا هـ. المقصود من عبارة شرح العباب وبها علم أن الفزاري وهو من معاصري النووي - رحمهما الله - قائل بالعفو في صورة السؤال وهو متجه في المعنى لكن ظاهر كلام الأصحاب خلافه, وعليه فيفرق بينه وبين ذرق الطيور بأن البلوى بها عامة في كل محل ويتعذر الصون عنها ولا كذلك الفئران فإن البلوى بها مختصة ببعض الأماكن ومع ذلك يسهل الاحتراز عنها بتغطية الإناء وإحكام غطائه, وهذا أمر سهل لا مشقة فيه فمن ثم لم يسمح الأصحاب بالعفو عن زبل الفئران وإن سمحوا بالعفو عما على منافذها إلحاقا لها بسائر الحيوانات في ذلك فينبغي لذي الورع الاحتياط والتحرز عما وقع فيه بعرها, ولا يقلد الفزاري في العفو عنه لما علمت أن كلام الأصحاب ظاهر في رده والله أعلم.

باب النجاسة.
"وسئل" رضي الله عنه - ونفع بعلومه وبركته المسلمين - عن مسألة, قال سائل هذه المسألة: وقع في نفسي بسببها شيء مع كثرة النقل فيها فتوى وغيرها وهي أنهم ذكروا أن الشعر طاهر ما لم يعلم كونه من غير مذكاة دون بقية أجزاء الحيوانات التي لا تصير أجزاؤها طاهرة إلا بالذكاة, ونحن نجدهم يأتون بالسمن من الحبشة وغيرها وكذا الزباد من السواحل في بطاط وقرون من بلد فيها مسلمون وكفار أو خالص أحدهما يأتي به المسلم أو غيره ويشتريه المسلم أو غيره وكالشفار بمكة تباع, وأنصبتها عظام أو بعضها وفي نفسي من هذه أكثر فإن عظام صيد البحر طاهرة فكيف يقال بالنجاسة مطلقا في العظام؟ بينوا ذلك وابسطوه؟ "فأجاب" فسح الله في مدته بأن ما نقل من أن الشعر طاهر ما لم يعلم كونه من غير مذكاة دون بقية أجزاء الحيوانات التي لا تصير أجزاؤها طاهرة إلا بالذبح لم أره في كلام أحد من الأئمة وكأن وجهه أن الشعر أي ونحوه كالصوف والوبر والريش إذا كان من مأكول, وانفصل في الحياة يكون طاهرا بخلاف نحو القرن والعظم والظلف فإنها لا تكون طاهرة من المأكول إلا إذا انفصلت بعد الذبح دون ما إذا انفصلت قبله فقد عهد لنحو الشعر حالة يحكم له فيها بالطهارة مع الحكم بالنجاسة في تلك الحالة لنحو العظم فمن ثم افترقا فهذا الفرق, وإن تخيل لكنه لا يجدي ما ذكر من الحكم بالطهارة لنحو الشعر والنجاسة لنحو العظم. فإن هذا الفرق إنما يتأتى في نحو شعر علم حاله ونحو عظم كذلك وهذا لا كلام.

 

ج / 1 ص -43-          فيه وإنما الكلام فيما جهل حاله منهما فلم يدر هل هو من مأكول أو من غيره أو انفصل قبل الذبح أو بعده أو في حال الحياة أو الموت, وكل منهما حينئذ على حد سواء؛ لأنا إن نظرنا لحالة اتصالهما فهما طاهران أو لحالة انفصالهما بعد الذبح, وهما من مأكول فهما كذلك أو بعد الموت فهما نجسان أو في حالة الحياة فأمرهما مشكوك, فهما عند الجهل بحالهما على حد سواء فإما أن يقال بطهارتهما أو نجاستهما, والذي يظهر أن الكل طاهر ما لم يتحقق أنه من غير مأكول, وأنه انفصل منه بعد موته وذلك؛ لأنا تيقنا طهارته عند اتصاله وشككنا في موجب نجاسته وهو كونه من غير مأكول انفصل بعد موته أو في حياته بالنسبة لنحو العظم, والأصل عدم طرق ما ينجسه فهو من قاعدة تعارض الأصل وغيره. وحاصل ما في المجموع وغيره فيها عن الأصحاب, أن الأصل واليقين لا يترك حكمه بالشك إلا في مسائل يسيرة لأدلة خاصة, وبعضها إذا حقق كان داخلا في القاعدة فلو كان معه نحو ماء أو عصير مما أصله الطهارة وتردد في نجاسته لم يضر تردده وهو باق على طهارته سواء كان تردده بين الطهارة والنجاسة مستويا أو ترجح احتمال النجاسة حتى غلب على الظن الحكم بها, فإنه لا يلتفت إليه وإن استند الحكم بها إلى سبب معين لا بقيده الآتي, كمقبرة شك في نبشها وثياب متدينين بالنجاسة ومدمني الخمر والصبيان والمجانين والقصابين والجوخ, وقد اشتهر عمله بشحم الخنزير, والورق ينشر رطبا على الحيطان النجسة والخزف الآجر خلافا لمن قطع بنجاسته كالماوردي وغيره نظرا لاطراد العادة باستعمال السرجين فيه والجبن المجلوب من بلاد الفرنج. وإن اشتهر عمله بإنفحة الخنزير أو الملح الذي في جلدها والفراء السنجاب ونحوها وإن اشتهر أنها لا تذبح وإنما تخنق, فكل هذه محكوم بطهارتها عملا بالأصل نعم يكره استعمال ما غلبت فيه النجاسة, ثم محل العمل بالأصل إذا استند ظن النجاسة إلى غلبتها فحسب. أما لو استند إلى علامة تتعلق بالعين فيعمل بها كما لو رأى ظبية تبول في ماء كثير فوجده عقب البول متغيرا وشك في أن تغيره به أو بنحو طول المكث واحتمل تغيره به فحينئذ يحكم بنجاسته عملا بالظاهر؛ لاستناده إلى سبب معين كخبر العدل بخلاف ما لم يوجد عقب البول متغيرا بأن غاب عنه زمنا ثم وجده متغيرا أو وجد عقب البول غير متغير ثم تغير, ولم يقل أهل الخبرة أن تغيره منه أو وجد عقبه متغيرا ولم يحتمل تغيره به لقلته فإنه في هذه الصور كلها طاهر؛ لأن الأصل لم يعارضه شيء. وكما لو وجد قطعة لحم مكشوفة في غير إناء أو كانت في إناء أو خرقة لكن في بلد فيه من لا يحل ذبحه ومن تحل ذبيحته سواء استويا أو غلب من لا تحل ذبيحته فإنها لا تحل حينئذ عملا بالظاهر أما عند غلبة من لا تحل ذبيحته فواضح وأما عند استوائهما فتغليبا للمانع بخلاف ما لو كان من تحل ذبيحته أغلب فإنها تحل؛ لأنه يغلب على الظن أنها ذبيحة مسلم, وكما لو جرح صيدا فغاب عنه ثم وجد ميتا فإن وجد الموت عقب الجرح أحيل على السبب وإلا فلا ففي هذه المسائل الثلاث ونحوها أعني مسألة الظبية وما بعدها حكم.

 

ج / 1 ص -44-          فيها بالنجاسة أو عدم الحل على خلاف الأصل أو سبب قوي اقتضى ذلك, وهو العلامة المتعلقة بالعين الظاهر أثرها بخلاف غيرها مما مر ونحوه فإنه لم يوجد فيه سبب قوي كذلك يقتضي الخروج عن الأصل فحكم بطهارته على الأصل فكذا يقال في نحو الشعر والعظام: الأصل فيه الطهارة ولم يوجد سبب قوي كذلك يخرجه عن الأصل فعمل به فيه. فإن قلت لا نسلم عدم وجود سبب فيه كذلك يخرجه عن الأصل بل وجد ما أخرجه عنه, نظير ما تقرر في مسألة القطعة اللحم المذكورة قلت الذي تقرر في طعم اللحم إنما هو بالنسبة لحل أكلها وعدمه كما قدمنا الإشارة إليه بفرض الحكم في حل الأكل وعدمه أما بالنسبة إلى النجاسة فلا كما صرح به بعض مختصري الروضة حيث قال عقب التفصيل في القطعة اللحم وهذا بالنسبة للأكل أما لو أصابت شيئا فلا تنجسه ا هـ. فإن قلت فما الفرق بين حل الأكل وحرمته والطهارة والنجاسة؟ قلت: يفرق بينهما بأن الأصل في اللحم حال اتصاله في حال الحياة حرمة أكله؛ فعملنا فيه بالأصل المذكور حتى يوجد سبب قوي يقتضي حله وهو كونه في إناء ومن تحل ذبيحته أغلب. والأصل في نحو الشعر والعظم حال اتصاله في حال الحياة الطهارة فعملنا بها فيه حتى يوجد سبب قوي يقتضي نجاسته ولم يوجد ذلك فيه؛ فأبقيناه على أصله ولم ننظر إلى أن ما يوجد منهما مرميا مثلا الغالب أنه يكون من ميتة على أنه لا نسلم أن الغالب ذلك فظهر فرقان: ما بين حل الأكل وحرمته والطهارة والنجاسة فلا يشكل عليك بعد ذلك إحدى المسألتين على الأخرى. وما قلناه في قطعة اللحم يأتي حرفا بحرف فيما قالوه في صيد جرحه فغاب عنه ثم وجد ميتا وبهذا الفرق الذي ذكرته هنا اتضح قولي في شرح مختصر الروض بعد ذكر التفصيل في قطعة اللحم: وهل نحو الجلد والشعر والعظام الملقاة في الشوارع كاللحم فيما ذكر من التفصيل أو هي طاهرة مطلقا؟ لأن كون قطعة اللحم مرمية بلا إناء يغلب على الظن أنها ميتة بخلاف هذه, الظاهر الثاني ا هـ. وبما قررته يعلم الجواب عن قول السائل - حفظه الله - ونحن نجدهم يأتون بالسمن. إلخ. وحاصل الجواب عن ذلك؛ المعلوم أنها طاهرة أيضا وأن القول بنجاسة ذلك غير صحيح لما علمته على أنه يحتمل أن القائل بالتفصيل بين نحو الشعر ونحو العظم جرى في ذلك على مذهب عمر بن عبد العزيز والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق والمزني وابن المنذر فإن هؤلاء ذهبوا إلى أن الشعر والوبر والصوف والريش من الميتة طاهرة, والعظم والقرن والسن والظفر نجسة وقال آخرون: إن هذه نجسة لكنها تطهر بالغسل وقد استوفي في شرح المهذب حكاية الخلاف في ذلك والاستدلال لمذهبنا من أن الحياة تحل الجميع بما ليس هذا محل بسطه. وعلى التنزل والقول بما مر من أن نحو العظم نجس ما لم يعلم أنه انفصل من مذكاة فلا نقول بنجاسة السمن والزباد ووعائهما وأنصبة الشفار ولأنا نعلم بالضرورة أن من ذلك ما هو من مذكى وما هو من غيره. وقد صرحوا بأنه لو اشتبه إناء بول بأواني بلد أو ميتة بمذكياته أخذ منهما ما شاء بلا اجتهاد إلا واحدا, وذكر.

 

ج / 1 ص -45-          الإناء مثال فلو اشتبه أكثر من واحد أخذ ما عدا العدد المشتبه فكذا يقال هنا: قد اشتبه أعيان نجسة بأعيان طاهرة فيجوز الأخذ منها بلا اجتهاد ولا نحكم بنجاسة بعضها على التعيين. وقد نقل في المجموع عن ابن الصلاح ما يؤيد ذلك فإنه نقل عن الشيخ أبي محمد الجويني أنه بالغ في ذم من يغسل فاه بعد أكل الخبز زاعما أن الحنطة تداس بالبقر وهي تبول وتروث عليها أياما طويلة, وعن الشيخ أبي عمرو بن الصلاح أنه قال: "والفقه في ذلك أن ما بأيدي الناس من القمح المتنجس بذلك قليل جدا بالنسبة إلى القمح السالم من النجاسة فقد اشتبه إذا واختلط قمح قليل متنجس بقمح طاهر ولا ينحصر ولا منع من ذلك, بل يجوز التناول من أي موضع أراد كما لو اشتبهت أخته بنساء لا ينحصرن؛ فله نكاح من شاء وهذا أولى بالجواز" ا هـ. هـ. وبه يتأيد ما ذكرته وإن كان مبنيا على ضعيف وهو أن بول البقر على الحنطة مثلا وهي تدوسها لا يعفى عنه والصحيح أنه يعفى عن ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - متع الله بحياته - عن رطوبة الفرج المنصوص على طهارتها هل تشمل الرطوبة الواقعة حال الجماع التي قد تخرج في بعض الأحيان أم لا؟ "فأجاب" - حشرني الله في زمرته - بأن الذي صرحوا به أن رطوبة فرج الحيوان الطاهر طاهرة إن كانت في الظاهر, وهي ما يوجد عند ملتقى الشفرين ولا فرق في طهارة هذه بين المنفصلة والمتصلة خلافا لمن وهم فيه بخلاف رطوبة الباطن الذي وراء ملتقى الشفرين فإنها نجسة لكن لا يحكم بنجاستها إلا إن انفصلت؛ لأن ما في الجوف لا يحكم بنجاسته حتى ينفصل ومع ذلك فلا يحكم بنجاسة ذكر المجامع؛ لأن الأصل عدم خروج الرطوبة الباطنة التي هي نجسة, فإن علم خروجها مع الجماع نجست ظاهر الفرج وذكر المجامع؛ فعلم أن الرطوبة الخارجة حال الجماع إن علم أنها من الظاهر أو شك هل هي منه أو من الباطن؟ حكم بطهارتها وشملها قولهم: ورطوبة الفرج طاهرة وإن علم أنها من الباطن كانت نجسة كما صرحوا به, ولم يشملها كلامهم الأول والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عما يخرج من العقرب حالة قتلها هل هو دم أم لا؟ وهل يعفى عنه ولو خالطته رطوبة أخرى أجنبية؟ فإنه قد عم البلاء بقتل العقرب في المسجد فيلاقي ما يخرج منها رجل المتطهر حال رطوبتها أم لا يعفى عن ذلك؟ "فأجاب" رضي الله عنه بأن الذي صرح به أصحابنا: أن العقرب ليس له دم يسيل قال الغزالي وخرج بيسيل ما فيه رطوبة حمراء لا تفارقه بالسيلان فلا أثر لها؛ لأنها لا تسمى دما إذ الدم ما يجتمع في عرق ويخرج بفتق ذلك العرق؛ أي ومع كون هذه الرطوبة لا تسمى دما هي نجسة فلو تحقق بقتلها في المسجد إصابة هذه الرطوبة لشيء من أجزائه حرم قتلها فيه, وكون الشارع ندب إلى قتلها لا يقتضي أن ذلك عذر في عدم تنجس المسجد وإذا أصابت هذه الرطوبة بدن المصلي أو ثوبه عفي عن قليلها كدم الأجنبي, بل أولى نعم يشترط أن لا يلاقيها رطوبة أجنبية, لكن.

 

ج / 1 ص -46-          الرطوبة الحاصلة من ماء الوضوء والغسل مما يضطر لملاقاته لا يمنع ملاقاته العفو عن ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - أمدنا الله من مدده - ما الحكمة في تنجس الكلب؟ وهل سم الحيات ونحوها نجس؟ "فأجاب" - أفاض الله علي من فيض مدده - الحكمة في تنجس الكلب التنفير مما كان يعتاده أهل الجاهلية من القبائح كمؤاكلة الكلاب, وزيادة إلفها ومخالطتها مع ما فيها من الدناءة والخسة المانعة لذوي المروآت وأرباب العقول من معاشرة من تحلى بهما ومن ثم حرم الجلوس على نحو جلد النمور والسباع لأن ذلك كان فعل المتكبرين من الجاهلية؛ فنهى الشارع عن التأسي بهم في ذلك فلما لم يكن في التأسي بهم هنا ما ليس فيه من الدناءة ثم كان ثم حرمة ونجاسة, وهنا حرمة فقط. وسم نحو الحيات نجس كما صرح به جمع متقدمون ومتأخرون والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه هل يجوز التداوي بحافر الميتة وعظمها؟ "فأجاب" - فسح الله في مدته - يجوز التداوي بحافر الميتة وعظامها بسائر النجاسات صرفها ومخلوطها إلا الخمر فلا يجوز التداوي بصرفها ويجوز بمخلوطها.
"وسئل" رضي الله عنه عمن تنجس بكلبية فما حكمه؟ "فأجاب" - نفع الله به - إن كانت النجاسة حكمية طهرت بمرور الماء عليها سبعا مع الترتيب في إحداها, وإن كانت عينية لم تطهر إلا إذا زالت العين وصفاتها, ثم غسلت سبعا إحداهن بالتراب فلو فرض أن العين لم تزل إلا بست غسلات كانت كلها غسلة واحدة على الأصح والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه إذا كحل بنجس هل يجب عليه غسل باطن عينه؟ "فأجاب" - نفع الله بحياته - يجب غسل باطن العين من النجاسة بخلاف الحدث الأصغر والأكبر لندرة النجاسة وتكررهما فلو أمر بغسله فيهما أدى ذلك إلى ضرر؛ من ثم لم يندب غسله فيهما لأنه لم ينقل خلاف لقول جمع من أصحابنا بندبه, ولا حجة لهم في نص الشافعي رضي الله عنه لأنه ليس ظاهرا في ذلك كما قاله في شرح المهذب ولا في فعل ابن عمر رضي الله عنهما؛ لأنه مذهب له بل صرح الدارمي بكراهة غسله أي لمن تأذى به أذى خفيفا وإلا فالوجه تحريمه. ثم رأيت الأذرعي أشار إليه على أن بعضهم أخذ بقضية إطلاق الدارمي فصرح بكراهته وإن لم يتأذ به لكن من شأنه أن يتضرر به والله سبحانه أعلم بالصواب.
"وسئل" - نفع الله بعلومه - وبركته إذا أكل لحم كلب أو شرب لبنه فأخرجه من أسفل على صورته هل يجب تسبيع المخرج أو يكفي غسلة واحدة؟ "فأجاب" رضي الله عنه من أكل لحم كلب مثلا طهر فمه بالتسبيع ويكفيه في الفرجين الاستنجاء من فضلته ولو بالحجر ونحوه؛ لزوال حكم المغلظ باستحالته. قال الروياني بعد نقله ذلك عن الشافعي: وعلى ذلك.

 

ج / 1 ص -47-          العمل في جميع البلاد, وتشكيك النفس فيه من الوسواس ا هـ. ويؤيده أن المستحيل في المعدة كالمستحال إليه طهارة ونجاسة ألا ترى أن اللبن النجس لما استحال إنفحة صار مثلها في الطاهرية فكذا اللحم المغلظ لما استحال غائطا صار مثله, وبهذا يرد على ابن العماد قوله لو تقيأ لزمه إعادة تسبيع فمه وتتريبه إلا أن يحمل على أنه خرج منه قبل الاستحالة ومع ذلك ففيه نظر أيضا لما مر من نجاسة القيء بمجرد وصوله للمعدة, وإن لم يتغير, إعطاء له حكم ما فيها بمجرد ملاقاته لها فلم يفرق بين استحالته وعدمها, ويؤيده أيضا ما اقتضاه قول الزركشي في تنجس ما لاقاها وما لاقته من نجاسة هي أغلظ من أنه لو شربت شاة ماء متنجسا بمغلظ فذبحت فورا لم يجب تسبيع ما وصل إليه ذلك الماء. والفرق بين الفم والسبيلين حيث يجب تسبيعه دونهما كما مر وإن خرج المأكول على هيئته فإنهما لا يتغير حكمهما بدليل ما لو أكل نجسا غير مغلظ يجزئه الحجر ويتعين غسل الفم بالماء, ويفرق بين هذا واستحالة الكلب ملحا فإنه لا يتغير حكمه بل هو باق على تغليظه في حال انقلابه إلى الملح أيضا بأن محل النجس ورد التخفيف فيه رخصة فعم ذلك التخفيف المغلظ وغيره بعدم تعرض النصوص فيه للفرق بينهما, بل وتبعه التخفيف في غيره ألا ترى أن عذرة لحم المغلظ الخارجة من أكله لا تسبيع على مماسها كما اقتضاه إطلاق النص, وأما قول البلقيني: "يجب التسبيع والتتريب حتى في الفرج" فضعيف وقد بينت ما في كلامه في شرح العباب والله أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عن مسألة صورتها: سئل قاضي مكة المشرفة برهان الدين إبراهيم بن ظهيرة - رحمه الله - عن الأمعاء من الشاة ونحوها هل يجب غسلها بعد إزالة الفرث منها أم يعفى عنها؟ وهل صرح أحد من الأئمة بذلك. فأجاب القاضي المذكور بقوله: يجب فيها بعد إزالة الفرث الغسل ولا يعفى عما هناك من الأثر؛ إذ لا مشقة في ذلك. وقد صرح الإمام بدر الدين الزركشي بما يدل على ذلك في الكلام على الإنفحة استطرادا والله تعالى أعلم بالصواب انتهى جوابه. وسئل الشيخ الإمام السمهودي شيخ الحرم النبوي عما إذا رئي عليها أثر الغسل والنظافة وطيب الرائحة ونحو ذلك هل يجب السؤال عن غسلها قبل الأكل منها أم لا؟ حيث رئي عليها ما سبق. فأجاب - رحمه الله - فقال الظاهر عدم وجوب السؤال عن ذلك حيث شاهد نظافة المطبوخ من ذلك وطيب ريحه, ونحو ذلك فإنها آثار دالة على تقدم الغسل كما قالوه في المجتازين بميت في صحراء وعليه أثر الغسل والكفن والحنوط فإنهم يصلون عليه, ثم يدفنونه فإن انتفى الأثر الدال على ذلك وجب الغسل أيضا والله أعلم انتهى جواب السمهودي. فعلى هذا إذا وجدنا على ثوب كان عليه نجاسة أثر الغسل ونحو ذلك فهل يكفي عن السؤال عن طهارته كالأمعاء المسئول عنها أو لا؟ بينوا ذلك بيانا شافيا أثابكم الله. "فأجاب" - نفع الله به - أما ما قاله المجيب الأول من عدم العفو عن الأثر فهو صحيح, وقد ذكرت في شرح العباب وغيره ما يوافقه, وعبارة شرح العباب "وأفتى جمع

 

ج / 1 ص -48-          يمنيون بأن ما يبقى في نحو الكرش مما يشق غسله وتنقيته منه يعفى عنه بل بالغ بعضهم فقال الذي عليه عمل من علمت من الفقهاء وغيرهم جواز أكل المصارين والأمعاء إذا نقيت عما فيها من الفضلات وإن لم تغسل بخلاف الكرش" ا هـ. وفيه نظر, والوجه أنه لا بد من غسلها إذ لا مشقة في ذلك وأنه لا بد من تنقية نحو الكرش مما فيه ما لم يبق فيه ريح يعسر زواله انتهت عبارة شرح العباب. وما ذكره السمهودي من أنه لا يجب السؤال, فهو متجه وهو الذي عليه الإجماع الفعلي ممن يعتد بهم وغيرهم؛ للعادة المطردة أنها لا تطبخ إلا بعد غسلها وتنقيتها, بل ومزيد المبالغة في نظافتها ولا يقاس بها الثوب إذا علمنا نجاستها ثم رأيناها مغسولة مطيبة ولم ندر من غسلها بل نحكم مع ذلك ببقائها على نجاستها إلا أن قياس ما قالوه في الهرة: أنه إذا غابت عنا وأمكن تطهير فمها لا تنجس ما وقعت فيه لكنا نحكم ببقائها على نجاستها استصحابا للأصل الذي عملناه, ويفرق بينه وبين الكرش بأن ذلك سومح فيه للمشقة في السؤال عنه ولاطراد العادة فيه بمثل ذلك فكان الوجه عدم إلحاقه بالكرش فيما ذكر والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" أيضا - أدام الله وجوده - سؤالا صورته إذا كان موضع من أرض أو ثوب مثلا متنجسا فوقع على بعض ذلك المتنجس ماء فهل يطهر ذلك فقط أم لا يطهر إلا بغسل الجميع؟ "فأجاب" بقوله: إذا وقع الماء على بعض المتنجس فإن كانت نجاسته حكمية طهر ما أصابه الماء, وإن كانت عينية وزالت يجب في غسل الباقي إدخال جزء مما أصابه الماء والله أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه عما إذا مات النحل وفيه عسل فهل ينجس؟ "فأجاب" القياس أنه لا ينجس؛ لأن ميتتها لا تنجس ما مسته والله أعلم.
"وسئل" - فسح الله في مدته - بما صورته فرض آدمي متولد بين آدمي وكلب فما حكمه؟ "فأجاب" بقوله: الوجه كما اقتضاه صريح كلامهم وصرح به بعض المتأخرين أنه يكون نجس العين ويتعلق به الأحكام الشرعية حتى إزالة النجاسة وحرمة دخول المسجد إلا مع أمن التلويث, وتغتفر نجاسته بالقياس إلى ما يتعلق به ولا تغتفر بالنظر إلى غيره ولو نحو زوجته فيما يظهر قال بعضهم, والظاهر أنه لا يجوز الاقتداء به؛ لأن صحة صلاته لمكان الضرورة, ولا ضرورة إلى الاقتداء ا هـ. وفيه نظر ومقتضى قولهم: كل من تصح صلاته من غير إعادة يصح الاقتداء به صحة القدوة به وهو الأوجه؛ لأنه لا إعادة عليه فهو كالسلس والمستحاضة.
"وسئل" - فسح الله في مدته - عن ثوب به نجاسة معفو عنها كدم براغيث, فوقع فيه نجس آخر غير معفو عنه وأريد غسله فهل يجب أيضا إزالة المعفو عنه تبعا أم لا؟ لأنه قد يعسر زواله وقد يشق لكثرته "فأجاب" بقوله قضية كلامهم أنه يجب عليه إزالته, لكن أفتى بعض.

 

ج / 1 ص -49-          اليمنيين بخلافه وعلله بأنه قد ينتشر المعفو عنه بماء التطهير فهو كانتشاره بالعرق ونحوه, وإن تخيل متخيل أن الماء يتأثر بوصوله إلى المعفو عنه ثم يسري إلى باقي الثوب فقد ذكر البغوي أنه إذا كان على موضعين متفرقين من بدنه نجاسة فصب الماء على أعلاهما فمر عليه ثم انحدر للأسفل فإنهما يطهران جميعا, فإذا كان الماء فيما ذكره يطهر النجس الأسفل مع أنه قد يطهر الأعلى ولا يتأثر به, فصورتنا أولى بعدم التأثر هذا إن كانت النجاستان على موضعين متفرقين وإلا فالذي يظهر أنه تجب المبالغة في الغسل بحيث تزول أوصافهما أو يبقى ما تعسر إزالته من لون أو ريح, ويبقى النظر فيما إذا بقي لون إحداهما وريح الأخرى في محل واحد, وكلام الأصحاب في غير هذه الصورة قد يفهم الطهارة ا هـ. وفيه تأمل لا يخفى على الفقيه.
"وسئل" - فسح الله في مدته - عن رطوبة فرج المرأة التي هي ماء أبيض متردد بين المذي والعرق هل يفرق في طهارتها بين المنفصلة وغيرها؟ وهل قول الأقفهسي في شرح منظومته في النجاسات, وأما رطوبة الفرج فالصحيح طهارتها ما لم تنفصل معتمد أعني تقييده بعدم الانفصال حتى إذا انفصلت عن الفرج تكون نجسة, وكذا نقل شيخنا العلامة موسى بن زين العابدين عن الخادم ما لفظه: "هذا كله في حال اتصالها فلو انفصلت ففي الكفاية عن الإمام أنها نجسة بلا شك يعني بلا خلاف" ا هـ. هل كلامه هذا في الرطوبة الخارجة من قعر الرحم الموصوفة أنها مترددة بين العرق والمذي أو في الرطوبة الخارجة من الباطن, فإن كان في الأولى فكيف يحكم بنجاستها وهي مقيسة على العرق, والعرق طاهر مطلقا انفصل أو لم ينفصل, وأيضا فإن سيدنا الشيخ أبا إسحاق الشيرازي ذكر في المهذب لما حكى الخلاف فيها ما لفظه: "ومن أصحابنا من قال أنها طاهرة كسائر رطوبات البدن" ا هـ. ومعلوم أن رطوبات البدن طاهرة مطلقا وإن انفصلت, وعبارة الروض "وكذا رطوبة فرج المرأة قال في شرحه فإنها طاهرة كعرقه ومنيه" لكنه قال بعد ذلك "وأما الرطوبة الخارجة من باطن الفرج فنجسة" ا هـ. فقوله: "باطن الفرج" هذه العبارة عبر بها هو وغيره من العلماء - نفع الله بهم - ولكن هذا الكلام يبقى الإنسان معه في الحيرة العظيمة؛ لأن الرطوبة المختلف فيها المصحح فيها الطهارة لا شك أنها تخرج من باطن الفرج, وعبارة الجوجري بعد قول الإرشاد ولا مترشح من طاهر, ومن هذا القسم رطوبة الفرج طاهرة من الحيوان الطاهر ونجسة من النجس قال في المجموع "وهي ماء أبيض متردد بين المذي والعرق قال, وأما الرطوبة الخارجة من باطن المرأة فهي نجسة ا هـ. كلام الجوجري, وعبارة الإسعاد "أما الرطوبة الخارجة من جوف المرأة مثلا إلى داخل الفرج فإنها نجسة كما في المجموع والشرح الصغير ولعله لم يحكم بنجاسة ذكر المجامع لأصل الطهارة" ا هـ فالقصد من تفضلكم تحرير هذه المسألة فإن التفريق بين الانفصال وعدمه في الرطوبة الخارجة من قعر الرحم فيه بعد عظيم, وكذا قولهم أما الرطوبة

 

ج / 1 ص -50-          الخارجة من باطن فرج المرأة فحرروا لنا ذلك تؤجروا ولم أزل أستشكل كلامهم هنا في هذه المسألة "فأجاب - شكر الله سعيه - بقوله: مأخذ الخلاف في طهارة الرطوبة ونجاستها هو كونها مترددة بين المذي والعرق فالقائلون بنجاستها غلبوا شبهها بالمذي, والقائلون بطهارتها غلبوا شبهها بالعرق كما هو مقرر في موضعه, ولما كان شبهها بالعرق أقوى لكونها مجرد رطوبة لا تنفصل غالبا كالعرق كان الحكم بالطهارة هو المعتمد, ثم المراد بالرطوبة المذكورة التي وقع هذا الخلاف فيها هي التي توجد عند ملتقى الشفرين وهذا المحل في حكم الظاهر؛ لأنه يظهر عند جلوس الثيب على قدميها؛ ومن ثم وجب غسله في الغسل من نحو الجنابة أما الرطوبة الخارجة من الباطن الذي وراء هذا المحل فهي نجسة, ولا فرق في طهارة الأولى بين المنفصلة والمتصلة, وأما الثانية فلا يحكم بنجاستها إلا إن انفصلت؛؛ لأن ما في الجوف لا يحكم بنجاسته حتى ينفصل. وأما ما وقع لابن العماد والزركشي من تقييد الأولى بعدم الانفصال فهو وهم منشؤه عدم التأمل في كلام الإمام وفي كلام ابن الرفعة الناقل لذلك عن الإمام فإن ابن الرفعة وتبعه ابن النقيب في مختصر الكفاية لما شرحا قول التنبيه "ورطوبة فرج المرأة في ظاهر المذهب وبينا وجه الخلاف فيها وتعليل الصحيح والضعيف" قالا: في آخر كلامهما بعد أن فرغا من ذلك "ولو خرج من باطن فرج المرأة رطوبة قال الإمام: فلا شك في نجاستها وإنما حكمنا بالطهارة..إلخ" وبتأمل صريح كلام ابن الرفعة في أن هذا ليس تقييدا للأولى بحال الاتصال يظهر ما قدمته وقد تبع ابن الرفعة في هذا السياق والحكاية لكلام الإمام على هذا الوجه القمولي فإنه ذكر الخلاف في التي تخرج من قعر الرحم ثم قال قال الإمام: أما التي تخرج من الباطن فلا شك في نجاستها ا هـ. وكذلك الأذرعي لكن بزيادة, وعبارته قال الإمام: "وتساهل الأئمة في إطلاقهم الخلاف في رطوبة الفرج, ومرادهم أن تلك الرطوبة هل ثبت لها حكم؟ وهل تنجس ما خرج؟ ثم قال ولو خرج من باطن فرجها رطوبة فلا شك في نجاستها" ا هـ. وكذلك ابن الملقن فإنه حكى الخلاف في نجاستها وطهارتها ثم قال: وأما إذا خرج من باطن فرج المرأة رطوبة قال الإمام: لا شك في نجاستها وإنما حكمنا بالطهارة؛ لأنا لا نقطع بخروجها ا هـ. فأفهمت هذه العبارات الصريحة الصحيحة أن الذي قال الإمام فيه بالنجاسة إنما هو الرطوبة الخارجة من الباطن, وأن المراد بالباطن غير المراد بقعر الرحم, وأن الإمام نفسه قائل بالطهارة مطلقا انفصلت أو اتصلت ما لم يتحقق خروجها من الباطن وإلا كانت رطوبة الفرج الظاهرة والباطنة نجسة أما الباطنة فواضح, وأما الظاهرة فلاتصالها بها وأن الصواب خلاف ما دلت عليه عبارة ابن العماد, وخلاف قول الزركشي هذا كله في حال اتصالها فإن انفصلت ففي الكفاية عن الإمام أنها نجسة بلا شك يعني بلا خلاف ا هـ. فقوله: هذا كله في حال اتصالها ليس في محله؛ لأن الخلاف إنما هو في الرطوبة الظاهرة, وما ذكره الإمام إنما هو في الرطوبة الباطنة كما.

 

ج / 1 ص -51-          علمته مما مر فكيف يقيد هذا بذلك؟ ثم قوله: بلا شك يعني بلا خلاف غير صحيح فقد ذكر هو بعد ذلك خلافا في الماء الذي يخرج مع الولد, واعتمد فيه النجاسة وهو من الرطوبة الباطنة قطعا. إذا تقرر ذلك واتضح الحق فيه وأن الصواب خلاف ما وقع لابن العماد والزركشي فلنرجع إلى ما في السؤال فقوله: فإن كان في الأولى فكيف يحكم بنجاستها وهي مقيسة على العرق يجاب عنه بأن الكلام ليس في الأولى كما تقرر موضحا وقوله: ولكن هذا الكلام يبقى الإنسان معه في الحيرة لأن الرطوبة المختلف فيها المصحح فيها الطهارة لا شك أنها تخرج من باطن الفرج يجاب عنه أيضا بما مر من أن الخلاف إنما هو في الخارجة من المحل الذي يجب غسله, وأن الخارجة من الجوف نجسة قطعا أو مع خلاف ضعيف جدا, ومن عبر عن الأولى برطوبة باطن الفرج أراد بالباطن ما هو مستور وإن كان من الظاهر وهذا هو مراد من عبر أيضا بقعر الرحم ومن عبر عن الثانية برطوبة باطن الفرج أيضا أراد بالباطن الجوف. فحينئذ قول السائل لا شك أنها تخرج من باطن الفرج إن أراد المعنى الأول فمسلم وإن أراد المعنى الثاني فممنوع لتصريحهم بخلافه.
"وسئل" - نفع الله بعلومه - عن لفظ الخمر الواقع عند ذكر طهارة الخمر بالتخلل هل هو حقيقة أو مجاز أو محمول عليهما حتى يشمل النبيذ؟ وهل يلزم من الحمل عليهما الجمع بين الحقيقة والمجاز معا في لفظ باعتبار واحد؟ وهل الأصح طهارة النبيذ بالتخلل أو لا؟ وهل المسكر المائع المحلوب من أشجار النارجيل من غير اختلاط شيء به حكمه حكم النبيذ أو هو من النبيذ أو هو خمر كالمشتد من ماء العنب؟ وما قولكم فيما إذا كان في إناء خمر فأدخل فيها شيء حتى ارتفعت, ثم أخرج منها وعادت كما كانت ثم تخللت فهل تطهر أو لا؟ إلا إذا صب عليها خمر وارتفعت إلى الموضع الأول قبل الجفاف كما حكي عن البغوي أو بعد الجفاف أيضا وهل المعتمد قول البغوي أو لا؟ وما قولكم فيما إذا كان في إناء خمر ثم أريقت ثم صب فيه خمر أخرى قبل غسله ثم نقلت منه إلى إناء آخر طاهر ثم تخللت فيه فهل يحكم بطهارتها أو لا؟ لملاقاتها المحل المتنجس بالخمر في الإناء الأول, وهل يفرق هنا بين ما إذا صبت قبل الجفاف وبين ما إذا صبت بعده أو لا؟ وهل الحكم المتقدم في المسألة التي قبلها مختص بإناء التخلل أو شامل له ولغيره؟ "فأجاب" بقوله: الخمر حقيقته هي المشتد من ماء العنب ثم إلحاق غيرها من الأنبذة بها؛ إما بطريق القياس لغة بناء على أن اللغة تثبت قياسا وهو ما عليه جمع محققون من أكابر أصحابنا كابن سريج وابن أبي هريرة وأبي إسحاق الشيرازي والإمام الرازي ونقله ابن برهان وابن السمعاني وغيرهما عن أكثر أصحابنا قالوا: فإذا اشتمل معنى اسم على وصف مناسب للتسمية كالخمر أي المسكر من ماء العنب لتخميره أي تغطيته للعقل ووجد ذلك الوصف في معنى آخر كالنبيذ أي المسكر من غير ماء العنب ثبت له بالقياس ذا الاسم لغة, فيسمى النبيذ خمرا فيجب اجتنابه بآية.

 

ج / 1 ص -52-          {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية لا بالقياس على الخمر. وعلى هذا القول؛ فالنبيذ يسمى خمرا حقيقة فيشمله قول أصحابنا: تطهر الخمر بالتخلل؛ وإما بطريق القياس شرعا بناء على القول الآخر وهو: أن اللغة لا تثبت قياسا وعليه بعض أصحابنا كإمام الحرمين والغزالي والآمدي ونقله في المحصول عن أكثر أصحابنا وجمهور الحنفية؛ فعليه لا يسمى النبيذ خمرا وإن أعطي حكمها فلا يشمله قولهم: تطهر الخمر بالتخلل بل قياسا فعلم مما قررته. أن لفظ الخمر على الأول مشترك بين المسكر من ماء العنب والمسكر من غيره وعلى الثاني حقيقة في الأول مجاز في الثاني وفي استعمال المشترك بين معنييه خلاف في الأصول والأصح أنه يصح - لغة - إطلاقه على معنييه مثلا معا, بأن يرادا به من متكلم واحد في وقت واحد إن أمكن الجمع بينهما لكن ذلك مجاز؛ لأنه لم يوضع لهما معا, وعن الشافعي رضي الله عنه وغيره أنه حقيقة نظرا لوضعه لكل منهما قال الشافعي وهو ظاهر فيهما عند التجرد عن القرائن المعينة لأحدهما, وفي استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه الخلاف في المشترك, فعلى الأصح يصح لغة مجازا أن يرادا معا باللفظ الواحد كما في قولك: رأيت الأسد وتريد الحيوان المفترس والرجل الشجاع, وقول الباقلاني: "لا يجوز ذلك لما فيه من الجمع بين متنافيين حيث أريد باللفظ الموضوع له أي أولا, وغير الموضوع له معا مردود بأنه لا تنافي بين هذين, وقال بعضهم لم يمنع الباقلاني استعماله في حقيقته ومجازه وإنما منع حمله عليهما بغير قرينة قيل: وموضع الخلاف ما إذا ساوى المجاز الحقيقة لشهرته وإلا امتنع الحمل عليهما قطعا؛ لأن المجاز لا يعلم تناول اللفظ له إلا بتقييد, والحقيقة تعلم بالإطلاق ومحله أيضا حيث لم تقم قرينة بالحمل عليهما كما فعله الشافعي رضي الله عنه حيث حمل الملامسة في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] على الجس باليد والوطء. فعلم أنه يجوز الجمع بينهما بالحمل عليهما في لفظ باعتبار واحد وأنه لا محذور في ذلك خلافا لما يوهمه كلام السائل - نفع الله به - ثم ذكرته أولا من أن الخمر حقيقة هي المعتصر من ماء العنب والنبيذ هو المعتصر من غير ذلك هو ما حكاه الشيخان عن الأكثرين في الأشربة؛ لكن في تهذيب الأسماء واللغات عن الشافعي ومالك وأحمد وأهل الأثر رضي الله عنهم أن الخمر اسم لكل مسكر وعليه فلا يحتاج إلى التخريج السابق على أن اللغة تثبت قياسا أولا وعليه أيضا فليس هنا جمع بين حقيقة ومجاز وعلى كل فالمعتمد طهارة النبيذ بالتخلل كما بينته في شرح العباب وعبارته بعد قول العباب. "وإلا الخمر وكذا النبيذ في المختار من المعتمد الذي صرح به الشيخان كالأصحاب في بابي الربا والسلم لإطباقهم على صحة السلم في خل التمر والزبيب المستلزمة طهارتهما, إذ النجس لا يصح بيعه ولا السلم فيه اتفاقا وعلى الصحة تارة والبطلان أخرى في مسألة الخلول العشرة الآتي بيانها في باب الربا. فعلم أنهم مصرحون بطهارة خل النبيذ بالتخلل, وأن ذلك هو المعتمد مذهبا ودليلا لا دليلا فحسب.

 

ج / 1 ص -53-          خلافا لما يوهمه تعبير المصنف كالسبكي بالمختار ومن ثم قال البغوي كما نقله عنه ابن الرفعة والقمولي وغيرهما: "وإن قال الزركشي لم أره في تهذيبه ولا في فتاويه إذا ألقي في العصير ماء حال العصر طهر قطعا؛ لأن الماء من ضرورته" وسبقه أي البغوي لذلك شيخه القاضي فقال لو صب الماء في العصير واستحال للخل فهو طاهر ا هـ. ووجه كون الماء من ضرورته أنه من ضرورة استقصاء عصره حتى يخرج جميع ما فيه. إذ لو كلف الناس الإعراض عما بقي فيه لشق بهم لأن فيه تفويت مالية عليهم؛ فعلم أنه من ضرورته بالنسبة لإخراج ما بقي فيه إلا أنه من أصل ضرورة عصره لسهولته بدونه وإذا تسومح في هذا الماء وقيل فيه بالمسامحة كما عرفت فأولى ماء النبيذ لتوقف العصر عليه وبما وجهت به كلامه اندفع اعتراض الزركشي عليه بقول الشيخين لو طرح عصير على خل فغلبه العصير وانغمر الخل فيه عند الاشتداد فانقلب خلا لم يطهر قال فإذا كان لا يطهر بخلط الخل مع أنه من جنسه فأولى لا يطهر في الماء ا هـ. وقد علمت أنه لا مساواة فضلا عن الأولوية لأن خلط الخل بالعصير لا حاجة إليه وخلط الماء به مضطر إليه فضلا عن الاحتياج فكيف يشكل هذا بهذا؟ وقول القاضي أبي الطيب: "لا يطهر النبيذ بالتخلل لوجود الماء فيه" ضعيف وإن حكاه عن الأصحاب لما علمت من تصريحهم بخلافه ولا نظر لوجود الماء فيه؛ لأنه من ضرورياته كما تقرر وعجيب من السبكي حيث تبع البغوي على هذا هنا واعترضه في باب الغصب بأنه لا حاجة إلى الماء, على أن قوله لا حاجة إلى الماء لعله سهو وإلا فالوجه أنه قاض بالحاجة, بل الضرورة اللهم إلا أن يريد أنه لا حاجة إلى خل النبيذ فلا حاجة إلى الماء في عصر ما منه النبيذ, ومع ذلك فالنظر إلى ذلك تأباه جلالته. ولو حصرنا الأمر في خل العنب لشق ذلك على الناس لأنه قليل بالنسبة لخل غيره فإن قلت: ما قالوه في السلم والربا لا ينافي ما قاله أبو الطيب لإمكان حمل كلامه على ما إذا تحقق التخمر ثم التخلل, وكلامهم على خلافه قلت: وإن أمكن ذلك لكنه أعني التخمر من غير تخلل نادر لما يأتي عن الحليمي وغيره, أن العصير لا يصير خلا من غير تخمر إلا في ثلاث صور وهذه الثلاثة قليل فعلها فكان التخلل من غير تخمر نادرا جدا؛ فلا يحمل عليه كلامهم بل صرح الشيخان كما يأتي بأنه لا بد من توسط الشدة وسيأتي أنه باعتبار الغالب, وقضية تعليل أبي الطيب أن نبيذ الرطب يطهر بالتخلل قطعا لأنه لا ماء فيه كما قاله الشيخان كالأصحاب في الربا لكن منعه الماوردي ومن تبعه وقالوا لا يأتي إلا بالماء. ومال إليه الأذرعي ولا يبعد أنه نوعان ثم رأيت ما وجهت به كلام البغوي في الماء مصرحا به في كلام ابن العماد, وحاصله أنه إذا وضع ماء في العصير لا لحاجة أو لاستعجال التخلل فوجهان, أي والراجح عدم الطهارة فإن وضعه لحاجة طهر بلا خلاف وعليه ينزل قول البغوي: "لو ألقي الماء حال العصر طهر بلا خلاف؛ لأنه من ضرورته بخلاف نحو البصل وبخلاف إلقاء ما بعد العصر فإنه ليس من ضرورته, ومراده بإلقائه حال العصر ما يصب على.

 

ج / 1 ص -54-          الثفل ليستخرج به ما بقي فيه من الحلاوة وبقية ماء العنب وسألت عن ذلك فقيل: إنهم يستخرجون حلاوة الثفل بصب الماء مرتين, ثم يصب ذلك على العصير, ومثل ذلك ما يوضع على العصير من الماء تكثيرا له وما يوضع فيه من السكر ونحوه تكثيرا للحلاوة ففي كل هذه الصور يطهر ا هـ. وتنزيله الضرورة في كلام البغوي على الحاجة موافق لما قدمته, وما ذكر في إلقاء الماء بعد العصر واضح إذ لا حاجة إليه فضلا عن الضرورة, وبه يرد ما ذكره في وضعه على العصير تكثيرا له لكن سبقه لنحو ذلك القاضي فقال: لا يضر صب الماء في العصير استعجالا للنحل ولا صب الماء في العصير حال عصره تكثيرا للخل أو لاستخراج الحلاوة من الثفل فإن له في ذلك غرضا صحيحا ا هـ. وما ذكره في الأولين لعله مبني على رأيه الضعيف الآتي أن مصاحبة العين لا تضر لكن تعليله يفهم أن ذلك مبني على الأصح وحينئذ فالأوجه خلافه؛ لأن الملحظ الحاجة, ولا حاجة في ذلك وليس مجرد الغرض حاجة كما هو ظاهر انتهت عبارة شرح العباب. وحاصلها أن المنقول المعتمد طهارة سائر الأنبذة بالتخلل؛ لأن الماء من ضرورتها, وإن مثلها في ذلك ثفل العنب الذي يحتاج في استقصاء عصره إلى ماء لأنه من ضرورة استخراج بقية ما فيه, وإن كان ما لا يحتاج إليه يضر طرحه فإذا تخلل ما طرح فيه لا يطهر وإن وضع عليه الماء قبل التخمر؛ لأنه صاحبته عين لا يحتاج إليها فنجسته ومثل الماء في ذلك نحو السكر الذي يوضع في العصير تكثيرا للحلاوة فيضر إلا إن فرض تخمره فإنه يطهر بالتخلل ومنه يؤخذ أنه لو عصر أنبذة مختلفة ثم خلطها وهي عصير فتخمرت ثم تخللت طهرت وهو غير بعيد ولا ينافيه كلامهم فيما لو طرح على الخل عصير؛ لأن الخل يستحيل تخمره فنظروا ثم للغالب بخلاف ما نحن فيه فإن الكل يتخمر فإذا تخلل طهر أخذا من كلامهم فيما لو وضع خمر على خمر أخرى فإنهما يطهران. وإن كانا من جنسين كما يأتي وأن الرطب إذا اعتصر ولم يختلط به ماء وتخمر ثم تخلل طهر قطعا ولم يأت فيه خلاف النبيذ وبه يعلم أن ماء النارجيل إذا لم يخالطه غيره فتخمر ثم تخلل طهر قطعا أيضا ولا يأتي فيه خلاف النبيذ لما علمت من الفرق أن ذاك فيه ماء وهذا لا ماء فيه, والخلاف السابق في الرطب ليس في طهارة خله بالتخلل وإنما هو في أن عصيره هل يأتي منه خل من غير ماء أو لا؟ فالقائلون لا يأتي منه إلا بالماء يقولون لو فرض أنه أتي منه من غير ماء طهر قطعا, فالخلاف ليس في طهارته بفرض أنه جاء منه خل فكذا يقال في ماء النارجيل, وقول السائل وما قولكم فيما إذا كان في إناء خمر إلى آخر جوابه ذكرته في الشرح المذكور وعبارته قال البغوي وتبعه صاحب الأنوار والغزي وإن تعقبه ابن شهبة بأنه لم ير ذلك في كلام غيره وغيرهما واعتمده لو نقص من خمر الدن أو أدخل فيه شيء فارتفعت بسببه ثم أخرج فعادت كما كانت أي فلا تطهر إلا إن صب عليها خمر قبل الجفاف حتى ارتفعت إلى الموضع الأول ا هـ. لكن عبارة أولئك في المسألة الأولى وهي مسألة النقص ولو أخذ منها شيئا وهي أولى.

 

ج / 1 ص -55-          من تعبير المصنف بالنقص لشموله لما لو كان بسبب تشرب الدن أو انعقادها بواسطة هواء ونحوه, والحكم بعدم طهارة الخل في هذه الصورة ليس بظاهر, بل الذي يتجه الطهارة هنا نظير الارتفاع بالغليان؛ لأن كلا ليس بفعل فاعل فسومح به قال أعني البغوي وإنما لم يطهر في الحالة الأولى وهي ما لو ارتفعت بفعل فاعل كأن وضع في الدن ظرف فارتفعت بسببه, أما الدن فلعدم الضرورة وأما الخمر فلاتصالها بنجس بخلافه في الحالة الثانية وهي ما لو غمر المرتفع قبل جفافه بخمر أخرى فإنها تطهر بالتخلل لأن أجزاء الدن الملاقية للخل لا خلاف في طهارتها تبعا له ا هـ. وقوله: قبل جفافه الذي تبعه المصنف وغيره عليه يقتضي أنها لا تطهر فيما لو غمره بها بعد جفافه, وتعليله يقتضي خلافه. قال شيخنا شيخ الإسلام زكريا - سقى الله عهده -: "والموافق لكلام غيره أنها لا تطهر مطلقا لمصاحبتها عينا وإن كانت من جنسها" وقال غيره لعله تصوير لتحقق انغمار موضع الارتفاع ونظر بعضهم في كلام شيخنا المذكور ولعل مأخذه قول الزركشي وابن العماد واحترز الشيخان بفرضهما التفصيل الآتي في طرح العصير على خل عما لو طرح خمر فوق خمر فإنها تطهر, ويحتمل التفصيل بين أن يكون الخمر من جنسها فتطهر أو من غير جنسها كما إذا صب النبيذ على خمر فلا تطهر ا هـ. وكأن ما قالاه أولا مساو لما أفتى به بعضهم من إطلاق أنه لا يضر طرح خمر فوق خمر انتهت عبارة الشرح المذكور, وبها يعلم أن الارتفاع متى كان بفعل فاعل لا تطهر إذا لم يغمر المرتفع بخمر أخرى, وهذه الصورة لا نزاع فيها وإنما النزاع فيما لو غمرها بخمر أخرى والذي يتجه ترجيحه الطهارة حينئذ سواء ما قبل الجفاف وما بعده لما علل به البغوي المقتضي أن فرضه الكلام قبل الجفاف إنما هو للتصوير لا للاحتراز وما ذكره شيخنا ينازع فيه كلام الزركشي وابن العماد فإنهما ذكرا الطهارة في ذلك على جهة نقل المذهب, ثم أبديا في مقابلته احتمالا لهما مفصلا وهو وإن كان له وجه إلا أن ما أطلقاه من الطهارة الموافق لعلة البغوي السابقة هو اللاحق بالاعتماد؛ لأنه المنقول, وتعليل شيخنا بمصاحبة العين يجاب عنه بأنه تلك المصاحبة لا تضر لاشتراك كل من العينين في التخلل المقتضي للطهارة فليست كمصاحبة عين غير خمر نعم قد يقال في خصوص مثالهما وهو النبيذ: إذا وضع على خمر ومثله عكسه أن الأوجه فيه عدم الطهارة لأن النبيذ فيه الماء ففي ذلك وضع الماء على الخمر بلا حاجة وقد سبق أنه يضر. وقد يجاب بأنه لما اغتفر فيه الماء للحاجة كان كالعدم فلم يضر طرح ما هو فيه من النبيذ على غيره؛ لأنه تابع له ويغتفر في الشيء تابعا ما لا يغتفر فيه مقصودا وبهذا الذي تقرر في مسألة البغوي تعلم الطهارة فيما لو أريقت الخمر من دن ثم صب فيه خمر أخرى قبل الجفاف أو بعده ثم نقلت منه إلى إناء طاهر, وذلك لأنه إذا علم أن المنقول فيما إذا صبت خمر على خمر أخرى الطهارة مطلقا فما هنا كذلك لأن صبها في الدن المتنجس بالخمر غايته أنه كصبها في دن ارتفعت إليه بفعل فاعل ثم نزلت عنه. وقد مر أن ظاهر المنقول طهارته سواء أصبها عليه قبل الجفاف أم.

 

ج / 1 ص -56-          بعده, وسواء كانت من الجنس أم من غير الجنس على ما مر فيه هذا على ما اعتمدناه في مسألة البغوي, وأما على ما اعتمده شيخنا فيها من عدم الطهارة مطلقا, فقياسه هنا النجاسة وأنها لا تطهر بالتخلل مطلقا؛ لأن الشيخ يجعل ملاقاة الخمر لأخرى كملاقاة العين الأجنبية والذي مر عن البغوي والزركشي وابن العماد وغيرهم أنهم يفرقون بينهما, وأن الفرق أن الخمر الأخرى تشارك الأولى في التخلل المقتضي لطهارتهما فلم تكن كالعين الأجنبية التي لا تقبل ذلك, وبما تقرر يعلم الجواب عن قول السائل وهل الحكم المتقدم..إلخ وهو أنه لا فرق لما تلا عليك واضحا مبينا. وفي الأنوار لو نقلت من دن إلى آخر طهرت بالتخلل قال البغوي بخلاف ما إذا خرجت منه, ثم صب فيه عصير فتخمر ثم تخلل لا يطهر ا هـ. ولا ينافي ما تقرر في وضع الخمر على خمر أخرى لما سبق من الفرق الواضح بينها وبين غيرها.
"وسئل" رضي الله عنه أخبره عدل أنه خرج منه حدث فهل يلزمه قبول خبره أو لا كما أفتى به بعض أهل اليمن. "فأجاب" - متع الله بحياته - الصواب أنه يلزمه وزعم أن خبره لا يفيد اليقين, بل الظن ولا يرفع يقين طهر بظن حدث يبطله أنه لو أخبره بوقوع نجاسة في الماء لزمه قبول خبره مع وجود العلة المذكورة, ووجهه أن هذا وإن كان ظنا إلا أنه قائم مقام اليقين شرعا في أبواب كثيرة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - نفع الله بعلومه وبركته - ما حكم استعمال الورق البالي من الكتب أغشية لها؟ "فأجاب" رضي الله عنه استعمال ما ذكر من الورق أغشية جائز إن لم يكن فيها قرآن ولا علم شرعي ولا اسم الله أو نبيه أو غيرهما من كل اسم معظم وإلا فهو حرام ومن أطلق الإفتاء بالجواز فقد أبعد والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه هل يكره لداخل الخلاء حمل ما كتب عليه ذكر؟ وهل يعم ما إذا قصد حمل الأمتعة فقط أو لا؟ كحمل المصحف في أمتعة. "فأجاب" بأن الأوجه الفرق بأن المحدث إنما منع من الحمل المخل بالتعظيم, ولا إخلال إذا كان المصحف تابعا, ومناط الكراهة هنا استصحاب ما عليه الذكر وإدخاله المكان الخسيس المقتضي لامتهانه, والإخلال بتعظيمه وذلك حاصل وإن لم يقصده.
"وسئل" رضي الله عنه هل يحرم دوس الورق أو الخرقة المكتوب عليها اسم الله واسم رسوله. صلى الله عليه وسلم "فأجاب" بقوله: نعم يحرم دوس ذلك؛ لأن فيه إهانة له فهو كجعل الدراهم فيه, بل أولى وينبغي أن يلحق بذلك كل اسم معظم كما قالوه في دخول الخلاء به, وإنما لم يحرم؛ لأنه ليس فيه من الإهانة ما في دوسه.
"وسئل" فسح الله في مدته عمن وجد ورقة ملقاة في الطريق فيها اسم الله ما الذي يفعل بها "فأجاب" بقوله: قال ابن عبد السلام الأولى غسلها لأن وضعها في الجدار تعريض.

 

ج / 1 ص -57-          لسقوطها والاستهانة بها, وقيل: تجعل في حائط وقيل: يفرق حروفها ويلقيها ذكره الزركشي, فأما كلام ابن عبد السلام فهو متجه لكن مقتضى كلامه حرمة جعلها في حائط والذي يتجه خلافه وأن الغسل أفضل فقط, وأما التمزيق فقد ذكر الحليمي في منهاجه أنه لا يجوز تمزيق ورقة فيها اسم الله أو اسم رسوله لما فيه من تقطيع الحروف وتفريق الكلمة وفي ذلك إزراء بالمكتوب, فالوجه الثالث شاذ لا ينبغي أن يعول عليه فإن قلت: وجه الضعيف أيضا أن هذه الحروف لما ركب منها هذا الاسم المعظم ثبت لها التعظيم, فتفريقها بعد ذلك لا يوجب إهدار ما ثبت لها. قلت إنما يأتي ذلك على ما مال إليه السبكي من أن الحروف المقطعة حكمها حكم الكلمات الشريفة, ومقتضى كلامهم خلافه فإن قلت: ينافي ذلك حرمة تلفظ الجنب بحرف من القرآن كما اقتضاه كلام الروضة, وأصلها وبه صرح في المجموع. قلت: لا ينافيه؛ لأن تلفظه به بقصد القراءة شروع في المعصية؛ فالتحريم لذلك لا لكونه يسمى قارئا وبهذا أيضا يجاب عن قول ابن عبد السلام: لا ثواب في قراءة أحد جزأي الكلمة فما توهمه الإسنوي من أن ذلك يخالف ما مر وأن الأوجه أنه لا يحرم التلفظ يرد بما ذكرته, ويرد به أيضا على من اعتمد كلام الإسنوي وأخذ منه أن الذي يجب احترامه من القرآن هو الجمل المفيدة, بل هذا الأخير زلة يستغفر منها.
"وسئل" - نفع الله به - عما إذا وجد القارئ غلطا في شكل المصحف الكريم أو حروفه هل يلزمه إصلاحه؟ "فأجاب" بقوله إن كان ملكه أو علم رضا مالكه لزمه إصلاحه وكذا لو كان وقفا, وخطه لا يعيبه وإلا لم يجز له إصلاحه وهذا التفصيل ظاهر وإن لم أر من صرح به ثم رأيتني ذكرت في شرح العباب ما لفظه: ونقل الزركشي وغيره عن العبادي أن من استعار كتابا فوجد فيه خطأ لم يجز له إصلاحه وإن كان مصحفا وجب, وقيده البدر بن جماعة والسراج البلقيني بالمملوك قالا أما الموقوف فيجوز إصلاحه وظاهر أن محله إذا كان خطه مستصلحا ا هـ. وظاهر كلام العبادي أن المصحف يجب إصلاحه مطلقا وله وجه إن لم يعبه ذلك الإصلاح فإن عيبه لرداءة خط المصلح فينبغي تحريمه وظاهر أن محل الوجوب أيضا ما إذا كان ذلك الإصلاح قليلا لا يقابل بأجرة فإن كان كثيرا بحيث يقابل بها فالذي يظهر أنه لا يجب عليه إلا إن جعل له مالك المصحف أو ناظره أجرة في مقابلته, ويؤيده قولهم لو سئل في تعليم الفاتحة لمن يجهلها وجب عليه تعليمه إياها وتعين عليه حيث لم يكن هناك غيره لكن لا مجانا بل بأجرة فلم يجعلوا التعين مانعا من استحقاق الأجرة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه بما لفظه صرحوا بأن نسيان القرآن كبيرة فكيف ذلك مع خبر الصحيحين:
"لا يقول أحدكم نسيت آية كذا وكذا, بل يقول نسيت" وخبرهما أنه سمع رجلا يقرأ فقال - "رحمه الله - لقد أذكرني آية كنت أسقطتها" وما المراد بالنسيان وهل يعذر به.

 

ج / 1 ص -58-          إذا كان لاشتغاله بمعيشة عياله التي لا بد منها؟ وهل يشمل ذلك نسيان الخط بأن كان يقرؤه غيبا, ومن المصحف فصار لا يقرؤه إلا غيبا وفي عكسه هل يحرم أيضا؟ "فأجاب" بقوله لا تنافي بين الحديثين والحديث الدال على أن نسيان القرآن كبيرة أما الأول فلأن الأمر بأن يقول نسيت بتشديد السين أو أنسيت إنما هو لرعاية الأدب مع الله تعالى في إضافة الأشياء إليه؛ لأنها منه بطريق الحقيقة خيرها وشرها, ونسبتها للعبد إنما هي من حيث الكسب والمباشرة فأمرنا برعاية هذه القاعدة العظيمة النفع العزيزة الوقع التي ضل فيها المعتزلة ومن تبعهم كالزيدية, فليس في هذا الحديث أن النسيان كبيرة ولا أنه غير كبيرة كما اتضح مما قررته. وأما الثاني فهو دليل على أن المراد بالنسيان المحرم أن يكون بحيث لا يمكنه معاودة حفظه الأول إلا بعد مزيد كلفة وتعب لذهابه عن حافظته بالكلية, وأما النسيان الذي يمكن معه التذكر بمجرد السماع أو إعمال الفكر فهذا سهو لا نسيان في الحقيقة فلا يكون محرما وتأمل تعبيره صلى الله عليه وسلم بأسقطتها دون أنسيتها يظهر لك ما قلناه ولا يعذر به, وإن كان لاشتغاله بمعيشة ضرورية لأنه مع ذلك يمكنه المرور عليه بلسانه أو قلبه فلم يوجد في المعايش ما ينافي هذا المرور فلم يكن شيء منها عذرا في النسيان نعم المرض المشغل ألمه للقلب واللسان والمضعف للحافظة عن أن يثبت فيها ما كان فيها لا يبعد أن يكون عذرا؛ لأن النسيان الناشئ من ذلك لا يعد به مقصرا لأنه ليس باختياره, إذ الفرض أنه شغل قهرا عنه بما لم يمكنه معه تعهده وقد علم مما قررته أن المدار في النسيان إنما هو على الإزالة عن القوة الحافظة بحيث صار لا يحفظه عن ظهر قلب كالصفة التي كان يحفظه عليها قبل. ونسيان الكتابة لا شيء فيه ولو نسيه عن الحفظ الذي كان عنده ولكنه يمكنه أن يقرأه في المصحف لم يمنع ذلك عنه إثم النسيان لأنا متعبدون بحفظه عن ظهر قلب, ومن ثم صرح الأئمة بأن حفظه كذلك فرض كفاية على الأمة, وأكثر الصحابة كانوا لا يكتبون وإنما يحفظونه عن ظهر قلب وأجاب بعضهم عن الحديث الثاني بأن نسيان مثل الآية أو الآيتين لا عن قصد لا يخلو منه إلا النادر وإنما المراد نسيان ينسب فيه إلى تقصير, وهذا غفلة عما قررته من الفرق بين النسيان والإسقاط, فالنسيان بالمعنى الذي ذكرته حرام بل كبيرة ولو لآية منه كما صرحوا به, بل ولو لحرف كما جزمت به في شرح الإرشاد وغيره لأنه متى وصل به النسيان ولو للحرف إلى أن صار يحتاج في تذكره إلى عمل وتكرير فهو مقصر آثم, ومتى لم يصل إلى ذلك بل يتذكره بأدنى تذكير فليس بمقصر وهذا هو الذي قل من يخلو عنه من حفاظ القرآن؛ فسومح به وما قدمته من حرمة النسيان وإن أمكن معه القراءة من المصحف نقله بعضهم عن جماعة من محققي العلماء وهو ظاهر جلي والله أعلم بالصواب.
"وسئل" - نفع الله به - هل يجوز كتابة قرآن أو اسم الله تعالى في حرز لكافر يعتقد به حصول الخير له؟ وهل يفرق بين ما يكتب تكسيرا حرفيا أو عدديا أم لا؟ "فأجاب" بقوله: الذي صرح به أصحابنا أنه يحرم بالاتفاق السفر بالقرآن إلى أرض الكفر سواء كان أهلها.

 

ج / 1 ص -59-          ذميين أم حربيين قال في المجموع. "ومحله إذا خيف وقوعه بأيديهم؛ لما فيه من تعريضه للامتهان" وفي شرح مسلم إن أمن ذلك كدخوله في الجيش الظاهر عليهم فلا منع ولا كراهة. وقال جماعة من أصحابنا بالنهي مطلقا لظاهر الحديث وخشية من أن تناله الأيدي قال الأذرعي وهو المختار ا هـ. قال أئمتنا: ولا يحرم بالاتفاق كتابة نحو آيتين ضمن مكاتبتهم لأنه صلى الله عليه وسلم كتب ذلك في كتابه إلى هرقل؛ ولأنه لا امتهان فيه ا هـ. إذا تقرر ذلك, فكتابة محض القرآن حرزا لكافر ممنوعة مطلقا لأنه قد يظهر لنا أنه لا يمتهنه فإذا اختلى به امتهنه ولا يبعد أن يلحق به الأسماء المعظمة, فإن قلت يجوز إسماعه القرآن وتعليمه شيئا منه إن رجي إسلامه فهل فصلت كذلك في كتابة بعض القرآن حرزا له قلت: مجرد الإسماع أو التعليم لا يقبل امتهانا بخلاف الكتابة أما لو كتب آية أو آيتين ضمن حرز, فقياس ما تقرر جوازه؛ لأن وقوعه ضمن غيره صيره تابعا غير معرض بذاته للامتهان, ويحتمل عدم الجواز هنا أيضا لأن كتابة نحو الآية في ضمن مكاتباتهم يحتاج إليها في وعظهم وإقامة الحجة عليهم, وأما كتابة الرقى لهم فلا حاجة بنا إليها فحرمت مطلقا, ثم إذا قلنا بحرمة الكتابة إليهم فمحلها في كتابة للفظ القرآن سواء كانت مكسرة تكسرا حرفيا, أو غيره.
"وسئل" - نفع الله بعلومه - عن رقية الكافر إذا لم يعلم أنها تتضمن كفرا هل يجوز استعمالها للمسلمين أو لا؟ "فأجاب" بقوله: لا يجوز لأحد أن يستعمل رقية سواء كانت من كافر أو غيره إلا إذا علم أنها غير مشتملة على كفر أو محرم, والدليل على ذلك أن الصحابة لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن رقاهم لم يأذن لهم فيها حتى أمرهم بأن يعرضوها عليه فعرضوها عليه فقال "لا بأس", وحيث كان في الرقية اسم سرياني مثلا لم يجز استعمالها قراءة ولا كتابة إلا إن قال أحد من أهل العلم الموثوق بهم: إن مدلول ذلك الاسم معنى جائز؛ لأن تلك الأسماء المجهولة المعنى قد تكون دالة على كفر أو محرم, كما صرح به أئمتنا فلذلك حرموها قبل علم معناها.
"وسئل" رضي الله عنه عما إذا بان عظم أجنبية فهل ينقض مسه الوضوء. "فأجاب" بقوله الذي ملت إليه في كتبي الفقهية أنه لا ينقض لأنه ليس مظنة للشهوة بوجه فهو كالسن بل أولى لأنها يلتذ بالنظر إليها, وهذا لا يلتذ به. ولا بالنظر إليه ويؤيد ذلك قول المهذب وغيره أن النقض إنما يكون بما يلتذ بمسه دون نظره, وأما ما أفتى به بعضهم من أنه ينقض واستدل له بكلام الأنوار, ففيه نظر ظاهر.
"وسئل" - نفع الله بعلومه - هل تحرم كتابة القرآن الكريم بالعجمية كقراءته؟ "فأجاب" بقوله: قضية ما في المجموع عن الأصحاب التحريم وذلك لأنه قال: وأما ما نقل عن سلمان رضي الله عنه "أن قوما من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئا من القرآن فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسية, فأجاب عنه أصحابنا بأنه كتب تفسير الفاتحة لا حقيقتها ا هـ. فهو ظاهر.

 

ج / 1 ص -60-          أو صريح في تحريم كتابتها بالعجمية فإن قلت: كلام الأصحاب إنما هو جواب عن حرمة قراءتها بالعجمية المترتبة على الكتابة بها فلا دليل لكم فيه قلت: بل هو جواب عن الأمرين, وزعم أن القراءة بالعجمية مترتبة على الكتابة بها ممنوع بإطلاقه, فقد يكتب بالعجمية ويقرأ بالعربية وعكسه, فلا تلازم بينهما كما هو واضح وإذا لم يكن بينهما تلازم كان الجواب عما فعله سلمان رضي الله عنه في ذلك ظاهرا فيما قلناه على أن مما يصرح به أيضا أن مالكا رضي الله عنه سئل هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال لا إلا على الكتبة الأولى أي كتبة الإمام, وهو المصحف العثماني قال بعض أئمة القراء ونسبته إلى مالك؛ لأنه المسئول وإلا فهو مذهب الأئمة الأربعة. قال أبو عمرو: ولا مخالف له في ذلك من علماء الأمة, وقال بعضهم: والذي ذهب إليه مالك هو الحق إذ فيه بقاء الحالة الأولى إلى أن يتعلمها الآخرون, وفي خلافها تجهيل آخر الأمة أولهم, وإذا وقع الإجماع كما ترى على منع ما أحدث الناس اليوم من مثل كتابة الربا بالألف مع أنه موافق للفظ الهجاء, فمنع ما ليس من جنس الهجاء أولى, وأيضا ففي كتابته بالعجمية تصرف في اللفظ المعجز الذي حصل التحدي به بما لم يرد بل بما يوهم عدم الإعجاز, بل الركاكة؛ لأن الألفاظ العجمية فيها تقديم المضاف إليه على المضاف ونحو ذلك مما يخل بالنظم ويشوش الفهم. وقد صرحوا بأن الترتيب من مناط الإعجاز وهو ظاهر في حرمة تقديم آية على آية كتابة كما يحرم ذلك قراءة, فقد صرحوا بأن القراءة بعكس السور مكروهة وبعكس الآيات محرمة وفرقوا بأن ترتيب السور على النظم المصحفي مظنون, وترتيب الآيات قطعي. وزعم أن كتابته بالعجمية فيها سهولة للتعليم كذب مخالف للواقع والمشاهدة فلا يلتفت لذلك على أنه لو سلم صدقه لم يكن مبيحا لإخراج ألفاظ القرآن عما كتبت عليه, وأجمع عليها السلف والخلف.
"وسئل" رضي الله عنه عن مدخلي الميت قبره إذا أصابهم شيء من تراب قبره مع رطوبة, ولم يتحقق نبش القبر هل ينجس؟ "فأجاب" بقوله: لا ينجس إذ لا نجاسة مع الشك, ثم إن قرب احتمال النجاسة فالأولى غسل ذلك وإلا الأولى ترك غسله وعلى هذا يحمل قول النووي - رحمه الله تعالى - في شرح المهذب. "من البدع المذمومة غسل الثوب الجديد, أي الذي لا يقرب احتمال نجاسته, وقول الشافعي واجب غسل حصى الجمار, أي لقرب احتمال تنجسها لأن الغالب في مثلها أن تصيبه نجاسة المارين ونحوهم فافهم ذلك فإنه مهم ولا يعارضه ما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين كانوا يمشون حفاة في الطرقات والطين ويصلون من غير غسل أرجلهم؛ لأنهم قصدوا بذلك, إما بيان العفو عن طين الشوارع ونحوه أو أن هذا الدين سهل لم يجعل الله علينا فيه من حرج خلافا لقوم غلب الشيطان على عقولهم فزين لهم أن الوسوسة في الطهارات من شعائر المتقين, وما دروا أنها من الأدلة القطعية على فساد العقل وقلة الدين, نعم هي شعار,.

 

ج / 1 ص -61-          أي شعار عند الشيعة الذين خذلهم الله وأركسهم ومن خير ما عنده حرمهم وعنه طردهم فيلحق بهم الموسوسون, فإن من كان على طريقة قوم حشر معهم والله تعالى يوفقنا لمرضاته ويمن علينا بجزيل هباته.
"وسئل" رضي الله عنه عمن لم يجد ماء وعلى بدنه نجاسة هل يتيمم للصلاة مع وجود النجاسة أو يصلي بغير تيمم لعدم صحته مع النجاسة؟ "فأجاب" بقوله: نعم يتيمم مع وجود النجاسة في هذه الصورة, وقولهم لا يصح التيمم ممن على بدنه نجاسة محله فيمن كان معه ماء لا يكفيه إلا لإزالتها دون الوضوء مثلا فهذا إذا أراد أن يتيمم عن الوضوء ثم بعد التيمم يغسل بما معه نجاسة بدنه لم يصح تيممه؛ لأنه؛ للإباحة, ولا إباحة مع وجود النجاسة فعليه أن يغسلها ولا يمكنه الصلاة بغير تيمم؛ لأنه واجد للتراب فعليه التيمم به ثم الصلاة لحرمة الوقت ثم القضاء والله سبحانه أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه عن كلب مس درجة بركة كبيرة وفيها ماء كثير فهل ينجس ما لاقاه من الماء؟ "فأجاب" بقوله: لا ينجس ملاقي الكلب في خلال الماء الكثير كما صرحوا به؛ لأن كثرة الماء مانعة من وصول أثر النجس إلى غيره لتضاد ما بينهما.
"وسئل" - أدام الله النفع به - عمن تنجس باطن عينه هل يلزمه غسله وإن خاف منه تلفا أو بطء برء أو قلة ضوء؟ "فأجاب" رضي الله عنه بقوله: يلزمه غسله من النجاسة ولا يلزمه غسله في الوضوء والغسل, والفرق أن النجاسة أفحش من الحدث لأنه معنوي وهي حسية فشدد فيها ما لم يشدد في الحدث, ومحل وجوب غسلها من النجاسة حيث لم يخش مبيح تيمم, والأصلي على حسب حاله وأعاد وجوبا والله تعالى أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه عن مصحف ليتيم أو موقوف بال عليه كلب مثلا ولم يمكن تطهيره إلا بإزالة حروف كتابته وبطلان ماليته فهل يجب على الولي أو الناظر التطهير المؤدي إلى ذلك أو لا؟ "فأجاب" - نفع الله تعالى بعلومه - بقوله: الذي ملت إليه الوجوب ثم رأيت غير واحد من أهل اليمن أفتى به أخذا بعموم قاعدة أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح, وقياسا على إزالة نجاسة بدن الشهيد وإن أدى إلى إزالة دمه وأقول لا يحتاج لذلك, بل للأصحاب في النجاسة المغلظة كلام يعم مسألتنا. وقد صرح النووي بأن المسألة إذا دخلت تحت عموم كلام الأصحاب كانت منقولة, وذلك الكلام الشامل لمسألتنا هو قولهم يجب التتريب وإن أدى إلى فساد نحو الثوب وإذهاب ماليته. وهذا شامل لمسألتنا فيكونون مصرحين فيها بوجوب التطهير وإن أدى إلى إزالة الكتابة وإبطال المالية فإن قلت: صرحوا بأن إزالة النجاسة لا تجب إلا في صور ولم يذكروا هذه منها فاقتضى ذلك أن هذه النجاسة لا تجب إزالتها. ويؤيده أن المصحف لا تعبد عليه, فبقاء النجاسة عليه لهذا العذر وهو بقاء المالية لليتيم, والانتفاع للموقوف عليهم لا يبعد أن يكون جائزا قلت: هو كذلك.

 

ج / 1 ص -62-          لولا ما عارض ذلك من أن بقاء النجاسة على المصحف فيه ازدراء, وعدم القيام باحترامه فاقتضت رعاية ذلك وجوب تطهيره وإن أدى إلى محوه وبطلان ماليته, وغاية ما في الباب أنه تعارض معنا حق آدمي وهو النظر؛ لبقاء المالية وحق الله تعالى وهو تعظيم المصحف وإزالة ما ينافي تعظيمه, فتقديمنا هذا الثاني على خلاف الأصل من تقديم حق الآدمي على حق الله تعالى؛ لأن الخطر في بقاء النجاسة هنا أعظم من خطر فوات المالية على أن فواتها لأجل تعظيم ما أمرنا به من تعظيم المصحف لا خطر فيه ألا ترى أن قن اليتيم يجب قتله بنحو ترك الصلاة تقديما لحق الله تعالى على حق الآدمي, وكذلك القن الموقوف فعلمنا أن حقوق الله تعالى التي لا بدل لها ولا تستدرك مفسدتها تقدم على حقوق الآدمي, وبهذا ظهر ما قلناه واتضح ما حررناه والله أعلم.
"وسئل" - نفع الله به - عن الخمر إذا تخللت هل يقال انقلبت عينها أم لا؟ كما قال بكل قائل. "فأجاب" - رضي الله عنه - بقوله: إن أريد بانقلابها مع التخلل أن جسمها عاد بعينه جسما آخر هو الخل فهو محال؛ لأن الجسم لا يصير جسما آخر, كما أن الجوهر لا يصير جوهرا آخر, وكما لا يرجع الجوهر عرضا وعكسه, بل ولا العرض عرضا آخر كالبياض سوادا أو عكسه, بل ولا البياض بياضا آخر فإذا صار ثوب أبيض أسود لم ينقلب البياض سوادا, لكن أعدم الله البياض وأخلف مكانه سوادا بقدرته, وكذا سائر الصفات. وإن أريد بذلك أن جسم الخمر انعدم وخلف الخل مكانه بغير فصل فهو غير معلوم, وإن جاز في القدرة إذ ليس كل جائز فيها واقعا إلا أن يعلم بالحس أو بخبر الصادق ألا ترى أن إعدام الخمر وإخلاف مكانه الخل جائز في القدرة, لكن لما لم يرد به نص وجب تكذيب مدعيه وكذلك يجوز أن يخلق الله تعالى بحضرتنا خلقا ولا يخلق لنا إدراكا له ولو ادعاه مدع لم نصدقه, بل لا نشك في كذبه إذا تقرر ذلك علم أن جنس الخمر بعد التخلل هو الخمر بعينه لا شك فيه, ولو جاز الشك فيه لشك الإنسان في نفسه إذا تغيرت حاله من صحة لمرض وعكسه هل هو أو غيره؟ وهذا لا يمكن ضرورة عاقلا أن يتوهمه وكذا الخمر, وإن العلم بكون صفات الخل الواردة عليه غير صفات الخمر الموجود قبل التخلل فقدت وأخلفتها صفة الخل ضروري, ولا يشك في هذا إلا معاند أو مخذول فذات الخمر باقية وهو جسمها, وصفاتها معدومة وأخلفتها صفات الخل واسم الخمر لا يطلق على ذاتها دون صفاتها ولا عكسه بل على مجموعها فإطلاق الانقلاب عليها إذا تخللت تجوز في العبارة إذ هو حقيقة الانتقال من مكان إلى مكان قال الله تعالى:
{وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا} [المطففين: 31] الآية فانقلبوا بنعمة من الله: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]. وفي حديث صفية ثم قامت تنقلب فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها وفي حديث عثمان حين عاتبه عمر رضي الله عنهما لما تخلف عن حضور الجمعة إلى أن طلع عمر المنبر انقلبت من السوق, فسمعت النداء ومن ذلك أيضا قلبت الإناء لأن ما فيه انتقل من فوق إلى أسفل وإذا تقرر.

 

ج / 1 ص -63-          أن الانقلاب الانتقال من مكان إلى مكان كان ذلك محالا في الأعراض, فالمراد بانقلبت من الخمر إلى التخلل أن أعراضها هي المتبدلة دون جسمها, وهذا معنى قول بعضهم: ماء العنب يغيره الله من حال إلى حال في الرائحة واللون والفعل والطعم لا أنه ذهب ماء العنب, وحدث غيره وإنما دخلت الشبهة على من قال انتقلت عينها من حيث إن الخمر محرمة الذات نجستها, والخل حلال الذات طاهر فظن استحالة الحكم على الذات الواحدة بالضد من النجاسة والطهارة والحرمة, والحل, وليس كما ظن بل فيه تفصيل: هو أن النجس إما لأصله كالبول أو لما طرأ عليه كزيت ماتت به فأرة, فالأول تستحيل طهارته باستحالة أصله بخلاف الثاني الطارئ عليه ما هو العلة الشرعية في نجاسته؟ فإذا ارتفعت صح ارتفاع النجاسة عنه شرعا. ونجاسة الخمر من هذا النوع لأنه كان طاهرا قبل وجود صفة الخمرية فيه, فإذا أوردت وجبت نجاستها فإذا زالت وجبت طهارتها إلا إذا كان بمصاحبة عين على اختلاف العلماء فيه, وفيه تفصيل في مذهبنا فجسم الخمر يطهر بزوال صفة الخمرية كما يطهر الثوب من النجس بالماء فإن قلت: لا فرق في الحقيقة بين البول والخمر والزيت إذ الماء أصل البول فساواهما قلت: أجيب عن ذلك بأن المقرر أن الماء أصل لكل ما فيه بلة من جميع النبات والحيوان فلما كان الماء مستهلكا في جميع ما يحصل منه كان ملغى, ووجب اعتبار ما يخرج منه كالعصير والبول, فالبول أصل في نفسه لما ألغي أصله, كما أن العصير أصل لما ألغي أصله على أن البول ليس عين المشروب, وإنما هو وسخ يصل للمثانة يجتمع من بلة الجسم ورطوبته وإن لم يشرب الماء ألا ترى أن الولد يبول عقب الولادة قبل أن يشرب ماء وإنما لم يجعل الخمر أصلا في نفسه كالعصير؛ لأن جميع العصير لم يستهلك بعد صفة الخمرية بخلاف الماء الذي شرب أو يسقى به الكرم فإنه استهلك في الجسم والكرم.
"وسئل" - نفع الله به - عن كلب لاقى درجة بركة وفيها ماء كثير فهل ينجس ما لاقاه بين الماء؟ "فأجاب" رضي الله تعالى عنه بقوله: كثرة الماء مانعة من النجاسة؛ لتعذرها معها ومن ثم لو أمسك كلبا داخل الماء الكثير لم تنجس يده والله أعلم.
"وسئل" - نفع الله تعالى بعلومه - عن الزباد هل يحل استعماله مع وجود الشعور وهل يعفى عنها؟ وما قدر المعفو عنها؟, وعسر الاحتراز ووجود الخلاف في الهرة الوحشية هل يقتضيان العفو مطلقا لعسر الاحتراز؟ "فأجاب" - فسح الله تعالى في مدته - بقوله يحل استعمال الزباد ويعفى عن شعره القليل عرفا كالثنتين والثلاث وعبارة شرحي على العباب مع متنه فرع في المجموع وغيره "الزباد طاهر وهو لبن سنور بحري يجلب كالمسك ريحا, واللبن بياضا يستعمله أهل البحر طيبا قاله الماوردي والروياني وأشار إلى خلاف فيه بناء على نجاسة لبن غير المأكول لكن تعقبهما في المجموع بأن الصواب طهارته, وصحة بيعه لأن الصحيح.

 

ج / 1 ص -64-          أن جميع حيوان البحر طاهر يحل لحمه ولبنه أو عرق سنور بري كما هو المشاهد قال النووي وهو الذي سمعته من ثقات أهل الخبرة فعلى هذا هو طاهر بلا خلاف" ا هـ. وقد يقال لا منافاة لاحتمال أن يكون لبن البحري كذلك ثم رأيت ابن الرفعة قال: وطريق الجمع أنه نوعان لكن الغالب الثاني, وبه يرد قول الدميري: أن ما في الحاوي والبحر وهم وفي القاموس: والزباد الطيب وهو رشح يجتمع تحت ذنبها على المخرج فتمسك الدابة, وتمنع الاضطراب ويسلت ذلك الوسخ المجتمع هنالك بليطة أو خرقة ا هـ. ويتجه كما بحثه بعضهم وتبعه المصنف وغيره العفو عن يسير شعره؛ لما يأتي من العفو عن يسير شعر غير المأكول وبه يخص عموم قول المجموع: "أنه يغلب اختلاطه بما يتساقط من شعره فليحذر عما وجد فيه, فإن الأصح نجاسة شعر ما لا يؤكل, ومنع أكل السنور البري" انتهت عبارة شرح العباب.
"وسئل" رضي الله عنه عمن جرح جفن عينه فخرج منه دم, ودخل عينه هل يلزمه غسل باطنها؟ فإن قلتم نعم وكان يخاف من غسلها تلفها أو بطء برئها أو قلة ضوئها ما الحكم؟ "فأجاب" - نفع الله بعلومه - بقوله: يعفى عن ذلك الدم ما لم يختلط بالدمع فحينئذ يلزمه غسل ما وصل إليه من باطن العين ما لم يخش من غسله مبيح تيمم كحدوث رمد أو بطء برئه.
"وسئل" رضي الله عنه عن لحم المذكاة يخرج منه عروق يخرج منها دم هل هو طاهر أو نجس يعفى عنه أو لا؟ "فأجاب" رضي الله عنه بقوله: الصحيح أنه نجس وأنه يعفى عنه, ومن قال إنه طاهر أراد به أنه حكم الطاهر باعتبار العفو عنه, ولا حجة لمن زعم حقيقة الطهارة لقوله تعالى:
{أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] لأن هذا مسفوح وإنما منع جريانه قلته؛ فلم يصح الاحتراز عنه في الآية بالمسفوح وإنما هو احتراز عن الكبد والطحال لأنهما لما انعقد أخرجا عن السفح فصارا طاهرين وحل أكلهما بنص قوله صلى الله عليه وسلم "أحل لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال".
"وسئل" رضي الله عنه بما لفظه: في جهتنا تصلح البيوت بالطين وكذلك كوارات النحل يعجن طينها بالزبل هل يعفى عنه لمشقة الاحتراز عنه؟ "فأجاب" رضي الله عنه بقوله لا يعفى عن شيء من ذلك إذ ليس هذا مما يضطر إليه وزعم أن الطين لا يعجن ولا يلتئم إلا بالزبل ممنوع, بل دقيق تبن نحو الفول أحسن في الخلط والالتئام من الزبل, وكذا يقال في الآجر المعجون طينه بالزبل فلا يعفى عنه كذلك ولقد شاهدنا كثيرا من يعجنونه بالتبن المذكور فيأتي أحسن مما عجن بالزبل, فالعجن به لم يحتج إليه فضلا عن زعم أنه مضطر إليه.
"وسئل" - نفع الله به - عما في فتاوى الشيخ زكريا - رحمه الله - وذلك أنه سئل عما صورته إذا بال الرجل ولم يستنج أو استنجى بحجر هل يحرم عليه الوطء أم لا؟ فأجاب بأن الظاهر.

 

ج / 1 ص -65-          أنه يحرم عليه الوطء لما فيه من التضمخ بالنجاسة وهو حرام ا هـ. كلامه. فهل هو صحيح أم لا؟ لكن في الخادم نبه الصيمري في شرح الكفاية على أمر حسن, وهو أن الغالب من حال كل إنسان أنه عند الجماع يسبق منه خروج المذي قبل المني لا سيما من يحصل منه ملاعبة, وإذا سبق المني تنجس رأس الذكر وكذا منيه الخارج عقبه متنجس؛ فينبغي له التحرز عنه ويتعدى ذلك إلى مني المرأة فينجسه ا هـ. وظاهره في هذه الصورة عدم تحريم الوطء خلاف ما في فتاوى الشيخ المذكور فما المعتمد من ذلك؟ "فأجاب" بقوله: أما ما قاله فيمن لم يستنج فظاهر وإنما التردد فيما قاله في المستنجي بالحجر, والكلام فيه في مقامين: الأول في أن الذكر هل يتنجس بملاقاة الفرج حينئذ أو لا؟ كل محتمل, والأوجه الأول فقد قال الجلال البلقيني محل قولهم إذا عرق محل استجماره ولم يجاوز صفحته أو حشفته عفي عنه وإن تلوث به غيره إن كان ذلك الغير نحو ثوبه دون ثوب غيره ا هـ. وقد صرحوا بأنه لا يعفى عنه إذا لاقى رطوبة أخرى, وعبارة شرح العباب. "ولم أر تعرضا للمرأة المستجمرة بالحجر, وظاهر أنها كالرجل فيما ذكروا, وأن العبرة في فرجها بمجاوزة شفريها قياسا على حشفة الذكر وأن ذكر مجامعها لا يعفى عما يصيبه من رطوبة فرجها ما دامت مستجمرة بالحجر, ثم رأيت الزركشي أخذ نحو هذا الأخير من تعليلهم العفو في المسألة الأولى أعني قولهم: أو تلوث به غيره لعسر تجنبه, أي وذلك لا يعسر تجنبه, وسبقه إليه ابن العماد" انتهت عبارة الشرح المذكورة, وإذا قلنا بتنجس الذكر فهل نقول بحرمة الوطء كما أفتى به الشيخ لما فيه من التضمخ بالنجاسة أو لا يحرم للحاجة إليه؟ والصواب في ذلك تفصيل لا بد منه وهو أنه إن استنجى بالحجر لعدم الماء جاز له الوطء للحاجة أو مع وجود الماء لم يجز له؛ إذ لا حاجة حينئذ وعلى هذا يحمل كلام الشيخ. وفي المجموع عن الشافعي والأصحاب رضي الله عنهم أنه يجوز للرجل أن يتوطن بادية لا ماء بها وأن يجامع زوجته بلا كراهة, وبذلك قال أكثر العلماء: وصح أن أبا ذر رضي الله عنه كان يقيم بالربذة, أي وهي بادية قريبة من المدينة ويفقد الماء أياما, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "التراب كافيك وإن لم تجد الماء عشر سنين", وروى أحمد بسند ضعيف أن رجلا قال يا رسول الله الرجل يغيب ولا يقدر على الماء, أيجامع أهله؟ قال "نعم" ا هـ. حاصل ما في المجموع, وهو كما ترى صريح في جو از الوطء عند الاستجمار بالحجر لفاقد الماء, ويوافق ذلك اتفاق أئمتنا على جواز وطء المستحاضة بلا كراهة. وإن كان الدم يجري, وعليه أكثر العلماء أيضا؛ للخبر الحسن أن حمنة رضي الله عنها كانت مستحاضة, وكان زوجها يطؤها فهذا تضمخ بالنجاسة لكنه عفي عنه للحاجة فإن قلت: ما ذكرته في القسم الثاني, وحملت عليه إفتاء الشيخ فيه نظر, ففي الجواهر يجوز وطء الرجل زوجته في ثقبة انفتحت تحت معدتها مع انفتاح الأصلي أو انسداده, وإذا جاز ذلك مع مباشرته للنجاسة, وعدم تعاطيه مخففا لها, فليجز في مسألتنا دنو مع الماء بالأولى؛ لأن الاستجمار بالحجر رخصة تصير المحل كالمحكوم له بالطهارة في.

 

ج / 1 ص -66-          أكثر الأحكام قلت: هذا ظاهر لو كان ما في الجواهر سالما عن النزاع, وليس كذلك فقد نازع فيه الزركشي بأن التضمخ بالغائط أشد منه بالدم, أي في وطء المستحاضة؛ ولذا عفي عن يسيره دون يسير الغائط, ولذا حرم الوطء في الدبر ا هـ. وهو نزاع متجه موافق لعموم قول المجموع وغيره: لا يثبت للمنفتح المذكور شيء من أحكام الفرج, فاستثناء القمولي ذلك غير ظاهر, نعم يمكن حمل كلامه على وطء ليس فيه تضمخ بغائط بل بدم؛ لأنه حينئذ نظير وطء المستحاضة, وقول السائل - نفع الله به - إن كلام الخادم الذي ذكره ظاهر في جواز الوطء فيه نظر, بل ليس ظاهره ذلك ولا قضيته؛ لأن معنى قوله: فينبغي له التحرز عنه أي عن المني فليغسل ما أصابه منه, وإن لم نحكم بنجاسته احتياطا؛ رعاية للغالب الذي ذكره من سبق المذي النجس للمني الذي يعقبه, فليس في هذا تعرض لوطء ولا دلالة على حكمه أصلا والله الموفق للصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عن الأفيون الذي يجلب من الهند واليمن, هل يحرم أكله أو لا؛ لعدم إسكاره وإضراره؟ وفي السمن الذي يجلبه الكفار الوثنيون من الجبل في الجلد الذي لم يدبغ, ولم يعلم أنه من المذبوح أو غيره, وهم يقولون أنه ذبيحة المسلم, هل يحل استعماله للمسلم أو لا؟ "فأجاب" بقوله: أكل الأفيون حرام إلا لمن ابتلي به وخشي الهلاك من فقده فيباح له لكن عند الضرورة, لا مطلقا كلحم الميتة للمضطر, وكثيرون من المتفقهة الذين ابتلوا به يظنون أن مجرد خشية هلاكهم بفقده يجوز لهم تناوله كيف أرادوا وهذا تخيل فاسد زينه لهم الشيطان ليدوم ضحكه عليهم في سائر الأحوال والأزمان. وإنما الحق في ذلك ما قررناه من أنه يصير كلحم الميتة للمضطر فلا يتناول إلا حالة الاضطرار ولا يتناول منه في هذه الحالة إلا القدر اليسير جدا الذي يندفع به خشية الموت, ومن أدمن ذلك انقطع عنه سريعا فإنهم أجمعوا على أنه ينقطع بالتدريج فحينئذ يجب على المبتلى به أن يتدرج في قطعه حتى يسلم من عظيم إثمه, وقول السائل: لعدم إسكاره وإضراره عجيب منه فقد صرح الأئمة بحرمته وعدوه من السموم المخدرة المسكرة. وهذا مشاهد لا يخفى على من له أدنى ذوق أو إحساس اللهم إلا على من ابتلي به, وارتبك فيه فهذا لا عقل له ولا دين لأنه يخرجه عن حيز الآدميين إلى حيز الممسوخين من القردة والخنازير, وكم شاهدنا من ابتلي به فمسخ بدنه حتى صار لا يدرك منه إلا خياله, ومسخ عقله حتى صار لا يصدر منه إلا هدره وخباله, والسمن المذكور طاهر كما هو بديهي من قاعدة أن ما غلبت النجاسة في نوعه ولم تعلم فيه بعينه يحكم بطهارته عملا بالأصل, وما كمسألة بول الظبية إنما هو لمعنى انضم للمشاهدة لا يتأتى هنا كما هو واضح.
"وسئل" رضي الله عنه عما لو ولغت هرة في متنجس بنجاسة كلبية ثم غابت بحيث يحتمل ولوغها في ماء كثير, ثم ولغت في إناء فهل يحكم بطهارة سؤرها في هذه الحالة.

 

ج / 1 ص -67-          كسائر أحوالها أو لا؛ للفرق بين المغلظة والمخففة؟ وهل هذه المسألة كمسألة طين الشوارع أم لا؟ "فأجاب" بقوله: لا يحكم بطهارة فمها بغيبتها في هذه الحالة, ولا في غيرها خلافا لما يوهمه بعض العبارات, وكأن السائل توهم ما ذكره من تلك العبارات, وإنما المعتمد المنقول المصرح به في ذلك أن الهرة أو غيرها من الحيوانات التي تختلط بالناس وغيرها إذا أكلت نجاسة, ثم غابت واحتمل في العادة ولوغها فيما يطهر فمها بأن يكون كدرا بالنسبة للنجاسة المغلظة فإذا غابت واحتمل طهر فمها كما ذكر, ثم عادت وولغت في ماء قليل أو مائع, أو مست بفمها ثوبا مثلا فلا يحكم بنجاسة ما لاقى فمها, وإن كان باقيا على نجاسته, لأن الأصل بقاؤها. وإنما لم نحكم بنجاسة ما لاقى فمها مع الحكم بنجاسته أعني الفم عملا بالأصلين المتعارضين؛ لأن الأصل فيما مسته الطهارة, والأصل في فمها النجاسة, ولكن بغيبتها ضعف أصل النجاسة فلم يؤثر التنجيس فبقي ما مسته على طهارته إذ لا يلزم من النجاسة التنجيس فعلم أن هذه المسألة ليست كطين الشوارع, وإن كانت النجاسة متيقنة فيهما؛ لأن طين الشوارع معفو عنه مع تحقق نجاسته وعدم ما يعارضها لكنه لا يعفى عنه مطلقا, وإنما يعفى عما يتعذر الاحتراز عنه؛ لأن هذا هو ملحظ العفو فيه, وأما فم الهرة فلا يقال إنه معفو عنه, وإنما يقال: نجس لم ينجس لضعفه باحتمال زواله بالولوغ في ماء يطهره عند الغيبة سواء كان ذلك النجس الذي أكله نحو الهرة مغلظا أو غيره, لكن يشترط في المغلظ احتمال ولوغه في ماء كدر بتراب يكفي في النجاسة المغلظة فإذا احتمل ولوغه في ذلك لم ينجس ما ولغ فيه, ولا ما مسه كما صرحوا به والله أعلم.

باب الاجتهاد.
"وسئل"
رضي الله عنه عن رجل تحت يده غلات أوقاف متحدة المصارف أو مختلفتها من شخص أو أشخاص, فوضع غلاتها في مواضع فالتبست عليه فهل يسوغ له التحري فيها فإن قلتم: نعم فلو تحرى فلم يظهر له دليل, هل يضمن كما لو نسي الوديعة أم لا؟ فإن قلتم: نعم فما يكون حكم الغلات المشتبهة, هل يملكها الناظر وينفذ تصرفه فيها قبل الضمان أم لا؟ "فأجاب" رضي الله عنه بأن الذي يظهر من كلامهم أن من تحت يده الغلات المذكورة يجوز له التحري فيها إذا كان ناظرا عليها, بل يجب عليه إذا لم يكن له طريق سواه, وذلك لأنهم قالوا يجوز له التحري في الأموال المشتبهة؛ لأن الملك شرط لصحية التصرف ويمكن التوصل إلى معرفته بالاجتهاد لأن للعلامة فيها مجالا فشرع فيه الاجتهاد عند الاشتباه بعلامة تغلب ظن الملك في المأخوذ. وغلبة الظن كافية في الأموال بدليل اعتماده على خط أبيه الموثوق به بدين وحلفه عليه, ومن ثم جاز الاجتهاد في المالين مع انتفاء أصل الحل في أحدهما ا هـ. وهذا ظاهر إن لم يكن صريحا في جواز الاجتهاد للناظر في الصورة.

 

ج / 1 ص -68-          المذكورة فإن قلت: لا نسلم ظهوره في ذلك؛ لأنهم عبروا بالملك في قولهم, لأن الملك, وقولهم: يغلب ظن الملك, وهذا يقتضي امتناع الاجتهاد في ذلك قلت: التعبير بالملك, إما أن يراد به المعنى المقتضي لصحة التصرف الشامل لملك العين, وللولاية عليها وأما أن يراد به ملك العين فقط, وكلامهم يدل على أن المراد الأول؛ لأن المشترط لصحة التصرف هو عموم الأول لا خصوص الثاني. ويدل عليه أيضا قولهم: وغلبة الظن كافية في الأموال أي في جواز التصرف فيها فإن قلت: ينافي ذلك أن أبا ثور لما سأل الإمام الشافعي رضي الله عنه عمن اشترى بيضة من رجل وبيضة من آخر, ووضعهما في كمه فانكسرت إحداهما فخرجت مذرة فعلى من يردها؟ قال له الشافعي اتركه حتى يدعى قال: يقول: لا أدري قال له الشافعي أقول له انصرف حتى تدري فإنا مفتون لا معلمون وهو بسكون العين وكسر اللام, وهذا كما ترى صريح في أن لا يجتهد في بيضة واحدة ويردها بالاجتهاد قلت: لا ينافي ما قررته لأن هذا لم يمنع فيه الاجتهاد لذاته؛ وإنما هو لما فيه من إلزام الغير بالاجتهاد, وذلك لا يجوز في الأموال كما قاله الزركشي قال: ومثله لو قبض من شخص دراهم فخلطها, فوجد فيها نحاسا. ويحتمل هنا أن يجتهد إن كان ثم أمارة ا هـ. والذي يتجه في هذه أنه إن أراد الاجتهاد؛ لإلزام الغير بجعل النحاس له لم يفده اجتهاده ذلك. وإن أراد به تمييز حقه من حق غيره حتى يحل له تناول ما ظهر له بالاجتهاد أنه له جاز له ذلك فإن قلت: هل يلحق بالناظر الولي من الأب والجد والوصي والحاكم وقيمه إذا كان تحت يده أموال لمحاجيره والتبست, أو يفرق بأن الملاك هنا يرجى كمالهم واجتهادهم لأنفسهم فلا حاجة إلى اجتهاد الولي بخلاف مصارف الوقف إذا كانت جهات؛ لأنه لا يتصور منها اجتهاد, قلت: قضية تسويتهم في باب الوقف بين الناظر والولي في مسائل إلحاقه به هنا في أنه يجوز له التحري, نعم ينبغي له أن لا يفعله إلا فيما اضطر إلى التصرف فيه من أموالهم, وأما ما لا يضطر إلى التصرف فيه منها فيبقيه على اشتباهه الذي لا يضر به إلى كمال مالكيه وقد صرحوا بأن الاجتهاد يجب فيما اضطر إلى تناوله كشاة ميتة التبست بمذبوحة واضطر إلى الأكل, ويجوز فيما لم يضطر إليه فكذا يقال بنظير ذلك في الناظر والولي فإن قلت: ما ذكر في الناظر إنما يتجه إذا كان الوقف على جهات أو نحوها مما لا يتصور منه الاجتهاد. أما إذا كان على مستحقين كاملين يمكن اجتهادهم فلا ينبغي أن يجوز الاجتهاد للناظر حينئذ؛ لأنه لا حاجة به إليه قلت: هو كذلك لأن الموقوف عليه يملك الغلة فإذا كان كاملا واشتبهت غلته التي ملكها بغلة غيره اجتهد هو؛ لأنه المالك لا الناظر فإذا ظهر للموقوف عليه أن الغلة التي صفتها كذا هي التي ملكها تولى الناظر حينئذ إعطاءها إليه وبهذا يعلم أن الذي ينبغي: أن الوكيل لو كانت تحت يده أموال لموكله أو لموكليه واشتبهت لا يجوز الاجتهاد فيها, بل يبقيها على حالها حتى يجتهد فيها ملاكها؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك الذي قد يقع بسببه نقص وتنازع بين الملاك لا غاية له: فإن قلت: هذا أعني اجتهاد الموقوف عليه ظاهر إن كان

 

ج / 1 ص -69-          متحدا أو متعددا, واتفقوا على العلامة المميزة لملكهم, فإن كانوا متعددين واختلفوا في العلامة ما حكمه؟ قلت: الذي يظهر أنه حينئذ يرجع إلى قول الناظر لأن اليد له أخذا من قولهم الآتي وقد أشكل على الوديع مستحقه منهما إذ قضيته: أن الوديع يرجع إليه في التعيين, وإذا رجع إليه في ذلك فالناظر أولى بهذا منه لأن ولايته أقوى, ومن قولهم: لو اشتبه ماله بمال غيره واجتهد فظهر له أن أحد المالين بعينه هو ماله ونازعه من هو في يده فالقول قول ذي اليد فإن قلت: فإن لم يعرف الناظر مميزا لأحد المالين هنا أو في الصورة السابقة ما حكمه؟ قلت: الذي يظهر أنه توقف الأموال المشتبهة حتى يصطلح ملاكها على شيء, ويدل لذلك قولهم: وإن استوقف مال إلى اصطلاح المتنازعين فيه كمال وقف لشخصين عند وديع وقد أشكل على الوديع مستحقه منهما فاصطلحا على أن يأخذه أحدهما, فيعطي الآخر من غيره لم يجز؛ لأنه بيع له, وشرطه تحقق الملك في العوضين للمتعاقدين أو على أن يتفاضلا فيه جاز للضرورة؛ ولأنه نزول عن بعض الحق وقولهم: لو مات عن أكثر من أربع زوجات قبل التعيين وقف لهن ميراث الزوجات حتى يصطلحن؛ لعدم العلم بعين مستحقه فيقسم بينهن بحسب اصطلاحهن بتساو أو تفاوت؛ لأن الحق لهن إلا أن يكون فيهن محجور عليها لصغر أو جنون أو سفه وصالح عنها وليها فيمتنع بدون حصول من عددهن ا هـ. فيأتي نظير ذلك كله فيما نحن فيه فإن قلت: إنما يتصور الوقف إلى الصلح إذا كان الموقوف عليهم يمكن اصطلاحهم فإن كان نحو جهات لا يتصور منها ذلك ما حكمه؟ قلت: الذي يظهر حينئذ أن الناظر يقسم تلك الأموال بين تلك الجهات على السواء أخذا مما قالوه فيما إذا اندرست شروط الواقف من أنه إن كان على جماعة معينين أو جهات متعددة قسمت الغلة بينهم بالسوية. فإن قلت: إذا قلت: بالرجوع إلى قول الناظر وادعى أنه لا يعرف مميزا فهل للمستحقين تحليفه؟ قلت: الذي يظهر أن لهم تحليفه على نفي العلم إن ادعوه عليه أخذا من قولهم: لو قال من تحت يده عين لاثنين ادعيا عليه هي وديعة عندي ولا أدري أهي لكما أم لأحدكما أم لغيركما حلف على نفي العلم إن ادعياه وتركت في يده لمن يقيم البينة بها وليس لأحدهما تحليف الآخر لأنه لم يثبت لواحد منهما يد ولا استحقاق ا هـ وأما قول السائل: فلو تحرى فلم يظهر له دليل وقسمها بين الموقوف عليهم على السوية كما قدمناه من غير أن ينقص منها شيء بالاشتباه فلا شيء عليه, وأما إذا نقص منها شيء بالاشتباه أو تلف منها شيء بعد الاشتباه فقياس كلامهم في باب الوديعة أنه يضمن النقص في الأولى, والتالف في الثانية؛ لأن الاشتباه ناشئ عن نسيانه فهو منسوب إليه. وإن لم يكن متعديا به لأنه لا اختيار له فيه فإن قلت: هل هذا الحكم الذي هو الضمان عام سواء أصدقه المستحقون على أن سبب الاشتباه النسيان أم كذبوه أو خاص بما إذا كذبوه؟ قلت: الذي يظهر لي تفصيل في ذلك وهو أن ما تلف بالاشتباه يضمنه مطلقا؛ لأنه تلف بسبب فعله كما تقرر وما تلف بسبب فعله لا فرق في الضمان بين أن يصدقه المالك على أنه تلف بذلك أو يكذبه وما تلف بعد.

 

ج / 1 ص -70-          الاشتباه لا يضمنه إلا إن كذبه المستحقون في النسيان بخلاف ما إذا صدقوه أخذا من قولهم: لو تنازع اثنان الوديعة فصدق الوديع أحدهما بعينه فللآخر تحليفه وإن صدقاه فاليد لهما والخصومة بينهما, وإن قال هي لأحدكما ونسيته فإن كذباه في النسيان ضمن كالغاصب لتقصيره بنسيانه. وإن صدقاه فيه فلا ضمان عليه ا هـ. والجامع بين هذه ومسألتنا أن كلا منهما لم يكن النسيان فيها سببا للتلف وإنما هو سبب للجهل بالمستحق فكما فصلوا في هذه بين التصديق والتكذيب كذلك يفصل في مسألتنا بين التصديق والتكذيب, وأما قول السائل: فإن قلتم: نعم فما يكون حكم الغلات المشتبهة. إلخ. فجوابه قد علم مما قررته سابقا, وذلك لأنا لا نضمنه إلا ما تلف بسبب الاشتباه أو ما تلف بعد الاشتباه. وأما ما بقي مشتبها فإنه إذا لم يظهر له علامة تميز بعضه عن بعض يقسمه بين المستحقين أو يتركه إلى أن يصطلحوا كما مر تفصيله فلا يتصور ضمان في الباقي بلا نقص هذا كله حيث كان هناك مجرد اشتباه من غير اختلاط, أو مع اختلاط لا بفعل الناظر, وأمكن التمييز أما إذا كان مع اختلاط لا بفعل الناظر ولم يمكن التمييز فإنها تصير مشتركة كما علم مما مر وسيأتي التصريح به عن الشيخين في الصيد والذبائح, أو بفعل الناظر ولم يمكن التمييز فإن تلك الغلات تصير كالهالكة سواء اختلط كل منها بمثله أم بأجود أم بأردأ لتعذر رده فيملكها الناظر وله إبدالها أو إعطاء المستحقين مما اختلط بمثله أو بأجود لا بأردأ إلا برضاهم فله ذلك ويسقط عنه الأرش, وما قررته هنا هو قضية كلام الشيخين وغيرهما. وصرح به بعض مختصري الروضة وغيره فيمن غصب من اثنين زيتين أو نحوهما كدرهمين وخلطهما بحيث صارا لا يتميزان فيكون المخلوط كالهالك ويملكه الغاصب خلافا لقول البلقيني المعروف عند الشافعية: أنه لا يملك شيئا منه ولا يكون كالهالك, نعم صرح جمع بأنه وإن ملكه لا يتصرف فيه إلا بعد إيفاء صاحبه حقه. وصرح الشيخان في الصيد والذبائح بأنه لو اختلط نحو زيتين لمالكين بانصباب ونحوه كصب بهيمة أو برضا مالكيهما كان مشتركا بينهما؛ لعدم التعدي ا هـ. فكذا يقال بنظيره هنا إذا لم يتعد الناظر بالخلط كما مر وفي صورة الاختلاط بغير تعد يجبر صاحب الأردإ على الأخذ من عين المختلط؛ لأن بعضه عين حقه وبعضه خير منه بخلاف صاحب الأجود فإنه لا يجبر على الأخذ ولا البدل من المختلط, بل يباع المختلط ويقسم الثمن بينهما بنسبة القيمة, ولا يجوز قسمة عين المتفاضلين على نسبة القيمة للتفاضل في الكيل ونحوه. ويأتي في الخلط بغير الجنس كالزيت بالشيرج ما تقرر في خلط أو اختلاط نحو الزيتين من أنه يصير كالهالك ومن أن المتعدي بالخلط يملكهما, ومن أنه يكون مشتركا في صورة الاختلاط بلا تعد وهنا يجوز الاتفاق على المفاضلة في القسمة لأن التفاضل جائز مع اختلاف الجنس والله سبحانه أعلم.
"وسئل" - نفع الله ببركاته - عن شاة مذبوحة وجدت في محلة المسلمين ببلد كفار وثنية, وليس فيهم مجوسي ولا يهودي ولا نصراني, فهل يحل أكل تلك الشاة المذبوحة التي

 

ج / 1 ص -71-          وجدت في تلك المحلة أم لا؟ "فأجاب" بأنه حيث كان ببلد فيه من يحل ذبحه كمسلم أو يهودي أو نصراني, ومن لا يحل ذبحه كمجوسي أو وثني أو مرتد أو متولد بين من يحل ذبحه ومن لا يحل ذبحه, ورئي بتلك البلد شياه مذبوحة مثلا وشك هل ذبحها من يحل ذبحه لم تحل للشك في الذبح المبيح, والأصل عدمه نعم بحث بعض المتأخرين أن من يحل ذبحه لو كان أغلب في تلك البلد كأن كان أكثرها مسلمين أو كتابيين حلت تلك الشياه المذبوحة مثلا, والعبرة في ذلك بالبلد دون المحلة منها حتى لو كان في بلد محلة كل أهلها مسلمون وبقية محالها كفار أو كفار ومسلمون, ومن لا يحل ذبحه أكثر حرمت تلك الشاة وإن وجدت في محلة من البلد, وليس بتلك المحلة كافر. لأن العبرة ليس بالمحلة وحدها, بل بجميع البلد, والحاصل أن المدار على الشك فحيث شك في ذابح تلك الشاة, ومن لا يحل ذبحه أكثر حرمت وإلا فلا والله أعلم.
"وسئل" - نفع الله به - عن أرض بعضها صدقة على جهة أو معين, وباقيها ملك لطائفة وجهل كم قدر الصدقة من الأرض, أيجوز التحري هنا أو لا؟ فإن قلتم: نعم فتحرى فلم يظهر له شيء ما حكمه؟ وكذلك نخلة على جهة أو معين في نخلات مملوكة. "فأجاب" بقوله: يجوز التحري في ذلك كله كما صرحوا بما يعم ذلك وغيره في باب الاجتهاد, وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في أجوبة أسئلة الفقيه الإمام عثمان, ويوافق ذلك قولهم في باب الصيد والذبائح لو اختلط حمامه بحمام غيره ولم يتميزا فله أخذ قدر ملكه بالاجتهاد والورع لا يخفى, ويؤخذ من ذلك أنه إذا تحرى ولم يظهر له شيء يلزمه أن لا يأخذ إلا ما غلب على ظنه أنه صدقة وما شك فيه لا يجوز له أخذ شيء منه هذا إن كان كل من البعض الصدقة والبعض الملك مفرزا عن الآخر قبل الاشتباه, فإن كان بعض الأرض صدقة مشاعا وبعضها ملكا مشاعا, وانبهم فيجوز الاجتهاد أيضا وله أخذ ما ظنه حقه أخذا من قول الغزالي وغيره: لو اختلط درهم أو دهن حرام بدراهمه أو دهنه مثلا فله إفراز غير ملكه, وصرفه لجهة استحقاقه والتصرف في الباقي وجرى عليه الشيخان. واعترض بأن الشريك لا يستقل بالقسمة فليرفعه إلى القاضي؛ ليقاسمه عن المالك إذا تعذرت معرفته أو حضوره, فإلحاق الرافعي له بالاختلاط الحمامين كأنه أراد في طريق التصرف ا هـ. ويجاب بأن الأوجه بقاء كلام الرافعي على ظاهره من أن له ذلك, وإن كان المالك حاضرا وإنما جاز له الاستقلال بالقسمة هنا على خلاف القاعدة؛ للضرورة إذ لو كلفناه الرفع للقاضي احتاج إلى إثبات ملكه والاختلاط مع ما في الرفع من المشقة والكلفة؛ فلذلك ساغ له الاستقلال بالقسمة فيما ذكر كما جاز للدائن الظفر بمال مدينه, وإن لم يتعد ويجري نظير هذا في صورتنا فيما يظهر فله الاستقلال بأخذ جزء من الأرض مثلا بقدر حصة حقه ظنا, ولا يلزمه الرفع للقاضي للضرورة قال البغوي ولو اختلط حمامه بحمامة فله أكله بعد الاجتهاد فيه إلا واحدة, وصححه في المجموع كما لو اختلط ثمر غيره بثمره وحكى الروياني أنه ليس.

 

ج / 1 ص -72-          له أن يأكل واحدة حتى يصالح ذلك الغير أو يقاسمه, ولناظر الصدقة والمالك القسمة بالرضا إن رأى الناظر المصلحة في القسمة أخذا من قولهم في اختلاط الحمام: للمالكين ذلك مع الجهل للضرورة وإنما اشترطت في الناظر ما ذكرته؛ لأنه متصرف عن الغير فلزم أن لا يتصرف له إلا بالمصلحة كما هو شأن كل متصرف عن غيره والله سبحانه أعلم.
"وسئل" - نفع الله به - بما لفظه هل غلبة الظن تخالف مجرد الظن إذ هو الطرف الراجح؟ "فأجاب" بقوله: جرى ابن الرفعة على اتحادهما حيث قال في قول الغزالي في القذف: "وغلب على ظنه زناها" استعمل هو وغيره الظن هنا في مطلق التردد من غير نظر إلى الراجح منه, وهو اصطلاح المتقدمين إذ جعل غلبة الظن هي المؤثرة, ولو استعمله بحسب اصطلاح المتأخرين لم يحتج إلى تقييده بالغلبة لأن أول الدرجات تكفي فيه إذا لا ضابط بعدها واعترض بأن في اكتفائه هنا بمجرد الرجحان نظرا, بل ظاهر كلام الغزالي خلافه, وأنه يعتبر أمرا زائدا على مجرد الرجحان وكذا فهمه صاحب الإمام محمد بن يحيى عنه فقال: إذا علم زناها يقينا أو غلب على ظنه قريبا من العلم, وقول الرافعي في كتبه: "أو ظنه ظنا مؤكدا" يشير لذلك, واعتبارهم لجواز القذف الطرف المذكور دال على أنه لا يكفي مطلق الظن, بل ظن خاص غالب وهو ينشأ عن الطرف المذكور, وهو أمر زائد على مجرد الرجحان ا هـ. قال الأذرعي وهو حسن بالغ.
"وسئل" رضي الله عنه قولهم في باب الآنية: لو تحير الأعمى قلد بصيرا فإن فقد البصير تيمم الأعمى, ما ضابط الفقد هنا؟ هل يضبط بما قالوه في التيمم في فقد الماء أو غير ذلك؟ وما هو؟ "فأجاب" بقوله: إن الذي يتجه في ذلك: أن المراد بالفقد فيه وفي نظائره كالوقت والقبلة عدم وجود مخبر له حالة التحير فلا يكلف طلبه, ويفرق بينه وبين ما قالوه في الماء بأن الغالب في طلب الماء أنه يحصله كما صرحوا به فرقا بين توهم الماء وتوهم البرء. وليس الغالب في طلب المقلد تحصيله بالوصف المقصود؛ لأنه بفرض وجوده قد يتحير أيضا فلم يكن على ثقة من حصول مقصوده بالطلب فلم يلزمه واكتفي في تيممه بمجرد عدم وجوده حالة التحير, نعم ينبغي أنه لو وجد إنسانا حينئذ سأله وهل يجب سؤاله احتياطا أو لا يجب؟ لأنه قد يتحير أيضا كل محتمل ويتجه ترجيح الأول حيث لا مشقة والله أعلم بالصواب. فإن قلت: لم لم يؤخر إلى أن يضيق الوقت, لعله يجد من يقلده؟ قلت: في صبره لذلك مشقة بل وخشية فوات بطرق موت أو نحوه فلم يكلفه, ومن ثم كان بحث من بحث في البصير المتحير وفاقد الطهورين ونحوهما الصبر إلى ضيق الوقت ضعيفا كما بينته في شرح العباب وغيره. فإن قلت: البرء فعل الله فكيف قيل: بوجوب طلبه أو بعدم وجوبه, أي بل يندبه خروجا من الخلاف, قلت: المراد بطلب البرء الكشف عنه هل وجد أم لا وهذا لا ينافي كونه فعل الله على أن الفعل هو إيجاد البرء لا هو, بل هو أثره, وكذلك وجود الماء فإيجاده.

 

ج / 1 ص -73-          فعل الله, ووجوده أثر فعله فكما قالوا فيه بالطلب إثباتا ونفيا, فكذلك قالوا في البرء.

باب الاستنجاء
"وسئل" رضي الله عنه عن كراهة البول تحت الشجر المثمر هل تختص بما إذا كان الغالب أن الماء لا يقع على مكانها قبل الثمرة أم لا؟ "فأجاب" فسح الله في مدته بأن الجواب عنه قد ذكرت في شرحي للإرشاد ومختصره ما يصرح به حيث قلت ويكره قضاء الحاجة تحت شجر من شأنه أن يثمر ولو مباحا, وإن كان في غير وقت الثمرة صيانة لها عن التلويث عند الوقوع فتعافها الأنفس ومنه يؤخذ أيضا أنه لو كان يأتي تحتها ما يزيل ذلك قبل الثمرة فلا كراهة, وبه صرح الإسنوي بحثا فقال وينبغي أن لا يكره تحت شجرة تسقى قبل طلوع الثمرة ا هـ. ووجهه حصول الأمن من التلويث حينئذ كما تقرر ويكفي في حصوله اطراد العادة بذلك, فاستبعاد بعضهم له بأنه قد يكون في جهة لا يحصل السقي منها أو بطرق ما يمنع وصول الماء لموضع البول ليس في محله إذ الصورة أنه يغلب عادة مجيء الماء إلى محل البول فيطهره. وإنما لم يحرم لأن التنجيس غير متيقن, وبحث الرافعي أن كراهة البول أشد؛ لأنه قد يجف وقد يخفى فلا يحترز عنه بخلاف الغائط ا هـ. حاصل ما ذكرته في هذا المحل عن الشرحين المذكورين, وبه يتضح الجواب عما في السؤال, ثم تعطيل الرافعي كون كراهة البول أشد بما ذكر قد ينازع فيه ويقال: بل كراهة الغائط أشد؛ لأن العافية فيه أشد ألا ترى أن كثيرا من النفوس لا تعاف أكل الذي غسل ما عليه من البول, وتكره أكل ما تلوث بالغائط وإن غسل وأمعن في غسله والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" فسح الله في مدته بما صورته قولهم: إذا هبت ريح عن يمين القبلة أو شمالها جاز محاذاتها مشكل, فإن محاذاة القبلة حرام, ومحاذاة الريح مكروهة, ولو في حال هبوبها كما في المجموع وعبارته: "يكره استقبال الريح بالبول فكيف جاز ارتكاب الحرام لاجتناب ما هو مكروه؟ "فأجاب" بقوله: إنما جاز الاستقبال حينئذ؛ لأن عدمه يعود إلى ضرر يلحق المكلف, وهو عود الرشاش عليه المنجس لبدنه أو ثوبه؛ فسقط الإشكال المذكور, وقول المجموع: ما ذكر في السؤال يحمل على ما إذا لم يغلب على ظنه عود رشاش ينجسه وإلا حرم كما هو ظاهر.
"وسئل" رضي الله عنه عن كشف العورة عند قضاء الحاجة أو الاستنجاء بحضرة الناس هل يحرم أو لا؟ كما زعمه بعض المدرسين وفعله, ويؤيده قولهم: الاستتار أدب ويحصل ولو بإرخاء الذيل؛ ولأنه قد يحتاج لذلك لتنجس ماء البيوت بما تلقيه الفئران في حيضانها مع قلة مائها, ولأنه يبعد من الناس النظر إلى عورة المستنجي كاشفا لعورته بل كلهم يغضون عنه, وعلى تقدير النظر إليه فالحرمة عليهم لا عليه فما الحكم في ذلك؟ ابسطوه مع دليله.

 

ج / 1 ص -74-          "فأجاب" بقوله: نعم يحرم كشف العورة بحضرة الناس لقضاء الحاجة والاستنجاء وغيرهما كما صرح به النووي في شرح مسلم في باب جواز الاغتسال عريانا في الخلوة, وعبارته: "يجوز كشف العورة في موضع الحاجة في الخلوة, وذلك كحالة الاغتسال وحالة البول وحال مباشرة الزوجة ونحو ذلك, فهذا كله جائز فيه التكشف في الخلوة, وأما بحضرة الناس فيحرم كشف العورة في كل ذلك ا هـ. فتأمل قوله في كل ذلك - تجده صريحا في المدعي, وأبلغ راد على من زعم إباحة ذلك, ويؤيده إطلاقهم تحريم كشف العورة بحضرة الناس ووجوب سترها ولو خارج الصلاة, ولم يستثنوا من ذلك إلا الكشف في الخلوة لحاجة, والاستثناء معيار العموم, فنتج من ذلك أن كلامهم صريح فيما ذكره في شرح مسلم فلا يقال أنه من تفرداته, وأما عدهم الستر من الأدب المستحب لقاضي الحاجة, فمرادهم به الستر في الخلوة كما دل عليه ما مر من كلام النووي والأصحاب, فإذا قضى الحاجة خاليا بالصحراء ونحوها سن له الستر بشرطه من الارتفاع والقرب وهذا هو الذي يكفي فيه إرخاء الذيل, ومما يصرح بأن ذلك هو مرادهم تعليلهم الندب بقولهم؛ لئلا يمر به أحد فيرى عورته. أما من بحضرة الناس في نحو الصحراء فيتعلق به أدبان الإبعاد والاستتار بجملته عن الأعين واتخاذ السترة إذا صار مستترا عن الأعين؛ لئلا يمر به أحد فيرى عورته, وذلك لما صح عنه صلى الله عليه وسلم من طرق أنه كان إذا أراد قضاء الحاجة انطلق حتى لا يراه أحد ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيب رمل - فليستتر به". وأدب الستر في حق قاضي الحاجة في البنيان أن يستتر بجملته في بناء مسقف أو نحوه, وأما ستر العورة بحضرة الناس فهو باق على حكمه من الوجوب ولما كان ذلك في الظهور بحيث لا يتوهم أحد سواه؛ لم يصرحوا بالتنبيه عليه في باب الاستطابة؛ اكتفاء بإطلاقهم وجوب ستر العورة ونقلهم الإجماع عليه وإن اختلفوا في قدرها, وقد ظهر بما تقرر أن حصول الفرض من الستر بإرخاء الذيل لا ينافي وجوبه بحضرة الناس؛ لأنه حينئذ ليس أدبا بل هو مما يتأدى به واجب الستر فلا يؤيد زعم من ذكر في السؤال, وزعمه الاحتياج لذلك بما ذكر باطل فإن الزركشي صرح بأن ما تلقيه الفئران في حياض البيوت القليلة الماء من الغائط يعفى عنه, أي إن لم يتغير كما هو ظاهر, فإن قلت هذا ظاهر إن تحقق إلقاء الفئران له. قلت: هو الظاهر ولا نظر لاحتمال خلافه؛ لبعد صدور ذلك من عاقل, وزعمه أنه يبعد من الناس النظر إليه زعم باطل أيضا فلا يلتفت إليه, نعم إن كان هناك من يثق منه بعدم النظر إليه - جاز التكشف للاستنجاء ونحوه بحضرته, وكذا إذا لم يكن هناك إلا زوجته أو أمته التي يحل له وطؤها, وزعمه أنه إذا كشف عورته كانت الحرمة عليهم لا عليه باطل أيضا, بل الحرمة عليه أيضا؛ لأنه متسبب في الحرام ومعين عليه, فإن قلت: قد لا يوجد في حيضان البيوت ماء ويضيق الوقت أو يخشى فوات الجمعة لو لم يستنج إلا مع كشف العورة فهل يباح له حينئذ الاستنجاء مع كشفها للضرورة قلت: يحتمل الجواز حينئذ حيث لم يتيسر له ماء في غير هذا المحل ولا حجر.

 

ج / 1 ص -75-          يجزئ في الاستنجاء؛ للضرورة ويحتمل أنه يصلي على حاله لحرمة الوقت ويعيد, فإن قلت: هذان الاحتمالان هل هما في الجواز أو الوجوب؟ قلت: يحتمل اختصاصهما بالجواز, وأن ذلك لا يجب عليه قطعا؛ لأن في تكليفه كشف عورته بحضرة الناس مشقة وخرم مروءة لا يطاق تحملها لا سيما إن كانت له وجاهة أو مرتبة تأبى ذلك, ويحتمل جريانهما في الوجوب أيضا لأن هذا كشف لضرورة, ومع الضرورة لا ينبغي ذلك, والذي ينقدح الآن أن ذلك لا يجب لما ذكرته, وأن الجواز محتمل.
"وسئل" رضي الله عنه كيف قولهم يكره لقاضي الحاجة محاذاة بيت المقدس مع أن القبلة إنما كانت صخرته لا هو؟ "فأجاب" بقوله: ظاهر الأحاديث أن القبلة هي لبيت المقدس وهو المسجد الأقصى, وعلى تقدير أنها الصخرة, فإطلاق اسم بيت المقدس عليها مجاز من إطلاق اسم الكل على البعض.
"وسئل" فسح الله في مدته هل يجوز غسل الثوب المتنجس بمطعوم؟ "فأجاب" بقوله: نعم فقد روى أبو داود بإسناد فيه ضعف عن امرأة من بني غفار أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفها على حقيبة فحاضت فأمرها أن تغسل الدم بماء وملح الحديث. قال في المجموع نقلا عن الخطابي: الملح مطعوم فقياسه جواز غسل الثوب بالعسل كثوب الإبريسم الذي يفسده الصابون, وبالخل إذا أصابه حبر ونحوه, قال: ويجوز على هذا التدلك بالنخالة, وغسل الأيدي بدقيق الباقلاء ونحوه مما له قوة الجلاء, وحدثونا عن يونس بن عبد الأعلى قال دخلت الحمام بمصر فرأيت الشافعي رضي الله عنه يتدلك بالنخالة ا هـ. فعلم به جواز استعمال المطعوم في إزالة الأوساخ والنجاسة إذا احتيج إليه, ويفارق الاستنجاء بأنه أفحش بخلاف ما نحن فيه, فإن المزيل هو الماء بواسطته فلم يباشر النجاسة كمباشرته في الاستنجاء.
"وسئل" رضي الله عنه هل يجوز الاستنجاء بكتب المنطق والفلسفة والتوراة والإنجيل؟ وهل يحرم مطالعة هذين والاشتغال بالأولين أو لا؟ القصد بسط ذلك وتحريره. "فأجاب" بقوله ممن صرح بجواز الاستنجاء بالأولين الإسنوي وغيره وهو في كتب الفلسفة واضح, وأما في كتب المنطق فمبني على ما يأتي عن ابن الصلاح وعلى القول به فشرطه كالأول أن يخلو ذلك الطرس المستنجى به عن أن يكون فيه اسم معظم كما شمله قول الكفاية وغيرها: يحرم الاستنجاء بما عليه اسم معظم كاسم الله أو اسم رسوله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء أو الملائكة. وقول بعض المتأخرين: التقييد بذلك بعيد؛ لأنه لم يقع في كلام متقدم ولا متأخر, بل كلهم أطلقوا القول بجواز الاستنجاء بذلك وهم, فإنهم ذكروا ما قيدنا به قبل ذلك بسطر ونحوه فأي حاجة إلى التقييد به حينئذ, وممن صرح بجواز الاستنجاء بالتوراة القاضي حسين, وقيده من بعده بما علم تبديله منها وإلا فهو كلام الله يجب تعظيمه, وواضح

 

ج / 1 ص -76-          مما مر أنه مقيد أيضا بما إذا خلا عن اسم معظم, ثم في تبديلها أقوال: أحدها: أنها كلها بدلت, فلعل القاضي اعتمد هذا؛ فأطلق ما مر. ثانيها: بدل أكثرها, وأدلته كثيرة, والأول قيل: مكابرة إذ الأخبار والآيات كثيرة في أنه بقي منها شيء لم يبدل. ثالثها: بدل أقلها ونصره ابن تيمية رابعها: بدل معناها فقط دون لفظها, واختاره البخاري في آخر صحيحه قال الزركشي: واغتر بهذا بعض المتأخرين في حججه وجوز مطالعتها, وهو قول باطل, ولا خلاف أنهم حرفوا وبدلوا, والاشتغال بالنظر فيها وبكتابتها لا يجوز بالإجماع, وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء منها وقال: "لو كان موسى حيا وما وسعه إلا اتباعي", ولولا أنه معصية ما غضب منه ا هـ. لكن تعقبه شيخ الإسلام ابن حجر فقال: إن ثبت الإجماع فلا كلام, وقد قيده بالاشتغال بكتابتها ونظرها فإن أراد من يتشاغل بذلك فقط فلا يحصل المطلوب؛ لأنه يفهم الجواز إذا تشاغل بغيره معه, وإن أراد مطلق التشاغل فهو محل النظر, وفي وصفه القول المذكور بالبطلان نظر أيضا فإنه نسب لوهب بن منبه, وهو من أعلم الناس بالتوراة ولابن عباس رضي الله عنهما, وكان ينبغي له ترك الدفع بالصدر, ولا دلالة في قضية عمر إذ قد يغضب من فعل المكروه, وخلاف الأولى ممن لا يليق به كتطويل معاذ الصبح بالقراءة, والذي يظهر أن كراهة ذلك للتنزيه, والأولى التفرقة بين الراسخ في الإيمان فله النظر بخلاف غيره لا سيما عند الرد على المخالفين, ويدل على ذلك نقل الأئمة قديما وحديثا من التوراة وإلزامهم اليهود بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم بما يستخرجونه من كتابهم, ولولا اعتقادهم جواز النظر فيه لما فعلوه وتواردوا عليه ا هـ. وما ذكره واضح فلا محيد عنه, وإن اعتمد السبكي ما ذكره الزركشي وأطال في الانتصار له, ونقله عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني ثم قال: وهذا هو الذي اتفق عليه من يعتمد عليه من أئمة الإسلام والشافعي وأصحابه كلهم متفقون على ذلك ثم قال بعد كلام طويل: "وبعض الناس يعتقد أن نظره في ذلك فضيلة, وهو عين النقصان" وقال قبل ذلك احتجاجا على وجوب إعدامها: "إذا دخلت تحت أيدينا أنها جمعت شيئا من كلام باطل قطعا, وقد اختلط بما لم يبدل من غير تمييز فوجب إعدام الجميع ولا يتوقف في هذا إلا جاهل ا هـ. فليحمل ما ذكره هو والزركشي وغيرهما على غير متمكن أو متمكن لم يقصد بالنظر فيها مصلحة دينية أما متمكن قصد ذلك فلا وجه لمنعه ويأتي ما ذكر فيها في الإنجيل, وأما الاشتغال بالفلسفة والمنطق فقد أفتى بتحريمه ابن الصلاح وشنع على المشتغل بهما وأطال في ذلك, وفي أنه يجب على الإمام إخراج أهلهما من مدارس الإسلام وسجنهم وكفاية شرهم قال: وإن زعم أحدهم أنه غير معتقد لعقائدهم, فإن يكذبه, وأما استعمالات الاصطلاحات المنطقية في الأحكام الشرعية فمن المنكرات المستشنعة, وليس بها افتقار إلى المنطق أصلا, وما يزعمه المنطقي للمنطق من الحد والبرهان فقعاقع قد أغنى الله عنها كل صحيح الذهن لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية هذا حاصل شيء من كلامه, وما ذكره في الفلسفة.

 

ج / 1 ص -77-          صحيح ومن ثم قال الأذرعي وما ذكرته من تحريمها هو الصحيح أو الصواب, وقد بين ذلك الشيخ ابن الصلاح في فتاويه, ونصوص الشافعي رضي الله عنه ناصة على تقبيح تعاطيه, ونقل عنه التعزير على ذلك ا هـ. وأما ما ذكره في المنطق فمعارض بقول الغزالي في مقدمة المنطق في أول المستصفى: "هذه مقدمة العلوم كلها ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بمعلومه أصلا". وقوله في المنقذ من الضلال. "وأما المنطقيات فلا يتعلق شيء منها في الدين نفيا ولا إثباتا, بل وهو نظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط مقدمة البرهان وكيفية تركيبها وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبها, وإن العلم, إما تصور وسبيل معرفته الحد, وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان, وليس في هذا ما ينبغي أن ينكر فإنه من قبيل ما يتمسك به المتكلمون, وأهل النظر في الأدلة, وإنما يفارقونهم في العبارات والاصطلاحات, وبزيادة الاستقصاء في التفريعات والتشعيبات, ومثال كلامهم فيه: إذا ثبت أن كل إنسان حيوان لزم منه أن بعض الحيوان إنسان, وأن كل من ثبت أنه إنسان ثبت أنه حيوان ويعبرون عن هذا بأن الموجبة الكلية تستلزم موجبة جزئية, وهذا حق لا شك فيه فكيف ينبغي أن يجحد وينكر؟ على أنه لا تعلق له بمهمات الدين ثم متى أنكر مثل هذا لزم منه عند أهل المنطق سوء الاعتقاد في عقل المنكر بل في دينه الذي يزعم أن فيه إبطال مثل هذا" ا هـ. فتأمله تأملا خاليا عن التعصب تجده - رحمه الله - قد أوضح المحجة وأقام الحجة على أنه ليس فيه شيء مما ينكر ولا مما يجر إلى ما ينكر, وعلى أنه ينفع في العلوم الشرعية كأصول الدين والفقه, وقد أطلق الفقهاء أن ما ينفع في العلوم الشرعية محترم يحرم الاستنجاء به, ويجب تعلمه وتعليمه على الكفاية كالطب والنحو والحساب والعروض ثم قال بعضهم كالإسنوي بعد ذلك بسطرين: "إن المنطق غير محترم فعلمنا أن مراده المنطق الذي لا ينفع في العلوم الشرعية أو الذي يعود منه ضرر على الدين, وهذا نوع من منطق الفلاسفة الأول يبحثون فيه عن نحو ما ذكره الغزالي ثم يدرجون فيه البحث عن حال الموجودات وكيفية تراكيبها ومفاهيمها وأعراضها وغير ذلك مما يخالفون فيه علماء الإسلام حتى انتصبوا لهم, وردوا جميع مقالاتهم الفظيعة الشنيعة, فمثل هذا الفن من المنطق هو الذي يحرم الاشتغال به. وعليه يحمل كلام ابن الصلاح, ويدل لذلك قوله فيما مر عنه: "كفاية شرهم", وقوله: "وإن زعم أحدهم أنه غير معتقد لعقائدهم فإن يكذبه" فعلمنا أن كلامه في منطق له شر وله أهل يعتقدون خلاف عقائد المسلمين, وهو النوع الذي ذكرته لا غير, وأما المنطق المتعارف الآن بين أيدي أكابر علماء أهل السنة فليس فيه شيء مما ينكر ولا شيء من عقائد المتفلسفين, بل هو علم نظري يحتاج لمزيد رياضة وتأمل يستعان به على التحرز عن الخطإ في الفكر ما أمكن فمعاذ الله أن ينكر ذلك ابن الصلاح ولا أدون منه وإنما وقع التشنيع عليه من جماعة من المتأخرين؛ لأنهم جهلوه فعادوه كما قيل: "من جهل شيئا عاداه" وكفى به نافعا في الدين أنه لا يمكن أن ترد شبهة من شبه الفلاسفة وغيرهم من الفرق إلا بمراعاته ومراعاة قواعده وكفى.

 

ج / 1 ص -78-          الجاهل به أنه لا يقدر على التفوه مع الفلسفي وغيره العارف به ببنت شفة بل يصير نحو الفلسفي يلحن بحجته, وذلك الجاهل به وإن كان من العلماء الأكابر ساكتا لا يحير جوابا ولقد أحسن القرافي من أئمة المالكية وأجاد حيث جعله شرطا من شرائط الاجتهاد وأن المجتهد متى جهله سلب عنه اسم الاجتهاد فقال في بحث شروط الاجتهاد: "يشترط معرفة شرائط الحد والبرهان على الإطلاق, فمن عرفهما استضاء بهما؛ لأن الحدود هي التي تضبط الحقائق التصورية فمن علم ضابط شيء استضاء به, فأي محل وجده ينطبق عليه علم أنه تلك الحقيقة وما لا فلا, وهو معنى قول بعض الفضلاء إذا اختلفتم في الحقائق فحكموا الحدود, والمجتهد يحتاج في كل حكم لذلك الذي يجتهد فيه إن كان حقيقة بسيطة - فلا يضبطها إلا الحد, وإن كان تصديقا ببعض الأمور الشرعية - فكل تصديق مفتقر لتصورين فيحتاج في معرفتهما لضابطهما, فهو محتاج للحد كيف اتجه في اجتهاده, وشرائطه معلومة في علم المنطق, وهو وجوب الاطراد والانعكاس, وأن لا يحد بالأخفى ولا بالمساوي في الخفاء, ولا بما لا يعرف المحدود إلا بعد معرفته وأن لا يأتي باللفظ المجمل, ولا بالمجاز البعيد وأن يقدم الأعم على الأخص, وأما شرائط البرهان فيحتاج إليها؛ لأن المجتهد لا بد له من دليل يدله على الحكم قطعي أو ظني, وكل دليل فله شروط محررة في علم المنطق من أخطأ شرطا منها فسد عليه الدليل, وهو يعتقده صحيحا, وتلك الشروط تختلف بحسب موارد الأدلة وضروب الأشكال القياسية وبسط ذلك علم المنطق, فيكون المنطق شرطا في منصب الاجتهاد فلا يمكن حينئذ أن يقال: الاشتغال به منهي عنه أو أن العلماء المتقدمين كالشافعي ومالك لم يكونوا عالمين به فإن ذلك يقدح في حصول منصب الاجتهاد لهم, نعم هذه العبارات الخاصة والاصطلاحات المعينة في زماننا لا يشترط معرفتها, بل معرفة معانيها فقط ا هـ. فتأمل هذا الكلام الجليل من هذا الإمام الجليل - تجده قد أشفى العي وأزال الغي, وناهيك بالسبكي جلالة حيث قال: "ينبغي أن يقدم على الاشتغال فيه الاشتغال بالكتاب والسنة والفقه حتى يتروى منها ويرسخ في ذهنه الاعتقادات الصحيحة, ويعلم من نفسه صحة الذهن بحيث لا تروج عنده الشبهة على الدليل, فإذا وجد شيخا ناصحا دينا حسن العقيدة جاز له الاشتغال بالمنطق وينتفع به ويعينه على العلوم الإسلامية, وهو من أحسن العلوم, وأنفعها في كل بحث, ومن قال أنه كفر أو حرام فهو جاهل فإنه علم عقلي محض كالحساب, غير أن الحساب لا يجر إلى فساد وليس مقدمة لعلم آخر فيه مفسدة, والمنطق من اقتصر عليه ولم تصبه سابقة صحيحة خشي عليه التزندق أو التغلغل باعتقاد فلسفي من حيث يشعر أو لا يشعر, قال: وفصل القول فيه أنه كالسيف يجاهد به شخص في سبيل الله ويقطع به آخر الطريق ا. هـ. بتأمله تجده نصا فيما قدمته من أن المنطق قسمان: قسم: منه لا يخشى على المشتغل به شيء مما ذكره, والقسم الآخر: وهو المدرج فيه كثير من العقائد الفلسفية لا يجوز الخوض فيه إلا لمن أتقن ما ذكره ووجد شيخا بالصفة التي ذكرها, فهذا.

 

ج / 1 ص -79-          يجوز له الاشتغال حتى بهذا القسم لأنه يؤمن عليه إذا وجدت فيه هذه الشروط الميل إلى ما فيه من الشبه الفاسدة, ولقد اشتغل بهذا القسم كثير من فحول الإسلام حتى أحكموه وتمكنوا به من تمام الرد على الفلاسفة وتزييف مقالاتهم الباطلة, وتأمل تجهيله لمن قال: إنه حرام يعرض بذلك لابن الصلاح, لكن إذا حمل كلام ابن الصلاح على ما قدمته اتجه على أنه بان لك من كلام السبكي أنه يجوز الاشتغال بهذا النوع أيضا بشرطه السابق.
"وسئل" رضي الله عنه هل يحرم إخراج النجس للقبلة كالقيء والفصد؟ أو هو خاص بالبول والغائط؟ "فأجاب" بقوله: هو خاص بالبول والغائط, فشرط عدم الساتر الشرعي في غير المكان المعد لقضاء الحاجة, وأما الفصد والقيء ونحوهما للقبلة فلا حرمة فيها, لأن استقذارها ليس كاستقذار البول والغائط ومن ثم أباحوا الفصد في المسجد في إناء - إذا أمن تلويثه - ولم يبيحوا البول فيه في إناء - وإن أمن تلويثه - وعللوه بأن البول أقذر ولذا عفي عن قليل الدم وكثيره في صور ولم يعف عن شيء من البول, والغائط أولى منه بذلك والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه استدل الحنفية على عدم وجوب الاستنجاء بحديث أنه صلى الله عليه وسلم سئل عنه فقال:
"من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج" فهل الحديث كذلك أم لا؟ "فأجاب" بقوله: ليس هذا لفظ الحديث وإنما لفظه: "من استجمر فليوتر, من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج" وهو حديث حسن كما في شرح المهذب ولا دليل لهم فيه؛ لأن الكلام في الإيتار لا في أصل الاستنجاء كما هو واضح.
"وسئل" - نفع الله به - عن لمس المرأة ونظرها من وراء حائل كثوب هل يجوز أم لا؟ "فأجاب" - فسح الله في مدته - بقوله: لمس الأجنبية من وراء حائل ظاهر كلامهم جوازه, وليس على إطلاقه بل يتعين حمله على مس لا يحرك شهوة ولا يؤدي لفتنة قطعا, أما ما هو كذلك كمس الفرج أو نحوه من وراء حائل, فلا ريب في تحريمه ثم رأيت في شرح المهذب ما يؤيد ذلك, وهو قوله: "المدار في باب النقض على إيقاع الاسم ولذا نقض مجرد لمس الأجنبية بلا قصد دون معانقتها من وراء حائل رقيق, مع أنه لا نسبة بينهما في القبح" ا هـ. فقوله: "لا نسبة بينهما في القبح" ظاهر فيما ذكرته من تحريم المس المذكور, وهو واضح والله أعلم.
"سئل" رضي الله عنه بما لفظه قال الزركشي في قواعده: قولهم: "يستحب التسمية عند قراءة القرآن يشمل ما لو ابتدأ بأثناء سورة وبه صرح في البيان" ا هـ. فهل كذلك ما إذا ابتدأ بأول "براءة" لخبر
"كل أمر ذي بال" أم يفرق بينهما؟ "فأجاب" بقوله: يسن كما في تبيان النووي - رحمه الله - وغيره: "البسملة وإن ابتدأ من أثناء السورة نعم اختلفوا في أثناء "براءة" فقال السخاوي من أئمة القراءة: لا خلاف في أنه يسن البداءة أثناءها بالتسمية وفرق بين أثنائها.

 

ج / 1 ص -80-          وأولها لكن بما لا يجدي ورد عليه الجعبري منهم وهو الأوجه إذ المعنى المقتضي لترك البسملة أولها, من كونها نزلت بالسيف, وفيها من التسجيل على المنافقين بفضائحهم القبيحة ما ليس في غيرها موجود في أثنائها, فمن ثم لم تشرع التسمية في أثنائها كما في أولها لما تقرر.
"وسئل" - نفع الله به - عن استحباب التكبير من سورة الضحى إلى الآخر هل هو مختص بمن يختم القرآن من أوله إلى آخره أو عام فيمن ابتدأ القراءة أو مما قبلها وفيمن ابتدأها مما بعدها؟ وكيف الحكم في ذلك؟ "فأجاب" بقوله: الذي حكاه الزركشي عن الحليمي والبيهقي وابن الجزري في النشر عن طوائف من السلف وجمع من متأخري الشافعية, وأطال فيه "أن من سنن القراءة التكبير في آخر سورة الضحى إلى أن يختم, وهي قراءة أهل مكة أخذها ابن كثير عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي رواه ابن خزيمة, وروى الحاكم في المستدرك نحوه وصححه قال الحافظ ابن كثير وقول الشافعي رضي الله عنه: "إن تركت التكبير فقد تركت سنة من سنن نبيك يقتضي تصحيحه لهذا الحديث" ا هـ. إذا تقرر ذلك علم منه أن التكبير مقيد بقراءة تلك السور سواء أقرأ قبلها شيئا أم لا, وأنه لو ابتدأ من بعضها - كبر عقب ما يقرؤه منها, واقتضى إطلاقهم أيضا أنه لا فرق بين القراءة بقراءة ابن كثير وغيرها, فقول سليم الرازي: يكبر القارئ بها لعله؛ لكونه الراوي لذلك كما مر.
"وسئل" - نفع الله به - هل يحرم كتابة القرآن بغير العربية؟ "فأجاب" بقوله: أفتى بعضهم بحرمة ذلك وأطال في الاستدلال له لكن بما في دلالته لما أفتى به نظر ظاهر.

"باب الوضوء".
"
وسئل" - فسح الله تعالى في مدته - عن وجوب الوضوء لكل حدث هل هو من قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]..إلخ أو لا؟ لأن القاعدة الأصولية أن الأمر لا يقتضي التكرار "فأجاب" بقوله: نعم هو من الآية لأن محل القاعدة المذكورة ما إذا تجرد الأمر عن الترتب على شرط أو صفة تثبت عليتهما للحكم بدليل خارجي, كقول السيد لعبده: اسقني ماء, أما إذا ترتب على ذلك فإنه لا نزاع في التكرار بواسطة الشرط أو الصفة؛ لوجوب وجود المعلول حيثما وجدت علته ومن هذا القبيل قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فإن الزنا علة شرعية للحد, والآية المذكورة, فإن الحدث عند القيام إلى الصلاة سبب شرعي, لوجوب الوضوء.
"وسئل" - نفع الله به - بما صورته الفم والأنف لا يخلو إما أن يكونا من الظاهر أو الباطن, فإن كانا من الظاهر فلم لم يجب غسلهما في الوضوء والغسل ولم يفطر إذا ابتلع ريقه منهما؟ وإن كانا من الباطن فلم يجب غسلهما إذا تنجسا, ويفطر الصائم إذا تقايأ ووصل القيء إليهما,.

 

ج / 1 ص -81-          ولم يجاوزهما ثم رجع منه شيء للجوف عمدا؟ "فأجاب" بقوله: هما من الباطن إلا في مسائل النجاسة بالنسبة لوجوب الغسل والإفطار ونحوهما, والفرق أن النجاسة أغلظ وأفحش فمن ثم وجب غسلها حيث سهل وإن كانت في محل محكوم عليه أنه من الباطن فجعل بالنسبة لها ظاهرا لسهولة ذلك مع فحشها وغلظها.
"وسئل" رضي الله عنه بما صورته الحدث الذي ينوي المتوضئ رفعه هو المنع من نحو الصلاة ومس المصحف, وهذا يرفعه التيمم ووضوء الضرورة فكيف تقولون أن هذين لا يرفعان الحدث؟ "فأجاب" المراد بالمنع الذي ينويه المتوضئ السليم منع مطلق من سائر الفروض والنوافل؛ لأن هذا هو المترتب على الحدث, وهذا لا يرفعه نحو التيمم وإنما يرفع منعا خاصا هو بعض ماصدقات الحدث فلم يحسن أن يقال أنهما يرفعان الحدث بل شيئا ماصدقاته فقط.
"وسئل" رضي الله عنه عما لو وقف متوضئ تحت ميزاب وتلقى منه الماء بكفيه مجتمعين بعد غسل وجهه من غير نية اغتراف فهل يحكم على ما يكفيه بالاستعمال أو لا؟ "فأجاب" بقوله: نعم يحكم عليه بالاستعمال لرفع حدث اليدين, وكل منهما عضو مستقل هنا وحينئذ فلا, يجوز له أن يغسل ساعديه ولا أحدهما؛ لأنه إذا غسلهما به فكأنه غسل كلا بماء كفها وماء كف الأخرى, وهو مستعمل بالنسبة لغير ساعدها وإن غسل به ساعدا واحدا فقط فقد غسلها بمائها وماء كف الأخرى, ونظيره ما لو انغمس جنبان في ماء قليل, ونويا قبل تمام الانغماس, أما إذا نوى الاغتراف فإنه لا يرفع حدث الكفين, فله أن يغسل به ساعديه أو أحدهما وكالميزاب فيما ذكر ما لو صب عليه من إبريق ونحوه, فإن قلت: هل يتصور الاحتياج إلى نية الاغتراف في الوضوء من نحو إبريق؟ قلت: إن كان يأخذ الماء بيديه - احتاج إليها كما تقرر, وإن كان يأخذه بيد واحدة - لم يحتج إليها إلا بالنسبة لحصول سنة تثليث الوجه بناء على ما قاله الزركشي من وجوب نية الاغتراف بعد الغسلة الأولى وإلا ارتفع حدث اليد؛ لأنه إذا لم ينوها بعد غسلته الأولى - ارتفع حدث اليد فتفوت سنة التثليث في الوجه؛ لتعذر حصوله بعد ارتفاع حدث الكف, وكذا يقال بذلك لو كان يغترف من بحر وعليه فليغترف بذلك ويقال لنا متوضئ من بحر يحتاج لنية الاغتراف.
"وسئل" فسح الله في مدته عما طال من شعر منابت الرأس المتصل بالوجه الذي يجب غسله لأجل استيعاب الوجه هل يجب غسله على طوله إذ كل شعر وجب غسل منبته وجب غسله أو لا؟ "فأجاب" بقوله: الواجب القدر الذي يتحقق استيعاب الوجه بغسله أخذا من قولهم: يجب غسل شيء مما حاذاه, فإذا وصل الغسل إلى أدنى شيء من منابت جميع شعر الرأس المتصل بالوجه, فقد تحقق استيعاب الوجه بالغسل وإن لم يستوعب ما طال منه هذا هو الظاهر من كلامهم.

 

ج / 1 ص -82-          "وسئل" رضي الله عنه عن محدث انغمس بنية رفع حدثه هل يرتفع وإن لم يمكث أو كان منكوسا؟ وما معنى قول جامع المختصرات: "ثالثها ودونه ورجح, وهل يشترط كون الماء كثيرا؟ "فأجابه" بقوله: نعم يرتفع حدثه عن جميع أعضاء الوضوء, وإن لم يمكث أو كان منكوسا أو الماء قليلا كما بينته في شرح مختصر الروض, وأما معنى قول النشائي: "ثالثها ودونه ورجح" أي دون إمكان حصول ترتيب فعل المتوضئ حكما إذ الترتيب قسمان: القسم الأول نوعان أحدهما: ترتيب حسي, والثاني: ترتيب حكمي بأن يمكث بعد انغماسه ونيته زمنا يمكنه فيه غسل أعضاء الوضوء حسا لو أراده والقسم الثاني: ترتيب انغسال الأعضاء من غير نظر إلى فعله, وهذا هو الترتيب التقديري وتسميته ترتيبا مجاز. وقوله: "السادس الترتيب" مراد به النوع الأول من القسم الأول, وقوله: "أو إمكانه" مراده به النوع الثاني وهو ما رجحه الرافعي قوله: "ودونه" مراده به القسم الثاني, وهو ما رجحه النووي وإمكان حصول الترتيب غير إمكان تقديره.
وسئل" - فسح الله في مدته - بما لفظه ما محصل الخلاف في موجب الوضوء والغسل من الجنابة والحيض والنفاس؟ وما فائدة الخلاف في ذلك وقد ذكر كثير لذلك فوائد فهل هي صحيحة كلها؟ واختلف تعبيرهم في حكاية الأوجه في موجب ذلك فما التحقيق في ذلك كله؟ فإنه مهم للمحصلين. "فأجاب" - شكر الله سعيه - بقوله: الكلام على ذلك يستدعي مزيد بسط وطول, ومن ثم صنف فيه بعضهم. وحاصل التحقيق في ذلك أن في موجب الوضوء أوجها: الأول: وعليه العراقيون وغيرهم أن موجبه الحدث وجوبا موسعا ما لم يدخل الوقت ويبقى ما يسعه, ويسع الصلاة فقط, ودليله أنه لولاه لم يجب, والدوران دليل العلية, ومعنى كونه موجبا مع عدم الإثم بتأخير الوضوء عنه إجماعا وعدم جريان الخلاف في العصيان بالموت قبل الوقت من غير وضوء أن سبب الوجوب ينعقد به كما يقال: "تجب الزكاة بحولان الحول" بمعنى انعقاد الوجوب مع توقف الاستقرار فيها على التمكن أو أنه سبب لوجوب الوضوء أو لوجوب ترك نحو صلاة النفل ومس المصحف, فهو سبب وجوب واجب مخير قبل الوقت ومعين بعده. فإن قيل: السببية إنما تثبت بالجعل وهو مفقود هنا قلنا: قوله: صلى الله عليه وسلم:
"إنما الماء من الماء" مقتض لكون الحدث سببا إذ لا فارق بين الغسل والوضوء وبنى الرافعي على هذا الوجه صحة نية الفرضية قبل الوقت, وإنما لم يكن الخبث موجبا للطهر كالحدث على هذا الوجه, لأن طهارته من باب التروك, وطهارة الحدث من باب الأفعال والكلام في الموجب لهذه لا تلك. الوجه الثاني: أن موجبه دخول الوقت ويعبر عنه بإرادة القيام للصلاة أي أو نحوها مما يتوقف عليه, وبعضهم عبر بالأول وهو أظهر؛ لأنه المحقق للوجوب وبعضهم بالثاني, وهو أوفق لدليل هذا الوجه. وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] الآية, ومعنى كون الإرادة أو دخول الوقت موجبا أنه سبب للموجب, وهو القيام إلى الصلاة إذ وجوبها موجب للوضوء،

 

ج / 1 ص -83-          فالمحقق لهذا الوجوب هو الوقت أو الإرادة فأحدهما سبب للسبب هذا على التعبير عن هذا الوجه بما مر, وأما من عبر عنه بنفس القيام إلى الصلاة فظاهر؛ لأن القيام إليها موجب بذاته لا سبب للموجب, وعلى هذا الوجه تستشكل نية الفرضية قبل الوقت, وأجاب الرافعي وتبعه في المجموع "بأنه ليس المراد بها ما يلزم الإتيان به وإلا لامتنع وضوء الصبي بهذه النية, بل نية الطهر المشروط للصلاة. وشرط الشيء يسمى فرضا, ولا ينافي ذلك أن اعتقاد كون النفل فرضا لا يبطله لأن محله في الجاهل لا المعتقد للنفلية إذا نوى بالنفل ما يلزمه الإتيان به؛ لأنه متلاعب ولا ينافيه أيضا وجوب نية الفرضية في صلاة الصبي لأن المراد بها الفرض صورة أو ما هو فرض على المكلف كما يلزمه القيام في الصلاة وإن كانت منه نفلا, وليس المراد حقيقة الفرضية بل لو نواها بطلت أخذا من قولهم لو نوى بالأداء القضاء وهو عكسه مريدا لمعناه الشرعي, وهو عالم بالحال بطلت صلاته الوجه الثالث: أن الموجب الحدث مع القيام إلى الصلاة أو أحدهما بشرط الآخر, ولا خلاف في المعنى, وإن عبر بكل معبرون إذ لا فرق بين أن يكون كل جزء علة أو أحدهما علة والآخر شرطا فيها. وجعله في المهمات هذين وجهين متغايرين ليس فيه كبير فائدة, ويعبر عن القيام إلى الصلاة هنا بدخول الوقت أيضا, وهذا الوجه هو الأصح عند الشيخين وغيرهما وفي موجب الغسل من الجنابة هذه الأوجه الثلاثة, والصحيح فيه هو الثالث أيضا, وإن صرح المتولي بأنه لا فائدة فيه, وإنما القصد به تبيين علة الحكم فمن ذلك: نية الفرضية قبل الوقت, فعلى الأول يصح مطلقا, وعلى الثاني لا يصح إلا بتأويل كما مر ومنها إذا أحدث ثم دخل الوقت ثم مات. وقلنا: يعصي, فعلى الأول عصيانه بترك الوضوء من حين الحدث, وعلى الثاني من أول الوقت كذا قيل وقد مر الإجماع على عدم عصيانه قبل الوقت ومنها وصفه بالقضاء والأداء, فيوصف بهما على الثاني فقط؛ لأن وقته حينئذ وقت الصلاة وهو محدود الطرفين, ورد بأنه على الأول أيضا أي, والثالث يكون وقته محدود الطرفين, وفائدة اتصافه بذلك فيما يظهر وجوب التعرض له في النية أولا قياسا على الصلاة وهل يلحق بالصلاة فيما لو نوى بالأداء القضاء الشرعي أو عكسه عالما عامدا فيبطل أو لا؟ فيه نظر, والأقرب الثاني؛ لأن اتصافه بذلك مختلف فيه ولأنه بطريق التبع للصلاة لا القصد ومنها: أن ماء الغسل بالجماع إن قلنا بالأول وجب على الزوج إذ هو سببه أو بالثاني فلا, ذكره في الخادم. وكان وجه الثاني أن الموجب ليس من سببه لكنه ممنوع إذ القائل بالثاني لا يقطع النظر عن الأول إذ هو الموجب حقيقة, وإن توقف إيجابه على دخول الوقت بناء على القول الثاني ومنها إذا صب الماء بعد دخول الوقت, ثم تيمم فعلى كون الموجب دخول الوقت يعيد, وعلى كونه القيام إلى الصلاة فلا, كذا في الخادم. قيل وهو وهم منشؤه المغايرة بين دخول الوقت والقيام إلى الصلاة, ويرد بأن مراده بالقيام إلى الصلاة الوجه الثالث إذ المعتمد أنه إذا صبه بعد الوقت لا يعيد, وإن أثم, واختلاف مأخذ عدم القضاء في ذلك لا يضر, ومراده.

 

ج / 1 ص -84-          بدخول الوقت الوجه الثاني, فلا وهم لكن قضية هذا أنه على الأول يجب القضاء قال في الخادم: "ولم نره ومنها إذا توضأ قبل الوقت, فأحدث في أثنائه فعلى الأول يثاب على ما مضى ثواب الواجب وعلى خلافه ثواب نفل" ومنها: قال في المهمات: قد يقال من فوائده ما لو شرع فيه ثم أراد قطعه باللمس مثلا, وقلنا بالصحيح: أنه لا يجوز قطع الواجب الموسع بعد الدخول فيه أما قطعه بما له فيه غرض صحيح فلا إشكال في جوازها. ا هـ. وتعقبه أبو زرعة بأنه قد يكون له في اللمس غرض صحيح فيساوي غيره, وبجواز الحدث بعده ولو بلا غرض, وأنه ليس مقصودا لذاته حتى يجري مجرى غيره من الواجب الموسع, وابن العماد بأنه صحيح إن ضاق الوقت وإلا فخطأ إذ المحافظة على الوضوء سنة والخروج منه جائز قطعا كالخروج من النافلة بعد الشروع فيها بحدث أو غيره ا هـ. وحاصل كلامهما أنه يجوز قطعه بلا غرض حتى على الأول وهو متجه ومنها أدرك من الوقت قدر الفرض, ثم طرأ نحو جنون, فعلى الأول لا يعتبر مضي قدر الطهارة لسبق موجبها وعلى الآخرين يعتبر, ذكره في الخادم وقضيته: أن الصحيح اعتبار قدرها. وإن كانت طهارة رفاهية. ومنها: أنه سنة قبل الوقت فعلى الثاني والثالث يستثنى من قاعدة: أن الواجب أفضل من النفل, ومنها: التعليق كإن وجب عليك وضوء أو غسل فأنت طالق, فعلى الأول يقع بالحدث وهذه أصح الفوائد لما علمته, ولأنها تتفرع على الخلاف الآتي في الحيض أيضا هذا ما يتعلق بموجب الوضوء والغسل وفائدة الخلاف فيه, وأما الغسل من الحيض والنفاس فموجبه كما في أصل الروضة قبل خروج الدم كخروج البول في الوضوء وقيل: انقطاعه لحديث: "وإذا أدبرت, أي الحيضة فاغتسلي" وقيل: الخروج عند الانقطاع كما يوجب الوطء العدة عند الطلاق, والنكاح الإرث عند الموت, ولعدم صحة الغسل قبله. وظاهر كلام الروضة والمجموع أن هذا الوجه لا يأتي في الحدث والجنابة لكن عبارة الرافعي تقتضي جريانه فيهما, واعتمده بعضهم أخذا من كلام المتولي لعدم صحة الوضوء قبله أيضا, واعتذر عنهم بأنهم إنما لم يجروه, ثم لأن زمن الحدث فيهما يقصر فلا يسع زمن الطهارة معهما غالبا بخلاف الحيض فإن زمنه يطول, واستشكل في المهمات المغايرة بين الأول والثالث بأن الأول يسلم عدم صحة الغسل إلا عند الانقطاع. وأجاب في الخادم "بأن الثالث يشترط مع الانقطاع القيام إلى الصلاة أخذا من كلام الرافعي ورد بأنه في المجموع غاير بين القائل بالخروج والقائل بالانقطاع والقائل بالقيام إلى الصلاة والقائل بالثلاثة فتعين أن الأول يشترط الانقطاع لصحة ما وجب عنده بالخروج, والثاني الذي قدمناه عن أصل الروضة يجعله جزء علة أو شرطا لها, والذي قدمناه عن المجموع يجعله هو العلة فقط والمعتمد هنا أن الموجب هو الخروج بشرط الانقطاع, وإرادة فعل نحو الصلاة أو الخروج معهما إذ لا فرق بين العبارتين على ما مر, وتصحيح المجموع للقول بأن الموجب الانقطاع فقط, وأصل الروضة للقول بأنه الخروج من الانقطاع أو بشرطه لا ينافي ذلك؛ لأنه إنما سكت عن الخروج والقيام إلى

 

ج / 1 ص -85-          الصلاة للعلم مما قدمه في الوضوء على أنه قيل: إن تصحيح المجموع المذكور مبني على ضعيف وإن القول المعبر عنه في المجموع بالانقطاع هو المعبر عنه في أصل الروضة بالخروج مع الانقطاع وبه يعلم اندفاعه ما في الجواهر من جعله وجها خامسا في المسألة. قال في المجموع عن إمام الحرمين وغيره: "وليس في هذا الخلاف فائدة فقهية" ثم ذكر له فائدة على قول ضعيف, وفي الخادم عن صاحب الوافي "تظهر فائدة الخلاف فيمن ولدت ولم تر دما فعلى الانقطاع لا غسل لأنها عادمته" ورد بأن عدم الغسل لعدم تسمية الولد منيا لا لما ذكر, وفي جواز اللبث في المسجد قبل الانقطاع فيحرم إن أوجبناه بالخروج فقط وإلا فهي استحاضة ورد بأن التحريم مرتبط بحصول حدث الحيض, ولا أثر لكون الغسل وجب أو لم يجب, وأنه لو بقي عليها من مدة الاعتكاف زمن فانقضى قبل الانقطاع فيحسب على غير الأول. ورد بأن الحيض مناف للاعتكاف, وإن لم يجب الغسل ومن ثم قيل ما ذكره في هذين عجيب بل غلط, وأنه يجوز اغتسالها من الجنابة على غير الأول لا عليه؛ لأن من اجتمع عليه حدثان لا يجوز أن يرفع أحدهما مع قيام الآخر وليس فيه إلا تعاطي عبادة فاسدة وهو مردود بأن طهرها حرام حتى على غير الأول, ولا يضر اختلاف جهة الحرمة فإن قلنا بالضعيف, وهو حل القراءة للحائض التي لا جنابة عليها أمكن أن يقال بحل غسلها؛ لهذا العذر ويحتمل خلافه. وفي البيان يصح غسلها للإحرام على غير الأول, ورد بأن البغوي من القائلين بالأول, وقد قال باستحبابه لها, وأن لها المطالبة بثمن ماء غسل النفاس أو الحيض على وجه في الحال إن قلنا بالأول والمطالبة به لو طلقها في النفاس أو الحيض وقبل الانقطاع على الأول لوجود موجبه حال الزوجية, ولو نكح نفساء ولدت منه بشبهة ثم طهرت فلها المطالبة على غير الأول, ويرد بأن سبب النفاس لم يكن من النكاح, فلا وجوب مطلقا ولو هايأت المبعضة سيدها أو هايأها سيداها, فنفست في نوبة وطهرت في أخرى. فعلى الأول يجب ثمن ماء نفاسها على السيد الأول, وعلى الثاني يجب على الثاني والذي يظهر على المعتمد أنه يجب عليهما؛ لأن الموجب مركب وقد وجد عند كل جزء منه هذا إن كان الولد من غيرهما, ولا نفقة عليه فإن كان من زوج عليه نفقتها أو من أحد السيدين, فواضح أن الماء عليه مطلقا.
"وسئل" - فسح الله في مدته - بما لفظه إذا قلتم: يستحب للمتوضئ أن ينوي رفع الحدث مثلا عند غسل الكفين ويستحبها إلى فراغ الوضوء, وقد قالوا إذا انغسل شيء من الوجه مع المضمضة والاستنشاق مقارنا لنية معتبرة كفى في حصول النية, ولم تحصل المضمضة والاستنشاق لفوات محلهما, فقد يقال: كونه مأمورا بالنية عند المضمضة والاستنشاق يؤدي إلى كونه مأمورا منهيا في حالة واحدة, فإنه مأمور بالنية عندهما ليحصل له فضلهما, وذلك ممنوع؛ للدور أو إلى تحمل مشقة كأن يتمضمض ويستنشق بنحو أنبوبة أو يقال: لا يلزم شيء من ذلك, بل هو مأمور بالنية عندهما في الجملة فإذا انغسل معهما شيء من الوجه حكم.

 

ج / 1 ص -86-          بعدم حصولهما لفوات محلهما. "فأجاب" بأنه لا يلزم من أمره بالنية عند التسمية وباستصحابها ذكرا إلى آخر الوضوء كونه مأمورا منهيا في حالة واحدة إلى آخر ما ذكر في السؤال لأنه لا يلزم من استصحاب النية عند المضمضة مثلا انغسال شيء من حمرة الشفة معها لسهولة إيصال الماء إلى الفم من غير انغسال شيء من حمرة الشفة ولإمكان إيصاله إلى داخل الأنف من غير انغسال شيء من حد الظاهر من الوجه وإنما غاية ما فيه أن هذا الثاني فيه عسر لكنه يحتمل لمزيد فضله ولا يقال: أن فيه حرجا؛ لأنه ليس بواجب وإنما هو أمر مندوب فمن أراد فضله فليفعله مع عسره ومن لا فلا حرج عليه على أن قضية كلام بعض المتأخرين أنه إذا قصد المضمضة دون غسل الوجه أجزأته المضمضة, وإن نوى عندها وانغسل معها شيء من حمرة الشفة لكن الأوجه خلافه, فقد صرح بعض الأصحاب بخلافه, وقد يجاب أيضا بحمل قولهم: ويستصحبها إلى فراغ الوضوء على ما عدا المضمضة والاستنشاق فلا يستصحبها عندهما إذا كان ينغسل معهما شيء من الوجه؛ لأن مصلحة تحصيلهما أتم من مصلحة الاستصحاب لأنه قيل بوجوبهما في الوضوء والاستصحاب قيل: بعدم ندبه, وفرق واضح بين ما اختلف في مطلوبيته وما اتفق على مطلوبيته واختلف في وجوبه, ولا ينافي ذلك كونهم أطلقوا ندب الاستصحاب لأنهم وكلوه على ما قرروه قبل في المضمضة والاستنشاق مما يصرح بما قلناه, فالحاصل أن فعلهما ولم ينغسل معهما شيء من الوجه استصحب النية عندهما كغيرهما ولا محذور في ذلك, وإن كان ينغسل معهما شيء من الوجه ترك الاستصحاب عندهما مراعاة لمصلحة حصولهما الآكد من حصول الاستصحاب كما تقرر.
"سئل" - فسح في مدته - عمن هجم بغير اجتهاد وتوضأ بأحد المشتبهين اعتمادا على أصل الطهارة وصلى لم تصح صلاته قطعا ولا وضوءه على الأصح قاله الإسنوي في شرح المنهاج فما وجه القطع مع جريان الخلاف في الوضوء؟ "فأجاب" بقوله: قد يقال وجهه أن الصلاة هي أعلى ما طلب له الوضوء؛ فلذلك احتيط في أمرها ولم يقل بإباحتها بهذا الوضوء, وإن قلنا بصحته لما اشتمل عليه من خلل في شرطه الأعظم وهو احتمال النجاسة والطهارة على السواء من غير مرجح وحينئذ فلا يلزم من صحته وإباحته بالنسبة لمس المصحف مثلا إباحته للصلاة؛ لما عرفت من أنها لعظم خطرها لا يكتفي في إباحتها إلا بوضوء بماء متيقن الطهارة, أو مظنونها ولم يوجد.
"وسئل" - فسح الله تعالى في مدته عن الوضوء المجدد هل ينوى به رفع الحدث أو التجديد, وفي شرح الروض كلام فيه حققوه نفع الله بكم آمين. "فأجاب" بقوله: قد ذكرت المسألة في شرح العباب موضحة وعبارته "ويستثنى من كلامه الوضوء المجدد فلا يكفي فيه نية الرفع أو الاستباحة على الأوجه خلافا لابن العماد, ولا يقاس بنية الفرضية في الصلاة.

 

ج / 1 ص -87-          المعادة على ما يأتي فيها؛ لأن ذلك مشكل خارج عن القواعد فلا يقاس عليه كذا قاله الإسنوي ومن تبعه. وأولى منه أن يقال: الأصلية ليس لها إلا هذه النية فاعتبرت في العادة لتحكيمها, وهذا الوضوء لم ينحصر في هاتين الكيفيتين فلا حاجة للتعرض لهما لإمكان المحاكاة بغيرهما والذي يتجه فيما لو نذر التجديد أنه لا بد من نية فرض الوضوء ونحوه, وأنه لا يكفي نية رفع الحدث أو الاستباحة هنا أيضا" انتهت عبارة الشرح المذكورة, وفيها تحقيق لما في شرح الروض, وبيان المعتمد في المسألة ورد لقول ابن العماد: "وتخريجه على الصلاة ليس ببعيد لأن قضية التجديد أن يعيد الشيء بصفته الأولى وإلا لم يكن تجديدا. ويرد أيضا بأنه ليس من صفته الأولى إلا مطلق نية تجزئ في الأول لا خصوص نية الأول بعينها إذا كان للنية فيه كيفيات يصح صدق بعضها دون بعض, ويؤيد ذلك أنا إذا قلنا بوجوب نية الفرضية في العادة لوجب على ناويها أن لا يقصد بها حقيقة الفرض وإلا كان متلاعبا بل أن يقصد بها صورة الفرض أو ما هو فرض على المكلف في الجملة فعلمنا أن صفة النية ليست من مقتضيات الإعادة فكما أنه هنا أتى بنية مغايرة لصفة نية الأولى من حيث إن المراد بالفرض في الأولى حقيقته وفي المعادة غير حقيقته, فكذا يقال بنظيره في الوضوء, فإذا نوى في الأول نية رفع الحدث أو نية استباحة الصلاة, ثم أراد التجديد قلنا: يلزمك نية بكيفية من الكيفيات الأخر غير هاتين ولا يصح نيتك واحدة منهما؛ لعدم صدقهما إذ لا رفع حينئذ ولا استباحة فإن قلت يمكن أن يأتي بهما قاصدا بهما المحاكاة والصورة قلت: إنما أتى بالفرض في المعادة قاصدا ذلك لأنه لا مندوحة في المحاكاة عن الإتيان به, وهنا أنه مندوحة في المحاكاة عن هذين فلم يحتج إليهما ولا إلى تأويلهما على أن شرط التخريج على حكم أن يكون متفقا عليه, أو الحكم فيه أظهر كما صرح به الرافعي, ونية الفرضية في المعادة ليست كذلك فلم يتم لابن العماد التخريج الذي ذكره والله أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه عمن وقف أرضا على من يستقي كل يوم قدرا معلوما من الماء للتطهير بمسجد كذا هل يجوز التجديد وإزالة النجاسة عن البدن والثوب وغسل الجمعة ونحوه من كل غسل مسنون أو طهارة مسنونة؟ "فأجاب" بقوله: نعم يجوز ذلك كما صرح به قولي في شرح الإرشاد: "إن الماء الموقوف يحرم الزيادة منه على الثلاث. وقولي في شرح العباب "وقيد الزركشي كراهة الزيادة على الثلاث بغير الماء الموقوف على من يتطهر أو يتوضأ منه كماء المدارس والربط التي يساق إليها الماء وإلا حرمت بلا خلاف لتحريم السرف ولأنها غير مأذون فيها" ا هـ. فعلم من كلام الزركشي أن الثانية والثالثة جائزة في الماء الموقوف على من يتطهر, وإذا جاز هاتان جازت كل طهارة مسنونة إذ لا فرق بين هاتين, والوضوء المجدد والأغسال المسنونة وهذا ظاهر. وكلام الأصحاب مصرح به حيث أدرجوا في الطهارة الطهارة المسنونة كالواجبة؛ لأن كلا منهما يسمى طهارة لغة وشرعا, وقول الواقف للتطهير بمسجد كذا يشمل كل طهارة واجبة ومندوبة فنزل كلامه عليهما. نعم

 

ج / 1 ص -88-          لو اطردت عادة في زمنه بشيء وعرف تلك العادة نزل وقفه عليها كما صرحوا به بقولهم: إن العادة المطردة في زمن الواقف إذا عرفها تنزل منزلة شرطه. ويؤخذ من قول الزركشي: "والربط التي يساق إليها الماء أنه لا فرق بين أن يكون الماء نابعا من المحل الموقوف أو غيره ولا بين أن يكون الوقف على المستقي من ماء مملوك يباح الاستقاء منه أو مباح أباحه الواقف أو غيره. وقوله: "للتطهير بمسجد كذا" صرح في المنع من نقله إلى غير مسجد كذا, وإن قرب منه ما لم ينسب إليه عرفا لما هو معلوم أن الواقف لا يقصد التطهر به داخل المسجد فحسب؛ لأنه يكثر فيشوش على أهل المسجد. وإنما المقصود بذلك أن يتطهر به فيه أو في محل منسوب إليه وهذا كله حيث لا عادة بشرطها السابق وإلا عمل بها لما مر, فإن اقتضت جواز النقل مطلقا أو لمن هو متصف بصفة مخصوصة جاز النقل بحسبها, ولا عبرة بعادة لم تطرد في زمن الواقف أو لم يعرفها, وحيث جاز نقله لشرط أو عادة, فالذي يظهر أنه يجب عليه أن يقتصر على قدر كفايته لتلك الطهارة, ولا يجوز له أن يدخره لصلاة أخرى أخذا مما قالوه في نبات الحرم لا يجوز أخذه لدواء أو علف أو نحوهما إلا بعد وجود نحو المرض أو الحيوان عنده لا قبل ذلك؛ لأن ما جاز لضرورة يتقدر بقدرها, فكذلك الأخذ من ذلك الماء إنما جاز لضرورة التطهر للصلاة, فلا يجوز أخذه قبل أن تحق ضرورته إليه, ولو جوزنا له أخذ أكثر من كفاية طهارته التي يريدها بنية أن يدخره إلى طهارة أخرى, لكنا قد جوزنا له أخذ هذا الزائد قبل أن تحقق ضرورته إليه. فإن قلت: النبات الحرمي يجوز للمريض مثلا أن يأخذ منه من غير أن يتقيد بقدر ما يستعمله مرة واحدة, وكذلك المضطر يجوز له التزود من الميتة, قلت يفرق بينهما بأن سبب جوازه الأخذ للمرض والاضطرار, وبعد وقوعه الأصل دوامه فلم يتقيد الأخذ بشيء بخلاف ما نحن فيه فإن كل طهارة لها سبب مستقل فلو جوزنا له الأخذ لطهارة صلاة أخرى لم يدخل وقتها لكنا جوزنا له تقديم الأخذ على سببه, وهو ممتنع كما تقرر فإن قلت في الخادم عن العبادي أنه يحرم نقل شيء من الماء المسبل إلى غير ذلك المحل كما لو أباح لواحد طعاما ليأكله لا يجوز له حمل الحبة منه, ولا صرفه لغير الأكل ثم قال: وفي هذا تضييق شديد وعمل الناس على خلافه من غير نكير. وقضيته جواز النقل في صورة السؤال, قلت: ليس قضيته ذلك؛ لأن الواقف في صورة السؤال قيد بقوله: بمسجد كذا, فوجب اتباع تقييده لأنه بمنزلة شرطه. وشرطه حيث لم يخالف الشرع يجب اتباعه بخلاف المسبل في مسألة العبادي فإنه أطلق فأمكن الزركشي أن يقول فيه ما ذكر. على أن الأوجه كما ذكرته في شرح العباب وغيره هو ما قاله العبادي؛ لأن قرينة حال المسبل تقتضي أنه قصد رفق أهل تلك المحلة بما سبله فيها, والقرائن لها أثر بين في ذلك فعمل بها قياسا على ما ذكره في مسألة الإباحة, وعليه فهل المراد بالمحلة في كلامه المحلة التي هو فيها كنقل الزكاة أو موضعه المنسوب إليه عادة بحيث يقصد المسبل أهله بذلك؟ محل

 

ج / 1 ص -89-          نظر, والثاني أقرب فإن قلت: القياس أن الطهارة لا تشمل إلا الواجبة أخذا مما أفتى به ابن الصلاح وأقروه من أن ما وقف للتكفين لا يعطى منه الميت إلا ثوب سابغ ولا يعطى القطن والحنوط فإنه من قبيل الأثواب المستحسنة التي لا تعطى على الأظهر المحفوظ في نظيره ا هـ. قلت يفرق بين المسألتين بأن لفظ الواقف ثم وهو التطهير يشمل الواجب والمندوب لغة وشرعا كما مر فحمل عليهما بخلاف التكفين فإنه لا يشمل القطن والحنوط فلم يحصل عليهما, ويؤيد ذلك أنه لما كان فيه شمول للزائد على ساتر العورة أعطيه كما أفاده ابن الصلاح بقوله: ويكون سابغا فإن ظاهره أنه يعطاه, وإن قلنا الواجب ستر العورة ويفرق بينه وبين الثوب الثاني والثالث بأنه آكد منهما ولهذا لم يلتفت لمنع الغرماء له بخلاف سائر المستحبات, ولا ينافي قولنا وأقروه. قول ابن الأستاذ إن قيد الواقف بالواجب أو الأكمل اتبع, وإن أطلق واقتضت العادة شيئا نزل عليه. ووجه عدم المنافاة أن كلام ابن الصلاح مفروض كما هو جلي حيث لا نص من الواقف, ولا ما هو منزل منزلة نصه, وهو العادة المطردة في زمنه, فحينئذ يعمل بما قاله ابن الصلاح وأما مع نصه على الواجب فقط أو عليهما أو وجدت عادة له بذلك فلا إشكال أن ذلك يعمل به حتما فظهر أنه لا تنافي بين كلامي ابن الصلاح وابن الأستاذ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - نفع الله به - هل يصح وضوء من بسفل رجله شوكة, وإذا تعذر إخراجها ما الحكم؟ "فأجاب" بقوله: عبارة شرحي للعباب "قال الزركشي هنا شيء يغفل عنه وهو أن تقع شوكة في يده مثلا, وحكمه أنه إن ظهر بعضها - وجب قلعه وغسل محله؛ لأنه صار في حكم الظاهر فإن استترت كلها صارت في حكم الباطن فيصح وضوءه لكنها تنجست بالدم فلا تصح صلاته معها كالوشم" ا هـ. وفيه نظر؛ لأن تنجسها بذلك معفو عنه وفارقت مسألة الوشم بأن الدم ظهر ثم, واختلط بأجنبي بخلافه هنا على أنه مر أنه لو أدخل عودا في دبره وغيبه كله صحت صلاته, فهذا أولى ثم رأيت بعضهم قيد ما قاله فيما إذا ظهر بعضها بما في فتاوى البغوي من أن ذلك فيما إذا كانت لو نقشت بقي محلها مثقوبا بخلاف ما إذا كان المحل يلتئم عند قلعها فإنه لا يضر وجودها, ولفظ الفتاوى شوكة دخلت أصبعه يصح وضوءه, وإن كان رأسها ظاهرا لأن ما حواليه يجب غسله وهو ظاهر, وما ستره الشوك فهو باطن فإن كان بحيث لو نقب عن الشوك بقي نقبه حينئذ لا يصح وضوءه إن كان رأس الشوك خارجا حتى ينزعه ا هـ. ويتعين حمل الشق الأول على ما إذا جاوزت الجلد إلى اللحم, وغاصت فيه لا يضر ظهور رأسها حينئذ لأنها في الباطن والثاني على ما إذا سترت رأسها جزءا من ظاهر الجلد بأن بقي جزء منها فيه, ونظر فيما قاله آخرا بنحو ما ذكرته فقال: "الظاهر أنها لا تلحق بالوشم للعفو عن مثله, وإنما لم ينظروا في الوشم لذلك لظهوره بفعله وعدوانه, ولتحريمه بخلاف ما نحن فيه, ولا شك أن ما ذكره مفقود فيما إذا غاص بعضها

 

ج / 1 ص -90-          وقد مر عن البغوي فيه الصحة فلا وجه لإلحاقه بالوشم" انتهت عبارة شرح العباب, وهي مشتملة على جواب السؤال مع الزيادة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - نفع الله به - عمن انقلبت بواطن أصابعه إلى ظهر الكف فهل العبرة بما سامت بطن الكف أو بالباطن وإن سامت ظهر اليد؟ "فأجاب" بقوله: بحث بعضهم أنه لا ينقض باطنها لأنه بظهر الكف ولا ظاهرها؛ لأن العبرة بالباطن ويؤيده أنهم شرطوا في النقض بالزائدة أن تكون على السنن وإن تسامت فكما لا ينقض التي ليست على السنن وإن سامتت ولا غير المسامتة, وإن كانت على السنن فكذا هذه فإن قلت: الفرق بينهما أن هذه أصلية فلا تحتاج لشرط وتلك زائدة, والأصل فيها عدم النقض فاحتاجت لشرط قلت: لما خالفت هذه وضع الأصليات خرجت على أن تكون متمحضة الأصالة من كل وجه فكان إلحاقها بالزائدة غير بعيد.
"وسئل" - نفع الله به - عن حديث: "من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات" هل هو صحيح أو ضعيف؟ "فأجاب" بقوله: المشهور أنه ضعيف كما صرح به جماعة لكن قضية كلام أبي داود أنه صالح للاحتجاج به, فهو عنده حسن لأن من ضعف لأجله لم يتفق على ضعفه.
"وسئل" - نفع الله به - عن حديث: "الوضوء نور على نور" من خرجه؟ "فأجاب" بقوله: قال المنذري: والزين العراقي لم نقف على من خرجه: واعترضا بأن رزينا أورده في كتابه.
"وسئل" رضي الله عنه عن حديث "من قرأ في أثر وضوئه:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] مرة واحدة كان من الصديقين ومن قرأها مرتين كتب في ديوان الشهداء ومن قرأها ثلاثا حشره الله محشر الأنبياء" من رواه؟ "فأجاب" بقوله: رواه الديلمي, وفي سنده مجهول والله أعلم.
"وسئل" - نفع الله به - عن المتوضئ إذا سمع الأذان هل تسن له الإجابة حينئذ أم لا؟ "فأجاب" رضي الله عنه بقوله أما حال الوضوء فيجيب؛ لأن المتوضئ إنما يسن له السكوت عن غير الذكر, وأذكار الأعضاء في ندبها خلاف بل الأصح عدم ندبها كما قاله النووي؛ لأن أحاديثها لا تخلو عن كذاب أو متهم بالكذب, واعتراض المتأخرين عليه رددته في شرح الإرشاد والعباب, وأما الإجابة فمندوبة اتفاقا ولذا قالوا بندبها للطائف مع أن له أذكارا مطلوبة اتفاقا, فالمتوضئ أولى وأما بعد فراغ الوضوء بأن وافق فراغ وضوئه فراغ المؤذن, فيأتي بذكر الوضوء كما أفتى به البلقيني مقدما له على الذكر عقب الأذان لأنه للعبادة التي فرغ منها ثم يذكر الأذان قال, وحسن أن يأتي بشهادتي الوضوء ثم بدعاء الأذان لتعلقه بالنبي صلى الله عليه وسلم, ثم بالدعاء لنفسه.

 

ج / 1 ص -91-          "وسئل" - نفع الله بعلومه - عمن قطع أنفه أو أنملته فجعل محله بدله من ذهب مثلا فهل يجب غسله في الوضوء والغسل أو إزالته وهل يمسحه بدلا عما تحته كالجبيرة أو لا؟ "فأجاب" بقوله إن كان ذلك البدل بحيث يمكن بلا خشية مبيح تيمم إزالته وعوده وجبت إزالته وغسل ما تحته, وهذا ظاهر وإن لم يكن كذلك فالذي يظهر أنه إن بني عليه اللحم أو الجلد وستره - وجب غسله وكذا لو بني على بعضه فيجب غسل ذلك البعض وهذا ظاهر أيضا, وأما الظاهر الذي لم يبن عليه اللحم ولا الجلد فهو محل تردد النظر, وقد ذكروا في الجنايات في السن المتخذة من ذهب أنه لا أرش فيها وإن كان نفعها أكثر من نفع الصحيحة, وإنما فيها حكومة. وهذا ناطق بأنهم لم يلحقوها بالسن الأصلية التي هي بدل عنها وإذا لم يلحقوها بها في حقوق الآدميين مع بنائها على المضايقة, فأولى أن لا يلحقوا البدل في مسألتنا بالأصلي في حقوق الله تعالى, وعليه فلا يجب غسل ما لم ينبت عليه لحم ولا جلد من أنف النقد ولا أنملته, ومثله ما لو وصل عظمه بعظم نجس بل هذا أولى؛ لأن غسل الطاهر معهود بخلاف غسل نجس العين وكذا لو وصله بعظم طاهر لكن لا أولوية هنا بل قد يدعى عدم المساواة, لأن النقد لا يشبه العضو المفقود بوجه بخلاف العظم من آدمي أو حيوان فإنه يشبه العضو المفقود, فإن قلت: سلمنا عدم وجوب غسل الظاهر من النقد المذكور فما يصنع فيما ستره من محل القطع الذي باشره القطع فظهر به, وصار ظاهرا يجب غسله قلت: إذا استحضرت أن الفرض أنه خشي من إزالته محذور التيمم ظهر لك أن اللحم أو الجلد بني عليه إذ لا يخشى ذلك المحذور إلا حينئذ كما هو ظاهر, وإذا بني عليه ذلك وجب غسل ما استتر منه به دون ما عداه كما مر, وبفرض أنه لم يبن عليه شيء هو آيل إلى البناء عليه ويصير بعضه إن لم يعمه نحو اللحم أو كله إن عمه عضوا مغسولا, وبهذا فارق وجوب مسح الجبيرة بدلا عما أخذته من أطراف الصحيح؛ لأنها ليست آيلة إلى العضوية بل هي بصدد الزوال فلم ينتظر فيها ذلك على أن مسحها كالخف رخصة فلا تجري في غيرهما لامتناع القياس في الرخص على ما تقرر في الأصول وخرج بقولي: "محل القطع الذي ظهر به..إلخ" باطن الأنف المستتر بالقصبة والمارن, فهذا لو فرض ظهوره لم يجب غسله عملا بالأصل فيه وهو كونه باطنا, وإذا لم يجب غسله بفرض ظهوره فما ستره من أنف النقد أولى إذ لا يجب غسله ولا يأتي نظير ذلك في الأنملة؛ لأن جميع ما ظهر يجب غسله, لأنه قبل القطع لم يحكم عليه بشيء لتعذر ظهوره, وباطن الأنف محكوم عليه بالباطنية مع تأتي غسله, وبهذا يظهر لك الفرق بين إيجابهم غسل ما ظهر بالقطع دون ما كان مستترا بالقصبة والمارن, وكذا باطن الفم ثم رأيت بعضهم أفتى في هذه المسألة بما حاصله أنه يجب مسحه كالجبيرة مع ستر كل لما يجب غسله, وقد علمت فساد القياس سيما مع ظهور الفرق الذي ذكرته على أنه توقف بعد ذلك فيها بحثه من وجوب المسح كالجبيرة, ثم قال: ينبغي إن التحم جانب الأنف وجب غسل الملتحم, وكذا بقية أنف النقد

 

ج / 1 ص -92-          تبعا قياسا على ما لو جبر عظمه بعظم طاهر فالتحم جانباه, فإن الظاهر وجوب غسل الجميع وقياسا على انكشاط جلدة العضد والتصاقها بالساعد فإنه يجب غسل ظاهر ما يحاذي الفرض منها مع ما تحته إن تجافت, والجامع بينهما كون كل منهما لا يجب غسله من قبل, وإنما وجب غسله تبعا لا أصالة. ا هـ. وقد علمت مما قدمته فساد القياس على الجلدة المذكورة؛ لأنها من جنس ما يجب غسله فإذا صارت في محل الفرض نسبت إليه وعدت منه فوجب غسلها لذلك, وأما أنف النقد فليس من جنس ما يجب غسله في الطهارة بحال فلم يصح قياسه ولا جامعه المذكوران فتأمل ذلك, وأمعن النظر فيما قررته لك فإنه مهم إذ لم يصرحوا فيه بشيء وإنما أخذنا ذلك من فحوى كلامهم والله سبحانه وتعالى هو الموفق, وفوق كل ذي علم عليم.
"وسئل" - نفع الله بعلومه - عن الداخل إلى بيته والخارج منه ما الذي يقدم من رجليه. "فأجاب" بقوله: لم أر في خصوص ذلك كلاما لأصحابنا ورأيت للمالكية أنه يقدم يمينه فيهما. والذي يجري على قواعدنا أنه يقدم يمينه في الدخول ويساره في الخروج لأن منزل الإنسان يشرف بشرفه؛ ولذا طلب منه أن يجعل لمنزله نصيبا من صلاته وأن لا يتخذه قبرا, أي كالقبر يهجره عن وقوع الأعمال الصالحة فيه فطلب الشارع ذلك فيه يدل على شرفه, وأيضا طلب الشارع من داخله أن يأتي ببعض الأذكار عند دخوله ورتب على بعضها أنه إذا قاله ارتحل الشيطان عنه وصار منزها عنه وهذا فيه تشريف له أي تشريف. وإذا ثبت شرفه على ما يليه بهذه الاعتبارات التي ذكرتها لزم أن يجري فيه ما ذكرته من أنه يقدم يمينه عند دخوله له ويساره عند خروجه منه قياسا له على المسجد بالنسبة لغيره فإن قلت: الفرق بينه وبين المسجد واضح. قلت: لا نظر لخصوص المسجدية ألا ترى أن المدرسة ومصلى العيد ونحوهما من محال العبادة يجوز المكث فيهما للجنب, ولا يثبت لهما شيء من الأحكام المختصة بالمسجدية ومع ذلك يقدم يمينه دخولا ويساره خروجا فيهما كما هو واضح من كلامهم فإذا ثبت ذلك فيهما نظرا إلى أنهما محل عبادة طلبت فيهما, فكذلك المنزل لأنه محل لعبادات مخصوصة طلبت فيه بخصوصه دون غيره فتأمله على أنه لو سلمنا أنه لا شرف فيه هو لا خسة فيه اتفاقا, وكل ما لا شرف فيه ولا خسة يبدأ فيه باليمين كما بينته في شرح العباب أخذا من كلام الأصحاب, وإذا بدأ في دخوله باليمين بدأ في الخروج منه باليسار.

باب الغسل
"وسئل" رضي الله عنه - ومتع بحياته المسلمين - عن رجل يجمع عدة من الأطفال بألواحهم وفرشهم في المسجد لإقرائهم القرآن, وتارة يرفعون أصواتهم فيشوشون على

 

ج / 1 ص -93-          المصلين وكثيرا يلوثون المسجد بالمياه فهل تعليم القرآن بالمسجد من حيث هو حرام أم لا؟ وهل يمنع المعلم من ذلك ويمنع الأطفال عنه فإن لم يمتنع عزر أو لا؟ "فأجاب" فسح الله في مدته إقراء القرآن في المسجد قربة عظيمة ففي الحديث الصحيح "إنما بنيت المساجد لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن" قال تعالى: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] وهذا عام في إقراء البالغين وغيرهم بشرطهم الآتي. وأما ما رآه مالك رضي الله عنه من كراهة القراءة في المصحف في المسجد, وأنه بدعة أحدثها الحجاج وأن يقاموا إذا اجتمعوا للقراءة يوم الخميس أو غيره فهو رأي انفرد به ومن ثم قال الزركشي هذا استحسان لا دليل عليه, والذي عليه السلف والخلف استحباب ذلك لما فيه من تعميرها بالذكر وقراءة القرآن للحديث الصحيح, أي الذي قدمناه هذا كله حيث كان المتعلمون مميزين يؤمن منهم تنجيس المسجد وتقذيره وعدم التشويش على المصلين فإن كان فيهم غير مميزين لا يؤمن تنجيسهم أو تقذيرهم له حرم على المعلم إدخالهم وعلى الحاكم - وفقه الله وسدده - زجره وردعه عن إدخاله مثل هؤلاء, وكذلك عليه نهيه أيضا عن رفع الصوت لإقامة صلاة فيه, والحاصل أنه لا يجوز إخراجه من المسجد بالكلية لأجل ذلك من أول وهلة, وإنما يمنع أولا من تمكينه من تنجيس المسجد أو تقذيره بمن يدخل إليه فيه, وكذلك يمنع من تمكينه من يرفع صوته إذا كان ثم من يصلي فإذا أصر المعلم على ما منع منه, ورأى الحاكم أن نهيه وزجره عما ذكر لا يفيد جاز له حينئذ أن يمنعه من المسجد بالكلية لعصيانه في بعض الصور ولعناده, وقد صرح الزركشي بأن للحاكم أن يمنع من أكل نحو ثوم أو بصل أو كراث أو فجل من دخول المسجد مع كراهة دخوله: فقياسه أن يجوز له منع المعلم المذكور إذا وجد منه ما ذكرناه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه هل يتوقف حصول السنة في نحو غسل الجمعة على غسل جميع بدنه كغسل الجنابة أو لا؟ "فأجاب" بقوله: نعم يتوقف حصول السنة على غسل جميعه لا صحة الغسل على ذلك فلو غسل بعضه صح غسله, لكن لا يحصل المقصود حتى يكمل غسل الباقي منه.
"وسئل" رضي الله عنه عمن علم أن في الحمام من يكشف عورته, فهل يجوز له دخوله ويجب الإنكار أو لا؟ "فأجاب" بقوله: يجوز دخوله فإن قدر أنكر, وإلا كره بقلبه وأثيب على ذلك, وإنما ينكر على من كشف السوأتين دون غيرهما؛ لأنه ليس بعورة عند بعض العلماء ما لم يكن فاعل ذلك يعتقد التحريم كذا قاله ابن عبد السلام ونقله في المهمات وأقره, فإن قلت: هذا ظاهر إن احتمل تقليد العاري للقائل بالحل بخلاف العوام الذين لا يحتمل فيهم ذلك. قلت: حيث لم يعلم منه اعتقاد التحريم لا ينكر عليه؛ لأنه إما معتقد الإباحة أو ليس معتقدا تحريما ولا إباحة, والحالة الأولى واضحة وكذا الثانية لأن شبهة الخلاف أسقطت.

 

ج / 1 ص -94-          وجوب الإنكار, بل قال بعض أصحابنا من الشافعية: من شرب النبيذ لا يفسق, وإن كان ضعيفا بل شاذا وليس ذلك إلا لشبهة الخلاف فيه.
"وسئل" رضي الله عنه عن المضمضة والاستنشاق هل هما سنتان في الغسل من الحدث الأكبر حتى لو أتى به مجردا عن الوضوء سن له الإتيان بهما, فإن قلتم: لا فذاك, وإن قلتم: نعم. فهل يشترط في الاعتداد بهما أن تقارنهما نية الحدث الأكبر ليخرج من خلاف من أوجبهما أم لا؟ وعلى القول باشتراط المقارنة أو عدمها, فهل يدخلان في مضمضة الوضوء واستنشاقه سواء قدمه أو وسطه أو أخره إذ لا معنى لتوالي مضمضتين واستنشاقين في طهارة واحدة أم لا؟ لأن كلا منهما سنة مقصودة كسنة العشاء والوتر مثلا. "فأجاب" بقوله: بأن المنقول المعتمد فقد جزم به في الروضة ونقله في المجموع عن الأصحاب أنه يندب في الغسل المضمضة والاستنشاق ثم الوضوء كاملا بأن يأتي بجميع سننه, ومنها التسمية وما بعدها كالمضمضة والاستنشاق وغيرهما, وأنه يكره ترك كل من الثلاثة لأن كلا سنة مؤكدة, فيعيد الثلاثة لكن ندب إعادة المضمضة والاستنشاق آكد, ومن ثم نص الشافعي رضي الله عنه على ندب إعادتهما وسكت عن إعادة الوضوء ووجهه القاضي حسين وغيره من الأصحاب بأن الخلاف في وجوبهما كان في زمنه رضي الله عنه فأحب الخروج منه بخلاف الخلاف في وجوب الوضوء فإنه لم يكن في زمنه؛ ولأن الماء قد وصل موضع الوضوء دون موضعهما فأمر بإيصاله إلى محلهما, وبهذا يعلم سقوط ما فهمه الإسنوي ومن تبعه من أن حاصل كلام الشافعي أنه لا يأتي به ويأتي بهما. وشرط الاعتداد بالثلاثة ليثاب عليها تأخرها عن نية نحو الجنابة كما صرحوا به, ويوجه ندب طلب المضمضة والاستنشاق مستقلين مع اشتمال الوضوء المندوب عليهما بأن محلهما يكثر فيه الأذى والقذر فطلب مزيد التنظف فيه بتكرار غسله بخلاف غيره من بقية الأعضاء؛ ولذا جرى خلاف في وجوبهما وخلاف في وجوب الوضوء المشتمل عليهما ولم يجر نظير ذلك في غيرهما من الأعضاء.
"وسئل" رضي الله عنه عن معنى قول ابن المقري في روضه: ويجب قرنها, أي نية الجنابة بأول فرض وفي تقديمها على السنن وعزوبها ما مر في الوضوء, هل معناه أن النية محلها عند إفاضة الماء على رأسه حتى يكون رأسه كالوجه فكما لا يكفي اقتران النية في الوضوء بسنة قبل الوجه كذلك, ولا يكفي اقترانها هنا بسنة قبل الإفاضة كغسل الكفين فيما إذا قدم الوضوء يجب عليه إعادة غسل أعضاء الوضوء بعد الإفاضة مع سائر بدنه, وإن غسلها بنية رفع الجنابة مثلا فيكتفي حينئذ باقترانها بغسل الرأس دون أعضاء الوضوء, والكل محل للحدث؛ لأن الجنابة تحل جميع البدن فنحتاج إلى الفرق أو مراده بأول فرض غسل جزء من بدنه ولو من أعضاء الوضوء فما معنى قوله وفي تقديمها على السنن وعزوبها ما مر في الوضوء فهو متى نوى عند غسل الكفين كفى, فلا يبقى لقوله وفي تقديمها على السنن وعزوبها بها ما مر في الوضوء معنى إذ لم يبق لنا سنة متقدمة على غسل الكفين تقارن غسلا.

 

ج / 1 ص -95-          "فأجاب" بأن معنى قول الروض كأصله ويجب قرنها..إلخ أنه يجب قرنها بأول مفروض وهو أول ما يغسل من البدن من الرأس والوجه وغيرهما من أعضاء الوضوء وغيرهما وإنما وجب قرنها في الوضوء بالوجه دون غيره؛ لأنه يجب فيه الترتيب ولا يمكن خلو أول الواجبات عنها فلو جوزنا اقترانها بغسل اليد لخلا الوجه عنها, وهو لا يجوز بخلافه هنا فإنه لا ترتيب فيه فأي جزء من البدن غسله ناويا معه وقع غسله عن الجنابة, فأول مغسول هنا كالوجه في الوضوء, فلو نوى بعد غسل جزء وجب إعادة المغسول, فوجب قرنها بالأول ليعتد به لا لأنه لا يصح قرنها بما بعده نظير ما قالوه في غسل الوجه في الوضوء, ومعنى قوله: وفي تقديمها على السنن..إلخ أنه لو خلي عنها شيء من السنن بأن أتى به قبل الإتيان بالنية لم يثب عليه, وأنه لو أتى بها في أولاهن كالسواك لكنها عزبت قبل غسل أول جزء من البدن لم يعتد بها, فتجب إعادتها عند غسل أول جزء من البدن, فعلم الجواب عن قول السائل فنحتاج إلى الفرق, وعن قوله: إذ لم يبق لنا سنة متقدمة على غسل الكفين تقارن غسلا.
"وسئل" - نفع الله به - بما صورته إذا أتى المغتسل بالأكمل في الغسل وقدم الوضوء فهل يستحب له أن ينوي عند غسل الكفين نية رفع الجنابة, ونية رفع الحدث الأصغر إن لم تتجرد جنابته عنه أو نية الغسل إن تجردت ويستصحب نية كل منهما إلى فراغه كما هو مقتضى كلامهم أو يكتفي بنية الغسل عن الجنابة أو ما الحكم فيها؟ "فأجاب" بقوله: إن جنابته تارة تتجرد عن الحدث الأصغر كأن يلوط أو يطأ بهيمة أو ينزل بنحو ضم امرأة بحائل, وحينئذ فينوي بالوضوء سنة الغسل, وتارة لا تتجرد وحينئذ فينوي به رفع الحدث الأصغر وإن قلنا: إنه يندرج في الغسل خروجا من خلاف من أوجبه, وتصريح ابن الرفعة كابن خلف الطبري بما ظاهره يخالف ذلك مؤول, وليست النية المذكورة في القسمين واجبة بل مندوبة في أول كل ولا يشترط استصحابها إلى آخره قياسا على نحو الطواف في الحج لشمول نية الغسل للوضوء, وقول الإسنوي لا يتصور شمول نية الغسل للوضوء؛ لأنه إذا نوى رفع الحدث ارتفعت الجنابة عن المغسول من أعضاء الوضوء فيكون المأتي به غسلا لا وضوء غلط كما قاله الزركشي؛ لأن رفع الجنابة لا ينافي الإتيان بصورة الوضوء. وإذا تقرر أن حصول صورته لا ينافي ارتفاع الجنابة في أعضائه, فبحث ابن الرفعة عدم ارتفاعها؛ لأنه غسلها بنية السنة يرد بأن قصد ذلك لا ينافي نية رفع الحدث إذ هو من مقتضياتها, وإذا لم تتجرد جنابته وأخر الوضوء إلى ما بعد الغسل فقضية كلام الإسنوي أنه ينوب رفع الحدث هنا أيضا, وليس بتلاعب خلافا لما زعمه النووي؛ لأن نية ذلك إنما هي للخروج من خلاف القائل بعدم اندراج الأصغر في الأكبر, والأصغر في هذه الصورة لم يرتفع عند القائل بذلك فشرعت نيته عند الإتيان به ولو بعد الغسل ليرتفع عند ذلك القائل

 

ج / 1 ص -96-          "وسئل" - نفع الله به - عن قول الأصحاب, والعبارة للإرشاد "وندب لجنب غسل فرج ووضوء لنوم ووطء وطعم هل ينوي الوضوء لهذه الأشياء؟ كما أنه ينوي في الأغسال المسنونة أسبابها إلا المجنون والمغمى عليه فينوي كل منهما رفع الجنابة؟" فإن قلتم به فذاك وإلا فما الفرق؟ "فأجاب" بقوله: قد ذكرت المسألة في شرح العباب مع نظائرها من كل وضوء مسنون, وعبارة الشرح مع المتن "والمراد في جميع هذه الصور التي قلنا يسن الوضوء فيها الوضوء الشرعي كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه في نحو الغيبة وصوبه النووي في المجموع مستندا إلى ما يأتي عن الشاشي, وهو غسل الأعضاء الأربعة مع النية والترتيب لا اللغوي الذي هو مجرد النظافة خلافا للمتولي وابن الصباغ, فقد استبعد الشاشي في المعتمد حمل الثاني استحباب الشافعي الوضوء من الكلام الخبيث على غسل الفم بأن ظاهر النص أن المراد به الشرعي قال: والمعنى يؤيده فإن غسل الفم لا يؤثر فيما جرى وإنما القصد به التكفير من المأثم والتطهير من الذنوب" ا هـ. نعم قال الحليمي: "المراد به لمعاودة الوطء اللغوي للتصريح به في رواية" ا هـ. ونقله القرطبي في شرح مسلم عن أكثر العلماء لخبر "فليغسل فرجه" مكان "فليتوضأ" ونقل عن الجمهور أن المراد بوضوء الجنب للأكل غسل يديه لما رواه النسائي عن عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام, وهو جنب توضأ, وإذا أراد أن يأكل أو يشرب غسل يديه ثم يأكل أو يشرب ا هـ. والذي يتجه أن المراد الوضوء الشرعي في الكل؛ لما فيه من تخفيف الحدث, وأن غسل الفرج في الأول واليدين في الثاني يحصل به أصل السنة لا كمالها" انتهت عبارة الشرح المذكور, وبما ذكر فيها من أن المراد الوضوء الشرعي وأنه النية, وغسل الأعضاء الأربعة مع الترتيب يعلم أنه ينوي به نية من نياته المجزئة لا أسبابها؛ لأن القصد هنا رفع الحدث الأصغر إما ليخف حدثه الأكبر في صورة الجنب المذكورة في السؤال, وإما لتحصل له حقيقة الطهارة, فيكفر إثمه في نحو التكلم بكلام فيه إثم أو يرتفع حدثه في الصور التي جرى فيها خلاف بنقض الوضوء, أو يزداد تأهله وتعظيمه في نحو قراءة القرآن والحديث والعلم ونحو الأذان والذكر بما تقرر هنا من هذه الفوائد المترتبة على ما قلناه أنه ينوي بالوضوء نحو رفع الحدث يفرق بين ما هنا وبين نيته في الأغسال المسنونة أسبابها إلا المجنون والمغمى عليه, ويؤيد الفرق استثناء هذين؛ لأن القصد في أمرهما بالغسل رفع الجنابة المحتملة؛ فلذلك طلب من كل منهما نية رفعها, فكذا القصد بالوضوء في تلك الصور ما مر من تخفيف الحدث وما بعده, وذلك لا يحصل إلا بنية رفعه أو نحوها فتأمل هذا الفرق, فإنه ظاهر لا خفاء فيه والله سبحانه أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه عما إذا وقف جنب على سطح أطراف جذوعه على جدار المسجد, والطرف الآخر على جدار بجانبه أيجوز أم لا؟ "فأجاب" بقوله: لم أر في ذلك نقلا فيحتمل أن يقال بالجواز لأنه ليس واقفا في المسجد ولا فيما هو من توابع المسجد,

 

ج / 1 ص -97-          ويحتمل أن يقال بالحرمة قياسا على ما لو وقف بجناح بجداره فإنه يحرم, وإن كان كله في هواء الشارع كما يقتضيه كلام المجموع في الاعتكاف, وعلى ما لو وضع رجله في المسجد والأخرى خارجه واعتمد عليهما فإن الأوجه الحرمة, ويجاب بالفرق بين مسألتنا وهاتين. أما الجناح فلأنه لما كان أصله جميعه في جدار المسجد, ولم يكن منه شيء خارج عن المسجد كان يعد من توابع المسجد نظرا لأصوله ولم ينظر لخروج هوائه عن المسجد؛ لأنه تابع فأعرض النظر عنه ونظر للمتبوع فقط بخلاف صورة السؤال فإن أصول السطح الواقف عليه ليست من توابع المسجد؛ لأن بعضها فيه وبعضها في غيره فلم تكن نسبتها للمسجد أولى من نسبتها لغيره بل تعارضا, والأصل الإباحة. وأما الوقوف على الرجلين معتمدا عليهما فلأنه باشر ببدنه أرض المسجد مع الاعتماد فكان كالواقف كله فيه فحرم بخلاف صورة السؤال, فإن الواقف على السطح لم يباشر المسجد, ولا ما هو من توابع المسجد فلم يكن للحرمة مقتض حتى تناط به فالذي يتجه حينئذ في صورة السؤال الجواز لما علمته مما تقرر والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عما صورته ما الحكمة في قول الحاوي: "مقرونا في الغسل هنا", وتأنيثه في الوضوء, والجميع صفة للنية؟ "فأجاب" بقوله: قول الحاوي مقرونة في الوضوء ومقرونا في الغسل نبه على فائدة حسنة, وهي أن الفعل وما تفرع عنه في العمل كاسم المفعول هنا إذا أسند إلى مؤنث ظاهر مفصول منه جاز تأنيث العامل وتذكيره, وإن كان المؤنث حقيقي التأنيث فمجازيه أولى؛ لجواز الأمرين فيه بلا فصل أيضا لكن الأولى التأنيث, ومن ثم بدأ به الحاوي في الوضوء, ثم ذكره في الغسل؛ تنبيها على اللغتين, وأن البداءة بالأفصح أولى, وبما تقرر اندفع قول السائل, والجميع صفة للنية.
"وسئل" رضي الله عنه بما لفظه: صرح البغوي أنه لو نزل منيه لقصبة ذكره فربطه بخرقة صح غسله هل هو معتمد؟ "فأجاب" بقوله: ليس بمعتمد بل لا يجب الغسل قطعا لإطباقهم على أن الموجب للغسل هو خروج المني, وهذا مخرج لنزوله إلى قصبة الذكر من غير خروج ولو أحس متوضئ ببول في قصبة ذكره صحت صلاته حينئذ كما هو صريح كلامهم, وفيه أبلغ رد أيضا لما قاله البغوي.
"وسئل" - نفع الله به - هل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تنور أو لا, كما أفتى به النووي. "فأجاب" بقوله: أخرج ابن ماجه بسند جيد كما قاله الحافظ العماد بن كثير أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا طلى بدأ بعورته فطلاها وطلى سائر جسده أهله. وفي رواية مرسلة سندها جيد أيضا أنه أطلى وولي عانته بيده وفي أخرى عند الخرائطي وابن سفيان وابن عساكر أنه قيل لثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم تدخل الحمام, وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الحمام, وكان يتنور وفي أخرى عند ابن عساكر عن واثلة لما فتح صلى الله عليه وسلم خيبر أكل متكئا, وأطلى

 

ج / 1 ص -98-          وأصابته الشمس ولبس الظلة, وكان المراد ب "أصابته" الشمس أنها أثرت فيه لكبر سنه أكثر ما كانت تؤثر فيه قبل, ومن ثم أعقبه بقوله لبس الظلة, أي ما يجعل على الرأس مما له ظل يقي الوجه والعنق ونحوهما عن الشمس. وفي أخرى مرسلة رواها ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور كان إذا أطلى ولي عانته بيده وفي أخرى مرسلة أيضا رواها سعيد بن منصور أنه لما فتح خيبر أكل متكئا وتنور وفي أخرى مرسلة أيضا عند أبي داود في مراسيله والبيهقي في سننه الكبرى أن رجلا نور رسول الله فلما بلغ العانة كف الرجل, ونور رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه وفي أخرى سندها ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم كان يتنور كل شهر ويقلم أظفاره كل خمس عشرة قيل: وفيها فائدة نفيسة وهي ذكر التوقيت ا هـ. وفيه نظر فإن بدنه صلى الله عليه وسلم كان في غاية الاعتدال فلا يقاس به غيره في ذلك نظير ما قالوه فيما صح أنه كان يوضئه المد ويغسله الصاع أن ذلك خاص بمن بدنه كبدنه صلى الله عليه وسلم ليونة واعتدالا وإلا زيد ونقص بحسب التفاوت, فكذا هنا ومن ثم قال الأئمة في حلق العانة والإبط والقلم وقص الشارب: "أن ذلك لا يتقيد بمدة بل يختلف باختلاف الأبدان والمحال فيعتبر وقت الحاجة إلى إزالة ذلك في حق كل أحد بما يناسبه" فتأمله وما قيل: أنه يكره التنور في أقل من شهر أخذا من هذه الرواية يرد بأن الكراهة تحتاج إلى نهي, فإن أريد بها الكراهة الإرشادية لما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه آثر الحلق على التنور, أي في بعض الأوقات, وقال: إن التنور يرق الجلد كان صحيحا, وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن الحمامي كان ينوره فإذا بلغ حقوه قال له اخرج, أي وتولى العورة بنفسه اقتداء به صلى الله عليه وسلم كما في أول الأحاديث السابقة, وهو أصح من الحديث الأخير المقتضي أنه لم يطل إلا عانته فقط, وأنه مكن الرجل من إطلاء ما عداها من بقية العورة على أنه مرسل فلا حجة فيه للقائل بأن العورة ما عدا السوأتين ولا يعارض ما مر خبر أنه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا لا يطلون؛ لأنه نفي وما مر إثبات فيقدم عليه على أن هذا مرسل متكلم فيه, وورد روايتان أخريان كذلك سندهما منقطع, وأخرى أنه كان لا يتنور فإذا كبر شعره حلقه, وهي موصولة لكنها ضعيفة وبتقدير صحة ذلك كان يتنور في وقت ويحلق في وقت وجاء في روايات عن عمر رضي الله عنه أنه كره التنور, وعلله بأنه من النعيم في رواية ما يقتضي أنه إنما كره كثرة طلاء النورة, وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما ما أطلى نبي قط, ومعناه ما مال نبي إلى هوى لأنه من أطلى الرجل إذا مالت عنقه للموت أو غيره, ثم استعير للميل عن الحق وقال ابن الأثير: أصله من ميل الطلاء, وهي الأعناق واحدتها طلاءة يقال: أطلى الرجل إطلاء إذا مالت عنقه إلى أحد الشقين وروى البخاري في تاريخه, وابن عدي والطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أول من صنعت له النورة ودخل الحمام سليمان بن داود صلوات الله وسلامه عليهما" وأخرج ابن أبي حاتم وغيره أن سبب ذلك "أن بلقيس كانت شعراء فاستقبح سليمان حلقه بالموسى لقبح أثره فجعلت له الشياطين النورة من أصداف" والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

ج / 1 ص -99-          "وسئل" - نفع الله به - عن قول الشيخ زكريا - رحمه الله - في فتاويه: "ولا يسن الوضوء للغسل المسنون بل هو مختص بالواجب كما قيد به المحاملي وغيره" ا هـ كلامه. لكن ذكر المزجد في عبابه ما لفظه: "وصفته يعني الغسل للجمعة كغسل الجنابة فيتوضأ قبله ا هـ. وغير خاف على سيدي تدافع الكلامين فما المعتمد من ذلك؟ "فأجاب" بقوله: مذكور في شرحي للعباب وعبارته "هذا وقضية كلامهم أن الوضوء إنما يكون سنة في الغسل الواجب, وبه صرح أبو زرعة وغيره تبعا للمحاملي, وقد يقتضيه قول الرافعي, وإنما بعد الوضوء من مندوبات الغسل إذا كان جنبا غير محدث أو قلنا بالاندراج وإلا فلا, وعلى هذا يحتاج إلى إفراده بنية لأنه عبادة مستقلة وعلى الأصح لا ا. هـ. فقوله وإلا يشمل غير الجنب أصلا, ولو قيل بندبه كغيره من سائر السنن التي ذكروها هنا في الغسل المسنون أيضا لم يبعد, بل قد يؤخذ من كلام الرافعي المذكور أن وجه تخصيص الواجب بالذكر الاكتفاء بنيته عن نية الوضوء بخلاف نية الغسل المسنون فإنها لا تكفي عن نية الوضوء فهو أعني الوضوء إن قيل: بندبه يكون مندوبا عند الغسل المسنون لا فيه إذ لا يكتفى بنيته عنه ثم رأيت المصنف في باب الجمعة جزم بهذا الاحتمال" انتهت عبارة الشرح المذكور وبها يعلم أنه لا خلاف في المسألة, وأن مراد من قال بندبه أنه مندوب عند الغسل, ومن قال بعدمه عدم ندبه في الغسل. فتأمله يظهر لك أنه لا تدافع بين الكلامين أصلا ولما ذكرت في شرح العباب قوله فيتوضأ قبله قلت عقبه: ندبا بناء على ما قدمته في باب الغسل من ندب الوضوء عند الغسل المسنون وعليه لا بد فيه من النية ا هـ. فأشرت هنا أيضا إلى أنه لا خلاف في المسألة.
"وسئل" رضي الله عنه ماذا ينوي الجنب والحائض إذا توضأ للوطء والطعم هل ينوي سنة الغسل أو رفع الحدث الأكبر عن أعضاء الوضوء أخذا من تعليلهم بتقليل الحدث أو غير ذلك؟ "فأجاب" بقوله: إنه لا ينوي شيئا مما ذكره السائل وإنما ينوي رفع الحدث الأصغر كما يصرح به كلام المجموع. وعبارة شرحي للعباب "والحكمة في ذلك تخفيف الحدث غالبا والتنظيف إذ الأصح أن الوضوء يؤثر في حدث الجنب ويزيله عن أعضاء الوضوء خلافا لقول الإمام لا يرتفع شيء من الحدث حتى تكمل الطهارة ذكره في المجموع, وضمير يزيله للحدث الأصغر, فعليه لا إشكال وإنما الإشكال في قول القاضي وابن الصباغ: "وضوء الجنب يزيل الجنابة عن أعضاء وضوئه إلا أن يحمل على أنه نوى رفع الحدث وأطلق أو يؤول على أنه يصلح لإزالتها عن غالب أعضاء وضوئه فيما إذا ظن حدثه الأصغر فنواه. وقيل الحكمة لعله ينشط للغسل ثم ما تقرر من أن المراد في جميع ما ذكروه الوضوء الشرعي هو ما في المجموع وغيره, وعليه يدل بعض الأحاديث الصحيحة, وقيل: المراد به في الأكل والشرب غسل اليدين وعليه جمهور العلماء؛ لأنه جاء مفسرا به في خبر البيهقي وقال الحليمي هو في العود للوطء غسل فرجه لرواية به, قيل: وعليه الجمهور ويرده خبر مسلم "
إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوء".

 

ج / 1 ص -100-        فأكد بالمصدر؛ دفعا لإرادة المجاز انتهت عبارة الشرح المذكور. وبتأمل كلام المجموع واستشكال ما بعده مع الجواب عنه يتضح اندفاع قول السائل: أو رفع الحدث الأكبر. إلخ. ومرادهم بتقليل الحدث تقليله برفع الأصغر, فإن قلت: هذا ظاهر إن كان عليه أصغر أما إذا تجردت جنابته عنه فتبقى نية رفع الأكبر إذ التقليل لا يحصل إلا بذلك قلت: الأمر كذلك وعليه قد يحمل قول السائل: أو رفع الحدث الأكبر إلخ. فإن قلت: هل يمكن أن يقال أنه ينوي بالوضوء هنا سنة الوضوء كما في نية الوضوء لغسل الجنابة المجردة عن الحدث الأصغر؟ قلت: يمكن ذلك لولا قولهم: القصد من هذا الوضوء تقليل الحدث, فإنه ظاهر في أنه ينوي الحدث الأصغر إن وجد وإلا فالأكبر, ويفرق بين هذا والوضوء والمقدمة للغسل المذكور بأن القصد بهذا شيئان: الخروج من خلاف من منع الاندراج وزيادة النظافة ليكون مقدمة للغسل فإذا فات الأول بقي الثاني وكفت فيه نية السنة, وأما ذاك فالقصد به تخفيف الحدث فحيث أمكنت نيته لم ينو غيره وإذا تعين في الوضوء المسنون لنحو القراءة والمجدد نية مما يجزئ في الأصل فأولى هذا على أن النية في الوضوء المقدمة غير واجبة لإجزاء نية غسل الجنابة عنه كما تحقق في محله, والنية في الوضوء لنحو الأكل واجبة فلا تقاس إحداهما بالأخرى, وحينئذ اتجه ما ذكرته واندفع ما يتوهم من القياس السابق فتأمله.
"وسئل" - نفع الله بعلومه - عن رجل تحرم عليه القراءة في صلاته ما صورته؟ "فأجاب" بقوله: هو فاقد الطهورين يحرم عليه قراءة زائدة على الفاتحة.
"وسئل" فسح الله في مدته عن الكافرة الممتنعة, هل يجب على مغسلها النية كالمسلمة الممتنعة أو لا؟ ويفرق, وقد نقل ترجيح عدم الوجوب عن شرح المهذب, وعبارة التكملة في باب النكاح "أما إذا امتنعت فيغسلها الزوج ويستبيحها, وإن لم توجد نية للضرورة وقيل: ينوي عنها وهو ضعيف كذا قاله في شرح المهذب. "فأجاب" بقوله كلام شرح المهذب في مسألة نية الكافرة متناقض, وعبارة شرح العباب ويعتبر كما في التحقيق وحكاه في المجموع عن المتولي "نية الكافرة استباحة التمتع, والأولى نيتها لإيهامه عدم اشتراط كونها كتابية, وليس كذلك كما مر في بحث المستعمل وما في موضعين من المجموع من عدم اشتراط نيتها محمول كما في الروضة, وأصلها في موانع النكاح على الممتنعة المغتسلة بإجبار الحليل, ونية غاسل المجنونة وغاسل الممتنعة, ولا فرق فيهما كما اقتضاه كلامهم كالمجموع بين المسلمة وغيرها. وفي الكفاية عن القاضي ينوي الزوج عنها كما ينوي عن المجنونة ا هـ. والفرق بينهما بأن المجنونة لا يتصور منها قصد مقوم لفعلها, والكافر يتصور منه ذلك بل يتصور منه النية بل تلزمه فيما إذا ظاهر, وأراد الإعتاق يرد بأنهم لو نظروا لذلك أوجبوا على حليل المسلمة الممتنعة النية على أن الامتناع صيرها كالمجنونة, وتصور النية

 

 

ج / 1 ص -101-        منها إنما هو بتقدير زوال الامتناع, وحينئذ المجنونة كذلك تتصور النية منها بتقدير زوال الجنون فلا فرق بينهما انتهت.
"وسئل" - نفع الله به - هل المدارس تسمى مساجد فتكون لها تحية أو لا؟ "فأجاب" بقوله: المدرسة غير المسجد ما لم يعلم أن واقفها جعلها مسجدا, فتصير مدرسة ومسجدا حينئذ فيثبت لها أحكامه من التحية وغيرها وأما إذا لم يعلم أنه وقفها مسجدا فلا يثبت لها من أحكام المسجد شيء والله أعلم.

باب مسح الخفين.
"وسئل" رحمه الله أعرب بعضهم قول المنهاج: "ساتر" محل فرضه وما بعده أحوالا من ضمير يلبس هل يصح وتوهم بعضهم أن قوله: بعد كمال طهر كذلك هل هو صحيح أيضا؟ "فأجاب" بأن الأول صحيح, والثاني مردود بأنه ظرف ليلبس فلا يصلح أن يكون وصفا للخف, فلم يصح جعله حالا من ضميره والله أعلم.

باب التيمم.
"وسئل" رضي الله عنه عن شخص تيمم وعلى بدنه نجاسة معفو عنها كأن استنجى بالقلع بالحجارة مثلا بشروطه, وكان التيمم والقلع في مكان الغالب فيه عدم الماء فهل يجب عليه قضاء ما صلاه بالتيمم إذا كان المتيمم إنما استنجى بالقلع لأن شرط التيمم طهارة البدن. وظاهر إطلاق الأصحاب في باب التيمم سواء في الطهارة محل النجو وغيره, وصرح به شارح الإرشاد في شرحه المسمى بالإمداد الذي هو بمنزلة التصحيح على الإسعاد, وكذا صنع في كتابه المنهج القويم بشرح مسائل التعليم, لكن هل المراد بذلك حيث كان ذلك في مكان الغالب فيه وجود الماء؛ لأن إزالة النجاسة إنما هي شرط عند القدرة عليها كما صرح به جمع متأخرون, فهل يجب عليه قضاء ما صلاه في هذه الحالة لفقد الطهارة المشروطة أو لا يجب عليه قضاء سواء كان ذلك القلع والتيمم بمكان الغالب فيه وجود الماء أو عدمه كما اقتضاه كلام المنهاج في شروط الصلاة حيث قال: "ويعفى عن محل استجماره", وظاهره أن ذلك لا يختص بمتوضئ ولا متيمم قال بعضهم: وصرح بذلك الناشري في إيضاحه فقال سواء في ذلك المتوضئ والمتيمم, وهو ظاهر بالنسبة للمتوضئ. وأما المتيمم فقد اجتمع عليه الحدث والنجس؟ "فأجاب" رضي الله عنه بقوله: المعتمد كما بينته في شرح العباب أن من اجتمع عليه حدث ونجاسة غير معفو عنها, ووجد ما يكفي أحدهما فقط تعين الماء للنجاسة التي بمحل النجو وغيره خلافا لما وقع للزركشي, وأطال

 

ج / 1 ص -102-        فيه بما لا يصح هذا إذا كان مسافرا, أي بمحل يغلب فيه فقد الماء أما الحاضر, أي بمحل يغلب فيه وجود الماء فلا يتعين الماء لخبثه لأنه لا بد له من الإعادة على كل تقدير, والمعتمد أيضا أنه يجب تقديم غسلها على التيمم وإلا لم يصح تيممه؛ لأنه للإباحة ولا إباحة مع المانع فأشبه التيمم قبل الوقت, وبه يعلم أنه لا فرق هنا بين المسافر والحاضر وإن لزمته الإعادة بكل تقدير, وإنما فرق بينهما فيما مر لأن موجب التعيين ثم عدم الإعادة, وهما يفترقان فيها والملحظ هنا أنه لا إباحة مع المانع وهما مستويان في ذلك. وصوب في المجموع أن صورة المسألة أن يكون معه من الماء ما يكفي لإزالة الخبث فقط, قال: ويتصور أيضا فيمن تيمم لنحو مرض بحيث لا يجب استعمال الماء في الحدث ويجب في الخبث لقلته. ا هـ. وينبغي أن يتصور أيضا فيمن تيمم لنحو مرض, ومعه ماء يكفي لإزالة الخبث وبعض الحدث, ويعلم من كلام جمع متقدمين أن محل بطلان تيمم من على بدنه نجاسة إذا كان معه ماء يكفيها أما لو عدم الماء فتيمم, ولو مع وجودها صح قالوا لأنا لو لم نصحح تيممه لعجز عن الصلاة؛ لأن نجاسة البدن لا تزال إلا بالماء ا هـ. إذا تقرر ذلك علم أن الكلام في مقامين لأنه إن لم يكن معه ماء صح تيممه مع وجود النجاسة مطلقا ثم إن كانت النجاسة غير معفو عنها لزمته الإعادة مطلقا, وإن كانت معفوا عنها كالتي بمحل النجو بشروطه, فإن كان بمحل يغلب فيه فقد الماء لم يلزمه الإعادة وإلا لزمته؛ لأن وجود ماء بمحل النجو حينئذ كعدمه, وإن كان معه ماء فإن غسل به النجاسة ثم تيمم صح تيممه مطلقا ثم إن كان بمحل يغلب فيه الفقد فلا إعادة وإلا فالإعادة, وإن تيمم ثم غسل النجاسة بطل تيممه فيلزمه الإعادة مطلقا, فإن أعاد التيمم بعد غسلها تأتى فيه التفصيل المذكور والله سبحانه أعلم.
"وسئل" فسح الله في مدته عمن خشي من الغسل في البحر الملح القمل أو كثرته, فهل يباح له التيمم؟ "فأجاب" بقوله: يحتمل أن يقال: يباح له التيمم إن أخبره بذلك عارف ثقة, أو اطردت العادة به أو علم من نفسه ذلك على ما فيه من كلام ذكروه في التيمم أخذا من قولهم: لو خاف زيادة الألم أبيح له التيمم. ولا شك أن في القمل ألما يساوي زيادة ألم المرض بل يزيد, وقياسا على ما ذكره في باب اللباس من أنه يباح الحرير لحكة وقمل وجرب, والجامع بين البابين أن كلا من التيمم ولبس الحرير للرجل إنما يجوز للضرورة, وعدوا منها في كل باب أسبابا يتحدان في أكثرها فليتحدا في الباقي, ويحتمل أن يفرق بين البابين بأن الضرر في لبس الحرير أخف ومن ثم أبيح للنساء مطلقا وبأن التيمم عبادة ووسيلة إلى الصلاة فليحتط لها أكثر وبأن الطهر بالماء واجب إلا أن يتحقق السبب المسقط له ولم يتحقق, ويؤيد هذا الاحتمال قولهم في التيمم: لو خشي التألم في الحال من غير أن يخشى مرضا لا يخشى منه ما ذكروه لم يبح له التيمم, فعموم هذه العبارة يقتضي أنه لا يباح له التيمم بخشية حدوث القمل إلا أن الأول بالرخص وتخفيفات الشرع أشبه

 

ج / 1 ص -103-        "وسئل" - نفع الله به - عمن معه ماء لكنه يخشى العطش في المآل, وهناك عطشان في الحال فهل يجب عليه بذله له أو لا؟ "فأجاب" بقوله: ذكر في المجموع في المقدم منهما وجهين ولم أر من رجح منهما شيئا, والذي يظهر ترجيحه أنه يقدم العطشان في الحال إذا خشي من العطش الهلاك؛ لأن إتلاف مهجته محقق بخلاف المالك فإنه قد يحصل له ماء فإن كان ببرية أيس فيها من حصول ماء وغلب على ظنه الهلاك لو بذل ما معه فللنظر في ذلك مجال, وعدم وجوب البذل حينئذ أقرب وكذا لو خشي العطشان من العطش في الحال إتلاف عضو أو حدوث مرض ونحوه, وخشي المالك من العطش في المآل إتلاف النفس, فلا يجب البذل أيضا على الأقرب فإن قلت: هذا التفصيل الذي ذكر غير الوجهين المطلقين المذكورين في المجموع قلت: لا يضر ذلك على أنه ليس غيرهما, بل هو ترجيح لواحد منهما بشرط لم يذكره النووي - رحمه الله - لعدم تعرضه للترجيح.
"وسئل" رضي الله عنه عن قول المنهاج وغيره في التيمم, وبرمل فيه غبار هل المراد بغبار الرمل ما يحصل من التراب لا ما خلق من نفس الرمل بدليل ما قد يوهم ذلك من قول المنهج يتيمم بتراب ولو برمل, أو المراد أعم. وإنما عبر المنهج بذلك لأن الغبار المخلوق من نفس الرمل يسمى ترابا وإلا لكان قول الشارح المحلي بعد قول المنهاج ما تقدم؛ لأنه من طبقات الأرض وكان في معنى التراب ضائعا "فأجاب" بقوله: قد صرح الولي أبو زرعة بأن غبار الرمل لا يسمى ترابا. وعبارة الحاوي كالروض والإرشاد وعبارة شيخنا في شرح البهجة أنه يسميه ومن ثم قال بعض شارحي الإرشاد: مثل بغبار الرمل ليفيد أنه من جنس التراب أو من طبقات الأرض, ويجوز أن يكون تنظيرا لما يجوز التيمم به من غير التراب بالتراب, وقد يحمل كلام أبي زرعة على أنه لا يسميه حقيقة, وكلام غيره على أنه يسميه مجازا, ويدل لذلك عبارة شرح الإرشاد المذكورة حيث جوز أن يكون تمثيلا وأن يكون تنظيرا, نعم قول الماوردي: الرمل ضربان: ما له غبار, فيجوز التيمم به؛ لأنه من جنس التراب. وما لا غبار له فلا, لعدم الغبار لا لخروجه عن اسم التراب ظاهر في أن كلا منهما يسمى ترابا حقيقة إلا أن يؤول ما ذكر, وبتأمل ما تقرر اتضح كلام المنهج مع كلام الشارح المحقق أعني الجلال المحلي, وأنه لا تنافي بينهما لصحة التيمم به سواء أقلنا إنه تراب حقيقة أم مجازا. وقول الغزي: لو سحق رمل وصار له غبار صح التيمم به بخلاف الحجر المسحوق يرده قولهم: لا يصح بالرمل الناعم لأنه حصى متصاغرة جدا كالحجارة المدقوقة فإن قلت: أي فرق بين المدقوق والغبار وإن تحققنا أنه من الرمل قلت: الفرق أن الغبار ليس حصى متصاغرة ولا قريبا من ذلك, وإنما هو شيء ينفصل عن تلك الحصى بواسطة التصاق بعضها ببعض أو بنحو ذلك ففيه معنى غبار التراب الحقيقي بخلاف الرمل المدقوق فإنه لم يخرج بالدق, وإن بولغ فيه عن كونه حصى متصاغرة جدا, فلم يكن فيه معنى غبار التراب والله أعلم.

 

ج / 1 ص -104-        "وسئل" - فسح الله في مدته - عن الفقد الشرعي, هل يكون كالفقد الحسي فيما إذا حمل المسافرون ما لا يحتاجون إليه في الحال ويحتاجون إليه في المآل حتى لا يشترط لصحة تيممهم تقدم طلب للماء, أو يقال شرط الفقد الحسي أن يعلم أن لا ثم ماء, فمتى حصل لهم علم بأن الماء لا يزيد على حاجتهم للشرب ونحوه استوى الفقدان بخلاف ما إذا بقي معه تردد في أنه هل يزيد على الحاجة أم لا وما الحكم فيها؟ "فأجاب" بأنهم صرحوا بأن من معه ماء واحتاجه لعطش محترم من نفسه أو غيره كرفقته ولو مآلا تيمم وإن ظن وجود الماء في المآل دفعا لما يلحقه من الضرر الناجز أو المتوقع, ومن ثم قال في الجواهر: "وليس المراد بالرفيق المخالط خاصة بل لو علم في القافلة من يحتاجه لعطشه حالا أو مآلا لزمه التيمم وصرف الماء إليه عند الحاجة" ا هـ. وظاهره أنه يجب التردد له إن أمكنه والذي يتجه أنه حيث علم أو غلب على ظنه احتياج أحد من القافلة إليه مآلا لزمه التزود له إن قدر عليه وإلا فلا ولا يجب على أحد الطلب إلا إذا توهم ماء في حد القرب أو الغوث بشرطه زائدا على ما يحتاجه الناس أو دوابهم لشربه, وإلا لم يلزمه طلب؛ لأنه عبث, وبما تقرر علم أن وجود الماء مع الاحتياج إليه حالا أو مآلا كفقده الحسي, وأنه متى علم أنه لا يزيد على حاجتهم كان كفقده فلا يجب طلبه, بل لا يجوز استعماله.
"وسئل" رضي الله عنه هل يجوز التيمم من تراب أرض الغير بغير إذنه؟ ومن عليه نجس, ولم يجد ماء هل يتيمم ويصلي؟ وإذا مات وعليه نجس ولم يوجد ماء هل يتيمم؟ "فأجاب" بقوله: لا يجوز التيمم من تراب أرض الغير الذي لا يظن رضاه بغير إذنه, ونظيره أنه لا يجوز تتريب الكتاب من أرض الغير بغير إذنه, ومن عليه نجس ولم يجد ماء يلزمه التيمم, والصلاة لحرمة الوقت ثم القضاء, وكذا يجب أن ييمم الميت الذي عليه نجاسة ولم يوجد ماء.
"وسئل" - نفع الله به - عن المتيمم إذا فرق نية التيمم على أعضائه هل تجزئه تلك النية مفرقة قياسا على تفريق نية الوضوء أو لا؟ "فأجاب" بقوله: لا يتأتى تفريق النية في التيمم كما يصرح به قول الزركشي وغيره: التفريق في الوضوء إنما يتأتى عند نية رفع الحدث, أي والطهارة عنه لأن التجزي إنما يظهر في هاتين بخلاف نحو نية التيمم, فإنه لا يمكن فيها تجز فهذا صريح واضح في أن التيمم لا يتأتى فيه تفريق؛ لامتناع نية الحدث والطهارة فيه إذ ليس فيه رفع حدث حتى تفرق فيه نية الاستباحة وهي لا تقبل التفريق إذ لا توجد إلا بعد تمام التيمم, وأما رفع الحدث في الوضوء, فإنه يوجد عقب فراغ كل عضو فجاز تفريق نيته.
"وسئل" رضي الله عنه هل يجوز التيمم من تراب أرض الغير بغير إذنه؟ "فأجاب" بقوله: لا يجوز على ما صرحوا به.

 

ج / 1 ص -105-        "وسئل" - نفع الله به - عمن لم يجد ماء, وعليه نجاسة هل يتيمم أم يصلي بغير تيمم وإذا مات وعليه نجاسة هل ييمم؟ "فأجاب" بقوله: يتيمم في الأولى وجوبا, وقولهم: لا يتيمم من عليه نجاسة قبل إزالتها فرضوه فيمن عنده ماء يريد غسلها به ولا ييمم الميت في الثانية لأن إزالة النجاسة عنه ليست شرطا لصحة الصلاة عليه, فلم يكن به حاجة للتيمم عنها بخلاف الحي.
"وسئل" رضي الله عنه هل يكفي من عليه جنابة وحدث أصغر تيمم واحد كما يكفيه غسل أم لا لضعف استباحة التيمم؟ "فأجاب" بقوله: نعم يكفيه لهما تيمم واحد وهذا واضح جلي, وإنما الذي يتردد النظر فيه أن خلاف اندراج الوضوء في الغسل هل يجري هنا بجامع أنهما طهارتان في كل من الموضعين حصلهما فعل واحد أو يفرق بأن الوضوء والغسل مختلفا الاسم والحقيقة؟ فجرى الخلاف حينئذ في الاندراج لأن من نظر إلى ذلك الاختلاف يمنع الاندراج, ومن يرى أن الغسل يحصل مقصود الوضوء وزيادة يجوزه, وهو الأصح لأن مبنى الطهارات على التداخل ولأن المدار فيها على تحصيل المقصود ولو بفعل واحد. وأما التيمم الذي عن الحدث الأصغر, والتيمم الذي عن الحدث الأكبر فحقيقتهما ومعناهما وصورتهما والمقصود منهما واحد فلا يتخيل حينئذ مع الاندراج إذ لا وجه له هنا, ولأنه يلزم على الأمر بتيممين متواليين حتى يستبيح ما تيمم له ما يشبه العبث لأنه إذا تيمم أولا لاستباحة الصلاة استباحها به, فإيجاب الثاني عبث لا فائدة فيه على أن عدم الاندراج هنا إنما يتصور تخيله على القول الضعيف أنه يكفي نية رفع الحدث أما على الأصح من أنه لا بد من نية الاستباحة سواء كان محدثا أم جنبا فلا يتصور ذلك, ومن ثم لو نوى الاستباحة عند حدث الجنابة وعليه الأصغر أو عكسه لم يضر اتفاقا.
"وسئل" رضي الله عنه عن قوله في شرحه للإرشاد في باب التيمم عند قوله لخطبة: فلا يستبيحهما معا إن تيمم لأحدهما على ما اقتضاه كلام الشيخين وغيرهما؛ لأن الخطبة وإن كانت فرض كفاية إلا أنهم راعوا القول بأنها نائبة عن ركعتين ا هـ كلامه, لكن في شرح الروض ما قد يقتضي خلاف ذلك, وكذا في بعض نسخ شرح المنهج وفي بعض آخر منه ما لفظه: فإن نوى فرضا فله نفل وصلاة جنازة بخلاف خطبة الجمعة ا هـ. فهل يقال تفارق الخطبة صلاة الجنازة وإن شاركتها في أنها فرض كفاية بانحصارها وبامتيازها بوقت وجمع مخصوصين أم لا؟ "فأجاب" بقوله يعلم من قولي في شرح العباب؟ "إلا الجمعة وخطبتاها فلا يستبيحهما معا إذا تيمم لأحدهما كما اقتضاه كلام الشيخين, وإن قال البلقيني: قول أصل الروضة لا يجمع بين خطبة الجمعة وصلاتها لم يسبقه إليه أحد. والصواب القطع بالجواز؛ لأنه وجهه بما لا يصح وبحث غيره أخذا من أن فرض الكفاية كالنفل إنه إن تيمم للخطبة لم يستبح الجمعة؛ لأنها فرض كفاية كصلاة الجنازة فلا يؤدي بالتيمم لها فرض عين أو

 

ج / 1 ص -106-        عكسه استباحها ويمكن توجيه كلام الشيخين بأنهما راعيا القول بأنهما نائبتان عن ركعتين, وإن كان ضعيفا إذ الضعيف قد يراعى كما لا يخفى وهذا أولى من الفرق بين صلاة الجنازة والخطبة بانحصارها وامتيازها بوقت وجمع مخصوصين, لأن هذا لا ينتج إلحاقها بفرض العين الأصلي إلا بتكلف, وظاهر ما تقرر أنه يصح لغير الخطيب التيمم للجمعة قبل الخطبة, لكن أخذ بعض المتأخرين من قولهم: لا يتيمم لفرض قبل وقت فعله أن ذلك لا يصح, وقد يؤيده ما مر من عدم صحة تيمم المصلي على الميت قبل طهره, والتيمم لتحية المسجد قبل دخوله وللسنة البعدية قبل فعل الفرض وعليه, فهل الإمام كذلك أو لا؟ الوجه الأول وحينئذ فما بحثه بعضهم من أنه لو تيمم للجمعة استباحهما ممنوع من حيث إن التيمم للجمعة لا يصح قبل الخطبة, وبذلك يقوى ما مر عن قضية كلام الشيخين لأنه إن تيمم للخطبة فواضح أو للجمعة فلعدم دخول وقت فعلها فلا يستبيح به شيئا أولهما فهل يغلب المصحح أو المبطل؟ الأوجه الأول قياسا على ما مر فيما لو نوى استباحة فروض" انتهت عبارة الشرح المذكور, وبها يتضح حكم المسألة وبيان صحة ما للناس فيها وفساده فتأملها. وقوله أو لا فلا يستبيحهما معا إذا تيمم لأحدهما لا ينافيه توقف صحة التيمم للجمعة على انقضاء الخطبة؛ لأن الأول جرى على ما اقتضاه الإطلاق والثاني مبين؛ لأن ذلك الإطلاق غير مراد به عمومه فتأمله.
"وسئل" - نفع الله به - عن قولهم: إن العطشان يأخذ الماء قهرا بقيمته من مالكه إذا امتنع من بذله بيعا وغيره هل لا بد من لفظ في أخذه بالقيمة كما في نظائره من الشفيع والمعير والملتقط أم لا؟ لأن ذلك من باب الإتلاف بالإذن الشرعي بعوض, وكذلك قولهم أيضا: لا يؤثر المالك على نفسه أحدا عند حاجته إلى الطهر لأن الإيثار إنما شرع في حظ النفس لا فيما يتعلق بالقرب, ولأنه يفضي إلى تلف مهجته, هل كذلك السابق في الميضأة ليس له إيثار غيره بتقديمه؛ لأنه إيثار فيما يتعلق بالقرب إذ للوسائل حكم المقاصد أم لا؟ ذلك مع سعة الوقت دون ضيقه, وكذلك المؤثر بفتح الثاء إذا كان له فضيلة علم أو صلاح فلا يمتنع فيه ويمتنع في غيره أو كان المؤثر بكسر الثاء نحو صبي؟ "فأجاب" بقوله إن الذي يتجه أنه لا يحتاج في أخذه ما اضطر إليه من نحو ماء وطعام ووقاية حر وبرد من مالكه الغير المضطر إليه الممتنع من بذله ولو بعوض مثله إلى لفظ كما أرشد إليه تعبير بعضهم عن هذا الأخذ بالغصب المقتضي أن المطلوب منه مجرد الاستيلاء عليه, ويؤيد ذلك ما صححه في المجموع أنه يلزمه الأخذ قهرا حيث لا خوف عليه فيه ولا يلزمه القتال عليه إلا إذا كان المالك كافرا كما بحثه الأذرعي كما لا يجب دفع الصائل المسلم, بل أولى فإيجاب الأخذ وجعله كدفع الصائل ظاهران في أنه لا يلزمه لفظ, وبهذين فارق وجوب اللفظ في الشفيع ونحوه؛ لأنه متملك حق الغير اختيارا منه فلزمه مقتضى التملك من لفظ يدل عليه ولا كذلك المضطر لأنه مكره شرعا على هذا الإتلاف فلم يناسبه وجوب لفظ يدل عليه،

 

ج / 1 ص -107-        والقياس في مسألة السابق إلى الميضأة أنه إن اتسع الوقت أو أمكن المؤثر بكسر الثاء الصلاة مع حقنه جاز له الإيثار إذ ليس فيه حينئذ تفويت حق لله تعالى بخلاف ما إذا ضاق الوقت وتعذرت عليه الصلاة في وقتها إلا بعد تفريغ نفسه فيما سبق إليه فإنه لا يجوز له الإيثار حينئذ بماء الطهر, بل أولى؛ لأن المؤثر بماء الطهر يمكنه الصلاة بالتيمم بعد استعمال المؤثر له, وهنا لا يمكن الصلاة مع الإيثار كما هو الفرض فإن قلت ما أفهمه هذا التقرير من جواز الإيثار مع سعة الوقت, وإن أدى إلى لحوق ضرر للمؤثر بالكسر مشكل؛ لأن التسبب في إضرار النفس, لا يجوز قال تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وقال صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك" قلت: محل هذا إن لم يكن له صبر على تحمل الضرر أما من له صبر على ذلك وقد رأى غيره اضطر إلى ذلك المحل الآن وإلا لحقه ضرر فيندب له إيثاره حينئذ بلا خلاف حيث كان مسلما وإن لم يكن فيه فضيلة علم ولا صلاح أخذا بعموم قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] نعم قال المتولي؟ "الأولى إن لم يحصل منه نفع للدين وللمسلمين أن لا يؤثر غيره" بل وقع في الإبانة والبحر أنه يلزم المؤثر بالفتح في نظير مسألتنا القبول, لكن نظر فيه ابن الرفعة, والنظر واضح جلي إذا كان المؤثر ممن يصبر أيضا فالوجه خلافه بل ينبغي ندب عدم القبول إبقاء لمهجة المؤثر بالكسر حيث آثر غيره عليها, أما إذا كان المؤثر بالفتح لا يصبر فلا يبعد وجوب القبول أخذا من تحريمهم عليه أنه يؤثر غيره, وعلى هذا القسم يحمل كلام الإبانة والبحر وبحث الزركشي أن محل جواز الإيثار إذا ظن سلامة نفسه رددته في شرح العباب بعد ذكر ذلك جميعه بأنه غفلة عن قول الإمام لا خلاف في جواز الإيثار, وإن خاف هلاك نفسه؛ لأن الحرمة شاملة للجميع وهو من شيم الصالحين ا هـ. ومراده بالجواز الجنس الأعم الصادق بالمندوب, وأشار الإمام بما علل به إلى أن هذا ليس من باب الإيثار بقربة حتى يكره أو يكون خلاف الأولى؛ لأن المغلب هنا رعاية حظوظ النفس والنظر إليها فكان الخروج عنها بإيثار الغير مع الصبر غاية في القربة, ولم يكن من الإيثار بالقربة بخلاف نحو تقديم الغير بموضعه في صف فاضل من غير مقتض لذلك, ومن ثم قلت في شرح العباب: "لا يقال قولهم يسن للمجرور مساعدة الجار له من الصف يخالفه قولهم: الإيثار بالقرب مكروه أو خلاف الأولى لأنا نقول ليس هذا إيثارا بقربة كما توهمه بعضهم, بل هو تحصيل فضيلة للغير مع بقاء فضيلته؛ لوجود خلف عنها هو فضيلة المعاونة على البر والتقوى المعادلة لفضيلة ما فات عليه من الصف, وإنما الإيثار بالقربة مثل أن يخرج من الصف قبل الصلاة ليدخل غيره موضعه ونحو ذلك من كل ما فيه تفويت فضيلة على النفس لا إلى بذل, ويستثنى من ذلك أخذا مما مر تقديم من هو أحق منه بتلك القربة كتقديم الأقرإ على الأفقه في الإمامة, وإن كان الأقرأ قد تقدم إليها على أن في ذلك من امتثال أمر الشارع ما يجبر فضيلة تقدمه والله أعلم.

 

ج / 1 ص -108-        "وسئل" - نفع الله به - عمن لزمه تيممان فأكثر لجراحات بأعضاء هل يجب تعيين ما وقع التيمم لأجله من جراحة وجه أو يد أو يكفي الإطلاق؟ "فأجاب" بقوله: الوجه فيمن عليه تيممات لجراحات أعضاء أنه لا يجب عليه تعيين كل جراحة في تيمم؛ لأن النية واحدة وهي الاستباحة ومن ثم كفت في نية التيمم للحدث وللجنابة ولم يجب عند اجتماعهما تعيينهما بل لا يتصور هنا تعيين لأنه في كل تيمم يقصد استباحة الصلاة مثلا, وحينئذ يتعذر أن يقصد تلك الاستباحة بطهر اليد أو الوجه مثلا, ومما يصرح بذلك ما حررته في شرح العباب أن تفريق نية الوضوء على أعضائه إنما يتصور في نية رفع الحدث والطهارة عنه لأن التجزي إنما يظهر في هاتين بخلاف نحو التيمم فإنه لا يمكن فيه التجزي فلم يمكن فيه التفريق, وإذا تقرر هذا اتضح عدم تصور التعيين في تلك التيممات فتأمله فإنه واضح والله أعلم.
"وسئل" - نفع الله به - هل يستوي فيما ذكروه في التيمم في الازدحام على البئر المقيم والمسافر أو ذلك خاص بالمسافر كما صورته في العباب؟ "فأجاب" بقوله: عبارة شرح العباب بعد أن بين أن قوله "مسافرون" خاص بمسألة البئر خلافا لما يوهمه صنيعه, ولا يعيد لأنه عاجز في الحال وجنس عذره غير نادر حتى في الأخيرة, أي وهي قول المتن "أو مقام خلافا لمن نازع فيه وبه فارق العاجز الذي معه ماء لا يجد من يوضئه به فإنه يتيمم ويعيد؛ لندرة عذره. وقد يستشكل عدم القضاء في مسألة البئر بأنه كمن كان بمحل يغلب فيه وجود الماء, وقد يجاب بأن عدم تمكنه منها في الوقت صيرها كالعدم. وإنما لم تؤثر القدرة هنا بعده قياسا على العاجز عن القيام وعن استعمال الماء فيه مع غلبة ظن قدرته عليهما بعده بخلاف ما لو تنجس ثوبه, وكان معه ماء لو اشتغل بغسله به خرج الوقت فإنه يجب انتظاره كما مر لأن البئر والثوب والمكان هنا ليس واحد منها في قبضته, والثوب ثم في قبضته فينتظر كما لو كان معه ماء يتوضأ به أو يغرفه من بئر, ولا مزاحم له وقد ضاق الوقت فإنه ينتظر ولا يصلي بالتيمم وخرج بالمسافرين في الأولى المقيمون فلا يصلي أحد منهم بالتيمم في الوقت لما مر في قوله: وإن كان مقيما لزمه طلب الماء..إلخ" انتهت. وعبارته ثم, وإن كان فاقد الماء مقيما لزمه طلب الماء إن أمن ما مر, وإن فات الوقت بطلبه, ولا يجوز له التيمم لندرة فقده ثم, أي في محل الإقامة, وهذا هو معنى تعليل الشيخين بقولهما؟ "لأنه لا بد له من القضاء, أي لتيممه مع القدرة على استعمال الماء وندرة فقده ثم فلا يرد جواز التيمم للبرد مع وجوب القضاء, وأفهم التعليل أن الحكم منوط بمن هو بمحل يغلب فيه وجود الماء ولو مسافرا إذ هو الذي يلزمه القضاء كما يأتي موضحا, فتعبير المصنف بالمسافر فيما مر وبالمقيم جرى على الغالب, وما أفهمه كلامه من أن المقيم يلزمه الطلب إذا لم يتيقن عدم الماء حواليه في حد القرب هو ما يصرح به كلامهم, وعبارة المجموع "إذا تيقن وجود الماء حواليه فله ثلاث مراتب: إحداها: أن يكون في حد القرب فيلزمه طلبه, الثانية: أن يكون

 

ج / 1 ص -109-        بعيدا بحيث لو سعى إليه لفاته وقت الصلاة فيتيمم, الثالثة: أن يكون بين المرتبتين فيزيد على حد القرب, ولا يخرج الوقت قبل وصوله فيتيمم أيضا هذا كله في حق المسافر, وأما المقيم فذمته مشغولة بالقضاء لو صلى بالتيمم, وليس له أن يصلي به, وإن خاف فوت الوقت لو سعى إلى الماء" انتهت ملخصة.
"وسئل" رضي الله عنه عن قولهم: لا قضاء على من تيمم ثم ظهر بئر خفية بقربه ما صورتها؟ وهل لا فرق بين أن تكون قديمة, والغالب وجود الماء فيها أو لا؟ ويكون خفاؤها يجعلها كالعدم أو ينزل منزلة الحائل والمانع كالسبع وخوف الوقوع لو استقى راكب السفينة؟ "فأجاب" بقوله: صورها في الشامل بأن تكون ببساط من الأرض ولا علامة عليها وحينئذ اتجه أنه لا فرق بين القديمة والحادثة, وما الغالب وجود الماء فيها وغيرها لأن ملحظ عدم الإعادة عدم تقصيره, وإذا كانت خفية كما ذكر لم يكن منه تقصير ألبتة, فتكون حينئذ كالمعدومة كرحل المضلول في رحال وقد أمعن في الطلب بخلاف ما إذا لم تكن كذلك, فإن الغالب وجودها بالطلب فإذا لم توجد دل ذلك على تقصير في الطلب فوجبت الإعادة والله أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه - ونفع بعلومه وبركته - عن قول الفقهاء: أن المسافر إذا تيمم وكان الماء بحد القرب منه ولو سعى إليه خرج الوقت تيمم ولا قضاء عليه, وظاهر كلامهم أنه سواء كان التيمم بمحل يغلب فيه وجود الماء أم لا فهل هو كذلك كما في راكب السفينة لو خاف الغرق لو استقى من البحر فإنه يتيمم ولا قضاء عليه أم لا؟ وذكروا أنه متى تيمم بمحل يغلب فيه وجود الماء أنه يجب عليه القضاء فما المراد بالمحل المذكور؟ أهو موضع الغوث وما حوله مما هو بعد الماء لو قدر وجوده تحت حوزته بحيث يسهل استعماله من غير طلب أم هو مقدر بحد القرب فما دونه؟ فإن قدر بحد القرب وقدرنا وجوده, وكان لو سعى إليه من محل القرب خرج الوقت, هل يقال القضاء حينئذ كما لو كان موجودا حقيقة أم لا يجب أو يجب في الصورتين معا؟ "فأجاب" - أعاد الله علينا من بركات علومه - بأن الذي دل عليه كلامهم في مواضع من باب التيمم أنه لا فرق في عدم القضاء على من ذكر أول السؤال بين أن يكون في محل يغلب فيه وجود الماء أو لا فمن تلك المواضع قولهم: ومن زوحم على بئر لا يمكن أن يستقي منها إلا واحد, وقد تناوبها جمع وعلم خروج الوقت ولو في بعض الصلاة قبل انتهاء النوبة إليه صلى بالتيمم ولا قضاء عليه لأنه عاجز في الحال, وجنس عذره غير نادر, وإنما لم تؤثر القدرة بعد الوقت كما في العاجز عن القيام وعن استعمال الماء فيه مع غلبة ظن قدرته عليهما بعده بخلاف ما لو تنجس ثوبه, وكان معه ماء لو اشتغل بغسله خرج الوقت فإنه يجب انتظاره؛ لأن البئر هنا ليست في قبضته, والثوب ثم في قبضته فينتظر كما لو كان معه ماء يتوضأ أو يغترفه من بئر ولا مزاحم

 

ج / 1 ص -110-        له وقد ضاق الوقت فإنه ينتظر, ولا يصلي بالتيمم. وقولهم: لو ضل رحله في رحال, وفيه الماء وأمعن في الطلب أو أدرج الماء في رحله ولم يعلم به, أو لم يعلم ببئر خفية هناك أو ضل عن القافلة أو الماء أو غصب رحله, وفيه الماء لم تلزمه الإعادة لما صلى بالتيمم, وإن وجد الماء لعدم تقصيره بخلاف ما لو نسي الماء في حد القرب الذي يلزمه طلبه منه أو أضله في رحله, فإنه يلزمه الإعادة, وإن أمعن في الطلب لوجود الماء حقيقة أو حكما, ونسبته في إهماله حتى نسيه أو أضله إلى تقصير. وقولهم: يحرم الطهر بالمسبل والمودع والمرهون والمغصوب, بل يجب التيمم ولا قضاء عليه, وإن تيمم بحضرة الماء المذكور كما لو تيمم بحضرة ما يحتاجه للعطش أو غيره, أو حال بينه وبينه حائل كسبع, وكما لو كان بسفينة, وخاف من البحر أو غيره؛ لأن وجود الماء المذكور كالعدم ويؤخذ من هذه الفروع التي ذكروها أن قولهم: من تيمم بمحل يغلب فيه وجود الماء لزمه القضاء مقيد بما إذا غلب ثم وجود الماء, ولم يمنعه من استعماله مانع حسي أو شرعي ومن ثم قلت في شرح مختصر الروض وقد يستشكل عدم القضاء في مسألة البئر بأنه كمن بمحل يغلب فيه وجود الماء, وقد يجاب بأن عدم تمكنه منها في الوقت صيرها كالعدم, وقلت في مسألة الماء المسبل في الشرح المذكور؟ "ولا قضاء إذا تيمم بحضرة الماء المسبل كما لو تيمم بحضرة ماء يحتاج إليه للعطش, ويؤخذ من ذلك أن قولهم: إذا تيمم بمحل يغلب فيه وجود الماء قضى مقيد بما يجوز استعماله وإلا فهو كالعدم" ا هـ. والمراد بالمحل الذي يغلب فيه وجود الماء أو فقده هو محل التيمم دون محل الصلاة كما جريت عليه في الشرح المذكور حيث قلت فيه في الأعذار الموجبة للقضاء: "أو تيمم لفقد ماء بمحل يندر فيه فقده ولو مسافرا لندرة فقده بخلافه بمحل لا يندر فيه ذلك بأن غلب فيه أو استوى وجوده وعدمه ولو مقيما, والأوجه أن العبرة في غلبة الفقد وعدمها بمحل التيمم دون محل الصلاة" ا هـ. ويؤيده قولهم: ولو مر بالماء في الوقت وبعد عنه بحيث لا يلزمه طلبه ثم تيمم لم يقض لفقده له عند التيمم, وإذا قلنا باعتبار محل التيمم, فالمراد به فيما يظهر محل الغوث, وكل محل نسب إليه مما يجب طلب الماء منه مع التوهم, وذلك المحل المنسوب إليه دون حد القرب لأنهم قدروا المحل الذي يجب الطلب منه مع التوهم بغلوة سهم ويسمى حد الغوث, وهو الذي يسمع الرفقة استغاثته منه مع اشتغالهم بأشغالهم وتفاوضهم في أقوالهم ويختلف ذلك باستواء الأرض واختلافها صعودا وهبوطا, وهذا دون حد القرب بكثير؛ لأنهم حدوه بالمحل الذي يقصده الرفقة للاحتطاب والاحتشاش, قالوا: وهذا فوق حد الغوث السابق, قال محمد بن يحيى صاحب الغزالي ولعله يقرب من نصف فرسخ فإن قلت: قضية ما ذكرته في الشرح المذكور أن المعتبر حد القرب لا حد الغوث, وعبارته "ولغي بيع الماء وهبته في الوقت بلا حاجة ولغي تيممه ما قدر على استرجاعه أو بعضه والتطهر به لبقائه على ملكه ووجوب استرداده, وقيد ذلك في الإرشاد بأن يقدر عليه بحد القرب فيما إذا كان مسافرا وأقره عليه

 

ج / 1 ص -111-        شارحوه وهو متجه, ومثل ذلك ما لو عرضت عليه الهبة أو نحوها مما يجب قبوله فلا يصح تيممه ما دام قادرا على قبول ذلك والتطهر به, وهو بحد القرب إذا كان مسافرا قلت: ليس قضيته ذلك لأنه هنا إنما ألغى ما ذكر بالنسبة له؛ لأن الماء باق على ملكه وقد تعدى بنحو بيعه مع احتياجه له للتطهر به فلزمه حيث كان بمحل القرب طلبه واستعماله لتيقنه بمحل القرب, ولا مانع من طلبه له, وأما مسألتنا فصورتها أنه لم يتيقن فيها ماء بمحل غوث ولا قرب وإلا لزمه طلبه وإنما المدار فيها على اعتبار المحل الذي من شأنه غلبة وجوده فيه أو غلبة فقده بحيث تيمم بمحل من شأنه غلبة الفقد فيه, وفيما ينسب إليه إلى حد الغوث فلا قضاء عليه أو بمحل من شأنه غلبة الوجود أو استواء الأمرين فيه وفيما ينسب إليه مما ذكر لزمه القضاء, فالاعتبار هنا لذلك المحل المذكور إنما هو لأجل لزوم القضاء وعدمه, والاعتبار فيما مر بحد القرب إنما هو لأجل لزوم الطلب بشرط تيقن وجود الماء فيه وإلغاء التيمم وغيره مما مر, فالملحظ في المسألتين مختلف كما تقرر فلا يشكل عليك إحداهما بالأخرى وبما تقرر علم الجواب عن قول السائل - نفع الله به -: فما المراد بالمحل المذكور. إلخ, وعن قوله: فإن قدر بحد القرب إلى آخره, أما الأول فواضح جوابه مما مر, وأما الثاني فكذلك لما علمت أنه ليس مقدرا بحد القرب بالنسبة لوجوب القضاء وعدمه بل بالنسبة لوجوب الطلب وعدمه, وأنه ليس المراد تقدير وجوده في الأول بل اعتبار الغالب في ذلك المحل من غلبة الفقد أو الوجود ولا في الثاني, بل المراد فيه وجوده ولو وهما في حد الغوث وحقيقة في حد القرب مع الأمن على نحو مال ومع سعة الوقت والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه عما لو غسل الجنب الصحيح وتيمم عن الجريح, ثم أحدث حدثا أصغر وتوضأ أو لم يحدث وبرئ هل يحل المكث في المسجد والقراءة بظهر الغيب دون غسل الجريح؟ "فأجاب" - نفع الله بعلومه - بأن الذي صرحوا به أن حدث المتيمم للجنابة أو الحيض ينقض طهره الأصغر دون الأكبر, فيحرم عليه ما يحرم على المحدث حدثا أصغر ويستمر تيممه عن الحدث الأكبر حتى يطرأ عليه ما يبطله. قال النووي وغيره؟ "ولا يعرف جنب تباح له القراءة أو المكث في المسجد دون نحو الصلاة ومس المصحف إلا هذا" ا هـ. وبهذا يعلم أن المتيمم المذكور إن أحدث حدثا أصغر جاز له القراءة والمكث في المسجد, وإن لم يتوضأ وإن برئ لم يجز له ذلك, والفرق أن البرء يبطل التيمم بخلاف المحدث حدثا أصغر فإنه لا يبطل التيمم عن الجنابة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عن التراب المتناثر بعد إيصاله محل التيمم أن شرط الاستعمال فيه أن يعرض عنه كما قاله الرافعي في العزيز وحذفه من الروضة قال في المهمات: وحينئذ فلو انفصل فبادر إلى أخذه من الهواء وتيمم به صح" ا هـ. قال بعض الأئمة؟ "وهذا الذي فهمه الإسنوي من كلام الرافعي غير ظاهر وعلى مقتضاه, فلا يتقيد بالأخذ من الهواء أو من

 

ج / 1 ص -112-        الأرض, وهذا بعيد بل الصواب أنه إذا انفصل عن العضو وصار في الهواء أو على الأرض أو على باقي بدن المتيمم أنه يحكم باستعماله كالماء المنفصل بلا فرق كما هو صريح كلام الشيخين وغيرهما من الأصحاب وليس مراد الرافعي ما توهمه الإسنوي في المهمات" ا هـ فهل ذلك صحيح أم لا؟ "فأجاب" بقوله: ما قاله الرافعي ضعيف وما ذكره في السؤال عن بعض الأئمة كلام سقيم أما أولا: فالذي فهمه الإسنوي من كلام الرافعي فهو الصواب في الفهم, وأما ثانيا: فقوله: "وعلى مقتضاه..إلخ" غير صحيح بل مقتضى تقييد الرافعي بما إذا انفصل بالكلية وأعرض عنه أنه إذا وصل إلى الأرض وأعرض عنه امتنع الإجزاء به حتى عند الرافعي. وأما ثالثا: فقوله: "بل الصواب..إلخ" فيه خلط طريقة بطريقة إذ هذا التصويب إنما يليق بطريقة النووي لا بطريقة الرافعي. وأما رابعا: فقوله: "كما هو صريح كلام الشيخين" غير صحيح لما علمت من الفرق بين طريقتهما. وأما خامسا: فقوله: وليس مراد الرافعي..إلخ" غير صحيح أيضا لما تقرر أولا يتضح ذلك كله مع استفادة أمور أخرى لم تذكر بسوق عبارة شرح العباب مع متنه, وهي ولا يجوز أيضا بمستعمل وهو ما وصل لوجهه ويديه في حالة التيمم, وإن تناثر بعد ذلك عن عضوه أو انفصل عنه بالكلية خلافا لتقييد الرافعي المتناثر بما إذا انفصل بالكلية, وأعرض عنه وإلا لم يكن مستعملا, وذلك قياسا على المتقاطر من الماء بجامع أنه قد تأدى بكل منهما فرض, نعم قد يؤيد تقييده بذلك جواز رفع اليد ووضعها الآتي إلا أن يفرق بأن ذلك يحتاج إليه ففي تكليفه الاحتراز عنه مشقة وبخلاف هذا. وقيل: المتناثر غير مستعمل مطلقا؛ لأن التراب لكثافته إذا علقت منه صفحة بالمحل منعت التصاق غيرها به, وما يلتصق به لا يتناثر بخلاف الماء, فإنه لرقته يلاقي جميع البدن, ورد بأن الملتصق والمتناثر ترددان حال المسح من محل لآخر, فسقط الفرض بالجميع واستشكل الزركشي كالأذرعي الخلاف بأنهما لم يتواردا على محل واحد إذ تعليل الراجح يقتضي التصوير بأنه أصاب العضو, وتعليل مقابله يقتضي عكسه, وقد يجاب بأن محله ما إذا لم يتيقن اتصاله بالعضو ولا عدمه, فالضعيف ينظر إلى الكثافة فيحكم بواسطتها على المتناثر بأنه لم يتصل فلا يكون مستعملا, والراجح ينظر إلى أن المسح يقتضي التردد والاتصال فيحكم عليه بالاستعمال بواسطة ذلك ومن ثم لو تيقن أنه لم يصبه, وإنما تناثر بعد أن لاقى ما لصق به كان غير مستعمل باتفاق الضعيف ومقابله, وبما تقرر علم أن الملصق بالمحل مستعمل قطعا كما أشار إليه الشيخان, لكن حكي فيه وجه, وهو قياس ما مر في الماء من أنه ما دام مترددا على العضو لا يحكم باستعماله, ومن ثم قال في الخادم: المراد بالملتصق الملتصق بالعضو ثم ينفصل أما الملتصق حال التصاقه فكالماء قبل الانفصال ليس مستعملا إذ له إمراره على ما لم يمسه على أنه لا فائدة في الحكم لعدم استعماله لتعذره لذلك للفرض وغيره إلا بالاتصال إذ لا بد من نقله لواحد" انتهت عبارة الشرح المذكور, وقد اشتملت على فوائد يعرفها من تأملها حق التأمل.

 

ج / 1 ص -113-        "وسئل" - نفع الله به - عمن نذر الوتر إحدى عشرة أو الضحى ثمانية فهل له أن يصلي كل الوتر أو كل الضحى بتيمم واحد عند العجز عن استعمال الماء مع التسليم من كل ركعتين إذ يقال: إنه لزمه بالنذر المذكور فريضة لا فرائض, ومجرد التسليم لا تصير به الفريضة فرائض, وإن دخلها التعدد صورة أم لا, وهل فرق بين الضحى والوتر؟ "فأجاب" بقوله: إن الذي يتجه أنه لا يلزمه تكرير التيمم بتكرير الفصول من نحو الوتر أو الضحى؛ لأنه مع ذلك يسمى صلاة واحدة منذورة ومما يستأنس به لذلك قولهم إن تعلم الجنب فرضا عينيا كالفاتحة يكفي فيه تيمم, فكما لم يوجبوا هنا التيمم لكل آية مع انفصالها عن غيرها نظرا إلى أن الفاتحة بكمالها تسمى بالنسبة لتعلمها فرضا واحدا فكذلك الوتر المنذور يسمى صلاة واحدة, وإن فصلت أجزاؤه, ومما يستأنس به لذلك أيضا قولي في شرح العباب؟ "والظاهر أن القراءة كصلاة الجنازة فإن فرض تعينها لخوف نسيان فهل يستبيح منها بتيممه لها ما نواه وإن تعدد المجلس أو ما دام المجلس متحدا, أو ما لم يقطعها بنية الإعراض كل محتمل والذي ينقدح الثالث, ولا يقال إن قراءة كل آية فرض فيحتاج إلى تيمم آخر لما فيه من المشقة التي لا تطاق" انتهت.

باب الحيض.
"وسئل" - نفع الله بعلومه ومتع بحياته فيما إذا رأت المرأة الدم في باطن فرجها هل له حكم الحيض في طروه, ولا يحكم بانقطاعه إذا بقي بعد ظهوره في حد الباطن, وإنما الحكم لما وقع في حد الظاهر وما حد الباطن؟ فإن قلتم: الحكم للظاهر, فأكثر النساء أو كلهن إذا رأين الدم في حد الظاهر ثم فتر وبقي في حد الباطن يحكمن بأنه كله حيض, وربما يفتى بذلك ولا شك أن الدم فترات فتارة يكون في حد الظاهر وتارة في حد الباطن بينوا ذلك كله بيانا شافيا يرخى فيه عنان العبارة مستوفى فيه لطائف الإشارة أثابكم الله الجنة بمنه وكرمه؟ "فأجاب" رضي الله عنه بأن قضية كلام شرح المهذب أن الدم في باطن الفرج له حكم الحيض وعبارته قال أصحابنا: القولان في التلفيق "هما فيما إذا كان النقاء زائدا على الفترات المعتادة بين دفعات الحيض, فأما الفترات فحيض بلا خلاف, ثم إن الجمهور لم يضبطوا الفرق بين حقيقتي الفترات والنقاء, وهو من المهمات التي تأكد الاعتناء بها, ويتأكد الاحتياج إليها, ويقع في الفتاوى كثيرا وقد رأيت ذلك ووجدت ضبطه في أشد مظانه وأحسنها وأكملها وأجودها فنص الشافعي رضي الله عنه في الأم في باب الرد على من قال: لا يكون الحيض أقل من ثلاثة أيام. والشيخ أبو حامد الإسفراييني وصاحبه القاضي أبو الطيب الطبري وصاحبه الشيخ أبو إسحاق مصنف الكتاب, أي المهذب في تعاليقهم على أن الفترة هي الحالة التي ينقطع فيها جريان الدم ويبقى لون خفيف بحيث لو أدخلت في فرجها

 

ج / 1 ص -114-        قطنة لخرج عليها أثر الدم من حمرة أو صفرة أو كدرة فهي في هذه الحالة حيض قولا واحدا طال ذلك أو قصر, والنقاء هو أن يصير فرجها بحيث لو أدخلت القطنة فيه لخرجت بيضاء, فهذا ما ضبطه به الإمام الشافعي رضي الله عنه والشيوخ الثلاثة, ولا مزيد عليه في وضوحه وصحة معناه من الوثوق بقائله ا هـ. المقصود منها وهي ظاهرة فيما ذكرته من أن الدم الذي في باطن الفرج وهو ما لا يظهر بالجلوس على القدمين حيض إذا وجد في وقت إمكانه ونقل الزركشي في الخادم في الكلام على رطوبة الفرج عن بعضهم ما هو ظاهر في ذلك أيضا, ولا نظر لما لا يدل له أيضا؛ لأنه من حيثية أخرى كما يعلم بتأمله, فإن قلت: قد ينافي ذلك قول شرح المهذب: "أيضا النجاسة المستقرة في الباطن لا حكم لها ما لم يتصل بها شيء من الظاهر مع بقاء حكم الظاهر عليه قلت: لا منافاة, لأن ذلك من حيث الحكم على البدن وما اتصل بالنجاسة وعدمها, وإنما يكون ذلك في نجاسة ظاهرة أو في حكمها بأن اتصل بها ما ذكر. وأما الحكم بحدث الحيض وأحكامه المترتبة عليه, فمداره على العلم بوجود دم في الفرج يمكن كونه حيضا بحيث إن وجد فيه ذلك حكم بالحيض وحيث لا فلا, والفرق بين النجاسة والحيض أن النجاسة دائمة في الباطن فلو ثبت لها التنجس لتعذر تطهيرها وكان في ذلك من المشقة ما لا يخفى, وأما الحيض فهو يطرأ ويزول فحيث وجد في الفرج حكمنا, وإن لم يخرج إلى ظاهره وهو ما يظهر بالجلوس على القدمين إذ لا مشقة في الحكم حينئذ بأنه حيض, وتعليلهم حرمة وطء الحائض بتلوث الذكر بالدم ظاهر أيضا فيما تقرر من ثبوت أحكام الحيض للدم الموجود في الفرج مطلقا على أن لك أن تقول لا فرق بين المسألتين, فإنه لا يعلم هنا وجود الدم إلا بأن يظهر على نحو قطنة أو أصبع, وحينئذ فقد اتصل به ظاهر فيكون كالنجاسة الباطنة إذا اتصل بها ظاهر فإن قلت: صرحوا بأن المني لو نزل إلى قصبة الذكر فحبسه حتى ارتد إلى محله ولم يخرج منه شيء لم يثبت له حكم فهلا كان الحيض كذلك؟ قلت: فرق ظاهر بينهما فإن المني إذا ارتد ولم يخرج منه شيء لم يظهر له أثر بالكلية, وأما الحيض فإنه إذا وجد بباطن الفرج فعرفته بالخروج على نحو قطنة ظهر له أثر فلا يقاس هذا بذاك.
"وسئل" رضي الله عنه عن المرأة إذا تحيرت في قدر الحيض إذا صامت, وهي مع ذلك ترى طهرا ويومين حيضا أو بضد ذلك, ولم تعرف ما كانت عليه واشرحوا لنا - شرح الله صدوركم - قوله في المنهاج؟ "تصوم شهرين يصح لها من كل أربعة عشر يوما وتصوم ثمانية عشر يوما من الثالث..إلخ" وما صورة ذلك؟ "فأجاب" - نفع الله بعلومه وبركته - بأن المتحيرة حيث أطلقت أريد بها الناسية لعادتها قدرا ووقتا سواء كانت ترى يوما نقاء ويوما حيضا أو عكسه أم لا, وحكمها أنه يلزمها ما يلزم الطاهرة, ويحرم عليه الوطء ونحوه كالحائض فيلزمها فعل الصلوات وقضاؤها بالكيفية التي ذكرها الأئمة, ويلزمها صوم رمضان فإذا صامته حصل لها منه أربعة عشر إن كمل, وثلاثة عشر إن نقص؛ لاحتمال أن حيضها خمسة عشر

 

ج / 1 ص -115-        وأنه يقبل في يوم وينقطع في يوم فيفسد ستة عشر يوما, ثم تصوم بعده ثلاثين يوما ولاء فيحصل لها منها أربعة عشر يوما فيبقى عليها يومان, ولها في كيفية قضائهما صور منها: أنها تصوم يوما وخامسه وعاشره وسابع عشره وحادي عشريه أو تصوم يوما وثالثه وخامسه وسابع عشره وتاسع عشره أو يوما ورابعه وسادسه وسابع عشره ويوم العشرين منه, وتعليل ذلك تضيق الورقة عنه فإن صامت على غير النحو المذكور لم تبرأ كأن صامت الأول وثالثه وسابع عشره وتاسع عشره أو الأول وثالثه وسابع عشره وتاسع عشره وحادي عشريه أو صامت الأيام الخمسة من خمسة عشر يوما أو الأول وثانيه وثالثه وسابع عشره وثامن عشره أو الأول وثالثه وخامسه وسابع عشره وثامن عشره, وتوجيه ذلك مذكور في المطولات والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - نفع الله بعلومه وبركته - عن امرأة عادة حيضها ستة أيام وطهرها ثمانية عشر أو سبعة عشر يوما فرأت الدم في دور حيضها المعتاد ثم طهرت أحد عشر يوما, ثم رأت الدم ثمانيا وانقطع ولا تمييز لها فما حكم الدم الذي رأته بعد الأحد عشر هل هو استحاضة حتى يبلغ اليوم الذي كانت تحيض فيه أو نأخذ لها منه أربعة أيام تكملة للطهر والباقي حيض؟ أفتونا مع التوضيح, فالضرورة داعية إلى ذلك أثابكم الله الجنة بمنه وكرمه. "فأجاب" بقوله: الأصح فيها أن أربعة من الدم العائد طهر والباقي حيض أخذا مما في الروضة والمجموع كالعزيز, وعبارة المجموع؟ "أما بيان قدر الطهر إذا تغيرت العادة ففيه صور فإذا كان عادتها خمسة من أول الشهر فرأت في شهر الخمسة الثانية فقد صار دورها المتقدم على هذه الخمسة خمسة وثلاثين منها خمسة حيض وثلاثون طهر فإن تكرر هذا ثم استحيضت وأطبق الدم المبهم ردت إلى هذه أبدا اتفاقا, فيكون لها خمسة حيضا وثلاثون طهرا, وإن لم يتكرر بأن استمر الدم من أول الخمسة الثانية ففيه خلاف. والأصح أن حيضها في هذا الشهر خمسة من أول الدم المبتدئ, وهي الخمسة الثانية ثم إن أثبتنا العادة بمرة جعلنا دورها خمسة وثلاثين منها خمسة حيض والباقي طهر, وهكذا أبدا وإن لم نثبتها بمرة, فالصحيح أن طهرها خمسة وعشرون بعد الخمسة؛ لأن ذلك هو المتكرر من طهرها ثم قال: أما إذا كان عادتها خمسة من أول الشهر فرأت الدم في الخمسة الثانية, وانقطع ثم عاد في أول الشهر فقد صار دورها خمسة وعشرين فإن تكرر ثم استحيضت ردت إلى ذلك, وجعل دورها أبدا خمسة وعشرين, وإن لم يتكرر فالخمسة الأولى حيض اتفاقا. وأما الطهر, فإن أثبتنا العادة بمرة فهو عشرون وإلا فهو خمسة وعشرون أما إذا حاضت خمستها المعهودة أول الشهر ثم طهرت عشرين ثم عاد الدم في الخمسة الأخيرة من هذا الشهر فقد تقدم حيضها وصار دورها خمسة وعشرين, فإن تكرر ثم استحاضت ردت إليها وجعل دورها أبدا خمسة وعشرين, وإن لم يتكرر الدم بأن استمر الدم من الخمسة الأخيرة قال الرافعي: فحاصل ما تخرج من طرق الأصحاب في هذه المسألة ونظائرها أربعة أوجه: أصحها تحيض

 

ج / 1 ص -116-        خمسة من أول الدم وتطهر عشرين, وهكذا أبدا ثم قال: أما لو كانت المسألة بحالها فحاضت خمستها وطهرت أربعة عشر يوما ثم عاد الدم واستمر فالمتخلل بين خمستها, والدم ناقص عن أقل الطهر ففيها أربعة أوجه: أصحها أن يوما من أول الدم العائد استحاضة تكميلا للطهر وخمسة بعده حيض وخمسة عشر طهر وصار دورها عشرين. والثاني: أن اليوم الأول من الدم العائد استحاضة ثم العشرة الباقية من هذا الشهر مع خمسة من أول الذي يليه حيض, ومجموعه خمسة عشر, ثم تطهر خمسة تمام الشهر وتحافظ على دورها القديم. والثالث: أن اليوم الأول من الدم العائد استحاضة وبعده خمسة حيض وخمسة وعشرون طهر وكذا أبدا. والرابع: أن جميع العائد إلى آخر الشهر استحاضة ويفتتح دورها القديم من أول الشهر السابق" انتهت عبارته ملخصة, والصورة الأخيرة فيها المحكي فيها هذه الأوجه الأربعة هي نظيرة الصورة المذكورة في السؤال فيجري في تلك ما ذكروه في هذه مما تقرر كما أشرت إلى ذلك بقولي أولا؟ "الأصح فيها أن أربعة..إلخ" وما عبرت عنه بالطهر عبر عن نظيره في المجموع بالاستحاضة ولا تنافي؛ لأن أيام الاستحاضة أيام طهر كما هو جلي والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - فسح الله في مدته ونفع بعلومه وبركته - في امرأة معتادة غير مميزة لها حيض وطهر وهي تعلمهما قدرا ووقتا, وعادتها تحيض في أول كل شهر سبعة أيام, ثم تطهر ثم جاوز حيضها خمسة عشر يوما غير العادة شهرا, ثم الثاني كذلك, ثم الثالث كذلك فإذا استمر هكذا في كل شهر إلى ما لا ينتهي هل ترد إلى عادتها الأولى قدرا ووقتا وهي سبعة أيام من كل شهر؟ فإذا قلتم: نعم تغتسل بعد السبع وتصوم وتصلي مثلا أو تصبر حتى تجاوز الخمسة عشر يوما ثم تغتسل وتصلي وتقضي ما عليها من الصلوات الفائتة بعد السبعة إلى خمسة عشر, فما فائدة قولهم: تثبت العادة بمرة, والحال قد ثبت ذلك عندهما بمرات عديدة؟ وما الحكم أيضا فيما إذا اضطرب عليها وصار مرة يجاوز خمسة عشر ومرة لا يجاوزها؟ "فأجاب" - أمدنا الله من مدده - بقوله: نعم ترد إلى عادتها وهي السبعة المذكورة, فعقبها تغتسل ولها حكم الطاهرة في الصلاة والصوم والوطء وغيرها ولا تمسك إلى آخر الخمسة عشر؛ لأنا علمنا بالشهر الأول وما بعده أنها مستحاضة, والاستحاضة علة مزمنة, فالظاهر دوامها ومتى انقطع في دور للخمسة عشر أو دونها تبين أن الكل حيض فتعيد الغسل وتقضي ما صامته مع الدم لبطلانه. ولا تأثم بالصوم والصلاة والوطء الواقعة بعد العادة, وإن بان وقوعها في الحيض بأنها كانت جاهلة أن ذلك الزمن حيض لأنه لم يتبين لها ذلك إلا بالانقطاع قبل مجاوزة الخمسة عشر بل كانت مأمورة بعد السبع بنحو الصلاة ظنا أن دمها يجاوز الخمسة عشر على منوال ما سبقه, فلما انقطع قبل مجاوزتها ألزمناها بحكم الطاهرات فيما بعد الرد, وهي السبعة هنا من غير أن نؤثمها لعذرها كما تقرر والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

 

ج / 1 ص -117-        "وسئل" رضي الله عنه في امرأة تحيض في نصف كل شهر خمسة أو ستة أيام, واستمر ذلك معها برهة من الزمان, ثم أخل بها فصار يطرقها في آخر كل شهر يوما وليلة, واستمر كذلك برهة من الزمان, ثم أخل بها أيضا فصار يطرقها من أول كل شهر مرة خمسة أيام كالعادة ومرة يوما وليلة ومرة يجاوز خمسة عشر يوما ومرة يوما وليلة ومرة يكون الطهر بين الدمين دون خمسة عشر يوما, وتحيرت بسبب ذلك فصارت لا تعرف أيام حيضتها قدرا ولا وقتا, فهل يكون حكمها كالمتحيرة أو المعتادة التي ترد إلى عادتها الأولى وهي خمسة أيام في نصف كل شهر كما تقدم و كيف تعرف انقضاء عدتها وصيام شهر رمضان؟ وكم تصوم من شهر رمضان؟ وكم يبقى عليها أوضحوه لنا وبينوه لنا بيانا شافيا أثابكم الله الجنة؟ "فأجاب" - متعنا الله بحياته - بقوله لها حكم المتحيرة, فتعمل أعمالها وتعتد بثلاثة أشهر ما لم تحفظ مقدار دورها, فإن حفظته أو قالت أعلم أنه لا يزيد على ستة مثلا اعتدت بثلاثة أدوار وتصوم شهر رمضان ويحسب لها منه أربعة عشر يوما إن كمل وإلا فثلاثة عشر لأن الأسوأ أن يقدر ابتداء الدم في يوم وانقطاعه في آخر مع فرض أنه أكثر الحيض فيفسد عليها منه ستة عشر يوما والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عن امرأة تحيض, وهي حافظة للقدر والوقت وتختلف عليها أوقاته فمرة في أول الشهر ومرة في وسطه ومرة في آخره ومرة ينقص عن القدر المعتاد, ولكنه أكثر من أقل الحيض, ومرة يزيد على العادة ولا يجاوز خمسة عشر فما حكمها في الطهارة والصلاة والصيام والوطء فكيف يعرف حيضها من طهرها, والحال أنها ليست متحيرة؟ أوضحوا لنا ذلك؟ "فأجاب" رضي الله عنه بقوله: الحافظة المذكورة إذا وقع لها تمييز أو انقطاع مخالف للعادة, ولم يترتب عليه نقص عن أقل الحيض, ولا زيادة على أكثره تعمل بذلك التمييز أو الانقطاع؛ لأن محل العمل بالعادة حيث لم يعارضها ما هو أقوى منها, وكل من ذينك المذكورين أقوى منها فقدما عليها فإذا انقطع دون قدر العادة لزمها أن تفعل ما يفعله الطاهر ولا يجوز لها أن تنتظر قدر العادة حينئذ, وإذا زاد على قدر العادة ولم يجاوز خمسة عشر لزمها أن تبقى على أحكام الحائض لما قررته أنه عارض العادة ما هو أقوى منها فقدم عليها, ومتى انقطع وعاد قبل خمسة عشر يوما بان أن العادة حيض فتجري على أحكامه, وإن خالف ذلك عادتها والله أعلم.
"وسئل" أيضا رضي الله عنه عن امرأة كان من عادتها أنها إذا ولدت تقعد أربعين يوما لم يأتها الطهر, فلما أن ولدت الولد الثاني لم تنظر بعد ثلاثة أيام شيئا من عادتها التي كانت عليها, وهي الأربعين فهل تغتسل وتصلي إذا لم تر الدم, وإذا انقطع عنها أياما, ثم عاد إليها فما الحكم فيما صلته, هل تقضيه أم لا؟ وكيف تصنع إذا كانت تحيض, ثم انقطع حيضها عن مرض وأرادت أن تتزوج, وقد حاضت حيضة أو حيضتين؟ أفتونا؟ "فأجاب" رضي الله عنه بأنه.

 

ج / 1 ص -118-        حيث انقطع دم الحائض أو النفساء بأن كانت بحيث لو أدخلت القطنة إلى فرجها خرجت بيضاء نقية وجب عليها أن تغتسل, وتصلي وجاز للزوج أن يطأها سواء انقطع دمها قبل عادتها أم لا, فإذا عاد قبل الخمسة عشر يوما من ولادتها أو حيضها تبينا أن أيام الانقطاع حيض أو نفاس فلا تقضي صلوات تلك الأيام إن كانت أثمت وتركتها. وأما إذا عاد في مسألة النفاس بعد الخمسة عشر يوما فهو حيض, وزمن الانقطاع طهر فتقضي صلواته إن فاتتها, وإن عاد في مسألة الحيض بعد الخمسة عشر يوما فإن كان من حين انقطاعه إلى حين عوده خمسة عشر يوما, فهو حيض جديد. ومدة الانقطاع طهر فتقضي صلواته إن تركتها, وإن كان دون خمسة عشر يوما فهو دم فساد, ومن انقطع حيضها لمرض لم يجز لها أن تتزوج إذا لزمتها عدة حتى يمضي عليها ثلاثة أقراء بأن تشرع في الحيضة الثالثة إن لزمتها العدة, وهي طاهر أو في الرابعة إن لزمتها وهي حائض هذا إن كانت من ذوات الأقراء فتصبر لذلك, وإن مضى عليها سنون كثيرة حتى تيأس إلى أن تصل إلى اثنتين وستين سنة فحينئذ تعتد بثلاثة أشهر, ويجوز لها أن تنكح والله أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه عن المستحاضة التي تعتاد الانقطاع والعود, ويسع زمن الانقطاع وضوء الصلاة فهل وضوءها في زمن الانقطاع وضوء ضرورة حتى لا تكفيها نية رفع الحدث أم وضوء رفاهية فتكفيها نية رفع الحدث؟ "فأجاب" رضي الله عنه بقوله: إن وضوءها وضوء رفاهية كما صرحوا به مع زيادة حكم آخر وعبارتي في شرح الإرشاد "ويجب عليها انتظار انقطاع اعتادته أثناء الوقت إن وثقت بانقطاعه فيه بحيث تأمن خروجه لاستغنائها حينئذ عن الصلاة بالحدث والنجس, فإن رجت انقطاعه فيه ولم تثق, فالتقديم أفضل كما اقتضاه كلام الروضة وإن رجح الزركشي وجوب التأخير, والسلس كالمستحاضة في جميع ما مر.
"وسئل" رضي الله عنه أيضا وفسح في مدته عمن إذا بال لا ينقطع بوله إلا بعد حين أو زمن طويل حتى لو بال قبيل الغروب أو قبيل الطلوع لا ينقطع بوله إلا بعد خروج وقت المغرب أو طلوع الشمس فهل له حكم دائم الحدث؟ فعليه أن يعصب ويصلي أو يصبر إلى أن ينقطع ويصلي بعد خروج الوقت, ويكون ذلك رخصة له في إخراج الصلاة عن وقتها "فأجاب" رضي الله عنه بقوله أنه يلزمه أن يتطهر طهر السلس بشروطه, ويصلي في الوقت مع حدثه ولا إعادة عليه كما صرحوا به, وضابط السلس الذي ذكروا فيه العصب والحشو والموالاة وغيرها هو من لا يمضي عليه جزء من الوقت يسع الطهر والصلاة بلا حدث سواء كان حدثه كذلك في الوقت الآخر وهكذا أم اختص ذلك ببعض الأوقات دون بعض والله أعلم.
"وسئل" رضي الله تعالى عنه وفسح في مدته عمن رعف ودام رعافه فهل يصلي معه أو

 

ج / 1 ص -119-        ينتظر انقطاعه, وإن فات الوقت؟ "فأجاب" بقوله: الظاهر من كلامهم أنه كالسلس فحيث ظن خلو قدر ما يسع الصلاة من الوقت عن النجاسة وجب عليه إيقاع الصلاة فيه وإلا صبر إلى أن يبقى من الوقت ما يسع الصلاة ونحو طهرها فتجب عليه حينئذ مع النجاسة لحرمة الوقت.
"وسئل" رضي الله عنه عن متحيرة عليها قضاء يومين فصامت مفرقة أول الشهر وخامسه وحادي عشره وسابع عشره والثاني والعشرين منه فهل تخرج عن العهدة بيقين مع أنه لم يصدق على صومها أن كلا من الآخر سابع عشر نظيره ولا خامس ثانيه؟ "فأجاب" بقوله: نعم تخرج عن العهدة بيقين لأنها صامت سابع عشر الأول, وهو واضح ولأنه يجوز لها أن تؤخر نظير اليوم الثاني إلى خامس عشر أو الحادي عشر فتصومه أو تصوم يوما من الأربعة التي قبله وبعد العشرين, فجواز التأخير لخامس عشر الثاني ليس بمعنى أنه يتحتم صومه دون ما قبله, بل بمعنى أنه غاية لجواز التأخير حتى يمتنع تأخير الصوم إلى ما بعده, فصومها الثاني والعشرين هنا صحيح؛ لأنه أحد الأربعة التي قبل خامس عشر ثاني الخامس.
"وسئل" رضي الله عنه عن امرأة عادتها أن تحيض ستا أول الشهر وتطهر باقيه أربعا وعشرين فحاضت ستتها ثم طهرت إلى ستة وعشرين, ورأت الدم فيها إلى يوم الحادي والثلاثين بليلته, ثم نقيت يوم الثاني أربعا, ثم دميت ستا, فهل حيضها الست الأول من آخر الشهر لكونها بعد طهر صحيح؟ ويوما منها من العادة أو الست الأخيرة لتأخرها وقربها مع اتصال دمها أو آخر الدم الأول يوما ويوما أول الأخير وما بينهما من النقاء لكونها أيام العادة فإن قلتم: الست الأخيرة فلو لم يكن أولها من أيام العادة بأن رأته يوم سبع يكون كذلك أو الأول لأن يوما منه منها فإن قلتم بهذا فكان من أول الأول إلى آخره أكثر من ست بأن رأته لثنتين وعشرين إلى الحادي كما ذكر فهل تحيض الست الأخيرة منها ليكون منها يوم العادة أو من الأخير؛ لقربه أو يوم العادة أول الثلاثين فقط, وحيث غلب يوم العادة مع غيره فلو لم يكن معه ليلة انغلب لتمامه بغيره أو يكون كالعدم فينظر إلى الأقرب أو المتأخر كما عرفت قاعدة ذلك فيؤخذ منه الحيض؟ "فأجاب" بقوله: أما الجواب عن هذه المسألة فهو معلوم من قولهم لو كانت عادتها الخمسة الأولى من الشهر وباقيه طهر فحاضت عادتها, ثم بعد طهرها عشرين حاضت الخمسة الأخيرة من الشهر صار دورها خمسة وعشرين, لأن حيضها يقدم عن وقته بخمسة فترد إليه إذا استحيضت سواء أطهرت بعد الخمسة الأخيرة عشرين أيضا, ثم استحيضت أم لم تطهر بعدها بل استمر الدم فتحيض على الأصح من أوجه أربعة خمسة من أول الدم المستمر وخمسة من آخر الشهر وهكذا أبدا ا هـ. ويشكل على هذا الفرع فرع آخر وهو أنها لو رأت خمستها المعهودة ثم طهرت خمسة عشر ثم عاد الدم واستمر, فهو دم فساد عند جماعة وعادتها باقية بحالها فلها الخمسة الأولى من كل شهر حيضا

 

ج / 1 ص -120-        وباقيه طهر. وقد أجبت عن هذا الإشكال في شرح العباب, وكذا مع البسط فيه في إتحاف أهل الفطنة والرياضة بحل مشكلات أحكام الحيض والنفاس والاستحاضة, وحاصله أنه يغتفر في التنقل القريب لوقوعه كثيرا ما لا يغتفر في التنقل البعيد؛ لندرته ويؤيده قولهم لو تعارض دمان قدم أقربهما إلى أول العادة إذ ليس ملحظه إلا ما ذكرت إذا علمت ذلك علمت الجواب عن جميع الترديدات التي في السؤال بما حاصله: أنها إذا رأت ستتها التي هي أول الشهر ثم رأت الدم يوم السادس والعشرين أو الثاني والعشرين مثلا, فإن انقطع قبل خمسة عشر فالكل حيض, وإن جاوزها واستمر, فحيضها الستة من أول الدم العائد كما أن حيضها في المسألة الأولى التي ذكرتها الخمسة الأخيرة من الشهر وتوجيه السائل - نفع الله به - لكون الحيض الست الأخيرة بقربها, واتصال دمها غير موافق لكلامهم لأن هذا إنما يعتبر بالنسبة إلى قدر طهرها إلى استئناف حيضة أخرى كما يعلم بسوق حاصل عبارة المجموع الدالة لما قلناه في الحيض والطهر. وهو إذا انتقلت عادتها بتقدم أو تأخر ثم استحيضت وتقطع دمها, ففيها الخلاف السابق عن أبي إسحاق والأصحاب في مراعاة الأولية كما ذكرنا في حال إطباق الدم, ويعود الخلاف في ثبوت العادة بمرة مثال التقدم كان عادتها خمسة من ثلاثين, فرأت في بعض الأدوار يوم الثلاثين دما وما يليه نقاء وتقطع دمها وهكذا, وجاز خمسة عشر قال أبو إسحاق: حيضها أيامها القديمة وما قبلها استحاضة, وقال الجمهور: وهو المذهب تنتقل العادة بمرة فإن سحبنا أي وهو الأصح فحيضها خمسة متوالية أولها يوم الثلاثين, ثم ذكر مثال التأخر فقال: هذا بيان حيضها ما قدر طهرها إلى استئناف حيضة أخرى, فينظر إن كان التقطع بحيث ينطبق الدم على أول الدور فهو ابتداء الحيضة الأخرى. وإن لم ينطبق فابتداؤها أقرب نوب الدماء إلى الدور تقدمت أو تأخرت, فإن استويا تقدما أو تأخرا, فابتداء حيضها النوبة المتأخرة ثم قد يتفق التقدم والتأخر في بعض أدوار الاستحاضة دون بعض, وطريق معرفة ذلك أن تأخذ نوبة دم ونوبة نقاء وتطلب عددا صحيحا يحصل من ضرب مجموع النوبتين فيه مقدار دورها, فإن وجدن فاعلم انطباق الدم على أول الدور وإلا فاضربه في عدد يكون الحاصل منه أقرب إلى دورها زائدا كان أو ناقصا, واجعل حيضها الثاني أقرب الدماء إلى أول الدور. فإن استوى طرفا الزيادة والنقص, فالاعتبار بالزائد ثم ذكر مثل ذلك فتأمل ما ذكره تعلم أن الكلام في مقامين: الأول في حيضها عند ابتداء التقطع وقد علمت أن المذهب يعتبر التقدم على أول العادة فحينئذ هو في مسألتنا الستة من يوم السادس والعشرين لوقوعه في زمن الإمكان والثاني في ابتداء حيضها الثاني إذا جاوز الخمسة عشر واستمر متقطعا, وقد علمت أن حكمه أن التقطع إن كان بحيث ينطبق الدم على أول الدور فهو ابتداء الحيضة الأخرى, وإن لم ينطبق فابتداؤها أقرب نوب الدماء إلى الدور تقدمت أو تأخرت فعلم بذلك اندفاع قول السائل: أو الست الأخيرة وقوله: أو آخر الدم الأول. إلخ. وقوله: فإن قلتم: الست الأخيرة وما فرعه عليه وكذا قوله كما عرفت قاعدة ذلك لما علمت أن قاعدة

 

ج / 1 ص -121-        ذلك ليست في ابتداء التقطع, وإنما هي في الطهر الذي يعقبه والحيضة التي تعقب هذا الطهر فاتضح بعون الله وتوفيقه جميع ما قلناه وحررناه فاعتمده ولا تعول على سواه, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - فسح الله في مدته - عما أفتى به البارزي - رحمه الله - من أن ذات القرء إذا انقطع حيضها تتربص تسعة أشهر ثم تتزوج هل يجوز تقليده فيه للضرورة خصوصا في هذه البلاد التي ليس لها بيت مال أو لا؟ "فأجاب" بقوله: لا يجوز تقليد البارزي في ذلك لأن ما أفتى به ضعيف عند أهل المذهب الذين هم أجل منه قدرا, وأوسع منه علما على أنه غير مجتهد, وغير المجتهد لا يجوز تقليده بخلافهم فإنهم مجتهدون, فالصواب لمن ألجأتها الضرورة أن ترفع أمرها إلى أهل مذهب مجتهد كمالك أو أبي حنيفة أو أحمد رضي الله عنهم وتقلد من ترى لها فسحة عنده فإن الدين يسر, وما جعل الله علينا في الدين من حرج, لكن بشرط رعاية القواعد والتزام ما قالوه من الوسائل والمقاصد والله تعالى يجعل لنا من أمرنا فرجا ومخرجا بمنه وكرمه.
"وسئل" رضي الله عنه - ونفع به - عما قاله المزجد في عبابه في الكلام على المتحيرة ما لفظه "وتقتصر أعني المتحيرة في أفعال المكتوبة على أقل واجب, هل ذلك على سبيل الوجوب؟ فإن قلتم: نعم فمشكل فقد صرحوا بجواز قراءة السورة بل يلزم على ما قاله عدم جواز النافلة, وقد صرحوا بجوازها كما هو معلوم, نعم رأيت بعضهم نبه على أن ما في العباب مبني على ما بحثه الزركشي من امتناع التثليث على المستحاضة ووجوب الاقتصار على مرة واحدة مبادرة للصلاة فليتأمل "فأجاب" بقوله: يعلم من قولي في شرح العباب عند قوله: "وتقتصر في أفعال المكتوبة على أقل واجب" تبع فيه غيره, وكأنه أخذه من بحث الزركشي وجوب الاقتصار على مرة في وضوء المستحاضة, وقد علمت مما مر أنه بحث مخالف للمنقول, فالوجه عدم وجوب ما ذكره المتن هنا بل هو عجيب منه كيف وما ذكره قبل صريح في رده لأنه إذا جاز لها التأخير لمصلحة الصلاة - فأولى أن يجوز لها الإتيان بسنن الصلاة المشتملة هي عليها, بل مر أنه يجوز لها قراءة السورة وهو أوضح دليل على فساد هذا البحث" انتهت عبارة الشرح المذكور, وهي نص فيما ذكره السائل - نفع الله به -.
"وسئل" - نفع الله به - عمن زنى بامرأة حائض هل يستحب له التصدق بالدينار أم لا؟ "فأجاب" بقوله: لا يستحب له ذلك كما يصرح به كلامهم من وجوه: الأول أنهم فصلوا في ندبها بين كون الوطء من عامد عالم بالتحريم مختار له فيندب, وبين من ليس كذلك فلا يندب له. وهذا التفصيل إنما يتأتى في الحليلة لأنها التي يتصور في وطئها في الحيض أنه تارة يحرم فيندب وتارة لا يحرم فلا يندب, وأما المزني بها فلا يكون وطؤها إلا حراما ولو من مكره إذ الأصح أن الإكراه لا يبيح الزنا, وإن أسقط حده للشبهة وجاهل لأن أحدا لا يجهل حرمة

 

ج / 1 ص -122-        الزنا إلا النادر الذي لم يخالط المسلمين, ولا يسمع بأخبارهم الثاني: أنهم عللوا عدم وجوبها خلافا للقول القديم الموجب لها بأنه وطء محرم؛ للأذى فلم يجب به كفارة كاللواط, فقولهم: محرم للأذى مخرج لوطء الزنا فإنه محرم لذاته لا لعارض, فلم يندب فيه ذلك لأنه لم يطرأ له ما يخرجه عن أصله بخلاف وطء الحليلة فإنه حلال لذاته فإذا طرأ له ما أخرجه عن ذلك ناسب أن يكفر, وأن تكون كفارته مندوبة نظرا لحله في الأصل لا واجبة, وبذلك فارق وجوب كفارة الظهار؛ لأنه يحرم لذاته فإن قلت: قضية القياس على اللواط ندب التصدق فيه. قلت: ليس قضيته ذلك كما فهم مما قررته لأن القياس عليه إنما هو رد للوجوب, وأما إثبات السنية فهو لما قررته أنه وطء مباح أصالة ثم عرض له محرم لعارض هو الأذى فكفر ذلك ليرجع إلى أصله من عدم المؤاخذة به. الثالث: قول بعضهم: الحكمة في اختلاف قدر الكفارة بأوله وآخره أنه في أوله حديث عهد بالجماع فغلظ عليه في الكفارة إذ لا عذر له بخلافه في آخره, فإنه بعيد عهد به فخفف عليه فيها لعذره فتأمل هذا, فإنه ظاهر أو صريح في أن وطء الزنا ليس مرادا هنا إذ لا عذر بالنسبة إليه في كونه أول الدم أو آخره, بل ولا مع عدم الدم بالكلية فإن قلت: هل يمكن أن لذلك الاختلاف حكمة أخرى أظهر: قلت: نعم لأن أول الدم الغالب فيه النتن ومزيد القذارة فكان التعدي بالوطء فيه أقبح فغلظ في كفارته بخلافه في آخره فإنه خف الأذى فخفف في كفارته, وألحقوا بهذا ما بعد انقطاعه إلى الغسل, وإن زال الأذى لأن زواله حسي لا شرعي؛ لبقاء قذارة البدن إلى الآن فندبت فيه الكفارة أيضا. الرابع: أن وطء الزنا فيه الحد, وهو يغني عن الكفارة إذ لا يجتمعان غالبا فإن قلت: البعيد اجتماعهما من جهة واحدة, ولا كذلك هنا فإن الحد من حيث كونه وطء زنا, والكفارة من حيث كونه وطئا في حيض قلت: إنما يظهر ملاحظة هذه الحيثية لو طرأ بها تحريم حلال كما في الحليلة, أما في الأجنبية فلا يحسن مراعاتها, فإنها لم يقدر تجدد تحريم يناط به طلب كفارة. الخامس: القياس على مسافر أفطر في رمضان بالزنا بنية الترخص أو لا؟ فإنه لا كفارة عليه, فإنه لم يأثم لأجل الصوم وحده, بل لأجل الزنا وحده أو مع عدم نية الترخص فلم يناسب مخاطبته بالكفارة المطلوبة لأجل الصوم, فكذا يقال هنا: الزاني في الحيض لم يأثم لأجل الحيض وحده فلم يناسب مخاطبته بالكفارة المطلوبة لأجل الحيض فتأمل هذا القياس, فإنه دليل واضح في مسألتنا, فإن قلت: هل الواطئ بالشبهة كالحليل في ندب الكفارة, قلت: القياس نعم؛ لأن الشبهة لما رفعت تحريم الوطء الذاتي بقي تحريم الوطء العرضي لأجل الحيض فناسب جبره بطلب الكفارة فيه والله أعلم. بسم الله الرحمن الرحيم على تواتر نعمائه وتوارد آلائه والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وشرف ومجد "اعلم" وفقني الله وإياك أن سيدنا وشيخنا الإمام الذي خضعت لرفيع منصبه منازل النيرين القمر والشمس, والعالم الذي أعربت بداهته عما استعجم على القوتين الفكر والحدس, والفهامة الذي أزاحت سواطع فهمه غياهب الظلمتين الشك واللبس

 

ج / 1 ص -123-        والعلامة الذي كلف بالعلم حتى صار ملهج لسانه وروضة أجفانه ومنتزه جنانه أبا العباس أحمد شهاب الدين بن حجر الشافعي الأنصاري لا زالت ذاته كعبة يطوف بها كل عالم ويقف بأبوابها كل فاضل, ولا برحت رحابه الزكية مناخ مطايا أرباب الفضائل أرسل له بعض علماء حضرموت مؤلفا كتبه في الحيض جمع فيه مسائل كثيرة من شرح المهذب وغيره, وضم إليها أبحاثا من عنده وإشكالات له ولغيره, وطلب منه الكتابة عليه بتقرير ما فيه أو رده وإصلاح خطئه وخطله؛ لصعوبة باب الحيض وكثرة الغلط الواقع فيه للأكابر من أئمة أصحابنا فضلا عن غيرهم. وقال في ظهر كتابه المذكور ما لفظه: يقول ملخصه - رحمه الله وعفا عنه - كتبت هذه النبذة بحسب جهدي وأرسلتها لفقيه العصر ومفتيه العالم العلامة الخائف الراجي ذي العقد السليم والنية الخالصة إن شاء الله تعالى الإمام أحمد بن حجر الهيتمي رضي الله عنه وأرضاه ووفقه للصواب والهداية في جميع ما نحاه وجعله ممن يحبه ويرضاه وكان له وتولاه ووفقه وأعانه ووالاه وحفظه وعافاه ونفعنا والمسلمين به وبعلومه لينظرها فيصلح فسادها إن كان ويتمم ناقصها ويحل مشكلها كان الله له وجزاه عنا خيرا فإن بضاعتنا مزجاة, وجهتنا خالية عن أمثاله متع الله به الإسلام والمسلمين. فلما عرض ذلك على شيخنا فسح الله في مدته رأى الكتابة عليه متعينة؛ لصعوبة هذا الباب وكثرة التخليط والغلط الواقع فيه ولكون هذا المؤلف صار لما ذكرته في حكم الفتاوى ذكرته فيها هنا بجميع رمته, ثم أذكر بعده ما كتبه شيخنا - نفع الله به - عليه فإنه بين ما فيه مع زيادات وتحقيقات مهمات وكشف عويصات ومعضلات لا يهتدي إليها إلا الموفقون, ولا يعقلها إلا العالمون فجزاه الله خيرا ورضي عنه وأرضاه وجعل جنات المعارف متقلبه ومثواه, قال مؤلف ذلك الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسائر النبيين والصالحين وبعد, فهذه مسائل ملتقطة من كتاب شرح المهذب للإمام النووي - رحمه الله - منبه بها على أمور قد تخفى على من يأخذ علم باب الحيض من مختصرات كتب المذهب مقدم عليها قواعد الباب ليتنبه بها على وجه خفائها أو مخالفتها لها فنقول وبالله التوفيق اعلم أن الحيض هو الدم الخارج من بطن الرحم في وقته بحكم الجبلة لا لعلة, وأقل سن يمكن فيه تسع سنين تقريبا فكل دم لم يحكم به حيضا فهو استحاضة لا يمنع العبادة والوطء وهي دم يخرج من عرق في أدنى الرحم يسمى العاذل بالذال المعجمة, وضد الحيض الطهر وأقل الحيض يوم وليلة يعني أن يظهر الدم على الفرج أربعا وعشرين ساعة ولو متفرقة في خمسة عشر يوما فأقل, وأقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما متصلة لا بين الحيض والنفاس فمن طهرت من الحيض ولو يوما فأقل ثم, ولدت فرأت الدم, فالدم الذي قبل الولادة حيض على الأصح بناء على أن الحامل تحيض وما بعدها نفاس, وما بينهما طهر قطعا, وكذا لو نفست أكثر النفاس ثم طهرت دون خمسة عشر ثم رأت الدم فالنقاء طهر وما

 

ج / 1 ص -124-        بعده حيض على الأصح في شرح المهذب المنقول في مسألة حد طهر الحيض منه عن التتمة وأقره وأخذ به المتأخرون خلافا لما في الإرشاد وشرحه لمصنفه من أنه استحاضة أخذا من تعليل في العزيز ثم من رأت الدم لسنة حكمنا به حيضا فتجتنب الصلاة والصوم والوطء, فإن جاوز خمسة عشر تبين أنها مستحاضة ثم إن انقطع بعد ثم رأت الدم وجاوز المرد الآتي بيانه للمستحاضة حكمنا به طهرا كالنقاء, فإن انقطع لدون خمسة عشر تبين كونه حيضا فتعيد ما صامته فيه إن كان فرضا, ولا إثم بما فعلته لجهلها, وسواء في كل ذلك المبتدئة والمعتادة ثم المستحاضة تكون مبتدأة وتكون معتادة وتكون متفقة الدم ومختلفته فهما أربعة أقسام: الأولى مبتدئة غير مميزة بأن ترى دما مستويا فوق خمسة عشر يوما, فالأظهر أن حيضها يوم وليلة من أول الدم, وطهرها تسعة وعشرون يوما إن استمر الدم إليها, فإن زاد فيوم وليلة من أوله حيض وتسعة وعشرون طهر وكذا ما لم ينقطع الدم أو تتغير صفته, ومثلها من ترى الدم بصفتين فأكثر, لكن فقدت شيئا من شروط التمييز الآتية في الثانية, فلو نسيت هذه ابتداء دمها أو لم تعلمه كأن رأته في جنونها فأفاقت وهو بها فهي متحيرة يأتي حكمها. الثانية: مبتدئة مميزة ترى دما قويا وضعيفا ويزيدان على خمسة عشر, فالقوي هو الحيض إن كان يوما وليلة إلى خمسة عشر, والضعيف خمسة عشر فأكثر متصلا أو معه نقاء يتمها كأن ترى خمسة أيام أسود, ثم خمسة عشر فأكثر أحمر أو أشقر أو مع نقاء متصل به, وإن طال زمنه فهو طهر ما لم يتغير الدم إن اتصل بأقوى منه ولو سنين كذا قاله الإمام, وهو المذهب كما قال الشيخان وفيه خلاف ضعيف, وصفات القوة ثلاث: اللون بالسواد ثم الحمرة ثم الشقرة ثم الصفرة ثم الكدرة, وثخن الدم, ونتن ريحه فما تجرد عن الأخيرتين أو وقعتا فيه, فقوته باللون فقط وما اتفق لونه ووقع في شيء من إحداهما فهو أقوى من الآخر كأحمر أو أسود ثخين أو منتن دون خمسة عشر, وآخر لونه بغير ثخن ولا نتن ويزيد المجموع على الخمسة عشر فالذي فيه الثخن أو النتن أقوى, فهو الحيض والآخر طهر سواء تقدم أو تأخر وكذا ما اجتمع فيه من الصفات أكثر هو الأقوى كأسود نتن ثخين مع أسود بأحدهما فقط وكأحمر منتن ثخين مع أسود مجرد عنهما فالأحمر أقوى فإن استوت المرتبتان, فالأقوى هو السابق كما نقله الشيخان وغيرهما عن المتولي, وأقروه وقال الرافعي هو موضع تأمل وقد جزم به في التحقيق وتبعه خلق من المتأخرين ثم إن وجد في الخمسة عشر ثلاثة دماء وجاوزها الأخير فإن كان هو الأقوى وصلح للحيض, فهو الحيض كخمسة أشقر ثم خمسة أحمر ثم عشرة أسود فالحيض الأسود وما قبله استحاضة, وإن كان الأول أقوى فهو حيض فإن كان الذي يليه أقوى من الثالث ولم يزد مجموعهما على خمسة عشر فهما معا حيض كخمسة سواد ثم خمسة حمرة ثم ستة فأكثر شقرة فلو كان الثالث أقوى من الثاني كخمسة سواد ثم خمسة أشقر ثم عشرة حمرة, فالحيض هو الأسود دون الأشقر على الأصح في التحقيق وغيره, ومثله قياسا ما لو رأت سبعة سوادا ثم سبعة حمرة ثم.

 

ج / 1 ص -125-        سبعة سوادا فيكون حيضها الأسود الأول وما بعده طهر, فقد سوى بين المسألتين في الروضة وشرح المهذب, ولكنه نقل في شرح المهذب في هذه عن ابن سريج أن حيضها الأسود الأول مع الحمرة وأقره, وهو مشكل بمسائل تأتي عنه, وترجيح التحقيق في الأولى قاض بمخالفة ابن سريج في هذا لتساويهما وقد ذكر في عباب المزجد في هذه وجهين, وقال الأقوم أن الحيض هو السواد الأول فقط, ومثل المسألة ما لو رأت ثمانية سوادا ثم سبعة أحمر ثم نصف يوم أسود, فالحيض السواد الأول وقال ابن سريج مع الحمرة, ولما ذكر في الروضة مسألة ابن سريج, قال: وحكمها يؤخذ من شروط التمييز وهو يشير إلى مخالفته فإن الأسودين لا يمكن كونهما حيضا لتفاصلهما, والأحمر ضعيف بالنسبة إليهما فكيف يكون هو الحيض والقوي بعده طهرا؟ بل يكونان كدم متحد فرجح السواد الأول لسبقه كما ذكرنا عن المتولي, ويأتي ما يؤيده فلو رأت المبتدئة ما يمكن كونه حيضا وطهرا كستة عشر دما أحمر, ثم بعده أسود دون خمسة عشر, فالأسود حيض وظاهر إطلاقهم القطع بأن الأول كله طهر وهو المعتمد, وقد صرح به ويمكن أن يجيء فيهما ما في مسألة من كانت عادتها يوما وليلة من أول الشهر فرأت أول شهر ستة عشر أحمر ثم أسود والمذهب فيها أن أول الشهر حيض بالعادة وبقية الأحمر طهر لصلاحيته والأسود حيض لقوته وأن يكونا كالمسألة التي عقبها, وهي أن الأسود لو جاوز خمسة عشر يوما فقد فقد شرط التمييز فيوم وليلة من الأول حيض, وخمسة عشر طهر كامل, ثم هل تكمل بقية الشهر من الأسود طهرا أطلق الأصحاب كونها غير مميزة وهو يقتضي التكميل, وبه صرح في المهذب وشرحه, وقال: إنه المذهب, ونقل الشيخ في المهذب عن ابن سريج أن أول السواد حيض جديد فهي مبتدئة فيكون منه يوما وليلة على الأصح في المبتدئة وذكره النووي ثم قال: وينبغي على قول ابن سريج أن تكون معتادة فيكون حيضها اليوم الأول والليلة من الأسود لكونها معتادة بالحكم الأول ثم تطهر خمسة عشر يوما كالطهر الأول, وبقول ابن سريج هذا جزم المزجد في عبابه, وبكونها معتادة, وأظنه أخذ بكلام في شرح المهذب في آخر نقل كلام ابن سريج أوهم فيه أنه صححه وليس كما أوهم فقد صرح قبل بأن المذهب خلافه كما ذكرنا عنه الآن, وتصحيحه الأخير راجع لغير ذلك يعرفه من استوفى تدبره, وإن كان هو قياس المعتادة المذكورة كما احتملناه هنا على أنه مرجوح والفرق أن العادة أصل بني عليه فأخذنا به حيث لا معارض, ثم حدوث القوي وقع بعد طهر كامل فكأنه دم وقع بعد نقاء يصلح طهرا, ولم أر من صرح بعين المسألة, أما لو كان الأسود بعد انقضاء الشهر فلا شك في كونه حيضا إن كان صلح للحيض وإلا, فمبتدئة غير مميزة فإن اتصل بآخر الشهر فحيضها أوله وإلا فمن أول الدم الكائن فيه, مثاله: رأت شهرا أحمر فقط أو العشر الأواخر منه نقاء ثم طرأ عليها أسود أول الثاني, فلها أول الشهر الأول يوم وليلة حيض وباقيه طهر, ثم إن كان انقطع الأسود لدون عشر فكله حيض فإن اتصل به دم أضعف منه حتى جاوزها, فهي مميزة فتنتقل لحكم التمييز, فلا يحكم

 

ج / 1 ص -126-        بكونه حيضا ما لم ينقطع ثم ترى غيره أو يتغير بأقوى فإن لم يحدث الأسود بعد النقاء إلا بعد مضي أول الشهر وجاوز, فله حكم الأول في قدر الحيض, وتكون به معتادة حيضها يوم وليلة من أوله وطهرها بقدر ما بين حيضتيها في هذا, والشهر الأول؟.
"تنبيه" الدم إذا كان أحمر وفيه خطوط سود كالأسود الخالص المتصل كما فهمه الرافعي من كلامهم وأقره النووي, وقال: صرح به الإمام, وكذا ما تخلل بين الأسودين من حمرة أو نقاء إذا جعلا كالمتصل كما ذكروه.
"خاتمة" إذا فرعنا في المسألة المنقولة عن ابن سريج فيمن رأت سبعة وسبعة سوادا بينهما حمرة يومين فأكثر أو ثمانية أسود ثم سبعة أحمر ثم نصف يوم أسود, فما بعد الحيض طهر إلى آخر الشهر بلا شك أن يحدث سواد أقوى من الأولين بينه وبين الحيض خمسة عشر فيكون حيضا آخر إن كان انقطع لخمسة عشر فأقل, وكذا فيما بعد الشهر؛ لأنها صارت مميزة إلا أن يقول قائل إنها في الأصل مبتدئة غير مميزة, حيضها يوم وليلة من السبع الأولى بمقتضى قول الروضة: "إنها تؤخذ من شروط التمييز ولا ينظر إلى ترجيح السبق" فيكون حيضها في كل شهر يوما وليلة من أوله, وطهرها باقيه كما هو مقتضى قواعد المختصرات, وكلام المجموع والروضة فيمن رأت يوما وليلة دما أسود ثم أربعة عشر نقاء ثم أسود أنها غير مميزة كما يأتي قريبا, وكذا حكم من رأت ثمانية وثمانية بينهما حمرة كما يأتي أيضا. وكلام الرافعي في الكل يقتضي أنها غير مميزة فتحيض يوما وليلة وتطهر كما قلنا آخر الشهر, وليس فيه تعرض لكون الأسود الأول حيضا, وإن كثر فلذلك اقتصر المتأخرون على ذلك, وإنما ذكر كونه حيضا في المجموع نقلا عن الأئمة وأنه متفق عليه فلذلك قوي الإشكال, والله يوفق للصواب. ولم أر من حل إشكالها تصريحا, والله أعلم ثم نذكر ما يتعلق بالقسمين من المسائل المرادة لما ذكرنا عن المجموع.
"مسألة" رأت نصف يوم أسود ثم أطبقت الحمرة, فهي غير مميزة إذ لا يصلح الأسود للحيض وحده وكذا لو رأت الأسود ستة عشر ثم الأحمر كذلك أو أقل قال, وكذا لو رأت يوما وليلة أسود ثم أربعة عشر أحمر ثم عاد الأسود وهو مشكل بمسألة السبعات المذكورة وبالمسائل الآتية, فإن مقتضاهما حيث حكمنا بكون السواد الأول حيضا أن تكون مميزة حتى لو زاد السواد الأول في هذه الصورة على يوم وليلة كان حيضا كله.
"مسألة" رأت ثمانية سوادا ثم ثمانية حمرة ثم سوادا, فحيضها السواد الأول بالاتفاق, وكذا لو رأت نصف يوم أسود ثم نصفه حمرة ثم خمسة عشر أسود, فحيضها السواد الأخير بالاتفاق.
"مسألة" رأت ثلاثة أيام دما ثم اثني عشر نقاء ثم ثلاثة دما وانقطع, فالثلاثة الأول حيض والثانية دم فساد لكونها تمام قدر الطهر وكذا لو رأت أولا يوما وليلة أو أكثر ثم طهرت, ورأت دما قبل خمسة عشر من أول الطهر, وانقطع بحيث لا يمكن كون الدمين في.

 

ج / 1 ص -127-        خمسة عشر ولا خلاف في شيء من هذا, وكذا لو رأت يوما وليلة دما ثم ثلاثة عشر نقاء ثم ثلاثة دما, فحيضها الثلاثة الأخيرة على الحاصل من راجح المذهب ذكر هذا النوع في فصل التلفيق آخر الحيض, وفي أوله إشارة إليه.
"مسألة" رأت خمسة عشر حمرة ثم نصف يوم سوادا, فحيضها الحمرة كذا ذكره وتبعه المزجد في عبابه, ومثله لو تقدم الأسود نصف يوم, وهذا مشكل إذ فقدت شرط التمييز, ولم يذكر فيه خلافا.
"مسألة" رأت خمسة حمرة ثم خمسة سوادا ثم خمسة حمرة وانقطع, فالكل حيض على المذهب الذي قطعوا به وفي الحمرة السابقة وجه فلو رأت خمسة حمرة, ثم نصف يوم أسود ثم أطبق الأحمر, وجاوز الأكثر فهي غير مميزة, ولو رأت نصف يوم أسود, ثم نصفه أحمر ثم كذا خمسا ثم السادس سوادا ثم أطبقت الحمرة وجاوزت, فالسادس وما قبله حيض والباقي طهر وكذا كل سوادين حكم بهما حيضا, فالضعيف بينهما حيض على الأصح.
"مسألة" رأت يوما وليلة دما أسود ويوما وليلة أحمر وهكذا إلى آخر الشهر, فهذه غير مميزة؛ لأن شرط القوي أن لا يجاوز خمسة عشر, فحيضها يوم وليلة على الراجح من أوله, وكذا لو تقطع بأكثر من يوم وليلة ما لم تبلغ النوبتان خمسة عشر ذكره فيه فلو نقص كل عن يوم وليلة, ونما بنقاء فلا حيض لها على المذهب والكل دم فساد فلو أمكن تمييز كأن تقطع في خمسة عشر يوما أسود ويوما أحمر ثم أطبق الأحمر من السادس عشر أو قبله, فالسواد كله وما تخلله حيض وما بعده طهر.
"مسألة" رأت المبتدئة دما أحمر فتؤمر بترك الصلاة؛ لأن الظاهر كونه حيضا كما مر فلو بلغ خمسة عشر ثم رأت أسود تبين كون الأول فسادا فتتركها أيضا فلو استمر السواد حتى جاوز خمسة عشر بان أنها غير مميزة, وأن حيضها يوم وليلة من أول الشهرين فتترك الصلاة أول الثاني, ثم تقضي صلاة ما زاد على يوم وليلة من الأول. قال الإسنوي "وقياسه أنها لو رأت أولا خمسة عشر كدرة مجردة ثم صفرة كذلك ثم شقرة ثم حمرة ثم سوادا ثم رأت كلا من ذلك ثخينا بلا نتن ثم كذلك مع النتن أن تؤمر بترك الصلاة كثيرا لقوة كل على ما قبله وقضيته أنها تعمل بحكم التمييز, وإن سبق الأقوى زمن يصلح لمرد حيض المبتدئة وطهرها, وهو ثلاثون يوما وفيه إشكال من وجوه: الأول أن الدم الأول إذا أمكن كونه حيضا من غير مانع, فلا سبيل إلى إلغائه, وقد جعل الأصحاب حكم ما لم يدل فيه دليل على تعيين كل دور شهرا ردا للغالب, فليكن حيضها في مسألة تعاقب الدماء بعد الشهر يوما وليلة من أوله وباقيه طهرا, ثم يتجدد في الشهر الثاني لها حكم آخر حتى لو حدث الدم الثالث في آخر الشهر الأول. وقد مضى ما يمكن كونه طهرا وحيضا يكون الحكم لعدم التمييز ويتمم الشهر طهرا؛ لأن حدوث الثالث أقوى من الثاني, لأن به ضعف الثاني ثم في الشهر الثاني

 

ج / 1 ص -128-        قطعا حكم عدم التمييز فتحيض يوما وليلة وتطهر باقيه لتبين كونها غير مميزة؛ لظاهر دوام الدماء فلو انقطع دمها الثالث بنقاء أو دم أضعف, وقد بلغ أول الثالث يوما وليلة, فهو الحيض فإن كان حدوث القوي في آخر الشهر الأول تبين أنه الحيض وما قبله كله فساد. وإن وسع حيضا وطهرا بناء على ما قلنا قبل إنه مقتضى المذهب, وصرح به فيمن رأت ستة عشر حمرة ثم سوادا يصلح حيضا, وكذا فيما زاد على يوم وليلة من أول الأول لو أطبق السواد مثله أو أكثر فلو قلنا بما قاله ابن سريج فيها, وجزم به في العباب أن ما زاد على اليوم والليلة من الحمرة طهر متحد ويبتدأ للأسود حكم جديد ويجعل ما قبله دورا كاملا يوما وليلة أوله حيضا, وباقيه فقط طهر جعلنا للثالث هنا حكما جديدا وما قبله دورا كاملا يوما وليلة أوله حيضا, وباقيه طهرا وتكون به معتادة على ما بحثه النووي تأخذ به فيهما ما لم يكن تمييز معتبر. وإن كان حدوث الثالث في الشهر الثاني فقد مضى الأول بدوره حيضا وطهرا بحكم عدم التمييز, ويدل على هذا أنا نعلم أنها لو رأت شهرا دما أحمر ثم حدث لها أسود بعده أن لها في الأول حيضا وطهرا بحكم غير المميزة, وفي هذا الثاني ننظر في دمها إن كان وجدت شروط التمييز - فمميزة وإلا فكمن لم تتغير صفة دمها الثاني أن الشيخين نقلا عن الأصحاب أنه لا يتصور امرأة تؤمر بترك الصلاة إحدى وثلاثين يوما إلا هذه فاقتضى ذلك ما قلناه إذ لو كان ما أفهمه كلام الإسنوي من نسخ الدم لما قبله مطلقا, وإن طالت المدة معتبرا لم يقولوا إنه لا يتصور, وهم الذين ذكروا صفات القوة, وطولوا أمثلتها بما لا يكاد يقع حرصا على البيان. الثالث: ما ذكرنا أولا عن المذهب فيمن حكم لها بالتمييز وجعل قوي دمها حيضا, وأن ما لحقه طهر, وإن تطاول زمنه ما لم يتغير بسببه أن الحكم لها بالتمييز فلا يغير إلا بمغير إذ الضعيف كالنقاء في حقها, فهي كمن حاضت أياما ثم رأت النقاء سنة أما من لم يحكم لها بتمييز فحكمها يبنى على صحة الطبيعة, وأن دمها الصالح للحيض في وقته حيض؛ ولذلك لو رأت خمسا حمرة ثم ستة عشر سوادا فأكثر جعلنا حيضها يوما وليلة من أول الأحمر ولا نلغيه لما عقبه من السواد الذي لا يصلح للحيض. وقد قلنا في مسألتنا هذه أيضا أعني مسألة تعاقب الدماء في الأشهر أن كل دم عقبه أقوى منه, وكلاهما يصلح للحيض, الحكم للأقوى إن كان لم يعقبه أقوى منه أيضا وإلا فيكونان كدم مبهم وتحيض في كل شهر يوما وليلة من أوله حتى يحصل لها ما لا إشكال فيه من تمييز أو صحة نقاء, وحيث استمرت بدم واحد لا ينبغي أن تكون معتادة بيوم وليلة حيضا وتسعة وعشرين طهرا كما سبق عن النووي فيمن رأت ستة عشر دما أحمر ثم استمر الأسود بناء على قول ابن سريج ويكون حيضها اليوم والليلة بحكم العادة إذ مضى لها حيض كذلك بالحكم الشرعي لأن سببه اختلاف دمها, ونسخ الأقوى ما حكم به طهرا باستواء دمه فهو كالحكم بالدور بتمييز كامل هذا ما ظهر, وإن كان في المسألة نص فسمعا وطاعة والله أعلم. الرابع: أن هذه المسألة في الحقيقة وتؤخذ من المسألة المنقولة أيضا فيمن رأت ستة.

 

ج / 1 ص -129-        عشر أحمر ثم استمر أسود كذلك أو أكثر فإن الأصحاب اتفقوا على أن في الدمين حيضتين, وأن أول الأحمر حيض وحكموا فيما بعده أن لها طهرا وحيضا حيث لم يصلح الأسود؛ لكونه حيضا خالصا. وقال ابن سريج: إن أول الحيض الثاني أوله وبه جزم في العباب كما سبق, والجمهور أنه أول الشهر الثاني, ولم يذكر أحد أن أول الشهر الأول يخلو عن الحيض لو انقطع الأسود بأقوى منه لثخن أو نتن, وتصريح ابن سريج باجتماع الحيضتين في الشهر دليل على إطباقهم على مراعاة ثبوت الحيض في كل شهر بدم صالح له كغالب العادة لأن الأصل السلامة من علة الاستحاضة.
"بيان ما يشكل في المسائل المذكورة" اعلم أنها مختلفة المأخذ, ووجوه اختلافها على أنماط ثلاثة: أولها: مسألتنا من رأت سبعة أسود ثم سبعة أحمر ثم سبعة أسود ومن رأت ثمانية أسود ثم سبعة أحمر ثم نصف يوم أسود حيث حكموا بأن الحيض السواد الأول وحده أو مع الأحمر على قول ابن سريج ومسألة ثمانية أسود ثم ثمانية أحمر ثم ثمانية أسود, فالثلاث مبنية على أن القوي الصالح للحيض إذا سبق ثم لحقه مثله بحيث لا يمكن جمعهما وبينهما ضعيف, فالأول حيض وهي مميزة بالسبق وإن طال زمن الأخير ما لم يتغير بأقوى منه, ومثلها ما لو كان القوي الأول دون الحيض والآخر قدره, ولا يجتمعان حيضا كنصف يوم أسود ثم نصفه أحمر, وكذا ثلاثة أحمر ثم خمسة عشر أسود, فالأخير هو الحيض فهذه المسائل وجهها واحد وإشكالها من فقد شرط التمييز فإن من شروطه أن لا يزيد القوي على خمسة عشر يوما بما تخلله إن كان حكم له بحكمه, وجوابه الحكم لما قلنا بأنه حيض بالقوة بالسبق في الثلاث الأول وبصلاحيته للحيض دون الأول لقلته في الأخير والمتخلل غير ملحق به فهو طهر لكن فيه إشكال آخر في الثلاث من حيث إن القوة بالسبق قال فيه الرافعي: وهو موضع تأمل, وفي هذه المسائل حكموا بالاتفاق على أن السواد المذكور حيض, وإن كثر فليكن الاتفاق على هذه دليلا للقوة بالسبق وبقي في الثلاثة الأول أيضا إشكال بما في النمط الثاني. ثانيها: من رأت الأسود ستة عشر ثم الأحمر كذلك ومن رأت يوما وليلة أسود, ثم أربعة عشر أحمر ثم عاد الأسود ودام ومن رأت خمسة حمرة ثم نصف يوم أسود, ثم أطبقت الحمرة حتى جاوزت, ومن رأتها يوما وليلة أسود ثم مثله أحمر ثم كذلك أسود ثم مثله أحمر وتكرر حتى جاوز, ومن رأت خمسة عشر أحمر ثم مثلها أسود بلا نتن ثم مثلها منتنا حيث قلنا في الكل تحيض يوما وليلة من أول الدم ثم تطهر باقي الشهر على قاعدة عدم التمييز, وإشكالها في مسألة ستة عشر ثم مثلها بما قال ابن سريج فيمن رأت ستة عشر أحمر ثم استمر الأسود مثلها أو أكثر حيث حكم بأن لها من أول كل دم يوما وليلة حيضا فهلا كانت هذه عنده كذلك أما على ما نقلناه عن مقتضى المذهب المصرح به فيه, فلا إشكال, وهذه الأخيرة دليل له وإشكال مسألة يوم وليلة أسود ثم أربعة عشر أحمر ثم أسود مستمرا بالمسائل الثلاث في النمط الأول فإن الأسود الأول صالح للحيض ولا يصلح جمعه مع الأخير فلتكن مميزة بالأول مثلهن حتى لو زاد على يوم وليلة كان كله حيضا, أو لتكن الثلاث مثلها فتحيض يوما وليلة كلهن من أول الدماء بحكم عدم التمييز, ومثل هذه من رأت يوما وليلة أسود ثم مثلها أحمر وتكرر حتى جاوز, فإن الدم الأول سابق صالح

 

ج / 1 ص -130-        للحيض, فقياس الثلاث الأول أن يكون هو الحيض وإن زاد على يوم وليلة أو يضم إليه كل سواد في الخمسة عشر وما بينهما من حمرة لصلاحيتهما جميعا له وانفصال ما بعدها عنه مع قوة الأول بالسبق, لكن بين صورتي المسألتين فرق, وهو أن السواد هنا تكرر في الخمسة عشر بخلاف أولئك, فلعلهم لتكرره فيها جعلوه كالمتصل المحض وألحقوه بما بعدها لاتحاد صفة الدماء, مع أن عود الدم بصفة متكررة يدل على كونها دما واحدا فليحرر, ومثلها مسألة من رأت خمسة عشر حمرة ثم مثلها سوادا ثم أقوى منه بثخن حيث حكم بأنها غير مميزة, مع أن سوادها صالح للحيض لكنه بقوة ما عقبه صار ضعيفا بالحكم إذ لو قضي بكونه حيضا في الشهر الأول حكم بأن ما بعده حيض في الثاني واتصل حيضان من غير طهر بينهما نعم قد قلنا في الشهر الثاني ينظر إن كان عقبه أقوى منه, وانقطع لخمسة عشر فأقل بنقاء أو ضعيف, فهو الحيض وما قبله طهر, وكذا لو عقب الأول أضعف منه أو نقاء قبل مجاوزة الأكثر. فالأول حيض هذا الشهر بالتمييز كما سبق وليرد النظر فيها, وأما مسألة من رأت خمسة حمرة ثم نصف يوم أسود ثم استمر الأحمر حيث قلنا هي غير مميزة فيكون حيضها يوما وليلة من أوله, فإشكالها من حيث اعتبر القوة بالسبق حيث حصل بين الدمين ما يخالفهما لكنه هنا أقوى, فلما لم يعتبر قوته جعل كدم أحمر أو نقاء, وكلاهما لا تمييز معه ثالثها: من رأت ثلاثة دما ثم اثني عشر نقاء ثم ثلاثة دما, وانقطع أو يوما فأقل دما ثم اثني عشر نقاء ثم ثلاثة دما وانقطع حيث حكموا بالاتفاق على أن الحيض في الأولى الدم الأول وفي الأخيرة الأخير على الأصح, والإشكال في الأولى من حيث إنها على قاعدة من لم تميز, فليكن لها يوم وليلة من الأول حيضا وباقيه طهرا, وقد قال فيها المراغي في شرح المنهاج, كما نقله عنه شيخنا أن لها حكم المستحاضة على أشهر الوجهين, وهو يعطي ما ذكرناه, وظاهره أن الوجهين فيها مشهوران, ولكن نفي الخلاف فيها في شرح المهذب, وقلة ذكرها في المصنفات بعينها يخالفه, وتحيضها الثلاث دليل لقوة السبق كما في مسائل النمط الأول. وكذا إلغاء اليوم الأول مع صلاحيته لاجتماعه ببعض الثلاث الأخيرة في المسألة الثانية ليكونا حيضا دليل على أن ما لا يصلح للحيض لقلته يكون كالنقاء, وأن الدم المتصل أولى بكون حكمه واحدا, وكذلك مسألة من رأت خمسة أسود ثم عشرة أحمر ثم نصف يوم أسود حيث ألغي الأخير بالاتفاق, ومثلها مسألة من رأت خمسة أحمر ثم يوما فقط أسود ثم خمسة أحمر فلا حكم للسواد بلا شك كما سبق وتكون غير مميزة ومثلها مسألة من رأت خمسة عشر حمرة وبعدها أو قبلها نصف يوم أسود حيث ألغي, وجعل الأحمر كله حيضا ولم يذكر فيه خلاف, وهو مشكل إذ أقل أحواله أن يكون كدم

 

ج / 1 ص -131-        أحمر فيكون كمن رأت خمسة عشر ونصف يوم دما أحمر, فتكون غير مميزة كالأولى فتحيض يوما وليلة من أوله فعدم الخلاف فيها وفي مسألة أول هذا النمط فيه بقوته لما في النمط الأول من كون اختلاف الدماء وانفصالها له أثر في عدم إعطاء المتصل حكما واحدا, وإنما قلنا في الأولى بعدم التمييز لكون الأحمرين كالواحد وما بينهما كالعدم فهذا فارق بينهما.
"خاتمة" قد يؤخذ بالتأمل الجمع بين ما ذكر بأن كل دم متطرف دون يوم وليلة لا يمكن اجتماعه مع ما يتصل به بغير صفته يكون كالنقاء المحض, كما في مسألة من رأت نصف يوم أسود ثم مثله أحمر ثم خمسة عشر أسود, ومسألة خمسة عشر حمرة مع نصف يوم قبلها أو بعدها أسود حيث حكموا بأن الخمسة عشر فيهن حيض, وأن ما توسط دمين دونه فهو مثلهما كمسألة خمسا حمرة ثم نصف يوم أسود ثم أطبق الأحمر حيث جعلوها غير مميزة, وإن الدماء إذا تكررت في خمسة عشر مع فصل نقاء أو ضعيف بينها بحيث يمكن جمعها حيضا ثم استمر تكررها حتى جاوز خمسة عشر تكون غير مميزة ولا قوة للأول كمسألة يوم وليلة أو ثلاث أسود ثم كذا أحمر, وهكذا حتى جاوز حيث قال: هي غير مميزة حيضها يوم وليلة من أوله ثم تطهر إلى آخر الشهر, وإن لم تتكرر في الخمسة عشر بحيث يمكن اجتماعهما, وفصل بين الدمين نقاء أو ضعيف. فإن صلح أحدهما للحيض دون الآخر, فهو الحيض كمسألة يوم بلا ليلة دما ثم اثني عشر نقاء ثم ثلاثا دما حيث جعلوا الحيض الأخير, وأن الدم المتصل أولى من لفق بعضه بغيره دون بعضه كهذه المسألة إلا أن تقتضيه عادتها في المعتادة, وإن صلحا للحيض, فالأول هو الحيض دون الباقي كمسألة من رأت ثلاثا دما ثم اثني عشر نقاء ثم ثلاثا دما حيث قالوا الحيض الأول, ومسألة سبع وسبع وسبع وثمان وثمان سوادا بينهما سبع حمرة حيث جعلوا السواد الأول كله حيضا, وزاد ابن سريج الحمرة المتخللة معه على ما سبق. الثالثة: المعتادة المميزة بأن يكون لها عادة في الحيض والطهر ثم يحدث عليها في بعض الأدوار دمان أو دماء مختلفة بالقوة والضعف كما في المبتدئة, كما لو كانت في العادة تحيض خمسا من كل شهر فرأت في شهر أوله خمسا أحمر ثم خمسة عشر أسود أو رأت أوله ثلاثا أسود ثم باقيه أحمر, وفيها وجهان أحدهما ترد إلى عادتها قدرا ووقتا كما سيأتي في غير المميزة, فحيضها خمس من أول الشهر في المسألتين والثاني, وهو الأصح عند أصحابنا إلا النادر اعتبار التمييز فيها كالمبتدئة في كل ما سبق, فحيضها في المسألتين السواد وكذا لو ظهر القوي في غير وقتها كأن رأت أول الشهر أحمر ثم نصفه الآخر أسود ثم أحمر مستمرا, فحيضها على الأصح الأسود. وعلى الأول خمس من أول الشهر وباقي الشهر طهر فلو رأت الخمس الأول أسود وباقي الشهر أحمر, أو في آخره شيئا أسود فحيضها الخمس الأول وباقيه طهر على الوجهين. الرابعة: المعتادة غير المميزة بأن سبق لها حيض وطهر ولا تمييز لها وهي ذاكرة وقتهما

 

ج / 1 ص -132-        وقدرهما فترد إليهما قدرا ووقتا, ولو لم يتكرر لها ذلك كما سبق في التي قبلها إذا لم يختلف الدم أن حيضها الخمس الأول حتى لو رأت المبتدئة حيضا وطهرا بحكم التمييز صارت عادة لها تعمل بها فيما بعد كأن رأت شهرا أوله أحمر ثم خامسه أسود إلى ستة أيام ثم استمر أحمر إلى آخره ثم رأت أسود مستمرا, فحيضها ست من أوله, أي الأسود وبعدها عشرون طهرا ويصير دورها ستا وعشرين, فلو رأت مبتدئة أول الشهر خمسا أحمر ثم عشرين نقاء ثم دما مستمرا بأي صفة, فحيضها خمس من أوله وكذا لو كان ما بعد الخمس الأول أشقر إلى عشرين ثم أحمر مستمرا ويكون طهرها فيهما عشرين, فلو رأت أول الشهر سبعا أحمر ثم ثمانية أسود ثم خمسة عشر أشقر ثم استمر أحمر, فحيضها ثمانية السواد, وطهرها الشقرة ثم تأخذ من الأحمر الثاني ثمانية عادة الحيض بالتمييز ثم خمسة عشر طهرا عادتها به ثم تحيض وتطهر كذلك إن كان استمر ما لم يقطعه نقاء أو أقوى منه فلو اختلفت عادتها مع انتظام كأن ترى حيضا ثلاثا وحيضا خمسا وحيضا سبعا وتطهر باقي الشهر ثم تحيض ثلاثا ثم خمسا ثم سبعا كذلك ثم استحيضت ردت إلى ذلك, فيحكم لها في كل شهر كما مضى بترتيبه إن كان تكرر ذلك ولو مرتين حيضا وطهرا كما مثلنا. وإن اختلفت ولم تكرر أو تكررت, ولم تنتظم ردت إلى آخرها كأن حاضت ثلاثا ثم خمسا ثم سبعا ثم استحيضت أو ثلاثا ثم خمسا ثم ستا ثم ثلاثا ثم يومين ثم خمسا ثم سبعا ثم استحيضت ردت إلى السبع وكذا في الطهر إن كان استمر بعادة عمل بها ولو مختلفا إن كان انتظمت وتكررت, وإلا ردت إلى آخر دور كما لو كانت تحيض خمسا أول الشهر, وتطهر آخره فحاضت في شهر آخره خمسا وانقطع, فطهرها حينئذ عشرون ثم طهرت ثلاثين ثم استحيضت, فيكون حيضها خمسا عادتها من أول الدم, وطهرها ثلاثين بالعادة الأخيرة به ثم إنه قد تتغير العادة في الحيض والطهر معا بلا انتظام فتعمل بالأخير كما قلنا فيهما كما لو كانت تحيض خمسا من أول كل شهر فحاضت في شهر الخمس الثانية, ثم طهرت ثلاثين ثم استحيضت, فحيضها خمس من أول الدم, وهي الخمس الثالثة من شهر الاستحاضة, وطهرها بعده ثلاثون. فالتغير قد يكون في الوقت دون القدر في الحيض كهذه المسألة, وقد يكون في القدر دون الوقت كأن رأت ذات الخمس أيام عادتها, وزاد يومين ثم تستحاض في الشهر الثاني فيكون حيضها أيام عادتها سبعا وطهرها كالأول فلو رأت مكان الخمس ثلاثا نقص حيضها يومين وهي في الطهر بعادتها, وقد يتغيران معا كأن ترى ذات الخمس من أول كل شهر أول الثاني نقاء إلى عشر ثم تحيض إلى عشرين ثم تطهر سبعا وعشرين ثم تستحاض, فأصل عادتها خمس أول الشهر, وطهرها خمس وعشرون آخره فتغيرت في الأخير بعشر حيضا في غير وقت الأول, وهي العشر الوسطى, وصار الطهر بينهما خمسة وثلاثين ثم صار طهرها بعد العشر سبعا وعشرين. فتعمل به؛ لأنه الأخير ويكون حيضها من أول دم الاستحاضة عشرا, وطهرها سبعة وعشرين, والحكم كذلك فيما لو تكرر لها حيض وطهر بحكم التمييز كأن يكون كل طهر في.

 

ج / 1 ص -133-        مسائلنا دما ضعيفا, وحيضه دما ضعيفا ثم تستحاض فتعمل بعادتها على صفة التمييز فإن انتظم به عادات وتكررت عملت بها كما قلنا في النقاء, ومن مسائل النقل: أن من عادتها خمس من أول كل شهر وباقيه طهر فرأت في شهر الخمس الأخيرة واستمر الدم ففيها وجهان مشهوران: أحدهما قاله أبو العباس ابن سريج: حيضها خمس من أول الدم ويصير طهرها عشرين؛ لأنه دم يصلح للحيض بعد طهر كامل فتحيض ما دامت الاستحاضة كذلك خمسا, وتطهر عشرين والثاني: وهو ظاهر المذهب حيضها الخمس الأولى من الشهر الثاني مراعاة لوقت عادتها إذا ثبت مناط الحكم فلا يغير إلا بناسخ, وما قبلها في آخر الأول دم فساد, وقد سبق أن الدم الثاني لو انقطع بخمس كان هو الحيض ويصير دورها خمسا وعشرين في حيض, وعشرون في طهر فلو رأت الدم مستمرا بعد عشرين نقاء أخذنا لها من أولها خمسا حيضا وعشرين طهرا. وهكذا ما دامت الاستحاضة, فتغير الزمان إنما يظهر إذا تكرر وانسحب الدم عليه كما سبق التمثيل به من غير نظر لأول شهر ولا آخره, وكذا لو كانت تعتاد الخمس الأولى مرارا ثم رأتها في شهر نقاء ورأت الدم في الخمس الثانية يكون حيضها خمسا منه إن كان استمر حتى جاوز الأكثر, وذلك كله فيمن ينسحب دمها أو يتقطع في وقت الحكم بالطهر لما لا يقع طهرا كأن تحيض خمسة العادة, ثم تطهر عشرا ثم ترى الدم مستمرا فإن حيضها إنما يكون بعد مضي قدر الطهر المعتاد, وأما من يتكرر تقطع دمها بنقاء متكرر بين الدماء, ويستمر ذلك بها على أول دور آخر, فلها حكم يطول شأنه وسيأتي ثم الحكم بثبوت العادة بمرة هو الأصح. ومراعاة الأخير عند اختلاف العادة مبني عليه كما بنينا عليه المسائل المذكورة ولنا وجه باشتراط تكررها مرتين ووجه به ثلاثا, ولنا وجه بمراعاة الأولية في بعض المسائل أعني ولو قبل عادة الحيض كما سبق عن ابن سريج قريبا فلنذكر ما يترتب على ذلك ببيان رفع الإشكال في مسألة منه في كلام الشيخين, فنأتي بكلامهما على وجهه, وإن كان قد سبق ذكر شيء منه ثم نذكر المشكل. قال النووي - رحمه الله في روضته وكذا في شرح المهذب نقلا عن الرافعي بلفظه فيه غالبا فيمن تحيض من كل شهر خمسا أوله إذا حاضت خمستها المعهودة أول الشهر ثم طهرت عشرين ثم عاد الدم في الخمسة الأخيرة منه فقد تقدم حيضها وصار دورها خمسة وعشرين, فإن تكرر ذلك بأن انقطع بعد الخمس الأخيرة ثم طهرت عشرين ثم رأت الدم خمسا ثم طهرت عشرين, وهكذا مرات أو مرتين ثم استحاضت ردت إلى ذلك وجعل دورها أبدا خمسة وعشرين وإن لم يتكرر بأن استمر الدم من الخمس الأخيرة يعني بعد أن رأت دور الخمس والعشرين دما ونقاء مرة واحدة قال الرافعي "فحاصل ما يخرج طرق الأصحاب فيها وفي نظائرها أربعة أوجه: أصحها: تحيض خمسا من أول الدم وتطهر عشرين أبدا, والثاني: تحيض خمسا وتطهر خمسة وعشرين والثالث: تحيض عشرة من هذا الدم وتطهر خمسة وعشرين ثم تحافظ على دورها القديم, والرابع: أن الخمس الأخيرة, وهي أول الدم استحاضة وتحيض بعدها

 

ج / 1 ص -134-        خمسا أول الشهر الثاني ثم تطهر خمسة وعشرين أما لو كانت المسألة بحالها فحاضت خمستها وطهرت أربعة عشر يوما ثم عاد الدم واستمر, فالمتخلل بين خمستها والدم ناقص عن أقل الطهر ففيها أربعة أوجه: أصحها أن يوما من أول الدم العائد استحاضة تكميلا للطهر وخمسة بعده حيض ثم خمسة عشر طهر وصار دورها عشرين, والثاني: أن أول يوم استحاضة كالأول ثم العشرة الباقية من ذا الشهر مع خمس من الآخر حيض ثم تطهر خمسة وعشرين ثم تحافظ على دورها القديم, والثالث: أن اليوم الأول استحاضة وبعده خمس حيض ثم خمسة وعشرون طهر, وهكذا أبدا, والرابع: جميع العائد إلى آخر الشهر استحاضة وتفتح دورها القديم من أول الشهر الثاني والله أعلم ا هـ. وقد تبعه على هذا مختصر الروضة وصاحب جامع المختصرات وشارح روض ابن المقري الشيخ زكريا بل قرره بما يزيد الإشكال الآتي, ومثله المزجد في عبابه وقد استشكل في المسألة الأخيرة بأنه خلاف القواعد المقررة فإنه لم يسبق لها دور هو عشرون في هذا التصوير فترجع إليه, وقد قرر في المجموع عقب ذلك أنها لو طهرت بعد خمس العادة عشرا ثم استحيضت ردت إلى عادتها بلا خلاف فكيف يقدح في عدد الأربعة عشر. وحدها التكميل بيوم الطهر ثم تحيض تحكما بغير دليل, وقياسها في المسألة المصورة عن الرافعي أن تكون كالتي قبلها إن كانت مسبوقة بها فتطهر ستا من أول الدم, ثم تحيض خمسا فدورها خمس وعشرون على الأصح كما مر فيها ويختلف الخلاف فيها, فإن لهذه عادة قد تكررت مرتين, وإن لم تكن مسبوقة بها, بل كانت تحيض في كل شهر أوله خمسا فرأتها في شهر ثم طهرت أربعة عشر ثم استحيضت كما وقع التصوير به للمتأخرين ممن وافق ومن استشكل, فقياس ما سبق وقاعدته أن يكون حيضها على الأصح خمسا أول الشهر الثاني وما قبله استحاضة, وتحافظ على دورها القديم كما هو الوجه الرابع فيما ذكره ولم ينبه أحد من المصنفين على هذه المخالفة بل تنبه له شيوخنا - رحمهم الله - ورأوا الرد في ذلك إلى ما اقتضته القواعد وظهر من كلام الشيخين - رحمهما الله - أن فيها كلاما سقط أوله كما يقتضيه ترتيبه في تنقل العادة في الطهر, فإنه قال قد يتغير قدر الطهر دون الحيض, فذكر صورة من دورها ثلاثون كما ذكرنا. وطهرها منه خمسة وعشرون ثم رأت الدم بعد عشرين منه فنقص منه خمس ثم طهرت عشرين ثم استحيضت فصار دورها خمسا وعشرين بالصفة الأخيرة فلو لم يتكرر, بل استحيضت بعد العشرين الطهر أول مرة ردت إليه؛ لأنه الأخير بناء على ثبوت العادة بمرة ثم ذكر المسألة المذكورة, ولم يذكر فيها انقطاعا بأقل, فقياس سياق كلامه أن يقول أما لو كانت المسألة بحالها فحاضت خمستها ثم طهرت خمسة عشر ثم رأت الدم خمسا ثم انقطع وطهرت أربعة عشر ثم رأته ففيها أربعة أوجه: ويذكر ذلك على ما صورته, وهذا عندي لا شك فيه من حيث النظر. وأظن هذا الاختلاف شبيه بما فهمه الولي أبو زرعة من الروضة فيمن صلى بصلاة الإمام على مرتفع, وهو لا يحاذيه بجزء منه حيث وقع فيها وفي غيرها أنه

 

ج / 1 ص -135-        لا تصح صلاة المأموم في غير المسجد أن ذلك مبني على طريقة الخراسانيين في اشتراط قوة الاتصال والقرب وهي مرجحة عند النووي وبما فهمه الإسنوي وغيره مما نقله في الروضة عن النص والجمهور فيمن قال: إن كان فعلت كذا فما لي صدقة أنه يلزمه إن كان فعله التصدق بكل ماله أنه مبني على وجوب الوفاء بما يسمى في نذر اللجاج كما هو قول, ولكنه مرجوح وإن المسألة فرد من أفراد نذر اللجاج, وادعى كل منهما أن ما ذكره يؤخذ من طي كلام النووي وتبعهما غيرهما من المتأخرين أو لعل ما ظنناه سقط من نسخة العزيز التي اختصر منها الروضة فقد ذكروا أنها سقيمة وتبعه على ما فيها من غير تأمل للسقط في الروضة وشرح المهذب, وقد أثبته في النسخ المعتمدة كما ذكروا أن الرافعي في العزيز نقل عن الجديد أن من زوج أمته بعبده لا يسن له أن يسمي مهرا وروي عن القديم أنه يسن له ذلك وعكسه في الروضة فقال؟ "يسن في الجديد دون القديم قالوا, وسببه سقم نسخته من العزيز نبه على ذلك النشائي وأطبق عليه من خلفه وأشياء غير ذلك فيها, والله أعلم. ولنبين ما بنيت عليه الوجوه في المسألتين لتعرف صحة ما قررناه, ففي الأولى وهي من رأت الدم خمسا ثم طهرت عشرين ثم رأته واستحيضت من أول وهلة وجه الأصح ثبوت العادة بمرة وأن من اختلفت أدوارها تأخذ بالأخير, ووجه الثاني أن تحيض خمسة أوله لتكررها ثم تطهر خمسة وعشرين كعادتها القديمة إذ لم يتكرر الطهر الأخير بناء على اشتراط تكررها, ووجه الثالث تحيض عشرة اعتبارا بأول الدم في خمس ومحافظة على وقت الأولى لتكررها مرارا. ووجه الرابع أن حيضها من أول الشهر وما قبله استحاضة مراعاة لتكرر العادة في الطهر والحيض مرارا فترجع للقديمة, وأما في المسألة الثانية بناء على ما قررناه فيمن لها خمس حيض أول الشهر وباقيه طهر ثم رأت في شهر بعد حيضها خمسة عشر نقاء ثم رأت الدم خمسا ثم طهرت أربعة عشر ثم رأته, وجه الأصح أن يوما من أول دمها استحاضة وبعده خمس حيض ثم خمسة عشر طهر ثبوت العادة بمرة فيهما, واعتماد الأخيرة كما في المسألة الأولى, ووجه الثالث أن تحيض خمسة كذلك؛ لأن الحيض تكرر بها وتطهر خمسا وعشرين كعادتها القديمة إذا لم تره زمن الصحة إلا مرة بناء على أنها لا تثبت بها, وهو كالثاني في الأولى, ووجه الثاني هنا أنها تحيض خمسة عشر عشرا من أول الدم مراعاة لأوليته, وخمسا من أول الشهر مراعاة لوقت عادتها القديمة لتكررها فيه وهو على نمط الوجه الثالث في الأولى, والوجه الرابع هنا يراعي العادة القديمة في وقتها حيضا وطهرا لتكررها مرارا كما في المسألة الأولى, والله أعلم. أقول: وهذا مما من الله به وله الحمد في حل إشكال هذه المسألة بعد طول البحث والفكر فيها مع عدم من نظر في ذلك بعد وجوده, وإنما ظهر ذلك بمدد من الله تعالى بعد اللجء إليه فيه فألهمني فهم ما سقط من تصويرها في كلام الشيخين كما سبق, وبذلك أي - رد الساقط في محله - ينتظم أوله وآخره كما قررناه قال شيخنا الإمام عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي فضل؟ "ولم أر من تنبه لهذا.

 

ج / 1 ص -136-        الإشكال إلا زكريا في شرح البهجة ولم يحله" ا هـ. ثم اعلم أن المعتادة إذا عرفت عادة ثم طرأ عليها ما يوجب التمييز عملت به على الأصح كما سبق فيمن كانت تحيض أول كل شهر خمسا لو رأت قبل خمسها خمسا دما أقوى من دم خمسها, فحيضها القوي بناء على ذلك ويصير دورها خمسا وعشرين وكذا لو رأت القوي بعد خمسها فتنتقل إليه, ويصير دورها خمسة وثلاثين فلو رأت الخمسة المعتادة ثم نقاء خمسة عشر ثم رأت دما أقوى من دمها خمسا أو أكثر إلى خمسة عشر ثم ضعف واستمر فقال الفوراني والبغوي وصاحب العدة: الخمسة الأولى من الدم حيض بالعادة ثم النقاء طهر ثم يكون القوي حيضا لصلاحية كل لما ذكر, وهو الصحيح في الروضة فلو رأت خمستها أحمر ثم أطبق أسود إلى آخر الشهر قال في شرح المهذب: فالمذهب أن السواد يرفع حكم الأحمر, وإن كان معتادا, فحيضها هنا خمسة من أول الأسود, فاعرف هذه الأخيرة فقد تخفى على المتفقه فيحسب أن المعتبر للحيض خمس العادة في وقتها لعدم صلاحية الأسود لكونه كله حيضا ويصير دورها في الأول مع الخمس عشرين, وفي هذه خمسة وثلاثين إن كان لم يحصل تمييز بعد معتبر أو انقطاع, هذا كله حكم من لم ينقطع دم استحاضتها أو انقطع وانسحب الدم على أيام عادتها, وأما ذات المتقطع, فاعلم أن النقاء الواقع بين الدمين المحكوم بكونهما حيضا واحدا حكمهما كالدم في كونه حيضا على الأظهر كنقاء من لم يجاوز دمها خمسة عشر أو الذي بين دمي من جاوزها فيما حكم بهما حيضا لتمييز أو عادة على ما سبق, كأن رأت دماء متقطعة فيها سواد يبلغ مجموعه خمسة عشر يوما وليلة ثم تقطع أحمر فقط, فالسواد وما تخلله من دم أو نقاء حيض والباقي طهر حتى يتغير بأقوى يصلح حيضا آخر, وأما من تقطع دمها بصفة حتى جاوز خمسة عشر فكله استحاضة يؤخذ منه المرد السابق سواء كان الخامس عشر وما يليه دما أو نقاء, فإن كانت مميزة أخذت بالتمييز أو غير مميزة, فإن كانت مبتدئة فيوم وليلة من أول الدم أو أثنائه إن كان لم يبلغها, الأول حيض وباقي الشهر استحاضة أعني تسعا وعشرين بعد الحيض, فلو تقطع الدم بأقل من يوم وليلة كله كيوم دم وليلة نقاء, فلا حيض لها على الأصح, ومثلها من عادتها يوم وليلة, وإن كانت معتادة في غير ذلك, وانطبق الدم على أيام العادة, فهي الحيض وإن لم يقع في شيء منها بل سبقها دم وتأخر عنها دم أخذنا قدر عادتها من أول أقرب الدمين إلى أول العادة كأن كانت تحيض ستا أول الشهر فرأتها ثم رأت ستا آخره ونقاء أول الثاني ثم دما لثمان منه فإن حيضها الست السابقة؛ لأنها أقرب إلى أول العادة بيوم, فإن اتفقتا في القرب فحيضها من أول المتأخرة, كما لو رأته في مثالنا السبع من الشهر الثاني, فحيضها الأخيرة, فلو كان حيضها أول الشهر فرأته في شهر آخر يوم الثلاثين واستمر سبعا أو تقطع بنقاء في خلالها أيام عادتها, واليوم الأول استحاضة على الأصح كما سبق, وإن استمر ستا فقط ولو بنقاء في أوساطها حيضناها ستا من أول الدم على الأصح, وكذا لو تأخر الدم عن أول العادة فإنا نتم العادة مما بعده, وكذا

 

ج / 1 ص -137-        إن لم كان لم تر الدم هذه إلا لعشر من الشهر الثاني فإنا نأخذ لها ستا منه حيضا بما تخللها, ويزيد طهرها تسعا فتثبت عادتها على ما تقدم إن كان اتصل, وحيث حكم لها بابتداء الحيض من دم ولم يمكن استيفاء العادة إلا بنقاء قبله أو بعده نقص حيضها كأن يكون عادتها خمسا أول الشهر فرأته أوله يومين ثم يوما نقاء ثم يوما دما وهكذا فحيضها الأربع الأولى دون النقاء الأخير؛ لأنه لم يحتوشه دماء حيض إذ لو حيضناها السادس لزدنا على قدر العادة, وكذا لو لم تره إلا ثانية وتقطع يوما دما فيومين نقاء, فحيضها الثاني وثلاث بعده لا الأول إذ لم يسبقه دم ولا ما بعدها لما سبق فلو رأت الدم في الدور الثاني أول الثلاثين حيضناها من أوله, ولا يصير نقاء ولها مع التقطع عادة, وهكذا ما دام التقطع فنأخذ ما انطبق على أيام العادة, فإن لم يقع شيء منه فيها, فأول حيضها أقرب أول الدمين إلى أولها فإن استويا فالأخيرة كما سبق, فلو كان حيضها أول الشهر خمسا كما ذكر فرأته أربعا وثلاثة نقاء واستمر, فحيضها الأربع من يوم تسع وعشرين لا من يوم ست وثلاثين؛ لأن الأول أقرب لأول دم العادة وفي الدور الثاني من أول الثلاثين الثانية, لأنها أيام عادتها أصلا, وكذا تدور بمراعاتها على ما ذكر ما دامت كذلك فلو رأت هذه يومين ويومين فاتفق أول دمها يوم تسع وعشرين ويوم الثالث والثلاثين حيضناها من الثاني لاستواء أقربهما وتأخره فهو أولى والله أعلم. وأما من نسيت عادتها قدرا ووقتا فهي المتحيرة وفيها قولان أحدهما هي كالمبتدئة لا تمييز لها فترد إلى يوم وليلة من أوله حيضا فإن لم تعرف أوله فمن أول الشهر الهلالي على الأصح وتسعة وعشرين طهرا أبدا, والأظهر وجوب الاحتياط فيحرم الوطء ونحوه ومس المصحف والقراءة في غير الصلاة وتصلي الفرائض أبدا, وكذا النفل في الأصح وتقرأ فيها الفاتحة والسورة, ومثلها فرضا ونفلا الصوم والطواف وتدخل له المسجد, وكذا الجماعة كما ذكره بعضهم وتغتسل لكل فرض أو صلاة نفل بعد خروج وقت ما اغتسلت له في الأصح نعم إن كان ذكرت وقت انقطاع دمها كوقت الظهر لم تغتسل إلا ذلك الوقت كل يوم وتصوم رمضان ثم تقضيه مرة أخرى لاحتمال وقوع بعضه في الحيض فتحتاط, وهل يلزمها قضاء؟ ظاهر نص الشافعي لا, ونقله جمع عن جمهور أصحابنا, وصحح جمع وجوبه, أي قضاء صلاة مبهمة لكل ستة عشر يوما, وصححه في أصل الروضة قال الرافعي وهو الصحيح عند الجمهور, لاحتمال انقطاع الدم بين الغسل وفراغ الصلاة والله أعلم". ولقضائها صفة طويلة مذكورة في كتب الفقه. وأما من نسيت قدر عادتها وعرفت أول دمها فتحيض يوما وليلة ثم تحتاط كالمتحيرة إلى خمسة عشر وبعدها هي طاهرة إلى يوم أول العادة, ومن عرفت قدرها وجهلت وقتها بالكلية فإن لم تدر أنها تحيض في كل شهر أو مدة معروفة مكثت ستة أول الدم قدر العادة تصلي كل فرض بوضوء في وقته ثم بعد ذلك تفعل ما تفعل المتحيرة أبدا, وإن عرفته في زمن معروف طويل كشهر, ولم تعرف عينه منه لا أوله ولا آخره صلت بالوضوء أول ذلك الزمن حتى يمضي قدر الحيض ثم تحتاط إلى أول مثله وتغتسل

 

ج / 1 ص -138-        للاحتياط كالمتحيرة إلى حيث لا يحتمل انقطاع الدم عادة, فتقتصر على الوضوء, وحيث عرفت وقت الانقطاع من ليل أو نهار فتقتصر على الغسل عنده, وكذلك كله أمثلة هذا أصلها ومن لها عادات مختلفة غير منتظمة ولم تعلم أخراها ردت في الاستحاضة لأقلها في الحيض ثم تغتسل وتصلي وتفعل ما تفعل المتحيرة إلى أن يمضي قدر أكثر عاداتها ثم هي طاهرة إلى مثل وقت حيضها ثم هكذا, ولا يخفى قياس من اختلفت عادة طهرها كذلك والله أعلم.
"خاتمة" قد عرف أنه يحرم على الحائض ما يحرم على المحدث والجنب, وتزيد بتحريم الطهارة والصوم وقراءة القرآن وعبور المسجد إن كان خافت تلويثه, ويحرم وطؤها وكذا الاستمتاع بها بما بين السرة والركبة وقيل: لا يحرم واختاره النووي في شرح المهذب وغيره, ويجوز نظر عورتها قال بعض المتأخرين: ويحرم عليها أن تستمتع بما بين سرة زوجها وركبته, وفيه نظر قوي, وظاهر كلام الأئمة خلافه وتقضي الصوم دون الصلاة, وللمستحاضة فيه حكم الصحيحة على الأصح إلا المتحيرة, فحيث يحكم بطهرها فلها حكم الطاهرات مطلقا فللزوج وطؤها لكنها في أول أمرها إذا زاد الدم على عادتها قبل أن يصل خمسة عشر تبقى على حكم الحيض لرجاء انقطاعه فيها فيكون كله حيضا فإذا جاوزها تبين أن ما زاد على عادتها طهر, فتقضي صلاته ثم في الدور الثاني إذا مضت عادة حيضها, وبها الدم تغتسل ويحكم بطهرها فإن انقطع لخمسة عشر فأقل تبين كونه كله حيضا هذا إن كان متصلا, وكذا إن كان متفاصلا بنقاء لا يكون طهرا مستقلا على ما رجحه الرافعي, وعليه جمع من المتأخرين, وضده أن من تقطع دمها فلها حكم المبتدئة تفعل ما تفعل الحائض إن كان رأت الدم والطاهرة منه إذا انقطع وتغتسل, وذلك في كل دور حتى تبلغ خمسة عشر, وإن كثرت الأدوار كذلك, ورجحه النووي وغيره, والله أعلم.
"خاتمة" للخاتمة المستحاضة حيث أمرت بالصلاة بلا غسل أو به تتوضأ كسلس البول في وقت الصلاة بعد أن تغسل فرجها ثم تحشوه بنحو قطن طاهر ثم إن كان لم يمنع الدم كله عصبت عليه بعصابة إن كان لم يؤذها الدم, فإن كانت صائمة كفت العصابة عن الحشو ويبادران بالصلاة, فإن انتظرا جماعة أو أخرا لنحو ستر وأذان لم يضر وإلا ضر, وينويان بأن استباحة الصلاة مع ذكر الفريضة في الفرضية عند أول الوجه, ولا تكفي نية رفع الحدث, وينبغي ضمها للأول خروجا من خلاف من أوجبها ويعيدان التعصيب والوضوء لكل فرض ويتبعه كل نفل في وقته لا بعده على الأصح والله أعلم.

"فصل في النفاس وما يتعلق به النفاس وما يتعلق به".
هو دم الولادة, وأقله مجة, وغالبه أربعون وأكثره ستون قال الرافعي: "وفي أول وقته أوجه: الأول: من عند الطلق, والثاني: عند الولادة, والثالث: وهو الأصح من انفصال الولد.

 

ج / 1 ص -139-        وحكى الإمام وجها أن من ولدت ولم تر دما أياما دون أقل الطهر ثم رأته, فابتداؤها يحسب من خروج الدم لا من الولادة, وهذا وجه رابع" ا هـ. وهذا لفظ أصل الروضة, ونقله في المجموع عن الرافعي في أول النفاس على سقم في نسخته: وأقره ثم قال في أثناء النفاس: لو ولدت ولم تر دما أياما ثم رأته, فهل يكون ابتداء مدة النفاس من رؤيته أو من الولادة؟ وجهان: حكاهما الإمام, أصحهما: من رؤيته وكذا صحح في التحقيق أنه من رؤيته, وقد يوهم تناقض بين كلاميهما وكلام الروضة كما ذكره بعض أئمة المتأخرين, والظاهر أنه لا تناقض بينهما, بل كلام الرافعي في تصحيحه أنه من الولادة, أي وقت ابتداء الستين, وأن النفاس الدم الخارج بعدها فإن تأخر فما بينهما من النقاء طهر كما ذكرنا أن الأصح في المجموع والتحقيق: أن أول النفاس من خروج الدم لا من الولادة, أي فلا يتعلق بالمرأة أحكامه من تحريم الصلاة والوطء ونحوه إلا بعد خروج الدم, ولها قبله حكم الطاهرات وبهذا صرح البلقيني, وليس ببعيد كما قلنا: أقل الحيض يوم وليلة, وأكثره خمسة عشر, ومرادنا بالأول قدر زمن الدم, وإن تفرق وبالثاني مطلق الزمن حتى يكون ما بعده غير حيض وإن لم تر قبله إلا قدر يوم وليلة مفرقا سيما عند من يرى تلفيق الدماء المتفرقة, ويكون ما بينهما طهرا ويدل على أن الرافعي أراد هنا حكايته. الوجه الرابع عن الإمام: أنها إذا رأت الدم بعد الولادة بأيام فابتداء المدة منه وضعفه, وكذا أقره النووي وصحح أن النفاس من الدم, وقد اتفقوا على تفسيره بالدم. فالمقصود بتصحيحه كونه من انفصال الولد ابتداء المدة مقابلا للوجهين اللذين قبله أنه من الطلق, أو مقارن الولادة لا كونها نفاسا بعدها, وإن لم تر الدم إلا بعد أيام دون خمسة عشر بل المأخوذ من كلامهما اتفاقهما على أنها طاهرة ما لم تره إلا عند من اعتبر دم الطلق أو مقارن الولادة إن كان وجدا, فإن النفاس عنده يستمر من حينئذ أما على الأصح من عدم اعتبارهما فإنما النفاس بعد رؤية الدم بعد الولادة وابتداء الستين من الولادة, وإن تأخر الدم عنها حتى يجيء فما ترى بعد الستين منها حكم ما جاوز الأكثر كما سيأتي إلا على الوجه الذي حكاه الإمام: ابتداء المدة من خروج الدم لا من الولادة ا هـ. فلنفرع على ذلك فنقول: من ولدت ولم تر دما فلا نفاس لها أصلا, فإذا اغتسلت فلها حكم الطاهرات في كل شيء فإذا رأته قبل مضي خمسة عشر ولم يجاوز ستين - فهو نفاس بأي صفة كان, وكذلك ما تخلله من نقاء على الأظهر فإن جاوز الدم الستين من غير اتصال بها بأن رأت النقاء بعدها بخمسة عشر يوما ثم ظهر الدم - فهو حيض إن كان بلغ يوما وليلة على ما سبق, وكذا إن كان رأته قبل مضي الخمسة عشر على الأصح السابق بيانه أول الحيض, وإن اتصل بآخر الستين فهي مستحاضة حكمها كهي في الحيض, وتفصيله أنها تكون مميزة وغيرها مبتدئة أو معتادة. الأولى: المبتدئة المميزة بأن ترى قويا وضعيفا, فالقوي هو النفاس إن كان لم يجاوز الستين, وإلا فهي غير مميزة, والضعيف طهر قل أو كثر إن كان متأخرا عنه نعم إن كان سبق الدمين نقاء خمسة عشر فأكثر, فالقوي حيض كما سبق فلو رأت عقب الولادة دما أحمر خمسة عشر أو

 

ج / 1 ص -140-        نقاء دون خمسة عشر ثم دما أحمر يتمها ثم أسود دون الستين من الولادة ثم استمر أحمر أو أشقر, فقياس كون الضعيف طهرا أن يكون الأسود حيضا لتقدم مدة الطهر عليه, وينبغي أن يكون الدمان الأولان نفاسا لوجود الولادة وصلاحيتهما له, وانقلاب الدم بعد الستين دلالة على كونه دم استحاضة, وهذا الأمر أيضا يعم ما لو كان الأول أضعف من الأخير الذي بعد الستين كأن ترى أولا عشرين يوما دما أشقر ثم أربعين أسود ثم دما أحمر فيكون الأولان نفاسا دون الأخير, وكذلك لو رأت الأخير قبل الستين, وجاوزها متصلا فهو طهر من أوله, وهذا ظاهر على الوجه الذي يقول: ابتداء حكم النفاس من الولادة, وإن لم تر دما إذا رأته قبل خمسة عشر بعمومه, وكيف يكون الضعيف كالنقاء وهي لو رأت نقاء ثم حدث الدم قبل خمسة عشر فهو محسوب من مدة النفاس, بل ظاهر إطلاقهم أن من رأت عقب الولادة متصلا, أو بعد قرب دما ضعيفا ورأت بعده قبل خمسة عشر قويا وجاوز, الأكثر أن يكون الضعيف طهرا وهو بعيد, والمسألة في الصورة الأولى بين أن يحكم بأن لا نفاس لها, ويكون القوي حيضا أو يكون هو وما قبله, وإن كان في غاية الضعف نفاسا فيكون ذلك فيما إذا رأت القوي قبل خمسة عشر أولى, وهذا عندي أقرب فهما لإطلاقهم أن الدم إذا وقع في مدة النفاس يكون كله أو بعضه نفاسا, ولتصويرهم مسألة الحيض في مدة النفاس بما سبقه نقاء خمسة عشر, وهذا ما رآه بعض أفاضل العصر أيضا أخذا من كلامهم فلو رأت قويا ثم ضعيفا, ثم أضعف منه كأسود ثم أحمر ثم أصفر, وجاوز الستين فهو طهر, والأولان نفاس كما يعرف من مثله في الحيض, وكذا لو رأت أسود ثم أحمر ثم أسود فيهما ثم أشقر وجاوز فهو طهر, والأحمر مع الأسودين نفاس, وإن زاد على خمسة عشر؛ لأن مدة النفاس تزيد عليها, وقد وقع بين أسودين يصلحان نفاسا, وكذا لو كان المتخلل شقرة أو كدرة, فلو زاد الأسود الثاني حتى جاوز الستين فهي مثل من رأت في الحيض سبعة أسود ثم سبعة أحمر ثم سبعة أسود فمن قال: السواد الأول مع الحمرة حيض قال: في الأحمر هنا أنه نفاس وإلا فالسواد الأول فقط, وهو الأصح في مسألة تخلل الحمرة بين السوادين الصالحين حيث قلنا: إنها نفاس مع بعدها من الولادة التي هي سببه تعرفك أن الحمرة قبل السواد مع قربها من الولادة أولى كما رأيناه آنفا, ولترد النظر في تفصيل المسألة, فإني لم أر من بلغها حقها حتى في المطولات, بل يحيلونها على استحاضة الحيض. الثانية: المبتدئة غير المميزة, وهي من كان دمها بصفة واحدة أو بصفتين وتأخر القوي حتى جاوز الستين, والأظهر ردها إلى أقل النفاس من أول الدم وهو مجة, وطهرها بعده تسع وعشرون ثم تحيض حيض المبتدئة يوما وليلة على الأظهر, ثم تطهر تسعا وعشرين كما مر في الحيض هذا إن كان لم تكن قد حاضت قبل أصلا, فإن كانت قد حاضت كما هو الأغلب طهرت بعد المجة عادة طهرها من الحيض ثم تحيض عادة حيضها فلو لم تحض إلا آخر حملها وطهرت بعد دون خمسة عشر وولدت - ردت بعد المجة إلى تسع وعشرين طهرا ثم قدر ما حاضت حيضا بناء على ثبوت عادة الحيض بمرة

 

ج / 1 ص -141-        وهو الأصح, وكذا لو كانت عادتها في الحيض عشرا وطهرها منه عشرين ثم ابتدأها نفاس ورأت الدم عشرين ثم طهرت منه عشرين ثم, استحيضت تحيض عشرا عادتها ثم, تطهر عشرين بناء على ثبوت العادة بالمرة الأخيرة كما سبق, ولو ولدت ولم تر دما ثم رأته بعد أيام دون قدر الطهر وجاوز أخذت قدر المجة من أول الدم نفاسا, وفي النقاء قبله وجهان: الأصح أنه طهر. الثالثة: المعتادة غير المميزة, وترد إلى عادتها نفاسا وطهرا ثم تحيض على عادتها إن كانت قد حاضت, وإلا فهي مبتدئة في الحيض فلو اعتادت أياما فرأت النقاء المذكور ثم الدماء أخذت منها عادتها كلها, وما قبلها طهر على الأصح كما سبق لكن لا يثبت به عادة في الطهر؛ لأنه دون أقله, فلو كانت قد ولدت مرارا ولم تر دما ثم ولدت, فهي الآن مبتدئة ولا يضر عدم النفاس عادة, ولو اختلف نفاسها ولم ينتظم بعادة متكررة ردت إلى قدر الأخير منه, وإن انتظم بعادة متكررة كأن كانت ترى الدم بولد أربعين وبولد ستين وتكرر مرتين فأكثر, فظاهر كلامهم الرجوع إلى ذلك, وكذا لو اختلفت بالذكر والأنثى وتكرر, ومن هنا تنتج مسألة لم أر من ذكرها لكنها تؤخذ من قاعدة الباب, وهي أنهم قالوا: المرجع في الطهر إلى آخر العادات, والغالب أن النساء في مدة حملهن لا يحضن فلو أن امرأة عادتها في الحيض خمس, وطهرها عشرون مثلا ثم حملت فاستمر بها الطهر لأجله كما هو الظاهر مدة الحمل تسعة أشهر, ثم ولدت ونفست وجاوز دمها الستين فظاهر إطلاقهم أنها بعد مرد النفاس تطهر تسعة أشهر وعشرين يوما إذ هي أقرب أطهارها ثم تحيض قدر عادة الحيض وهو كالمستبعد في الذهن, ويتخيل أنها ترد إلى طهرها الغالب بين الحيض وما قبله إن كان وفى خمسة عشر, وهو فيها عشرون لأن الظاهر انقطاع الدم للحمل كما هو الغالب, لكن الجاري على القاعدة هو الأول إن كان لم يرد نقل بخلافه كما مر أن من ابتدأها دم قوي يصلح للحيض ثم استمر بعده ضعيف ستة أو أكثر لم يجعلوا لها حيضا إلا الأول القوي قال الإمام: وهو كالمستبعد, ولكنه القياس, وبه أخذ الأئمة ثم لو حاضت بعد طهر صحيح وطهرت كذلك ثبت لها بذلك عادة فلو حملت بعد ذلك وانقطع الدم للحمل كالأول, فينبغي أن يكون انقطاعه له عادة يزيد الطهر بها حال الحمل لا غير بناء على الأخذ بالعادة المختلفة إذا انتظمت وتكررت والله أعلم. الرابعة: المعتادة المميزة بأن ترى الدم بصفة المبتدئة المميزة وعادتها تخالف التمييز, كأن كانت ترى النفاس عادة أربعين فرأت في دور أوله عشرين أسود ثم استمر أحمر وجاوز الستين فهل ترد إلى العادة وهي أربعون أو إلى التمييز وهو العشرون الأسود؟ فيه وجهان كالحيض: الأصح الرد إلى التمييز وكذا لو كانت عادتها ثلاثين متصلة بالولادة فرأت بعد ولادة عشرة أيام دما أحمر, ثم اتصل أسود وانقطع لدون الستين ثم احمر وجاوزها, فالأصح أن نفاسها مدة الأسود وما قبله والذي بعده طهر كما سبق في المبتدئة, والله أعلم ا هـ. ما أردنا ذكره ملتقطا من شرح المهذب مفرقا بالمعنى ومن غيره كما يعرف منه وينبغي أن يذاكر به من عنده تأهل للعلم والنظر فيه ليبين مشكله ويصلح خطأه إن كان

 

ج / 1 ص -142-        مأجورا على ذلك من عرضه ومن عرض عليه وفقنا الله وإياهم للصواب وجعل ذلك موجبا لرضاه آمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم أبدا, والحمد لله رب العالمين هذا تمام مؤلف الإمام عبد الله بن محمد بن حكم بن أبي قشير الحضرمي. وهاك ما كتبه عليه شيخنا مفرغا له الذهن معتنيا بتفهمه والإحاطة بما نبه عليه فيه مما لم نجده إلا في هذا الكتاب, وشرحي الإرشاد والعباب له - نفع الله به وبهما - آمين قال - عفا الله عنه وفسح في مدته ونفعني والمسلمين بعلومه وبركته -: بسم الله الرحمن الرحيم أحمد الله على مزيد إنعامه, وأشكره على مزايا إلهامه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أتبوأ بها مقاعد الصدق في دار إكرامه وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أبان لوارثيه عن قواعد الحق وأحكامه - صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه - صلى الله عليه وآله وسلم الذين بذلوا أنفسهم في تقرير الدين وأحكامه صلاة وسلاما دائمين بدوامه آمين.
"أما بعد" فإنه ورد علي أواخر شوال سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة بمكة المشرفة كتاب في أحكام الحيض والنفاس والاستحاضة لخصه مؤلفه الإمام العلامة الورع الصالح الفهامة عبد الله بن محمد بن أبي قشير الحضرمي - نفع الله بعلومه ومدده - من شرح المهذب وغيره مع ضم إشكالات إليه لنفسه وغيره, ثم أرسله إلي طالبا مني النظر فيه بتتميم ناقصه وحل مشكله وإصلاح ما ينبغي إصلاحه فأجبته إلى ذلك بالكلام على مشكلات مسائله وبيان ما فيها مع تقرير وجه الصواب بدلائله راجيا دعاءه الصالح ونفع المسلمين ومؤملا أن الله تعالى ينفعني بذلك إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم, وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. ولنقدم على الكلام عليه مقدمة نافعة قال في شرح المهذب ما حاصله: اعلم أن باب الحيض من عويص الأبواب, ومما غلط فيه كثيرون من الكتاب لدقة مسائله واعتنى به المحققون وأفردوه بالتصنيف في كتب مستقلة وأفرد أبو الفرج الدارمي من أئمة أصحابنا العراقيين مسألة المتحيرة في مجلد ضخم ليس فيه غيرها, وما يتعلق بها وأتى فيه بنفائس لم يسبق إليها, وحقق أشياء مهمة من أحكامها, وجمع إمام الحرمين في النهاية في باب الحيض نحو نصف مجلد. وقال بعد مسائل الصفرة والكدرة: لا ينبغي للناظر في أحكام الاستحاضة أن يضجر من تكرير الصور وإعادتها في الأبواب وبسط أصحابنا - رحمهم الله - مسائل الحيض أبلغ بسط وأكملوه أوضح إيضاح, واعتنوا بتفاريعه أشد اعتناء وبالغوا في تقريب مسائله بتكثير الأمثلة وتكرير الأحكام, وقد كنت جمعت في الحيض في شرح المهذب مجلدا كبيرا مشتملا على نفائس ثم رأيت الآن اختصاره والإتيان بمقاصده ومقصودي بما نبهت عليه أن لا يضجر مطالعه بإطالته فإني أحرص إن كان شاء الله تعالى على أن لا أطيله إلا بمهمات وقواعد وفوائد مطلوبات. وما ينشرح به قلب من له طلب مليح وقصد صحيح, ولا التفات إلى كراهة ذوي المهانة والبطالة فإن مسائل الحيض يكثر الاحتياج إليها؛ لعموم وقوعها, وقد رأيت ما لا يحصى من المرات من

 

ج / 1 ص -143-        يسأل من الرجال والنساء عن مسائل دقيقة وقعت فيها لا يهتدي إلى الجواب الصحيح فيها إلا أفراد من الحذاق المعتنين بباب الحيض, ومعلوم أن الحيض من الأمور العامة المتكررة ويترتب عليه ما لا يحصى من الأحكام كالطهارة والصلاة والقراءة والصوم والاعتكاف والحج والبلوغ والوطء والطلاق والخلع والإيلاء وكفارة العدوان وغيرها والعدة والاستبراء وغير ذلك من الأحكام, فيجب الاعتناء بما هذه حاله, وقد قال الدارمي في كتاب المتحيرة: الحيض كتاب ضائع لم يصنف فيه تصنيف يقوم بحقه ويشفي القلب. وأنا أرجو من فضل الله تعالى أن ما أجمعه في هذا الشرح يقوم بحقه أكمل قيام, وأنه لا تقع مسألة إلا وتوجد فيه نصا أو استنباطا, لكن قد يخفى موضعها على من لا يكمل مطالعته وبالله التوفيق ا هـ. وجميع ما ذكره حق واقع فيه سيما عويص مسائله, ولقد وقعت بين فضلاء اليمن مباحث في بعض عويصاته حتى حج بعضهم ممتحنا أو سائلا عنها, فألفت فيها تأليفا نفيسا فغلب الحسد على بعض من لا توفيق عنده فسرق ذلك التأليف قبل كتابة نسخة أخرى منه, لكن يسر الله تعالى - وله الحمد والمنة - في شرح العباب في تلك العويصة وغيرها من مسائل هذا الباب ما تقر به العيون ويعول عليه المحصلون كما سيأتي بعض ذلك في مواضع من هذا التأليف, وقد استوفيت في هذا الشرح مسائل شرح المهذب وغيرها فعليك به, فإنك لا تجد في هذا الباب أجمع لرءوس المسائل منه تقبله الله بمنه وكرمه ويسر إتمامه في عافية بلا محنة إنه أكرم كريم وأرحم رحيم.
قوله في تعريف الحيض: هو الدم الخارج من بطن الرحم في وقته بحكم الجبلة لا لعلة" تبع في قوله في وقته ما في المجموع عن أهل اللغة, وفيه دور إذ الضمير في قوله: في وقته يرجع إلى الحيض المعرف, فكأنه قال: الحيض هو الدم الخارج في وقت الحيض فلا يمكن معرفة الأول حتى يعرف الثاني وعكسه, فتوقفت معرفة الشيء على نفسه, وهو حقيقة الدور, ولا يصح الجواب برعاية اختلاف مدلولي الحيض؛ لأن الضمير إذا عاد على الحيض اللغوي أفسد التعريف من جهة أخرى لأن الحيض بالمعنى اللغوي يشمل النفاس وغيره, فلم يكن هذا التعريف مانعا, فالأولى تعريفه بما جريت عليه تبعا لهم في شرح العباب بقولي: وهو لغة السيلان, ثم قلت: وشرعا دم جبلة أي يقتضيه الطبع السليم يخرج من أقصى رحم المرأة في أوقات الصحة. ثم بينت أن قولهم في أوقات الصحة لا حاجة إليه إلا مجرد الإيضاح؛ لأنه استفيد من التعبير بالجبلة إذ هي كما في المجموع الخلقة, أي الدم المعتاد الذي يخرج في حال السلامة فإن قلت: يصح رجوع الضمير إلى الدم, والمراد بأوقات الدم أوقات الصحة بعد تسع سنين, فآلت العبارتان إلى شيء واحد قلت: ذلك ممكن, لكنه خفي مع ما فيه من البعد عن مظان التعريف إذ مبناه على الإيضاح ما أمكن, لأن القصد كشف الماهية وهو لا يتم إلا بتجنب المجاز والاشتراك وخفي الدلالة ونحو ذلك مما يخل بالفهم على أن الاعتراض على المؤلف أظهر منه على المجموع؛ لأن المجموع قدم قبل

 

ج / 1 ص -144-        ذلك التعريف قول الأزهري في تعريفه: دم يرخيه رحم المرأة بعد بلوغها في أوقات معتادة فهذا مبين للضمير في التعريف الذي ذكره عقبه ففي كلامه قرينة على المراد وأما المؤلف فلم يقدم ما يبين مراده, والأمر في ذلك كله سهل, وإنما القصد تشحيذ الأذهان بمثل ذلك,.
قوله: تسع سنين, أي قمرية,.
قوله: "فكل دم له يحكم به حيضا فهو استحاضة" عبارة قلقة إذ التقدير لم يحكم به في حال كونه حيضا, وهذا ليس هو المراد لفساده, وإنما المراد لم يحكم بكونه حيضا فتأمله. وقوله: "فهو استحاضة" فيه نظر وصوابه فهو استحاضة أو نفاس فالأولى قولنا في شرح العباب "كل دم خرج من فرج غيرهما, أي الحيض والنفاس استحاضة وإن لم تبلغ سن الحيض أو لم يتصل به كما في المجموع.
قوله: "بالذال المعجمة", أي في الأشهر وإلا فقد حكى ابن سيده إهمالها والجوهري مع إعجامها بدل اللام راء.
قوله: "وأقل الحيض يوم وليلة" يعني أن يظهر الدم على الفرج أربعا وعشرين ساعة ولو متفرقة في خمسة عشر يوما, ظاهره أنه لا يحكم بكون الدم حيضا إلا إذا ظهر خارج الفرج واستمر كذلك أربعا وعشرين ساعة, وليس مرادا بل إذا وصل إلى المحل الذي يجب غسله وهو ما يظهر عند الجلوس على قدميها كان له حكم الخارج عن الفرج, نعم لا يمكن العلم بكونه دما إلا إذا خرج منه شيء إلى خارج الفرج وحينئذ يحكم بكونه حيضا, وإن كان معلقا بأقصى الرحم؛ لخروج بعضه إلى ظاهر الفرج إذ ذلك كاف في الحكم على صاحبته بكونها حائضا ما دامت القطنة تخرج ملوثة, وإن لم يسل منه شيء إلى ما يظهر من فرجها عند جلوسها على قدميها, وعبارة الشيخين وغيرهما؟ "وتثبت أحكام الحيض بظهور الدم, وإن لم يبلغ يوما وليلة, وهي موافقة لما ذكرته أن الظهور إنما هو شرط للحكم عليه بالحيض في الابتداء دون الدوام كما تقرر.
قوله "فالدم الذي قبل الولادة حيض على الأصح بناء على أن الحامل تحيض وما بعدها بنفاس وما بينهما طهر قطعا" مراده بما بينهما ما بين قبل الولادة وبعدها وهو ما يخرج مع الولادة. وقوله: "إنها طهر" قطعا غير صحيح بل فيه خلاف مشهور, وصواب العبارة وما بعدها نفاس قطعا وما بينهما طهر على الأصح, وحاصل عبارة المجموع أن الخارج بعد الولادة نفاس قطعا ومعها فيه ثلاثة أوجه: أصحها ليس بنفاس بل له حكم الدم قبلها, وقد قاربها, وحكمه عند جمهور الأصحاب في الطرق كلها أنه ليس بنفاس بل له حكم دم الحامل, وقال صاحب الحاوي: إن كان انفصل عما بعد الولادة فليس بنفاس بلا خلاف, وإن اتصل به فقيل نفاس وقيل لا, وقد أوضح الرافعي المسألة فقال لو رأت الحامل الدم على عادتها واتصلت الولادة بآخره ولم يتخلل طهر أصلا - فوجهان: أصحهما أنه حيض

 

ج / 1 ص -145-        والثاني: دم فساد وليس بنفاس اتفاقا إذ لا يسبق الولادة؛ ولهذا قطع الجمهور بأن ما يبدو عند الطلق ليس بنفاس, وقيل: بل هو نفاس؛ لأنه من آثار الولادة وعلى الأول هو غير حيض على الأصح عند الجمهور فتستثنى هذه من قولنا: الحامل تحيض على الأصح ولا فرق في جريان الخلاف في كونها تحيض بين أن ترى الدم في زمن عادتها أو غيره, ولا بين أن يتصل بالولادة أو لا على الصحيح كما تقرر ا هـ. حاصل كلام المجموع ودلالته على ما قلناه ظاهرة جلية وعلم منه أيضا أن قول المؤلف وما بينهما طهر ليس على إطلاقه, بل المتصل من ذلك بحيضها المتقدم حيض, فمحل كون الدم الخارج مع الولد أو حال الطلق طهرا ما لم يتصل بحيض متقدم.
قوله: "المنقول في مسألة حد طهر الحيض منه عن التتمة" كلام لا معنى له, وصوابه المنقول في فرع إذا قلنا: دم الحامل حيض على أنه لو اقتصر على قوله المنقول عن التتمة وحذف ما بينهما لكان هو الصواب.
قوله: "أخذ من تعليل في العزيز" بينت في شرح العباب أن في العزيز عقبه ما يصرح بموافقته لكلام المجموع ويرد على ما توهمه ابن المقري منه, وفي شرح الإرشاد رد ما استدل به على ذلك.
قوله: "ثم إن كان انقطع بعد, ثم رأت الدم وجاوز المرد الآتي بيانه للمستحاضة حكمنا به طهرا كالنقاء فإن انقطع لدون خمسة عشر تبين كونه حيضا..إلخ" هذه عبارة قلقة أو فاسدة إذ مؤداها لا يوافق مراد قائلها الموافق لكلامهم, ويعرف ذلك من تقرير حاصل كلامهم المبسوط في ذلك, وهو أن المراد بسائر أقسامها الآتية بحيث إن لها أحكام الحيض بمجرد رؤية الدم ثم إن كان انقطع لدون أقله بان أن لا حيض أو لفوق أقله, ودون مجاوزة أكثره, فالكل حيض, وإن كان قويا وضعيفا تقدم الضعيف أو تأخر, وإن جاوز أكثره ردت للتمييز إن كان وجد وإلا حيضت المبتدئة يوما وليلة, والمعتادة عادتها, وقضت كل منهما ما وقع في الزمن الذي بعد مردها من صلاة وصوم, وفي الدور الثاني وما بعده هما بعد المرد طاهرتان مستحاضتان نعم متى شفيت في دور قبل مجاوزة خمسة عشر بان أنه كله حيض, فتعيد غسلها وتقضي ما صامته ولا تأثم بنحو صلاة وصوم ووطء فعلته بعد المرد لعذرها.
قوله: "وتكون متفقة الدم ومختلفته" ظاهره أن هذين قسمان مغايران للأولين, وليس مرادا إذ وصف الاتفاق أو عدمه لازم لكل منهما فلو قال: تبعا لهم وكل منهما إما متفقة الدم, وإما مختلفته لسلم من ذلك الإيهام.
قوله: "ترى..إلخ" الأوضح قول غيره بأن ترى: لأن هذا صريح في أن هذا بيان لها بخلاف الأول.

 

ج / 1 ص -146-        قوله: إن كان استمر الدم إليها فإن زاد فيوم وليلة..إلخ" لا يحتاج إلى هذا الشرط لأن الكلام فيمن جاوز دمها خمسة عشر واستمر, وإلا لم تكن مستحاضة بل هو موهم؛ لأن ظاهره أنه إذا استمر إليها ثم انقطع وشفيت يحكم بأن حيضها في هذا الدور الذي شفيت فيه يوم وليلة, وطهرها تسع وعشرون وكلامهم ينافيه؛ لأنهم إنما جعلوا ذلك للمستحاضة وبانقطاعه في هذا الدور بان أنها غير مستحاضة فيكون حيضها خمسة عشر وما بعدها طهر.
قوله: ما لم ينقطع الدم صحيح" وليته عبر به في الأول أيضا وترك قوله فيه إن كان استمر الموهم ما مر, وزاد الإيهام مغايرة الأسلوبين بقوله في ذلك: إن كان استمر وفي هذا ما لم ينقطع الدم, وبين العبارتين فرق ظاهر كما يعلم مما قررته فتأمله. قوله: "أو بتغير صفته", أي تغيرا يقتضي التمييز لا مطلقا إذ لا يلزم من التغير التمييز.
قوله: "ومثلها من ترى الدم بصفتين فأكثر..إلخ". ظاهره أن فاقدة شرط التمييز لا تسمى غير مميزة أيضا كما في الروضة وغيرها قوله "ويزيدان على خمسة عشر..إلخ" أخذه من قول المجموع: "إذا تقدم قوي واستمر بعده ضعيف واحد بأن رأت خمسة سوادا ثم أطبقت الحمرة, فالحيض هو السواد سواء انقطعت الحمرة بعد مجاوزة الخمسة عشر بيوم أو شهر أو أكثر, وإن طال زمانها طولا كثيرا. وقوله: أو معه نقاء يتمها, ثم قال: أو مع نقاء متصل به لا يكفي مجرد الاتصال به لا بد من احتواش دمي حيض للنقاء كما يعلم مع فوائد أخرى من قول المجموع وغيره من أنه لو جاوز التقطع خمسة عشر وهي مميزة, كأن ترى يوما وليلة أسود ثم مثلها نقاء, ثم كذلك ثانيا وثالثا ورابعا وخامسا ثم بعد هذه العشرة ترى يوما وليلة أحمر ثم مثلها نقاء ثم كذلك ثانيا وثالثا ويجاوز خمسة عشرة متقطعا كذلك أو متصلا بدم أحمر فيحكم لها بالتمييز, وحينئذ فالعاشر وما بعده طهر, ودم التسعة ونقاؤها حيض وإنما لم يدخل معها العاشر؛ لأن النقاء إنما يكون حيضا إذا كان بين دمي حيض وتخلل الضعيف كالنقاء فيما ذكر, فيحكم بأنه حيض بشرطه فلو رأت يوما وليلة أسود ثم مثلها أحمر أو أصفر أو أكدر خلافا لمن فرق بينهما وبين الأحمر بأنه أقرب للأسود منهما, وهكذا إلى آخر السادس عشر ثم اتصل الأحمر أو تخلله نقاء, فهي مميزة أيضا وحيضها الخمسة عشر. والحاصل أن الدم الضعيف المتخلل من الدماء القوية كالنقاء بشرط أن يستمر الضعيف بعد الخمسة عشر وحده, وضابطه أن حيضها الدماء القوية في الخمسة عشر مع ما تخللها من النقاء أو الدم الضعيف, ولو لم يتصل الأحمر بل استمر التقطع يوما وليلة أسود ومثلهما أحمر, وهكذا إلى آخر الشهر كانت فاقدة لشرط التمييز؛ لأن دمها القوي جاوز خمسة عشر.
قوله: "ما لم يتغير الدم إن كان اتصل بأقوى منه ولو سنين" لا فائدة لقوله إن كان اتصل بأقوى منه؛ لأنه هو فرض المسألة على أنه يوهم الاكتفاء بكل تغير وليس كذلك فالصواب حذف

 

ج / 1 ص -147-        قوله إن كان اتصل؛ ليصير قوله: بأقوى متعلقا بتغير, وقوله: ولو سنين غاية لقوله: فهو طهر.
قوله: "ثم الكدرة" لا حاجة لذكره لأنه آخر المراتب, وذكره بثم يوهم أن بعده مرتبة أخرى.
قوله: "فما تجرد عن الأخيرتين أو وقعتا فيه فقوته باللون فقط" مراده أن الدماء المتجردة عن الثخن والنتن أو الصفة كلها, القوي منها هو ذو اللون الأقوى.
قوله: "ووقع في شيء" الأولى بل الصواب ووقع في بعضه.
قوله: "وكذا ما اجتمع فيه..إلخ" يوهم أن ما قبل كذا لم يجتمع فيه ذلك وليس كذلك.
قوله: "وأقره" عجيب مع قوله عقبه وقال الرافعي: على أنه في الروضة قال ذلك أيضا وقد استشكل ما قاله المتولي وذكرت في شرح العباب الجواب عنه, وعن قول الشيخين فيه هو موضع تأمل.
قوله: "فقد سوى بين المسألتين في الروضة وشرح المهذب ولكنه..إلخ" فيه مؤاخذات إذ قوله: "فقد سوى" بفاء التفريع لا يصح؛ لأن الذي في الروضة محتمل بل من أمعن النظر في عبارتها كأصلها فهم منهما أنهما إنما سويا بينهما في أن حيضتها السواد مع الحمرة الذي يقول به ابن سريج, ويؤيد ذلك أنه لما نقل كلامه في المجموع قال عقبه: إنه المذهب. وقوله "لكنه..إلخ" فيه نظر لأنه ينافي قوله قبله سوى بينهما في الروضة والمجموع لأنه إذا أقر ابن سريج على ما ذكره وخالفه في الروضة على ما زعمه بعضهم وتبعه عليه المصنف كما يأتي فكيف يقول سوى بينهما في الروضة وشرح المهذب إلا أن يكون مراده سوى بينهما فيها, وإن اختلف الحكم الذي وقعت التسوية بينهما ما فيه في الكتابين, وقوله: "وأقره" كان الأولى أن يعبر بدله بقوله ورجحه؛ لأنه لما نقله فيه قال عقبه؟ "إنه المذهب" نعم جريت في شرح العباب على مخالفته فقلت: وعلى كل فالأوجه ما قاله الروياني مخالفا فيه ابن سريج أن حيضها السواد فقط؛ لأن الصفرة, أي ومثلها الشقرة في كلام المؤلف دارت بين أن تلحق بالقوي قبلها وبالضعيف بعدها, والاحتياط هو الثاني فيصار إليه, وكذا يقال في الحمرة بين السوادين, وإن كان كل منهما قويا ا هـ. ومن ثم صححه في التحقيق, ومشى عليه شراح الحاوي وفروعه.
قوله: "وترجيح التحقيق في الأولى..إلخ" المنقول عن التحقيق أنه صرح في نفس مسألة ابن سريج بمخالفته وإن الحيض هو السواد فقط, وحينئذ فلا يحتاج لقول المؤلف؟ "وترجيح التحقيق..إلخ لما علمت أن التحقيق مصرح بذلك إلا أنه مقتضى كلامه.
قوله: "وهو يشير إلى مخالفته" تبع فيه بعض المتأخرين, وليس بقويم كما أشرت إليه في شرح العباب وغيره, وبيان ذلك يعلم بسوق عبارة الروضة ثم الكلام عليها, وعبارتها

 

ج / 1 ص -148-        "أما إذا تقدم بعد القوي أضعف الضعيفين فرأت سوادا ثم صفرة ثم حمرة, فإنه يبنى على ما إذا توسطت الحمرة فإن ألحقناها بما بعده وقلنا: الحيض هو السواد وحده فهنا أولى وإن ألحقناها بالسواد, فحكمها كما إذا رأت سوادا ثم حمرة ثم عاد السواد, وذلك يعلم مما ذكراه في شروط التمييز" انتهت, والذي قدمه في توسط الحمرة بأن ترى خمسة سوادا ثم خمسة حمرة ثم صفرة طريقان: أحدهما القطع بأن القوي مع الضعيف الأول حيض, والثاني: وجهان: أحدهما هذا والثاني: حيضها القوي وحده, والغالب في مثل هذا أن الراجح منه أحد الوجهين الموافق للطريقة القاطعة, فيكون الأرجح أن حيضها هنا السواد والحمرة, ومن ثم قال في المجموع أصحهما إلحاق الحمرة بالسواد فيكونان حيضا, والصفرة طهر؛ لأنهما قويان بالنسبة إلى الصفرة, وهما في زمن الإمكان وقيل: السواد فقط فعلى هذا الضعيف يكون الحكم في مسألة تخلل الصفرة أن السواد هو الحيض فقط بالأولى؛ لأن الأحمر في مسألة توسط الحمرة إذا ألحق بالأصفر مع أنه أعني الأحمر أقرب إلى الأسود من الأصفر, فبالأولى أن الأصفر المتوسط يلحق بالأحمر المتأخر, وبهذا يظهر. وجه قول الروضة, فهنا أولى وعلى الأصح وهو إلحاق الأحمر بالأسود يكون الحكم في تلك أيضا أعنى مسألة تخلل الصفرة كتخلل الحمرة بينا بجامع أن المتوسط ضعيف بالنسبة لما قبله, وافتراق المسألتين في أنه ثم قوي بالنسبة لما بعده بخلافه هنا لا يؤثر؛ لأن النظر إنما هو إلى أن الأول الأقوى من حيث اللون ومن حيث السبق هل يستتبع ما بعده فعلى كلام ابن سريج نعم لإمكانه إذ الفرض أنهما دون الأكثر وعلى كلام غيره لا لاستواء ما قبله وما بعده في القوة فلا بد في إلحاقه بأحدهما من مرجح وهو الاحتياط للعبادات؛ لأن الأصل خطابها بها فلا يسقط عنها إلا بيقين وهو لا يوجد إلا في السواد الأول فقط فكان هو الحيض وحده. ويؤيد ذلك ما صرحوا به في تعليلهم جعل حيض المبتدئة غير المميزة يوما وليلة أوله, وطهرها تسع وعشرون ولم يجعلوا حيضها غالب الحيض ستا أو سبعا, ولكون مدرك هذا أظهر كما بان مما قررته جزم به في التحقيق, ولكون الأول وهو الذي مر عن ابن سريج هو الأوفق لما ذكر في شروط التمييز من أنه حيث وجدت الشروط الثلاثة في دم وجب الحكم عليه بأنه حيض إلا لعارض قال في المجموع: إنه المذهب فتأمل سبب اختلاف نظر النووي وحكمة اعتماده في التحقيق مقابل كلام ابن سريج. وفي المجموع كلام ابن سريج, وبتأمل ما قررت به كلام ابن سريج تعلم أن قول الروضة: وذلك يعلم مما ذكرناه في شروط التمييز ظاهر في ترجيح كلام ابن سريج لما علمت أن وجه ما قاله ابن سريج ما ذكروه في شروط التمييز من أنها حيث وجدت في دم حكم بأنه حيض, وقد وجد الشرطان الأولان منها فيما قاله ابن سريج, وأما الثالث فمحل اشتراطه كما يأتي إن كان استمر الدم لا إن كان انقطع كما هو الفرض هنا فوجب الحكم بالحيض على السواد والحمرة معا, ولا يعكر على هذا تخصيصهم الحكم بالقوي في قولهم أن لا يزيد القوي على خمسة عشر ولا

 

ج / 1 ص -149-        ينقص عن يوم وليلة؛ لأن ابن سريج يجعل الحمرة هنا تابعة للقوي ومندرجة فيه, ومن ثم لو لم يقصد الضعيف لم يكن حيضا فشملها كلامهم على ما ادعاه, فظهر - ولله الحمد - بما قررت به كلام الروضة مما لم أر من تعرض لشيء منه ملحظ تخالف التحقيق والمجموع ورد قول من قال: إن قول الروضة "وأصلها وحكمها يؤخذ من شروط التمييز مشيرا إلى ضعيف كلام ابن سريج كيف وهو ظاهر في تقويته واعتماده كما علم مما قررته فيه الراد لقول المؤلف, فإن الأسودين لا يمكن كونهما حيضا..إلخ" ووجه رده أن ابن سريج لم يقل إن الأسودين حيض, وكون الأحمر ضعيفا بالنسبة إليهما يجاب عنه على طريقة ابن سريج بأن تبعيته للأول اقتضت الحكم عليه بحكمه لإمكانه بخلاف القوي لعدم إمكانه فاندفع قول المؤلف فكيف هو الحيض إلخ.
قوله: "فلو رأت المبتدئة ما يمكن كونه حيضا وطهرا" إلى قوله "ولم أر من صرح بعين المسألة" فيه أمور: أحدها الأولى ولو رأت..إلخ" لأنه لم يتقدم له ما يتفرع عليه هذه.ثانيها: ما ذكر أنه المعتمد ظاهر لأنها مبتدئة مميزة إذ الضعيف لم ينقص عن أقل الطهر, وإن زاد عليه والقوي لم يجاوز أكثر الحيض ولا نقص عن أقله, وحيث وجدت هذه الثلاثة فحيضها القوي, وإن تأخر فإن قلت: لا نسلم أن ظاهر كلامهم ما ذكر ولا أنه المعتمد؛ لأن الفرض كما يصرح به كلام المؤلف أن الأسود الثاني انقطع لدون خمسة عشر ولم يخلفه أضعف منه كما صرح به المؤلف في قوله وأن يكون كالمسألة التي عقبها وهي أن الأسود لو جاوز خمسة عشر..إلخ وإن كان الفرض ذلك فهذه بان بانقطاع الأسود لدون خمسة عشر أنها ليست مستحاضة حتى ينظر هل لها تمييز أو لا, وإنما وجد لها دمان وطهران كل منهما يمكن أن يكون حيضا وطهرا فوجب العمل به وإن الدور الأول أوله يوم وليلة حيض وخمسة عشر طهر, والدور الثاني أسوده حيض ونقاؤه طهر. قلت: بل ظاهر كلامهم أو صريحه ما ذكر كما يعرف بتدبر ما ذكرته الموافق لما عرف من كلامهم أنه حيث وجدت شروط التمييز وجب الحكم بالحيض للقوي وبالطهر للضعيف تقدم الضعيف أو تأخر زاد على خمسة عشر يوما أو ساواها انقطع الدم كله قبل مضي ثلاثين يوما من ابتداء الدم أو استمر, ونقصه عن ثلاثين لا يبين أنها غير مستحاضة كما يصرح به قولهم حيث جاوز الدم خمسة عشر, فهي مستحاضة "الشامل" لما إذا استمر الدم أو انقطع قبل الخمسة عشر الثانية. وإذا ثبت أنها مستحاضة وأنها مميزة فلم يوجد لها إلا طهر واحد وهو الضعيف وحيض واحد وهو القوي أما لو لم ينقطع الأسود, وإنما استمر على لونه فهي مسألة المجموع الآتية وأما لو انقطع قبل خمسة عشر ولكن عقبه ما هو أضعف منه, فهي مميزة أيضا, فحيضها القوي أيضا دون ما قبله من الأحمر وأما بحث المصنف في المعتمد الذي قدمه وبان لك بما قررته أنه صريح كلامهم بقوله: ويمكن أن يجيء فيها..إلخ فبعيد إذ كيف يقاس من لم يعرف لها إلى الآن حيض ولا طهر, وهي التي كلامنا فيها على من عرف واستقر

 

ج / 1 ص -150-        لها ذلك, وهي التي قاس عليها على أنه سينبه على الفرق بينهما, وبقوله "وأن يكون كالمسألة التي يعقبها...إلخ" فهو أبعد لأن هذه لا تمييز لها كما سنذكره عن المجموع وغيره, والتي في مسألتنا مميزة كما قدمناه فكيف يقاس مميزة على غير مميزة. وقوله: "التي عقبها" كأن مراده بكونها عقبها أنه ذكرها عقبها, وقوله: "ثم قال وينبغي على قول ابن سريج لم يقل النووي على قول ابن سريج, فالصواب حذف قول المؤلف على قول ابن سريج حتى يوافق كلام النووي وقوله: "وأظنه..إلخ" هو كما ظنه جزاه الله خيرا, ومن ثم قلت في شرح العباب بعد أن شرحت كلامه.
"تنبيه" هذا الذي ذكره النووي إنما هو بناء على طريقة ابن سريج لا على المذهب؛ لأنه ذكر قبل ذلك ما يخالفه حيث قال في شرح قول المهذب "إنه لا تمييز لها فيكون حيضها يوما وليلة من أول الدم الأحمر في أحد القولين", ثم ذكر نحو ما تقرر عن ابن سريج, هذه المسألة معدودة من مشكلات المذهب ولا أرها مشكلة, فأما ما هو المذهب وأنه لا تمييز لها, وأن حيضها من أول الأحمر يوم وليلة أي على الأصح أو ست أو سبع, أي على مقابله, وباقي الشهر طهر فلا إشكال فيه, وأما قول أبي العباس ثم قرر مقالة ابن سريج المذكورة في المتن ثم بحث فيها ما مر وحينئذ, فجزم المصنف بكلام ابن سريج ثم نقله عن النووي ما مر غير صحيح لإيهامه أن الأول منقول المذهب, وأن بحث النووي المذكور في مقابلة المنقول وليس كذلك, وإنما النووي قرر المذهب أولا, وهو أنها غير مميزة, أي لأن قويها, وهو السواد زاد على خمسة عشر وأنها ترد إلى مرد المبتدئة غير المميزة, وهو على الأصح يوم وليلة حيضا وتسعة وعشرون طهرا, ثم ذكر مقالة ابن سريج المخالفة للمنقول والمبنية على رأيه من المسارعة إلى تصحيح الحيض ما أمكن ولو بتعسف وتقدير بعيد كما يعلم من تخريجاته المحكية عنه في هذا الباب, ولما ذكر أي النووي مقالته, أي ابن سريج وبسط الكلام فيها بين أنها محتملة لوجهين, ثم ذكر عن أحدهما أنه الظاهر الموافق لكلامه ثم ذكر عن هذا أيضا أنه الصحيح, وكل ذلك بناء على طريقته, ثم تعقبه على طريقته بما مر فظن المصنف أنه رجحه من حيث المذهب فجزم به وذكر التعقيب بعده ولو نظر لما قبله من قوله عما صححه آخر أنه الظاهر الموافق لكلامه, أي ابن سريج ومن قوله: أو لا, فأما ما هو المذهب وأنه لا تمييز لها وأن حيضها من أول الأحمر يوم وليلة وباقي الشهر طهر فلا إشكال فيه وأما قول أبي العباس..إلخ" لما وقع في ذلك ولكن السهو والنسيان مما جبل عليه الإنسان ومما يتعجب منه تفريعه ما ذكره على قوله فلا تمييز مع علمه بأنه حيث لم يكن لها تمييز كان طهرها تسعا وعشرين, والقول بأنه خمسة عشر في غاية الضعف كما في المجموع, وقال الإمام: إنه اتباع لفظ وإعراض عن المعنى فكيف مع ذلك يرتب هذا الوجه الضعيف الموافق لما قاله ابن سريج على قوله, فلا تمييز, ويعرض عن المذهب وهو أن طهرها تسع وعشرون فتأمل ذلك كله فإنه مهم ا هـ ما في

 

ج / 1 ص -151-        شرح العباب. وقوله: "ولم أر من صرح بعين المسألة" يناقض. قوله "أو لا", وقد صرح به.
قوله: "أما لو كان الأسود بعد انقضاء الشهر فلا شك في كونه حيضا إن كان صلح للحيض وإلا فمبتدأة غير مميزة فإن اتصل بآخر الشهر فحيضها أوله وإلا فمن أول الدم الكائن فيه, مثاله: رأت شهرا أحمر فقط..إلخ" لا يخفى ما في هذا التعبير سيما عند تأمل المثال الذي ذكره وذلك؛ لأن قوله وإلا فمبتدئة غير مميزة موهم؛ لأنه إن كان أراد أنها في الشهر الثاني مبتدئة غير مميزة لم يصح, وإنما الصواب أن يقال فحكمها من الدور الثاني حكم المبتدئة غير المميزة من أن حيضها يوم وليلة وطهرها تسع وعشرون أو أنها في الشهر الأول كذلك فهي كذلك صلح ذلك للحيض أو لا, وقوله: فإن اتصل بآخر الشهر فحيضها أوله غير صحيح؛ لأن المراد بآخر الشهر آخر الشهر الذي ابتدأها فيه الدم, وحينئذ فحيضها أول هذا الشهر وهو يوم وليلة سواء اتصل بآخره سواد أم لا, وظاهر كلامه أن هذا السواد المتصل بآخره لا يكون حيضا مطلقا, وليس مرادا كما يصرح به مثاله, وقوله: وإلا فمن أول الدم الكائن غير صحيح أيضا؛ لأن وإلا معناه وألا يتصل الأسود بآخر الشهر وحينئذ فيصير مشترطا في كون الأسود حيضا أن لا يتصل بآخر الشهر وليس مرادا أيضا, وصواب العبارة أما لو وجد الأسود بعد تمام الشهر الأول, فإن صلح للحيض فهو حيض, وابتداء دورها من أوله, وإن لم يصلح استمر عليها حكم المبتدئة غير المميزة, فهذا هو المراد من تلك العبارة مع طولها وما اشتملت عليه مما أشرت إليه, ودل عليه ما ذكره في المثال. وقوله: "فلا يحكم..إلخ" ليس كذلك بل بمجاوزة الضعيف الذي عقب القوي المتقطع قبل الخمسة عشر للخمسة عشر تبين أن القوي هو الحيض كما يصرح به قوله: "فتنتقل لحكم التمييز", ومن ثم كان تفريعه عليه. قوله: "فلا يحكم..إلخ" عجيبا وفي المجموع عن كثيرين لو رأت المبتدئة دما أحمر واستمر شهرا ثم رأت في الشهر الثاني خمسة سوادا ثم باقيه حمرة ثم رأت في الثالث دما مبهما وأطبق, ففي الشهر الأول هي مبتدئة لا تمييز لها وفي مردها القولان, أي وأصحهما يوم وليلة وطهرها تسع وعشرون, وفي الشهر الثاني مميزة ترد إلى التمييز وفي الثالث إن كان قلنا تثبت العادة بمرة, أي وهو الأصح فحيضها خمسة أيام ولو رأت المبتدئة خمسة سوادا ثم باقي الشهر حمرة, ثم أطبق الدم المبهم في الثاني ردت إلى الخمسة على الأصح لأن العادة تثبت بمرة ا هـ. ملخصا. وفيه أيضا رأت خمسة عشر حمرة ثم مثلها سوادا ثم استمر, فهي فاقدة للتمييز, فحيضها يوم وليلة من أول الأحمر وتمسك عما تمسك عنه الحائض لاحتمال الانقطاع قبل خمسة عشر فإذا انقلب الدم إلى السواد أمرت بالإمساك أيضا؛ لاحتمال الانقطاع قبل مجاوزة خمسة عشر فيكون الأسود هو الحيض, فإذا جاوز الأسود الخمسة عشر علمنا أنها فاقدة للتمييز لكن دورها قد انقضى فتبتدئ الآن حيضا يوما وليلة ا هـ. ملخصا أيضا. وبتأمل هذا والذي قبله يعلم ما في كلام المؤلف هذا, لكنه سنذكره بعد ما يتضح به مراده.

 

ج / 1 ص -152-        قوله: "إلا أن يقول قائل..إلخ" فيه نظر؛ لأن الذي مر في نحو هذه أن الروياني يقول: الحيض السواد فقط وجرى عليه في التحقيق وابن سريج يقول: الحيض السواد مع الحمرة. واعتمده في المجموع, فباتفاقهما أنها مبتدئة مميزة, فكيف يسوغ لقائل أن يقول: إنها في الأصل مبتدئة غير مميزة, وترتب عليه ما ذكره المؤلف, وقول الروضة ما ذكر لا يؤيد هذا القول بل يرده ويشهد لما ذكره ابن سريج كما بسطته فيما سبق.
قوله: وكلام الروضة والمجموع فيمن رأت..إلخ" فيه نظر أيضا؛ لأن هذه فقد فيها شرط تمييز فكيف يستدل بها على مسألتنا الموجود فيها جميع شروط التمييز.
قوله: "وكلام الرافعي في الكل..إلخ" يرد بمنع اقتضائه لذلك, وإنما الذي يقتضيه كلام الروضة عند بعضهم, أن حيضها السواد وعند آخرين أن حيضها السواد مع الحمرة وباتفاقهما هي مميزة.
قوله: "فلذلك اقتصر المتأخرون على ذلك" فيه قلاقة وخفاء المراد.
قوله: "وإنما ذكر كونه حيضا..إلخ" لم يذكر ذلك في المجموع إلا فيما لو رأت ثمانية أيام أسود ثم ثمانية أيام أحمر ثم ثمانية أسود, وكون السواد الأول فقط هو الحيض اتفاقا في هذه واضح جلي إذ لا يمكن ضم غيره إليه فهي مميزة أيضا فاندفع قول المؤلف؛ فلذلك قوي الإشكال, وأي أشكال في ذلك إذ غاية الأمر أن هذه كمسألتنا في أن كلا مميزة, وإنما افترقا في أن ابن سريج يقول في تلك أن الأحمر حيض مع الأسود؛ لإمكان ضمه إليه بخلافه هنا, وهذا ظاهر لا غبار عليه. وقوله: "ولم أر من حل إشكالها تصريحا يقال: عليها قد اتضح مما قررناه أنه ليس هناك إشكال ضعيف فضلا عن قوي حتى تعرض أحد إلى حله, ولعل هذا المؤلف أراد غير ما دلت عليه عبارته ثم ظهر لي أنه أراد إشكالا صحيحا ببادي الرأي, وهو أن مسألة ابن سريج ونحوها كمسألة الثمانيات المذكورة اختل فيها أحد شروط التمييز, وهو أن لا ينقص الضعيف عن أقل الطهر, وفي هذه ونحوها نقص الضعيف عن أقل الطهر, فتكون غير مميزة, فتحيض أقله وتطهر بقية الشهر فكيف قال ابن سريج: حيضها السواد والحمرة. وقال غيره: حيضها السواد فقط, وكيف اتفقوا في مسألة الثمانيات على أن الثمانية الأولى حيض وما الفرق بين هذه ومسألة من رأت يوما وليلة أسود, ثم أربعة عشر أحمر ثم أسود بأنها غير مميزة فتحيض يوما وليلة وتطهر بقية الشهر, فلم لم يقل في هذه أن حيضها الأسود والأحمر على طريقة ابن سريج أو الأسود فقط على مقابله, وقد تعرضت في شرح العباب لحل هذا الإشكال حيث قلت: عقب مسألة ابن سريج, فإن قلت: قضية ما مر من اشتراط أن لا ينقص الضعيف عن أقل الطهر أنها غير مميزة في مسألة ابن سريج ونحوها. قلت: يتعين تصويرها بما إذا انقطع بعد السبعة الثالثة لما مر عن المتولي: أن محل اشتراط ذلك إذا استمر الدم وإلا عملت بتمييزها, وإن نقص الضعيف عن أقل الطهر ا هـ. والذي مر فيه

 

ج / 1 ص -153-        عن المتولي هو قولي عقب ذكر شروط التمييز الثلاثة: ومحل اشتراط الثالث كما قاله المتولي إن كان استمر الدم وإلا فلو رأت عشرة سوادا ثم عشرة حمرة أو نحوهما, وانقطع الدم فإنها تعمل بتمييزها مع نقص الضعيف عن أقل الطهر ا هـ. ومن ثم قيدت مسألة ابن سريج وأمثالها المذكورة في متن العباب بقولي: عقب كل وانقطع لما مر عن المتولي فاتضح أنه لا إشكال, وأن منشأ الإشكال الغفلة عن كلام المتولي الملاحظ في كل من صور التمييز الموهمة اختلال الشرط الثالث منها, وقد نبه في المجموع على كلام المتولي في بعض الصور فقال: لو رأت خمسة عشر أحمر وخمسة عشر أسود وانقطع فحيضها الأسود, وإن استمر الأسود ولم ينقطع لم تكن مميزة فحيضها من ابتداء الدم يوم وليلة فتفصيله بين الانقطاع والاستمرار هو عين مقالة المتولي.
قوله: "أو أقل", أي أو أكثر.
قوله: "ثم عاد الأسود", أي واستمر لما تقرر, ويدل على ذلك أنهم لم يذكروا عند عود الأسود هنا عددا معينا, فدل على استمراره بخلافه في مسألة السبعات والثمانيات فإنهم ذكروا عند عود الأسود عددا فدل على أنه لم يوجد منه إلا ذلك العدد, وبهذا علمت أن صنيعهم صريح فيما مر عن المتولي, وأن هذا لا يشكل بمسألة السبعات ولا غيرها, وأن قول المؤلف وهو مشكل بمسألة السبعات الآتية سببه الغفلة عما مر عن المتولي "قوله: ثم سوادا", أي ثم ثمانية سوادا وانقطع لما مر.
قوله: "ثم خمسة عشر سوادا", أي وانقطع.
قوله: "فالثلاثة الأول حيض", أي لأنه في زمن الإمكان.
قوله: "ثم طهرت ورأت..إلخ" الأوضح ثم رأت النقاء تمام خمسة عشر ثم رأت يوما وليلة فأكثر دما, فالأول حيض والآخر دم فساد.
قوله: "وهذا مشكل..إلخ" قد علمت من نظير ما قدمته عن المتولي وجرى عليه في المجموع في بعض الصور: أن محل كونها غير مميزة عند فقد الشرط الأول أيضا أن لا ينقطع الدم بعد الخمسة عشر وإلا, فالحيض ما يمكن جعله حيضا وهو الخمسة عشر الأحمر سواء تقدم النصف اليوم الأسود أم تأخر؛ لأن عدم صلاحيته مع انقطاعه صيره كالعدم, ويوضح هذا أعني التقييد بالانقطاع ما مر آنفا عن المجموع فيمن رأت خمسة عشر دما أحمر ثم خمسة عشر أسود من الفرق بين الانقطاع وعدمه, وعبارة شرح العباب "أو خمسة عشر أحمر, ثم نصف يوم أسود أو عكسه, وانقطع أيضا آخر يوم نظير ما مر عن المتولي, فحيضها الأحمر؛ لأنه الذي يصلح للحيض دون الآخر فكان كالعدم, فلا يقال: إنها فاقدة شرط تمييز فتأمل" انتهت. ويؤيد ذلك قول المجموع: "لو رأت نصف يوم أسود ثم نصفه أحمر ثم

 

ج / 1 ص -154-        خمسة عشر سوادا, فالسواد الثاني هو الحيض بالاتفاق" ا هـ. ولا يتضح الحكم فضلا عن الاتفاق عليه إلا بما قلناه من أن الفرض أنه انقطع بعد الخمسة عشر, فحينئذ ما أمكن جعله حيضا جعل, وهو الخمسة عشر السواد وما لا فلا, وهو اليوم الأول الذي نصفه سواد ثم نصفه حمرة.
قوله: "وكذا كل سوادين..إلخ", أي كما لو رأت يومين أو يوما وليلة أسود ثم اثني عشر أحمر ثم يوما وليلة أسود ثم حمرة مستمرة, فالسواد بقسميه حيض, وكذا ما تخلل بينهما من الحمرة وما بعد السواد الثاني طهر.
قوله: "ويوما وليلة أحمر", أي أو أصفر أو أكدر خلافا لمن فرق بينهما وبين الأحمر بأنه أقرب للأسود منهما.
قوله: "غير مميزة", أي اتفاقا.
"قوله: ما لم يبلغ النوبتان خمسة عشر" ذكره فيه نظر إذ لم يذكره فيه كذلك سيما مع هذا الإيهام الذي وقع للمؤلف, ويعرف ذلك بحاصل عبارته وهو إذا انقطع دمها فرأت يوما وليلة دما, ومثلهما نقاء أو يومين ويومين أو خمسة وخمسة أو ستة وستة أو سبعة وسبعة أو يوما وليلة دما وثلاثة عشر نقاء ويوما وليلة دما أو غير ذلك, فحكم ذلك كله سواء, وهو أنه إذا لم يجاوز خمسة عشر, فأيام الدم حيض بلا خلاف, وكذا النقاء على الأظهر. فإن جاوزها لم يلتقط لها أيام الحيض من جميع الشهر اتفاقا, وإن كان مجموع الملتقط دون خمسة عشر, ولكنها مستحاضة اختلط حيضها بالاستحاضة وهي ذات تقطع فإن رتب ردت إلى التمييز ففي يوم وليلة أسود, ثم مثلهما نقاء ثم مثلهما أسود ثم مثلهما نقاء, وهكذا حتى جاوز خمسة عشر متقطعا كذلك أو متصلا أحمر, حيضها التسعة الأيام الأولى, والعاشر وما بعده طهر؛ لأن النقاء إنما يكون حيضا على قول السحب: الأصح إذا كان بين دمي حيض فإن فقد أحد شروط التمييز كأن رأت يوما وليلة أسود ثم مثلهما أحمر, وهكذا إلى آخر الشهر فهذه. وإن كانت مميزة في الصورة ليست مميزة في الحكم اتفاقا؛ لمجاوزة دمها القوي خمسة عشر ا هـ. حاصل المجموع, وبه يعلم أن قول المؤلف: "ما لم يبلغ النوبتان خمسة عشر" موهم أن هذا شرط في التقطع بأكثر من يوم وليلة لا في التقطع يوما وليلة, وليس كذلك ثم لم يبن من كلامه أن النوبتين إذا بلغتا خمسة عشر ما حكمهما وقد علمت مما ذكرته لك عن المجموع حكم ذلك بتفصيله.
قوله: "فلو نقص كل..إلخ" فيه نظر أيضا لإيهامه أن نقص كل عن يوم وليلة يصير الجميع دم فساد, وإن بلغ مجموع الدماء أقل الحيض وليس مرادا. والذي في المجموع وغيره لو رأت نصف يوم دما ونصفه نقاء, وهكذا إلى آخر الخامس عشر. قضية قولي السحب واللقط كما إذا بلغ كل دم يوما وليلة فعلى الأصح حيضها أربعة عشر ونصف يوم؛ لأن

 

ج / 1 ص -155-        النصف الأخير لم يتخلل بين دمي حيض, هذا كله إذا بلغ مجموع الدماء أقل الحيض وإلا كأن رأت ساعة دما وساعة نقاء, وهكذا ولم يبلغ المجموع يوما وليلة لم يكن لها حيض على الأصح؛ لأن الدم لم يبلغ ما يمكن أن يكون حيضا.
قوله: "فلو أمكن تمييز..إلخ". يوضحه ويرفع ما فيه من الإيهام قول المجموع: لو رأت يوما وليلة أسود ثم مثلهما أحمر وهكذا إلى أن رأت الخامس عشر أسود والسادس عشر أحمر, ثم اتصلت المرة وحدها أو مع تخلل النقاء بينها, فهي أيضا مميزة, فالخمسة عشر كلها حيض. والمقصود أن الدم الضعيف المتخلل بين الدماء القوية كالنقاء بشرط أن يستمر الضعيف بعد الخمسة عشر وحده فعلى السحب, الأصح حيضها الدماء القوية في الخمسة عشر مع ما تخللها من النقاء أو الدم الضعيف.
قوله: "دما أحمر" سيأتي ما يعلم منه أنه ليس بقيد وأن المدار على أن ترى ضعيفا خمسة عشر ثم قويا.
قوله: "تترك الصلاة"؛ أي والصوم والوطء ونحوهما.
قوله: كون الأول فسادا", أي والثاني حيضا.
قوله: "من أول الشهرين" صوابه من أول كل شهر كما عبروا به.
قوله: "فتترك..إلخ" المراد وقد تركت الصلاة فيما إذا لم يجاوز الثاني الثلاثين ثلاثين يوما, وفيما إذا جاوزها أحدا وثلاثين فتقضي ما زاد على يوم وليلة من كل من الشهرين.
قوله: قال الإسنوي..إلخ" به اختصار وبسطه بأن النووي. قال في الروضة والمجموع عن المتولي والأصحاب: "أنه لا يمكن ترك مستحاضة للصلاة أحدا وثلاثين يوما إلا هذه واعترضه الإسنوي ومن تبعه أخذا من كلام البارزي والسبكي والفوراني بأنه يمكن أمرها بتركها ثلاثة أشهر ونصف بل أربعة أشهر ونصف وأكثر بأن ترى كدرة رقيقة خمسة عشر ثم ثخينة كذلك ثم منتنة كذلك, ثم صفرة كذلك بأقسامها ثم شقرة كذلك ثم حمرة كذلك ثم سوادا كذلك؛ لوجود العلة المذكورة في الثلاثين وهي قوة المتأخر على المتقدم مع رجاء انقطاعه. ورد بأنهم اقتصروا على المدة المذكورة؛ لأن الخمسة عشر الأولى ثبت لها حكم الحيض بالظهور, والثانية بالاجتهاد لقوة ما فيها فلو نسخناها بقوي يجيء بعدها لزم نقض الاجتهاد بالاجتهاد؛ ولأن دور المرأة غالبا شهر والخمسة عشر الأولى ثبت لها حكم الحيض بالظهور؛ فإذا جاء بعدها ما ينسخها للقوة رتبنا الحكم عليه فلما جاوز خمسة عشر علمنا أنها غير مميزة, وبقي لذلك تتمات ذكرتها في شرح العباب.
قوله: "وفيه إشكال من وجوه" يقال عليه قد بان مما قررناه رد كلام الإسنوي ومن وافقه فلا يحتاج لاستشكاله إذ لا عمل بقضيته المذكورة بل هي غير مميزة من حين مجاوزة.

 

ج / 1 ص -156-        الدم الثاني للخمسة عشر فتبين أن عليها في الشهر الأول صلوات ما زاد على يوم وليلة, وكذا في الشهر الثاني, وهكذا وإن كانت تنتقل في الدماء من ضعيف إلى قوي ومن قوي إلى أقوى على أن الإسنوي ومن معه أن يردوا ما استشكل به المصنف عليهم أخذا مما أشرت إليه من الاعتراضات والرد عليهم بأن يقال: قولك من غير مانع في محل المنع بل هو عين المسألة المتنازع فيها, وكفى بنسخ الأقوى للضعيف مانعا وجعل الأصحاب ما ذكرت لا دليل فيه عليهم؛ لأن محله حيث لا دليل وهم قد قرروا الدليل.
قوله: بعد الشهر ظرف لقوله: يعاقب لا لحيضها للتناقص.
قوله: "وإن وسع" أي ما قبله.
قوله: "فيمن رأت" متعلق بقلنا.
قوله: "وكذا..إلخ" لا معنى لهذا الكلام فيرجع فيه إلى مراد قائله, ولعل مراده أنه راجع إلى قوله قبيله, وقد بلغ أول الثالث يوما وليلة, أي وكذا ما زاد عليهما إذا استمر السواد.
قوله: جعلنا للثالث هنا..إلخ" لا يحتاج إلى هذا كله هنا؛ لأنه معلوم مقرر في مسألة ابن سريج السابقة, وحاصله عنده أنها لو رأت ستة عشر أحمر ثم أسود مستمرا فلا تمييز لها فتحيض يوما وليلة من أول الأحمر, وباقيه وهو خمسة عشر طهر ثم تحيض يوما وليلة من أول الأسود وباقيه استحاضة وقال النووي عليه بل هي بعد الدور الأول معتادة؛ لأن العادة تثبت بمرة وقد مضى لها دور ستة عشر فليكن دورها من السواد ستة عشر: يوم وليلة حيض وخمسة عشر طهر ثم يوم وليلة حيض وخمسة عشر طهر, وهكذا فتأمل ذلك يظهر لك ما في كلام المؤلف.
قوله: "الثاني..إلخ" للإسنوي أن يقول: لم أخترع ذلك عليهم, وإنما ذكرته بمقتضى علتهم فكأنهم صرحوا به.
قوله: "الثالث..إلخ" لا يشكل هذا على ما مر عن الإسنوي, فإيراد المصنف له في حيز الإشكالات عليه فيه استرواح.
قوله: "ونسخ الأقوى ما حكم به طهرا باستواء دمه" هذا يرجع فيه إلى مراد قائله إذ لا معنى له.
قوله: "هذا ما ظهر..إلخ" لم يأت بشيء زائد على ما يفهم من كلام النووي وابن سريج في مسألتهما السابقة غير مرة كما يعلم مما قررته فيها سيما ما مر قريبا, فلا يحتاج إلى قوله, وإن كان في المسألة نص فسمعا وطاعة؛ لأن ما ذكره هو معنى ما ذكراه فأي شيء خالف فيه حتى يطلب فيه النص.

 

ج / 1 ص -157-        قوله: "الرابع..إلخ" ما ذكره فيه هو عين ما ذكره في بعض الثالث؛ لأن الصورة التي ذكرها في الرابع هي صورة ابن سريج التي تكلم عليها في الثالث.
قوله: "ولم يذكر أحد..إلخ" هذه لا تشبه مسألة الإسنوي؛ لأن زيادة السادس عشر على الخمسة عشر الحمرة صيرتها غير مميزة من حينئذ, وإن طرأ السواد بعده فيستمر لها هذا الحكم إلا إن كان بان لها تمييز صحيح بعد ذلك, وأما في مسألة الإسنوي فهي بانتقالها عن الخمسة عشر الحمرة لم يثبت لها عدم التمييز, فترجت أن السواد هو الحيض فأمسكت عما تمسك عنه الحائض فلا جامع بين المسألتين حتى يرد ذلك على الإسنوي, وحينئذ اندفع قول المصنف "ولم يذكر أحد..إلخ" لما ظهر من وضوح الفرق بينهما.
قوله: "وإن طال زمن الأخير..إلخ" غير صحيح لما قدمته عن المتولي والمجموع من أن شرط ذلك أن يتقطع, وإلا كانت غير مميزة ولفهم المؤلف صحة هذا الذي صرح به بنى على الإشكالات فيما مر, وقد رددتها ثم بهذا فاستحضره ليظهر لك رد قول المصنف وإشكالها من فقد شرط التمييز.
قوله "فإن من شروطه..إلخ" عجيب فإن هذا الذي ذكره لم يفقد, وإنما المفقود أن لا ينقص الضعيف عن أقل الطهر, وقد مر الجواب عنه أن محله إذا لم ينقطع, وإلا حكم بالتمييز, وإن كان الضعيف دون أقل الطهر.
قوله: "وجوابه..إلخ" ليس الجواب مطلقا للإشكال المبني على. فهم غير المراد فتأمله. قوله: "قال فيه الرافعي...إلخ" مر ما فيه مبسوطا وأنه لا إشكال فيه.
قوله: "حكوا الاتفاق" مراده في نحو المسألة الأولى اتفاق ابن سريج ومخالفه, فإنهما اتفقا على أن السواد حيض, وإنما اختلفا في الحمرة فابن سريج يلحقها بالأولى وغيره يلحقها بالثانية كما مر.
قوله: "دليلا للقوة بالسبق" قصد بهذا الرد على ما مر عن الإسنوي ومتابعيه ولا رد فيه؛ لأن الأسود هنا لم يأت ما ينسخه فلا جامع بين المسألتين.
قوله: "فهلا كانت هذه عنده..إلخ" الفرق بينهما على طريقته واضح لأنه إنما قال في تلك ما مر؛ لأنها غير مميزة عنده أيضا, لكنه يثابر على تصحيح الدور ما أمكن كما مر ففي صورته: لما رأت الأحمر ستة عشر ما أمكن أن يجعلها حيضا وطهرا فجعلها كذلك, ثم لما انتقلت إلى الأسود حصل لها نوع تمييز بانتقالها إلى الأقوى فجعل أوله حيضا رعاية لقوته, وأما هذه فإن الأسود الأقوى قد تقدم فيها فإذا جاوز الخمسة عشر صارت غير مميزة, فمردها مرد غير المميزة من يوم وليلة أو ست أو سبع أول الأسود, ولا نظر إلى الأحمر؛ لأنه لضعفه وتأخره عن القوي صار بمنزلة الطهر فلا مقتضى لكونه يجعل أوله حيضا نظير ما

 

ج / 1 ص -158-        فعل في الأسود؛ لما علمت أن ثم مقتضيا هو تأخر القوي, وأن الانتقال إليه عن الضعيف معهود, وليس هنا نظير ذلك إذ لم يعهد الانتقال من القوي إلى الضعيف والإعراض عنه.
قوله: "أما على ما نقلناه" أي من خلاف ما قاله ابن سريج: من أن حيضها يوم وليلة من أول الأحمر.
قوله: "وإشكال مسألة يوم وليلة..إلخ" لا تشكل هذه المسألة بالثلاث السابقة؛ لأنها فيما إذا استمر الأسود كما عبر به المصنف تبعا لهم, وهن فيما إذا انقطع كما قدمت مرارا, وهذا ظاهر لا غبار عليه, ولقد كرر المصنف هذا الإشكال مرات متعددة على أنواع مختلفة, وكلها غفلة عما قدمته عن المتولي والمجموع.
"قوله: فقياس الثلاث الأول" مبني على ما ذكر وجوابه ما تقرر أن تلك الثلاث فيما إذا انقطع ومسألة يوم وليلة أسود ومثلهما أحمر وهكذا حتى جاوز خمسة عشر فيما إذا استمر التقطع كذلك وبهذا اندفع فرقه بين المسألتين بما استند فيه إلى ترجي ما لا يوافق قواعدهم إذ مجرد التكرر لم يعولوا عليه تصريحا ولا تلويحا بخلاف ما أجبنا به فإنهم عولوا عليه تصريحا وتلويحا.
"قوله: فليحرر" قد عرف تحرير هذا المقام لكن بغير ما فرق به المصنف وعول عليه.
"قوله: ومثلها مسألة من رأت..إلخ" ما ذكره في هذه كلام يرجع في فهم المراد منه إليه فإن هذه المسألة هي أصل هذا المبحث الذي ذكر فيه ما مر عن الإسنوي والشيخين واستشكله بتلك الإشكالات التي مر الكلام عليها ثم أعادها وتكلم عليها بهذا الكلام الذي لا حاصل له إلا ما ذكره بعد قوله: نعم قلنا..إلخ وكأنه لاستشعاره ذلك قال وليزد النظر فيها.
"قوله: فإشكالها من حيث اعتبار القوة بالسبق..إلخ" ليس هذا من مظان اعتبار القوة بالسبق لأنه إنما يعتبر حيث اتحدا في الصفات كأحمر ثخين وأسود رقيق ووجدت شروط التمييز في كل وهنا ليس كذلك فلا إشكال حتى يحتاج إلى تكلف الجواب عنه. بما ليس في محله على أن قوله: لكنه هنا أقوى فلم لم تعتبر قوته فيه تناف.
"قوله: ثالثها من رأت..إلخ" بسط ذلك في المجموع بما حاصله رأت ثلاثة دما ثم اثني عشر نقاء ثم ثلاثة دما ثم انقطع فالثلاثة الأولى حيض لأنه في زمن الإمكان والثلاثة الأخيرة دم فساد لا حيض مع الأولى لمجاوزته خمسة عشر ولا منفردا لأنه لم يتقدمه أقل طهر وهكذا لو رأت يوما وليلة دما أو يومين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو غير ذلك ثم رأت النقاء تمام خمسة عشر ثم رأت يوما وليلة فأكثر دما فالأول حيض والأخير دم فساد ولا خلاف في شيء من هذا ولو رأت دما دون يوم وليلة نقاء تمام خمسة

 

ج / 1 ص -159-        عشر ثم دما يوما وليلة أو ثلاثة أيام أو خمسة ونحو ذلك فالأول دم فساد والثاني حيض لوقوعه في زمن الإمكان ولو رأت نصف يوم دما ثم تمام خمسة عشر نقاء ثم نصف يوم دما فالدمان جميعا دم فساد ولا حيض لها اتفاقا لعدم إمكان ضم أحدهما إلى الآخر لمجاوزة خمسة عشر. ولو رأت يوما بلا ليلة دما ثم ثلاثة عشر نقاء ثم ثلاثة أيام دما فقد رأت. في الخمسة عشر يومين دما في أولها يوما وفي آخرها يوما فإن قلنا لا تلفيق فحيضها الدم الثاني كله والأول دم فساد وإن لفقنا من العادة فكذلك لأن المبتدئة ترد إلى يوم وليلة وليس في هذا الزمان ما يمكن جعله حيضا وإن لفقنا من مدة الإمكان وهي خمسة عشر فإن قلنا المبتدئة ترد إلى يوم وليلة حيضناها اليوم الأول ومن الخامس عشر مقدار ليلة ليتم لها يوم وليلة ا هـ.
"قوله: والإشكال في الأولى..إلخ" هذا مبني على إشكالاته السابقة المبنية كلها على توهمه أنه لا فرق بين المتقطع والمستمر. ولو تأمل قوله كالمجموع ثم ثلاثة دما وانقطع لزال عنه هذا الإشكال, وبقية الإشكالات السابقة ولعلم أن هذا رد لإشكاله ومصرح بما قدمته مرارا عن المتولي من أنه حيث انقطع عمل بالتمييز وإن نقص الضعيف عن أقل الطهر وأن غير المميزة إنما يتأتى لها ذلك حيث استمر عليها الدم.
"قوله: فليكن لها..إلخ" ليس في محله لما تقرر سيما وقد علمت أن المجموع مصرح بأنه لا خلاف فيه وكذا صرح في مسائل أخرى سبقت بنفي الخلاف ووقع للمصنف استشكالها بما ذكر ومر رد جميعها بما ذكرته هنا وتصريح المراغي ينظر فيه. فإن صور بالانقطاع كما صور به المجموع فهو وهم منه وإن لم يصرح بذلك فهو محمول على ما إذا استمر الدم فاندفع قول المصنف وظاهره إلخ.
"قوله: وتحيضها الثلاث..إلخ" يرد بأن الحكم على الثلاثة الأول بالحيض ليس من حيث السبق بل لوقوعه في زمن الإمكان وحده دون الأخيرة كما مر عن المجموع.
"قوله: وكذا إلغاء اليوم الأول..إلخ" قد علم مما ذكرته آنفا عن المجموع أن صلاحية الأول لاجتماعه ببعض الثلاثة الأخيرة إنما يتأتى على الضعيف الذي مر آخر عبارة المجموع السابقة عنه فلا دليل فيه لما ذكره المؤلف من الأولوية. بل لا دليل فيه أيضا وإن قلنا بهذا الضعيف لأن صلاحيته للاجتماع إنما هو لعدم معارض له أقوى بخلاف مسألة الإسنوي الذي يريد المصنف استشكالها فإنه عارض الدم الأول ما هو أقوى منه كما مر.
"قوله: وتكون غير مميزة" محله إن كان استمر الدم وإلا كانت الخمسة الحمرة ثم السواد ثم الخمسة الحمرة كلها حيضا كما مر وما أحسن قول المجموع لو رأت خمسة حمرة ثم نصف يوم سوادا ثم أطبقت الحمرة فلا تمييز لها

 

ج / 1 ص -160-        "قوله وهو مشكل" قد مر له ذلك بعينه مرارا ومر الجواب عنه كذلك وكأنه إنما زاد في تكرير ذلك لقوة هذه الإشكالات عنده.
"قوله: فتكون..إلخ" لا يجديه هذا شيئا لأن هذه الصورة إن كان انقطع الدم فيها فهي مثل الأولى في التمييز وإلا فهي مثلها في عدمه فزال ما حاوله وحينئذ فلا تقوية فيه لما في النمط الأول خلافا لما حاوله أيضا.
"قوله: وإنما قلنا في الأولى بعدم التمييز" مراده بها من رأت خمسة أحمر ثم يوما أسود ثم خمسة أحمر وقدمت فيها آنفا شرط عدم التمييز الذي صرح به المصنف نفسه فيما يأتي قريبا وبه مع ما مر في تقرير ما بعدها يرد فرق المصنف.
"قوله: إلا أن تقتضيه عادة" سيأتي الكلام عليه في الثالثة المعتادة المميزة.
"قوله: خمسة أسود" أي ثم أطبق الأحمر.
"قوله: وجهان" أي بل ثلاثة أصحها تقديم التمييز مطلقا وافق العادة أو زاد أو نقص وثانيها تقديم العادة مطلقا وثالثها إن كان أمكن الجمع بينهما عمل بهما وإلا سقطا وكانت كمبتدئة لا تمييز لها ففيمن اعتادت خمسة أول الشهر لو رأت أوله خمسة سوادا ثم أطبقت الحمرة حيضها السواد باتفاقهم, أو عشرة سوادا, ثم أطبقت الحمرة فحيضها السواد كله على الأول والثالث وخمسة من أوله على الثاني, أو خمسة حمرة, ثم خمسة سوادا, ثم أطبقت الحمرة فهو السواد على الأول وخمسة الحمرة على الثاني. والعشرة على الثالث, أو السواد يوما إلى خمسة عشر, ثم أطبقت الحمرة فهو السواد مطلقا على الأول وخمسة من أول الشهر مطلقا على الثاني والأكثر من التمييز والعادة على الثالث.
"قوله: وكذا لو ظهر القوي في غير وقتها" هذا عين ما قبله لأن معنى قوله: خمسا من كل شهر أي من أوله بدليل قوله على الضعيف المقدم على العادة فحيضها خمس من أول الشهر.
"قوله: فلو رأت" أي من عادتها الخمسة الأولى من كل شهر.
"قوله: أو في آخره شيء أسود..إلخ" قد ينافيه. حاصل قول المجموع في هذه أعني المعتادة خمسة من أول كل شهر لو رأت عشرين حمرة, ثم خمسة سوادا, ثم أطبقت الحمرة كانت الخمسة الأولى من أول الأحمر حيضا كعادتها وأيام السواد حيض آخر؛ لأن بينهما طهرا كاملا قال جماعة وهذا متفق عليه ونقل الرافعي فيه خلافا ا هـ فقضية ذلك أن هذه لو رأت من أول الشهر خمسة أسود, ثم خمسة عشر أحمر, ثم خمسة أسود, ثم أطبق الأحمر أن يكون الأسود الثاني حيضا لأنه تخلل بين السوادين أقل طهر نظير ما قالوه في تلك قلت يفرق بينهما بأنه تعارض, ثم عادة وتمييز فجمع بينهما لإمكانه. وانتسخ بذلك عادتها في الطهر وأما هنا فالعادة وافقت التمييز فكانت عادتها

 

ج / 1 ص -161-        في الطهر وأنه خمسة وعشرون باقية بحالها فإذا جاء فيها الأسود ثم عقبه الأحمر المستمر بان أنه استحاضة لوقوعه في زمن الطهر فتأمله.
"قوله: كما سبق في التي قبلها" لم يسبق له ذلك صريحا بل اقتضاء فقط.
"قوله: إذا لم يختلف الدم أن حيضها الخمس الأول" هذا يرجع فيه إلى مراد قائله إذ لا معنى له صحيح وحاصل ما في المجموع هنا إذا اعتادت دون خمسة عشر فجاوز عادتها لزمها اتفاقا وإن جرى وجه شاذ في المبتدئة لأن الأصل في استمرار الحيض هنا أن تمسك عما تمسك عنه الحائض لاحتمال الانقطاع قبل خمسة عشر فيكون الجميع حيضا, ثم إن كان انقطع لخمسة عشر فأقل فالكل حيض وإن جاوزها فمستحاضة فيلزمها الغسل ثم إن كانت غير مميزة ردت لعادتها فحيضها أيام عادتها قدرا ووقتا وما عداه طهر تقضي صلاته وسواء في ذلك كون عادتها أقل الحيض والطهر أو غالبهما, أو أكثر الحيض وأقل الطهر, أو غير ذلك وإن طال زمن الطهر فلو كانت تحيض خمسة وتطهر خمسة عشر فدورها عشرون, أو خمسة عشر وخمسة عشر فدورها ثلاثون, أو خمسة عشر فأقل وتطهر تمام عشر سنين فدورها عشر سنين. خلافا لفرقة جعلوا غايته تسعين الحيض ما يتفق والباقي طهر لأنها عدة الآيسة ويبعد الحكم بالطهر أكثر من ذلك مع جريان الدم. ثم الأصح باتفاقهم من أوجه أربعة أن العادة تثبت بمرة واحدة مطلقا مبتدئة كانت, أو غيرها فلو رأت مبتدئة أول الشهر عشرة دما وباقيه طهرا وفي ثان خمسة وثالث أربعة, ثم استحيضت في الرابع ردت للأربعة بلا خلاف, أو أربعة ثم خمسة, ثم استحيضت ردت إلى الخمسة على الأصح وتثبت العادة بالتمييز على الأصح بل الصواب كما تثبت بانقطاع الدم وإن زاد على ثلاثين يوما خلافا لجمع. فلو رأت بعد شهر التمييز دما مبهما اغتسلت بعد مضي قدر أيام التمييز وفعلت ما تفعله الطاهر المستحاضة نعم إن كان انقطع الدم في بعض الشهور قبل مجاوزة خمسة عشر كان جميع ما رأته في هذا الشهر حيضا فعلم أنها لو اعتادت خمسة سوادا وباقي الشهر حمرة وتكرر ذلك مرارا, ثم رأت في دور عشرة سوادا, ثم باقيه حمرة, ثم فيما يليه أطبق السواد, أو دم مبهم فحيضها من كل شهر عشرة واستشكله الرافعي من حيث الخلاف لا الحكم ولو رأت مبتدئة دما أحمر شهرا وفي شهر ثان خمسة سوادا. ، ثم باقيه حمرة, ثم رأت في الثالث دما مبهما وأطبق ففي الأول هي مبتدئة لا تمييز لها ترد ليوم وليلة وفي الثاني ترد للتمييز وفي الثالث لخمسة بناء على ثبوت العادة بمرة ويجوز أن تنتقل العادة فتتقدم وتتأخر وتزيد وتنقص وحينئذ فترد إلى آخر ما رأت من ذلك؛ لأنه أقرب إلى شهر الاستحاضة. فمن اعتادت الخمسة الثانية من الشهر ولو رأت في شهر الخمسة الأولى دما وانقطع فقد تقدمت عادتها وحيضها بحاله دون طهرها فإنه نقص وصار عشرين بعد أن كان

 

ج / 1 ص -162-        خمسة وعشرين. ، أو الثالثة, أو الرابعة, أو الخامسة أو السادسة فحيضها بحاله أيضا ولكن زاد طهرها, أو الثانية مع الثالثة زاد حيضها وتأخرت عادتها, أو الأولى والثانية زاد حيضها وتقدمت عادتها, أو الأولى والثانية والثالثة زاد حيضها إذ صار خمسة عشر وتقدمت عادتها وتأخرت, أو أربعة أيام فأقل من خمستها المعتادة نقص حيضها ولم تنتقل عادتها, أو من الخمسة الأولى نقص حيضها وتقدمت عادتها, أو من الخمسة الثالثة, أو ما بعدها نقص حيضها وتأخرت عادتها, ثم في جميع هذه الصور المتفق. عليها إذا استحيضت فأطبق دمها بعد عادة من هذه العادات ردت إليها وإن لم تتكرر. ومن مثل قدر الطهر إذا تغيرت العادة ما لو رأت معتادة خمسة من أول الشهر الخمسة الثانية فقد صار دورها المتقدم على هذه الخمسة خمسة وثلاثين منها خمسة حيض وثلاثون طهر بأن تكرر هذا بأن رأت بعد هذه الخمسة ثلاثين طهرا, ثم عاد الدم في الخمسة الثالثة من الشهر الآخر وهكذا, ثم استحيضت وأطبق الدم المبهم ردت إلى هذا أبدا فخمسة حيض وثلاثون طهر اتفاقا وإن لم يتكرر. بأن استمر الدم من أول الخمسة الثانية فعلى الأصح حيضها في هذا الشهر خمسة من أول الدم المبتدئ وهي الخمسة الثانية ويكون دورها خمسة وثلاثين خمسة حيض وثلاثون طهر ولو اعتادت خمسة أول الشهر فرأته الخمسة الثانية وانقطع, ثم عاد أول الشهر الثاني وانقطع صار دورها خمسة وعشرين فإن تكرر فواضح أنها ترد إليه وكذا إن كان لم يتكرر فإن عاد في الخمسة الأولى واستمر فهذه الخمسة حيض اتفاقا والطهر عشرون بناء على الأصح أن العادة تثبت بمرة ولو حاضت خمستها المعهودة أول الشهر. ثم طهرت عشرين, ثم عاد الدم في الخمسة الأخيرة من هذا الشهر فقد تقدم حيضها وصار دورها خمسة وعشرين فترد إليه وإن لم يتكرر بأن استمر الدم من الخمسة الأخيرة فتحيض خمسة من أول الدم وتطهر عشرين وهكذا ولو لم تطهر إلا أربعة عشر, ثم عاد الدم واستمر كان يوم من أول الدم العائد استحاضة تكميلا للطهر وخمسة بعده حيض وخمسة عشر طهر وصار دورها عشرين ولو كانت عادتها الخمسة الثانية فرأت الدم من أول الشهر واتصل. فالصحيح عند صاحب المهذب وشيخه القاضي أبي الطيب وصاحب البيان وغيرهم. أن حيضها الخمسة المعتادة لأن العادة ثبتت فيها فلا تغير إلا بحيض صحيح فعليه يبقى دورها كما كان وقال أبو العباس حيضها الخمسة الأولى من أول الشهر فينقص طهرها خمسة أيام ولو طهرت هذه دون الخمسة عشر, ثم رأت الدم واتصل بقيت على عادتها اتفاقا ولو اعتادت الخمسة الأولى فرأتها, ثم طهرت خمسة عشر ثم أطبق الدم واستمر فالمذهب عند صاحب المهذب وشيخه المذكور وغيرهما حيضها خمسة أول كل شهر وباقيه طهر ولا أثر للدم الموجود فيه وقيل الخمسة الأولى من الدم الثاني حيض فيصير دورها عشرين. ولو رأت الخمسة المعتادة وطهرت خمسة عشر, ثم رأت دما ردت لخمستها المعتادة من أول كل شهر اتفاقا ولو رأت معتادة خمسة أول الشهر خمسة حمرة أول الشهر, ثم أطبق السواد إلى

 

ج / 1 ص -163-        آخره فعلى المذهب أن الأسود يرفع حكم الأحمر حيضها خمسة من أول الأسود وقد انتقلت عادتها. فإن لم يطبق السواد بل رأته بعد خمسة الحمرة خمسة, ثم أطبقت الحمرة فحيضها الخمسة الثانية على خلاف فيه مذكور في المبتدئة هذا كله في العادة الواحدة فإن كان لها عادات فقد تنتظم وقد لا وسيأتي وإنما أطلت في ذلك. لأن المصنف من عادته في هذا الكتاب أنه يجمل القواعد فلا يتكلم عليها وإنما يتكلم على مسائل متفرعة على تلك الأصول لا يمكن الإحاطة بها كما ينبغي إلا بعد الإحاطة بأصولها وموادها فدعت الحاجة إلى بيان ذلك بأصول مآخذه وإن كان أكثره سيأتي في كلامه وكلامنا.
"قوله: ست من أوله" أي الأسود؛ لأنه حيضها بحكم التمييز الواقع في الشهر الأول إذ من الخامس إلى آخر العاشر هو حيضها في الشهر الأول؛ لأنه الأقوى.
"قوله: أشقر" أي لأنه بالنسبة إلى الأحمر كالطهر.
"قوله: فحيضها ثمانية السواد" أي في الشهر الأول.
"قوله: ثم تأخذ من الأحمر الثاني" أي: من أوله.
"قوله: حيضا ثلاثا..إلخ" أي: في ثلاث شهور متوالية.
"قوله: وكذا في الطهر..إلخ" قد مر في كلام المجموع بسط ذلك بأمثلة بأوضح مما ذكره المصنف وقوله: وتطهر آخره أي: إلى آخره وقوله: ثم طهرت ثلاثين..إلخ يرجع فيه إلى مراد قائله لعدم التئامه بما قبله وقوله: ذات الخمس من أول كل شهر لا حاجة لقوله: كل بل هو موهم إذ العادة فيها تثبت بمرة كما مر ويأتي وقوله: أول الثاني أي: اليوم الثاني وقوله: وحيضتها دما ضعيفا صوابه. دما قويا وإلا فلا تمييز وقوله: وتكررت ليس بشرط كما علمت مما مر عن المجموع وقوله: ففيها وجهان..إلخ غير صحيح من حيث حكاية الخلاف ومن حيث قوله: في الثاني أنه ظاهر المذهب وعبارة المجموع كما مر حاصلها أما إذا حاضت خمستها المعهودة أول الشهر, ثم طهرت عشرين, ثم عاد الدم في الخمسة الأخيرة من هذا الشهر فقد تقدم حيضها وصار دورها خمسة وعشرين فإن تكرر ذلك بأن رأت الخمسة الأخيرة دما وانقطع, ثم طهرت عشرين. ، ثم رأت الدم خمسة, ثم طهرت عشرين وهكذا مرات, أو مرتين, ثم استحيضت ردت إلى ذلك وجعل دورها أبدا خمسة وعشرين وإن لم يتكرر بأن استمر الدم من الخمسة الأخيرة قال الرافعي فحاصل ما يخرج من طرق الأصحاب في هذه المسألة ونظائرها أربعة أوجه أصحها تحيض خمسة من أول الدم وتطهر عشرين وهكذا أبدا والثاني تحيض خمسة وتطهر خمسة وعشرين والثالث تحيض عشرة من هذا الدم وتطهر خمسة وعشرين ثم تحافظ على دورها القديم والرابع أن الخمسة الأخيرة استحاضة وتحيض من أول الشهر خمسة وتطهر خمسة وعشرين

 

ج / 1 ص -164-        على عادتها القديمة انتهت بلفظها وهي صريحة في رد ما حكاه المصنف وفي رد قوله عن هذا الوجه الرابع الضعيف أنه ظاهر المذهب فإن قلت ما الفرق بين هذه وقول المجموع بعدها بأسطر: أما إذا كانت عادتها الخمسة الأولى فرأتها, ثم طهرت خمسة عشر ثم أطبق الدم فالمذهب عند المصنف وشيخه وغيرهما أنها على عادتها فحيضها خمسة من أول كل شهر وباقيه طهر ولا أثر للدم الموجود فيه والثاني أن الخمسة الأولى من الدم الثاني حيض فعلى هذا يصير دورها عشرين خمسة حيض والخمسة عشر طهر وبين في المهذب. أن هذا الثاني لابن سريج قلت هذه الصورة هي صورة وجهي المصنف اللذين سبقا عنه في تلك الصورة فهو إما واهم لأنه انتقل نظره فأجرى في تلك الصورة حكم هذه وهذا أقرب بدليل تعليله للوجهين اللذين ذكرهما أو قايس قياسا غير صحيح فأجرى حكم هذه في تلك مع فرقهم بينهما حكما وخلافا ثم رأيت المصنف نفسه نقل هاتين المسألتين على الصواب فيما يأتي وأشار إلى إشكال وسأذكر حله مع حل هذا الإشكال أيضا بحمد الله ومعونته وتوفيقه وهدايته.
"قوله: فلو رأت الدم مستمرا بعد عشرين نقاء". هذه هي الصورة التي حكى فيها الوجهين وقد ناقض نفسه فحكى فيها فيما مر الوجهين وقال إن ظاهر المذهب أن حيضها ليس من أول الدم بل من أول الشهر عملا بعادتها وجزم فيها هنا بأن الحيض خمسة من أول الدم العائد وهذا هو الحق كما قدمته عن المجموع وسيذكره المصنف أيضا.
"قوله: إذا تكرر" لا يشترط ذلك إلا في العادة المنتظمة كما علم مما مر.
"قوله: يعني بعد أن رأت دور الخمسة والعشرين دما مرة ونقاء مرة واحدة" هذا ليس مرادهم بل كلام المجموع مصرح بما يرد هذا التأويل وقد سقته بلفظه قريبا. فراجعه على أن هذا التأويل مناقض لقول المؤلف نفسه وإن لم يتكرر بأن استمر الدم من الخمسة الأخيرة إذ قوله: يعني..إلخ فيه إثبات تكرره مع أن المتقدم عدم تكرره فكيف يلتئمان؟ وكأنه ذكر هذا ظنا منه أنه يندفع به ما يأتي من الإشكال وليس كذلك إذا ما وقع له من التخالف الذي وقع فيه فيما مر وهنا حيث حكى في هذه الصورة أولا وجهين وأن ظاهر المذهب منهما إلغاء الدم في الخمسة الأخيرة, ثم بعد أسطر جزم فيها بأن الخمسة الأخيرة حيض من غير هذا التأويل. ، ثم بعد أسطر ذكر فيها ذلك مع هذا التأويل وذلك مما يتعجب منه.
"قوله: وقد استشكل في المسألة الأخيرة بأنه خلاف القواعد المقررة..إلخ" ليس فيه خلاف لها لما تقرر أن العادة في الطهر تثبت بمرة كالحيض وهي هنا كذلك؛ لأنها لما طهرت بعد خمستها عشرين, ثم رأت الدم رأته في زمن الإمكان فجعل حيضا ويلزم من جعله حيضا أن ما قبله طهر صحيح فقد استقر لها طهر صحيح وقعت عقبه الاستحاضة فردت إليه في الطهر كما ردت إلى مثل خمستها في الحيض وحينئذ لزم أن أول الدم

 

ج / 1 ص -165-        العائد خمسة حيضا وعشرون. طهرا عملا في الحيض بالعادة المستقرة من جهة القدر لا الزمن لتقدمه عليها وفي الطهر بالعادة الأخيرة الثابتة بمرة التي وليتها الاستحاضة كما هو القاعدة السابقة أن المستحاضة ترد إلى آخر العادات التي وليها شهر الاستحاضة هذا جواب هذا الإشكال ويؤيده قول المجموع في بعض الصور فإن قيل هذا الدور حدث في زمن الاستحاضة فلا عبرة به قلنا لا نسلم فقد أثبتنا عادة الاستحاضة مع دوام الاستحاضة ألا ترى أن المستحاضة المميزة ثبتت لها بالتمييز عادة معمول بها ا هـ. وأما ما أشار إليه المصنف من المسائل المشكلة على هذه المسألة فسيأتي جوابه في عبارة شرح العباب.
"قوله: تحكما بغير دليل" كان ينبغي له أن لا يصدر منه مثل هذه العبارة في حق النووي التابع للأصحاب فيما ذكره وإن غاية الأمر أن يقول: هذا مشكل ونحوه على أنه سيأتي دليله.
"قوله: وقياسه..إلخ" سيأتي في تلك العبارة ما يرد هذا القياس.
"قوله: ولم يتنبه أحد..إلخ" قد تنبهت لذلك بمعونة الله وإلهامه في شرح العباب وأجبت بما تقر به العين حسب جهدي عما أبديته فيه من التناقض بين مسائل منها هذه التي ذكرها المصنف. ومسائل أخرى كلها في المجموع.
"قوله: ورأوا الرد..إلخ" هذا الرأي فيه نظر فإن مخالفة صريح كلام الأصحاب لا تجوز وإن خالف القواعد في ظن غيرهم؛ لأنهم مجتهدون وغيرهم ليس كذلك فلزمه الرجوع إليهم والاستمساك بهديهم وآرائهم وإن ظنها مخالفة للقواعد بحسب تصوره.
"قوله: وظهر لي من كلام الشيخين..إلخ" سيظهر مما سأذكره عن شرح العباب إيضاح كلامهما على ما هو عليه وأنه لا سقط فيه بوجه على أن دعوى السقط منه. وأنهما ومن بعدهما غفلوا عن ذلك فيها الجراءة عليهما وعلى جميع من بعدهما بالغلط وهذا لا ينبغي وإنما الذي ينبغي لمن قام عنده إشكال شيء أن يقضي على نفسه بالقصور كما هو الواقع فإن الفقه منه مشكل ومنه غير مشكل وغاية العلماء الآن وقبله أن يفهموا نحو كلام الشيخين ويقررونه على وجهه مع اعترافهم بأن فيه مشكلات تحتاج إلى تمحلات حتى يقرب فهمها ويتضح علمها ومن ثم أعرضوا عن مغلطيهما والمعترضين عليهما ولم يلتفتوا إليهم وإن جلت مراتبهم وكذلك الشيخان رحمهما الله تعالى مع الأصحاب. فإنهما ينقلان عنهم غرائب يقران أكثرها ولذلك قد يعرض في الروضة وأصلها للتغليط وأما المجموع فهو فيه كالمجتهد فلذا أكثر فيه من التغليط ولا دلالة للمصنف فيما ذكره عن أبي زرعة وما بعده إذ ليس فيه دعوى سقط على أن جمعا محققين قالوا إن هذا مبني على الطريقتين كما بينت ذلك في شرح الإرشاد والعباب وغيرهما وكذا ما فهمه الإسنوي وغيره ليس فيه إلا حمل عبارتها على أنها مفرعة على ضعيف وهذا يقع كثيرا للمتكلمين عليها وعلى أصلها

 

ج / 1 ص -166-        أنهم يفرعون ما فيها على ضعيف لأدلة قامت عندهم على ذلك. وقوله: ولعل ما ظنناه..إلخ لا يتم له إلا لو رأى ما ظنه ساقطا من الروضة في بعض نسخ العزيز كما في الموضع الذي استشهد به وأمثاله فإنهم لا يحكمون على الروضة بذلك إلا ويستندون فيه إلى أن هذا الساقط منها موجود في نسخ العزيز المعتمدة فحينئذ يسوغ لهم أن يدعوا أنه تبعه على ما فيها من غير تأمل للسقط على أن جماعة منهم قد ينتصرون لما فيها وإن خالف ما في أكثر نسخ أصلها كما في مسألة ما لو غربت الشمس وهو في شغل الارتحال من منى كما بسطت الكلام على ذلك في حاشية مناسك النووي الكبرى وغيرها. وقوله: ولنبين ما بنيت عليه الوجوه..إلخ قد بينت ذلك وغيره في شرح العباب على وجه أظهر وأمتن مما ذكره كما يعلم بتدبر عبارته وما اشتملت عليه مما لم أسبق إليه إلا أنني والمؤلف جزاه الله خيرا وقع لنا موافقة في قليل منه فعلى الناظر في ذلك أن يمعن التأمل فيه فإن هذا المحل مزلة قدم في المجموع كما ذكرته في تلك العبارة ولفظها مع المتن قال في المجموع "ومن عادتها الخمسة الثانية فرأته من أول الشهر وجاوز" نصفه "واستحيضت" بأن استمر "فحيضها" على الصحيح عند المصنف وشيخه أبي الطيب وصاحب البيان. وغيرهم الخمسة "الثانية" لأن العادة ثبتت بها فلا تغير إلا بحيض صحيح "و" على هذا يبقى "دورها كما كان" عملا بعادتها التي وليها شهر الاستحاضة والثاني وهو قول أبي العباس حيضها خمسة الشهر الأولى؛ لأنه بدأ بها في وقت يصلح أن يكون حيضا فعليه نقص طهرها خمسة وصار دورها خمسة وعشرين "ولو رأت" هذه "خمستها" المعتادة وهي الثانية "وطهرت دون أقله" أي: الطهر وهو خمسة عشر يوما كأن طهرت أربعة عشر "ثم اتصل" الدم "فهي على عادتها" بلا خلاف ووافق عليه أبو العباس, ثم قلت "ومن عادتها الخمسة الأولى" من الشهر "لو حاضتها, ثم" بعد طهرها عشرين حاضت الخمسة "الأخيرة" منه "فدورها خمسة وعشرون"؛ لأن حيضها تقدم عن وقته بخمسة "فترد إليه إذا استحيضت" سواء أطهرت بعد الخمسة الأخيرة عشرين أيضا ثم استحيضت أم لم تطهر بعدها بل استمر الدم "فتحيض" على الأصح من أوجه أربعة "خمسة من أول الدم المستمر وخمسة من آخر الشهر وهكذا" أبدا وقيل تحيض خمسة وتطهر خمسة وعشرين وقيل تحيض عشرة من هذا الدم وتطهر خمسة وعشرين, ثم تحافظ على دورها القديم وقيل الخمسة الأخيرة استحاضة وتحيض من أول الشهر خمسة وتطهر خمسة وعشرين على عادتها القديمة "وإن رأت" من كانت تحيض خمسة أول الشهر وتطهر باقيه "خمستها وطهرت أربعة عشر ثم استحيضت" بأن عاد الدم بعد أربعة عشر واستمر فالمتخلل بين خمستها والدم ناقص عن أقل الطهر ففيها أربعة أوجه أصحها تكمل أقل الطهر لاستحالة الحكم بالحيض قبل أقله فلذا "كمل طهرها بيوم من أول دم الاستحاضة العائد وتحيض خمسة بعده" أي: بعد ذلك اليوم لدخول وقت إمكان الحيض حينئذ "وخمسة عشر" من ذلك الدم بعد الخمسة المحكوم عليها بالحيض "طهرها"

 

ج / 1 ص -167-        أي: تجعل كذلك وحينئذ "فدورها عشرون" وقيل أول يوم من العائد استحاضة, ثم باقي هذا الشهر وهو عشرة مع خمسة مما يليه حيض, ثم تطهر خمسة وعشرين تمام الشهر وتحافظ على دورها القديم وقيل أول يوم من العائد استحاضة وبعده خمسة حيض وخمسة وعشرون طهر وهكذا أبدا وقيل جميع الدم العائد إلى آخر الشهر استحاضة وتفتتح دورها القديم من أول الشهر الثاني "أو" رأت خمستها "وطهرت خمسة عشر, أو عشرة, ثم استحيضت" بأن عاد الدم واستمر "فعادتها بحالها" على المذهب في الأولى عند المصنف وشيخه وغيرهما. وبالاتفاق في الثانية فحينئذ "خمسة من أول كل شهر حيض وباقيه طهر" فعلى هذا يكون باقي الشهر طهرا ولا أثر للدم الموجود فيه ا هـ كلام المجموع وكثير منه في الروضة وأصلها سيما مسألة الأربعة عشر التي فيها الأوجه الأربعة فإن قلت وقع في كلامه تناقض فإن قوله السابق آنفا ولو رأت خمستها وطهرت دون أقله, ثم اتصل فهي على عادتها ينافي قوله هنا وإن رأت خمستها وطهرت أربعة عشر..إلخ إذ الصورة في الحالين واحدة ومع ذلك اختلف الحكم بل وحكي فيه الاتفاق في الأولى والخلاف في الثانية. وقوله: هنا, أو عشرة موافق لما ذكره أولا ومخالف لما ذكره ثانيا في الحكم والخلاف أيضا قلت هو كذلك وزاد الإشكال جمع المصنف بين هذه المسائل كذلك بل وزاد في الإيهام بمخالفته أسلوب المجموع وإدراجه مسألة الخمسة عشر والعشرة مع ما قبلها مع أنه كان يتعين عليه تقديمها عقب المسألة الأولى إذ الثلاثة من واد واحد كما صنعه في المجموع وقد كنت استفتيت في نحو ذلك من بعض نواحي اليمن فكتبت فيه مؤلفا شافيا وليس هو عندي والذي يتضح به هذا المحل. وإن كان مزلة قدم في المجموع أن الصورة الأولى والأخيرة أعني قوله: ولو رأت خمستها وطهرت دون أقله..إلخ وقوله: أو عشرة, ثم استحيضت..إلخ مفروضان كما دل عليه كلام الجواهر في الأولى فيما إذا تكررت عادتها بما وقع فيما قبل شهر الاستحاضة مرتين, أو أكثر بأن كان حيضها الخمسة الثانية وبقية الشهر مع الخمسة الأولى طهر وتكرر ذلك مرتين, أو أكثر وحينئذ فلا وجه للخلاف. لأن العادة المتكررة يرجع إليها بالاتفاق ولا نظر لما وقع في شهر الاستحاضة لأنه عارضه ما هو أقوى منه وهو ما وقع متكررا فيما قبل شهرها مع ضعف الطهر الذي في شهرها بمجيء الدم قبل إمكانه وأما الصورة الثانية أعني قوله وإن رأت خمستها وطهرت أربعة عشر..إلخ فمفروضة فيما إذا لم تتكرر عادتها كأن رأت في شهر خمسة أوله وطهرت باقيه, ثم في الذي يليه رأت الخمسة الأولى وطهرت أربعة عشر ثم عاد الدم واستمر وكأن حاضت الخمسة الأولى وطهرت عشرين, ثم حاضت الخمسة الأخيرة, ثم طهرت الأربعة عشر ثم استحيضت فهذه هي محل الخلاف لأن من أثبت العادة بمرة يكمل الطهر بيوم من هذا الدم, ثم يجعل خمسة حيضا ثم خمسة عشر طهرا ويوجه بأن فيه عملا بعادتها الثابتة في شهر الاستحاضة وإعراضا عن عادتها في الذي قبله وتكميل الطهر بيوم لضرورة الإمكان لا ينافي جعل

 

ج / 1 ص -168-        الخمسة عشر طهرا لها وأنها هي عادتها التي ترجع إليها دون عادتها السابقة لما مر أن العادة التي تليها الاستحاضة مقدمة على ما قبلها وأما من لم يثبت العادة بمرة فيقول إنها ترجع لدورها القديم ومن ثم اتفقت الأوجه الثلاثة السابقة على ذلك. وإنما اختلفوا في كيفية الرجوع إليه كما يعلم بتأملها ويوجه هذا أيضا بأن من لم يثبتها بمرة لا يعول على ما في هذا الشهر بل إما ينظر لعادتها القديمة فيجريها عليها فيما بعد هذا الشهر وهو الوجه الثاني والرابع, أو فيه أيضا وهو الثالث وإنما اختلف الثاني والرابع فيه لأن الثاني نظر لإمكان جعل العائد حيضا فجعل منه بعد اليوم المكمل للطهر خمسة عشر حيضا وخمسة طهرا تمام الشهر, ثم تحافظ على دورها القديم والرابع أعرض عما فيه فجعله استحاضة محافظة على حكاية دورها القديم. باستفتاحه من أول الشهر فإن قلت الفرض أن ما قبله لم يتكرر فكيف ترجع إليه هذه الأوجه؟ قلت قد يقال إنما رجعت إليه؛ لأن ما فيه قوي بموافقته للإمكان بخلاف الثاني فإن مخالفة ما فيه للإمكان أضعفته فلم يعمل بما فيه بل بما قبله لقوته كما تقرر فإن قلت فلم قطعوا ببقائها على عادتها فيما إذا رأت أربعة عشر أو عشرة مثلا كما مر واختلفوا فيما لو رأت خمسة عشر قلت يتعين فرض صورة الخمسة عشر هذه فيما إذا تكررت عادتها قبل ذلك بخلاف ما في شهر الاستحاضة كما فرضنا الآخرين كذلك. وحينئذ فيوجه جريان الخلاف في هذه بأن طهر شهر الاستحاضة قوي فيها بكون الدم لم يأت إلا بعد إمكانه فساغ للوجه الضعيف أن يجعل الخمسة الأولى من هذا الدم حيضا فيصير دورها عشرين لتنتقل عادتها تنقلا صحيحا ومع التنقل الصحيح لا نظر لتكرر العادة السابقة وعدم تكررها وأما الوجه الصحيح فينظر إلى أن هذا التنقل ضعف باستمرار الدم الجائي قبل وقته المعتاد فرجع بها إلى عادتها المستقرة قبل ذلك لأنه أقوى وأما الصورتان الأخريان أعني صورة الأربعة عشر والعشرة المقطوع فيهما ببقائهما على عادتها المستقرة. قبل ذلك فإنما لم يجر فيهما الخلاف لضعف طهر شهر الاستحاضة بكون الدم جاء قبل إمكانه وحينئذ فلم يعارض العادة المتكررة قبل شهر الاستحاضة إلا ضعيف فلم ينظر إليه أحد وقالوا كلهم بالرجوع لتلك العادة القوية المتكررة فإن قلت فأي فرق بين رؤيتها من الخمسة الأخيرة واستمر حيث جعلت حيضا وإن لم يتكرر على الأصح من الأوجه الأربعة السابقة ورؤيتها من بعد الخمسة عشر واستمر حيث ألغي على الأصح من الوجهين السابقين مع أن الفاصل في كل من الصورتين طهر صحيح إذ هو عشرون في الأولى وخمسة عشر في الثانية. قلت يفرق بينهما بأن التنقل القريب يغتفر فيه لوقوعه كثيرا ما لا يغتفر في التنقل البعيد لندرته ومن القواعد أن نادر الوقوع يلحق بكثيره, أو غالبه بخلاف كثيره لا يلحق بشيء بل يكون له حكم مستقل إذا تقرر ذلك فعود الدم بعد الخمسة عشر بعيد من أول العادة الذي هو أول الشهر وبينهما فاصل وهو الخمسة الأخيرة فلم يجعل حيضا مستقلا بل ألغوه وأعرضوا عنه لضعفه بندرته فلم يقو على تقدمه على

 

ج / 1 ص -169-        العادة الغالبة وأما عوده من أول الخمسة الأخيرة فهو قريب من أول العادة ومتصل به فجعل. حيضا مستقلا لأن هذا التقدم والنقل في عادات الحيض كثير فقوي على تقدمه على العادة وصار لاتصاله بها كأنه هي فلذا حكموا على الخمسة الأخيرة بأنها حيض وإن لم يتكرر بخلاف المرئي بعد الخمسة عشر فإنه دم فساد على ما مر ويؤيد ذلك ما يأتي قريبا في التقطع أنه لو تعارض دمان فدم أقربهما إلى أول العادة وليس ملحظه إلا ما ذكرته من أن ما قرب إليها كان إلى كونه حيضا أقرب من الأبعد عنها لكثرة تنقلها في القرب وندرته في البعد فإن قلت هذا الفرق ظاهر لكن هل لكون الخلاف في الأول أربعة أوجه. وفي الثانية وجهين مدرك يناط به قلت نعم لذلك مدرك وإن لم يصرحوا به فأما مدرك الأصح فيهما فقد تقرر وأما مدرك الأوجه الثلاثة في الأولى فهو أن ثانيها نظر لإمكان الحيض كما نظر إليه الأصح وأبقي طهرها على حاله لأنه لم يعارضه شيء وثالثها عمل بقضية الإمكان والعادة فجعل العشرة حيضا وأبقى طهرها على حاله؛ لأنه لم يعارضه شيء وثالثها عمل بقضية الإمكان والعادة فجعل العشرة حيضا وأبقى الطهر على حاله لما ذكر والرابع قدم العادة على الدم العائد قبلها لأنها أقوى منه ونظر في الطهر. إلى ما نظر إليه الثاني والثالث وأما مدرك الوجه الثاني في الثانية فهو أنه نظر لمجرد إمكان الحيض ولعدم اتصال العادة به انتفى الثالث القائل بأن الحيض عشرة وإنما لم يجر نظير الثاني هذا من بقاء الطهر بحاله لإمكانه ثم لأنه إذا حيضها الخمسة الأخيرة بقي من الشهر التالي لها خمسة وعشرون طهرا فلم يقل بالتنقل فيه لإمكان بقائه على أصله إذ لا معارض له بخلاف الحيض وأما هنا فلا يمكن بقاؤه على أصله لأن من يحيضها من ابتداء الدم يرى أنها يوم السادس والعشرين طاهرة فانتسخ الطهر الأول بكون بعضه. صار لهذا الحيض الطارئ وإذا زال منه لهذا الطارئ خمسة لم يبق منه إلا عشرون فمن ثم لم يجر قول بأن حيضها خمسة من الدم العائد وطهرها خمسة وعشرون كما جرى نظير ذلك في الأولى لما علمت من بقاء الطهر, ثم على أصله من غير معارض فنظر الثاني إليه بخلاف الأول فإنه نظر إلى أن تقدم الحيض يستلزم نقص الطهر وأما هنا فلم يبق على أصله لوجود المعارض له فلم يجر على القول بأن الخمسة من الدم العائد حيض خلاف في الطهر لذلك المعارض الذي قدمته فعلم أن الرابع والثاني في تلك لا يمكن جريانهما هنا وأن لإجرائهم ثم أربعة أوجه وهنا وجهين فقط مدركا ظاهرا عثر عليه كما قبله الفكر الفاتر القاصر لكن بعون الكريم الوهاب القادر وكيف لا ومتقدمهم ومتأخرهم لم يتعرضوا بل ولا أشاروا لشيء مما ذكرته في هذا المقام المشتمل على غاية من فرط الخفاء والتناقض الظاهر ببادئ الرأي إلى أن صار مضلة للأفهام ومزلة للأقدام فاعتن بتحريره لتسلم من وصمة الحيرة والتوقف عند تقريره فإن قلت هل يمكن أن يقال الراجح في المسألة الثانية أن العائد حيض لوقوعه في زمن الإمكان أيضا ولا نظر إلى ذلك الفرق لأنه لا يخلو من تعسف وتمحل قلت نعم يمكن ذلك بل يتجه؛ لأن ما مر في الأولى اتفق عليه الشيخان صريحا وأما ما ذكر في الثانية فإنما

 

ج / 1 ص -170-        ذكره في المجموع عن جمع ولم يصرح باعتماده بل أشار إلى نوع تبرأ منه بقوله على المذهب عند المصنف وشيخه وغيرهما ولم يزد على ذلك, ثم حكى مقابله أن العائد حيض وهو قياس ما قال فيه كالرافعي قبيلها إنه الأصح ويكون النووي إنما ترك الاعتراض على ما حكاه في تلك للعلم بضعفه مما ذكره كالرافعي في هذه قيل تلك انتهت عبارة شرح العباب بلفظها إلا بعض تغيير ببسط في آخرها.
"قوله: فلو رأت الخمس المعتادة ثم نقاء خمسة عشر..إلخ" ليست هذه الصورة هي صورة الفوراني ومن معه المذكورة في الروضة والمجموع وإنما صورتهم المذكورة فيهما ما دل عليها قول المجموع الموافق لعبارة الروضة ولو رأت أي: من عادتها خمسة من أول الشهر عشرين حمرة, ثم خمسة سوادا ثم أطبقت الحمرة فقال الفوراني والبغوي وصاحب العدة الخمسة الأولى من أول الأحمر على عادتها وأيام السواد حيض آخر وما بينهما طهر قالوا وهذا متفق عليه وأجرى الرافعي نقلا عن غيره فيها خلافا ا هـ. المقصود. منها وبين هذه وصورة المصنف فرق ظاهر في الحكم من حيث مدرك الخلاف ووجه جريانه فكان ينبغي له أن لا يأتي إلا بصورة الأصحاب فإن قلت ما الفرق بين هذه وما مر فيما لو رأت خمستها المعهودة ثم طهرت خمسة عشر, ثم أطبق الدم واستمر من أن العائد دم فساد على الصحيح من وجهين قلت الفرق بينهما أن هنا تمييزا وهو أقوى من العادة مطلقا فلم يمكن إلغاؤه بخلافه فيما مر فإنه لم يعارض العادة ثم شيء مع ما قررناه فيها فألغي الدم العائد.
"قوله: وإن كان معتادا" لم يصرح شرح المهذب هكذا وإنما دل عليه كلامه.
"قوله: فحيضها هنا خمسة من أول الأسود" أي: وقد انتقلت عادتها.
"قوله: في الأولى عشرين" وهو الصواب وألحق المصنف بخطه قبل عشرين مع الخمس وليس في محله.
"قوله: خمسة وثلاثين" أي:؛ لأن حيضها تأخر خمسة فتضم إلى دورها وهو ثلاثون فصار مجموعه خمسة وثلاثين قبل الاستحاضة فتجري عليه فيهما.
"قوله: حكمهما" صوابه حكمه أي: النقاء؛ لأنه الذي يريد بيان حكمه.
"قوله: أو الذي" أي: أو كالنقاء الذي بين دمي من جاوزها.
"قوله: على الأظهر" محل الخلاف في نقاء لا يبقى معه دم في الفرج بحيث لو أدخلت القطنة خرجت بيضاء نقية. أما إذا خرجت وبها أثر دم ولو كدرة فهو حيض قطعا طال زمنه, أو قصر.

 

ج / 1 ص -171-        "قوله: فيما حكم بهما حيضا" صوابه إذا حكم بكونهما حيضا وأفهم قوله: "بين" أن غير المتخلل دم فساد كأن ينقطع يوما ويوما إلى تمام الثالث عشر ويعود في السادس عشر فالرابع عشر وتاليه طهر قطعا؛ لأن النقاء فيهما لم يتعقبه دم في الخمسة عشر.
"قوله: ثم تقطع أحمر فقط" احترز به عما لو استمر التقطع يوما وليلة دما أسود ومثلهما أحمر إلى آخر الشهر؛ لأنها فاقدة شرط تمييز وهو أن لا يجاوز الدم القوي خمسة عشر فلا تكون مميزة في الحكم. وإن كانت صورتها صورة مميزة.
"قوله: بصفة" أي واحدة, أو صفتين وفقدت شرط تمييز.
"قوله: المرد السابق" أي: من يوم وليلة لمبتدئة غير مميزة وعادة لمعتادة وتمييز لهما.
"قوله: أو أثنائه إن كان لم يبلغهما الأول" يرجع فيه لمراد قائله إذ ما دل عليه ظاهره غير صحيح فقد صرحوا بأنه لا يشترط بلوغ كل مرة من مرات الدم أقله فحينئذ يحسب اليوم والليلة من أول الدم سواء أبلغ أقله أم لا.
"قوله: فلو تقطع الدم بأقل من يوم وليلة كله..إلخ" ليس هذا خاصا بهذا القسم بل لا بد في سائر أقسام التقطع. أن لا ينقص مجموع الدماء في الخمسة عشر عن يوم وليلة كما علم مما مر وإلا فالكل دم فساد.
"قوله: ومثلها" أي: في الحيض لا الطهر فإن معتادة اليوم والليلة حيضا قد يكون طهرها تسعا وعشرين, أو أقل, أو أكثر واعلم أن من عادتها يوم وليلة لو رأت في شهر يوما دما وليلة نقاء وهكذا حتى جاوز الخمسة عشر لم يكن لها حيض وإلا لزم كون حيضها أقل من أقل الحيض أو أكثر من مردها, أو كون النقاء الذي لم يحتوش بدمي الحيض حيضا وكل ذلك ممتنع.
"قوله: في غير ذلك" الأولى أزيد من ذلك أي: اليوم والليلة.
"قوله: وإن لم يقع في شيء منها..إلخ" الأوضح قول غيره ويثبت انتقال العادة بمرة وأما طهرها إلى الحيضة الأخرى فإن انطبق الدم في المستقبل على أول الدور فظاهر أن ابتداء الحيض منه وإن اختلفت جعل أول دورها أقرب نوب الدم إلى الدور تقدمت, أو تأخرت فإن استويا تقدما, أو تأخرا فأول الدور النوبة المتأخرة "فرأتها, ثم رأت ستا آخره" المراد فرأتها, ثم ستا نقاء وستا دما آخره ونقاء أول الشهر الثاني.
"قوله: فلو كان حيضها" أي: من عادتها الست الأول من الشهر.
"قوله:, ثم يوما دما, ثم يوما دما" صوابه ثم يوما دما, ثم يوما نقاء وكلامه بعده صريح في ذلك.

 

ج / 1 ص -172-        تنبيه" اعلم أن ما ذكره المصنف في ذات التقطع بالغ في اختصاره بذكر صور منه مبنية على أصول مبسوطة في المجموع وغيره فلا يطمع في إيضاحه إلا بمراجعة أصوله ليتبين بها ما فيه ولولا خشية الإطالة لبسطت ذلك على أني بسطته في شرح العباب.
"قوله: فهي المتحيرة" قد أجحف المصنف في اختصار مسائلها أيضا مع قول المجموع أن مسائلها هي عويص باب الحيض بل هي معظمه وهي كثيرة الصور والفروع والقواعد والتمهيدات والمسائل المشكلات. وقد غلط الأصحاب بعضهم بعضا في كثير منها واهتموا بها حتى صنف الدارمي فيها مجلدة ضخمة ليس فيها غير مسألة المتحيرة وتصويرها وتحقيق أصولها واستدراكات كثيرة استدركها هو على الأصحاب. وقد كنت اختصرت مقاصد تلك المجلدة في نحو خمس كراريس وينبغي للناظر فيها أن يعتني بحفظ ضوابطها وأصولها فيسهل عليه بعده جميع ما يراه من صورها ا هـ ملخصا وبه يعلم أنه كان الأولى للمصنف بعد أن أفرد هذا الباب بالكتابة أن يعتني بها ويبسط فيها ولو أدنى بسط لما علمت أنها معظمه وأشكله ومن ثم سميت أيضا محيرة بكسر الياء؛ لأنها حيرت الفقيه في أمرها.
"قوله: قولان" هذه أصح الطرق وأشهرها وقطع بكل منهما جمع فالطرق ثلاثة.
"قوله: أحدهما..إلخ" زعم صاحب البيان أن أكثر الأصحاب عليه وليس كما قال كما في المجموع وفيه بعد ذلك هو ضعيف باتفاق الأصحاب فلا تفريع عليه ولا عمل.
"قوله: فمن أول الشهر الهلالي" أي لأن المواقيت الشرعية هي الأهلة وعلل بغير ذلك مما هو مزيف مردود على أن الإمام بعد أن علله بذلك. قال وهذا القول مزيف لا أصل له قال الرافعي متى أطلقنا الشهر في المستحاضات أردنا به ثلاثين يوما سواء كان ابتداؤه من أول الهلال أم لا ولا يعني به الشهر الهلالي إلا في هذا الموضع على هذا القول.
"قوله: الوطء ونحوه" أي: وإن وصلت لسن اليأس خلافا لأبي شكيل؛ لأنه لا ينفي احتمال الحيض الذي الأصل بقاؤه.
"قوله: والقراءة في غير الصلاة" أي: وإن خافت النسيان؛ لأنه يندفع بإجرائها على قلبها وبالنظر في المصحف من غير نطق وبه اندفع قول جمع متقدمين لها القراءة خوف النسيان.
"قوله: لجماعة الصلاة" أي: ولفعلها فيه ولو منفردة أخذا من كلام الشاشي كما بينته في شرح العباب.
"قوله: في الأصح" ممنوع بل الأصح خلافه كما بينته, ثم.
"قوله: أي: قضاء صلاة مبهمة لكل ستة عشر يوما" هذا عجيب مع قولهم إن كانت

 

ج / 1 ص -173-        تصلي أول الوقت دائما لم يلزمها لكل خمسة عشر إلا صلاة يوم وليلة فإن لم تصل أوله كذلك لزمها لكل خمسة عشر صلاة يومين وليلتين ووجهوا ذلك بما هو مشهور.
"قوله: أول دمها" أي: أول حيضها.
"قوله: ومن عرفت قدرها وجهلت وقتها بالكلية". ينافيه قوله: عقبه مكثت من أول الدم قدر العادة لأنها إذا عرفت أول الدم أي: الحيض لم تجهل الوقت بالكلية بل تكون حافظة للقدر والوقت فلا تكون من أقسام المتحيرة والموافق لقوله وجهلت وقتها بالكلية أنه أراد بأول الدم معرفتها بأول طروه من غير أن تعرف أنه حيض, أو لا لكن يلزم عليه فساد الحكم الذي رتبه على ذلك كما يأتي من قوله لم تجهل الوقت بالكلية والذي في المجموع وغيره هنا إذا ذكرت القدر دون الوقت فما تيقنته من حيض فله حكمه, أو طهر فله حكم الاستحاضة. وما شكت فيه تكون فيه كالمتحيرة فتجعل في العبادات كطاهر وفي نحو الاستمتاع كحائض وإنما تخرج عن التحير المطلق بحفظ قدر الدور وأوله فإن قالت كان حيضي أكثره وأضللته في دوري ولم تعرف غير هذا أو كان حيضي أكثره, وأول دوري يوم كذا ولم تعرف قدر دورها فهي فيها متحيرة ونازع القونوي في الثانية بامتناع احتمال الانقطاع فيها قبل مضي قدر الحيض من ابتداء ما عينته, أو قالت كان حيضي خمسة من كل ثلاثين ولم تعرف ابتداء ولا انتهاء ولا في أي وقت من الشهر فمتحيرة كذلك إلا في الصيام على تفصيل فيه. فإن ذكرت قدر الدور وأوله فقد يحصل يقين حيض ويقين طهر وشك يحتمل الانقطاع وشك لا يحتمله وقد لا يحصل لها يقينهما وقد يحصل يقين طهر لا حيض ويستحيل عكسه وبسط ذلك في المطولات إذا تقرر ذلك فقول المؤلف فإن لم تدر..إلخ فيه نظر وصريح كلامهم أنها في كل ذلك كالمتحيرة لما تقرر أنها لا تخرج عن التحير المطلق إلا إذا عرفت قدر الدور وأوله. وأما معرفة مطلق أول الدم من غير معرفة أنه حيض وقدر العادة يفيدها شيئا فإن قلت هل يمكن أن يفيدها على ما مر عن. القونوي قلت لا؛ لأن كلام القونوي فيما إذا عرفت أول دورها وقدر حيضها وجهلت قدر الدور وما ذكره المؤلف ليس فيه بقسميه إلا معرفة قدر العادة وهذا لا يفيدها خروجا عن التحير المطلق في زمن من الأزمنة؛ لأن كل زمن يمر عليها محتمل للحيض والطهر والانقطاع ولا نظر لحفظها قدر العادة فإن الفرض أنها تجهل وقتها فتأمل ذلك لتعلم به ما في كلام المصنف.
"قوله: وتزيد بتحريم الصلاة" هذا سهو؛ لأن تحريمها داخل فيما يحرم على المحدث والجنب "قوله: وقراءة القرآن" هو سهو أيضا. ؛ لأنه داخل فيما يحرم على الجنب.
"قوله: وعبور المسجد..إلخ" لا يختص بها بل كل ذي نجاسة يخشى منها تلويثه كذلك

 

ج / 1 ص -174-        "قوله: نظر عورتها" أي: إلا بشهوة كما اقتضاه تعبيره كالنووي في الروضة وغيرها بالاستمتاع بخلاف التعبير بالمباشرة الواقع في عبارة جماعة كالتحقيق وغيره فإنه يخرج النظر مطلقا فيحل ويدخل اللمس مطلقا فيحرم وعلى العبارة الأولى لا يحرم اللمس كالنظر إلا بشهوة وهو الأوجه؛ لأن العلة أن ذلك ربما يؤدي إلى الوطء المحرم إجماعا وإنما يحصل ذلك عند الشهوة. وفي ذلك مزيد بسطته في شرح الإرشاد وغيره.
"قوله: وفيه نظر..إلخ" عبارتي في شرح الإرشاد وبحث الإسنوي أن تمتعها بما بين سرته وركبته كعكسه واعترضه كثيرون بأنه ليس فيه دم حتى يلحق بها فمسها لذكره غايته أنه استمتاع بكفها وهو جائز غير ذلك مما هو مفرع عليه وفي الكل نظر إذ الدم ليس له مدخل في علة حرمة تمتعه بما بين سرتها وركبتها وإنما علته ما مر نعم نظر فيه بأنه خلاف قضية كلامهم؛ لأنهم أباحوا له التمتع بذكره في كفها مثلا ويلزم مثل ذلك بتمتعها بما بين سرته وركبته. وحينئذ فالفرق أن تمتعه هو بما بين سرتها وركبتها أقوى في الدعاية إلى الوطء من عكسه فاندفع بذلك ما في الإسعاد تبعا لغيره من الميل إلى ما قاله الإسنوي وأيضا فإنه يلزمهم الحكم بحل تمتعه بذكره في كفها وحرمة تمتعها بكفها في ذكره مع أنهما سببان في الدعاية للوطء فالفرق بينهما مع ذلك تحكم ا هـ. وفي شرح العباب زيادة في هذه والتي قبلها فلا بأس بسوق عبارته لما اشتملت عليه من الفوائد وهي "و" يحرم "الاستمتاع بما بين السرة والركبة" إن كان وقع "بلا حائل" بينه وبين البشرة. لقوله تعالى:
{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] أي الحيض ويدل له اتفاقهم أنه المراد أول الآية, أو زمنه, أو محله وهو الفرج ولخبر أبي داود بإسناد جيد أنه صلى الله عليه وسلم سئل عما يحل للرجل من امرأته وهي حائض فقال ما فوق الإزار وخص بمفهومه عموم خبر مسلم اصنعوا كل شيء إلا النكاح ويحتمل جعل هذا مخصصا لمفهوم ذلك فلا يحرم إلا الوطء واختاره الماوردي والروياني والنووي في عدة من كتبه ونقل عن القديم لكن استحسن في المجموع وجها ثالثا وهو أنه إن كان وثق بترك الوطء لورع, أو قلة شهوة جاز. وإلا فلا. ووجه الأول بأن فيه رعاية الأحوط لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه وأيضا فدعوى تخصيص الثاني لمفهوم الأول ممنوعة لأن منطوق الأول حل ما فوق الإزار ومفهومه حرمة ما تحته الشامل للنكاح ومنطوق الثاني حل ما عدا النكاح ومفهومه حرمة النكاح فلا يستقيم تخصيص مفهوم الأول بمفهوم الثاني؛ لأنه من بعض أفراده وذكر بعض أفراد العام لا يخصص بخلاف منطوق الثاني بمفهوم الأول إذ هو وليس من أفراده إذ حكمه الحرمة وحكم الثاني الحل فحينئذ منطوقه يخصص بأمرين. أحدهما متصل وهو الاستثناء والثاني منفصل وهو مفهوم الأول فظهر بذلك رجحان دليل المذهب وتعبيره بالاستمتاع الشامل للمس والنظر بشهوة لا بغيرها فيهما هو ما في الشرحين والروضة والكفاية وغيرها لكنه عبر في التحقيق والمجموع بالمباشرة ومقتضاها تحريم

 

ج / 1 ص -175-        اللمس بلا شهوة دون النظر بشهوة فبينهما عموم وخصوص وجهي قال شيخنا رحمه الله والمتجه أن التحريم منوط بالمباشرة ولو بلا شهوة بخلاف النظر ولو بشهوة وليس هو أعظم من تقبيلها في وجهها بشهوة ا هـ وفيه نظر والأوجه ما ذكرته من أن المدار على التمتع إذ علة التحريم أن ما بين السرة والركبة أقوى في الإفضاء إلى الوطء المحرم من غيره ولا يحصل الإفضاء إلى ذلك إلا مع الشهوة فقوله: وليس هو أعظم من تقبيلها في وجهها بشهوة ممنوع بل هو أعظم منه لما مر من خبر من حام حول الحمى وبحث الإسنوي أن تمتعها بما بين سرته وركبته كعكسه واعترض عليه كثيرون منهم أبو زرعة بل قال ما قاله غلط عجيب بأنه ليس فيه دم حتى يلحق بها فمسها لذكره غايته أنه استمتاع بكفها وهو جائز قطعا وبأنها إذا لمست ذكره. فقد استمتع بما فوق سرتها وهو جائز إذ لا فرق بين أن يستمتع باللمس بيده, أو بسائر بدنه, أو بلمسها له وبأنه كان الصواب في نظم القياس أن يقول كل ما منعناه منه نمنعها أن تلمسه به فيجوز له أن يلمس بجميع بدنه سائر بدنها إلا ما بين سرتها وركبتها ويحرم عليه تمكينها من لمسه بما مسها قال شيخنا وفيما اعترض به نظر لا يخفى وكان وجهه أن وجود الدم بالفعل ليس له مدخل في العلية فبطل ما تفرع عليه ومع ذلك الذي يتجه خلاف ما بحثه الإسنوي لا لما ذكروه بل؛ لأن العلة كما دل عليه كلامهم. إنما هي وجود التمتع في مظنة الدم, أو حماها وذلك موجود عند تمتعه بما بين سرتها وركبتها بخلاف تمتعها هي بما بين سرته وركبته فإنه ليس فيه لمس مظنة دم ولا حماها فكان الأوجه جوازه وجواز تمكينه لها منه؛ لأنه لا يدعو للوقاع كدعاية لمسه هو لما بين سرتها وركبتها ضرورة تمييز الحي عن غيره ودعوى أن العلة هي خشية الوقوع في الجماع المحرم ممنوعة؛ لأنه يلزم عليها تحريم التمتع بما فوق السرة إذا خشي منه ذلك وليس كذلك ثم رأيت الشافعي نص على ما ذكرته من أن علة تحريم الوطء في الفرج. ما به من الأذى وتحريم غيره خوف أن يصيبه شيء منه واستشكله الإمام بأن تضمخه بالأذى بعد انفصاله غير محرم له ووطء حائض لا أذى بفرجها بوجه محرم ويجاب عنه بما أشرت إليه من أنه ليس المراد الأذى بالفعل بل إنه مظنة له وما نيط بالمظنة لا يضر فيه التخلف في بعض الصور ومعنى قول الإمام غير محرم أي: تحريم الحيض المقتضي لكونه كبيرة فاندفع اعتراض ابن الرفعة وغيره عليه بأن التضمخ بالنجاسة حرام ولا فرق بين أن تقصد هي اللمس المحرم, أو يقصده هو إلا أنه إذا منعها لمس شيء من بدنه حرم عليها مطلقا. وإذا منعته لم يحرم عليه إلا لموجب قال الغزالي وجماع الحيض يورث علة مؤلمة للمجامع وجذاما في الولد انتهت عبارة الشرح المذكور.
"وقوله: فيه" أي: الوطء فحيث يحكم بطهرها أي: بأن كان تحيرها نسبيا لا مطلقا.
"قوله: على الأصح" عبارة المجموع يجوز عندنا وطء المستحاضة في الزمن المحكوم

 

ج / 1 ص -176-        بأنه طهر وإن كان الدم جاريا وهذا لا خلاف فيه عندنا ونقله جمع عن أكثر العلماء انتهت فقول المصنف على الأصح لعله أراد حكاية الخلاف الحالي.
"قوله: لكنها..إلخ" لا يختص هذا بالمتحيرة ولا بالمعتادة. بل كل من رأت دما يمكن كونه حيضا يلزمها أن تمسك إلى أن يجاوز خمسة عشر.
"قوله: صلاته" أي: الزائد على مردها.
"قوله: ورجحه النووي وغيره" هو المعتمد فقد صححه في التحقيق والروضة ونقله فيها عن ظاهر نص الأم ونقله في المجموع عن العراقيين والخراسانيي ن وأيده بنص الأم ولم ينقل الثاني إلا عن تصحيح الرافعي وقطع صاحب الحاوي فقط.
"قوله: ثم تحشوه" الوجه فتحشوه؛ لأنه يجب المبادرة بين الغسل والحشو وبينهما وبين العصب وبين ذلك كله والوضوء وبين أفعاله وبين الصلاة.
"قوله: إن كان لم يؤذها الدم". أي: إيذاء شديدا لا يحتمل عادة ولم تكن مفطرة بدليل ما بعده.
"قوله كفت العصابة" أي: نهارا لا مطلقا.
"قوله: ويبادران" أي: المستحاضة والسلس وكان ينبغي له أن يصرح بمساواتهما في الحشو والعصب وغيرهما؛ لأن حكمهما واحد في الكل.
"قوله: لم يضر" أي: وإن خرج الوقت.
"قوله: وينويان..إلخ" حكمهما حكم المتيمم في جميع ما ذكروه فيه ويلزمها أيضا تجديد الاحتياط لكل فرض وإن لم تزل العصابة عن محلها ولا ظهر الدم بجوانبها. ويلزمها ذلك التجديد لو أحدثت حدثا خاصا قبل الصلاة ولو زالت العصابة, أو أحكامها فخرج دم أو زاد, أو خرج دم لتقصيره في الحشو بطل الوضوء وكذا لو شفيت إن كان خرج الدم أثناء الوضوء, أو بعده وإلا لم يبطل بلا خلاف.
"قوله: لا بعده على الأصح" هو ما صححه النووي في أكثر كتبه وفرق بينها وبين المتيمم بأن حدثها متجدد ونجاستها متزايدة لكن صوب في الروضة عدم الفرق.
فصل في النفاس.
"قوله: وهذا لفظ أصل الروضة" ليس لفظه ولا قريبا منه بل فيه تحريف؛ لأنه صرح بأن قوله دون أقل الطهر من كلام الإمام في حكاية هذا الوجه الرابع, وليس كذلك وإنما.

 

ج / 1 ص -177-        الإمام أطلق الأيام فقيدها في أصل الروضة بأن محلها حيث كانت دون أقل الطهر.
"قوله: على سقم في نسخه" أي:؛ لأنه نقل فيه في حكاية الرابع أن أوله من الولادة لا من خروج الدم والذي في أصل الروضة عنه عكس ذلك لكن كلاهما حكاه الإمام فلا يبعد أن نسخ العزيز في بعضها حكاية الأول وهو الذي رآه حال تأليفه للمجموع. وفي بعضها حكاية الآخر وهو الذي رآه حال تأليف الروضة فلا سقم حينئذ؛ لأن كلا من الوجهين حكاه الإمام كما صرح به في المجموع بعد ذلك وصحح أنه من الدم لكنه أحال فيه, ثم على ما فيه هنا مع ما بينهما من التخالف.
"قوله: ثم رأته" أي: قبل خمسة عشر يوما من الولادة كما صرح به في المجموع فحذف المصنف لذلك من عبارته غير حسن.
"قوله: والظاهر..إلخ" سينقله عن البلقيني, ثم تعقبه بقوله وليس ببعيد فإن كلام البلقيني مردود والتناقض ظاهر وعبارة شرحي للعباب مع المتن "أول وقته بعد خروج الولد". وقبل أقل الطهر "ولو" كان الولد "علقة أو مضغة قال القوابل هي مبتدأ آدمي, أو" عطف على ما بعد لو "تأخر خروج الدم عن الوضع, ثم رأته قبل خمسة عشر يوما فأوله حينئذ من الخروج لا من الولادة" كما صححه في التحقيق وموضع من المجموع ويدل له تعريفه السابق بأنه الدم الخارج بعد الولادة وقيل منها وصححه في الروضة كأصلها وموضع آخر من المجموع وقضية الأول أن زمن النقاء لا يحسب من الستين لكن صرح البلقيني بخلافه فقال ابتداء الستين من الولادة, وزمن النقاء لا نفاس فيه وإن كان محسوبا من الستين. ولم أر من حقق هذا ا هـ. ورد بأن حسبان النقاء من الستين من غير جعله نفاسا فيه تدافع بخلاف جعل ابتدائها من الدم.
"قوله: كما قلنا" أيد به مقالة البلقيني ولا تأييد فيه لها كما هو ظاهر.
"قوله: قل, أو كثر" الأنسب أو أكثر.
"قوله: نعم..إلخ" أي: بأن لم تر بعد ولادتها دما إلى تمام خمسة عشر, ثم رأته قويا, ثم ضعيفا فلا نفاس وما رأته بعد الخمسة عشر إن كان وجدت فيه شروط تمييز الحيض عمل به وإلا فهي فاقدة شرط تمييز في الحيض فتحيض يوما وليلة وتطهر تسعة وعشرين.
"قوله: فقياس كون الضعيف طهرا..إلخ". هذا القياس ممنوع والوجه ما ذكره بعده بقوله وينبغي..إلخ لكن لا لما ذكره فحسب بل؛ لأن كلامهم هنا صريح فيه فإنهم صرحوا بأن المميزة إذا لم يجاوز دمها القوي الستين ترد إليه عملا بالتمييز وصرحوا مع ذلك بأنه لا حد لأقل الضعيف فحينئذ هم مصرحون بأن الأسود في المثال المذكور هو النفاس لوجود الشروط التي ذكروها هنا فيه ويلزم من كونه نفاسا أن ما قبله وبعد الولادة ينسحب عليه

 

ج / 1 ص -178-        حكمه لاستحالة الحكم بالنفاس بعد خمسة عشر يوما فيحكم عليها بأنها طهر. ولأجل هذه الاستحالة فارق نظيره في الحيض. فيما لو رأت خمسة حمرة ثم خمسة سوادا, ثم حمرة مستمرة من أن الحيض هو الأسود والحمرة الأولى دم فساد إذ لا استحالة في ذلك والقوي إنما يستتبع ما بعده دون ما قبله ويجري هذا الذي ذكرته في نظيره من الأمثلة التي ذكرها المؤلف بعده كما لو رأت عقب الولادة عشرين أشقر ثم أربعين, أو ثلاثين أسود, ثم أحمر فالأسود هو النفاس واستتبع ما قبله فحكم عليه بحكمه نظرا لتلك الاستحالة أيضا وما بعده من الضعيف المجاوز طهر فإن قلت أي فرق هنا بين الضعيف والنقاء إذ لو رأت عقب الولادة نقاء خمسة عشر كان ما بعدها. حيضا لا نفاسا فلم لم يكن كذلك في الضعيف مع حكمهم باستوائهما في غير ذلك؟ قلت الفرق بينهما واضح فإن النقاء فاصل حسي فلذا أوجب للسواد الحكم بأنه حيض من غير نظر لتمييز ولا لعدمه. وأما الضعيف فليس كذلك لكونه من جنس ما بعده وفيه صفة تقتضي تقدمه عليه في الحكم على قول وهي الأولية فبينهما تعارض فقدمنا اللون مثلا؛؛ لأن دلالته أقوى من مجرد السبق وإذا قدم فتارة يمكن إلغاء السابق كما قالوه في الحيض وتارة لا يمكن إلغاؤه لأمر خارج هو الاستحالة التي ذكرناها هنا فوجب اندراجه في القوي والحكم عليه بحكمه للضرورة كما حكمنا على النقاء الحقيقي بذلك لضرورة السحب على الأصح.
"قوله: وهو لا بعد فيه كما هو ظاهر"؛ لأنها فاقدة لشرط التمييز هنا وهو أن لا يجاوز القوي الستين وحينئذ فترد إلى مرد المبتدئة غير المميزة.
"قوله: قبل خمسة عشر" ليس بقيد بل لو رأت تسعة وخمسين ضعيفا, ثم يوما قويا وجاوز كانت غير مميزة كما يصرح به كلامهم. ومنه قول المصنف الآتي وهي من كان دمها بصفة واحدة, أو بصفتين وتأخر حتى جاوز الستين.
"قوله: والمسألة في الصورة الأولى..إلخ" هذا ذكره تأييدا. مع ظهور الفرق بين الصورتين لما علمت أنها في الصورة الأولى لم تفقد شرط التمييز فحكمنا عليها به بخلافها هنا فإنها بمجاوزة القوي المرئي قبل خمسة عشر, أو بعدها فقوية فكان الوجه فيها كما ذكرته من أنها ترد إلى مرد المبتدئة غير المميزة وقوله لإطلاقهم: إن الدم..إلخ ممنوع إذ لم يطلقوا كذلك بل فصلوا كما ذكرناه فإن فرض إطلاق أحد منهم كذلك وجب حمله على التفصيل المعلوم المقرر الذي ذكرناه وبهذا اندفع قوله: أيضا أخذا من كلامهم فقد تقرر أن كلامهم لا يؤخذ منه ما ذكره في المسألة الأخيرة.
"قوله: فلو رأت قويا ثم ضعيفا..إلخ" ما ذكره في ذلك كله ظاهر معلوم من كلامهم هنا وفي الحيض نعم قوله: أولى كما رأيناه ممنوع لما علمت من الفرق بين السابق على

 

ج / 1 ص -179-        القوي والمتأخر عنه وأنه كان ينبغي على قياس ما مر في الحيض أن يكون السابق دم فساد لولا ما عارضه من الاستحالة السابقة.
"قوله: ردت بعد المجة إلى تسع وعشرين طهرا" وجهه أنه لا بد من طهر بين النفاس والحيض لا جائز أن يعتبر طهرها؛ لأنه دون خمسة عشر بعارض الولادة وقد زال ذلك العارض ولا أن يعتبر أقل الطهر؛ لأنه لم يسبق لها. فتعين إدارة الأمر على كونها مبتدئة غير مميزة في النفاس فردت إلى طهرها وهو تسعة وعشرون.
"قوله: النقاء المذكور" أي: دون خمسة عشر يوما "قوله: لكن الجاري على القاعدة هو الأول" هو كما قال ويؤيده أن من انقطع دمها لعارض مرض, أو دواء سنين, ثم استحيضت أو حاضت كان ذلك الطهر المتطاول طهرا ترد إليه في الأول كما صرحوا به هنا وقرأ في الثاني كما صرحوا به في باب العدة وفقنا الله لطاعته وجعلنا من أهل النظر إليه في دار كرامته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله والحمد لله أولا وآخرا ظاهرا وباطنا وصل اللهم وسلم أفضل صلاة وأكمل سلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وتابعيهم بإحسان عدد معلوماتك ومداد كلماتك كلما ذكرك. وذكره الذاكرون وكلما غفل عن ذكرك وذكره الغافلون وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ما شاء الله لا قوة إلا بالله سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
"وسئل" نفع الله به عمن ابتلي بتقطير البول بعد أن يتوضأ وليس بسلس في الحقيقة لضعف في المثانة هل يعفى عن هذا التقطير أو لا وإذا قلتم لا يعفى عنه في مذهب الشافعي فهل قال أحد بالعفو عنه يجوز تقليده, أو لا؟ وهل تقطيره في بعض الأوقات مع القلة جدا حسبما يرطب المجرى ناقض, أو لا فيعفى عنه؟ "فأجاب" بقوله ليس المراد بالسلس الذي تجري عليه الأحكام التي ذكرها الفقهاء من قطر بوله مثلا لضعف المثانة بل من لم يمض عليه زمن بلا خروج شيء من حين دخول الوقت إلى. خروجه يسع أقل مجزئ من واجب الطهر والصلاة فمن لم يكن له زمن كذلك فهو السلس المعروف الذي ذكره الفقهاء وفي التنبيه أنه يعفى عن يسير حدث السلس الذي يصيب غير محل الاستنجاء من بدن, أو ثوب واعتمده البلقيني والزركشي سواء أخرج قبل الطهارة أم بعدها قالا بل في الكفاية أنه يعفى عن قليل السلس وكثيره وفارق وجوب تجديد العصابة بأنها لا مالية لها لاتخاذها غالبا من الخرق البالية فلا مشقة في تجديدها بخلاف غسل الثوب كل ساعة فإنه يقطعه ويبليه وهو بحث لائق بالرخصة. وأما من يمضي له زمن كذلك فيلزمه أن يتحرى ذلك الوقت ليوقع الطهارة والصلاة فيه ولا يعفى عن شيء يصيبه نعم لمالك قول مشهور.

 

ج / 1 ص -180-        يجوز الإفتاء والعمل به أن إزالة النجاسة سنة لا واجبة فيجوز تقليد هذا القول لكن بشرط أن يلتزم أحكام الطهارة والصلاة على مذهب مالك رضي الله عنه وإلا جاء تلفيق التقليد وهو باطل بالاتفاق بل عبر بعضهم بالإجماع.
"وسئل" رضي الله عنه عن الدم الذي عند الطلق وعند خروج الولد تارة يتصل بدم قبله يبلغ أقل الحيض وتارة ينقطع عند خروج الولد, أو بتمامه وتارة يستمر, ففي أي حال من هذه الأحوال لا يكون حيضا وفي أي حال يكون دم فساد؟ حرروا لنا ذلك فقد حصل فيه تردد ومنازعة نشأت من عبارة شرح البهجة وعبارة شرح الروض ونحوهما. "فأجاب" بقوله ما خرج غير متصل بدم محكوم بأنه حيض عند أول الطلق إلى تمام خروج الولد دم فساد وما اتصل بحيض يستمر حكم الحيض عليه إلى تمام خروج الولد فحينئذ يكون نفاسا وعبارة شرحي للعباب والدم والخارج مع الولد, أو حال الطلق دم فساد على الأصح في المجموع وغيره فليس بحيض؛ لأنه من آثار الولادة ولأن انزعاج البدن بالطلق يدل على خروجه لهذه العلة لا للجبلة ولا نفاس لتقدمه على خروج الولد نعم المتصل من ذلك بحيضها المتقدم حيض انتهت وما فيها من التفصيل يقضي على المطلق وتعين حمل إطلاقه على أحد ذينك الشقين فإن قلت ظاهر كلامهم بل صريحه أنه لا يكون نفاسا وإن اتصل به وحينئذ فما الفرق بين كون اتصاله بدم الحيض يصيره حيضا وبدم النفاس لا يصيره نفاسا. قلت فرق واضح بين جعل المتأخر تابعا لما قبله؛ لأن تأخره عنه مقتض لتبعيته له دون المتقدم عليه إذ تبعيته يأباها تقدمه فجعل غير تابع للنفاس وتابعا للحيض. وأيضا ففاصل النفاس عما قبله محسوس يدركه كل أحد وهو تمام خروج الولد فلم يمكن التبعية معه بخلاف ذاك فإن ابتداء الطلق خفي لا يدركه إلا المرأة فلم يكن فاصلا حقيقيا بين ما خرج عنده وما اتصل به من الحيض قبله فحكمنا على الكل بأنه حيض فإن قلت ما الفرق بين هذا والدم الخارج بعد خروج عضو من ولد مجتن دون باقيه فإنه حيض بشرطه؟ قلت الفرق أنه ثم وجد صارف عن كونه دم جبلة وهو وجود الطلق والولادة فكان دم فساد ولم يوجد ذلك هنا إذ لا طلق هنا ولا ولادة وما يقارن خروج العضو من الوجع من شأنه أنه خفيف. فلم يصلح أن يناط به خروج الجبلة عن قضيتها.
"وسئل" نفع الله به عن امرأة عادتها تحيض الخمسة الأخيرة من الشهر فرأت الدم في شهر من الشهور في العشرين الأولى منه ثم انقطع ولم يعد هل تحيض وما تحيض تحيض أو لا؟ "فأجاب" بقوله إذا رأته بعد طهر صحيح حكم عليه وإن تقدم على العادة بأنه حيض بشرطه سواء أبلغ خمسا أم لا وهذا واضح ولعل في السؤال خللا ويدل عليه قوله: في العشرين الأولى فإن هذا بظاهره غير منتظم والله أعلم بالصواب.