الفتاوى الكبرى الفقهية على مذهب الإمام الشافعي

ج / 1 ص -181-        "كتاب الصلاة".
"باب المواقيت".

"وسئل" رضي الله عنه عما لو أخر المريض الظهر إلى وقت العصر ثم زال مرضه قبل أداء الظهر فهل يكون ظهره أداء أو قضاء "فأجاب": رضي الله عنه بأن الجمع بالمرض لا يجوز على المنقول المعتمد في مذهبنا, واختار جمع جوازه وعليه فإذا زال بعد خروج الوقت وقبل فعل التي خرج وقتها صارت قضاء لكنه لا إثم فيه, نظير: ما لو أخر المسافر الظهر مثلا على نية التأخير, حتى خرج وقتها, ثم أراد دخول منزله قبل فعلها في السفر فإنه يجوز له ذلك على الأوجه, كما بينته في حاشية مناسك النووي الكبرى؛ رادا على من زعم خلافه, ووجه الجواز أن فعلها في السفر إنما يحصل وصف الأداء فقط. بخلاف فعلها في الحضر, فإنه يزيل ذلك الوصف ويجعلها قضاء, وهذا لا يقتضي الحرمة؛ لأنا وإن قلنا: إنها قضاء لا إثم فيه؛ إذ القضاء الذي فيه الإثم أن يتعمد خروجها عن الوقت لا لعذر, وهذا إنما تعمد خروجها عنه لعذر السفر فهو نظير ما لو مد فيها بنحو القراءة حتى خرج وقتها, ولم يوقع منها ركعة فيه, فإنها تكون مقضية ولا إثم عليه على المعتمد. والسفر وإن جعل الوقتين بمنزلة الوقت الواحد لكنه بالنسبة لتسمية كل منهما مؤداة وإن وقعت في وقت الأخرى, لا بالنسبة؛ لأنه يجب إيقاع كل منهما في السفر؛ لأن ذلك لا وجه له. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عمن يؤخر العصر حتى تكاد الشمس تغرب, هل يأثم بتأخير الصلاة من غير عذر أم هو في الوقت ما لم تغرب؟ وهل إذا تكرر منه هذا طول عمره يكون عدلا أم لا؟ "فأجاب" - نفع الله به -: بأنه يجوز تأخير صلاة العصر عن أول وقتها بشرط أن يوقعها جميعها في الوقت قبل الغروب؛ فإن كان المسئول عنه يفعل ذلك لم يأثم بالتأخير؛ وإن لم يكن له عذر ويكون عدلا وإن تكرر منه ذلك, لكن ينبغي له تركه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"تلك صلاة المنافقين, يجلس يرقب الشمس, حتى إذا كانت بين قرني الشيطان, قام فينقرها أربعا, لا يذكر الله فيها إلا قليلا" رواه مسلم. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

 

ج / 1 ص -182-        "وسئل" - نفع الله بعلومه ومتع بحياته -: هل يوجد ضابط صحيح معتمد في معرفة أول وقتي الظهر والعصر فتفضلوا به, وكذلك في معرفة أول كل شهر من السنة الرومية؛ فقد كثرت الضوابط في ذلك, وكثر اختلافها "فأجاب": - أمدني الله من مدده وحشرني في زمرته -: الضابط الصحيح في ذلك متوقف على تعلم علم الميقات, فلا فائدة في ذكره لمن لا يعرفه, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه - وفسح في مدته - عن قولهم: تكره الصلاة في قارعة الطريق فإذا كان بموضع يمر فيه السيل, وهو طريق أيضا؛ فأقيمت فيه جماعة للصلاة فهل هي مكروهة أم لا؟ فإن قلتم: هي مكروهة. فما تعليل الكراهة؛ وقول إمام الحرمين: الكراهة تجامع الثواب؟ وهل شيخ الإسلام يجري ذلك في جميع ما يكره أم في بعض الأشياء دون بعض أوضحوا لنا ذلك "فأجاب" - متعني الله بحياته ونفعني بمعلوماته في الدنيا والآخرة -: بأن محل الكراهة اشتغال القلب بالمارة فينتفي الخشوع أو كماله؛ ومنه يعلم أن المدار في الكراهة على ما يشوش الخشوع؛ فلو فرض أن الطريق في البنيان لا مارة فيها وفي الصحراء فيها مارة؛ كرهت الصلاة في الطريق التي بالصحراء دون التي في البنيان؛ للعلة المذكورة. وإنما أطلقوا الكراهة في الثانية دون الأولى؛ جريا على الغالب؛ وهو أن طريق البنيان لا يخلو عن مار بخلاف طريق الصحراء؛ وبذلك يعلم أيضا أنه لا فرق بين كون الطريق التي يغلب فيها المرور في المسجد, أو خارجه بل كل محل يغلب فيه المرور - وإن لم يكن طريقا - تكره الصلاة فيه حال مرور الناس؛ كمن يصلي في المطاف وقت طواف الناس فيكره له ذلك؛ لاشتغاله بالمارة؛ كالمصلي في الطريق في البنيان, وتكره الصلاة أيضا في محل مرور السيل إذا غلب مروره في ذلك الوقت؛ لاشتغال القلب به إذا مر؛ للخوف منه, أو من غيره, فينتفي الخشوع أيضا. ثم الكراهة في الصلاة تارة تكون ذاتية وهذه تنافي انعقاد الصلاة فضلا عن ثوابها؛ كالصلاة في الأوقات المكروهة فإنها لا تنعقد حتى على القول بأنها مكروهة كراهة تنزيه. ومعنى كونها ذاتية؛ أن الكراهة بسبب كونها صلاة, وتارة تكون غير ذاتية؛ بأن يكون سببها أمرا خارجا عن كونها صلاة, فهذه لا تنافي الثواب من أصله وإنما تنافي كماله, فمنها: الالتفات في الصلاة لغير حاجة, ورفع البصر فيها إلى السماء, والبصاق في غير المسجد من غير أن يظهر معه حرفان قبالته, أو عن يمينه, ونحو ذلك من كل مكروه في الصلاة لأمر خارج عنها, ومن ذلك أيضا؛ قول الشافعي رضي الله عنه في الأم - في أقل الركوع والسجود أنه مكروه؛ لأن معناه؛ أن الاقتصار عليه مكروه؛ لا أن ذاته مكروهة وكذا قولهم: إن صلاة الوتر ركعة مكروهة, معناه أن الاقتصار عليها مكروه فيثاب عليها وعلى أقل الركوع والسجود؛ لأن الكراهة لم تحصل إلا من حيث الاقتصار على ذلك وتركه للأكمل, لا من حيث الصلاة. نعم, الصلاة التي لا خشوع فيها مكروهة, وظاهر الحديث أنه لا يثاب عليها؛ فيجوز أن يختص ذلك بفقد الخشوع؛ لتأكد شأنه. ومن ثم قال كثيرون: إنه في جزء من الصلاة شرط فمتى لم يحصل في

 

ج / 1 ص -183-        جزء منها كانت باطلة عندهم, ويجوز أن يقال: الفائت بفقد الخشوع إنما هو ثواب الحضور في الصلاة وتدبر أذكارها وأفعالها ما عدا ذلك, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه في رجل صلى في مقابر الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - فهل تصح صلاته بلا كراهة؛ لأنهم أحياء فإن كانوا أحياء فهل حياتهم كحياتنا, فيأكلون ويشربون ويلبسون وهل هم مكلفون بالعبادة كالصلاة والصيام والحج, أو بعبادة أخرى. "فأجاب" - نفع الله بعلومه وبركته -: تصح الصلاة بلا كراهة, وليس المراد بحياة الأنبياء - عليهم أفضل الصلاة والسلام - حياة كحياتنا من كل وجه حتى يقتضي الاحتياج إلى نحو أكل وشرب والتكليف بنحو الصلاة والصوم؛ وإنما المراد بها أنها كحياة الملائكة؛ في عدم احتياجها إلى ذلك؛, أو في أن العبادات التي تقع منهم إنما هي على وجه التلذذ بخطاب الحق وشهوده في تعاطي صور ما عظم شأنه؛ لأن الشهود في ذلك أجل وأكمل. فمن ثم خصوا بجريان أفضل العبادات على أجسامهم وأرواحهم الباقية الأبدية تخصيصا لهم باتساع مواطن القرب, وإتحافا لهم بإسباغ سوابق الرضا والمحبة, وإعلاما لغيرهم بأن موائد الإنعام ومزيد الإكرام لم تزل منزلة عليهم من غير انقطاع لها عنهم صلى الله عليهم وسلم وشرف وكرم والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل": رضي الله عنه كثير الوسوسة هل له أن يأخذ بغالب ظنه في أفعاله وأقواله في الصلاة والطهارة لتعسر اليقين منه؟ "فأجاب" - فسح الله في مدته -: بأنه لا بد في إعداد الصلاة من اليقين, وأما نحو الفاتحة فيها فلا يضر الشك فيها بعد فراغها, وكذا سائر أركانها, كما أنه لا أثر للشك في غير النية وتكبيرة الإحرام بعد السلام, وأما الشروط فلا يشترط تيقنها بل يكفي ظنها؛ ومن ثم جاز لمن تيقن الطهارة وشك في الحدث أن يدخل في الصلاة ولا نظر لشكه عملا بأصل استصحاب الطهارة. وأما الوضوء فإن شك في بعض أركانه بعد فراغه لم يؤثر أو قبل فراغه أثر, ويكتفي في غسل نحو الوجه بظن عموم الماء له, ولا يشترط تيقن ذلك, وقياس ما مر في الفاتحة أنه إن كان شك في استيعابه قبل فراغ غسله أثر, أو بعد فراغ غسله لم يؤثر؛ وإن لم يكن فرغ من وضوئه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئلت" ما الحكمة في جعل الصلوات المكتوبات مثنى وثلاث ورباع وجعل المثنى في وقتها وغيرها في وقتها؟.
"فأجبت": يمكن أن يقال من الحكم في جعل الصبح ركعتين في وقتها المعروف؛ أنه لما كان عقب الاستيقاظ من النوم - وذلك وقت يغلب فيه التكاسل, أو عدم النشاط - ناسب أن يخفف في وظيفته بجعلها أقل الفروض عددا. وأيضا فالإنسان في هذا الوقت لا يسبق من أول نهاره - وهو الفجر الثاني إلى الدخول في الصلاة - كبير فرطات وزلات حتى يحتاج إلى كبير عمل يتداركها به. وإنما لم يجعل واحدة؛ لأن التعدد مقصود كما يأتي, والواحد ليس

 

ج / 1 ص -184-        بعدد وإنما هو مبدؤه فضم إليه مثله فصار إلى مرتبة أقل العدد. وأيضا فالتعبد بالركعة الواحدة في غير الوتر غير معتاد ولا مألوف حتى عند ذوي البطالات والتكاسل عن العبادات؛ فلم يجعل الصبح ركعة لذلك بل ركعتين؛ لأن في كل ركعة من جلاء القلب, وطهارة السر ما لا يخفى؛ فناسب طلب تكرار ذلك أول النهار إشعارا بأنه لا بد في هذا الأمر - أعني التطهير - من التكرار ولو بأقل مراتبه وهو الاثنان, فاتضحت حكمة كونها ركعتين فإن قلت ينافي ذلك قول الأئمة أخذا من السنة؛ أن الأكمل في الصبح للمنفرد وإمام المحصورين بشروطه تطويلها على سائر الخمس, وما ذكرته لا يتأتى مع ذلك؛ قلت: كلامنا أولا إنما هو في حكمة الوجوب, وهذا التطويل أمر مندوب, وعلى التنزل فالتطويل صفة تابعة وهي يغتفر فيها ما لا يغتفر في المقصود بالذات في هذا السؤال؛ وهو عدد الركعات على أن له حكمة ظاهرة هي أن القلب لم يتم شغله بشيء لأنه إلى الآن خال من سائر الأشغال؛ لما علمت من قرب العهد بين يقظته من النوم وبين دخوله في الصلاة فهو في هذا الزمن لم يعان من الاشتغال ما يشغل قلبه عما يوجهه إليه, فكانت القابلية فيه هنا إلى التطويل متوفرة, بخلافه فيما بعد ذلك من بقية الصلوات, فإنه عانى الاشتغال وباشرها وارتبك فيها؛ فلم يتم له من الفراغ ما يتم له في الصبح؛ فلذلك لم يطلب منه تطويل غير الصبح مثل ما طلب منه تطويلها. ومن الحكم في جعل الظهر أربعا في وقتها المخصوص؛ أنها بعد مضي نحو نصف النهار المبتدئ أوله بركعتين للحكمة السابقة فضوعفتا بأقل مراتب التضعيف - وهو مرة -؛ ليكون ذلك مكفرا لما وقع من الهفوات والمخالفات من انقضاء الصبح إلى الشروع في الظهر ولم يضاعفا أكثر من ذلك؛ إشارة إلى أن مبنى هذا الدين على السهولة واليسر ما أمكن, فحيث أمكن الاكتفاء فيه بمرتبة لم ينتقل عنها إلى أشق منها, وقد علم الاكتفاء بتضعيف الثنتين مرة حتى يصيرا أربعا؛ لأن هذه كافية فيما قصدت الصلاة له من تكفير الزلات تارة ورفع الدرجات أخرى, وأيضا فالصبح أول ربع النهار الأول, والظهر آخر ربع النهار الثاني تقريبا, فناسب أن يكون الظهر ضعف عدد الصبح؛ لأنها خاتمة ربع النهار فتكرر فيها الربع مرتين. وقد علمت أن الربع الأول ابتدئ بركعتين فليختم الربع الثاني بأربع؛ نظرا إلى اشتمال هذا الختم على ذينك الربعين تقديرا. وأخرت الظهر إلى هذا الوقت؛ لتقع خاتمة هذا النصف الأول من النهار. والخواتيم يحتاط لها؛ لأن بها قوام الأشياء, وعليها مدار حقيقتها, فمن ثم زيد في عددها ضعف ما به الابتداء؛ إشارة لهذا الاعتناء بالخاتمة, ولم يجعل خاتمة ربع النهار الأول واجبا اكتفاء بما وقع ابتداؤه به مع تمام التفرغ والإقبال. فكان تميزه بذلك على ما عداه قائما مقام خاتمة هذا الربع, على أن الشارع جعل له خاتمة لكن مندوبة وهي الضحى؛ فإن وقتها المختار إذا مضى ربع النهار؛ حتى لا يخلو ختم كل ربع من النهار عن صلاة, لكن قد علمت الفرق بين هذا الربع والربع الثاني والربع الثالث, فإن كلا منهما قد ختم بصلاة واجبة إذ الظهر آخر الربع الثاني والعصر آخر الربع الثالث. ومما يوضح هذا؛ أن العصر لما كانت الوسطى وكان

 

ج / 1 ص -185-        فيها من الفضائل ما يفوق الصبح, وكانت مثلها في أن الابتداء بها أول ربع كانت غنية عن أن تحتاج لخاتمة, ألا ترى أن الربع الأول لما ابتدئ بالصبح لم يحتج إلى خاتمة, فكذلك الربع الأخير لما ابتدئ بالعصر لم يحتج إلى خاتمة. ولما تراخت الصبح عن العصر في الفضل ندب لربعها خاتمة وهي الضحى, بخلاف العصر فإنه لم يندب لربعها خاتمة إشعارا بأنها غنية عن الاحتياج إلى جبر غيرها لما ابتدأت به, بل زيد في الإشعار بهذا الاستغناء؛ فحرمت الصلاة التي لا سبب لها بعدها إلى آخر ربعها؛ إشارة إلى أن الكامل قد يمنع الناقص من الاجتماع معه في مرتبته مطلقا, بخلاف غير الكامل فإن الناقص قد يجتمع به وقد يمنع من الاجتماع به؛ وبهذا ظهرت الحكمة في امتداد وقت الكراهة من فعل العصر إلى دخول وقت الصلاة الواجبة التي تليها, وهي المغرب, ولم تمتد في الصبح إلى دخول وقت الصلاة التي تليها - وهي الظهر - بل انقضى وقت الكراهة بارتفاع الشمس كرمح, وشرع له فيما بعد ذلك التطوع بالضحى جبرا لما عساه لم ينجبر بالصبح؛ لأنها ناقصة بالنسبة للعصر بناء على أن الوسطى التي هي أفضل الصلاة إنما هي العصر. وهو الذي صرحت به السنة الصحيحة, فتأمل ذلك, ومن الحكم في جعل العصر أربعا أيضا؛ أنها آخر نحو الربع الثالث كما تقرر, وهي في الحقيقة خاتمة النهار. فهي مشتملة أيضا على ربعيه الباقيين, فناسب أن يكون أربعا كالظهر؛ لما تقرر فيها أنها مشتملة على ربعيه الأولين بالاعتبار السابق, فكذلك العصر لما اشتملت على ربعيه الأخيرين بالاعتبار المذكور وألحقت بالظهر في العدد لاستوائهما في ذلك الاشتمال, وإنما لم يشرع بعد العصر صلاة لما علم من حرمة, أو كراهة الصلاة بعدها حذرا من التشبيه بعباد الشمس في سجودهم لها عند غروبها كطلوعها؛ فاتضح بما قررته أن كل ربع من النهار مقابل بركعتين, وأن العصر آخر النهار, وأنها مشتملة على ربعيه الأخيرين حقيقة, واتضح أيضا كونها الوسطى لانتفاء هذا الاشتمال الحقيقي عن الظهر والصبح. وأيضا فهي لم تأت إلا وقد امتلأ القلب بالأغيار ومعاناة المشاق والأشغال وورطات الأوهام والخواطر فاحتيج إلى ما هو أبلغ في تطهير ذلك وإزالته وتكفير نقائصه, ولا يتم ذلك إلا إن كانت تلك الآلة المزيلة لذلك أكمل الآلات وأحدها وأقطعها, فتفضل الله سبحانه وتعالى - وله الفضل والمنة - وجعل العصر كذلك لتصلح مزيلة لما وقع من أول النهار إلى آخره, من ذلك الاشتغال الكلي المحتاج إلى أبلغ مطهر وأكمله؛ وبهذا اتضح كون الوسطى ليست من الصلوات الليلية؛ لأن الليل ليس فيه ذلك الاشتغال وإنما هو محل راحة وتخل عن العناء؛ ومن ثم خص بأوقات التجلي والقرب وشهود جمال الحق وإنعامه الذي تفضل به على خواصه فيه؛ فهو وقت تحل بالكمالات الناشئة عن ذلك القرب الأعظم, بخلاف النهار فإنه وقت تخل لذلك العناء الصرف والارتباك بحضرة الأغيار المانعة لاستجلاء أنوار الشهود. فاحتيج فيه إلى مزيد لذلك؛ فشرعت الوسطى فيه لتتكفل بتلك الإزالة وكانت العصر لأنها الأحق بتلك الإزالة من غيرها من بقية الصلوات النهارية؛ لما قررته وأوضحته, وأيضا فليس

 

ج / 1 ص -186-        في التكليف بالصلاة في الليل مشقة التكليف بها في النهار؛ الذي هو محل الأشغال واللهو وعروض ما يضاد العبادة والشروع فيها على الوجه الأكمل؛ من تتابع الأغيار والوقوع في مهامه الأخطار, فكان في الإتيان بالعصر مع ذلك الذي يكثر في وقتها كثرة لا يوجد مثلها في وقتي الظهر والصبح؛ من إظهار الطاعة وعدم تأثير القواطع فيه ما ليس في غيرها؛ وبهذا ظهر أيضا حكمة كون الصلوات النهارية أكثر من الصلوات الليلية؛ لما علمت من أن الامتحان والمشقة في تلك أكثر وأظهر, فطلب من المكلف أن يكون ما فرض عليه بالنهار أكثر منه بالليل؛ ليعظم أجره ويظهر طوعه ويطهر سره ويخرج عن مألوفاته وقواطعه وعاداته. ثم لما انقضى النهار افتتح الليل بثلاث بزيادة ركعة على ما افتتح به النهار؛ إشارة لما مر أن الليل هو محل التجلي الأعظم والقرب الأكمل الأتم, فناسب أن يشار إلى تمييزه عن النهار بذلك بأدنى ما يحصل به التمييز وهو ركعة, ولم يزد عليها لما تقرر أن مبنى هذا الدين على السهولة واليسر ما أمكن, وأنه حيث أمكن الاكتفاء فيه لم يتجاوز إلى أشق منها, فاتضحت حكمة كون المغرب ثلاثا لما كانت النفس مجبولة على حب النوم ومطبوعة على أنه لا بد لها منه, خفف عنها بعض التخفيف؛ فسومحت في ترك ثمن الليل بلا مقابل, وعمل لها وقت العشاء وجعلت أربعا؛ لتكون مقابل ربعين من الليل, وأما المغرب فإنها مقابلة لربعه وثمنه لما تقرر في فروض النهار أن كل منه ربع مقابل بركعتين, فكذلك الليل لكن مع المسامحة بثمنه؛ فإنه لم يقابل بشيء لما علمت ولتمييز النهار - كما أوضحته فيما سبق - لم يجعل ما افتتح به مقابلا لشيء منه في الحقيقة؛ لما مر أن الظهر مقابل لربعيه الأوليين والعصر مقابل لربعيه الأولين. وأما الصبح فهو في الحقيقة مبدأ ومهيئ لقطع تلك المفاوز والمشاق التكليفية النهارية؛ التي هي أشق وأبلغ من التكليفات الليلية إذ النفس تسمح أن تقوم ليلة, ولا تسمح أن تترك من أمر دنياها ما يقابل فلسا ومن ثم ورد في صفة الأبدال أن الله بهم يحيي وبهم يميت وبهم يغيث العباد والبلاد؛ وأنهم لم ينالوا ذلك بكبير صلاة ولا صيام؛ وإنما نالوه بالسخاء والنصيحة للمسلمين؛ فعلمنا أن السخاء أعظم وأشق على النفوس من صيام النهار وقيام الليل؛ فلذلك احتاجت التكليفات النهارية إلى مهيئ يعود عليها بالإغاثة والتسهيل, وهو افتتاحها بركعتي الصبح. ولم تحتج التكليفات الليلية إلى ذلك فكان ما افتتحت به محسوبا منها مقابلا لربع الليل وثمنه, وهذا لا ينافي ما قدمته في حكمة كونها ثلاثا, من الإشارة إلى أن الليل هو محل ذلك التجلي والقرب؛ لأن هذه الإشارة ليست عامة لكل أحد؛ بل خاصة بمن لم يقتصر على واجبة المغرب والعشاء؛ بل أتى بهما في وقتهما وضم إليهما التطوع والتقرب إلى الله تعالى؛ بقيام ما تيسر له من الليل, ولا شك أن من أتى بواجبات النهار والليل وضم إليها ذلك لا بد أن يشار له في تميزه على من لم يضم لتلك الواجبات شيئا. وذلك التميز يحصل بتمييز زمن تلك الزيادة؛ وهو الليل, فهو متميز على النهار من هذه الجهة المشيرة إلى ما اختص به من ذلك التجلي الأقدس والقرب الأنزه الأنفس

 

ج / 1 ص -187-        وكونه محلا لذلك لا يقتضي أن واجبه أفضل من واجبات النهار؛ لما قدمته مما يخالف ذلك. وقد يكون في المفضول مزية بل مزايا لا توجد في الفاضل, والحاصل أن الليل متميز من حيث النوافل التي لا يزال العبد يتقرب بها إلى الله تعالى؛ حتى يصير محبوبا, ثم سمعا وبصرا ويدا ورجلا؛ كناية عن مزيد القرب والتولي وتمام الخلافة والاستنابة ونهاية المحبة والعناية بأموره وأحواله وحفظها عن الأغيار والأخطار, وأنه صار عند الله - سبحانه وتعالى - بمنزلة عظيمة, لو أريد التعبير عن كنهها لم يمكن في العادة أن يعبر عنه إلا بنحو تلك العبارات فهو من الكناية, أو مجاز التمثيل, أو غيرهما, كما لا يخفى على من مارس فنون البلاغة وأساليب الفصاحة. وليس ذلك مشيرا لحلول ولا اتحاد باعتبار معناهما المتعارف بين أهل الظاهر, تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون: {عُلُوّاً كَبِيراً} [الاسراء: 4]. وهذا ما يسره للعبد الضعيف الحقير؛ مع أني لم أر من تكلم على شيء منه وفوق كل ذي علم عليم, وإليه تعالى أتوسل بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبل علي ذيل ستره, وأن يمنحني من خزائن كرمه وجوده وفضله ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر, وأن يعصمني من كل زلة وفتنة ومحنة إلى أن ألقاه وهو راض عني, وأن يكفيني ما أهمني وما لا أهتم له من أمور الدنيا والآخرة, إنه ولي ذلك والقادر عليه, لا رب غيره, ولا مأمول إلا خيره, لا إله إلا هو, عليه توكلت وإليه أنيب. ثم بلغني أن الحكيم الترمذي تكلم على شيء من ذلك وتطلبته فلم أره, فإن كان موافقا فذاك, وإلا فالمخالفة في ذلك لا تأثير لها؛ لأن حكم الموجودات متعددة لا نهاية لها, وإنما يمنح الله كل من ألهمه الكلام فيها بحسب استعداده وقوته, والحمد لله رب العالمين.
"وسئل" رضي الله عنه عمن اشتبه عليه الوقت يجوز أن يعتمد على صياح الديك المجرب, ويشكل عليه قول الرافعي لا يجوز اعتماد أذان المؤذن الثقة يوم الغيم مع أن هذا أولى من الديك, فما وجهه؟ "فأجاب" بقوله: وجهه أن المؤذن المذكور مجتهد, والمجتهد لا يقلد مجتهدا, وليس هذا المعنى موجودا في مسألة الديك؛ لأن صياحه مجرد علامة, والمجتهد إنما هو السامع فجاز له اعتمادها كالورد ونحوه.
"وسئل" رضي الله عنه بما صورته: لمن اشتبه عليه الوقت الاجتهاد؛ وإن أمكنه اليقين بأن يخرج فيرى الشمس مثلا, وهو مشكل, فقد فرقوا بين جواز الاجتهاد في المياه وامتناعه في القبلة حيث قدر على اليقين في كل؛ بأن اليقين في القبلة حاصل في محل الاجتهاد, بخلافه في الماء فهلا امتنع الاجتهاد في الوقت أيضا كالقبلة لأن اليقين فيه أيضا في محل الاجتهاد "فأجاب" بقوله قد يفرق بين الاجتهاد في الوقت والاجتهاد في القبلة بأن الأمارات المحصلة للظن بدخول الوقت أقوى من أمارات القبلة؛ فكان الظن في الوقت أقوى, فألحق فيه باليقين لقوته ولم يلحق في القبلة باليقين لضعفه.

 

ج / 1 ص -188-        "وسئل" - فسح الله في مدته - هل يعتبر اختلاف المطالع في الصلاة كالصوم؟ "فأجاب" بقوله قال في الخادم: إذا قلنا: العبرة باختلاف المطالع في الصوم فهل يعتبر في الصلاة حتى إذا غربت عليه الشمس في بلدة, وكان صاحب خطوة فحضر مطلعا آخر لم تغرب فيه بعد ما صلى المغرب في البلد الأول, فهل يلزمه إعادتها كالصوم أم لا؛ لأن الصلاة تتكرر بخلاف الصوم وبالقياس على الصبي إذا صلى أول الوقت, ثم بلغ في أثنائه فإنه لا يجب عليه فعل الصلاة, وإن وجب عليه بالبلوغ؛ لأن صلاته قبله قد أسقطت الفرض, فكذلك هنا, هذا هو الأقرب؛ لأنه إذا سقط الفرض بالفعل فلأن يسقط بالغروب أولى ا هـ. وما رجحه في الخادم متجه, ويفرق بينه وبين الصوم أيضا بأن الذي وجب في الصوم إنما هو مجرد الإمساك موافقة لأهل ذلك المحل وليس بصوم حقيقي, ومثل هذا الإمساك قد عهد وجوبه في الصوم في نحو من أصبح وقد نسي النية, بخلاف الصلاة فإنه لم يعهد فيها مثل ذلك.
"وسئل" - نفع الله به - عمن ولد أصم أعمى أخرس فهل تجب عليه الصلاة؟ "فأجاب" بقوله: صرح ابن العماد بأنها لا تجب عليه؛ كمن لم تبلغه الدعوة, وهو ظاهر موافق لما عليه أئمتنا وغيرهم؛ أنه لا تكليف إلا بعد علم فحيث انتفى عن هذا العلم بالشرع من أصله, فهو غير مكلف بالصلاة وغيرها.

باب الأذان
"وسئل" رضي الله عنه هل نص أحد على استحباب الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم أول الإقامة "فأجاب" - نفع الله بعلومه وبركته - بقوله: لم أر من قال بندب الصلاة والسلام أول الإقامة, وإنما الذي ذكره أئمتنا أنهما سنتان عقب الإقامة كالأذان, ثم بعدهما: اللهم رب هذه الدعوة التامة. . إلخ, وعن الحسن البصري قال: من قال مثل ما يقول المؤذن؛ فإذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة, قال: اللهم رب هذه الدعوة التامة, والصلاة القائمة, صل على محمد عبدك ورسولك, وأبلغه درجة الوسيلة في الجنة, دخل في شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم, أو نالته شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم. رواه الحسن بن عرفة والنميري وعن يوسف بن أسباط قال: بلغني أن الرجل إذا أقيمت الصلاة فلم يقل: اللهم رب هذه الدعوة المستجمعة المستجاب لها, صل على محمد, وعلى آل محمد, وزوجنا من الحور العين, قلن الحور العين: ما كان أزهدك فينا. رواه الدينوري في المجالسة والنميري. والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عن جماعة مقيمين ببعض القرى يقيمون الصلوات الخمس بمسجدها, ويؤذن بعضهم قبيل الفجر بساعة مثلا, مع العلم بأن الأذان يجوز في الوقت المعروف من الليل, فهل يجزئ - أي: ذلك الأذان الثاني - عند أن يطلع الفجر وإذا أذن أحد الجماعة في وسط المسجد هل تحصل له الفضيلة أم لا بد من إعلام أهل القرية - مع أنهم لو سمعوه ما حضر أحد غير الذين اجتمعوا قبيل الصبح -؟ وإذا أذن في وسط المسجد عند

 

ج / 1 ص -189-        اجتماع الجماعة يجزيه أم لا بد من الخروج إلى باب المسجد؛ كما ورد أن بلالا كان يؤذن عند باب المسجد وهل تحصل الفضيلة للأول والآخر جميعا أم لا؟ "فأجاب" - فسح الله في مدته - بقوله: يجزيه الاقتصار على الأذان الذي قبل الفجر, والأفضل أن يؤذن مرتين؛ مرة قبل الفجر, ومرة بعده, فإن اقتصر على مرة فالأفضل أن يكون بعد الفجر. وإذا أذن في وسط المسجد؛ فإن كان نيته أن يؤذن لنفسه أو للمقيمين في المسجد فقط كفاه إسماع نفسه في الأولى وإسماع الحاضرين في الثانية, وأما إذا كان يؤذن لأهل البلد فلا بد أن يؤذن في محل مرتفع بصوت عال بحيث يسمع الأذان من أصغى إليه من أهل البلد, سواء كانوا لو سمعوه لحضروا أم لا. والذي ورد عن بلال وغيره من مؤذنيه صلى الله عليه وسلم أن من أراد منهم الأذان لإسماع الناس كان يؤذن على موضع عال. والله - سبحانه وتعالى - أعلم.
"وسئل" - نفع الله بعلومه - عما لو سمع بعض الأذان هل يجيب فيه فيه أو لا؟ فإن قلتم نعم؛ فإذا سمع من آخره فهل يجيب فيه ثم يعيد جواب ما مضى, ثم يدعو, أو يبتدئ الجواب من أوله حتى يتمه, ثم يدعو؟ وكيف الحكم في ذلك وإذا سمع المتوضئ الأذان فهل يستحب له الإجابة حينئذ, أو لا وإن قلتم: لا فهل على القول باستحباب دعاء الأعضاء, أو لا وهل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مسنونة قبل الأذان كما هي بعده, أو لا وهل الإقامة كالأذان في سنها, أو لا وهل يسن أن يقال قبل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان: محمد رسول الله, أو لا وهل ينهى عنه وعن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام قبل الأذان, أو لا؟ "فأجاب" بقوله: عبارتي في شرح العباب قال الزركشي وغيره: ولو سمع بعضه أجاب فيه, وفيما لا يسمعه تبعا فيما يظهر, واقتضاه كلام المجموع قال الزركشي ويشهد له ما ذكروه في إجابته في الترجيع إذا لم يسمعه, انتهت, وظاهر عطفهم بالواو في قولهم: أجاب فيه وفيما لا يسمعه أنه يخير بين أن يجيب فيما سمعه آخرا, ثم يعيد جواب ما مضى, ثم يدعو, وأن يجيب فيما لم يسمعه من أوله, ثم يتمه فتحصل السنة بكل من هذين, وظاهر قولهم تبعا يقتضي أن الأول أكمل ويؤيده قولهم: الأولى أن لا يشتغل حال الإجابة بشيء, ولا شك أنه إذا سمع من حي على الفلاح مثلا, ثم أجاب ما قبلها حينئذ كان مشتغلا عن إجابة ما يسمعه بغيره وقد علمت أنه خلاف الأفضل, بخلاف ما إذا اشتغل بإجابة ما يسمعه إلى أن فرغ, ثم أجاب ما لم يسمعه فإنه لم يخالف الأكمل حينئذ فالحاصل أنه مخير وأن الأفضل أنه يجيب ما سمعه, فإذا فرغ المؤذن أجاب, ما لم يسمعه, ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم, ثم قال: اللهم رب هذه الدعوة التامة..إلخ وأفتى البلقيني فيمن وافق فراغ وضوئه فراغ المؤذن: بأنه يأتي بذكر الوضوء؛ لأنه للعبادة التي فرغ منها, ثم بذكر الأذان قال: وحسن أن يأتي بشهادتي الوضوء, ثم بدعاء الأذان لتعلقه بالنبي صلى الله عليه وسلم, ثم بالدعاء لنفسه ا هـ. وما ذكره فيما بعد فراغهما كما علمت, ولم يتعرض للإجابة حال الوضوء, وظاهر أنه يقطع الوضوء ويجيب إلى أن يفرغ, ثم يكمل وضوءه قياسا على ما قالوه في الطواف؛ من أن

 

ج / 1 ص -190-        السنة للطائف؛ كالتالي, والمدرس قطع ما هو فيه للإجابة؛ لأنه لا يفوت, والإجابة تفوت. ووجه قياس الوضوء على الطواف؛ أن كلا له أذكار في أثنائه؛ بناء على ندب دعاء الأعضاء في الوضوء, فيه الخلاف المعروف, والراجح عدم ندبه؛ لأن أحاديثه لا تخلو عن كذاب, أو متهم بالكذب, والحديث الضعيف إذا اشتد ضعفه لا يعمل به ولا في فضائل الأعمال, كما بينت ذلك كله في شرح العباب, والإرشاد فإذا كان الطواف المتفق على ندب ذكره يسن له قطعه إلى فراغ الإجابة, فأولى الوضوء, فإن لم يقطعه فهل يراعي ذكره على القول بندبه, ويقدمه على الإجابة,, أو يراعيها فيقدمها؟ كل محتمل, لكن الأوجه الثاني؛ لأنها آكد للاتفاق على ندبها بخلاف أذكار أعضاء الوضوء فإن قلت: قضية تعليل البلقيني السابق بأن ذكر الوضوء للعبادة التي فرغ منها تقديم ذكر أعضاء الوضوء على الإجابة, قلت: ليس قضيته ذلك لوضوح الفرق, فإن الذكر عقب الوضوء متفق عليه, كالذكر عقب الأذان فإذا تعارضا قدم ما هو للعبادة التي فرغ منها؛ لأنه يعود عليها بكمال آخر عقب فراغها, وهو أكمل مما لو فصل بينهما فاصل؛ وأما ذكر الأذان فليس فيه هذه المزية؛ فلذا أخره إلى الفراغ من ذكر الوضوء؛ وأما ذكر أعضاء الوضوء فمختلف في ندبه؛ بل الراجح عدم ندبه كما مر فإذا تعارض هو والإجابة قدمها عليه كما تقرر؛ وأما الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان والإقامة فإنهما مندوبان كما صرح به أصحابنا. ومما جاء به ذلك خبر مسلم والأربعة إلا ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول, ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا,, ثم سلوا الله تعالى لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله تعالى وأرجو أن أكون هو أنا, فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة. وفي رواية: "من سألها لي حلت له شفاعتي يوم القيامة". وخبر أحمد والطبراني وغيرهما: "من قال - حين ينادي المنادي -: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة, صل على محمد وارض عنه رضا لا سخط بعده؛ استجاب الله دعوته". وفي رواية - فيها ابن لهيعة -: "من قال - حين يسمع المؤذن -: اللهم رب هذه الدعوة التامة, والصلاة القائمة, صل على محمد عبدك ورسولك, وأعطه الوسيلة والشفاعة يوم القيامة؛ حلت له شفاعتي". وخبر ابن أبي عاصم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول - إذا سمع المؤذن يقيم - "اللهم رب هذه الدعوة التامة, والصلاة القائمة صل على محمد وآته سؤله يوم القيامة" وكان يسمعها من حوله, ويحب أن يقول مثل ذلك إذا سمع المؤذن, ومن قال مثل ذلك إذا سمع المؤذن؛ وجبت له شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة رواه الطبراني في الدعاء والكبير والأوسط ولفظه: كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع النداء قال: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة, صل على محمد عبدك ورسولك, واجعلنا في شفاعته يوم القيامة, قال: صلى الله عليه وسلم "من قال عند هذا النداء جعله الله في شفاعتي يوم القيامة" وفيهما صدقة السمين, لكن له شاهد موقوف على أبي هريرة. وخبر الطبراني بسند فيه لين: "من سمع النداء فقال: أشهد أن لا

 

ج / 1 ص -191-        إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله, اللهم صل على محمد وبلغه درجة الوسيلة عندك, واجعلنا في شفاعته يوم القيامة, وجبت له الشفاعة" وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في الخبر الثاني: من قال حين ينادي المنادي, وفي الخبر الثالث: من قال حين يسمع المؤذن. أنه يأتي بالذكر المذكور حال سماعه الأذان, ولا يتقيد بفراغه منه, لكن الحديث الأول نص في أنه إنما يأتي بذلك بعد الفراغ من الأذان, وهو أصح من الثاني, والثالث ومقيد وهما مطلقان, فوجب تقديمه عليهما, ومعنى حلت: وجبت, كما صح في عدة روايات. فمضارعه: تحل؛ بكسر الحاء,, أو استحقت, أو نزلت به, فمضارعه بضمها؛ لا من الحل لأنها لم تحرم قبل ذلك؛ ولام "له" بمعنى: على؛ لرواية مسلم: حلت عليه, وفي هذه الأحاديث بشارة عظيمة لقائل ذلك؛ أعظمها - أنه يموت على الإسلام؛ لأن شفاعته صلى الله عليه وسلم إنما تكون للمسلمين من أمته صلى الله عليه وسلم على أن هذه شفاعة مخصوصة؛ إذ شفاعته صلى الله عليه وسلم العامة تشمل مذنبي أمته قبل, ولا ينال هذا الثواب إلا من قال ذلك مخلصا مستحضرا إجلاله صلى الله عليه وسلم, لا من قصد به مجرد الثواب ونحوه. ورده بعض محققي الحفاظ بأنه تحكم غير مرضي ولو أخرج الغافل اللاهي لكان أشبه. وفائدة طلب الوسيلة له صلى الله عليه وسلم مع أنه يرجوها, ورجاؤه لا يخيب - عود ثمرة ذلك علينا؛ بامتثال ما أمرنا به في جهته الكريمة, والإعلام بأن الله تعالى لا يجب عليه شيء لأحد من خلقه, وبأنه صلى الله عليه وسلم في غاية الخضوع والتواضع لله؛ حيث يسأله ويطلب منه طلب العبد المحتاج. وكذا يقال في صلاتنا عليه صلى الله عليه وسلم؛ فإنها لهذه الأغراض الجليلة؛ فتأمل ذلك, واعتن بحفظه وتحقيقه. ووردت أحاديث أخر بنحو تلك الأحاديث السابقة, ولم نر في شيء منها التعرض للصلاة عليه قبل الأذان, ولا إلى محمد رسول الله بعده ولم نر أيضا في كلام أئمتنا تعرضا لذلك أيضا, فحينئذ كل واحد من هذين ليس بسنة في محله المذكور فيه, فمن أتى بواحد منهما في ذلك معتقدا سنيته في ذلك المحل المخصوص نهي عنه ومنع منه؛ لأنه تشريع بغير دليل؛ ومن شرع بلا دليل يزجر عن ذلك وينهى عنه.
"فائدة" قد أحدث المؤذنون الصلاة والسلام على رسول الله عقب الأذان للفرائض الخمس؛ إلا الصبح والجمعة فإنهم يقدمون ذلك فيهما على الأذان؛ وإلا المغرب فإنهم لا يفعلونه غالبا لضيق وقتها, وكان ابتداء حدوث ذلك في أيام السلطان الناصر صلاح الدين بن أيوب وبأمره في مصر وأعمالها. وسبب ذلك أن الحاكم المخذول لما قتل أمرت أخته المؤذنين أن يقولوا في حق ولده السلام على الإمام الطاهر, ثم استمر السلام على الخلفاء بعده إلى أن أبطله صلاح الدين المذكور وجعل بدله الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم, فنعم ما فعل, فجزاه الله خيرا ولقد استفتي مشايخنا وغيرهم في الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم بعد الأذان على الكيفية التي يفعلها المؤذنون فأفتوا بأن الأصل سنة والكيفية بدعة وهو ظاهر كما علم مما قررته من الأحاديث.

 

ج / 1 ص -192-        "وسئل" - نفع الله به - عن مسجد أقيمت فيه جماعتان مترتبتان بأذان سابق لهما فهل يحصل لكل منهما فضيلة الأذان أم لا وهل ينقدح أن يقال ينظر إلى قصد المؤذن, أو دخوله في الجماعة؛ فإن قصد الأولى مثلا, أو صلى معها حصل له فضيلة الأذان, أو لا؟.
"فأجاب" بقوله: الكلام في ذلك في مقامين؛ الأول: سقوط الطلب المستلزم لسقوط الكراهة المترتبة على ترك الأذان, والثاني: حصول فضيلة الأذان؛ فأما بالنظر إلى الأول فيكفي أذان واحد عن جميع الجماعات المتكررة في المسجد الواحد؛ وأما بالنسبة إلى الثاني فلا يكفي الأذان الواحد إلا عن الجماعة التي تليه. ومما يصرح بالأول قولهم: تحصل سنة الأذان بظهوره من نحو بلد صغير, أو مواضع من كبير؛ بحيث يسمعه من أصغى له من أهل ذلك المحل لينتشر في جميع أهله؛ قال القمولي وغيره: فإن أذن واحد في جانب فقط حصلت السنة فيه دون غيره. وفي المجموع - عن جمع -: أنا إذا قلنا بفرضيته سقط بفعله لصلاة من الخمس, ثم صوب ما اقتضاه كلام الأصحاب؛ من أنه لا بد منه لكل صلاة ثم قال: وإذا قلنا بأنه سنة حصل بما يحصل به إذا قلنا إنه فرض, وهو ظاهر, وإن نظر فيه في الخادم فارقا بأن الشعار المفروض يحصل بمرة, والإعلام المندوب لا يحصل إلا بالخمس, فإن قلت: مقتضى هذا مع ما يأتي في صلاة الجماعة؛ من أنها لو أقيمت بمحل من بلد كبير ولم يظهر الشعار لم يكف في الخروج عن فرض الكفاية أن السنة لا تحصل هنا في الجانب الذي أذن فيه فقط, وقد مر حصولها, قلت: القصد بظهور الشعار في الجماعة تعددها بمحال؛ بحيث يسهل حضورها على كل من أرادها؛ إذ لا يتأتى من كل واحد وحده, بخلاف الأذان؛ فإنه مطلوب من كل أحد على حدته لتأتيه منه؛ فلذا حصلت سنته وسقط فرضه عن أهل ذلك الجانب فقط, ولم يسقط بالنسبة للجماعة. واستشكل قول النووي أنهما سنة, وفي الجماعة أنها فرض كفاية؛ مع أنهما وسيلة إليها, وللوسائل حكم المقاصد. وأيضا ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, ويرد بمنع كونهما وسيلة, وعلى التنزل فالجماعة غير متوقفة عليهما, على أن هذا إنما يتأتى على الضعيف أن الأذان حق للجماعة. وسيأتي قريبا نظير ذلك ذكرت ذلك في شرح العباب فإن قلت: تعبيرهم بحصول سنة الأذان بما تقرر ينافي ما استدللت به عليه من سقوط الطلب فقط قلت: لا ينافيه بل هو على حد قولهم تحصل سنة التحية بفرض, أو نفل آخر؛ فإن المراد بالحصول ثم سقوط الطلب تارة وحصول الفضيلة والثواب أخرى, فكذا هنا بدليل ما يأتي من ندبه لكل أحد؛ وإن سمع أذان غيره. وفي شرح العباب أيضا - بعد قولهم أن الأذان سنة كفاية -: يحصل بفعل البعض كابتداء السلام, وفرع الزركشي على أن ذلك فرض كفاية كما في الروضة. وفي السير أنه لو أذن واحد لجمع لم يسن لكل أحد منهم أن يؤذن, والظاهر أنه مبني على ما يأتي عن شرح مسلم وإلا فالقياس ندبه لكل, كما أن التسمية على الأكل سنة كفاية. وإذا أتى بها أحد.
الآكلين لا نقول للبقية لا يسن لكم الإتيان بها, وإنما الذي يقال لهم - كما يصرح به كلامهم -: سقط عنكم حرج تركها فقط, وفرق

 

ج / 1 ص -193-        ظاهر بين العبارتين. انتهت عبارة شرح العباب. وفيها كالذي قبلها أوضح شاهد على ما مر من سقوط الطلب بأذان واحد عن جميع الجماعات المتكررة في المسجد الواحد بل والقريب منه؛ بحيث يسمعه المصغي إليه ومما يصرح بالثاني - أعني أن الأذان لا تحصل فضيلته وثوابه إلا للجماعة التي تليه - قولهم - والعبارة لشرح العباب -: ويشرع الأذان لجماعة ثانية أريد إقامتها في موضع مسجد, أو غيره من أمكنة الجماعة, ولو مطروقا وأقيمت فيه جماعة, أو صلوا فرادى وانصرفوا؛ فيسن حينئذ الأذان لكن بلا مبالغة في رفع الصوت؛ أي: لا يندب له ذلك لئلا يوهم السامعين دخول وقت صلاة أخرى لا سيما في يوم الغيم, وتبع في نفي المبالغة دون أصل الرفع الإمام في النهاية كما في الخادم. وكذا الأذرعي فإنه قال: المراد بلا رفع بالغ؛ لأن الرفع شرط في الأذان للجماعة ا هـ. ولا يعارضه قول التحقيق: وحيث لا يرفع. قال الأصحاب يسمع نفسه والإمام من عنده, لا؛ لأنه في المنفرد, ولا قول الشرح الصغير: ويسر مؤذن الجماعة الثانية بلا خلاف؛ لأنه محمول على ما تقرر والحاصل أنه لا بد من إسماع واحد؛ لما يأتي أن ذلك شرط في الأذان للجماعة. أما إذا فقد شرط مما ذكر فيسن له الرفع؛ لأن الأول قد انتهى حكمه بصلاة الجماعة الأولى؛ ولا إيهام, وحيث سن الرفع في الجماعة الثانية فلا فرق بين أن يكره؛ بأن يكون غير مطروق له إمام راتب لم يأذن, كما أشار إليه في الكفاية, أو لا, وهو كذلك كما قاله الشيخان واستشكال الإسنوي وغيره للأولى وقولهم: ينبغي أن لا يسن الأذان لها, وكيف يسن الدعاء إليها مع كراهتها ومع أن للوسائل حكم المقاصد وإن كان لا يرفع صوته فلا فائدة له؛ إذ الأذان للجماعة لا يجزئ مع الإسرار بشيء منه - مردود بأن الكراهة هنا ليست لذات الجماعة؛ بل الأمر خارج عنها, كما سأذكره في التنبيه الآتي مع أن المؤذن لم يدع إليها غائبا. وإنما يؤذن لنفسه ومن معه فيكفي إسماع واحد منهم, كما مر وبأن كراهة الصلاة لا تمنع ندب الأذان لها كما لو أقيمت في نحو حمام, وبأن الأذان حق للوقت على الجديد وللصلاة على القديم المعتمد؛ وعليهما فليس وسيلة للجماعة, أو حقا للجماعة, على ما في الإملاء؛ وعليه ينبني ما ذكروه, والتقييد بانصرافهم هو ما في الشرحين والروضة. فيسن الرفع قبله لعدم خفاء الحال عليهم وكأن المصنف حذفه لتنظير الإسنوي فيه بأنه يوهم غيرهم من أهل البلد. قال: وإنما قيدوا بوقوع جماعة؛ لأنه لا يسن له الأذان قبله؛ لأنه مدعو بالأول ولم ينته حكمه وهو مبني على ما يأتي عن شرح مسلم, والذي يظهر أنهم إنما قيدوا بذلك؛ لأنها لا تسمى ثانية إلا إن كان سبقتها جماعة أولى؛ على أنه مر أن الجماعة ليست شرطا؛ بل لو صلوا فرادى كان كذلك.
"تنبيه" أغرب الماوردي فقطع بتحريم إقامة جماعة بعد جماعة في مسجد له إمام راتب بولاية سلطان؛ لما فيه من التقاطع وشق العصا وتفريق الجماعات وتشتيت الكلمة ا هـ. كذا نقله عنه جمع, وعبارته: لم يجز, ويمكن تأويلها بحملها على نفي الجواز المستوي الطرفين ليوافق كلام غيره. قال الزركشي وغيره: والخلاف في غير المطروق؛ أما المطروق

 

ج / 1 ص -194-        كمساجد الأسواق وكالجوامع فلا يكره إقامة الجماعة فيها مرارا. ذكره صاحب البيان وغيره, بل صرح ابن الرفعة - وأقره الإسنوي وغيره -: بأنه لا خلاف في عدم كراهة الجماعة الثانية في المطروق انتهت عبارة شرح العباب وسقتها مع طولها؛ لما اشتملت عليه من الفوائد سيما المتعلقة بما نحن فيه فتأملها تجدها مع النظر لما قدمته في بيان المقام الأول ظاهرة فيما ذكرته من أن ندب الأذان ثانيا وثالثا. وهكذا ليس المراد به سقوط الطلب؛ لأنه سقط بالأول؛ وإنما المراد به حصول الثواب, وتأمل أيضا رد قول الإسنوي وإنما قيدوا بوقوع جماعة..إلخ تجده ظاهرا في ذلك أيضا. ومما يزيد ذلك وضوحا قولهم - والعبارة لشرح العباب أيضا - "ويسن الأذان للمنفرد" وفي القديم - على نزاع في ثبوته - بل غلط في التنقيح من أثبته, لا يسن, واستشكله الإسنوي بقوله - أي: القديم - بندبه للفائتة, ويجاب: بأنه بالصلاة في الوقت عمل بقضية الأذان؛ إذ هو الدعاء للصلاة فوقع أذان الغير مجزئا عنه؛ لأنه امتثله بخلافه إذا خرج الوقت, فإنه في الفائتة لم يعمل به فلم يقع عنه؛ لأنه لم يمتثله وهذا أولى وأوضح مما فرق به ابن العماد فإنه مردود؛ وأما حمل بعض المحققين قوله بندبه للفائتة على ما إذا فعلت جماعة؛ قال: ليجامع القديم في المؤداة, فإنه إذا لم يؤذن المنفرد لها؛ فالفائتة أولى, كما قاله الرافعي فليس في محله, كيف وكلام المجموع صريح في أنه قائل بندبه للفائتة؛ حتى من المنفرد فإنه حكى مقابله قولين؛ عدم الأذان مطلقا, والتفصيل بين الجماعة والانفراد "وإن سمع أذان غيره" كما في التحقيق والتنقيح, ونقله في المجموع عن نص الأم والشيخ أبي حامد وغيره, ولا ينافيه قول أبي الطيب عن عامة الأصحاب؛ فيمن دخل مسجدا قبل إقامة الصلاة, أو بعده يجزئه أذان المؤذن وإقامته؛ لأنا نقول بموجبه من الإجزاء حتى لا يكره له تركهما؛ وإنما الكلام في ندبهما له, ولا تعرض منهم لنفيه, لكن صحح في شرح مسلم أنه إذا سمع أذان الجماعة لا يشرع وقواه الأذرعي والزركشي وينبغي حمله على ما إذا أراد الصلاة معهم, والأول خلافه, ثم رأيت ابن الرفعة قال وتبعه القمولي وغيره: من حضر الأذان والإقامة بمحل إقامة الصلاة لم يستحب له اتفاقا, وكذا لو بلغه النداء فحضر قبل الصلاة أو بعدها وأدرك الصلاة؛ لأنه مدعو مجيب فلا معنى إذا لإتيانه بذلك, بخلاف ما إذا حضر بعد انقضاء الجماعة, ثم حكى خلاف ذلك وضعفه, وهو صريح فيما ذكرته. وكالمنفرد في ذلك الجماعة الثانية كما مر. انتهت, وفيه أيضا: ويسن الأذان في كل مسجد وإن تقاربت وسمع بعضهم بعضا, كما في المجموع عن صاحب العدة وغيره؛ ووجه بأن فيه إحياء لها بإقامة الجماعة في كلها. وسيأتي عن القاضي أن إقامة الجماعة في جميعها أفضل من اجتماعهم في بعضها؛ لأن في تكثيرها تكثيرا لإقامة الشعار. انتهت. فتأمل قول الأصحاب: يجزئه أذان المؤذن وإقامته وحمل الإجزاء على عدم كراهة الترك. وتأمل أيضا ما جمعت به بين ما في شرح مسلم وغيره المصرح به في كلام ابن الرفعة وغيره - تجد ذلك كله صريحا فيما قدمته من أن كلامهم في مقامين: إسقاط الطلب, وحصول الثواب؛ وبهذا يجتمع متفرقات كلماتهم

 

ج / 1 ص -195-        الموهمة للتنافي عند من لم يمعن النظر في سياقها ومداركها, فإن قلت صرح الرافعي في إيجازه بأن من سمع المؤذن وأجابه وصلى في جماعة لا يجيب ثانيا؛ لأنه غير مدعو بهذا الأذان, وهذا مؤيد لما مر من إسقاط الطلب بالأذان الأول, وغير موافق لما مر من ندب تكرار الأذان للجماعات المتكررة قلت: كلام الرافعي مردود ومن ثم قال الجلال البلقيني: إنه اختيار له, والفتوى على خلافه. وقال الإسنوي: إن ندب الجماعة لمن صلى في جماعة يخدشه؛ أي: لأن قياس طلب الجماعة ثانيا يقتضي ندب الأذان ثانيا؛ لأنه مدعو بالثاني من حيث إنه يندب له الإعادة معهم, ولا ينافيه عدم ندب الأذان للمعادة؛ لأن محله فيمن أراد أن يؤذن له قصدا؛ وكلامنا هنا فيمن يؤذن لجماعة غير معادة لكن سمعه من صلى في جماعة فهل هذا الأذان معتد به في حقه أيضا حتى يسن له إجابته, أو لا والمعتمد الأول؛ لأنه وقع الاعتداد به له من حيث تبعيته لغيره لا استقلالا؛ فتأمله. ويؤيد ذلك قولي في الشرح المذكور أيضا, فإن قلت: كان قياس المعتمد من أنه حق للفرض تكرير الأذان للفوائت أي المتوالية والمجموعتين أي: المتواليتين, قلت: عارض ذلك أنه لما والى بينهما كان ما بعد الأول تابعا له فلم يفرد بأذان ثان, ثم رأيته في المجموع ذكر ذلك فقال: فإن قيل إذا جمع في وقت العصر وبدأ بالظهر لم لا يؤذن للعصر؛ لأن الوقت لها. فالجواب ما أجاب به المصنف والأصحاب؛ أن العصر في حكم التابعة للظهر هنا. قال: والوجه القائل بندب الأذان للكل غلط. فاندفع ما في الخادم هنا, وفي الشرح المذكور أيضا. ونظر الإسنوي في ندب الأذان في وقت الأولى؛ أي من المجموعتين إذا نوى جمع التأخير, قال الدميري: ويظهر تخريجه على أنه حق للوقت, أو الصلاة؛ فإن قلنا بالأول أذن وإلا فلا. ومقتضاه أنه لا يؤذن لها؛ لأنه في القديم المعتمد حق للصلاة أي: المفروضة, وفي الجديد غير الإملاء حق للوقت, وفي الإملاء حق للجماعة. وتقاس الفوائت بالمجموعتين ا هـ. فإن قلت: إذا كان حقا للفرض لا للجماعة فكيف تكرر بتكرر الجماعة؟ قلت: ليس المراد بذلك أنه لا يسن للجماعة في الفرض؛ بل نفي تقيده بالجماعة حتى يدخل المنفرد, وإثبات تقيده بالفرض حتى تخرج المعادة؛ وأما قول السائل - نفع الله به - هل ينقدح..إلخ فجوابه: أن ذلك غير منقدح على إطلاقه لما علم مما قدمناه أن المدار بالنسبة لإسقاط الطلب على ظهور الشعار وعدم ظهوره. وبالنسبة للثواب على وقوع الأذان من كل سواء المنفرد والجماعات المتعددة إلا فيما مر فيمن سمع أذان غيره على ما فيه من التناقض والجمع بما قدمته. وإذا علم أن مدار الإسقاط والثواب على ما ذكر اتجه أنه لا عبرة بقصد المؤذن ولا بدخوله في الجماعة التي أذن لها, نعم, الظاهر أن أذانه لا يقع للجماعة حتى يثابوا عليه؛ حتى يأمروه بالأذان لهم, أو يتسببوا فيه ويؤذن بقصدهم؛ أما لو أذن بقصد نفسه فقط أو بقصدهم ولم يتسببوا في تأذينه لهم؛ فإنهم لا يثابون على ذلك؛ لما هو معلوم أن الثواب لا يكون إلا على ما فعله الإنسان, أو تسبب فيه. وقد ذكروا في الكلام على حصول تحية المسجد بغيرها

 

ج / 1 ص -196-        ما يوضح ذلك فراجعه. فإن قلت قد اعتبروا قصد المؤذن حيث قالوا: إن كان أذن لجماعة اشترط إسماع واحد جميع كلماته ما عدا الترجيع؛؛ لأن الجماعة تحصل بإمام ومأموم مع أن القصد الإعلام, وإن أذن لنفسه اشترط إسماع نفسه فقط؛ لأن الغرض منه الذكر لا الإعلام؛ وهذا يدل على انقداح ما قاله السائل, قلت: لا نسلم دلالته على ذلك بإطلاقه؛ لأن الاعتبار فيما يرجع للصحة وعدمها إنما هو باعتقاد الفاعل دون غيره, فاعتبارهم القصد هنا لا يدل على اعتبار قصده مطلقا. ألا ترى أنه لو أذن واحد في محل صغير, أو متعددون في كبير سقط الطلب عن الباقين, وإن لم يقصد المؤذن إلا نفسه, وسره ما قدمته من أن المدار إنما هو على ظهور الشعار وعدمه. وفي المجموع أن المؤذن إن كان نصب للأذان اشترط لصحة أذانه معرفته بالوقت بخلاف ما إذا لم ينصب له, أو أذن لنفسه.
"وسئل" - نفع الله به - عمن صلى في فضاء بأذان وإقامة منفردا فهل يحصل له فضيلة الجماعة ويبر لو حلف ليصلين جماعة وينوي الإمامة "فأجاب" بقوله: وقع في فتاوى السبكي أن الجماعة تحصل بالملائكة أيضا, قال: وقد وجدت ذلك نقلا عن بعض أصحابنا فيمن صلى بأذان وإقامة في فضاء منفردا, ثم حلف أنه صلى بالجماعة يكون بارا في يمينه ولا كفارة عليه لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"صلت الملائكة خلفه صفوفا" فإذا حلف على هذا المعنى لا يحنث, وهو ظاهر وقد أفتى بعض العلماء بنظيره؛ فيمن ذكر الله في حلقة ذكر ثم حلف أنه دخل الجنة وأراد المعنى الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم, وكذا لو جلس في الروضة الشريفة وحلف أنه في الجنة وأراد المعنى الذي أراده صلى الله عليه وسلم بكون الروضة من الجنة. أما لو أطلق فالذي دل عليه التقييد بكونه أراد المعنى الذي ذكره صلى الله عليه وسلم أنه يحنث, وهو ظاهر؛ لأن المدار في الأيمان المطلقة على العرف وهو قاض بأن المصلي في الفضاء والجالس في الحلقة, أو الروضة ليس في جماعة ولا في الجنة؛ وبهذا تعلم أن الأول لو نوى الإمامة بطلت صلاته؛ لأنا لا ندري ما حقيقة صلاة الملائكة خلفه؛ هل هو مع اقتدائهم به في عين تلك الصلاة أو يتعبدون وراءه لتعود عليه بركة صلاتهم وإخلاصهم, أو يدعون له؟ إذ الصلاة لغة: الدعاء؛ فلما أشكل علينا درك ذلك الأمر على ما أخبر به الصادق نزلناه منفردا. وقلنا: ليس لك أن تنوي الإمامة فإن فعلت بطلت صلاتك؛ لأنك منفرد يقينا, والاقتداء بك مشكوك فيه فلا يجوز لك نية الإمامة مع الشك.
"وسئل" - نفعني الله بعلومه - عن الجماعة أو المنفرد إذا صلوا بأذان المؤذن الراتب قبل أن تقام الجماعة هل لا يستحب لهم الأذان؛ أخذا من. قول الإسنوي؟ "وإنما قيدوا بوقوع جماعة؛ لأنه لا يسن له الأذان قبله؛ لأنه مدعو بالأول ولم ينته حكمه" أم يستحب لهم الأذان. وإنما يقال: إنهم مدعوون بالأول إذا أرادوا الصلاة مع الإمام في ذلك المسجد, وأما إذا أرادوا الصلاة وحدهم فيسن لهم الأذان. وذكر بعض أئمتنا أنه لو أذن المؤذن لصلاة الجماعة فجاء.

 

ج / 1 ص -197-        شخص وصلى منفردا قبل أن يصلوا الجماعة بأذانهم أنهم يحتاجون إلى تجديد أذان, وأن المنفرد يأخذ حكم أذانهم, فهل هو كذلك أم لا؟ "فأجاب" بقوله: الجواب عنه يحتاج لمقدمة؛ وهي أنهم اختلفوا: هل الأذان حق للوقت, أو الصلاة, أو الجماعة أقوال, أظهرها: الثاني؛ ومن ثم يسن للمنفرد؛ وإن سمع أذان غيره, كما في التحقيق والتنقيح. ونقله في المجموع عن نص الأم, والشيخ أبي حامد وغيره, ولا ينافيه قول أبي الطيب عن عامة الأصحاب؛ فيمن دخل مسجدا قبل إقامة الصلاة, أو بعدها يجزئه أذان المؤذن وإقامته؛ لأنا نقول بموجبه من الإجزاء حتى لا يكره له تركهما, وإنما الكلام في ندبهما ولا تعرض منهم لنفيه بل لإثباته؛ إذ هذا هو شأن سنة الكفاية كفرضها, وخالف ذلك في شرح مسلم فإنه صحح فيه أنه: إن كان سمع أذان الجماعة لا يشرع وقواه الأذرعي والزركشي. وينبغي حمله على أن مراده لا يتأكد حتى لا يكره تركه, أو على ما إذا أراد الصلاة معهم, والأول على خلافه, ثم رأيت ابن الرفعة قال وتبعه القمولي وغيره: من حضر الأذان والإقامة بمحل إقامة الصلاة لم يستحبا له اتفاقا, وكذا لو بلغه النداء فحضر قبل إقامة الصلاة أو بعدها وأدرك الصلاة؛ لأنه مدعو مجيب, فلا معنى إذا لإتيانه بذلك, بخلاف ما إذا حضر بعد انقضاء الجماعة, ثم حكى خلاف ذلك وضعفه, وهو صريح فيما ذكرته من الجمع الثاني بين تناقض كتب النووي وكالمنفرد في ذلك: الجماعة الثانية في ندب الإتيان بالأذان مطلقا. وإنما التفصيل في ندب الرفع لهم, فإن انصرف الأولون فلا رفع للإيهام, وإلا سن. واعتراض الإسنوي التقييد بانصرافهم بأنه يوهم غيرهم من أهل البلد - يرد بأن الإيهام في حقهم أشق لحضورهم, فروعوا دون غيرهم. وقوله: وإنما قيدوا بوقوع جماعة؛ لأنه لا يسن له الأذان قبله؛؛ لأنه مدعو بالأول ولم ينته حكمه, إنما يتأتى على ما تقرر عن شرح مسلم, وقد علمت أنه ضعيف أو محمول على ما ذكرته, والوجه أنهم إنما قيدوا بذلك؛ لأنها لا تسمى ثانية إلا إن كان سبقتها جماعة أولى, على أنه تقرر أن الجماعة غير شرط؛ بل لو صلوا فرادى كان الحكم كذلك. وفي المجموع عن صاحب العدة وغيره يسن الأذان في كل مسجد وإن تقاربت المساجد, وسمع بعضهم بعضا؛ أي: لا يندب إقامة الجماعة في كل منها إحياء له وتكثيرا لإقامة الشعار, إذا تقرر لك هذا, وأحطت به اتضح لك أنه: إذا صلى بأذان المؤذن الراتب جماعة, أو واحد سن للباقين الأذان ثانيا على المعتمد, فإن تركوه وصلوا بالأول وقد سمعوه لم يكره لهم تركه؛ لأنهم مدعوون بالأول, ولم ينته حكمه بالنسبة لدفعه للكراهة في حق الباقين, وإن انتهى حكمه بالنسبة للمصلين. واتضح لك أيضا ضعف ما ذكر عن الإسنوي وأن قول السائل وإنما يقال..إلخ صحيح من وجه دون وجه؛ لأنهم مدعوون بالأول مطلقا. لكن إن كان صلوا مع الإمام في ذلك المسجد لم يتأكد لهم؛ فلا يكره لهم تركه وإلا تأكد لهم, وكره لهم تركه. وبهذا يعلم أن ما ذكر عن بعض الأئمة ليس بصحيح على إطلاقه, وكيف يتصور أنه يأخذ بحكم أذان غيره من كل وجه, وإنما الوجه المفهوم مما تقرر أنه نفسه إن كان سمع ذلك الأذان.

 

ج / 1 ص -198-        لم يكره له تركه وإلا كره. وأما الجماعة فيسن لهم الأذان ثانيا ولا يكره لهم تركه, فإن أراد ذلك الإمام بأخذ حكم أذانهم ندبه لهم من غير كراهة في تركهم له اتجه ما قاله هذا كله بناء على المعتمد أنه حق للصلاة, أما على أنه حق للوقت فحيث وجد أجزأ عمن سمعه ومن لم يسمعه, وأما على أنه حق للجماعة فلا يسن للمنفرد, ولا تؤثر صلاته في حق الجماعة مطلقا, والله أعلم بالصواب.

باب استقبال القبلة.
سئل - فسح الله في مدته - عن السفر المجوز للتنفل راكبا وماشيا لغير القبلة, ما حده؟ "فأجاب" بقوله: حده الشيخ أبو حامد بميل, أو نحوه والبغوي بأن يخرج إلى مكان لا يسمع فيه النداء. وبينهما تقارب, وإن كان الأوجه الثاني, لا يقال مقتضى ما ذكروه في القصر من جوازه بمجرد مجاوزة السور, أو العمران جواز التنفل بمجرد مجاوزة ذلك, وإن لم يبلغ سفره ميلا ولا محلا لا يسمع فيه النداء, ولا ما يقرب من ذلك بخطى يسيرة؛ لأنا نقول هذا اشتباه فإن الكلام إنما هو في المقصد الذي يسافر إليه, ففي نحو القصر يشترط كونه مرحلتين, وفي نحو التنفل يشترط كونه على ميل, أو نحوه من البلد, وأما جواز القصر بمجاوزة ما ذكر - فمثله جواز التنفل بمجاوزته, فهما مستويان بالنسبة لمجاوزة السور ونحوه, ويختلفان بالنسبة إلى المقصد فبطل ما توهم من الاشتباه.
"وسئل" رضي الله عنه هل يشترط في صحة صلاة الأعمى أن يمس القبلة إذا أمكنه أو شيئا يدل عليها أو تصح صلاته من غير مس؛ بأن أخبره جماعة "فأجاب" بقوله: حيث قدر على مس الكعبة, أو المحراب المعتمد امتنع عليه الأخذ بقول المخبر, ولو عن علم؛ ما لم يصل لعدد التواتر, أو يكون نشأ بمكة, أو بذلك المسجد, وارتسم في ذهنه من الأمارات ما يحصل له اليقين الجازم فحينئذ لا يجب عليه المس أخذا من قوة كلامهم؛ وعلى هذا يحمل قول القاضي أبي الطيب: للضرير بالمسجد الحرام الرجوع إلى خبر المعاين للكعبة إن كان جمعا يبلغون عدد التواتر.
وسئل" رضي الله عنه عمن استقبل الكعبة للصلاة وهو قريب منها, وشرطنا الاستقبال بكل بدنه, واستقبل بكل بدنه إلا أن طرف ثوبه خارج عنها, فهل يضر طرف ثوبه الخارج حتى لا يصح هذا الاستقبال, أو يفرق بين أن يكون متحركا بحركته كما في السجود أو لا يفرق كما في النجاسة, أو لا يضر طرف ثوبه الخارج بل المعتبر بدنه خاصة "فأجاب" بقوله: إن كلامهم مصرح بأن العبرة في الاستقبال بالبدن لا بالثوب, فلا يضر خروجه عن سمت الكعبة مطلقا؛ فإن قلت: ينافي هذا ما ذكرته في حاشية مناسك النووي - رحمه الله - أن الثوب كالبدن في محاذاة هواء البيت حتى يبطل طوافه؛ قلت: لا ينافيه لأن العبرة في الاستقبال بالمسامتة؛.

 

ج / 1 ص -199-        وهي إنما تكون بالبدن لا بغيره, وأما العبرة في الطواف فهي بخروج الطائف وما ينسب إليه عن البيت وهوائه, والثوب مما ينسب إليه. ومما يدل على الفرق أن المستقبل لو أخرج يده عن السمت لم يضر, ولو استقبل الهواء لم يكف على تفصيل فيه, بخلاف الطائف فإنه يضر دخول يده ولو في هواء البيت, وما هو منه ولو ظنا كالشاذروان, أو غير ظني كهواء حائط الحجر فاتضح بذلك فرق ما بين الطواف والاستقبال. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - نفع الله به - هل تجوز الزيادة في بناء الكعبة وطولها وعرضها - زادها الله شرفا وتعظيما - ومن تعدى وفعل هل يهدم ما فعله؟ "فأجاب" بقوله: صرح النووي في شرح مسلم عن العلماء بأنها لا تغير عما هي عليه من بناء الحجاج؛ أي: بالنسبة لناحية الحجر وتعلية باب البيت وسد بابه الغربي, فهذا هو الذي فعله الحجاج فيها وما عدا ذلك فهو من بناء ابن الزبير - رضي الله عنهما - فقول العلماء أنها لا تغير عن ذلك ظاهر في حرمة تغييرها؛ ومن ثم لما سأل الرشيد مالكا رضي الله عنه في تغيير بناء الحجاج. قال مالك: نشدتك الله يا أمير المؤمنين لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك, لا يشاء أحد إلا نقضه وبناه؛ فتذهب هيبته من صدور الناس. واستحسن الناس هذا من مالك وأثنوا عليه به؛ فصار كالإجماع على منع تغيير بنائها؛ بل نقل عن الزهري أن عبد الملك أراد هدم بناء الحجاج - لما بلغه وصح عنده أن ما فعله ابن الزبير هو الحق الموافق لما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم أنه قال لولا حدثان قريش بكفر لنقضت الكعبة وجعلتها على قواعد إبراهيم, فمنعه الزهري من ذلك نظير منع مالك الرشيد. ومن تعدى وزاد في الطول, أو العرض فالذي يظهر أنه إن كان تيسر هدم ما زاده من غير فتنة ولا إخلال ببنائها الأول وجب وإلا امتنع؛ وهذا هو السبب والله أعلم في امتناع العلماء من تغيير بناء الحجاج. وفي مفهم القرطبي: ما فعله ابن الزبير كان صوابا, وقبح الله الحجاج وعبد الملك؛ لقد جهلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال عبد الملك - حين بلغته السنة -: لو سمعت ذلك قبل أن يهدم لتركته على بناء ابن الزبير, وهو غير معذور؛ فإنه كان متمكنا بالتثبت في السؤال ولم يفعل فاستعجل, فالله حسيبه ومجازيه, ولقد اجترأ على بيت الله وعلى أوليائه ا هـ.
"وسئل" رضي الله عنه لم أحب صلى الله عليه وسلم التوجه للكعبة مع كونه مأمورا بالتوجه لبيت المقدس, ومع أنه يجب الرضا بالمأمور ومحبته؛ ومن ثم امتنع الدعاء بتغيير الأحكام "فأجاب" بقوله: إنما أحب صلى الله عليه وسلم ذلك لمصالح تترتب عليه في ظنه؛ وهي كونها قبلة أبيه إبراهيم - صلى الله عليهما وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسلم - وكون العرب يعظمونها؛ فرجا إسلامهم بها وهم أكثر من بني إسرائيل, وكون الصلاة إليها أفضل, على ما استنبطه السبكي واستدل له بأن الزمان الذي أوجب الله تعالى فيه التوجه إليها أطول من الزمان الذي أوجب فيه التوجه إلى بيت المقدس, وكلما كان طلبه أكثر كان أفضل؛ ولأنها ناسخة لبيت المقدس, والناسخ

 

ج / 1 ص -200-        أفضل من المنسوخ ا هـ. وفيه نظر ظاهر؛ لأن الكلام كله في محبته صلى الله عليه وسلم التوجه إليها قبل وجوبه ونسخه لغيره, فالأحسن: الجواب الثاني, ويلزم على ما قاله أن يقال: لم لا. أحب صلى الله عليه وسلم الرجوع إلى مكة؛ لأن الصلاة فيها عندنا أفضل منها بالمدينة بأضعاف مضاعفة؟ وجوابه أنه - صلى الله عليه وسلم - علم أن صلاته كالمهاجرين في المدينة كفضلها بمكة؛ لأنهم أخرجوا منها كرها؛ فاستمر لهم ثواب حسناتها أخذا من خبر: "إذا سافر العبد, أو مرض كتب له ما كان يعمله صحيحا مقيما". وزوال الإكراه بفتح مكة لا يقتضي طلب الرجوع إليها؛ لأنها تركت لله ومن ترك شيئا لله تعالى لا يرجع فيه. ووجوب الرضا بالمأمور ومحبته المذكورين في السؤال لا يمنعان طلب الأفضل من حيثية ما فيه من زيادة القرب, وامتناع طلب تغيير الأحكام محله في زمن لا يقبل ذلك؛ كما بعد موته صلى الله عليه وسلم بخلافه قبله؛ لجواز النسخ, فلم تمتنع إرادة التغيير لتلك المصالح السابقة والله أعلم بالصواب.

باب صفة الصلاة.
"وسئل" رضي الله عنه - وحشرني في زمرته - عن تقبيل اليدين بعد كل دعاء خارج الصلاة هل له أصل كمسح الوجه بهما أم لا؟ وإذا كان له أصل فهل هو صحيح, أو خبره ضعيف "فأجاب" - فسح الله في مدته -: بأني لم أر له أصلا صحيحا ولا ضعيفا بعد مزيد البحث والتفتيش؛ فلا ينبغي فعله.
"وسئل" - أمدنا الله من مدده -: عن وجوب مقارنة النية بالتكبير, هل الكافي مقارنة المجموع من النية بالمجموع من التكبير أم لا بد من مقارنة المجموع منها بكل جزء منه فإذا قلتم بالأول فلا كلام, وإن قلتم بالثاني فهل المراد بالإجزاء الإجزاء من غير واسطة, أو الإجزاء الأعم من أن تكون بواسطة أم لا فإذا قلتم بالثاني فهل تعتبر حروف: الله أكبر تسعة أم ثمانية, بعد المدغم واحدا؛ فحينئذ يكون استحضار النية في هذه الحروف التسعة, أو الثمانية, فتكون النية مستحضرة ثماني مرات, أو تسع مرات. ولا ينافي ذلك كون القصد واحدا ثابتا؛ لأنه باعتبار استحضاره بهذه الحروف متعدد, فهل الأمر كما زعمه السائل أم لا؟ "فأجاب" رضي الله عنه: بأن المراد بمقارنة النية للتكبير أن يستحضر ما يعتبر في النية من قصد الفعل والتعيين ونية الفرضية, ويجعل هذه الثلاثة حاضرة في قلبه ثم ينطق ب "الله أكبر" بحيث تقع جميعها وتلك الثلاثة حاضرة في قلبه لم يعزب عنه منها شيء. وبهذا تعلم أنه لا تكفي مقارنة المجموع من النية بالمجموع من التكبير ولا بجميعه, ولا نظر لكون حروف التكبير تسعة أو ثمانية وأن النية ليست مستحضرة ثمان مرات ولا تسع مرات؛ لما تقرر من أن القصد وما معه لا بد أن يكون جميعه موجودا مستحضرا من حين النطق بالهمزة إلى النطق بالراء, ومتى عزب واحد من الثلاثة ثم عاد - ولو على الفور - وإن فرض أنه عاد قبل مضي.

 

 

ج / 1 ص -201-        حرف من التكبير - كما شمله كلامهم - لم تصح الصلاة. وهذا عسر جدا إلا على من صفا قلبه ونار سره؛ فإنه سهل عليه, ومن ثم أوجبه الشافعي رضي الله عنه ظنا منه أنه سهل, وأن القلوب بها من الصفا ما بقلبه, لكن لما اختبر متأخرو أصحابه القلوب وعالجوها, رأوا ذلك يكبر عليها ويشق فاختاروا من عند أنفسهم الاكتفاء بالمقارنة العرفية بحيث يعد عرفا أنه مستحضر للصلاة؛ وذلك يحصل بمقارنتها لأول التكبير. وقد بالغ إمام الحرمين في الانتصار لهذا والقدح في الأول حتى زعم أنه محال, وليس كما زعم على العموم إذ لا يستحيل إلا في حق قلوب لم تتحل بحلية الصفاء ولم تخل من الأغيار والوساوس النفسانية, وهذا مقام يستدل به على عظم مقام الشافعي رضي الله عنه كما أشرت إليه أولا, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عن المصلي إذا عزبت النية قبل قوله الله أكبر, فهل يرجع لابتدائه مرة أو تجزئه إذا تذكرها في آخر الإحرام؟ وإذا أراد هذا المصلي أن يقنت عند حدوث بعض النوازل من عدو, أو غيره كما ذكروا وأتى بالدعاء المأثور, ثم ثنى على أثره بقراءة الآية التي في سورة نوح, صلى الله عليه وسلم هل ذكر السادة العلماء في الزيادة على الدعاء المأثور وإذا لم يكن فيما سألت نقل ينص به على قراءته الآية المذكورة وهي: قوله تعالى:
{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح: 10] فإذا لم يقرأها في الصلاة لعدم النقل فيها فهل إذا دعا بقوله: اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا, هل تبطل صلاته أم لا؟ "فأجاب" - نفع الله به - بأنه لا بد من اقتران النية وجميع ما يعتبر فيها بجميع أجزاء قوله الله أكبر, ومتى عزب شيء من أجزاء النية عند شيء من حروف الله أكبر لم تنعقد الصلاة. هذا هو المذهب, واختار جماعة من جهة الدليل الاكتفاء بالمقارنة العرفية بحيث يعد أنه مستحضر للصلاة؛ فعليه لا يضر عزوبها عند بعض حروف الله أكبر, ويكره قراءة الآية المذكورة قبل القنوت, أو بعده, ولا بأس بقوله: اللهم إنا نستغفرك. إلخ, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - فسح الله في مدته - في أن المصلي يقول: أصلي فرض صلاة الظهر أو صلاة الظهر, وهل في هذا خلاف وما الصحيح في ذلك؟ "فأجاب" بقوله: فرق بعضهم بين فرض صلاة الظهر وفرض الظهر, فقال: إن الأولى صحيحة بخلاف الثانية؛ لأن الظهر اسم للوقت لا للعبادة وهو فرق ضعيف, والمعتمد الصحة في كل منهما, وما علل به ممنوع, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - نفع الله بعلومه - عما لو نسي قراءة السجدة في الأولى من صبح يوم الجمعة, الجمعة أو سبق بالأولى, هل يسن له قراءتها في الثانية أم لا؟ "فأجاب" - أمدني الله من مدده -: بأن هذه المسألة معلومة مما قالوه في نظيرها؛ وهو قراءة الجمعة, أو سبح في أولى الجمعة والمنافقون, أو الغاشية في ثانيتها, من أنه إذا ترك قراءة الجمعة في الأولى فإن قرأ بدلها المنافقون قرأ.

 

ج / 1 ص -202-        الجمعة في الثانية, وإذا قرأ غيرها قرأهما في الثانية سواء نسي ذلك أم تعمده؛ لئلا تخلو صلاته منهما, فإن قيل يلزم من جمعهما في الثانية تطويلها عن الأولى - وهو مكروه. قلنا: محل كراهته إذا لم يرد الشرع به وهنا ورد الشرع به؛ إذ المنافقون أطول من الجمعة, وأيضا ففضيلة تطويل الأولى على الثانية لا تقاوم فضيلة السورتين, كما قالوه وأفهم كلامهم أنه يقرؤهما في الثانية؛ وإن كان الذي قرأه في الأولى بعدهما, وهو متجه خلافا لمن حمله على ما إذا قرأ ما قبلهما؛ لأنه تعارضت مصلحة ترتيب المصحف وأن لا تخلو صلاته عن هاتين السورتين فقدم الثاني لمصلحته الخاصة. هذا ما ذكروه فيما يقرأ في صلاة الجمعة, ويأتي نظيره فيما يقرأ في صبحها؛ فيقال: إذا ترك قراءة الم تنزيل السجدة في الأولى وقرأ غيرها مما فوقها, أو تحتها قرأها في الثانية, وإن تعمد لئلا تخلو صلاته عنها, ويأتي ما مر من الإشكال والجواب, وكتركها من الأولى ما لو سبق بها فالذي يتجه أخذا مما مر؛ أنه يسن له قراءتها في الثانية لئلا تخلو صلاته عنها. وواضح أن الكلام في مأموم يندب له قراءة السورة بأن يكون بعيدا عن الإمام لا يسمعه, أو يسمع صوتا لا يفهمه, أما المأموم الذي يسمع إمامه فإنه لا يخاطب بالسورة. نعم, إذا سبق هذا فثانية الإمام التي يقرأ فيها هل أتى, أولاه؛ فإذا قام بعد سلام إمامه ليأتي بثانيته فهل يقرأ فيها هل أتى وحدها؛ لأن أولاه قرأ فيها الإمام, وقراءته قائمة مقام قراءة المأموم الذي يسمعه, أو الجمعة وهل أتى؛ لأن أولاه لم يقرأ فيها هو ولا من يقوم قراءته مقام قراءته الجمعة, فكان بمنزلة ما لو قرأ هل أتى في أولاه, ومن قرأها في أولاه يسن له قراءتهما في الثانية, كل محتمل, والثاني هو الأقرب فيسن له قراءتهما في الثانية؛ لئلا تخلو صلاته عنهما, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - نفع الله بعلومه ومتع بوجوده المسلمين - هل يضع المصلي يديه حين يأتي بذكر الاعتدال كما يضعهما بعد التحرم أو يرسلهما؟ "فأجاب" رضي الله عنه بقوله: الذي دل عليه كلام النووي في شرح المهذب - أنه يضع يديه في الاعتدال كما يضعهما بعد التحرم وعليه جريت في شرحي على الإرشاد وغيره, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه هل يجب وضع أعضاء السجود دفعة واحدة؟ "فأجاب" - نفع الله به - ذكر جمع وجوب ذلك وليس ببعيد, وإن قيل ظاهر كلام الأصحاب خلافه, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عما لو حرك الشخص يديه معا في الصلاة, هل تحسب حركتهما إذا وقعتا معا فيها حركة أم حركتين وكذا الرجلان حكمهما؟ "فأجاب" بقوله: الذي اقتضاه كلامهم أن حركة اليدين تحسب حركتين سواء وقعتا معا أم مرتبا, حتى لو حركهما مع رأسه بطلت صلاته؛ لأنه وجد منه ثلاثة أفعال متوالية وعلى ذلك جريت في شرح الإرشاد وعبارته: كثلاث خطوات - بضم الخاء - وإن كانت بقدر خطوة مغتفرة وثلاث مضغات وتحريك

 

ج / 1 ص -203-        يديه ورأسه, ولو معا؛ أخذا من قولهم: لا فرق عند كثرة الأفعال بين كونها من جنس واحد, أو أكثر انتهت.
"وسئل" رضي الله عنه عن شخص عليه فوائت كثيرة أراد أن يفرقها مع مؤدياته؛ لعسر تواليها عليه, فهل يسن له تقديم كل منها على المؤداة التي يريد أن يصليها معها, ولا يفوته بذلك فضيلة أول الوقت وإذا أخرها عن الصبح, أو العصر تكون مكروهة لقول الرافعي كما لو تعمد تأخير فائتة؛ ليقضيها في هذه الأوقات, أو لا؟ "فأجاب" بقوله: المفهوم من كلامهم ندب تقديم الفائتة في أول وقت الحاضرة عليها؛ إذ المحافظة على الجماعة أولى منها على أول الوقت, وقد قال النووي من وجد إماما يصلي الحاضرة وعليه فائتة صلى الفائتة منفردا, ثم إن كان أدرك الحاضرة معهم فذاك, وإلا صلاها منفردا أيضا ا هـ. فإذا قدمت الفائتة على الجماعة المقدمة على أول الوقت, فتقديمها عليه أولى. ويؤخذ من ذلك أنه لا تفوته فضيلة أوله لكن لو قيل محله فيمن لم يتمكن من فعلها قبل الوقت لكان له وجه, وإذا قضاها بعد العصر, أو الصبح لم تكره. ومراد الرافعي بما ذكر في السؤال ما إذا أخر الفائتة لأجل إيقاعها في وقت الكراهة من حيث كونه وقت كراهة, وهنا لم يقصد مؤخرها إلا التخفيف على نفسه, فلم يكن فيه مراغمة للشرع.
"وسئل" عمن قرأ:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ} [الفلق:1], على نية أن يكمل سورة الفلق فطرأ له أن يقرأ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] فبنى على ما أتى به مما ذكر فهل تحصل له قراءة سورة كاملة؟ "فأجاب" رضي الله عنه بقوله: نعم, تحصل له لاتفاق السورتين في هذا اللفظ الذي أتى به, وقصده لم يتغير من قرآن إلى غيره حتى يكون صارفا بل من قرآن إلى قرآن آخر وهو لا يضر.
"وسئل" رضي الله عنه بما صورته: ورد قراءة النظائر في تهجده صلى الله عليه وسلم وهي عشرون سورة على غير ترتيب مصحف الإمام, فهل الأولى لمن أراد قراءتها في تهجده اتباع ما ورد أو لا؛ لأن السنة التوالي على ترتيب المصحف "فأجاب" بقوله: الوارد عدها بالواو, قال شيخ الإسلام ابن حجر وقع سرد ذلك في رواية أبي داود عن ابن مسعود قال: الرحمن والنجم في ركعة, واقتربت والحاقة في ركعة, والطور والذاريات في ركعة, ثم قال: والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة, وذكر قبل ذلك أن آخرهن من الحواميم حم الدخان وعم يتساءلون وقال أيضا عن الأعمش هن عشرون سورة؛ أولاهن: الرحمن؛ وآخرهن: الدخان. وقال أيضا: والذاريات والطور وإذا الشمس كورت والدخان ا هـ. ولا ينافيه قراءة السور المذكورة على ترتيب المصحف؛ لأنه إذا كانت الطور والذاريات مثلا في ركعة حصل المقصود بتقديم الذاريات وتأخيرها. والحديث لا ينافيه لكن إذا قدمت الذاريات حصل سنتا الترتيب والتوالي المعهود في المصحف, بخلاف ما لو قدمت الطور فإنه لا يحصل إلا

 

ج / 1 ص -204-        التوالي وعلى كل حال يتعين تقديم الرحمن على النجم في الركعة الأولى, وتأخير الدخان في الأخيرة لقوله: أولاهن: الرحمن, وآخرهن: الدخان. وأما التوالي فلا يمكن إلا في بعض السور؛ لا في الرحمن والنجم؛ لأن بينهما فاصلا لكن عدم التوالي معهود لقراءة السجدة وهل أتى في صبح الجمعة والكافرون والإخلاص في أماكنهما المعروفة, فتسن المداومة على هؤلاء العشرين سورة في التهجد؛ للاتباع وإن لم يكن بينهما توال قياسا على ما ذكر.
"وسئل" رضي الله تعالى عنه عمن ردد كلمة من الفاتحة ثلاث مرات لأجل مخرج حرف, هل يستأنف القراءة أم لا؟ "فأجاب" بقوله: حيث ردد الكلمة التي هو فيها ثلاثا, أو أكثر لم تبطل قراءته ولا موالاته؛ سواء كان لعذر أم لغيره.
"وسئل" - فسح الله في مدته - عمن أفسد صلاته في الوقت هل يصليها فيه أداء أو قضاء؟ "فأجاب" بقوله: من أفسد صلاته في الوقت - ولو تعديا - أعادها فيه أداء لا قضاء؛ خلافا للقاضي حسين ومن تبعه؛ لأن الأداء كما مشى عليه الأصوليون والفقهاء فعل العبادة في وقتها المقدر لها شرعا, والقضاء بخلافه, وهذه مفعولة في وقتها المقدر لها شرعا, فلا وجه لتسميتها قضاء إلا أن يريد القاضي بذلك أنها كالقضاء في العصيان؛ بجامع الإثم بالقضاء من حيث التأخير. والإثم بهذه أولى من حيث القطع فحينئذ يتجه كلامه نوع اتجاه, ويلزمه إن كان أراد بالقضاء حقيقته - أنهم لو شرعوا في الجمعة, ثم أفسدوها في الوقت, والوقت متسع لا يعيدونها جمعة بل ظهرا؛ لأن الجمعة لا تقضى وهو بعيد, ولا أظن القاضي يلتزمه.
"وسئل" - فسح الله في مدته - عمن مضى عليه عشرون سنة مثلا وهو يصلي الظهر قبل وقتها؛ فهل يجب عليه قضاء عشرين سنة سنة أو قضاء صلاة واحدة "فأجاب" بقوله: الذي أفتى به البارزي الثاني؛ بناء على أنه لا يشترط نية القضاء؛ لأن صلاة كل يوم تكون قضاء لليوم الذي قبله, لكن مشى ابن المقري على خلافه. وتحقيقه أنه إن كان نوى كل يوم فعل الصلاة المفروضة عليه من غير تقييد بالتي ظن الآن دخول وقتها تعين ما قاله البارزي؛ إذ لا يجب التعرض للأداء والقضاء ويصح أحدهما بنية الآخر عند الجهل كغيم ونحوه, ومن ثم اشتغلت ذمته بمقضية ومؤداة من جنس واحد؛ كالظهر فنوى الظهر المفروضة عليه من غير تعيين صح خلافا لما اعتمده الأذرعي وحصلت له إحداهما, ثم تحصل له الأخرى بنية كذلك, كما اقتضاه كلام المجموع وغيره؛ تفريعا على ما تقدم وإن نوى كل يوم الفرض الذي ظن الآن دخول وقته, عبر عنه بالأداء لم تصح صلاته فرضا؛ لأنه ينوي كل يوم صلاة لم يدخل وقتها ولا أثر لظنه دخوله, وعلى هذا يحمل ما قاله ابن المقري. وإنما لم تقع صلاته هذه عن مثلها الذي في ذمته؛ لأنه صرفها عن ذلك بقصده بها التي ظن دخول وقتها, فحيث بطلت لتبين خطإ ظنه لا يمكن أن تقع عما عليه. وفي التتمة: تعيين اليوم الذي فاتت فيه الصلاة ليس بشرط, فلو عين وأخطأ لا يسقط الفرض عنه؛ لأن وقت الفعل أي: القضاء

 

ج / 1 ص -205-        غير معين له بالشرع وإنما يقضي عن ذمته والتي عليه ما نواها, والتي نواها فليست عليه, وأورده في الخادم - كابن الرفعة - على عدم اشتراط نية القضاء والأداء. وصحة كل بنية الآخر إلزاما على ابن الصباغ وأجاب عنه نقلا عن صاحب الوافي بما يحقق ما ذكرناه, فتأمله ولا تغتر بقول صاحب الذخائر: يمكن التزام ذلك.
"وسئل" - فسح الله في مدته - عن قولهم تكره الصلاة مع النظر لما يلهي كثوب له أعلام هل المراد ما يلهي بالفعل, أو ما من شأنه ذلك؟ "فأجاب" بقوله: الظاهر أن المراد ما من شأنه ذلك؛ لأنه بصدد أن ينظر إليه فيلتهي به, فإن فرض أنه لم يره لعمى, أو تغميض عينيه أو نحو استغراقه في معاني متلوه فلا كراهة, على ما في الأخيرة من وقفة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال - لما صلى في ثوب له أعلام -:
"ألهتني أعلامه" وليس المراد وقوع اللهو بها قطعا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم منزه عن المكروه بل معصوم من وقوعه منه مكروها؛ فالمراد قاربت أن تلهيني, أو ألهاني التحفظ عن اللهو بها عما كنت بصدده مما هو أعلى من ذلك. وإذا وقع ذلك له صلى الله عليه وسلم فغيره أولى, فالأوجه أنه حيث كان ينظر ذلك كرهت صلاته؛ لأن من شأن النظر إليه اللهو به, فأدير الحكم عليه من غير نظر إلى أحوال المصلين.
"وسئل" - نفع الله به - هل يقنت للوباء والطاعون والطاعون أو لا؟ وما الفرق بينهما؟ "فأجاب" بقوله: الطاعون أخص من الوباء, والأوجه أنه يقنت لرفع الوباء الخالي عن الطاعون ولا يقنت لرفع الطاعون, على ما اختاره بعض المتأخرين؛ لأن الميت به بل وفي زمنه - وإن لم يمت به - بل وفي غير زمنه إذا مكث في بلده أيامه؛ صابرا محتسبا راضيا بما ينزل به - يكون شهيدا. والشهادة لا يسأل رفعها بخلاف الميت بمطلق الوباء, فإنه لا يكون شهيدا؛ فلذا شرع القنوت لرفعه. وقال جمع: ويدل له كلام شرح مسلم, وكلام الرافعي: يقنت لرفعه وعلله بعضهم بأنه يفني العلماء والصلحاء حتى يختل نظام الدين, ففي رفعه مصلحة من هذه الحيثية, ويؤيده سؤال النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل الطاعون مدينته الشريفة, قالوا: ومن حكمه؛ أنها صغيرة فلو دخلها لربما أفنى أهلها؛ ومنها أنه لا يصدر للمسلم إلا من كفرة الجن, ورواية "فإنه طعن إخوانكم" ليس المراد بها أخوة الدين, على أن فيها مقالا. ويؤيد ذلك أيضا قوله: صلى الله عليه وسلم
"ما فشا الزنا في قوم إلا سلط عليهم الطعن" ففيه دليل على أنه عقوبة, وإن كان شهادة, أو يقال: كونه شهادة محضة إنما هو بالنسبة للكمل الذين حفظوا من المخالفات, وأداموا الطاعات.
"وسئل" - فسح الله في مدته - عمن قال: الحمد لله رب العالمين, بكسر اللام, فهل تبطل صلاته أو لا؟ "فأجاب" بقوله: يحتمل أن يقال: تبطل؛ لأنه غير المعنى؛ إذ العالمين بفتح اللام جمع عالم؛ وهو ما سوى الله تعالى, وبكسرها جمع عالم, وهو من قامت به صفة العلم, ويحتمل أن يقال: لا تبطل؛ لأنه لم يغير المعنى من أصله, وإنما اقتصر على بعض أفراد العام

 

ج / 1 ص -206-        وأيضا فذلك الذي اقتصر عليه يفهم ما حذفه؛ لأنه إذا كان رب العالمين فأولى غيرهم. والذي ينبغي ترجيحه - الأول؛ لأن تغيير المعنى ليس المراد به - فيما يظهر - رفع المعنى المقصود من أصله؛ بل أن يصير وضع الكلمة لا يفهم المعنى المقصود بتمامه, كما هنا.
"وسئل" - نفع الله به - بما لفظه: حيث لا يسن للمأموم قراءة السورة, وفرغ من فاتحته قبل ركوع الإمام, فهل يسكت, أو يقرأ, أو يشتغل بذكر وهل إذا فرغ من التشهد الأول قبله, يسكت, أو يشتغل ببقية التشهد مع الدعاء بعده "فأجاب" بأن المأموم إذا فرغ من فاتحته ولم يسمع قراءة الإمام؛ كأن بعد عنه أو سمع صوتا لا يفهمه؛ أو كان في سرية, وفي الثالثة, أو في الرابعة من الرباعية, سن له أن يقرأ, أو يدعو, والقراءة أولى؛ لأن القيام محلها, ولا يسكت لأن الصلاة لا سكوت فيها إلا في مواضع ليست هذه منها. وكذا إذا فرغ من التشهد الأول قبل إمامه فإنه يسن له أن يشتغل بالدعاء لا بالصلاة على الآل؛ لأنها مكروهة في التشهد الأول؛ لأن فيها نقل ركن قولي على قول وهو مبطل على قول.
"وسئل" رضي الله عنه بما لفظه: إذا قام الإمام من التشهد الأول قبل أن يفرغ المأموم منه فهل يتابع الإمام أو يتمه فإن قلتم بالمتابعة فذاك, وإن قلتم يتمه ففرغ منه وقام, فهل يكون كالمسبوق فإن قلتم نعم فذاك, وإن قلتم لا فأتم فاتحته, فهل له حكم التخلف بعذر, أو ما الحكم فيها؟ "فأجاب" بأن المتأخرين قد كثر كلامهم واضطرابهم في هذه المسألة. وقياس كلام الشيخين وغيرهما في مسألة ما لو ترك إمامه القنوت حيث قالوا: يسن له الإتيان به إن كان أدركه قبل فراغه من السجدة الأولى, وفي المسبوق حيث قالوا: يسن له الاشتغال بالافتتاح والتعوذ إن كان ظن إدراك الفاتحة لو أكمله وإلا فلا, وإنما لم يكمل المأموم السورة بعد ركوع الإمام؛ لأنها ليست بعضا, بخلاف التشهد. والمحذور إنما هو التخلف للإتيان به لا إتمامه, وإذا تخلف لإتمامه وأدرك الإمام في أثناء فاتحته, فالقياس أنه كمسبوق اشتغل بنحو الافتتاح فركع إمامه في أثناء فاتحته, وحكمه أنه يجب عليه أن يتخلف بقدر ما فوت, فإذا قرأ بقدره فإن لم يرفع الإمام رأسه من الركوع ركع معه, وكان مدركا للركعة وإلا فهل يكون كالموافق يجري على نظم صلاة نفسه ما لم يسبق بأكثر من ثلاثة أركان طويلة, أو يتابعه فيما هو فيه وتفوته الركعة قضية كلام الشيخين كالبغوي الأول, ومشى عليه كثيرون من المتأخرين. وكلام المجموع والتحقيق يدل عليه؛ فهو الأقرب, وإن مشى جمع من الأصحاب وتبعهم جمع متأخرون على الثاني.
"وسئل" - نفع الله بعلومه - هل الموالاة بين التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة أم لا؟ "فأجاب" بأن الذي دل عليه كلامهم عدم الوجوب, بل قول ابن الرفعة عن المتولي: أن موالاة التشهد واجبة كالفاتحة فيه وقفة لكنهم اعتمدوه.
"وسئل" رضي الله عنه عمن أحرم بفرض الظهر مثلا ثم وقع في قلبه أنه أحرم بها على.

 

ج / 1 ص -207-        وجه الاحتياط أو معادة بنية فرض الوقت "فأجاب" بقوله: القاعدة في ذلك أن التردد إن كان بين مبطلين, أو مبطل ومصحح يأتي فيه التفصيل بين طول الزمن ومضي ركن وضدهما, وهو مشهور كالشك؛ في أصل النية؛, أو شرط من شروطها. وإن كان بين صحيحين لم يؤثر؛ كما لو أحرم بالظهر ثم شك هل نواها مثلا أو العصر, ثم بان له أنه نوى العصر لم يؤثر شكه المذكور وإن طال زمنه وفعل معه أركانا, إذا تقرر ذلك فالمعادة للاحتياط: تارة تكون باطلة؛ بأن يقصد بها مجرد الاحتياط ولا جماعة يعيد معهم, فهذه باطلة؛ لأنها غير مطلوبة ويلزم من عدم طلب الصلاة من حيث كونها صلاة - بطلان فعلها؛ وتارة تكون صحيحة بأن جرى في صلاته الأولى قول بالبطلان, فيسن له إعادتها ولو منفردا كما بينته في شرح العباب وغيره. والمعادة مع جماعة: تارة تكون صحيحة؛ بأن ينوي بها الفرض؛ أي: صورة, أو ما هو فرض على المكلف في الجملة؛ وتارة تكون غير صحيحة على ما في المنهاج وغيره بأن ينوي بها صلاة الوقت فإذا أعاد مع جماعة وتردد بين نيته الفرض بالمعنى السابق, ونيته صلاة الوقت, فهذا تردد بين صحيح وباطل على ما في المنهاج وغيره, فيأتي فيه التفصيل السابق. وبين صحيحين على ما في الروضة وغيرها فلا يضر مطلقا وإذا أعاد وحده وتردد هل إعادته لأجل جريان قول ببطلان, أو لا, أو لمجرد الاحتياط من غير جريان قول كذلك يأتي فيه التفصيل لما علمت أنه تردد بين صحيح وباطل, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عن قنوت النازلة هل ورد فيه ألفاظ مخصوصة مثلا أو لا وهل يقرأ معه قنوت الصبح؟ وهل يقوم مقامه قنوت الصبح مثلا أو لا؟ "فأجاب" بقوله: الذي ورد في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قنت شهرا في الصلوات الخمس يدعو على قاتلي أصحابه القراء ببئر معونة, ويقاس بالعدو غيره. والقول بمنع القنوت لها, قال في المجموع: غلط مخالف لهذه السنة الصحيحة, وفيه عن الشيخ أبي حامد أن قول الطحاوي: لم يقل به فيها غير الشافعي - غلط منه بل قنت علي رضي الله عنه في المغرب بصفين ا هـ. وصرح أئمتنا بأن لفظ القنوت في الصبح والنازلة والوتر في نصف رمضان الثاني: اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت..إلخ.
"وسئل" - نفع الله به - عمن تعلم الفاتحة وفي حرف منها خلل؛ لثقل في اللسان هل تجزيه صلاته أو لا وهل يجب التعلم في جميع عمره أو لا وهل تصح الجمعة إذا لم يكمل العدد إلا به مثلا أو لا؟ "فأجاب" بقوله: إن كان ذلك الخلل نحو فأفأة بأن صار يكرر الحرف صحت صلاته والقدوة به, لكنها مكروهة, وتكمل الجمعة به, ولا يلزمه التعلم. وإن كان لثغة؛ فإن كانت يسيرة بحيث يخرج الحرف صافيا وإنما فيه شوب اشتباه بغيره فهذا أيضا تصح صلاته وإمامته وتكمل الجمعة به, ولا يلزمه التعلم؛ وإن كان لثغة حقيقية؛ بأن كان يبدل الحرف بغيره فتصح صلاته لا القدوة به, إلا لمن هو مثله؛ بأن اتفقا في الحرف المبدل وإن.

 

ج / 1 ص -208-        اختلفا في البدل؛ فلو كان كل منهما يبدل الراء لكن أحدهما يبدلها لاما والآخر عينا صح اقتداء أحدهما بالآخر. وإن كان أحدهما يبدل الراء والآخر يبدل السين لم يصح اقتداء أحدهما بالآخر. هذا في غير الجمعة, أما فيها فهي مذكورة في العباب وشرحي له, وعبارتهما: لو كان في البلد أربعون أميا فقط واتفقوا أمية بحيث يجوز اقتداء بعضهم ببعض قال البغوي وأقره الأذرعي وغيره: ينبغي أن تلزمهم الجمعة؛ لصحة اقتداء بعضهم ببعض,, أو كان في البلد أربعون وبعضهم - ولو واحدا - أمي وقد قصر في التعلم كما تفهمه العلة الآتية, فلا تلزمهم الجمعة ولا تنعقد بهم لارتباط صلاة بعضهم ببعض, فأشبه اقتداء قارئ بأمي, أما إذا لم يقصر الأمي في التعلم فتصح الجمعة إن كان الإمام قارئا, وكذا لا تلزمهم الجمعة ولا تنعقد بهم إذا اختلفوا أمية؛ كأن عرف بعض أول الفاتحة وبعض آخرها؛ لعدم صحة صلاة بعضهم ببعض, كما عرف ذلك مما مر في صفة الأئمة. قال البغوي أيضا: ولو جهلوا كلهم الخطبة لم تجز الجمعة لانتفاء شرطها, بخلاف ما إذا جهلها بعضهم, ومراده بجوازها في الشق الثاني ما يصدق بالوجوب؛ فإنه إذا عرفها واحد من الأميين المستوين لزمتهم كما مر عنه, ثم رأيته صرح بذلك في موضع فقال: لو أحسن الخطبة واحد منهم أي: وقد اتفقوا أمية كما تقرر فقد وجد شرط الجمعة فجاز لهم إقامتها بل وجب, انتهت عبارة الشرح المذكور. ومن كان بلسانه خلل في الفاتحة مثلا فمتى رجي زواله عادة لتعلم لزمه - وإن طال الزمن - ومتى لم يرجه كذلك لم يلزمه.
"وسئل" رضي الله عنه هل يشترط في المبلغ أن يكون ثقة مصليا؟ "فأجاب" بقوله: نعم, يشترط في المبلغ أن يكون ثقة, وكذا الإمام لا يجوز الاعتماد على مجرد صوته, إلا إن كان ثقة, وكذلك المؤذن لا يجوز الاعتماد على صوته إلا إن كان ثقة, وإن صح أذان الفاسق؛ لأن القصد منه شيئان؛ إظهار الشعار؛ والإعلام بدخول الوقت. والأول موجود في أذان الفاسق؛ ولذلك صح أذانه, والثاني غير موجود فيه فلذلك لم يجز اعتماد صوته وأما كون المبلغ مصليا, أو طاهرا فغير شرط عندنا؛ لأن القصد الدلالة على فعل الإمام حتى يتبعه المقتدون, وهذا حاصل بتبليغ الثقة, وإن كان غير مصل ولا متطهر, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - أدام الله النفع بعلومه - هل للطاعون قنوت مخصوص فتفضلوا به إن كان كان وإلا فيجمع قنوت له, وهل أحد من الحكماء ذكر له دواء جرب فنفع "فأجاب" رضي الله عنه بقوله: اختلف المتأخرون في القنوت للطاعون؛ فكثير منهم على أنه لا يقنت له؛ لأنه شهادة, وكثير منهم على أنه يقنت له وهو المعتمد, وكونه شهادة لا يمنع القنوت له, كما أن هجوم الكفار على المسلمين يقتضي القنوت له, كما صرحوا به وإن كان المقتول منهم شهيدا, على أنه من النوازل العظام؛ إذ فيه موت العلماء والصلحاء وبقاء الرعاع والجهلة والطغام, وفي

 

ج / 1 ص -209-        ذلك من اختلاف شمل الدين ما لا يخفى, فطلب صرفه لذلك؛ وإن كان في نفسه شهادة, وعليه فلا قنوت له مخصوص, بل يقنت فيه بقنوت الصبح لكن يتعرض في آخره لسؤال رفعه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دعا بصرفه من أهل المدينة ونقل وبائها إلى الجحفة وقد ذكر الحكماء له أدوية كثيرة من أعظمها شم العنبر والاحتراز عن الهواء ما أمكن واستعمال الأدوية القليلة الكيموس التي لا تورث ثقلا ولا تخليطا, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عن الركعتين اللتين يصليهما الناسكون بعد المغرب لبقاء الإيمان هل ينوي بهما بقاء الإيمان مثلا أو مطلق فعل الصلاة؟ وفيما بعد المغرب غير سنتها من صلاة الأوابين وغيرها هل تضاف في المغرب في النية مثلا أو لا وكيف ينوي به وفي سنة الظهر المتقدمة والمتأخرة أيجب تعيينها بالتي قبلها والتي بعدها كما اقتضاه كلام المجموع, أو لا؟ إلا إذا أخر المتقدمة كما ذكره الإسنوي, أو لا يجب مطلقا وما الراجح والحري بالاعتماد, وإن قلتم بالوجوب فهل يلحق بها سنة المغرب والعشاء المتقدمة والمتأخرة, أو لا؟ وإن قلتم لا, فما الفرق بين الحكمين؟ "فأجاب" بقوله: الركعتان بين المغرب والعشاء سنة؛ فقد صرح الماوردي والروياني بندب صلاة الأوابين قالا: وتسمى صلاة الغفلة لحديث بذلك, وأكملها عشرون؛ لخبر أنه صلى الله عليه وسلم كان يصليها عشرين ويقول: هذه صلاة الأوابين, فمن صلاها غفر له. وكان السلف الصالح يصلونها قال الروياني: والأظهر عندي أنها دون صلاة الضحى في التأكيد ا هـ. وروي فيها أحاديث وآثار كثيرة, ذكر الحافظ عبد الحق منها جملة, قال جمع: ورويت ستا ففي الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"من صلى ست ركعات بين المغرب والعشاء كتبت له عبادة ثنتي عشرة سنة" وكذا رواه ابن ماجه لكن بزيادة: "لا يتكلم بينهن بسوء". وفي حديث غريب كما قاله ابن منده: "غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر". ورويت أربعا ورويت ركعتين, وهما الأقل ا هـ. فعلم أن تينك الركعتين يسميان صلاة الغفلة وصلاة الأوابين, وأما كونهما لبقاء الإيمان فهو لا أصل له؛ إذ لم نر من ذكره, ولا دليل له من جهة النقل ولا من جهة القياس. والمعنى؛ لأنه إن كان أريد بكونهما لبقاء الإيمان عود بركتهما على مصليهما حتى يحفظ في إيمانه - احتيج إلى إقامة دليل يخصصهما بذلك دون غيرهما من بقية النوافل والفروض أو الدعاء فيهما بخصوصهما بذلك, أو الشكر بهما بخصوصهما على بقائه إلى وقت فعلهما فهو تحكم محض, أو إلى أعم من ذلك فذلك غيب لا يعلم فاتضح بطلان زعم أنهما لبقاء الإيمان, وحينئذ فمن صلاهما ناويا بهما ذلك كانت صلاته باطلة بل ينوي بهما سنة الغفلة, أو سنة صلاة الأوابين فإن أطلق وقعتا نافلة مطلقة فلا يثاب عليهما إلا من حيث مطلق الصلاة دون خصوصها, وأما قول الحبيشي اليماني أن تينك الركعتين يفعلان للموت على الإيمان وذكر لهما دعاء فيه ذلك وغيره؛ فهو مما انفرد به, وليس الرجل بحجة في مثل ذلك على أنه لم يسنده لخبر ضعيف فضلا عن صحيح بل ولا لأثر كذلك؛ فدل على أن هذا شيء انفرد به هو؛ إذ مثله ممن لا يتقيد بكلام

 

ج / 1 ص -210-        الأئمة وأدلتهم وإنما يقول ما يستحسنه من غير نسبة لقياس ولا غيره من الأدلة الضعيفة فضلا عن القوية, فالحق أنه لا يجوز فعلهما بنية البقاء على الإيمان الآن ولا إلى الموت لما قدمته مبسوطا, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. والظاهر من كلامهم أن صلاة الغفلة أقلها وما فوقه مستقلة بنفسها كالوتر بجامع أن كلا تفعل في وقت غيرها لكنها ليست من رواتبه؛ فحينئذ لا تضاف للمغرب فينوي بهما سنة الغفلة, أو سنة صلاة الأوابين, فإن أضافها للمغرب عامدا عالما بطلت صلاته؛ كما لو أضاف الوتر للعشاء فإن صلاته تبطل, كما اقتضاه كلامهم, خلافا لمن قال يصح أخذا من كلام الشيخين في مواضع أنه من الرواتب, ويجاب بأن معنى ذلك أنه منها باعتبار تقيده بوقت فرض هو العشاء لا باعتبار إضافته إليها, والمنقول المعتمد أنه لا بد في سنة الظهر من التعرض لكونها القبلية, أو البعدية سواء أخر القبلية عن الفرض أم لا, ومثلها في ذلك كل راتبة فيها قبلية وبعدية؛ كسنة المغرب وسنة العشاء. وما بحثه الإسنوي وغيره مما يخالف ذلك ضعيف كما جريت عليه في شرح العباب وغيره. وعبارة شرح العباب: ويكفي سنة الظهر أي: نية ذلك في راتبتها التي قبلها, أو التي بعدها, ظاهر هذا مع قوله السابق: كسنة الصبح أو الظهر, بل صريحه أنه لا يشترط في راتبة الظهر - ومثلها كل فريضة لها راتبة قبلها وراتبة بعدها - غير إضافتها إلى فرضها وهو فاسد؛ ففي المجموع وفي الرواتب تعين بالإضافة فينوي سنة الصبح, أو سنة الظهر التي قبلها, أو التي بعدها, وهو صريح في أنه لا يكفي الاقتصار على سنة الظهر مطلقا وتبعه السبكي والأذرعي وغيرهما ووجهه أن تعينهما إنما يحصل بذلك؛ لاشتراكهما في الاسم والوقت, وإن لم تؤخر المقدمة, كما يجب تعيين الظهر لئلا تلتبس بالعصر فاندفع قول الإسنوي: لا وجه لاشتراطه عند تقديم المقدمة, لا فيها ولا في المؤخرة, فإن أخرها احتملت الشرطية ا هـ. ثم رأيت المصنف قال في تجريده: الذي يعطيه كلام المجموع الاكتفاء بذلك فيهما لا ما فهمه الإسنوي أي: من الاشتراط, وفي المطلب ما يقتضيه ا هـ. وهو في غاية السقوط مع تأمل عبارة المجموع التي ذكرتها, انتهت عبارة شرح العباب وبها يعلم ما قدمته من أن المنقول المعتمد أنه لا بد من ذكر التي قبلها والتي بعدها مطلقا, أما إذا أخرت المقدمة فواضح؛ للاشتباه الظاهر حينئذ في الاسم والوقت, وأما إذا لم تؤخر فكذلك؛ لأن القصد بالنية التمييز, وعند الاشتراك اللفظي لا يحصل التمييز إلا بالوصف, فسنة الظهر مشترك بين القبلية والبعدية فلا مميز لبعض ما قد فاته عن بعض إلا بنحو التي قبلها, أو التي بعدها, فإن قلت التي بعدها لم يدخل وقتها إلى الآن فكيف احتيج إلى تمييزها؟ قلت: قد علمت أن سبب التمييز الاشتراك الواقع فيها وهذا حاصل سواء قدمت أو أخرت, وكون الخارج يخصص النية بالمقدمة لعدم دخول المؤخرة لا ينظر إليه, لأنه قرينة خارجية والقرائن الخارجية لا تخصص, سيما هنا؛ لأن مناط النية القلب, ولا ارتباط له بالقرينة, ألا ترى أنهم أوجبوا التعيين في الظهر مثلا, وقالوا: لئلا يشتبه بالعصر مع أنه لم يدخل وقته بل لم يكتفوا عن

 

ج / 1 ص -211-        تعيينه بصلاة الوقت لصدقه بفائتة تذكرها, وإن لم يكن تذكر فائتة, أو ليس عليه فائتة بالكلية, فعلمنا أنهم لا يعتدون في النيات بالقرائن الخارجية مطلقا, وإنما ينظرون إلى إمكان الالتباس باعتبار صدق الاسم وإن شهد الواقع بخلافه, فتأمل ذلك فإنه نفيس, والله أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه عن قول التعقبات: إذا قلنا بوجوب وضع هذه الأعضاء - وهو الأظهر - فلا بد من الطمأنينة بها؛ كالجبهة, ولا بد أن يضعها حالة وضع الجبهة حتى لو وضعها, ثم رفعها, ثم وضع الجبهة, أو عكس لم يكف؛ لأنها أعضاء تابعة للجبهة, وإذا رفع الجبهة من السجدة الأولى وجب عليه رفع الكفين أيضا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم
"إن اليدين تسجدان كما تسجد الجبهة, فإذا سجدتم فضعوهما, وإذا رفعتم فارفعوهما" رواه أبو داود وغيره. ولأصحاب مالك رضي الله عنه في ذلك قولان ا هـ. فصرح بوجوب الطمأنينة بها وبوجوب رفع الكفين من السجدة الأولى ولم نر مثل ما ذكره, فهل خالف غيره من الأئمة, أو خصص كلامهم بما ذكره, وما الراجح في ذلك؟ "فأجاب" بقوله: أما ما ذكره من وجوب الطمأنينة في وضع غير الجبهة قياسا على الجبهة فظاهر, وإنما التردد في أنه: هل يجب التحامل عليها كما يجب على الجبهة, أو لا يجب بل يسن والذي قاله شيخنا زكريا: الأول, والذي دل عليه كلام الروضة وأصلها؛ حيث جعلا الاعتماد على بطن القدمين من الأكمل, واعتمده الزركشي, وقال بعض شراح التنبيه: إن تعبيرهم بالوضع يفهمه هو الثاني, وجريت عليه في شرح العباب وغيره وأطلت في الانتصار له, وما ذكره من وجوب وضعها حالة وضع الجبهة ظاهر أيضا كما جريت عليه في شرح العباب مع الزيادة عليه, وعبارته: وتجب مقارنة وضعها لوضع الجبهة؛ لأنها تابعة لها فلو تأخرت عنها, أو تقدمت عليها لم يكف, كما بحثه ابن العماد. بل يتجه أنه لا بد من وضعها كلها مع وضع الجبهة في آن واحد فلو وضع يديه, ثم رفعهما ثم ركبتيه, ثم رفعهما, ثم رجليه ثم رفعهما, أو عكس والجبهة موضوعة في الجميع لم يكف؛ لأنه لا يسمى ساجدا إلا إذا اجتمع وضع الستة مع وضع الجبهة في آن واحد مع الطمأنينة, انتهت. وما ذكره من وجوب رفع الكفين ضعيف, والمنقول المعتمد أنه سنة, وعبارة شرح العباب: ولو وضعهما على الأرض حوله فكإرسالهما قائما, فإن أمن العبث بهما لم يكره, وإلا كره, نظير ما مر. وقول بعضهم: يجب رفعهما ووضعهما ثانيا, كما اقتضاه كلام المجموع ليس في محله بل كلام الأصحاب صريح في خلافه, وممن صرح بعدم الوجوب الشيخ أبو إسحاق وخبر أبي داود أن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه, وإذا رفعه فليرفعهما - محمول على رفعهما عن موضعهما في حال السجود على ما هو السنة, وهو أن يكونا بإزاء منكبيه؛ إذ يتعذر بقاؤهما على هذه الهيئة مع استواء جلوسه.
"وسئل" - نفع الله به - عما لو رفع المسبحة في التشهد عند: إلا الله, فهل يستحب رفعها إلى.

 

ج / 1 ص -212-        تمام الصلاة مثلا أو لا وقد نقل الشيخ زكريا في شرح الروض عن نص المقدسي أنه إذا رفع المسبحة في التشهد عند: إلا الله يقيمها ولا يضعها. وقال الجوجري في شرح الإرشاد أنه يعيدها إلى ما كانت عليه وليس في المسألة تصريح, فهل الأولى بالعمل قول نصر المقدسي أو لا؟ "فأجاب" بقوله: المعتمد ما قاله الشيخ نصر رحمه الله, وعبارة شرح العباب: قال الشيخ نصر المقدسي في كافيه أنه يقيمها ولا يضعها ولا يحركها ا هـ. وهو ظاهر في بقائها مرفوعة إلى السلام. وقول جمع متأخرين: لم نر فيه نقلا, والظاهر أنه يعيدها. بحث مخالف للمنقول كما علمت, وإن تبعهم المصنف بقوله: وفيه نظر, انتهت.
"وسئل" - نفع الله بعلومه - عمن راءى بأول جزء من صلاته؛ وهو التكبيرة الأولى مع النية هل تصح صلاته ظاهرا أم لا؟ "فأجاب" بقوله: إن النية حيث كانت جازمة مستوفية لشروطها المقررة في محلها, فالصلاة صحيحة منعقدة وإن فرض أنه قارن ذلك قصد دنيوي؛ ومن ثم قال أئمتنا: لو قيل له: صل ولك دينار, فصلى بذلك القصد, صحت صلاته. وقالوا أيضا لو أحرم بالصلاة بنية الصلاة والاشتغال بها عن غريم يطالبه صحت صلاته. وهذا ظاهر, وإنما الكلام في الثواب وقد حررت الكلام فيه في أوائل حاشية إيضاح النووي فانظره فإنه مهم. ولا أعلم أن أحدا بسط الكلام في ذلك ولا أنه جمع فيه ما جمعته مع تحريره وتنقيحه. ووقع للكمال الدميري والسراج بن الملقن وغيرهما أنهم نقلوا عن الفخر الرازي وأقروه أنه قال في تفسير قوله تعالى:
{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [لأعراف: 55]: أجمع المتكلمون على أن من عبد ودعا لأجل الخوف من العذاب والطمع في الثواب لا تصح عبادته, وأنه جزم في أوائل تفسير سورة الفاتحة بأنه لو قال أصلي لثواب الله أو الهرب من عقابه فسدت صلاته ا هـ. والعجب في تقرير أولئك له على ذلك مع علمهم بقول الأصحاب الذي قدمته فيمن صلى بقصد حصول الدنيا له, أو دفع الغريم عنه, وكأنهم فهموا أن مراد الفخر والمتكلمين ما إذا لاحظ في عبادته الخوف, أو الطمع مع ضمه إلى ذلك أنه لولا ذلك ما عبده وحينئذ بطلان الصلاة بذلك ظاهر؛ لأن الكلام في إسلام من جرد قصده إلى ذلك فحسب, لا أنه لا يعتقد استحقاق الله للطاعة والعبادة لذاته, ومن لم يعتقد ذلك فهو كافر جزما, ومن ثم كان هذا لا يقصده مسلم. وإنما غاية الأمر أن الناس يرجون بعبادتهم حصول الثواب والنجاة من العذاب. وهذا الرجاء, أو الخوف لا ينافي حصول الثواب, كيف؟ والله تبارك وتعالى أعلم بخلقه بما تفضل به عليهم من نيل الدرجات وإسباغ الهبات في مقابلة امتثالهم لأوامره واجتنابهم لنواهيه. وذكر فوائد الأمر والنهي يدل على أنه لا يضر رعاية تلك الفوائد ورجاء حصولها, وقد صرح الغزالي - رحمه الله تعالى - في الإحياء في مواضع بحصول الثواب وصحة النية وإن قارنت الرجاء والخوف بالمعنى الذي ذكرته؛ فقال - في أواخر مبحث النية والإخلاج / 1 ص -: غاية من مال قلبه إلى الدنيا وغلبت عليه أن يتذكر النار ويحذر نفسه عقابها, أو نعيم الجنة ويرغب نفسه فيها, فربما تنبعث له داعية ضعيفة فيكون ثوابه بقدر رغبته

 

ج / 1 ص -213-        ونيته, والطاعة على نية إجلال الله - لاستحقاقه الطاعة والعبودية - لا تتيسر للراغب في الدنيا, وهذه أعز النيات وأعلاها, ويعز من يفهمها فضلا عمن يتعاطاها. ونيات الناس أقسام؛ إذ منهم من يكون عمله إجابة لباعث الخوف فإنه يتقي النار؛ ومنهم من يعمل إجابة لباعث الرجاء وهو الرغبة في الجنة, وهذا وإن كان نازلا بالإضافة إلى قصد طاعة الله وتعظيمه لذاته وجلاله لا لأمر سواه - فهو من جملة النيات الصحيحة لأنه ميل إلى الموجود في الآخرة وإن كان من جنس المألوف في الدنيا ا هـ. كلام الغزالي, وهو كما ترى جازم بأن ذلك من النيات الصحيحة, وإنما خلافه أكمل وأفضل.
"وسئل" - نفع الله به - هل يجوز ضم راء "أكبر" من تكبيرة الإحرام. "فأجاب" بقوله: نعم يجوز كما اقتضاه كلام صاحب البيان وغيره, بل قولهم: لو قال: الله أكبر وأجل وأعظم, صح كالصريح فيه؛ لأن ظاهره ضم الراء, ومن ثم أفتى به جمع متأخرون كالنجمين الأصفوني والطبري والسراج بن الملقن, وقول ابن يونس أنه مبطل - ضعيف وإن تبعه ابن العماد والدميري والناشري, ولا حجة لهم في خبر التكبير جزم؛ لأن المراد به جزم القلب لا اللفظ؛؛ لأن الجزم من خواص الأفعال.
"وسئل" - نفع الله بعلومه - عمن أبدل همزة "أكبر" واوا فهل يصح؟ "فأجاب" بقوله: لا يصح على الأوجه, وزعم ابن العماد أن قول ابن المنير المالكي يصح؛ لأن الهمزة قد تبدل واوا كإشاح ووشاح غير بعيد فيه نظر, بل هو بعيد؛ إذ المدار في لفظ التكبير على الاتباع ما أمكن, وكذا لو أبدل الكاف همزة.
"وسئل" رضي الله عنه هل يقوم "أعظم" مقام "أكبر" ومعناهما كالجليل؟ "فأجاب" بقوله: لا يقوم مقام "أكبر" شيء للاتباع, قال القرطبي - تبعا للغزالي وغيره -: لا يقوم "أعظم" مقام "أكبر"؛ لأن الرداء أشرف من الإزار أي: المشار إليه؛ بقوله صلى الله عليه وسلم عن الله العظمة إزاري والكبرياء ردائي, من نازعني واحدا منهما قصمته وذلك؛ لأن التجمل يكون بالرداء. وهذا تمثيل كني به عن الصفة, والثوب يكنى به عن الصفة؛ قال تعالى:
{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [لأعراف: 26]. قال الغزالي ومعنى الكبير: ذو الكبر, والكبرياء: كمال الذات, وأعني بكمال الذات كمال الوجود؛ وهو يرجع إلى شيئين, أحدهما: دوامه أزلا وأبدا, فكل موجود مقطوع بعدم سابق, أو لاحق فهو ناقص. والثاني: أن وجوده هو الذي يصدر عنه كل موجود. قال: والجليل: الموصوف بنعوت الجلال التي هي العز والملك والقدس والعلم والقدرة, وغيرها من الصفات التي ذكرناها, فالجامع لجميعها هو الجليل المطلق, فالجليل المطلق هو الله تعالى فقط. فكأن الكبير يرجع إلى كمال الذات, والجليل إلى كمال الصفات والعظيم إلى كمال الذات والصفات جميعا. قال كثير من العلماء: معنى أفعل التفضيل في حق الله تعالى النعت؛ فأكبر بمعنى كبير؛ إذ لا مساوي له تعالى في كمال الوجود أزلا وأبدا, وقال آخرون:

 

ج / 1 ص -214-        معناه أن ما خطر ببال العبد من صفات الكمال والجلال وتمام العلم والقدرة والقدس - فالله تعالى من وراء ما خطر له إذ ليس كمثله شيء. والحاصل أن الكبير يرجع إلى كمال الذات والجليل إلى كمال الصفات, والعظيم إلى كمالهما.
وسئل - نفع الله به - عن أول ما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم وآخر ما نطق به؟ "فأجاب" بقوله: أول ما نطق به صلى الله عليه وسلم "الله أكبر" كما قاله شيخ الإسلام الحافظ الشهاب ابن حجر العسقلاني, وأما آخر ما نطق به فهو: اللهم الرفيق الأعلى, كما في الصحيح, قيل: وهو أعلى المنازل كالوسيلة التي هي أعلى الجنة, فمعناه أسألك يا الله أن تنيلني أعلى مراتب الجنة. وقيل: معناه: أريد ألقاك يا رفيق يا أعلى, والرفيق من أسمائه تعالى للحديث الصحيح:
"إن الله رفيق" فكأنه طلب لقاء الله تعالى على أعلى صفات الرفق واللطف به وقد حقق الله له ذلك, جعلنا الله من وارثيه وحشرنا معه بمنه وكرمه آمين.
"وسئل" رضي الله عنه هل يجب في السجود وضع جميع الأعضاء معا مثلا أو لا؟ "فأجاب" بقوله: يجب اجتماعهما بقدر الطمأنينة, سواء وضعها ورفعها معا أم مرتبا صرح بذلك جماعة منهم ابن النحوي وغيره.
"وسئل" رضي الله عنه عمن قال: السلام عليك يا أيها النبي, هل تبطل صلاته؟ "فأجاب" بقوله: نعم, تبطل صلاته بتعمد ذلك وعلم عدم وروده؛ لأنه زاد حرفين فإن جهل, أو نسي لم تبطل.
"وسئل" - فسح الله في مدته - عمن يدعو بنحو: اللهم اغفر لي, فما يزيد إحساني سلطانك ولا تقبح إساءتي ملكك, ونحو ذلك هل يجوز له ذلك؟ "فأجاب" بقوله: لا منع في ذلك, حيث اعتقد الداعي أن الله لا يجب عليه شيء وأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. والأولى في المناجاة الإقرار بالذنب, والتضرع في سؤال الغفران من غير إقامة حجة ولا تعليل, فذلك أولى بالمذنب المملوك مع مولاه القادر عليه, الفاعل لما يشاء.
"وسئل" - نفع الله به - عن شخص سبح بنحو سبحان الله وبحمده, عدد خلقه. إلخ, هل المرة منه أفضل ممن يسبح بسبحان الله وبحمده, ويعدد من ذلك ألف مرة مثلا. "فأجاب" بقوله: نعم, هو أفضل من ألوف مؤلفة؛ كما دل عليه الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم دخل على بعض أمهات المؤمنين وعندها حصوات كثيرة سبحت بها, فقال:
"لقد قلت كلمة عدلت جميع ما قلت؛ سبحان الله وبحمده, عدد خلقه" الحديث, ولما سئل ابن عبد السلام عن نحو ما في السؤال قال: قد يكون بعض الأذكار أفضل من بعض لعمومها وشمولها لجميع الأوصاف الثبوتية والسلبية والذاتية والفعلية, فيكون القليل من هذا النوع أفضل من الكثير؛ كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله وبحمده, عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته" ولهذا قال عليه الصلاة والسلام "ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام"؛ لأن الألف واللام فيهما قد

 

ج / 1 ص -215-        أفادت الاتصاف بكل جلال وكمال, فأعطت استغراق الجنس في الإكرام والجلال. فإذا لا إكرام إلا منه ولا جلال وكمال إلا وقد اتصف به ا هـ. وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لبعض نسائه - حين دخل عليها فوجدها تسبح بالحصى -: "أدلك على ما هو خير من ذلك, فقولي: سبحان الله عدد ما في السموات, سبحان الله عدد ما في الأرض, سبحان الله عدد ما بين ذلك, ولا إله إلا الله مثل ذلك, والحمد لله مثل ذلك, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم مثل ذلك". وفيه دليل على أن من قال ذلك يكتب له مثل العدد الذي ذكره, وبه تقاس الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فمن قال: اللهم صل على سيدنا محمد عدد خلقك كتب له صلوات بعدد الخلق, وهذا كله من فضل الله ومنته, ومن مزيد كرمه وسابغ منته. وقيل في قوله صلى الله عليه وسلم "قل هو الله أحد - تعدل ثلث القرآن" المراد بقوله: تعدل ثلثه بلا تضعيف. وقيل: إنها ثلث ما يشتمل عليه, وهو الأحكام والقصص والتوحيد. وقيل: تعدل ثلث القرآن لمن لم يحسن إلا هي ويمنعه من تعلم غيرها مانع. وقيل غير ذلك.
"وسئل" - فسح الله في مدته - بما لفظه: ما حكم من ينكر الدعاء؟ "فأجاب" بقوله: قال بعض الأئمة: لا ينكر الدعاء إلا كافر مكذب بالقرآن؛ لأن الله تعالى تعبد عباده به في غير ما آية, ووعدهم بالاستجابة على ما سبق في علمه من أحد ثلاثة أشياء على ما روي أنه بين إحدى ثلاثة؛ إما استجابة أو ادخار, أو يكفر عنه. وفيه أن دعوة المسلم لا ترد ما لم تكن بإثم, أو قطيعة رحم؛ ففي إحدى الثلاثة استجابة وفي الآخرين تعويض الاستجابة, قال تعالى:
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون: 71] وفي الحديث: "إن الله تعالى يبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه". ومن آداب الدعاء أن يعزم المسألة؛ فلا يقل: اللهم اغفر إن شئت, كما جاء في الحديث؛ لما في ذلك من إظهار الاستغناء وعدم الافتقار. والدعاء إنما وضع لمزيد التذلل وإظهار الافتقار والاحتياج, وفي الحديث: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل" أي: بل ينبغي الإلحاح في المسألة؛ لما في الحديث: "إن الله يحب الملحين في الدعاء", ولا تيأس من الإجابة ولا تسأم من الرغبة, فمن فعل ذلك لم يحرم من إحدى تلك الثلاث. ومن أدمن قرع باب الكريم يوشك أن يفتح له, قال بعض الأئمة: قوله: يستجاب لأحدكم, يحتمل الوجوب والجواز؛ فإن كان الخبر الأول - فلا بد من إحدى الثلاث فإذا عجل بطل وجوب أحدها, وتعرى الدعاء عن جميعها. وعلى الجواز تكون الإجابة بفعل ما دعا ويمنعه من ذلك استعجاله؛ لأنه من ضعف اليقين, وينبغي أن يدعو وهو موقن بالإجابة وبقلب حاضر لخبر بذلك رواه الخطيب, وهو: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب الدعاء من قلب لاه". وآكد آداب الدعاء أكل الحلال ولبسه, وله آداب كثيرة بينتها مع شروطه وواجباته وحرماته ومكفراته وما يتعلق بذلك في شرح العباب في صفة الصلاة - بما لم يجمع مثله فيما أحسب فاطلب ذلك منه فإنه نفيس مهم.

 

ج / 1 ص -216-        "وسئل" - نفع الله به - عن داء الوسوسة هل له دواء؟ "فأجاب" بقوله: له دواء نافع وهو الإعراض عنها جملة كافية وإن كان في النفس من التردد ما كان - فإنه متى لم يلتفت لذلك لم يثبت بل يذهب بعد زمن قليل كما جرب ذلك الموفقون, وأما من أصغى إليها وعمل بقضيتها فإنها لا تزال تزداد به حتى تخرجه إلى حيز المجانين بل وأقبح منهم, كما شاهدناه في كثيرين ممن ابتلوا بها وأصغوا إليها وإلى شيطانها الذي جاء التنبيه عليه منه صلى الله عليه وسلم بقوله: "اتقوا وسواس الماء الذي يقال له الولهان", أي: لما فيه من شدة اللهو والمبالغة فيه كما بينت ذلك وما يتعلق به في شرح مشكاة الأنوار, وجاء في الصحيحين ما يؤيد ما ذكرته وهو أن من ابتلي بالوسوسة فليعتقد بالله ولينته. فتأمل هذا الدواء النافع الذي علمه من لا ينطق عن الهوى لأمته. واعلم أن من حرمه فقد حرم الخير كله؛ لأن الوسوسة من الشيطان اتفاقا, واللعين لا غاية لمراده إلا إيقاع المؤمن في وهدة الضلال والحيرة ونكد العيش وظلمة النفس وضجرها إلى أن يخرجه من الإسلام. وهو لا يشعر أن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا. وجاء في طريق آخر فيمن ابتلي بالوسوسة فليقل: آمنت بالله وبرسله. ولا شك أن من استحضر طرائق رسل الله سيما نبينا صلى الله عليه وسلم وجد طريقته وشريعته سهلة واضحة بيضاء بينة سهلة لا حرج فيها وما جعل عليكم في الدين من حرج, ومن تأمل ذلك وآمن به حق إيمانه ذهب عنه داء الوسوسة والإصغاء إلى شيطانها. وفي كتاب ابن السني من طريق عائشة: رضي الله عنها "من بلي بهذا الوسواس فليقل: آمنا بالله وبرسله ثلاثا, فإن ذلك يذهبه عنه", وذكر العز بن عبد السلام وغيره نحو ما قدمته فقالوا: دواء الوسوسة أن يعتقد أن ذلك خاطر شيطاني, وأن إبليس هو الذي أورده عليه وأنه يقاتله, فيكون له ثواب المجاهد؛ لأنه يحارب عدو الله, فإذا استشعر ذلك فر عنه, وأنه مما ابتلي به نوع الإنسان من أول الزمان وسلطه الله عليه محنة له؛ ليحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره الكافرون. وفي مسلم من طريق عثمان بن أبي العاص أنه قال حال بيني وبين صلاتي وقراءتي فقال: ذلك شيطان يقال له خنزب, فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا, ففعلت فأذهبه الله عني. وفي رسالة القشيري عن أحمد بن عطاء قال: ضاق صدري ليلة لكثرة ما صببت من الماء, ولم يسكن قلبي فقلت: يا رب عفوك, فسمعت هاتفا يقول: العفو في العلم؛ فزال ذلك عني ا هـ. وبه تعلم صحة ما قدمته أن الوسوسة لا تسلط إلا على من استحكم عليه الجهل والخبل وصار لا تمييز له, وأما من كان على حقيقة العلم والعقل فإنه لا يخرج عن الاتباع ولا يميل إلى الابتداع. وأقبح المبتدعين الموسوسون ومن ثم قال مالك - رحمه الله - عن شيخه ربيعة - إمام أهل زمنه -: كان ربيعة أسرع الناس في أمرين في الاستبراء والوضوء, حتى لو كان غيره - قلت: ما فعل. وكان ابن هرمز بطيء الاستبراء والوضوء, ويقول: مبتلى لا تقتدوا بي. ونقل النووي - رحمه الله - عن بعض العلماء أنه يستحب لمن بلي بالوسوسة في الوضوء, أو الصلاة أن يقول: لا إله إلا الله فإن الشيطان إذا سمع الذكر خنس؛ أي: تأخر وبعد, ولا إله إلا الله - رأس الذكر ولذلك

 

ج / 1 ص -217-        اختار صفوة هذه الأمة - من أصحاب التربية وتأديب المريد - قول "لا إله إلا الله" لأهل الخلوة, وأمروهم بالمداومة عليها, وقالوا: أنفع علاج في دفع الوسوسة الإقبال على ذكر الله تعالى والإكثار منه. وقال ابن أبي الحواري بكسر الراء وفتحها شكوت إلى الداراني الوسوسة فقال: إذا أردت قطعه فمتى أحسست به فافرح فإذا فرحت انقطع عنك فإنه ليس شيء أبغض إلى الشيطان من سرور المؤمن, قال بعضهم: ويؤيد هذا ما ذكر عن بعض الأئمة أنه إنما يبتلى به من كمل إيمانه؛ فإن اللص لا يسرق من بيت لص مثله ا هـ. وهذا إن سلم فهو في الوسواس في العقائد؛ لما في الحديث أنه محض الإيمان. على أن الإمام ابن عرفة قال إنما يبتلى به في الدين من أخذه تقليدا دون من عرف براهينه؛ لأن الوسواس شك وهو لا يجتمع مع الاعتقاد الجازم المستند إلى دليل لكونه ضده. وقال العارف أبو الحسن الشاذلي: إذا كثر عليك الوسواس فقل: سبحان الملك الخلاق: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ*وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أذهب الله عنا سائر المضار والمخاوف والفتن, وأنالنا كل خلق حسن, وجعلنا من أهل ولاية أهل النعم والمنن إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.
"وسئل" - نفع الله به - بما لفظه ذكر: الشيخ زكريا - رحمه الله تعالى - في شرح البهجة أنه إذا استوى معتدلا بعد ركوعه أرسل يديه إرسالا خفيفا إلى تحت صدره فقط. وقال غيره بإرسالهما فما المعتمد من ذلك. "فأجاب" بقوله: إن المعتمد أنه يرسلهما ولا يجعلهما تحت صدره, وعبارة شرحي للعباب بعد قوله "فإذا انتصب أرسلهما": وظاهر كلامهم هنا بل صريحه أنه لا يجعلهما تحت صدره, وهو ظاهر وإن أوهم إطلاقهم جعلهما تحته في القيام خلافه, ثم رأيتهم صرحوا بما ذكرته؛ فإنهم اختلفوا في رفع اليدين في القنوت فقال كثيرون: لا يرفع كدعاء الافتتاح, وقال الأكثرون: بل يرفع, وفرقوا بأن ليديه ثم وظيفة أي: وهي جعلهما تحت صدره ولا وظيفة لهما هنا ا هـ. فقولهم: لا وظيفة لهما هنا صريح في إرسالهما, وأنه لا يندب جعلهما تحت الصدر وإلا لم يتأت الفرق بما ذكر, انتهت عبارة الشرح المذكور.
"وسئل" - نفع الله به - عن قول الأئمة في السلام: ينوي به السلام على من على يمينه من ملائكة وإنس وجن؛ فلو دخل على المصلي داخل حينئذ فهل يجب الرد عليه لسلام المصلي أم لا؟ "فأجاب" بقوله: ما ذكر عن الأئمة لا يقتضي وجوب الرد كما بينته في شرح العباب وعبارته: اعترض قولهم ينوي السلام على من ذكر بأنه لا معنى له؛ فإن الخطاب كاف في الصرف إليهم, فأي معنى للنية؛ والصريح لا يحتاج إلى نية وبأن كلام جمع يقتضي حصول السنة بالخطاب من غير نية, كما لا يحتاج المسلم خارج الصلاة إلى نية في أداء السنة, ويرد بأن له معنى واضحا؛ فإن السلام هنا جزء من الصلاة حقيقة أو تبعا, فلم يصح التخاطب العادي به فاحتاج في صرفه لذلك إلى نية, وبه فارق السلام خارج الصلاة, أو نقول ما فيه من الخطاب صيره مغايرا لبقية أجزاء الصلاة فاحتاج صرفه إليها إلى نية ليثاب عليه من حيث

 

ج / 1 ص -218-        كونه من أجزائها لا ليصلح للتخاطب به فإنه من هذه الحيثية صريح في ذلك لا يحتاج لنية؛ وبهذا يقرب احتمال وجوب الرد على غير مصل خوطب به, وإن كان عدم الوجوب أوجه لأن المصلي من حيث هو مصل غير متأهل للخطاب العادي, ولكن به يؤمن غيره بسلامته منه فلم يوجد فيه المعنى المطلوب له السلام بوجه, انتهت عبارة الشرح المذكور. ونقل عن البلقيني أنه أفتى بوجوب الرد فإن صح عنه فوجهه ما أشرت إليه, لكني مع ذلك لا أعتمده؛ لما ذكرته, فتأمله.
"وسئل" - نفع الله به - عن قنوته صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على أعدائه هل كان بعد الإتيان بالقنوت: اللهم اهدنا. إلخ؟ "فأجاب" بقوله: قال الحافظ الجلال السيوطي: لم أقف في شيء من الأحاديث على أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين هذين بل ظاهر الأحاديث أنه اقتصر في قنوته على الدعاء عليهم.
"وسئل" - نفع الله بعلومه - عن حديث: لا تسيدوني في الصلاة هل له أصل؟ "فأجاب" بقوله: لا أصل له.
"وسئل" رضي الله عنه هل ورد أن بلالا أو غيره أذنوا بمكة قبل الهجرة؟ "فأجاب" بقوله: لم يرد ذلك إلا في أسانيد ضعيفة لا يعول عليها, والذي عليه أكثر العلماء ونطقت به الأحاديث الصحيحة أن الأذان إنما شرع بعد الهجرة, وأنه لم يؤذن قبلها بلال ولا غيره.
"وسئل" - نفع الله به - عن خبر الترمذي بسند ضعيف: إن الله يكره العطاس والنعاس والتثاؤب في الصلاة. وله شاهد ضعيف من قول ابن مسعود, هل يعارضه الخبر الضعيف أيضا الموقوف على أبي هريرة: إن الله يكره التثاؤب ويحب العطاس في الصلاة؟ "فأجاب" بقوله: لا يعارضه؛ لأن المقام مقامان: مقام إطلاق ومقام نسبي؛ فأما الأول فإن التثاؤب والنعاس كلاهما في الصلاة من الشيطان, وعليه يحمل الحديث الأول, وأما الثاني فإذا وقعا في الصلاة مع كونهما من الشيطان فالعطاس في الصلاة أحب إلى الله من التثاؤب فيها, والتثاؤب فيها أكره إليه من العطاس فيها, وعليه يحمل أثر أبي هريرة فهو راجع إلى تفاوت رتب بعض المكروه على بعض. كذا قيل ولا يخفى ما فيه, والذي يظهر لي في الجواب حمل العطاس المحبوب في الصلاة على قليله الذي لا يخل بخشوعها والمكروه فيها على كثيره الذي يخل بخشوعها. وفي حديث عبد الرزاق عن قتادة قال: سبع من الشيطان, فذكر منها شدة العطاس, وهو يؤيد ما ذكرته فتأمله.
"وسئل" - نفع الله به - عن حديث: التكبير جزم, من خرجه؟ "فأجاب" بقوله: لا أصل له وإنما هو من قول إبراهيم النخعي, وفسره أو الراوي عنه أو عبد الرزاق المخرج له عنه؛ بأن معناه أنه لا يمد, وفسره بذلك أيضا في العزيز كابن الأثير في النهاية وجماعة, وبه رد تفسير آخرين له بأنه تسكين الراء. على أن إطلاق الجزم على حذف الحركة لم يكن معهودا في زمن النخعي

 

ج / 1 ص -219-        وإنما هو اصطلاح حادث بعده فلا يصح الحمل عليه, وخبر أنه صلى الله عليه وسلم لم ينطق بالتكبير إلا مجزوما, قال الحافظ السيوطي: لم نقف عليه وإن كان هو الظاهر من حاله صلى الله عليه وسلم لأن فصاحته العظيمة تقتضي ذلك. وأخذ جمع من ذلك اشتراط جزم الراء - وإلا لم تصح صلاته - ضعيف؛ لأن غايته أنه لحن, وهو إذا لم يغير المعنى لا يبطل في الفاتحة ولا غيرها؛ مع أن الحق أنه ليس بلحن؛ لأنه مجرد تصريح بالحركة في حال الوقف وهو دون اللحن؛ ومن ثم كره تعمد هذا هنا, وحرم تعمد اللحن وإن لم يغير, ومن فهم من كلام المحب الطبري اشتراط الجزم فقد استروح؛ لأن كلامه في الندب لا غير بقرينة ذكره ذلك مع مسألة المد. ومد التكبير لا يبطل بلا خلاف, وحذفه سنة بلا خلاف. ونص الأم على جزمه مراده به حذفه وعدم مده وتمطيطه.
"وسئل" رضي الله عنه هل للسبحة أصل في السنة أو لا؟ "فأجاب" بقوله: نعم, وقد ألف في ذلك الحافظ السيوطي؛ فمن ذلك ما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيده. وما صح عن صفية: رضي الله عنها دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بهن, فقال: ما هذا يا بنت حيي. قلت: أسبح بهن, قال: قد سبحت منذ قمت على رأسك أكثر من هذا, قلت: علمني يا رسول الله قال: قولي سبحان الله عدد ما خلق من شيء. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي:
"عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس ولا تغفلن فتنسين التوحيد, واعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات ومستنطقات". وجاء التسبيح بالحصى والنوى والخيط المعقود فيه عقد عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم وأخرج الديلمي مرفوعا: نعم المذكر السبحة. وعن بعض العلماء: عقد التسبيح بالأنامل أفضل من السبحة لحديث ابن عمر. وفصل بعضهم فقال: إن أمن المسبح الغلط كان عقده بالأنامل أفضل وإلا فالسبحة أفضل؟.
"وسئل" - نفع الله به - عما قيل إن أكثر قراءته صلى الله عليه وسلم في الصلاة كانت بقراءة نافع هل له أصل؟ "فأجاب" بقوله: قال الحافظ السيوطي لا أصل لذلك؛ إذ لم يروه أحد من الصحابة ألبتة, ولا خرجه أحد من أئمة الحديث بإسناد صحيح ولا بإسناد غير صحيح؛ بل كان يقرأ بجميع الأحرف المنزلة عليه. وفي الذخيرة للقرافي: يستحب القراءة بتسهيل الهمزة؛ لأن ذلك لغة النبي صلى الله عليه وسلم وهو حسن لا غبار عليه؛ لإجماعهم على أن لغته لغة قريش, ولغتهم تسهيل الهمزة, ولا يلزم من ذلك أكثرية قراءته؛ بل كان تارة يقرأ بتسهيلها الذي هو لغته, وتارة بتحقيقها الذي هو لغة غير قريش, وتارة بترك الإمالة كلغة الحجاز, وبالإمالة كلغة تميم.
"وسئل" - فسح الله في مدته - عما قيل إن القراءة بالترقيق في الصلاة مكروهة لإذهابها الخشوع, صحيح أم لا؟ "فأجاب" بقوله: ليس بصحيح؛ إذ لا بد للكراهة من نهي خاص أو

 

ج / 1 ص -220-        قياس صحيح, وزعم إذهابها الخشوع ممنوع؛ لأنه إن كان من جهة الفكر في أداء تلك الهيئة - فجميع هيئات الأداء كذلك. والفكر في أداء الألفاظ القرآنية على الهيئة التي نزلت عليها لا ينافي الخشوع؛ لأنه مأمور به حتى في الصلاة, وإنما المنافي للخشوع الفكر في الأمور الدنيوية, وأيضا القراءة بالأحرف الثابتة في السبعة فرض كفاية إجماعا, فكيف يوصف ما هو فرض كفاية بأنه مكروه؟ وكأن ما في السؤال توهم من قول مالك رضي الله عنه: وأكره الترقيق والتفخيم والروم والإشمام في الصلاة؛ لأنها تشغل عن أحكام الصلاة. وليس ذلك التوهم بصحيح؛ لأن المجتهدين قد يطلقون الكراهة على الإرشادية التي لا ثواب في تركها ولا قبح في فعلها. ونظيره قول الشافعي: رضي الله عنه وأنا أكره الإمامة؛ لأنها ولاية, وأنا أكره سائر الولايات لم يرد الكراهة الشرعية لأنها من قسم القبيح. والإمامة فرض كفاية لتوقف الجماعة التي هي فرض كفاية عليها بل هي أفضل من الأذان عند كثيرين من أصحابه, فمراده أنه لا يحب الدخول فيها ولا يختاره, ولا أنه لا ثواب فيها إذ الكراهة والثواب لا يجتمعان؛ فكذلك مراد مالك بذلك أنه أحب واختار أن لا يفعل ذلك في الصلاة للمعنى الذي ذكره لا أن ذلك مكروه شرعا؛ لأنه من حيز القبيح, والقراءة المذكورة لا توصف بذلك قطعا.
"وسئل" - نفع الله به - عمن يصلي ويقول في الفاتحة: ولا الظالين, هل تصح صلاته؟ وهل له أن يؤم بالمسلمين؟ وهل يكون آثما في إمامته أم مثابا؟ "فأجاب" بقوله: أما صلاته فلا تصح إلا إن كان عاجزا عن النطق بالضاد, ويلزمه التعلم للنطق بها ما أمكنه, ولو بأجرة لمن يعلمه, ومتى ترك ذلك مع القدرة عليه فصلاته باطلة ويعزر عليه التعزير البليغ الزاجر له عن مثل هذه القبائح التي يفسق مرتكبها. وأما إمامته للناس فلا تصح فيعزر عليها أيضا؛ إلا إن كان المؤتم به مثله في العجز عن النطق بالضاد فحينئذ تصح إمامته به, وكثير من الناس أضاعوا حقوق القرآن وما يجب له من تعلم إخراج الحروف من مخارجها فأثموا بل فسقوا وبطلت صلاتهم وشهادتهم؛ فيتعين عليهم السعي فيما قلناه, وبذل الجهد في التعلم ما أمكنهم, والله تعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - نفع الله به - عن قول الأصحاب: تستحب القراءة على ترتيب المصحف ومتواليا, فإذا شرعت للإمام قراءة المعوذتين جهرا مثلا, وقلتم يستحب له أن يسكت بعد قراءة الفاتحة بقدر ما يقرؤها المأموم, وأن الأفضل له في سكوته القراءة؛ فمعلوم أنه في سكوته الأول يقرأ سورة الإخلاص سرا؛ لاتصالها بما يقرؤه جهرا من سورة:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1], وما الذي يقرؤه في السكوت الثاني؟ هل يقرأ سورة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] سرا ثم جهرا؟ وإن كان فيه تكرير محافظة على النمط السابق أو الحكم غير ذلك؟ وما هو أثابكم الله تعالى وأدام عليكم نعمه السابغة؟ "فأجاب" بقوله: الوجه أنه يقرأ الناس سرا ثم

 

ج / 1 ص -221-        جهرا. ولا نظر لما يلزم عليه من تكرير قراءتها؛ لأنه صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في الصبح بإذا زلزلت مرتين كل مرة في ركعة فلا مخالفة في ذلك للسنة, بخلاف ما إذا أخل بترتيب المصحف أو الموالاة فإنه مخالف للسنة الصريحة. هذا إن فرض أنه يسن له قراءة المعوذتين بخصوصهما جهرا كما في السؤال, وكذا يقال بنظير ذلك في قراءة الجمعة والمنافقين وسبح وهل أتاك, في صلاة الجمعة؛ ففي الثانية يقرأ من المنافقين أو هل أتاك في سكوته بقدر الفاتحة, ثم يقرأ السورة بكمالها ولا أثر لذلك التكرير؛ لما تقرر. أما إذا لم يسن الجهر فيهما بخصوصهما فالأولى أنه يقرأ في السكوت الثاني: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1], ثم يقرأ جهرا من أول البقرة؛ كما إذا قرأ جهرا في أول ركعة ب: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1], فإنه يقرأ في الثانية بأول البقرة, كما في المجموع عن الأصحاب. ولا نظر إلى أنه يلزم على قراءة الناس؛ إما تطويل الثانية إن أكمل البقرة؛ وإما عكس الترتيب إن قرأ بغيرها, وكل منهما خلاف السنة؛ لأنا لا نأمره بواحد من هذين, وإنما نأمره بقراءة نحو آيتين من أول البقرة, كما أفهمه قول المجموع قرأ في الثانية أول البقرة, وإنما آثروا هذا للاضطرار إلى أحد هذه الثلاثة. وهذا أخف من الأولين؛ إذ تطويل الثانية الذي لم يرد مخالف للسنة الصريحة فارتكاب بعض السورة أولى منه؛ لأنه صح عنه صلى الله عليه وسلم في تفريقه الأعراف على ركعتي المغرب وقراءته آيتي البقرة وآل عمران في سنة الفجر. وكذلك القراءة على عكس ترتيب المصحف مخالفة للسنة الصريحة أيضا؛ فكان ارتكاب بعض السورة أولى منه. وأما قراءته صلى الله عليه وسلم في ركعة بالبقرة ثم بالنساء ثم بآل عمران - فهو إيماء إلى أن آل عمران كانت مؤخرة كما قاله ابن عبد السلام, أو أنه لبيان الجواز. وأما أمره صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة المنافقين في أولى الجمعة بقراءة سورة الجمعة في ثانيتها فهو إنما هو لحكمة اقتضت ذلك؛ وهي إعلامه بأن لا تخلو صلاته عن هاتين السورتين المقصودتين لذاتهما, وأيضا ترتيب السور مجمع عليه, وقراءة سورة كاملة ثبت اجتهادا فكانت مخالفة هذا الثاني بقراءة أول البقرة أخف من مخالفة الأول بقراءة غيرها, فتأمله.
"وسئل" - نفع الله به - عن الإحضار المذكور من شرائط نية الصلاة هل هو شرط للنية حتى تتم أو شيء آخر؟ وهل يفهم من كلام بعضهم فيحضره؛ أي ما يجب قصده حتما ويتلفظ به ندبا, ثم يقصده مقارنا لأول التكبير أن النية والإحضار شيئان أو لا؟ "فأجاب" بقوله: الإحضار المذكور شرط للاعتداد بالنية, فهو غيرها, كما صرحوا به حيث قالوا ما حاصله: المذهب عند أكثر أصحابنا أنه تجب مقارنة النية المشتملة على جميع ما يعتبر فيها من قصد الفعل أو والتعيين أو والفرضية أو والقصر أو والاقتداء أو والإمامة في الجمعة لكل جزء من أجزاء تكبيرة الإحرام؛ بأن يستحضر في ذهنه ذات الصلاة. وما يجب التعرض له فيها مما ذكر, ثم يقصد إلى فعل هذا المعلوم, ويجعل قصده هذا مقترنا بأول التكبيرة, ويستديم استحضار قصده لتلك المعلومات المشتملة عليها النية في قلبه حتى يفرغ الراء من "أكبر". قال بعضهم

 

ج / 1 ص -222-        وتسمية هذه الإدامة استمرارا للنية مجاز؛ إذ استحضار النية غيرها؛ فعلم أنه لا يجب تقديم القصد على ابتداء التكبير. وقيل: يجب, وأنه لا يكفي توزيعه عليه بأن يبتدئه مع ابتدائه وينهيه مع انتهائه؛ لما يلزم عليه من خلو معظم التكبير عن تمام النية, وهذا هو مراد الأنوار من قوله: ولا يجب أن يقدم النية أي القصد إلى تلك المعلومات على التكبير. ولو قدم فالاعتبار بالمقارن بل الواجب أن يتقدم الإحضار في الذهن ثم القصد إلى المعلوم مع ابتداء التكبير, فلا يجوز أن يبتدئ النية بالقلب مع ابتداء التكبير باللسان ويفرغ منها مع الفراغ من التكبير ا هـ. وقيل: يكفي ذلك التوزيع, قال الغزالي في فتاويه - متعقبا قول إمامه إمام الحرمين -: حقيقة المقارنة الذي ذكروه لا تحويه القدرة البشرية ا هـ. وأمر هذه المقارنة سهل, وإنما سبب عسره الوسوسة أو الجهل بحقيقتها, ثم بين ذلك وأطال فيه بما بينت ما فيه في شرح العباب.
"وسئل" - نفع الله به - عمن ترك تسبيح الركوع أو السجود الأول فهل يعيده في الثاني كما في قراءة السورة في الركعة الثانية أو تجبر الأولى بالثانية؟ وإذا سبح في الأولى مرة أو مرتين فهل يعيد الباقي في الثانية مع التي فيها أو لا؟ "فأجاب" بقوله: يحتمل أنه يأتي بما تركه سواء الكل أو البعض في مماثله الذي يليه من الركوع في الركعة التي تعقب المتروك فيها, والسجود الذي يلي المتروك فيه من ركعة واحدة؛ بأن كان المتروك منه السجود الأول أو ركعة أخرى؛ بأن كان المتروك منه السجدة الثانية, سواء كان الترك عمدا أو سهوا؛ قياسا على قولهم: لو ترك قراءة الجمعة أو سبح من أولى صلاة الجمعة عمدا أو سهوا قرأها مع المنافقين أو هل أتاك في الثانية. وإن لزم تطويلها على الأولى؛ لأن محل كراهته إذا لم يرد الشرع به, وهنا ورد به إذ المنافقون والغاشية أطول من الجمعة أو سبح. قال النووي في مجموعه: ولأن تركه أدب لا يقاوم فضلهما. ونظر فيه الأذرعي بأن الجمعة فات محلها مع مخالفة سنة الترتيب ومع التطويل على المأمومين, ويرد بمنع فوات محلها لقولهم: القصد أن لا تخلو صلاته عنهما, وبأن هذا أولى من رعاية الترتيب. والتطويل إنما يذم حيث لم يرد فيه شيء بخصوصه وإلا لم يعتبر رضاهم مطلقا, ولو قرأ الثانية في الأولى قرأ الأولى فقط في الثانية؛ كي لا تخلو صلاته عنهما كما تقرر, ويجري ذلك في كل صلاة يسن لها سورتان مخصوصتان, ويحتمل أن لا يأتي به مطلقا؛ قياسا على أنه لو ترك الإمام أو المنفرد التكبيرات السبع من الركعة الأولى من صلاة العيد لم يتداركها في الثانية, كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه في الأم وجرى عليه المتأخرون. وقول العباب: إنه يتداركها في الثانية مع تكبيرها - سهو كما بينته في شرحه, وصرحوا أيضا بأنه لو أدرك الإمام في أثناء التكبيرات لم يتدارك الفائت ندبا في الثانية؛ لأن الإمام يتحمله عنه قالوا: ولو أدركه في الركعة الثانية كبر معه خمسا, وفي الثانية خمسا فقط؛ لأن في قضاء ذلك ترك سنة أخرى, وبه فارق ما مر في الجمعة, وفارق ما يأتي في قراءة السورة في الأخيرتين؛ بأن السنة عدم السبع في الثانية

 

ج / 1 ص -223-        وليست السنة عدم السورة في الثالثة والرابعة بل لا تسن فيهما. وفرق واضح بين العبارتين, ألا ترى أن الأربعاء لا يسن صومه مع أن من صامه أثيب؛ لإتيانه بعبادة, وبأن السنة في تكبير العيد الجهر, فلو أتى بالتكبيرة السادسة أو السابعة جهرا غير شعار الثانية, بخلاف السور فإنه يسن الإسرار بها فليس في الإتيان بها تغيير شعار الأخيرتين. وقياسا أيضا على ما لو ترك رمل الطواف في الثلاثة الأول لا يأتي به في الأربعة الأخيرة؛ لأن السنة فيها المشي, وعلى ما لو فقدت يمينه فإنه لا يفعل في تشهد الصلاة بيساره ما كان يفعله فيه بيمينه؛ لفوات سنة بسط اليسار, ويحتمل التفصيل بين المعذور فيأتي بذلك وغيره, فلا يأتي به؛ قياسا على قولهم: لو فاته مع الإمام أولتا الرباعية - قرأ السورة سرا في أخيرتيهما؛ لئلا تخلو صلاته منهما, فلم يقولوا بندب التدارك هنا إلا للمعذور دون غيره؛ ومن ثم قال الشيخ أبو حامد: لو أدرك ثانية رباعيته وأمكنته السورة في أولييه تركها في الباقي, وإن تعذرت في ثانيته دون ثالثته قرأها, ولا يقرؤها في الرابعة ا هـ. فإن قلت: قد ظهر أن لكل من هذه الاحتمالات الثلاث وجها وسندا من كلامهم, فما الذي يترجح منها؟ قلت: الذي يظهر لي من ذلك كله أن إمام غير المحصورين لا يتدارك؛ لأنه يطول عليهم بما لم يرد؛ إذ السنة له أن لا يزيد على ثلاث تسبيحات, وبهذا فارق ما مر في الجمعة؛ لأن السنة له قراءة تينك السورتين, وإن طول عليهم؛ لورودهما فيها بخصوصهما. والمأموم تابع لإمامه تطويلا وضده. وأما المنفرد وإمام المحصورين الراضين بشرطهم فيتدارك كل منهما إن عذر؛ بأن يأتي بما يسن في الركوع أو السجود الذي هو فيه وبما فوته, ويفرق بينه وبين ما مر في الجمعة بأنه ورد فيه شيء بخصوصها, فتأكدت المحافظة عليه, وإن طول أو أخل بالترتيب أو تعمد الترك كما مر. والسجود والركوع لم يرد فيهما شيء خاص ببعض الصلاة؛ فكانت أذكارهما أشبه بمطلق السورة في الصلاة, فيأتي فيهما ما فيها, وفارق ما مر في العيد والطواف والتشهد بأن التدارك ثم يلزمه فوات شعار مندوب ولا كذلك هنا, فتأمل ذلك فإنه مهم.
"وسئل" - نفع الله به - عما صورته: ذكروا أوائل باب الصلاة كما في الإسنوي وغيره فيما لو شك بعد الوقت, هل الصلاة عليه أنه لا يلزمه القضاء؟ وذكروا في باب مسح الخف ما قد يخالف ذلك؛ حيث قالوا - واللفظ للعباب -: وإذا أحدث ومسح وصلى عقبه صلوات, إلى قوله: وفي المسح بأنه لزمن يسع أربعا ا هـ فإن في هذا إلزاما بالقضاء بالشك بعد الوقت, كما لا يخفى؟ "فأجاب" بقوله: لا مخالفة؛ لأن صورة الأولى كما يصرح به كلامهم أن يشك: هل لزمت تلك الصلاة ذمته أو لا؟ وعدم اللزوم في هذه واضح؛ لأن الأصل براءة الذمة ولم يتحقق شغل الذمة بها بخلاف ما لو شك: هل صلى تلك الصلاة؟ فإنه يلزمه القضاء كما هو ظاهر؛ لأنه هنا تيقن لزومها لذمته, وشك في أدائها فلزمه, وكذا فيما ذكر في السؤال؛ لأن الصلوات المقضية لزمت ذمته يقينا ثم شك في بعضها: هل فعله أو لا؟ فلزمه فعله؛ لأن الأصل عدم فعله له, فإن قلت: شكه في أنها هل لزمت ذمته شك في أنه هل صلاها أو

 

ج / 1 ص -224-        لا؟ فلا فرق بينهما. قلت: ممنوع بل بينهما فرق؛ لأن الشك في اللزوم شك في طارئ على براءة الذمة, والشك في الفعل شك في مسقط لما لزم الذمة, وكون ما حصل في أحد هذين قد يستلزم الآخر لا نظر إليه؛ لبعده وعدم تبادره من ذلك. ثم رأيتني في شرح العباب ذكرت حاصل ما مر مع نقل المسألة عن المجموع وعبارته: قال في الذخائر عن بعض أصحابنا - وأقره الأذرعي وغيره -: ومن تردد فيما مضى من صلاة شهر مثلا؛ أي هل هي عليه أو لا؟ لم يؤثر قطعا ا هـ ويؤيده - بل يصرح به - قول المجموع: لو شك بعد الوقت هل الصلاة عليه؟ لم يلزمه قضاؤها, فإن قضاها فتبين أنها عليه لم تجزئه اتفاقا ا هـ وجرى عليه الزركشي وغيره. وظاهر أنه لو شك بعد الوقت هل صلى أو لا؟ لزمته, والفرق بينهما واضح؛ لما في كل من العمل بالأصل؛ إذ هو في الأولى أنها ليست عليه, وفي الثانية عدم فعلها. وتوهم بعضهم اتحادهما؛ فنقل في هذه عن المجموع عدم اللزوم, وهو غفلة عما ذكرته من الفرق الواضح بينهما؛ إذ الذي فيه إنما هو الأولى, وليست الثانية مثلها كما علمت. نعم, نقل عن ابن عبد السلام أنه قال: لو شك هل قضى الفائتة التي عليه لم يلزمه قضاؤها ا هـ لكنه ضعيف, والمعتمد خلافه. ولا ينافي ما في المتن قول القفال لو لم يدر عدد فائتته؛ فإن ذكر اليوم الذي وقع فيه الشك؛ كأن قال: أنا شاك في أني تركت الصلاة في العشر الأول من رمضان, أو لم أترك إلا صلوات ثلاثة أيام فقط - لزمه قضاء صلوات جميع العشر, ويصير كأنه شك في العشر الأول, بخلاف ما لو قال: أشك هل هي عشر صلوات من الشهر أو جميعه؛ فإنه لا يلزمه إلا الأقل؛ لأنه لم يعرف الوقت الذي وقع فيه الشك ا هـ لأن ما ذكره مبني على ما مر عنه أول الفرع. وقياس ما مر عن المجموع أنه لا يلزمه شيء؛ لأن الأصل هنا عدم الترك, فهو كأصل أنها ليست عليه ثم, وهنا في صورته الثانية فلا يلزمه فيها, ولا الأقل؛ للأصل الذي قلناه, ومع النظر إليه لا تظهر تفرقته المذكورة بل لا فرق بين أن يعرف وقت الشك وأن لا. وبما تقرر يعلم أيضا ضعف قوله, وكذا يقال في الصوم والزكاة, فلو كان له إبل وبقر وغنم ونقد فشك هل عليه زكاة الإبل والبقر أو الكل؟ لزمه الكل, أو هل عليه درهم من جملة الزكاة أو أربعون درهما ولم يعرف عين ذلك المال؟ لزمه الدرهم فقط ا هـ وقياس ما مر أنه يلزمه الأربعون؛ ومن ثم قال ابن عبد السلام: لو كان عليه زكاة ولم يدر هل هي بقرة أو شاة لزماه؛ قياسا على الصلاة قال الزركشي: ومنه يعلم التصوير بما إذا لزمه الأمران وأخرج أحدهما وشك فيه, أما إذا لزمه أحدهما فقط وشك في عينه فيتجه أنه يتخير. ونقل عن البيان أنه لو كان له مائتا درهم في كيس ومثلهما في آخر, وشك هل بقي عليه خمسة من جملة زكاة هذه الدراهم فلا شيء عليه, بخلاف ما لو شك في مائتين في كيس بعينه هل أخرج زكاته أو لا؟ فإن الأصل بقاؤها وعليه إخراجها. ومثله لو لزمه كفارات فأعتق ثم شك في بقاء شيء عليه لا شيء عليه, بخلاف ما لو شك هل كفر عن ظهار يوم الجمعة مثلا ا هـ وقياس ما مر أنه يلزمه الخمسة في الصورة الأولى أيضا, والتكفير عما لم يتيقن التكفير عنه

 

ج / 1 ص -225-        والضابط أنه متى لزمه شيء وشك هل أخرجه أو لا - لزمه إخراجه؛ لتيقن شغل الذمة به, فلا تبرأ إلا بتيقن إخراجه, ومتى شك هل لزمه كذا, أو لا؟ لم يلزمه؛ لأن الأصل براءة ذمته. ويؤيد ذلك قول الزركشي: لو كان عليه دين وشك في قدره لزمه إخراج اليقين فقط, قطع به الإمام, اللهم إلا أن تشتغل الذمة بالأصل فلا تبرأ إلا بيقين؛ كما لو نسي صلاة من الخمس, انتهت عبارة شرح العباب. وأشار بقوله: لأن ما ذكره مبني, على ما مر عنه أول الفرع, إلى قوله: ولو كان عليه فوائت لا يدري قدرها وعددها؛ كأن علم ترك صلوات من شهر مثلا وجهل قدرها, قضى ما لا يتيقن فعله منها, كما قاله القاضي وصححه في المجموع. ويوافقه قول بعض الأصحاب لمن قال: علي فوائت لا أذكر عددها - نردك إلى زمن بلوغك: فما تتحقق من وقت بلوغك أنك قد فعلته فذاك, وما شككت فيه وجب عليك قضاؤه ا هـ وهو ظاهر, وأما قول القفال: يلزمه ما تيقن أنه تركه, وما شك فيه لا يلزمه, ففيه نظر؛ لأن الأصل بعد تيقن الترك أنه مخاطب بالجميع, والأصل عدم أدائه له فلزمه قضاء ما شك في أدائه, وهذا أولى من رد القاضي له بأنه إنما يأتي على أن من شك في ترك فرض بعد السلام لا يؤثر؛ لأن ذاك هو الأصح حيث كان المشكوك فيه غير النية والتكبير. وأما تضعيفه - أعني القفال للأول بأن الإنسان ربما لا يتذكر صلاة أسبوع, فيؤدي ذلك إلى التضييق, فيرد بأنه يجب المصير إلى براءة الذمة ما أمكن, وإن كان فيه عسر ومشقة ا هـ.
"وسئل" - نفع الله به - عمن فك الإدغام عمدا مع الإتيان بالحرفين هل تبطل صلاته أو لا؟ "فأجاب" بقوله: الذي يصرح به كلامهم وجريت عليه في شرح العباب البطلان, وعبارته: أو خفف حرفا مشددا بحذف الشدة أو فك المدغم, كذا قيل. والثاني غير محتاج إليه؛ لأن فكه حذف لها بلا عذر؛ أي بأن قدر أو قصر بترك التعلم بطلت قراءته لتلك الكلمة؛ لتغييره النظم, ثم قال بعد أسطر: ومحل بطلان القراءة دون الصلاة بتخفيف المشدد ما لم يتغير به المعنى وإلا بطلت صلاته, كما قال - تبعا للأنوار - ولو ترك تشديد الجلالة من بسم الله, أي مثلا, كما هو ظاهر عمدا بطلت صلاته؛ أي لأنه يغير المعنى بل ربما يؤدي إلى الكفر وإلا يتركه عمدا. فقراءته هي التي تبطل فيعيدها ويسجد للسهو, أو ترك تشديد إياك عمدا عالما بمعناه كفر؛ لأن الإيا ضوء الشمس. هذا إن قصد ذلك, بخلاف ما إذا قصد القراءة الشاذة, وأن إيا إنما خففت لكراهة ثقل تشديدها بعد كسرة؛ فإنه يحرم, ثم يحتمل عدم بطلان صلاته؛ لأن المعنى لم يتغير عند مراعاة ذلك القصد, ويحتمل البطلان؛ لأن نقص الحرف في الشاذة مبطل, وإن لم يتغير المعنى. وترك الشدة كترك الحرف, والأول أوجه؛ لما يأتي من رد علة الثاني, أو ناسيا أو جاهلا سجد للسهو ا هـ وبما ذكره في إياك صرح الخطابي والماوردي والروياني, ويوافق ما قالوه من سجود السهو ما يأتي عن التتمة والبحر وقول الكفاية: وحيث بطلت قراءته يسجد للسهو. وهو ظاهر للقاعدة الآتية: إن ما أبطل عمده يسجد لسهوه. وقول بعضهم: لا سجود للسهو؛ لما مر أن الإبدال وتخفيف الشدة بلا عذر يبطلان القراءة لا الصلاة

 

ج / 1 ص -226-        يرد بأنه يتعين حمل ذلك - كما علم مما مر - على ما إذا لم يتغير المعنى بدليل كلام الشيخين كالأصحاب في اللحن المغير للمعنى ك "أنعمت" بضم أو كسر؛ إن تعمده تبطل الصلاة, انتهت. ومنها في مواضع يعلم نقل التصريح بأن فك المدغم مبطل للقراءة, تارة بأن لم يتغير المعنى, وللصلاة أخرى بأن تغير, فإن قلت: ما وجه بطلان القراءة بفك الإدغام مع عود حرف بدل الشدة فلم يفت شيء قلت: وجهه أن ذلك الحرف المدغم صار نسيا منسيا, ألغى الشارع اعتباره وجعل الشدة بدله, فإذا حذفها صار تاركا لحرف من الفاتحة, ولم ينظروا للحرف العائد بحذفها؛ لما تقرر أن الشارع أعرض عنه وألغى اعتباره بدليل حرمة تعمده ذلك بلا عذر كما هو واضح, وإطباقهم على أن تخفيف المشدد مبطل للقراءة تارة, وللصلاة أخرى دليل على ما ذكرته؛ أنهم ألغوا اعتبار ذلك الحرف المدغم ولم ينظروا لعوده.
"وسئل" - نفع الله بعلومه - عمن اقتدى في ثانية صبح الجمعة هل يقرأ إذا قام إلى ثانيته:
{الم تَنْزِيلُ } أو: {هَلْ أَتَى } أو غيرهما؟ "فأجاب" بقوله: يؤخذ حكم هذا من قولهم: لو ترك سورة الجمعة أو سبح في أولى الجمعة عمدا أو سهوا أو جهلا وقرأ بدلها المنافقين أو الغاشية - قرأ الجمعة أو سبح في الثانية, ولا يعيد المنافقين ولا الغاشية؛ لتقدم قراءتها في الأولى, ولو لم يقرأ في الأولى الجمعة ولا سبح قرأ في الثانية الجمعة والمنافقين أو سبح والغاشية؛ كي لا تخلو صلاته عنهما. ولا نظر لتطويل الثانية عن الأولى؛ لأن محله فيما لم يرد الشرع بخلافه كما هنا؛ إذ المنافقون والغاشية أطول من الجمعة وسبح ا هـ فقضية هذا أنه - إن قرأ في أولاه التي مع الإمام بأن لم يسمع قراءته - هل أتى قرأ في ثانيته الم تنزيل ولا يعيد هل أتى, وإن لم يقرأ في أولاه شيئا أو قرأ غير الم تنزيل وهل أتى قرأهما في الثانية؛ كي لا تخلو صلاته عنهما. ولا نظر لتطويل الثانية؛ لأنها هنا أطول من الأولى ضرورة أن هل أطول من الم تنزيل, ولو سمع قراءة الإمام في أولاه - أعني المأموم - فهو كقراءته, فإن كان الإمام قرأ هل أتى قرأ المأموم في ثانيته الم تنزيل. وإن كان قرأ غيرها قرأ المأموم الم تنزيل وهل أتى؛ لأن قراءة الإمام التي سمعها المأموم بمنزلة قراءته, فإن أدركه في ركوع الأولى فكما لو لم يقرأ شيئا فيقرأ الم تنزيل وهل أتى في الثانية أخذا من قولهم كي لا تخلو صلاته عنهما, هذا ما يظهر من كلامهم. ومنه قولهم: وإذا علم أن ما أدركه معه أول صلاته, وكان قد أدرك معه ركعتين من رباعية, ولم يقرأ السورة في أولييه قضى السورتين في الرباعية بأن يقرأهما في أخيرتيه؛ لئلا تخلو منهما صلاته, ولأن إمامه لم يقرأهما فيهما, وفاته فضلهما فيتداركهما في الباقي كسورة الجمعة في أولى الجمعة, فإنه يقرؤها مع المنافقين في الثانية, أما إذا كان قرأ السورة في أولييه فلا يقرؤها في أخيرتيه. قال الجويني: وعلى هذا لو أدركه في ثانية الرباعية وتمكن من قراءة السورة في أولييه لا يقرؤها في الباقي, وإن لم يتمكن منها في ثانيته وتمكن منها في ثالثته قرأها فيها, ثم لا يقرؤها في رابعته ا هـ وأقره جمع متأخرون, وتعقبته في شرح الإرشاد فقلت: وفيه نظر. والذي يتجه أن الثانية التي أدركها مع الإمام لا يقضي

 

ج / 1 ص -227-        سورتها؛ لأنه أدرك محل قراءة الإمام فلا فرق بين أن يتمكن من قراءة السورة وأن لا, ألا ترى أن من أدرك أولييه ولم يسمع قراءته لا يقضيها في ثالثته ورابعته, كما هو ظاهر, فكذا هذا بالنسبة للثانية. وأما ثانيته التي هي ثالثة الإمام فيقرؤها فيها, فإن لم يتمكن ففيما بعدها, ولو رابعة نفسه؛ لئلا تخلو صلاته عن السورة التي طلبت منه بالنسبة للثانية فتأمله, انتهت عبارة شرح الإرشاد. وبتمامها مع ما قدمته يتضح ما ذكرته في جواب السؤال؛ فإن قلت: قد تقرر أن من أدرك أولييه ولم يسمع قراءته لا يقضيها في ثالثته ورابعته, وهذا قد ينافي ما قدمته, قلت: لا منافاة لأنه لما لم يسمع قراءته كان من حقه أن يقرأ, فلما ترك فوت السنة على نفسه فلم يطلب منه قضاء, بخلاف ما نحن فيه؛ فإنه لا قضاء فيه؛ لأن الثانية محل القراءة بخلاف الثالثة والرابعة فتأمله.
"وسئل" - نفع الله به - هل الأولى قراءة الأذكار والأدعية سرا؟ وكيف كانت قراءته صلى الله عليه وسلم؟ وإذا جهر بها في مسجد وثم مصلون يشوش عليهم هل يمنع أم لا؟ "فأجاب" بقوله: السنة في أكثر الأدعية والأذكار الإسرار إلا لمقتض, وعبارة شرحي للعباب مع متنه: ويسن الدعاء والذكر سرا, ويجهر بهما بعد السلام الإمام لتعليم المأمومين, فإذا تعلموا أسروا. وما اقتضته عبارة الروضة من أن السنة في الذكر الجهر لا الإسرار غير مراد؛ لما في المجموع وغيره عن النص والأصحاب أن السنة الإسرار؛ ومن ثم قال الزركشي: السنة في سائر الأذكار الإسرار إلا التلبية والقنوت للإمام وتكبير ليلتي العيد, وعند رؤية الأنعام في عشر الحجة, وبين كل سورتين من الضحى إلى آخر القرآن, وذكر السوق الوارد؛ أي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إلخ, وعند صعود الهضبات والنزول من الشرفات. قال الأذرعي: وحمل الشافعي رضي الله عنه أحاديث الجهر على من يريد التعليم. وفي كلام المتولي وغيره ما يقتضي استحباب رفع الجماعة الصوت بالذكر, دائما وهو ظاهر الأحاديث؛ أي لخبر الصحيحين: وإن رفع الصوت بالذكر - أي حين ينصرف الناس من المكتوبة - كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وفي النفس من حملها على ما ذكره رضي الله عنه شيء, وإنما ذلك في محصورين. وأما المسجد الذي على الشارع مثلا فلا؛ لأنه يطرقه من لم يدخله قبل, فهو كمسجده الشريف كانت ترده الأعراب وأهل البوادي, ففيه يظهر ندب إدامة الرفع؛ ليتعلم كل مرة من لم يتعلم فيما قبلها ا هـ ولا شيء فيه, فقد استدل في الأم على ندب الإسرار بقوله تعالى:
{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} [الاسراء: 110] نزلت في الدعاء كما في الصحيحين, وبأن غالب الروايات لم يذكر فيها بعد التسليم تهليل ولا تكبير؛ أي فحمل ما فيه الجهر بذلك على أنه للتعليم, واستدل البيهقي وغيره لطلب الإسرار بخبر الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بترك ما كانوا عليه من رفع الصوت بالتهليل والتكبير وقال: "إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا, إنه معكم, إنه سميع قريب" وأما ما ذكره - أعني الأذرعي - آخرا فهو داخل في طلب الشافعي الجهر لتعليم المأمومين إلا أن يقال: إن ظاهر ما مر عن الأذرعي أنه يكتفى بمظنة وجود من يتعلم, وعن الشافعي أنه لا بد من تحقق وجوده, وكلام الزركشي صريح في

 

ج / 1 ص -228-        اعتماد الأول, بل جعل من مقتضيات الجهر أن يريد تأمينهم على دعائه فيجهر حتى يعلموا ما يؤمنون عليه, انتهت عبارة شرح العباب. والجهر بحضرة نحو مصل أو نائم مكروه, كما في المجموع وغيره, ولعله حيث لم يشتد الأذى, وإلا فينبغي تحريمه, والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب.
"وسئل" - نفع الله به - نقل التاج السبكي في طبقاته الكبرى عن أبي عثمان الصابوني أنه قال: مذ صح عندي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسورة الجمعة والمنافقين في ركعتي صلاة العشاء ليلة الجمعة ما تركت قراءتهما فيهما, هل صح هذا الحديث عند أصحاب السنن أو لا؟ ولم نر من ذكره من الفقهاء, وقال السيوطي في الأشباه والنظائر إنه يقرأ فيهما:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص:1] فأيهما أصح وأوفق لفعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ "فأجاب" بقوله: عبارتي في شرح العباب: صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في عشاء ليلة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين, وفي مغربها الكافرون والإخلاص, فينبغي أن يكون ذلك سنة, وهو ما اعتمده التاج السبكي وداوم عليه مدة إمامته بالجامع الأموي, ونقل عن بعض أئمتنا وهو أبو عثمان الصابوني أنه كان لا يترك ذلك سفرا ولا حضرا, انتهت. وبها يعلم أن الحديث صحيح. وأما ما نقل عن الأشباه والنظائر تحريف من الناسخ إن لم يكن سهوا من المؤلف, وأن الفقهاء وإن لم يصرحوا بذلك هو جار على القواعد, على أنه يكفي اعتماد الإمام أبي عثمان المذكور والتاج السبكي وغيرهما, وكم من مسألة لا يذكرها أو يعتمدها إلا واحد ويكون ما قاله فيها هو المعتمد, والله أعلم.

باب شروط الصلاة.
"وسئل" رضي الله عنه - ونفعنا بعلومه - عن الرطوبة المنفصلة بقتل العقرب منها أيعفى عنها أم لا؟ "فأجاب" - فسح الله في مدته - بأنه يعفى عن قليل تلك الرطوبة كقليل دم القملة المقتولة عمدا؛ أخذا من إلحاقهم بالبراغيث كل ما لا دم له سائل, والعقرب مما لا دم له سائل, فحكم رطوبتها حكم دم نحو البراغيث, وقد علمت أن المقتول منها عمدا يعفى عن قليله فكذلك العقرب المقتولة عمدا يعفى عن قليل رطوبتها. نعم, سمها لا يعفى عن شيء منه كما اقتضاه إطلاق جمع متقدمين.
"وسئل" رضي الله عنه عن النجاسة المعفو عنها إذا لاقتها رطوبة هل يعفى عنها أم لا؟ فإذا خرج من رأس المحلوق دم قليل ثم بله الحالق وحلقه هل يعفى عنه أم لا فإن هذه كثيرة البلوى. "فأجاب" - نفع الله به وبعلومه - بقوله: إذا لاقى النجاسة المعفو عنها رطوبة صارت غير معفو عنها. نعم, إن كانت ملاقاة تلك الرطوبة ضرورية أو يشق الاحتراز عنها؛ كملاقاة ملبوسه الذي فيه دم براغيث مثلا لبدنه بعد الغسل, وكملاقاة ما يتقاطر من نحو

 

ج / 1 ص -229-        وضوئه أو من حلاقة رأسه أو نحو ذلك لثوبه عفي عنه؛ لمشقة الاحتراز عن ذلك, والله أعلم.
"وسئل" - متع الله بحياته - عمن خرج من لثته دم قليل فبزق حتى صفا أو لم يصف وبلع ريقه, هل تبطل صلاته؛ لأنه يفطر؟ فإن قلتم: نعم, فهل يعفى عنه لو لم يبلعه؟ "فأجاب" بأن صلاته تبطل, وأما العفو عنه لو لم يبتلعه فقد اختلف فيه المتأخرون كما ذكرت ذلك في شرح مختصر الروض مع تحرير المعتمد منه, وعبارتي: ثم اختلف المتأخرون في العفو عن دم المنافذ فقال جماعة: لا يعفى عن شيء منه, وقال غيرهم: يعفى عن قليله؛ لأنه مما تعم به البلوى, وطالما توقفت في ذلك حتى رأيت في المجموع في باب صلاة المسافر في مسألة ما لو رعف الإمام ما يعلم بتأمله أن الأصحاب متفقون على العفو عن يسير الرعاف, وهذا قاطع للنزاع, وكأن كلا الفريقين - أي القائلين بالعفو وبعدمه - غفل عن ذلك لذكره له في غير محله. ورأيت في المجموع أيضا ما لفظه: وأما الجواب عن أدلتهم فحديث عائشة أي وهو قولها: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه, فإذا أصابه شيء من دم قالت بريقها فمصصته أي أذهبته به. أجاب عنه الشيخ أبو حامد وغيره بأن مثل هذا الدم اليسير لا تجب إزالته بل تصح الصلاة معه, ويكون عفوا, ولم ترد عائشة غسله وتطهيره بالريق؛ ولهذا لم تقل: كنا نغسله بالريق, وإنما أرادت إذهاب صورته لقبح منظره, فبقي المحل نجسا كما كان ولكنه معفو فيه لقلته ا هـ. لفظه بحروفه فتأمله تجده صريحا في العفو مع كونه من الفرج ومع اختلاطه بالريق وهو أجنبي, وفي أن هذا ليس على مذهب المخالف فقط بل على مذهبنا أيضا, فهل بقي بعد هذا ريبة في العفو عن القليل من دم المنافذ؟ وممن صرح بالعفو عنها أيضا من المتأخرين ابن غانم المقدسي والزركشي وابن العماد, وعبارة الزركشي يعفى عن قليل الدم الخارج من الذكر, فإطلاقهم وجوب الاستنجاء فيه غفلة عن هذا, فانظر كيف حكم عليهم بالغفلة, فلولا أنه مذكور في كلامهم لم يصح الحكم عليهم بذلك؛ فعلم أن العفو عن القليل من دم جميع المنافذ هو المنقول الذي عليه الأصحاب, واعتمده النووي وغيره, وأن من خالف في ذلك لم يطلع عليه؛ لأنه مذكور في غير مظنته كما عرفت. ويؤخذ من كلام ابن العماد الذي قدمته في الاستنجاء أن محل العفو عن الدم الخارج من أحد الفرجين أن لا يكون خارجا من معدن النجاسة؛ كالمثانة ومحل الغائط, وأنه لا يضر ملاقاته لمجراها؛ لأن الباطن لا يحكم بنجاسته؛ ولأن ملاقاته ضرورية, وينبغي أن يلحق بالدم في ذلك نحوه من قيح وصديد, ولا ينافي ما تقرر قول المجموع نقلا عن الشيخ أبي محمد: إذا غسل فمه المتنجس فليبالغ في الغرغرة, ولا يبتلع طعاما ولا شرابا قبل غسله لئلا يكون آكلا نجاسة؛ لأنه لم ينص على أنه متنجس بدم لثته مثلا, وعلى التنزل فيحمل على دم اللثة الكثير بدليل كلامه السابق, وعلى التنزل فيحتمل أن يقال بذلك ويكون محل العفو إذا لم يختلط بمأكول أو مشروب؛ لأنه لا ضرورة إلى اختلاطه به, انتهت عبارة الشرح المذكورة, وهي موفية.

 

ج / 1 ص -230-        للغرض في هذا المقام, فلربنا سبحانه أتم الحمد وأكمله, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - نفع الله بعلومه وبركته - عمن صلى على السطح وبينه وبين السطح أي الجانب الذي إلى الشارع أقل من ثلاثة أذرع ولا حائط على السطح مرتفع ثلثي ذراع, فهل يغني عن السترة أم لا؟ "فأجاب" بأن الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة وكلام أصحابنا المتقدمين والمتأخرين أن ما ذكر لا يغني عن السترة؛ لأن القصد من السترة دفع الشيطان والمار حتى لا يقطعا عليه صلاته باشتغاله بوسوسة الشيطان؛ لأنها تقوى وتزيد عند عدم السترة وبمرور المار. ويدل على ذلك الحديث الصحيح على ما قاله جماعة: إنه صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا, فإن لم يجده فلينصب عصا, فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا ثم لا يضره ما في أمامه". وصح على شرط الشيخين أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته" وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبالي بما مر وراء ذلك" وقال: "استتروا في صلاتكم ولو بسهم" وقال: "يجزي من السترة مؤخرة الرحل ولو بدقة شعرة" وأنه صلى الله عليه وسلم كان يعرض راحلته فيصلي إليها. فدلت هذه الأحاديث على أنه لا بد من ساتر بين يدي المصلي؛ حتى يمتنع بسببه الناس من المرور بين يديه فيشتغل بهم والشيطان من التعرض له, فيقطع صلاته بوسوسته لقوتها حينئذ كما مر, وأن قربه من السطح المذكور لا يغني عن السترة وإن امتنع بسببه المرور بين يديه عادة لبقاء مرور الشيطان بين يديه؛ لأن ذلك لا يمنعه منه. والمحذور المترتب على مروره أقوى مما يترتب على مرور الناس؛ لأن المفسدة الحاصلة بوسوسته أسرع وقوعا وأقبح جنسا ونوعا. وكلام الأصحاب صريح في ذلك؛ إذ حاصل المعتمد منه أنه يسن لمريد الصلاة أن يصلي إلى نحو جدار أو عمود فإن لم يجد ذلك فإلى شاخص طوله ثلثا ذراع بذراع اليد, وإن لم يكن له عرض, فإن عجز عنه فإلى مصلى يفترشه كسجادة, فإن عجز عنها فإلى خط يخطه من قدميه نحو القبلة طولا لا عرضا, ومتى عدل عن رتبة إلى دونها مع القدرة عليها كانت كالعدم. وسكتوا عن قدر المصلى والخط, والقياس أنهما كالشاخص ويسن أن يميل السترة عن وجهه يمنة أو يسرة ويجب أن لا يبعدها عن قدميه ثلاثة أذرع, ومتى استتر بسترة معتبرة, وإن لم يرها مقلد المار فيما يظهر حرم المرور بينه وبينها, ولو لضرورة, ولو بعد إزالتها في الأثناء بغير اختياره ما لم يقصر المصلي بنحو وقوف بقارعة طريق أو شارع أو درب ضيق أو باب مسجد أو بالمطاف وقت طواف الناس. هذا حاصل كلامهم وهو صريح فيما ذكرته من أن القرب من طرف السطح المذكور لا يغني عن الستر, والله سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب.
"سئل" - متع الله بحياته - عما لو وجد إمام الجامع أو شخص آخر يصلي إلى غير سترة

 

ج / 1 ص -231-        هل يندب لمن يصلي مقتديا بمن ذكر أن يقرب من سترة وإن أدى إلى الانفراد عن الصف؟ فإن قلتم: نعم, فهل يراعى الترتيب المذكور في الشاخص حتى لو أمكنه أن يبسط مصلى ويقرب من الأول لا يعدل إليه حتى لا يجد حائطا أو سارية وإن بعدت, ولو لم يمكنه الخط في المسجد لكونه مجصصا, هل له أن يخط فيه بمداد ونحوه؟ "فأجاب" - نفع الله بعلومه - بقوله: إن الذي يتجه لي أنه حيث تعارض السترة والانفراد في الصلاة؛ بأن كان لو استتر السترة المعتبرة وقف منفردا, ولو وقف في الصف وقف بلا سترة - قدم الوقوف في الصف؛ لأن اعتناء الشارع به أكثر بدليل الخلاف الشهير في أن من وقف منفردا عن الصف مع إمكان الدخول فيه بطلت صلاته, وبه قال أحمد وتبعه جماعة من أكابر أصحابنا؛ لقوة دليله عندهم, بل وعند غيرهم لكن أجبت عنه في شرح مختصر الروض بما ظهر به - ولله الحمد - وضوح ما ذهب إليه أئمتنا, بخلاف من صلى بلا سترة مع القدرة عليها فإنه لم يجر في بطلان صلاته خلاف, كذلك وما جرى خلاف في الإبطال بفقده أولى مما لم يجر في فقده خلاف, بل ما جرى في الإبطال بفقده خلاف قوي أولى مما جرى في الإبطال بفقده خلاف ضعيف؛ كما يدل عليه متفرقات كلامهم؛ ومنه قولهم: لو تعارض إدراك الجماعة والترتيب بين الفرائض؛ بأن دخل من عليه فائتة الظهر مثلا. ورأى الجماعة في العصر قدم الترتيب؛ فيصلي الفائتة وحده, وإن خشي عدم إدراك الجماعة؛ لأنها وإن كانت فرض كفاية على الأصح عندنا وفرض عين على الأصح عند أحمد لكن القائل بذلك لا يرى بطلان الصلاة بفقدها, ولو مع القدرة عليها, وإنما غاية ما يقول به أن من صلى منفردا مع قدرته على الجماعة أثم, بخلاف ترتيب الصلاة عند القائل بفرضيته فإنه يرى بطلان الصلاة عند فقده. قالوا: فكانت رعايته آكد من رعاية الجماعة؛ لأنه أهم فقدم عليها, وإن خشي أو علم فوتها. وأما ما روي عن أحمد من أن فقدها مبطل للصلاة فهو رواية ضعيفة عند أصحابه فلم يلتفت إليها, بخلاف الإبطال بفقد الترتيب فإنه متفق عند القائلين بوجوبه على أن فقده يبطل الصلاة؛ فثبت أنه آكد من الجماعة, وعلم مما قررته الرد على الإسنوي وغيره في قولهم بتقديم الجماعة عليه, وإذا تقرر لك ذلك تقرر ما في الجماعة والترتيب, وعلمت أن الأصح تقديم الترتيب لما ذكرته. وظهر لك مما مر أن الدخول في الصف مع عدم السترة أولى من الوقوف منفردا مع وجودها. نعم, من أحرم بلا سترة وأمكنه - وهو في الصلاة - أن يتقدم أو يتأخر بفعل قليل إلى سترة معتبرة, ولم يترتب على ذلك خروجه من الصف - كان الأولى له التقديم أو التأخير؛ لأن الفعل القليل لصحة الصلاة سنة كما يدل عليه قولهم: يسن لمن لم يجد سعة إذا أحرم منفردا أن يجر في القيام آخر من الصف إليه؛ ليصطف معه, وكما يدل عليه أيضا خبر الصحيحين عن ابن عباس: رضي الله عنهما بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فقمت عن يساره فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه. ومن ثم قلت في شرح مختصر الروض: ويؤخذ منه ومن حديث جابر الآتي أنه يسن للإمام إذا فعل أحد من المأمومين

 

ج / 1 ص -232-        خلاف السنة أن يرشده إليها بيده أو غيرها, لكن إن وثق منه بالامتثال. وقياس المأموم عليه في ذلك غير بعيد وحينئذ فيكون هذا مستثنى أيضا من كراهة الفعل القليل, ثم رأيته في المهذب قال: فإن لم يحسن علمه الإمام, كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بابن عباس. وهو يؤيد ما ذكرته لكن ظاهره اختصاص ذلك بالجاهل, وهو محتمل لكن قضية قول شرحه: فإن لم يتحول المأموم استحب للإمام أن يحوله, وقول التحقيق: فإن وقف عن يساره أو خلفه ندب التحول إلى اليمين, وإلا فليحوله الإمام؛ لحديث ابن عباس أنه لا فرق, وهو الأوجه, انتهت عبارة الشرح المذكور. واعلم أنه وقع تردد في كل صف هل هو سترة لما خلفه إذا كان بين كل صفين أقل من ثلاثة أذرع؟ والذي يتجه أنه سترة؛ ومن ثم قلت: في الشرح المذكور: قال في التتمة: ولا يستحب الستر بآدمي أو حيوان؛ لشبهه بعبادة عباد الأصنام. وفي مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرض راحلته إليها فيصلي إليها, وكان ابن عمر رضي الله عنهما يفعله, قال النووي فلعله لم يبلغ الشافعي ومذهبه اتباع الحديث فيتعين العمل به؛ إذ لا معارض له. وعلى الأول فالظاهر أنه لا يحرم المرور؛ لأن الستر بذلك غير مطلوب بل يكره إن استقبل الآدمي رجلا أو امرأة وراءه. ومنه يؤخذ أن كل ما كره استقباله كجدار نجس أو مزوق أو نحو ذلك لا يحصل الستر به فلا يحرم المرور, وأن كل صف يكون سترة لما خلفه إن قصدوا الاستتار بهم؛ لأنه حينئذ ليس فيه شبه بما مر عن التتمة ا هـ. وحيث قلنا: يندب لمن في الصلاة أن يقرب من السترة, فليراع الترتيب الذي ذكروه, وهو أنه يقدم الجدار أو نحوه كالعمود؛ فإن عجز عنهما فالشاخص من نحو عصا أو متاع يجمعه بشرط أن يكون طوله ثلثي ذراع فأكثر فإن عجز عنه افترش مصلى كسجادة؛ فإن عجز خط خطا من قدميه نحو القبلة طولا لا عرضا كما رجحه في الروضة, وقضيته أن السترة لا تحصل إذا جعله عرضا من يمينه إلى يساره أو عكسه لكن مقتضى كلام الحاوي وفروعه حصولها. واعتمده بعضهم, وحمل عبارة الروضة على الأكمل, وعبارة غيرها على حصول أصل السنة وليس ببعيد من جهة المعنى وما ذكرته من الترتيب بين المصلي والخط هو ما في التحقيق وشرح مسلم, وقول الإسنوي: الحق ما في الإقليد من التخيير بينهما؛ لأن المصلي لم يرد فيه خبر ولا أثر وإنما قاسوه على الخط, فكيف يكون مقدما عليه - مردود بأن المقيس قد يكون أولى بالحكم من المقيس عليه؛ نظرا للمقصود كما في الخط مع الإيتاء في الكتابة, وبأنه وإن كان أولى نظرا للمعنى - وهو ظهور الستر - لكن الخط خالف فيه كثيرون, ولا يلزم أن يمنعوا المصلي؛ لما ذكر ولو عجز عما عدا الخط أو كان بمحل لا يمكنه أن يخط فيه خطا كأن يكون بمسجد مجصص ثم خط بين يديه طولا أو عرضا على ما مر خطا بمداد, أو جعل محل الخط علامة أخرى؛ كأن كان معه عصا ولم يمكنه نصبها فبسطها على هيئة الخط فيحتمل أن يقال: إن ذلك يقوم مقام الخط؛ لأن القصد به إشعار المار بما يمنعه من المرور بين يدي المصلي, وبأن القصد بالسترة ليس دفع المار فحسب, بل دفع تسلط الشيطان على المصلي المسبب من عدم السترة

 

ج / 1 ص -233-        كما يشير إليه ما صح عند الحاكم على شرط الشيخين من قوله صلى الله عليه وسلم "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها, لا يقطع الشيطان عليه صلاته". ويحتمل أن يقال: إن ذلك لا يقوم مقام الخط فلا تحصل سنة الستر بذلك, ويحرم المرور بين يدي المصلي؛ لأن الستر به غير معتاد في الصلاة, فيكون المار مع وجوده معذورا. ولعل الأقرب هو الأول فيحصل به سنة الستر بذلك. ويحرم المرور على من علم أن ذلك سترة, ولا نسلم أن السترة يشترط اعتيادها؛ فإن الخط نفسه لم يعتد الستر به إلا نادرا, فتكون هذه ملحقة به بجامع عدم ظهور السترة في كل منهما, فإن الخط ليس فيه سترة ظاهرة؛ ومن ثم وقع الخلاف القوي لولا صحة الحديث به في الاعتداد به. ومع عدم ظهور السترة فيه جعلوه سترة؛ تبعا للحديث وألحقوا به المصلي الأولى منه بالحكم؛ لظهور السترة فيه كما مر, فدل ذلك على أن ظهور السترة ليس شرطا, وعلى أن الاكتفاء بالخط ليس تعبدا بل هو معقول المعنى؛ وذلك لأن القصد به إشعار المار بما يمنعه من المرور والشيطان بما يمنعه من التسلط على المصلي؛ لقطع صلاته. وهذا المعنى موجود في وضع العصا على هيئة الخط بالمداد السابق ونحوهما فظهر إلحاقهما به والاعتداد بهما في السترة, وعليه فهل هما في مرتبة الخط؛ لأنهما ملحقان به أو في مرتبة المصلي؟ الذي يتجه - الأول؛ لأن المصلي فيه من ظهور السترة ما ليس فيها فكان إلحاقهما بالخط وجعلهما في مرتبته أولى, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عن فتح المأموم على إمامه الذي غلط في القراءة أو توقفت عليه هل تبطل به صلاة المأموم إذا قصد الرد على ما هو ظاهر كلام جماعة من الأئمة أم لا على ما جزم به جمع متأخرون كالدميري وابن العماد وما الذي يفتى به الأول أو الثاني؟ وهل نص على المسألة المتقدمون أم لا؟ وهل قصد القراءة مختص بالفاتحة إذا توافق محل قراءتها أم لا؟ والتسبيح للتنبيه والجهر بالتكبير للإعلام كالفتح أم لا؟ وقد تناقض كلام الأئمة في المسائل المذكورة بينوا لنا بيانا شافيا؟ "فأجاب" - فسح الله في مدته - بقوله: أما مسألة الفتح والتنبيه والإعلام بالتكبير ففيها اضطراب, وحاصل المعتمد منه أنه من نبه غيره بقرآن أو ذكر؛ كأن قال لجماعة استأذنوا في الدخول عليه: ادخلوها بسلام آمنين أو باسم الله, فإن قصد التنبيه وحده أو لم يقصد شيئا بطلت صلاته, كما في تحقيق النووي ودقائقه, وبحث في المجموع أنه إن كان انتهى في قراءته إلى تلك الآية لم تبطل وإلا بطلت واعتمده الأذرعي والأوجه أنه لا فرق, بل حيث وجد صارف فلا بد من قصد القرآن أو الذكر وحده أو مع غيره مما يأتي, ويأتي هذا التفصيل في الفتح على الإمام بالقرآن أو بالذكر؛ كأن أرتج عليه نحو كلمة الشهادة في التشهد فقالها المأموم, وفي الجهر بالتكبير من الإمام أو المبلغ فإن قصد القرآن أو الذكر أو التكبير وحده أو مع قصد الإعلام لم تبطل صلاته, وإن قصد الإعلام وحده أو أطلق بطلت, سواء في ذلك ما لا يصلح لتخاطب الناس به من نظم القرآن والأذكار وما يصلح, خلافا للإسنوي ومن تبعه؛ لأن المقصود من الصلاة الخضوع للحق

 

ج / 1 ص -234-        سبحانه ومناجاته بتلاوة كتابه على الوجه الخاص المشروع كما أرشد إليه حديث مسلم: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس, إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن", فقصد التنبيه أو الفتح مثلا مع قصد القرآن أو الذكر تابع لما هو المقصود فلا يؤثر, بخلاف مجرد قصد التنبيه أو الفتح أو الإعلام لصرفه الذكر أو القرآن عن مقصود الصلاة الأصلي إلى معنى ما يتخاطب به, فأشبه كلام الناس فانطبق عليه تعليلهم؛ إذ "سبحان الله" حينئذ بمعنى تنبيه "والله أكبر" بمعنى ركع الإمام. وبهذا يندفع ما للإسنوي هنا, ثم ما ذكر من التسوية في هذا التفصيل من الفتح وغيره مما تقرر, هو ما اقتضاه كلام الرافعي وغيره واعتمده الإسنوي وغيره, وهو المعتمد ونازع فيه جماعة كابن المقري تبعا للبلقيني وغيره بأمور طويلة بينت في شرح مختصري للروضة أنها كلها مردودة, ولا نظر إلى أن الفتح سنة؛ لأن شرط كونه سنة قصد القراءة فلا بدع عند انتفاء ذلك في الإبطال به؛ لأنه لما حصل الإفهام المجرد منه أشبه كلام البشر, وإنما لم تبطل الصلاة بالنذر أو العتق؛ لأنه لم يقصد به إفهام أحد وإنما هو إنشاء قربة؛ ومن ثم لو قصد به إفهام الغير العتق أو التزام الصدقة بحيث أخرجه من الإنشاء إلى الإخبار أبطل بلا شك, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه هل يعفى عما يصيب ثدي المرضعة من ريق الرضيع المتنجس؛ كقيء أو ابتلاع نجاسة أم لا؟ "فأجاب" - فسح الله في مدته - يعفى عن فم الصغير وإن تحققت نجاسته كما صرح به ابن الصلاح وقال: يعفى عما اتصل به شيء من أفواه الصبيان مع تحقق نجاستها, وألحق به غيره أفواه المجانين وجزم به الزركشي ويؤيد ذلك نقل المحب الطبري عن ابن الصباغ, واعتمده أنه يعفى عن جرة البعير فلا ينجس ما يشرب منه, ويعفى عما تطاير من ريقه المتنجس, وألحق به فم ما يجتر من ولد البقر والضأن إذا التقم أخلاف أمه؛ لمشقة الاحتراز عن ذلك سيما في حق المخالط لها, ويؤيده ما في المجموع عن الشيخ أبي منصور أنه يعفى عما تحقق إصابة بول ثور الدياسة له, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"سئل" رضي الله عنه هل يعفى في حق من تحضن الطفل عن القليل من بوله وغائطه وقيئه أو لا؟ "فأجاب" لا يعفى عما ذكر لا للحاضنة ولا لغيرها.
"وسئل" أيضا ما حكم النعل المسلمة إلى الإسكافي الطهارة أو النجاسة؟ "فأجاب" بقوله: حكم النعل المسلمة لمن ذكر الطهارة؛ لأنها الأصل.
"وسئل" أيضا هل يعفى عن عرق الرجل في النعال المتنجسة؟ "فأجاب" بقوله يعفى عما يصيب الرجل من النعال المتنجسة بواسطة العرق إن كانت النجاسة التي في النعال معفوا عنها؛ وإلا لم يعف عن ذلك.
"وسئل" أيضا رضي الله عنه عن حياض البرك والآبار التي يشرب فيها الكلاب ويعسر

 

ج / 1 ص -235-        تطهيرها؛ لكثرة شرب الكلاب من مائها, وكذلك الآنية الموضوعة في البيوت لشرب نحو الدجاج والكلاب يشرب من مائها ويعسر تطهيرها بعد كل مرة, هل يعفى عن ذلك للمشقة؟ "فأجاب" بقوله: لا يعفى عما يشرب منه الكلاب مما ماؤه قليل بل هو نجس يجب على من أصابه أن يغسل المحل الذي أصابه سبع مرات إحداها بالتراب الطهور, سواء في ذلك الموضوع لشرب الدجاج أو غيره.
"وسئل" أيضا عن الشارع الذي لم يكن فيه طين وفيه سرجين وعذرة الآدميين وزبل الكلاب هل يعفى إذا حصل المطر عما يصيب الثوب والرجل منه؟ "فأجاب" بقوله: يعفى عما ذكر في الشارع مما يعسر الاحتراز عنه لكونه عم جميع الطرق, ولم ينسب صاحبه إلى سقطة ولا إلى كبوة وقلة تحفظ.
"وسئل" أيضا عن الأواني التي عليها ونيم الذباب إذا لمسها مع رطوبة يده أو هي هل يعفى عن ذلك؟ "فأجاب" بقوله: يعفى عن لمس الآنية التي عليها ونيم الذباب, ولو مع رطوبة يده, لكن بعرق ونحوه لا مطلقا ولا مع رطوبة الآنية.
"وسئل" أيضا عن ذرق الطيور في أماكن الصلاة المهيأة لها غير المساجد, وفي الآبار, والبرك القليلة الماء, والسقايات هل يعفى عنه؟ "فأجاب" بقوله: يعفى عن ذرق الطيور في أماكن الصلاة, وإن كانت غير مساجد, ومن عبر بالمساجد جرى على الغالب, ويعفى عنه أيضا في الماء القليل ما لم يغيره.
"وسئل" رضي الله عنه وأرضاه عن قولهم: تبطل الصلاة بحرف مفهم؛ هل المراد به أن يكون مفهما عند المتكلم أو مفهما في نفس الأمر ولو من غير لغته. "فأجاب" - أبقاه الله - بقوله: الذي يتجه من كلامهم وتعليلهم أنه لا بد أن يكون مفهما عند المتكلم؛ لأنه حينئذ يصلح للتخاطب به بالنسبة لمعتقده, بخلاف ما إذا لم يفهم عنده, وإن أفهم عند غيره؛ لأنه لم يوجد منه بحسب ظنه ما يقتضي قطع نظم الصلاة؛ وبهذا يعلم الجواب عما يورد على ذلك من أن العبرة في العبادات بما في نفس الأمر لا بما في ظن المكلف؛ وذلك لأن محل ذلك في شروط العبادات ونحوها, أما مبطلاتها فالمدار فيها على ما يقطع نظم الصلاة, والكلام لا يقطع نظمها إلا إن كان مفهما عند المتكلم, فإن جهل الإفهام بما هو مفهم تأتى فيه ما قالوه في الجهل؛ لحرمة الكلام من أنه إن عذر في ذلك لقرب إسلامه أو نشئه ببادية بعيدة عذر وإلا فلا, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - فسح الله في مدته - عن الوشم هل يجب كشطه أو لا؟ "فأجاب" بقوله: صريح كلام الشيخين أنه واجب حيث لم يخش ضررا يبيح التيمم, وقضية ما في الشامل والبيان عن نص الأم وما في فتاوى القفال وجوب إزالته مطلقا, وعلى كل فمحله إذا فعله باختياره, كما صرح به ابن أبي هريرة والماوردي ومجلي في الذخائر في نزع العظم أما إذا فعل به

 

ج / 1 ص -236-        مكرها أو فعله, وهو غير مكلف فلا تجب إزالته مطلقا, كذا قيل وفيه نظر؛ لأنه حيث انتفت خشية محذور التيمم فأي عذر في بقاء النجاسة؟ ولو وشم الكافر نفسه ثم أسلم وجب عليه نزعه.
"وسئل" رضي الله عنه بما صورته: كثير من الموسوسين إذا أراد أن يبسمل يقول: بس, ويكررها فهل تبطل صلاته أو لا؟ "فأجاب" بقوله: إن قصد بذلك القراءة لم تبطل, ولا ينافيه قولهم: إن الوسوسة في القراءة ليست بعذر في التخلف عن الإمام؛ لأنه ثم يمكنه المفارقة, فربطه صلاته بصلاته مع فحش التخلف تقصير؛ فأبطل بخلافه هنا؛ إذ لا تقصير منه. فقول بعضهم بالبطلان هنا فيه نظر.
"وسئل" - فسح الله في مدته - عن المصلي إذا قال في دعاء الافتتاح: وجهت وجهي وأسلمت قلبي للذي فطر السموات والأرض, هل تبطل صلاته لزيادة "وأسلمت قلبي"؟. "فأجاب" بقوله: لا تبطل الصلاة بذلك؛ لأنه ذكر في البخاري وغيره أن من جملة أذكاره صلى الله عليه وسلم:
"اللهم أسلمت وجهي إليك".
"وسئل" رضي الله عنه هل تبطل الصلاة بتحريك الأجفان واللسان ثلاثا؟ "فأجاب" بقوله: أفتى بعضهم بأن ذلك لا يبطلها أخذا من قول الرافعي وأما الحركات الخفيفة إذا كثرت وتوالت فلا تضر, فشمل حركة ما ذكر؛ لأنها أعضاء خفيفة؛ إذ المراد خفة العضو المتحرك بدليل قولهم: إن المضغ وحده فعل يبطل كثيره مع خفة المضغ, لكن آلته, وهي اللحي عضو غير خفيف. نعم, أفتى غيره بالبطلان بتحريك الأجفان, وقياسه البطلان بتحريك اللسان, والله - تعالى - أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه أتت نخامة مصليا؛ إن لفظها ظهر حرفان, وإن تركها نزلت لجوفه, فما حكمه؟ "فأجاب" بحث الزركشي جواز لفظها: وإن ظهر حرفان تقديما لمصلحة الصوم؛ أي ولو نفلا؛ أي فإن الفرض أنها نزلت لحد الظاهر من الفم؛ وهو مخرج الحاء المهملة على المعتمد ولم يمكنه إخراجها إلا بظهور حرفين مثلا, فيغتفر أن له خشية من نزولها للباطن فيفسد صومه. وظاهر أن مراده بجواز ذلك وجوبه إن كان الصوم فرضا, ويؤيد ما ذكره من رعاية تقديم مصلحة الصوم على الصلاة - قولهم في المستحاضة الصائمة إنها تترك الحشو نهارا؛ رعاية لمصلحة الصوم دون مصلحة الصلاة, فإن قلت: يشكل على كل من المنظر والمنظر به تقديمهم مصلحة الصلاة على الصوم فيمن ابتلع بعض خيط قبل الفجر وطرفه خارج, ثم أصبح صائما فإنه إن ابتلع باقيه أو نزعه أفطر وإلا بطلت صلاته, فطريقه في صحتهما أنه ينزع منه وهو غافل, قال الزركشي ويجبره الحاكم على نزعه ولا يفطر؛ كالمكره. قال: ولو قيل: لا يفطر وإن نزعه باختياره لم يبعد؛ تنزيلا لإيجاب الشرع منزلة الإكراه كما لو حلف ليطأها في هذه الليلة, فوجدها حائضا لا يحنث بترك الوطء ا هـ،

 

ج / 1 ص -237-        ويمكن أن يجاب بأن محل تنزيل إيجاب الشرع منزلة الإكراه إذا كان لا يجد مندوحة كالمسألة التي نظر بها, بخلاف مسألتنا فإن له مندوحة عن تعمد النزع برفع أمره إلى الحاكم أو بالنزع منه وهو غافل. نعم, إن لم يجد حاكما ولا من ينزعه وهو غافل اتضح حينئذ ما بحثه, قلت: قد فرقوا بين مسألة الخيط والحشو المنظر بها بأن الاستحاضة علة مزمنة, فالظاهر دوامها, فلو روعيت الصلاة فيها؛ لتعذر قضاء الصوم للحشو؛ ولأن المحذور فيها لا ينتفي بالكلية - فإن الحشو يتنجس, وهي حاملته بخلافه ثم, ولك أن تفرق بين مسألة الخيط ومسألة النخامة بأن الصلاة عهد فيها اغتفار الكلام القليل, ولو مع التعمد والعلم والاختيار, وللعذر كالتنحنح للجهر بأذكار الانتقالات عند الحاجة إلى سماع المأمومين, كما بحثه الإسنوي وتبعه جماعة, وكالتنحنح عند تزاحم البلغم بحلقه إذا خشي أن يختنق, كما بحثه الأذرعي وكالضحك والبكاء والأنين والتنحنح مع الغلبة. قالوا: لأن الكثير يقطع نظمها دون القليل, وكالتلفظ فيها بقربة كنذر وعتق حيث لا تعليق ولا خطاب. وأما الصوم فلا يغتفر فيه إدخال شيء إلى الجوف, ولا إخراج شيء منه مع التعمد والعلم والاختيار, ولو لعذر, فعلمنا انقطاع نظمه بأحد هذين, فلم يغتفر للصائم واحد منهما وعدم انقطاع نظم الصلاة بالكلام القليل للعذر فاغتفرناه, وأوجبنا عليه في الفرض, وأبحنا له في التنفل التنخم, وإن ظهر منه حرفان مثلا, فتأمل ذلك فإن ما مر عن الزركشي في التنخم يشكل عليه ما ذكرته في الخيط؛ لولا ملاحظة هذا الفرق الجلي.
"وسئل" - فسح الله في مدته - عن عار متنجس لم يجد إلا ثوبا متنجسا لا يمكنه تطهيره ولم يجد ماء يتطهر به, هل يصلي عاريا أو يلبس الثوب لستر العورة؛ فقد قيل في كلام بعض المتأخرين إنه يلبس الثوب؛ تخريجا على قاعدة ارتكاب أخف الأمرين, ونقل عن بعض آخر أنه لا يجوز له لبس الثوب المذكور؛ أخذا من إطلاقهم أنه يصلي عاريا؛ إذ ظاهر ذلك, سواء كان بدنه طاهرا أم نجسا؟ "فأجاب" بقوله: في كلامهم إشارة إلى كل من الرأيين؛ لكنه إلى الثاني أميل, وبيانه تصريحهم بأنه إذا تعارض واجبان أو حرامان قدم آكدهما, وفي مسألتنا تعارض حرامان: لبس الثوب النجس, وكشف العورة, فيقدم آكدهما؛ وهو عدم اللبس. ووجه آكديته قولهم: هل يصلي العاري قائما ويتم الركوع والسجود محافظة على الأركان؟ أو يصلي قاعدا موميا محافظة على ستر العورة؟ أو يتخير بينهما أوجه ثلاثة؟ والأصح الأول؛ فهذا صريح في أن تمام الركوع والسجود آكد من ستر العورة, ومع ذلك صرحوا فيمن جلس على نجاسة مماسة لبعض بدنه أو ملبوسه ولا يقدر على دفعها - أنه يصلي عليها قائما حتما, ويلزمه خفض رأسه للسجود إلى حيث لو زاد أصابها. ولا يجوز له إصابتها كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه وصححه في المجموع والتنقيح والتحقيق. ووجهوه بأن اجتناب النجاسة آكد من استيفاء السجود؛ إذ قد يسقط القضاء مع الإيماء بخلافه معها, فإذا كانت آكد من

 

ج / 1 ص -238-        ستر العورة فإذا قدم اجتنابها على الآكد من الستر فلأن تقدم على الستر أولى, لا يقال: هو يلزمه على كل تقدير, فما فائدة اجتنابها؟ لأنا نقول هو - وإن لزمه القضاء - صلاته صحيحة مخرجة للعهدة عن إثم إخراجها عن الوقت, وإنما تصح وتخرج عن العهدة إن اجتنبت النجاسة فيها مهما أمكن. وليس من أعذار المتضمخ بالنجاسة في الصلاة كشف العورة؛ فقد عدوا من الأعذار المبيحة لكشفها في الصلاة ما لو لم يجد إلا ثوبا متنجسا, فوجود الثوب المتنجس مبيح للكشف, وتنجس بعض البدن ليس مبيحا للبس الثوب النجس, فنتج من ذلك كله أن الأوجه بل المصرح به كما علمت أنه لا يجوز لبس الثوب النجس, وأنه يصلي عاريا - وإن لزمته الإعادة - فإن قلت: ينافي ذلك قول النووي في بعض كتبه - في حاضر لم يجد إلا ما يكفي للحدث أو النجاسة ببدنه - أنه يتخير بين صرفه لها أو للحدث؛ لوجوب القضاء على كل تقدير, قلت: لا ينافيه؛ لأن الطهارة من كل منهما شرط للصحة فبينهما نوع تساو, وأيضا فلأنا لو أوجبنا صرفه لها حينئذ لكان مصليا مع الحدث فلم يفد الوجوب شيئا, وأما ما يتخيل من أنه يفيد تخفيفا فإنه لو صرف لها صلى بحدث عنه بدل؛ وهو التيمم, ولو صرف له صلى بنجاسة ليس عنها بدل, فيجاب عنه بما تقرر من أن تقاربهما في الشرطية - مع وجوب القضاء على كل تقدير - اقتضى المسامحة له حتى خير, وإن كان هذا التخيل هو ملحظ ما في بعض كتب النووي أيضا, ونقله عن الأصحاب من إطلاق وجوب تقديمها, وهو القياس, والله أعلم.
"وسئل" رضي الله عنه عن ذرق الذباب إذا وقع في الدواة هل يعفى عنه؟ "فأجاب" بقوله: صرح الشيخ أبو إسحاق في النكت بأنه يعفى عنه.
"وسئل" رضي الله عنه بما صورته: ما الحكم فيما لو تحرك في الصلاة حركتين متواليتين, ثم أراد حركة لشيء مسنون في الصلاة؛ كأن رأى بين قدميه أكثر من شبر وأراد تقريبهما, أو رآهما زائلتين عن سمت القبلة وأراد توجههما, أو نحو ذلك. وقد ذكروا أنه لو خطا بإحدى رجليه ثم نقل الأخرى إلى محاذاتها لا يعد خطوتين؛ لأن ذلك من مصلحة الصلاة, فهل حكم كل مسنون في الصلاة كذلك؟ ولو زالت الأقدام وأطرافها عن محلها حال القيام عند الركوع أو السجود هل يعد ذلك حركات أم لا؟ "فأجاب" بقوله: قد صرحوا بأن تصفيق المرأة في الصلاة, ودفع المصلي للمار بين يديه لا يجوز أن يكون بثلاث مرات متوالية مع كونهما مندوبتين, فيؤخذ منه البطلان فيما لو تحرك حركتين في الصلاة, ثم عقبهما بحركة أخرى مسنونة, وهو ظاهر؛ لأن الثلاث لا تغتفر في الصلاة؛ لنسيان ونحوه مع العذر, فأولى في هذه الصورة. وشرط الحركة التي تبطل ضم حركتين إليها - أن تكون بعضو مستقل فلا أثر لحركة نحو الأصابع وإن كثرت, وقد صرح صاحب الكافي بأن الذهاب والعود في الحك والرفع والوضع مغايرة واحدة, وحينئذ فيعرف حكم ما ذكر في السؤال من زوال أطراف الأقدام أو نفسها عن محلها

 

ج / 1 ص -239-        "وسئل" رضي الله عنه بما صورته: ذكروا أن محل العفو في النجاسة المعفو عنها ما لم يباشرها مائع, وحديث عائشة رضي الله عنها ما كان لأحدنا إلا ثوب واحد..إلخ - فيه الريق, وهو مائع, فهل يقال: هو - وإن لم يكن دليلا على أنه مطهر للنجاسة - يكون دليلا على أنه غير مؤثر في التنجيس, ويقاس عليه غيره من المائعات؟ "فأجاب" بقوله: ما ذكر في حديث عائشة لا دليل فيه على التطهير بالمائع ولا على عدمه, ولا على أن ذلك لا يؤثر الاختلاط به أو يؤثر, أما أولا فلأنها لم تقل إنها صلت في الثوب الذي أصابه, ذلك قبل تطهيره, وعلى التنزل فهو مذهب صحابي, وهو غير حجة عندنا.
"وسئل" رضي الله عنه هل يعفى عن قليل البول وغيره؛ من السلس وغيره, ابسطوا لنا الجواب؟ "فأجاب" بقوله: صرح الأصحاب بأن سلس البول والمذي وغيرهما كالمستحاضة, وقيده في المجموع بسلس هو عادة ومرض, أما من خرج منه مذي بسبب حادث كنظر وقبلة فله حكم سائر الأحداث في وجوب غسله والوضوء منه عند خروجه للنفل والفرض؛ لأنه لا حرج فيه, قال ابن العماد: ويعفى عن قليل سلس البول في الثوب والعصابة بالنسبة لتلك الصلاة خاصة, وأما بالنسبة للصلاة الآتية فيجب غسله أو تجفيفه وغسل العصابة أو تجديدها بحسب الإمكان, ويعفى عن كثير دم الاستحاضة إن لم يمكنها الحشو لتأذيها به ا هـ. وقوله: يعفى عن قليل بول السلس في الثوب مأخوذ من كلام التنبيه. وظاهر كلام الزركشي اعتماده, لكن تفرقته في العفو بين بول السلس ودم الاستحاضة فيها نظر, والوجه استواؤهما في العفو؛ عن قليلهما بالنسبة للثوب؛ وعن كثيرهما بالنسبة للعصابة, ويؤيد ذلك قول الروضة: وأصلها الضرب السادس؛ أي من النجاسات المعفو عنها في أنواع متفرقة, منها النجاسة التي تستصحبها المستحاضة, وسلس البول, فسوى بينهما في العفو, وينبغي حمله على ما ذكرناه. على أن الرافعي بحث العفو عن قليل البول من الصحيح, قال: لأن الابتلاء به أغلب وأعم من الدم. لكن أجاب ابن دقيق العيد بأنهم لمحوا فيه زيادة الاستقذار. وأجاب غيره بأن الدم ليس له مخرج مخصوص, ولا يخرج بالاختيار غالبا؛ فيعسر الاحتراز عنه, بخلاف البول. واعتمد الأذرعي البحث لا على إطلاقه فقال: "لا يبعد إلحاق يسير البول بالدم اليسير في العفو في حق الشيخ الهرم والشيخة, ومن استرخى ظهره لهرم أو مرض, أو إحليله لعنة أو شلل؛ فإن تحفظه مما يبقى في المخرج عسر أو متعذر, وإن استبرأ.
"وسئل" - نفع الله به - عمن تنجس بعض ثوبه وانبهم فمس بعضه رطب لم يتنجس به, ولو وقف على بعضه وصلى لم تصح صلاته, فما الفرق؟ "فأجاب" بقوله: الفرق أن الصلاة يشترط لصحتها ظن طهارة الثوب, ولم يوجد. والنجاسة لا بد فيها من تحقق مماسة المحل النجس, ولم يوجد, فاختلف مأخذهما.
"وسئل" رضي الله عنه عن قول الفقهاء: يجوز أكل دود الطعام وروث الجراد ونحوه معه

 

ج / 1 ص -240-        هل العفو عن ذلك بالنسبة للأكل فقط أو مطلقا حتى لا يجب عليه غسل فمه بالنسبة للصلاة ونحوها, أو إذا أكله ليلا وأصبح صائما, ولم يغسل فمه وازدرد ريقه, أو ما الحكم فيها؟ "فأجاب" بقوله: إن الذي صرحوا به في دود نحو الخل أنه لا ينجس ما هو فيه مما نشوءه منه, وإن كان نجسا؛ لعسر الاحتراز عنه, وأنه يجوز أكله معه, وأنه لا يجب غسل الفم منه. وصريح هذا أنه معفو عنه مطلقا, وأنه لا يجب غسل الفم منه بالنسبة للصلاة, ولا للصوم ولا لغيرهما, وأما ما ذكره السائل من جواز أكل روث الجراد ونحوه معه - فهو ما مشى عليه الشيخان في صغار السمك, وألحق به في الروضة الجراد, وهو المعتمد, خلافا لما يوهمه كلام القمولي وغيره, فلا يتنجس الفم, ولا يجب غسله للصلاة ولا لغيرها, نظير ما مر في الدود.
"وسئل" - نفع الله به - عمن تنحنح؛ لتعذر القراءة الواجبة, فهل يعذر وإن ظهر به حروف كثيرة عرفا أو يفرق بين الكثرة والقلة؛ كما إذا غلبه الضحك ونحوه؟ "فأجاب" بأن قضية كلام المجموع والروضة؛ وأصلها أنه لا يعذر في التنحنح للذكر الواجب إلا إذا لم يظهر به حروف كثيرة عرفا؛ أخذا مما ذكراه في التنحنح ونحوه للغلبة, وهو ظاهر وإن خالف فيه الإسنوي وغيره. نعم, لو تعذر الإتيان بالواجب القولي إلا بتنحنح كثير - فينبغي عدم البطلان, ويفرق بينه وبين نحو الغلبة بأن هذا لمصلحة الصلاة بخلاف ذاك.
"وسئل" - فسح الله في مدته - عن الإشارة بالعين أو الرأس وفي تحريك الأجفان واللسان في الصلاة, هل هي من الأفعال الخفيفة حتى لا تبطل الصلاة بكثيرها, أو لا حتى تبطل بثلاث؟ وقد صرح في الأنوار أن الإشارة بالعين أو اليد أو الرأس قليل, وهل المراد الإشارة الواحدة أو أعم؟ وهل اليد والرأس والعين من الأعضاء الصغار حتى لا تبطل بكثير منها أو لا؟ "فأجاب" بقوله: أما تحريك الرأس ثلاثا متوالية - فمبطل كما صرحوا به, وأما تحريك الأجفان واللسان فقد ذكرت حكمهما في شرح العباب وغيره, وعبارته: قال الأذرعي: ومن القليل إدامة تحريك الأجفان, وعبارة غيره: ولا تبطل بإدامة تحريك الأجفان في الأصح ا هـ وكأنهم نظروا لكونها غير مستقلة بالحركة, فهي كالأصابع ويتجه إلحاق اللسان بها في ذلك, انتهت. ووجه الإلحاق أن كلا منهما غير مستقل بالحركة؛ لأنه إذا تحرك لا يتحرك كله بل بعضه فهما كالأصابع, بخلاف نحو الرأس فإنه يتحرك كله, وبخلاف اليد مثلا فإنها كذلك؛ ومن ثم قالوا: شرط عدم البطلان بتحريك الأصابع أن لا يتحرك كفه بالذهاب والإياب, كما في الكافي. وقيل: لا يضر تحريكها أيضا؛ لأن أكثر البدن ساكن, ويرد بأنه لا عبرة بسكون أكثر البدن مع استقلال العضو المتحرك؛ لأن المدار هنا على العرف, ولا شك أن العرف يعد تحرك اليد وحدها المتوالي ثلاثا كثيرا, فأبطل لمنافاته للصلاة؛ وإن كان أكثر البدن ساكنا. وبما تقرر يعلم أن مراد الأنوار بقوله: الإشارة باليد أو الرأس قليل, تحريك أحدهما مرة أو مرتين أو ثلاثا غير متوالية؛ أما الثلاث المتوالية بأحدهما فلا شك بالبطلان به؛ كما صرحوا به.

 

ج / 1 ص -241-        "وسئل" - أدام الله النفع بعلومه - عما لو عرضت للمصلي نخامة وبإخراجها يظهر حرفان, هل يخرجها ولا تبطل صلاته أو يبتلعها وإن بطلت صلاته؟ "فأجاب" بقوله: عبارتي في شرح العباب: وبحث الأذرعي أنه إذا تراكم البلغم بحلقه أو غص بريقه, وخشي أن ينخنق إن لم يتنحنح فتنحنح للضرورة لم يضر. والزركشي وغيره أنه لو كان صائما وحصلت نخامة - إن تنحنح - خرجت فيصح صومه أنه يلفظها وإن لزم إظهار حرفين, ووجهه ما فيه من تصحيح الصوم والصلاة؛ إذ يبطلها ما يبطله؛ لأن إظهار الحرفين إذا اغتفر لتعذر القراءة الواجبة - فليغتفر لصون الصوم والصلاة عن الإبطال سيما إن كانا فرضين أو أحدهما, بل ينبغي وجوب لفظها إن كان الصوم واجبا, وكذا الصلاة, ويحتمل خلافه. وبما وجهته به يرد على من نازع فيه. وأفتى الشرف المناوي بأن من عرضت له نخامة فوصلت لحد الظاهر؛ ولم يمكنه مجها إلا بالتنحنح وإلا وصلت للباطن - يتركها تنزل إليه ولا تبطل صلاته, وإن وصلت لحد الظاهر لعذره بسبب إبطال الصلاة بالتنحنح حالا ا هـ وكأنه أخذ ذلك من قول الجلال البلقيني. "سئلت" عما لو عرضت له نخامة؛ إن قطعها ومجها ظهر منه حرفان؛ فتبطل صلاته. وإن تركها بطلت وأفطر, فما الذي يرتكبه من هاتين المفسدتين؟ فأجبت: بأنه يرتكب الترك؛ لأنه أخف ا هـ. ولك رد الأول؛ لأن وصولها للباطن بعد خروجها لحد الظاهر مبطل, وكذا التنحنح لإخراجها على ما زعمه, فما المرجح لاغتفار الأول دون الثاني؛ فإما أن يقال بتخييره بين ترك التنحنح حتى تنزل, وفعله لإخراجها؛ لتعارض مبطلين بلا مرجح. أو يقال بالبطلان بكل منهما أو باغتفار التنحنح فقط؛ لأنه عهد اغتفار تعمده لأجل العذر في الصلاة, بخلاف تعمد المفطر, وهذا هو الأقرب. والثاني بأنه إذا ارتكب الترك؛ فإن قال مع ذلك: يقدم بطلان الصلاة - ساوى كلام المناوي فيرد بما رددته به؛ وإن قال بإبطالها, فالقياس تخييره لا تعين الترك. ثم هذا كله إنما هو في مفطر, أما الصائم فأمره بالترك المؤدي لإفطاره وبطلان صلاته على الاحتمال الثاني, ولإفطاره فقط على الاحتمال الأول - لا وجه له. ثم رأيت أخاه صالحا قال: محله في المفطر, وإلا ارتكب القطع؛ لأنه يبطل الصلاة إذا ظهر منه حرفان, ولا يبطل الصوم, والترك يبطلهما ا هـ. ودعواه بطلان الصلاة إذا مج فظهر حرفان فيه نظر لما مر, وقد أفتى ابن قاضي شهبة بوجوب المج, فإن تركه تبطل الصلاة والصوم, ثم قال: وإن لزم إظهار حرفين لتصحيح الصوم, وكذا الصلاة فيما يظهر؛ لأن إظهارهما لا يضر لضرورة؛ كتعذر القراءة الواجبة ، وهنا صون الصوم عن الإبطال واجب, وقلع النخامة من الظاهر مبطل, وكان لفظها ضروريا فلم تبطل الصلاة؛ وإن تضمن إظهار حرفين ا هـ. انتهت عبارة الشرح المذكور, ومنها يعلم الجواب عما في السؤال, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" - نفع الله به - عمن ستر وركه الذي يلي الأرض بها فهل يجزئه؟ "فأجاب" بقوله: إذا انكشف بعض وركه في تشهده مثلا فستره فورا بإلصاقه بالأرض, فالظاهر - وفاقا لبعضهم - أنه يكفي كالستر بيده, وكما لو صلى على جنازة في حفرة ضيقة الرأس.

 

ج / 1 ص -242-        "وسئل" - نفع الله به - عن قول المصلي: سبحان الله, ونحوها, لداخل, وقول غيره لذلك؛ للإعلام بفراغ مدة قراءة أو ذكر, هل تحرم أو تكره؟ وهل قال أحد إن ذلك شرك, كما زعمه بعضهم؟. "فأجاب" بقوله: لا يحرم ذلك بل, ولا يكره بل يستحب أو يجب, كما قاله الأئمة: من أن التنبيه في الصلاة بنحو تسبيح أو تصفيق إن كان لواجب فواجب, أو لمستحب فمستحب, أو لحرام أو مكروه فكذلك؛ لأنه وسيلة وللوسائل حكم المقاصد. وإذا جرى هذا في المصلي جرى في غيره من باب أولى. وتصريحهم بأنه لو قصد الإعلام والذكر في الصلاة جاز - صريح في أن قصد الإعلام وحده لغير المصلي لا يحرم, بل وكذا للمصلي إن كان في نافلة؛ لأنه يجوز له قطعها. وحرمة ذلك عليه في الفرض ليس إلا لكون تعمد قطعه حراما, وتوهم اغتفار قصد الإعلام مع الذكر للمصلي إنما هو لحرمة الكلام عليه, بخلاف من ليس في صلاة يبطله أن المصلي متمكن من الإفهام بالإشارة, ولم ينظروا لذلك, وقد صرحوا بأن الجنب لو قرأ آية بقصد الإعلام وحده جاز, فإذا جاز هذا في القرآن ففي غيره أولى. ويدل لذلك من السنة أن عمر رضي الله عنه أيقظ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "الله أكبر" رافعا بها صوته؛ بقصد الإعلام مع أنه كان يمكنه إيقاظه بنحو يده, ولم ينكر عليه. وقد جعل النووي وغيره قول المضيف للضيف؟ "بسم الله" قرينة لفظية على الإذن في الأكل, وهو صريح في جوازها بقصد الإعلام بها أنه أذن في الأكل ولم يحفظ أن أحدا من العلماء قال إن ذلك شرك, فيؤدب من يقول على العلماء ما هم بريئون منه.
"وسئل" - نفع الله به - عن النخامة العارضة للمصلي هل قطعها أو بلعها يبطل الصلاة؟ "فأجاب" بقوله: متى لم تصل لحد الظاهر لا يتعرض لها؛ فإن نزولها للجوف حينئذ غير مبطل, فإن تعرض لها وظهر منه حرفان أو حرف مفهم بطلت صلاته, ومتى وصلت لحد الظاهر ولم يمكنه قطعها ومجها فكذلك, ومتى وصلت له وأمكنه ذلك جاز له قطعها؛ وإن ظهر منه نحو حرفين على الأوجه؛ صونا للصلاة عن الإبطال فإن قلت: كل من الحرفين ونزول أجنبي إلى الجوف مبطل, فلم اغتفرتم الحرفين دون الآخر؟ قلت: لأنهم اغتفروا النطق بهما في مواضع دون تعمد نزول شيء إلى الجوف فإنهم لم يغتفروه كذلك, فكانت منافاة هذا لها أشد؛ فلم يعف عنه وعفي عن النطق بنحو حرفين, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عمن صلى ثم بان في ثوبه قملة أو بقة ميتة, هل تصح صلاته؟ "فأجاب" بقوله: لا تصح صلاته فيلزمه إعادتها. نعم, صئبان القمل المحشو في الخياطة المتعذر الإخراج ينبغي أن يعفى عنه, والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب.
"وسئل" - أدام الله النفع به - هل يعفى عن كل ما يشق الاحتراز عنه كطين الشارع؟ "فأجاب" بقوله: نعم, يعفى عن ذلك بتفصيله الذي ذكره الفقهاء في كتبهم المبسوطة, واستيعابه يطول, والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب.

 

ج / 1 ص -243-        "وسئل" - نفع الله به - حيث جاء ذكر العمامة في الصلاة, فما حدها الذي تحصل به الفضيلة والإجزاء؟ وهل صح كم كان قدر عمامة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأيضا فحيث قيل باستحباب العمامة في الصلاة فهل يقوم مقامها عند عدمها أو وجودها غيرها من قلنسوة أو شبهها, مثل أن يكون ذلك من جلد, وأهل المشرق يسمون ذلك خوذة, وأيضا فحيث قيل باستحباب التختم, وأنه سنة فهل يكفي في إحراز الفضيلة التختم بالحلقة وما شابهها مما يكون في معناها أم لا, وقد ذكر بعضهم أن قدر عمامته صلى الله عليه وسلم سبعة أذرع وهو عندي غير صحيح؟. "فأجاب" بقوله: حد العمامة التي يحصل بها الفضيلة المشار إليها بحديث: "صلاة بعمامة خير من سبعين صلاة بلا عمامة" - العرف؛ فما سماه العرف عمامة - قل أو كثر - حصلت به الفضيلة, وما لا فلا. وتحديدها بنحو سبعة أذرع لم يصح فيه شيء, وإنما وقع في كلام بعض العلماء كابن الحاج المالكي فإنه قال في مدخله: وإذا كانت العمامة من باب المباح فلا بد فيها من فعل سنن تتعلق بها؛ من تناولها باليمين والتسمية والذكر الوارد - إن كانت مما لبس جديدا - وامتثال السنة في صفة التعميم من فعل التحنيك والعذبة وتصغير العمامة - يعني سبعة أذرع أو نحوها - يخرجون منها التحنيك والعذبة, فإن زاد في العمامة قليلا؛ لأجل حر أو برد فيتسامح فيه, ثم قال بعد أن ذكر: قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]: فعليك أن تتسرول قاعدا, وتتعمم قائما, ونحو القلنسوة لا تحصل فضيلة العمامة المذكورة؛ لأنها لا تسمى عمامة. وصرح أصحابنا بأن سنة التختم بالفضة تحصل بلبس الخاتم بفص وبدون فص, ومن اشترط في حل لبس الخاتم الفص فقد سها.
"وسئل" - نفع الله به - عن المصلي المتقمص إذا كان معه ثوب واحد, هل الأولى أن يتعمم به أو يرتدي به أو يتزر به أو يجعله مصلى أو ماذا يفعل به؟ "فأجاب" بقوله: الذي صرح به الأصحاب أنه يسن للمصلي أن يصلي في ثوبين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فإن الله أحق أن يتزين له فإن لم يكن له ثوبان فليتزر إذا صلى, ولا يشتمل اشتمال الصماء" وأن يتقمص ويتعمم. قال ابن الرفعة: لما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة بعمامة خير من سبعين صلاة بغير عمامة" ويتطيلس كما قاله القاضي وأقروه, بل قال ابن العماد ينبغي تفضيله على الرداء؛ أي لصونه البصر عن جهة اليمين والشمال, وهو مطلوب في الصلاة ويرتدي ويتزر أو يتسرول, فإن اقتصر على ثوبين فالأفضل قميص من رداء أو مع إزار أو مع سراويل. قال ابن الرفعة وغيره: وأفضل هذه الثلاثة القميص مع الرداء؛ لأن ستر الرداء يعم, وخالفه أبو زرعة فقال: القميص مع مثله أو مع إزار أولى من القميص مع الرداء؛ لأن ذينك أبلغ في الستر, ولك أن تقول: قولهم إن اقتصر على ثوب واحد فالأولى قميص؛ لأنه أستر للبدن, ثم رداء - وهو ما على الكتف - لأنه يستر العورة ويفضل منه ما يكون على الكتف, ثم إزار ثم سراويل ا هـ. ويؤخذ منه حمل كلام ابن الرفعة وغيره على ما إذا كان الرداء سابغا؛ لأنه يحصل مصلحة الإزار وزيادة. وكلام أبي زرعة في الإزار أو السراويل - على ما إذا كان الرداء لا يستر العورة, فكل من الإزار والسراويل أفضل من هذا الرداء؛ لأن رعاية.

 

ج / 1 ص -244-        المبالغة في ستر العورة أولى من رعاية مجرد التجمل بالرداء. إذا تقرر هذا علم منه أن هذا الثوب الذي مع المتقمج / 1 ص - إن كان يعم عورته إذا ارتدى به - فالارتداء أفضل من الاتزار به, وإن كان لا يعمها فالاتزار به أفضل من الارتداء به, وأن كلا من الارتداء والاتزار أفضل من التعمم. والخبر المذكور في العمامة لم يثبت بل الظاهر أنه موضوع فقد حكم الحفاظ على حديث: "صلاة بعمامة تعدل بخمس وعشرين صلاة, وجمعة بعمامة تعدل سبعين جمعة", وحديث: "الصلاة في العمامة بعشرة آلاف حسنة", بأنهما موضوعان باطلان؛ فلو ورد ذلك اللفظ لذكروه. ولم يطلقوا الحكم بالوضع على ذلك كله. قالوا: ومن الموضوع أيضا: "صلاة بخاتم تعدل سبعين صلاة بغير خاتم". ثم رأيت الديلمي أخرج الحديث الأول, ولفظه: "ركعتان بعمامة خير من سبعين ركعة بلا عمامة". وفي أحاديث الديلمي التي تفرد بها ما هو مشهور. وقول ابن العماد "ينبغي تفضيل الطيلسان على الرداء" فيه نظر؛ لأن مصلحة الرداء أعظم, فالأوجه ما اقتضاه كلامهم من تفضيل الرداء. هذا كله إن وجد سترة في صلاته, فأما إذا لم يجدها ولا أمكنه الخط المحصل لفضلها فهل الأولى جعله سترة يصلي إليه أو زيادة التجمل به؟ كل محتمل. والذي يتجه الأول؛ لأن السترة واجبة عند جماعة من العلماء؛ ولأن الأحاديث دالة على أنه إذا لم يضع السترة ضره ما يمر بين يديه لتقصيره. قال ابن الرفعة ولعل سبب هذا الضرر أنه لا يتمكن من دفعه, وأنه يأثم؛ بناء على وجوب السترة؛ لأنه - بتركها مع القدرة عليها - معين على حرام؛ ومن ثم قال ابن المنذر لو صلى لغير سترة ومر بين يديه مار - أثما جميعا إلا إن وقف بطريق فيأثم المصلي فقط ا هـ وفيه - أعني ما قاله ابن الرفعة نظر. والوجه حمله على أن المراد قطع الصلاة بالمار بين يديه وبالضرر المذكورين في الأحاديث قطع الخشوع. وضرر الاشتغال بالمار بل وتمكن الشيطان منه بالوسوسة والمخادعة وإلفاته عما هو فيه؛ حتى لا يعقل من صلاته شيئا أو إلا أقلها فيفوت عليه الثواب, فكل ذلك هو المشار إليه في الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقطع الشيطان عليه صلاته" فاتضح بذلك أن جعل الثوب المذكور في السؤال سترة - إذا لم يجد سترة غيره يصلي إليها - أولى من الارتداء والتعمم والاتزار به؛ لما علمت من الخلاف في وجوبه, بل الخبر الصحيح: "استتروا في صلاتكم ولو بسهم", يدل على قوة هذا الخلاف, فكانت رعايته أولى.
"وسئل" - نفع الله به - روى البخاري في باب "إذا كان الثوب ضيقا": كان رجال يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان, وقال للنساء:
"لا ترفعن رؤسكن حتى يستوي الرجال جلوسا" ا هـ قال الكرماني وغيره: "إنما نهين عن الرفع"؛ خشية أن يلمحن شيئا من عورات الرجال عند الرفع منه ا هـ فهل يفهم من الحديث أنه لا بأس بانكشاف شيء من العورة من غير اختيار, أو لضيق ثوب أو لقلته, أو في ذلك الزمان الذي لم يستقر فيه أمر الشرع, أو لا؟ وإن قلتم: لا, فأي معنى لنهي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا ترفعن رءوسكن" عن متابعة الإمام التي هي آكد الأمور في القدوة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا رفع فارفعوا" فإن قلتم: إنما نهى

 

ج / 1 ص -245-        عن ذلك؛ لاحتمال الانكشاف, فهل يمنع عن السنة المذكورة للاحتمال من غير تعيين أم لا؟. وهل أحد من الأئمة تمسك بهذا الحديث وقال به أم لا؟ وإذا وجب على المصلي ستر جميع الجوانب في الأعلى فهل يجب ستر الموضع المنخفض عند فقار الظهر؛ فإن بعض الناس له انخفاض كثير هناك, وإذا اتزر هذا لم يلصق ثوبه إلى فقار الظهر ويكون هناك فرجة فهل يجب ستر هذا الموضع - إذا لم يكن عليه قميج / 1 ص - أم لا؟ "فأجاب" بقوله: ليس في الحديث التصريح بانكشاف عوراتهم بل بخشية انكشاف شيء منها وأنه بتقدير وقوعه لا يضر, ونحن قائلون بذلك؛ فقد صرح أصحابنا بأن من انكشفت عورته بلا تقصير فسترها فورا - بأن لم يمض زمن محسوس عرفا - لم يؤثر ذلك الانكشاف في صحة صلاته. وصرحوا أيضا بأن رؤية العورة من الأسفل لا تضر؛ حتى قالوا: لو وقف على سطح, والناس يمرون من تحته وينظرون إلى عورته صحت صلاته, وخالفهم الإمام فاختار بطلانها. قال: لأنه منهتك لا مستتر, إذا تقرر ذلك علم أنه لو فرض انكشاف شيء من عوراتهم في سجودهم - كان غير ضار؛ إما لأنه انكشف وردوه فورا؛ وإما لكونه انكشافا من الأسفل, وهو لا يضر مطلقا؛ وحينئذ فمن الواضح أنه ليس في هذا الحديث حجة بوجه لمن قال: إنه يغتفر ظهور ربع العورة أو نصفها أو دون درهم من السوأتين, وعلى مدعي واحد من هذه الآراء الثلاثة الدليل عليه؛ لأنه ثبت وجوب ستر جميعها, فدعوى اغتفار ظهور بعضها تخصيص, وهو لا يقبل إلا بدليل ظاهر. وما ذكره الشراح من أن حكمة نهيهن عن المبادرة بالرفع؛ خشية أن يلمحن شيئا من عورات الرجال عند الرفع - صحيح لا غبار عليه, ووجهه أن متابعة الإمام من جملة المصالح, ووقوع نظرهن على بعض عورات الرجال - بفرض وقوعه - من باب المفاسد وأي المفاسد وقد قرر الأئمة أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح, فطلب منهن عدم المبادرة بالرفع؛ وإن فرض أنه فات به متابعة الإمام؛ تقديما لما هو أخطر وأعظم. على أن لنا أن نمنع أن أمرهن بالمكث إلى ارتفاع الرجال يفوت المتابعة؛ إذ من الواضح أنها لا تفوت إلا بالتقدم بركن أو بالتخلف به أو بما تفحش المخالفة فيه؛ كما بسطوه في مبحثها. وليس في تأخرهم أدنى زمن إلى رفع الرجال تفويت شيء من ذلك بل ولا كمال المتابعة, بل كمالها حاصل لهن - وإن تأخرن كما أمرن - لأن التخلف عن الإمام بعذر لا يمنع كمال المتابعة, وهذا تخلف بعذر؛ وهو امتثال النهي عن المبادرة بالرفع. على أن هذا تأخر يسير جدا, وهو مغتفر لو فرض أن لا عذر فكيف مع العذر؟ فإن قلت: كيف يقدم الموهوم من خشية النظر على المحقق من متابعة الإمام؟ قلت: بما قررته من حصول المتابعة مع ذلك التأخر يعلم أنه لا يقدم هنا موهوم على محقق, وعلى التنزل فالموهوم - بفرض وقوعه - قد تعظم مفسدته فيقدم على المحقق الذي لا مفسدة فيه وقول السائل - زاد توفيقه والنفع به - فهل يجب ستر الموضع المنخفض..إلخ - جوابه: نعم, يجب عليه متى كان شيء من عورته بحيث يمكن أن يرى منه, فقد صرحوا بأنه يجب ستر العورة من الأعلى بسائر جهاته, ومن الجوانب بسائر.

 

ج / 1 ص -246-        جهاتها؛ فحيث كانت ترى من بعض الجهات لأحد الجوانب وجب ستر ذلك المحل.
"وسئل" - نفع الله به - عن ثوب فيه نجاسة لا يعلم محلها, فوضع المصلي يده عليه هل تبطل صلاته؛ كالبساط, أم لا؛ كاليد الرطبة؟ "فأجاب" بقوله: تبطل الصلاة بذلك, وفارق عدم تنجس مماس الرطب لبعضه بأن المدار في الصلاة على ظن الطهارة, وبمس ذلك البعض زال ذلك الظن, وفي النجاسة على تيقن مماستها ولم يوجد.
"وسئل" - فسح الله في مدته - عمن احتجم ووصل محل الحجم ماء أو دهن بسبب الحجم, هل يعفى عنه للحاجة أم لا؟ "فأجاب" بقوله: يعفى عما احتيج إليه فيها كما بينته في شرح المنهاج.
"وسئل" - نفع الله به - عمن طاف وهو حامل مائعا فيه ميتة معفو عنها هل يبطل طوافه أم لا؟ "فأجاب" بقوله - الذي حررته في شرح المنهاج - أنه لا يعفى عن حمل ما لا نفس له سائلة في صلاة ولا طواف, لا عمدا ولا سهوا, خلافا لبعضهم, لكنه خصه بأيام الابتلاء بكثرة الذباب كثرة يتعسر أو يتعذر الاحتراز عن مماستها لمحموله أو مماسه.
"وسئل" رضي الله عنه عما إذا سجد المصلي وخرجت عورته من ذيل ثوبه؛ بحيث إن الذي وراءه ينظرها هل تبطل صلاته أم لا؟ "فأجاب" بقوله: لا تضر رؤية العورة ما دامت تسمى مستورة, بخلاف ما لو انكشف الثوب عنها ولم يرد فورا.
"وسئل" - نفع الله به - عما إذا فتح المأموم على إمامه بقصد الرد هل تبطل صلاته كما قاله الإسنوي وغيره؟ أم لا كما قاله البلقيني والدميري وغيرهما من المتأخرين؟ "فأجاب" بقوله: المنقول المعتمد: البطلان؛ حتى في حالة الإطلاق فضلا عن قصد الرد وحده. وقد بينت ذلك في شرح الإرشاد, وكذا في شرح العباب لكن بما هو أبسط وأوضح. وعبارة المتن والشرح: "ولو أعلم" غيره غرضا "بنظم القرآن كقوله" وقد رأى عجبا لا حول ولا قوة إلا بالله, أو وقد قعد إمامه في الثانية مثلا:
{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]؛ لقعود إمامه في غير محله أو: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46] أو: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} [مريم: 12]. "لمستأذن" عليه في الدخول أو في أخذ شيء. قال في الجواهر, وتبعه جمع: وهو واضح "أو حمد الله لعطاس أو تجدد نعمة أو استرجع لمصيبة" قال الشيخان في الروضة. وأصلها: أو نبه إمامه أو غيره أو فتح على من أرتج عليه "فإن قصد" في الكل "الإعلام وحده بطلت بلا خلاف ولا نظر إلى كونه في نحو التنبيه من مصلحة الصلاة, خلافا لجمع؛ لأنه حينئذ يشبه كلام البشر, وهو يبطلها, وإن كان لمصلحتها كما صرحوا به "أو أطلق بطلت" أيضا كما في التحقيق والدقائق, وقال: هي نفيسة لا يستغنى عن بيانها وزاد في التبيان فنسب ذلك للأصحاب وجزم به في الكافي. وقال في المجموع: ظاهر كلام المصنف - أي صاحب المهذب وغيره - البطلان, وينبغي أن يفصل بين أن يكون انتهى في قراءته إليها فلا تبطل, أو لا فتبطل. واعتمده الأذرعي قال: وصورة المسألة فيما هو محتمل أما ما لا يحتمل غير القرآن, أو كان

 

ج / 1 ص -247-        ذكرا محضا فلا تبطل به قطعا على كل تقدير, قال: ولينظر فيما لو أطلق في المحتمل, ولا قرينة تنصرف إليها؛ بأن قرأ الفاتحة ثم: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] ونحوها ثم ركع, والأشبه أنها لا تبطل ا هـ وفيما اعتمده الأذرعي وبحثه - نظر؛ أما الأول؛ فلأنه في المجموع لما بحث ذلك التفصيل عقبه بقوله: ودليل إطلاق البطلان إذا لم يقصد شيئا ما ذكره المصنف أنه يشبه كلام الآدمي, وقد سبق في تحريم القراءة على الجنب عن إمام الحرمين وغيره - أن مثل هذا النظم لا يكون قرآنا إلا بالقصد, فإذا أطلقه ولم يقصد به شيئا لا يحرم ا هـ. فهذا التقرير منه - أعني المجموع - صريح في اعتماده البطلان عند الإطلاق مطلقا. وفرق المطلب بين المصلي والجنب بأن كونه في الصلاة قرينة تصرف ذلك للقرآن؛ لامتناع كلام الآدمي فيها, والجنابة تصرفه لغير القراءة؛ لتحريم القراءة معها يرد بأن القرينة العارضة كالاستئذان أقوى في الصرف عن القرآنية إليها, فاحتيج حينئذ إلى نية القرآنية. على أن كلا من قرينتيه خفية فلا تصلح للتخصيص, وأما الثاني فالأوجه أنه حيث لم يوجد صارف لم يشترط القصد ولو في المحتمل, ويفرق بينه وبين الجنب بأن هنا قرينة ظاهرة تصرفه إلى القرآنية, وهي تلبسه بالصلاة الموضوعة بخلافه في الجنب, وحيث وجد صارف اشترط قصد القرآن, ولو في غير المحتمل, وإلا بطلت؛ نظرا إلى الصارف, وبما تقرر عن المجموع. ويرد اعتماد جمع متأخرين عدم البطلان عند الإطلاق؛ وذلك لأنه حينئذ يشبه كلام الآدميين, ولا يكون قرآنا إلا بالقصد, ويوافقه ما مر من جواز القراءة حينئذ للجنب, وما اقتضاه كلام المنهاج واعتمده جمع؛ من الحنث فيما لو حلف لا يكلم زيدا, وأتى بآية يفهم منها زيد مراده بلا قصد فثبت له مع الإطلاق حكم كلام الآدمي فأبطل هنا, وأبيح للجنب, وحنث به الحالف على ترك الكلام. وبحث الأذرعي عذر عامي جهل الإبطال بالقرآن أو الذكر, ولو مع قصد الإعلام فقط, ثم قال: وفيه نظر ا هـ وما بحثه غير بعيد؛ لما ورد في التنحنح "وإلا" بأن قصد القرآن أو الذكر وحده أو مع التنبيه فلا تبطل؛ سواء انتهى في قراءته إليها أم أنشأها حينئذ كما صرح به في المجموع, قال: لعموم حديث معاوية السابق, وعبارتهما - أعني متن العباب وشرحي له بعد ذلك -: "لا إن فتح" المأموم مثلا "على من" أي إمام له أو غيره "أرتج" بضم أوله مع تخفيف الجيم, وتشديدها قليل لا لحن, خلافا لمن زعمه؛ فقد نقلها ابن هشام في شرح الفصيح عن المبرد؛ أي أغلق "عليه القرآن أو نبه ناسيا لذكر" آخر كلمة في التشهد "أو جهر بالتكبير أو بالتسميع" أي سمع الله لمن حمده, ولو لمحض الإعلام؛ فلا تبطل صلاته؛ على ما قاله جمع متقدمون, واعتمده البلقيني وغيره؛ لخبر الدارقطني والحاكم وصححه البيهقي أن الصحابة كان يلقن بعضهم بعضا في الصلاة واحتج له ابن المقري بما يأتي مع رده. وزعم الدميري أنه لا خلاف فيه في الفتح, ونقل عن الماوردي والشيخ أبي إسحاق أنه لا يتخرج على ما مر, قال: وبه صرح في الروضة وأصلها؛ حيث قال: لو صلى حالف لا يكلم زيدا خلفه ففتح عليه لم يحنث, ولو قرأ آية فهم منها مقصوده - لم يحنث إن قصد القراءة

 

ج / 1 ص -248-        وإلا حنث ا هـ وليس كما زعم. أما نفيه الخلاف فيه فليس في محله؛ لما علمت وستعلمه. وأما ما قالاه في الأيمان فمحمول كقول العز بن عبد السلام لو كبر للصلاة وقصد إعلام الناس لم تبطل؛ على ما قرراه هنا من التفصيل كما يعلم مما قدمته عنهما في الفتح والتنبيه. وقد اعتمد الإسنوي وغيره أن في جميع ما ذكر - حتى الفتح على إمامه - التفصيل السابق فيما لو أعلم بنظم القرآن, وبه - أعني الفتح - صرح في المجموع فإنه أدرجه مع ما مر فيمن أعلم بنظم القرآن, واستدل للإطلاق فيه, وفي غيره بما قدمته عنه؛ فإن قصد القرآن أو الذكر أو التكبير وحده أو مع قصد الفتح أو التبليغ - لم تبطل, وإن قصد أحد هذين وحده أو أطلق بطلت. وقضية كلام المحرر والحاوي وغيرهما أن هذا التفصيل هنا وفيما مر يجري, ولو فيما لا يصلح لتخاطب الناس به؛ من نظم القرآن والذكر, وهو متجه؛ إذ القصد من الصلاة الخضوع للحق - سبحانه وتعالى - ومناجاته بتلاوة كتابه وذكره على الوجه الخاص المشروع كما أرشد إليه حديث مسلم: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس, إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن". فقصد التنبيه أو الفتح أو التبليغ مع قصد الذكر تابع لما هو المقصود, بخلاف قصد مجرد التنبيه مثلا؛ لصرفه القرآن أو الذكر عن مقصود الصلاة الأصلي إلى معنى ما يتخاطب به, فأشبه كلام الناس فانطبق عليهم تعليلهم؛ إذ "سبحان الله" مثلا بمعنى تنبه, "والله أكبر" بمعنى ركع الإمام, وكذا إذا قصد الفتح فقط, فكأنه يقول للإمام: الذي نسيته كذا, وصواب التلاوة كذا. فأشبه كلام الناس, فاندفع بهذا قول الإسنوي المتجه اختصاص التفصيل بما يصلح لتخاطب الناس به؛ من القرآن والذكر, بخلاف غيره نحو "سبحان الله" وإن تجرد لقصد الإفهام. كما صرح بهذا التخصيص الماوردي ودل عليه كلام المهذب, وأقره عليه النووي في شرحه, ودل عليه أيضا تعليلهم البطلان في نحو: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} [الحجر: 46] بأنه يشبه كلام الناس ا هـ واندفع به أيضا تأييد ابن المقري لما جرى عليه المصنف في الفتح بقول الشامل: إذا أفهم الآدميين بالتسبيح والقرآن لم تبطل, وبتعليلهم البطلان في: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} [الحجر: 46] بأنه يشبه كلام الآدميين وإن وافق نظم القرآن, قال: والذي يفتح لم ينطق بكلامنا ولا قصده, وبأنهم لم يشترطوا على من سبح لما نابه, ولا على إمام جهر بالتكبير بنية الذكر أو التكبير؛ مع أن هذا أولى من الفاتح؛ لقصده بالقرآن تفهيم القرآن, بخلاف هذا, وبأنه سنة فكيف تبطل وكيف ينوي بفعلها غيرها؟ وبما يأتي من عدم البطلان بالنذر ونحوه؛ لتضمنه القربة, وإن كان صريح كلامنا فكيف تبطل صلاة من أتى بكلام الله على وجه القربة وامتثال الأمر ا هـ ووجه اندفاعه أن كلام الشامل محمول على ما إذا قصد مع الإفهام التسبيح والقراءة, أو الباء فيه بمعنى مع؛ ليوافق كلام غيره, وقوله: الذي يفتح..إلخ ممنوع عند تجريد القصد للإفهام فقط. وما ألحق به من الإطلاق فإنه حينئذ كمن قصد بنحو: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} [الحجر: 46] الإذن بعين ما قالوه في تعليل البطلان في هذه الصورة؛ بأن ذلك من كلامنا وإن وافق نظم القرآن, وكذا قوله: "لم يشترطوا..إلخ" ممنوع أيضا

 

ج / 1 ص -249-        فقد جزم الإسنوي في شرح المنهاج باشتراط ذلك فيمن سبح لما نابه, وسبقه إليه في الجواهر كما قدمته. وشرط كون الفتح سنة قصد القراءة, فلا بدع عند انتفاء ذلك في الإبطال به؛ لأنه بحصول الإفهام المجرد منه أشبه كلام البشر, ولا نسلم أن من جرد قصده لإفهام الآية عن القراءة قد امتثل الأمر في الفتح على الإمام؛ لأن ما يأتي به حينئذ خارج عن سنن القرآن والقراءة وعما قصد له, وما يأتي به في نحو النذر لم يقصد به إفهام أحد, وإنما هو إنشاء قربة, فهو بالتسبيح أشبه؛ ومن ثم لو قصد به إفهام الغير العتق أو التزام الصدقة؛ بحيث أخرجه من الإنشاء إلى الإخبار أبطل بلا شك.
"تنبيه" قد علم مما قررته غرابة قول جمع متقدمين: لا يضر قصد الإفهام والتنبيه والتبليغ بالذكر؛ لأنه خالص لله لا يحتمل غير معنى الذكر, بخلاف القرآن؛ لأن لفظه مشترك بين القرآن وكلام الآدميين, انتهت عبارة شرح العباب, وهي مشتملة - بحمد الله - على نفائس وتحقيقات لا توجد في غيرها, فليتأملها السائل - نفع الله به - فإنه إذا تأملها ظهر له أن الحق في هذه الصور كلها - التفصيل بين أن يقصد نحو الإعلام أو الفتح, أو لا يقصد شيئا؛ فتبطل صلاته في هاتين الصورتين؛ وبين أن يقصد القرآن أو الذكر وحده أو مع الإعلام أو الفتح مثلا فلا تبطل؛ لما ظهر وتقرر واتضح وتحرر, وفوق كل ذي علم عليم, وفقنا الله لطاعته؛ إنه هو الجواد الكريم الرءوف الرحيم.
"وسئل" - نفع الله به - عن وصل المرأة شعرها بشعر نجس أو شعر آدمي؛ هل يكون المراد من الوصل وصل كل شعرة لها بشعرة من الخارج, أو أعم من ذلك كما يفعله نساء مليبار؛ فإنهن يفتلن شعورهن وتكون مرسلة على حالها, ثم يجمعن شعورا أو حريرا أو صوفا على حدة في مثل نصف حجم شعورهن أو أقل أو أكثر, ثم يضعن ذلك مع الشعور ويربطنها معا في بعض الأحيان؛ فهل هذا من الوصل أو لا؟ "فأجاب" بقوله: يحرم وصل الشعر بشعر نجس وإن لم تكن ثم رطوبة, ولا وصلت فيه, وكذا بشعر آدمي وإن أذن الزوج أو السيد. ويحرم أيضا بشعر غيرهما وبصوف وخرق ما لم يأذن فيه الحليل, وخرج بالوصل ربطه بخيط حرير أو نحوه فإنه غير محرم؛ إذ لا وصل فيه, كذا ذكره أئمتنا, ويؤخذ منه أنه متى تميز ذلك الحرير أو نحوه؛ كالشعر للأجنبي عن شعر الرأس؛ بأن لم يكن متصلا به - كان ذلك غير وصل فلا نهي عنه, ومتى اتصل به كان وصلا وإن تميز عنه, والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عما ذكره الغزالي - رحمه الله تعالى - في الإحياء أنه لو سقط رداؤه كره رده, لكن في شرح المهذب ما يقتضي خلافه وهذا لفظه: قال أصحابنا: والفعل القليل الذي لا يبطل الصلاة مكروه إلا لوجوه؛ أحدها: أن يفعله ناسيا, الثاني: أن يفعله لحاجة مقصودة, الثالث: أن يكون مندوبا إليه؛ كقتل الحية والعقرب ونحوهما؛ وكدفع المار بين يديه والصائل عليه ونحو ذلك ا هـ وقال في شرح مسلم - في باب الخطوة في الصلاة, وأنه لا كراهة في ذلك -: إذا كان لحاجة. وقال أيضا فيه على قوله في حديث "الذي سلم على النبي صلى الله عليه وسلم.

 

ج / 1 ص -250-        وهو في الصلاة فجعلوا - يعني الصحابة - يضربون بأيديهم على أفخاذهم؛ يعني فعلوا ذلك ليسكتوه": وهذا محمول على جواز الفعل القليل في الصلاة وأنه لا كراهة فيه إذا كان لحاجة ا هـ فهذا كله من النووي - رحمه الله تعالى - يدل على خلاف ما في الإحياء؛ لأنه حصل بسقوط الرداء انكشاف العاتق فالرد مستحب لا محالة, وهو من أمثلة القسم الثالث الذي سبق عن شرح المهذب, وإن لم يحصل بسقوطه انكشاف العاتق فهو من باب الحاجة المقصودة, وهو من القسم الثاني بل لو قيل بالاستحباب لم يكن بعيدا, فما المعتمد في ذلك؟ "فأجاب" بقوله: إن المعتمد في ذلك أن الفعل القليل كخطوتين إنما يكره تعمده إن كان لغير حاجة مقصودة؛ لأنه حينئذ عبث, والفعل الخفيف؛ كتحريك أصابعه بسبحة أو عد فعله بلا حاجة لذلك - خلاف الأولى لا مكروه, ويفرق بأن العبث في القليل أفحش؛ لأن كثيره مبطل بخلاف الخفيف, ولا ينافي ذلك ما في الإحياء من أنه: لو سقط رداؤه كره رده؛ لأنه محمول على رده لغير حاجة, والله تعالى أعلم بالصواب.

باب أحكام المساجد.
"وسئل" رضي الله عنه عما صورته: عمر إنسان مسجدا ولم يوقف آلته فهل يخرج عن ملكه؟ ولو التمس من الناس آلة لبناء مسجد فهل يصير مسجدا بنفس البناء؟ "فأجاب" رضي الله عنه بقوله: قال في الكفاية عن البحر: إن الآلة في الأولى عارية يرجع فيها متى شاء, وقال العبادي في الثانية: إنه لا يحتاج فيها إلى إنشاء وقف؛ كما لو أحيا أرضا مواتا فجعلها مسجدا فإنها تصير مسجدا بالنية, وما ذكر عن البحر متجه, وأما كلام العبادي ففيه نظر, ومقتضى استثنائهم من اشتراط اللفظ في الوقف المسألة التي قاس عليها فقط؛ أنه لا بد من اللفظ في مسألته وهو كذلك؛ لأن الآلة إما على ملك معطيها أو آخذها, وعلى كل فلا بد من تلفظ مالكها بالوقف, وإلا فهي باقية على ملكه. قال ابن العماد: ويشكل على العبادي ما في الإحياء من أن مريد الصوفية إذا كان من عادته أن يسأل فيعطى؛ لاطراد العادة أن ما يأخذه يوصله لهم ملك المدفوع إليه ولا يشاركونه فيه, قال: وقياسه ملك هذا؛ لما أخذه لبناء المسجد, ولعل الفرق أن دافع الآلات لم يعرض عنها جملة؛ لأنه من جملة من ينتفع بالمسجد بخلاف الطعام, وأيضا فملتمس الآلات صرح بأنه يبني بها مسجدا فأعطي على ذلك الشرط, وزعيم الصوفية لم يصرح بشيء. نعم, إن دلت قرينة خاصة على قصد المالك له ولهم أو قال المالك: نويت ذلك - اشتركوا فيه؛ أخذا من قول الرافعي: لو أعطي دنس الثياب صابونا لغسلها تعين لها, ولا يخالفه قوله في الشهادات: له الصرف فيما شاء؛ لأن الأول محمول على ما إذا دلت قرينة قوية على قصد المالك التصرف في غسل الثياب لا غير, والثاني على ما إذا لم تدل على ذلك قرينة قوية.
"وسئل" رضي الله عنه هل يجوز رمي القملة في المسجد حية وميتة, وقتلها في الصلاة؟

 

ج / 1 ص -251-        ومن وقع منه خبث معفو عنه فيه هل يلزمه غسله؟ وإذا وقع ونيم الذباب على الورق وجرى عليه القلم هل يعفى عنه؟ وإذا كان بأعضاء الوضوء دم براغيث لم يزل بالماء ولا يمنع وصوله البشرة هل يصح وضوءه ويجب غسل الدم أو لا؟ "فأجاب" بقوله: لا يجوز رمي القملة في المسجد ميتة, ورميها فيه حية خلاف الأولى, خلافا لجمع؛ منهم صاحب الجواهر وابن العماد, ويجوز قتلها في الصلاة؛ حيث لم يلزم منه إمساك جلدها فيه وإلا بطلت صلاته؛ كما ذكره ابن العماد, ومن وقع منه خبث في المسجد وجب عليه تطهيره منه, وإن كان لا تقصير منه, وكذا إن رآه فيه حيث قدر عليه. ويعفى عن الونيم المذكور. ويصح الوضوء في المسألة الأخيرة, ويعفى عن اختلاط مائه به.
"وسئل" رضي الله عنه هل يجوز بناء المسجد باللبن المعجون بالماء النجس؟ "فأجاب" بقوله: صرح القاضي أبو الطيب بأنه لا يجوز, وهو ظاهر ومن قوله: "بناء المسجد" يؤخذ أنه لو بنى به ثم وقفه مسجدا لم يحرم؛ لأن المسجدية تأخرت عن البناء وهو متجه.
"وسئل" رضي الله عنه ما ورد من النهي من أن تنشد الضالة في المسجد هل هو مختص بما إذا ضل من المسجد؟ أو هو عام فيما ضل منه ومن غيره؟ "فأجاب" بقوله: هو عام؛ لأن العلة فيه أنه مناف لوضع المسجد؛ سواء كان الإضلال فيه أم في غيره, ولكون العلة ذلك ندب أن يقال له زجرا وتأديبا: لا ردها الله عليك.
"وسئل" رضي الله عنه عمن علم بنجاسة بمسجد هل يجب عليه إعلام الناس بها أو من قصد مكانها فقط؟ "فأجاب" بقوله: يجب عليه هو إزالتها فورا, ولا يجوز له التأخير إلى أن يعلم الناس بها, وعبارتي في شرح العباب: وإنما لم يجب إزالة بصاق رآه في المسجد؛ كمن رأى نجاسة فيه أي غير معفو عنها كذرق الطير فإنه يجب عليه عينا إزالتها فورا؛ لأنها أفحش, انتهت.
"وسئل" - نفع الله به - عن مسجد لا مرتفق له إلا محل برحبته يبول الناس فيه, ولم يعلم هل هذا حادث ممنوع عنه أو أصلي استثناه الواقف, وإنما الذي عرف فيه أن الناس لم يزالوا يفعلون فيه ذلك من غير نكير؛ فهل يسوغ استمرارهم على ذلك؟ "فأجاب" بقوله: نعم, يجوز بقاء ذلك على ما اطردت به العادة من غير نكير؛ فقد ذكروا أنا لو رأينا جذوعا على جداره ولم نعلم هل وضعت بحق أو لا - أبقيناها؛ لأن الظاهر وضعها بحق, فلا تزال إلا إن عرف تعدي واضعها, ولهم من ذلك صور كثيرة حكموا فيها ببقاء الشيء على ما هو عليه؛ لاحتمال أنه وضع بحق ولم يثبت تعدي واضعه, فكذا هذا الظاهر أنه وضع بحق, ولم يعلم تعدي الناس بذلك فيقرون عليه, وقد أفتى أبو مخرمة بأن الجرار والخوابي التي عند باب المسجد فيها الماء إذا لم يعلم أنها موقوفة للشرب أو الوضوء ونحوه - يجوز استعمالها على ما عهد فيها عند أهل ذلك المحل من غير نكير, ومحمل ذلك على الجواز والصحة, وكأنها موقوفة كذلك ا هـ وأفتى النووي - رحمه الله - بأنه لو وجد مسجد فيه قناة تحت الأرض يجري فيها

 

ج / 1 ص -252-        ماء إلى أماكن, وفيه مكان تصلح منه القناة بوضع الزبل وغيره, ولم يعلم أن القناة عمرت قبل المسجد أو بعده - فالظاهر أنها عمرت قبله؛ فليس لناظره تغيير ذلك, ولا المنع من إدخال الزبل على الوجه المذكور, ولا يكلف أصحاب القناة البينة بل يكفي استمرار الانتفاع حتى يثبت أنه عدوان ا هـ فتأمل تعويله على القرينة تجده صريحا فيما ذكرناه. ويوافقه قوله في الروضة: لو مر مسافر بخابية ماء مسبل تيمم ولم يتوضأ, فحكم القرينة هنا؛ إذ الظاهر من وضع الخابية بطريق المسافر أنه لشربه لا لوضوئه.
"وسئل" رضي الله عنه عمن علم بنجاسة بمسجد هل يلزمه إعلام الناس بها أو بمحلها؟ "فأجاب" بقوله: من علم بنجاسة في المسجد لزمه إزالتها فورا, ومتى قصر في ذلك أو تراخى فيه من غير عذر أثم, ومن رأى مصليا بنجس لا يعفى عنه في ثوبه أو مكانه - لزمه إعلامه, فإن تحقق أنه ناس له فالذي يتجه - أخذا من قولهم: يسن إيقاظ النائم للصلاة, ولا يجب, وإن ضاق الوقت - أنه لا يجب إعلامه بل يسن.
"وسئل" رضي الله عنه عما اعتاده الصوفية من عقد حلق الذكر والجهر به في المساجد هل فيه كراهة؟ "فأجاب" بقوله: لا كراهة فيه, وقد جمع بين أحاديث اقتضت طلب الجهر نحو:
"وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" رواه البخاري, والذي في الملإ لا يكون إلا عن جهر, وكذا حلق الذكر وطواف الملائكة بها, وما فيها من الأحاديث فإن ذلك كله إنما يكون في الجهر بالذكر. وأخرج البيهقي: مر برجل يرفع صوته, قلت: يا رسول الله عسى أن يكون هذا مرائيا, قال: "لا ولكنه أواه" وأخرى اقتضت طلب الإسرار؛ بأن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال, كما جمع النووي - رحمه الله تعالى - بذلك بين الأحاديث الطالبة للجهر بالقراءة والطالبة للإسرار بها؛ فحينئذ لا كراهة في الجهر بالذكر ألبتة؛ حيث لا معارض بل فيها ما يدل على استحبابه إما صريحا أو التزاما, ولا يعارض ذلك خبر الذكر الخفي, كما لا يعارض أحاديث الجهر بالقرآن بخبر "السر بالقرآن كالسر بالصدقة", وقد جمع النووي بينهما بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى به مصلون أو نيام. والجهر أفضل في غير ذلك؛ لأن العمل فيه أكثر؛ ولأن فائدته تتعدى للسامعين؛ ولأنه يوقظ قلب القارئ ويجمع همه إلى الفكر ويصرف سمعه إليه ويطرد النوم ويزيد النشاط؛ فكذلك الذكر على هذا التفصيل. وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [لأعراف: 205] الآية أجيب عنه بأنها مكية كآية الإسراء: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الاسراء: 110] وقد نزلت حين كان صلى الله عليه وسلم يجهر بالقرآن فيسمعه المشركون؛ فيسبون القرآن ومن أنزله, فأمر بترك الجهر؛ سدا للذريعة كما نهي عن سب الأصنام كذلك, وقد زال هذا المعنى, أشار لذلك ابن كثير في تفسيره, وبأن بعض شيوخ مالك وابن جرير وغيرهما حملوا الآية على الذكر حال قراءة القرآن, وأنه إنما أمر بالذكر على هذه الصفة؛ تعظيما للقرآن أن ترفع عنده الأصوات, ويقويه اتصالها بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} [لأعراف: 204]. إلخ. قيل: وكأنه لما أمر بالإنصات خشي من ذلك الإخلاد إلى

 

ج / 1 ص -253-        البطالة فنبه على أنه؛ وإن كان مأمورا بالسكوت باللسان - فتكليف الذكر بالقلب باق حتى لا يغفل عن ذكر الله تعالى؛ ولذا ختم الآية بقوله: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [لأعراف: 205] وبأن السادة الصوفية قالوا: الأمر في الآية خاص به صلى الله عليه وسلم الكامل المكمل, وأما غيره - ممن هو محل الوساوس والخواطر الرديئة - فمأمور بالجهر؛ لأنه أشد تأثيرا في دفعها, ويؤيد بحديث البزار: "من صلى منكم بالليل فليجهر بقراءته فإن الملائكة تصلي بصلاته وتستمع لقراءته" وإن مؤمني الجن الذين يكونون في الهواء وجيرانه معه في مسكنه يصلون بصلاته ويستمعون قراءته, وأنه ينطرد بجهره بقراءته عن داره, وعن الدور التي حوله - فساق الجن ومردة الشياطين. وأما تفسير الاعتداء في: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [لأعراف:55] بالجهر بالدعاء - فمردود بأن الراجح في تفسيره أنه تجاوز المأمور به أو اختراع دعوة لا أصل لها. وصح أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إنا نسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة؛ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء" فهذا تفسير صحابي, وهو أعلم بالمراد, وعلى التنزل فالآية في الدعاء لا في الذكر, والدعاء بخصوصه الأفضل فيه الإسرار؛ لأنه أقرب إلى الإجابة وأما ما نقل عن ابن مسعود أنه رأى قوما يهللون برفع الصوت في المسجد فقال: ما أراكم إلا مبتدعين حتى أخرجهم من المسجد, فلم يصح عنه بل لم يرد؛ ومن ثم أخرج أحمد عن أبي وائل قال: هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله كان ينهى عن الذكر؛ ما جالست عبد الله مجلسا قط إلا ذكر الله فيه, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عما لفظه: صحت أحاديث كثيرة بأنه صلى الله عليه وسلم شبك بين أصابعه, وجاء في حديث مسند ومراسيل النهي عنه, فما التوفيق بينهما وما حكم كراهته؟ "فأجاب" بقوله: الذي دل عليه كلام أئمتنا حمل كراهته على ما إذا كان بالمسجد ينتظر الصلاة, وكذا إن كان قاصدا المسجد للصلاة متطهرا, كما بحثه بعضهم مستدلا بخبر أبي داود:
"إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن بيده فإنه في صلاة أو كان مصليا". وحكمة الكراهة حينئذ أنه عبث لا يليق بكل من هذين, مع أنه يوجب النوم الموجب للحدث, ومع أن صورته تشبه صورة الاختلاف, وقد قال صلى الله عليه وسلم للمسلمين: "ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم" وحمل إباحته على ما عدا ذلك والذي عليه الأكثر تخصيص النهي بالصلاة لا غير. وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة محتبيا بيديه هكذا. زاد البيهقي: وشبك بين أصابعه.

باب سجود السهو.
"وسئل" - رضي الله عنه وأفاض علينا من مدده -: فيما إذا جلس الإمام للتشهد الأخير فشك.

 

ج / 1 ص -254-        المأموم أثالثة هي أم رابعة؟ أو للتشهد الأول فشك أثانية هي أم أولى؟ فهل يجوز له متابعته في الجلوس للتشهد, ويأتي بعد السلام بباقي صلاته أم لا يجوز المتابعة فينتظره قائما أو يفارقه؟ "فأجاب" - نفع الله بعلومه المسلمين - بأنه معلوم مما ذكرته في شرح مختصر الروض؛ ولاشتمال عبارته على فوائد أحببت ذكرها - وإن كانت طويلة - وهي: وإن قام الإمام لخامسة لم يجز, ولو لمسبوق؛ علم ذلك أو ظنه وعلم حرمة متابعته؛ حملا على أنه ترك ركنا من ركعة, قال في المهمات - نقلا عن المجموع, في الجنائز -: ولا انتظاره بل يسلم, واستظهره الزركشي فإنه في انتظاره مقيم على متابعته فيما يعتقده مخطئا فيه ا هـ وفيه نظر, وقياس ما مر من أن الإمام لو عاد من القيام إلى التشهد الأول جاز انتظاره؛ مع أنه لو تعمد ذلك بطلت صلاته, ومن أنه لو تنحنح إمام لم تجب مفارقته؛ حملا على العذر, وما يأتي من أنه لو قام لخامسة سجد إن فارقه بعد بلوغ حد الراكع لا قبله أنه لا تجب المفارقة به هنا, وبه صرح المتولي كالقاضي وغيره, وما علل به الزركشي ممنوع؛ فإن انتظاره ليس متابعة كما هو جلي, على أن الزركشي قال في محل آخر: قوله في الكفاية: وإن كان خطأ فلا يتابعه فيه - صحيح بالنسبة للمتابعة الحسية دون الحكمية؛ وهي دوام القدرة بل له انتظاره حتى يأتي بالمنظوم ويتابعه فيه فإن القدوة تنقطع بخروج الإمام من الصلاة, وهو لا يخرج بفعل السهو فوجب أن لا تجب مفارقته, وله انتظاره إلا إذا أدى إلى تطويل ركن قصير ا هـ فهذا صريح منه في رد كلامه السابق لا يقال: يشكل على ما رجحته ما يأتي من وجوب المفارقة على من اقتدى في المغرب بمصلي العشاء؛ لأنا نقول: إنما وجبت ثم؛ لأنه يحدث تشهدا وجلوسا لم يشرع للإمام, بخلافه هنا ثم رأيته في المجموع قال - فيما لو سجد إمامه الحنفي مثلا ل "ص" أن له مفارقته وانتظاره؛ كما لو قام إمامه إلى خامسة, ورأيته فيه أيضا صرح بأن المسبوق لو علم بقيامه للخامسة انتظره؛ لأن التشهد محسوب له وهذان صريحان في مسألتنا بعينها, وفي رد ما نقله عنه الإسنوي, ولا يشكل على عدم جواز المتابعة وجوبها في سجود السهو وإن لم يعرفه؛ لأن قيامه لخامسة لم يعهد, بخلاف سجوده فإنه معهود لسهو إمامه. وأما متابعة المأمومين له صلى الله عليه وسلم في قيامه للخامسة في صلاة الظهر؛ فلأنهم لم يتحققوا زيادتها؛ لأن الزمن كان زمن الوحي وإمكان الزيادة والنقصان؛ ولهذا قالوا: زيد في الصلاة يا رسول الله؟ ولو قعد إمامه يتشهد في ثالثة الرباعية بالنسبة إلى ظن المأموم فهل له أن يتشهد معه؛ عملا بظن الإمام ثم يأتي بركعة بعد سلام إمامه؛ عملا بظنه أو لا؛ لقولهم: لا يجوز متابعته في فعل السهو؟ أو يفصل بين أن يعلم خطأه فلا يجوز أو يظنه فيجوز؟ كل محتمل. والأقرب الأخير ثم رأيت في الجواهر عن الروياني عن أبيه احتمالين؛ فيما لو شك خلف الإمام أصلى ثلاثا أم أربعا هل يسبح له؛ لأن الشك في الصلاة كاليقين بدليل استوائهما في حق نفسه؟ أو لا؛ لأنه يعتقد أنه صلى أربعا وهو لا يتيقن خطأه فلا يشككه ورجح بعض مختصري الروضة الثاني ثم قال القمولي: ولو فارقه حالا على الثاني بعد ما سبح له ولم يرجع على الأول فعليه أن يتمها

 

ج / 1 ص -255-        أربعا ويسجد للسهو إن كان شك خلف الإمام للزيادة المتوهمة بعد مفارقته ا هـ وبتأمل قوله: ولو فارقه..إلخ يعلم أنه لا تجب المفارقة, فيتأيد به ما رجحه من الاحتمال الثالث, لكن مقتضى قول الأنوار - ليس لهم المداومة على المتابعة فيما زاد أو نقص, وتبطل بها بل تجب المفارقة. والانتظار في ركن طويل ترجيح الأول إلا أن يحمل كلامه على العلم بالنقص في مسألتنا ونحوها؛ فيوافق حينئذ الثالث أيضا, وخرج بتقييدي المسبوق بما مر - ما لو جهل ذلك فتابعه بأن الركعة تحسب له إن قرأ فيها الفاتحة؛ كما في المجموع؛ لأن الإمام لا يتحمل في هذه الحالة. ولو سجد إمامه من قيام لزمه متابعته؛ كما قاله ابن الرفعة, وقيده في الخادم بما إذا مضى زمن يمكنه فيه قراءة آية السجدة وإن لم يسع قراءة الفاتحة, وإلا لم يجز له متابعته؛ حملا على السهو, انتهت عبارة الشرح المذكور, وهي - كما علمت - مشتملة على جواب ما في السؤال الثاني؛ وهو أنه إن علم خطأه لم يجز له متابعته, وإن شك فيه جاز له متابعته, وفي الحالين له أن ينتظره قائما, وهنا زيادة نفيسة يتعين تفهمها وحفظها لغرابتها نقلا وتحقيقا.
"وسئل" رضي الله عنه في شخص شافعي صلى الصبح خلف حنفي, وتابعه في الصلاة وترك القنوت؛ خوفا من عدم إدراكه في السجود, وسجد بعد سلام إمامه؛ لترك قنوت نفسه هل تصح صلاته أم لا؟ "فأجاب" - نفع الله بعلومه - لا تبطل صلاة العامي بذلك مطلقا؛ لأن هذا مما يعذر بجهله؛ لخفائه, وأما غيره فإن محض سجوده لترك الإمام فقط؛ بأن قصد به جبر صلاة الإمام, أو لترك نفسه فقط بطلت صلاته؛ لأنه زاد فيها ما لا يشرع له فعله, وإن قصد به جبر الخلل الحاصل في صلاته من ترك الإمام له المنزل منزلة سهوه اللاحق للمأموم - لم تبطل صلاته بل يسن له السجود حينئذ, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عن شخص مأموم يتشهد مع الإمام التشهد الأخير؛ شك هل صلى ثلاثا أم أربعا هل يلزمه المفارقة من حين حدث الشك ويتم صلاته - كما أفتى به بعض علماء اليمن -؟ أو يتشهد مع الإمام فإذا سلم قام وأتى بركعة كما نقل عن فتاوى القفال أو يقوم ويتم قائما بلا مفارقة فربما يتذكر الإمام أنه سها, ولأن الإمام يعتقد أن هذا محل للتشهد؛ كما لو صلى خلف حنفي فسجد ل "ص" لا يسجد معه بل يتم قائما فهل مسألتنا كذلك أو لا؟ "فأجاب" - نفع الله بعلومه - الذي يتجه أنه لا يلزمه المفارقة كما يصرح به كلام الجواهر؛ فإنه حكى في صورة السؤال عن الروياني عن أبيه احتمالين في أنه هل يسبح لإمامه؛ لأن الشك كاليقين بدليل استوائهما في حق نفسه أو لا؟ والثاني لا يسبح له؛ لأنه يعتقد أنه صلى أربعا, وهو لا يتيقن خطأه فلا يشككه. ولو فارقه حالا على الثاني بعد ما سبح, ولم يرجع له على الأول فعليه أن يتمها أربعا ويسجد للسهو؛ وإن كان قد شك خلف الإمام للزيادة المتوهمة بعد مفارقته ا هـ ملخصا فأفهم التردد في التسبيح. وقوله: بعده ولو فارقه..إلخ أن المفارقة لا تجب, وإلا لما ساغ ذلك التردد الثاني؛ وهو أنه لا يسبح له, وهذا كله مصرح بما ذكرته,.

 

ج / 1 ص -256-        ويؤيده قولهم: لو قام الإمام لخامسة ناسيا لم يلزم المأموم مفارقته بل له انتظاره حتى يسلم, وقول الإسنوي: يلزمه مفارقته, كما في المجموع في الجنائز - ضعيف وإن تبعه الزركشي وعلله بأنه في انتظاره مقيم على متابعته فيما يعتقده مخطئا فيه؛ ففي المجموع: لو سجد إمامه الحنفي ل "ص" جاز له مفارقته وانتظاره, كما لو قام إمامه إلى خامسة. وفيه أيضا: لو علم قيام إمامه لخامسة انتظره؛ لأن التشهد محسوب له فهذان صريحان في ضعف ما نقله عنه في الجنائز, ومما يصرح بضعفه أيضا قولهم: لو عاد إمامه من القيام إلى التشهد الأول جاز للمأموم انتظاره, وإن كان الإمام لو تعمد ذلك بطلت صلاته, وفي هذه المسائل الثلاث تأييد لما قلنا في صورة السؤال بالأولى؛ من حيث إن كلا منها قد تحقق فيه فعل السهو أو ما هو بمنزلته؛ كسجود الحنفي ل "ص", ولكون جنس السجود عند القراءة مغتفرا في الصلاة لم ينظر هنا لاعتقاد المأموم؛ نظير ما لو اقتدى شافعي بحنفي فقصر فيما لم يجوزه الشافعي, وإذا لم تجب المفارقة في هذه الثلاثة مع تحقق المأموم ذلك من الإمام فأولى أن لا تجب في صورتنا, فإن قلت: لا نسلم المساواة فضلا عن الأولوية؛ لأن المحل الذي ينتظر فيه في تلك المسائل محسوب له فلم يحدث ما ينافي صحة صلاته؛ لاستمراره في القيام في مسألة الحنفي وفي الجلوس في غيرها, وهما محسوبان له؛ فهو منتظر للإمام لا متابع له في فعل السهو؛ بخلافه في صورة السؤال فإنا إذا قلنا: ينتظره في صورة الجلوس فهو غير محسوب له في ظنه الواجب عليه؛ وحينئذ فيكون متابعا له في فعل السهو لا منتظرا له, ومتابعته في فعل السهو لا تجوز بحال. قلت: لنا في الانفصال عن ذلك مسلكان؛ أحدهما أنا نقول لا ينتظره جالسا بل يقوم وجوبا ثم ينتظره في القيام إن شاء وإنما ألزمناه بالقيام لما يلزم على انتظاره في الجلوس ما ذكر, ومن تطويل جلسة الاستراحة في ظنها, وتطويلها مبطل على المنقول المعتمد كما بينته في شرح العباب؛ والثاني أنا وإن قلنا: ينتظره جالسا؛ لا يلزم عليه ما ذكر؛ فقد قال الزركشي قول الكفاية: "وإن كان خطأ فلا يتابعه فيه" - صحيح بالنسبة للمتابعة الحسية دون الحكمية؛ وهي دوام القدوة بل له انتظاره حتى يأتي بالمنظوم ويتابعه فيه بأن القدوة إنما تنقطع بخروج الإمام من الصلاة, وهو لا يخرج بفعل السهو فوجب أن لا تجب مفارقته, وله انتظاره؛ إلا إن أدى إلى تطويل ركن قصير ا هـ. ولا يشكل هذا بإيجابهم المفارقة على من اقتدى في المغرب بمصلي العشاء؛ لأن العلة ثم أنه يحدث تشهدا أو جلوسا لم يشرع للإمام بخلافه هنا, فإن قلت ما الذي يتجه؛ هل هو وجوب القيام عليه إذا أراد الانتظار, أو جوازه جالسا؟ قلت: الذي يتجه أنه لا يجوز له الانتظار جالسا بل يلزمه عند وقوع الشك المذكور القيام فورا ثم إن شاء فارق وأتم لنفسه بحسب ظنه, وإن شاء انتظره, فإذا سلم أتم بحسب ظنه. وإنما ألزمناه بالقيام لما تقرر من أنه يلزم على انتظاره في الجلوس أنه متابع لا منتظر, ولا ينافيه ما قدمته عن الزركشي؛ لأن انتظاره في الجلوس متابعة حسية لا حكمية؛ لأنه تابعه فيما لا يحسب له بخلاف انتظاره له في القيام أو الجلوس

 

ج / 1 ص -257-        في المسائل الثلاث المتقدمة فإنها محض متابعة حكمية؛ لتباينهما حسا, وكذا انتظاره في القيام في صورتنا فإنه محض متابعة حكمية؛ على أنا لو فرضنا أن انتظاره في الجلوس متابعة حكمية فقط كان ممتنعا من وجه آخر؛ وهو أن الزركشي قيد جواز المتابعة الحكمية بما إذا لم تؤد إلى تطويل ركن قصير, وهي هنا تؤدي إلى تطويل جلسة الاستراحة, وتطويلها كتطويل الركن القصير في البطلان كما مر؛ فإن قلت: تطويلها هنا للمتابعة, وهو لا يضر. قلت: هي متابعة في فعل السهو, وقد تقرر امتناعها, ويؤيد ما قررته من امتناعها في التشهد - قول المجموع السابق انتظره؛ لأن التشهد محسوب له فهو صريح في امتناعه في صورتنا في التشهد؛ لأنه غير محسوب له فيلزم عليه ما قدمته. ويؤيد وجوب القيام الذي قلناه قولهم: لو انتصب الإمام وحده بلا تشهد أول لزم المأموم القيام, وإن عاد الإمام فإن لم يقم أو قام وعاد عامدا عالما بطلت صلاته, وإلا فلا. ولكن متى علم أو تذكر لزمه القيام فورا, وإلا بطلت صلاته. وإن لم يقم الإمام فمنعهم له من الموافقة في الجلوس صريح في منعه منها في مسألتنا؛ لما يلزم عليها مما قررناه سابقا, والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب.
"وسئل" - فسح الله في مدته - عن شخص خوطب بسنة فلزمته فريضة ما صورته؟ "فأجاب" بقوله: صورته ما إذا سلم وعليه سجود السهو ناسيا له فإنه يشرع له العود إلى الصلاة إن قرب الفصل لأجل السجود, وبعوده يتبين أنه لم يخرج من الصلاة بسلامه؛ وحينئذ فلو شك في ترك نحو الفاتحة لزمه ركعة, فهذا خوطب بسنة, وهي سجود السهو فلزمته فريضة؛ وهي الإتيان بركعة, بخلاف ما لو لم يعد فإنه لا أثر للشك بعد السلام الذي لا يشرع بعده عود إلى الصلاة في ترك غير النية وتكبيرة الإحرام, ولا فرق بين أن يطرأ الشك قبل عوده إلى السجود أو بعده؛ لأنا بالعود نتبين أنه لم يخرج من الصلاة كما تقرر.
"وسئل" رضي الله عنه أيضا عن شخص صلى الظهر بثمان ركعات وثمان قيامات عامدا عالما بالتحريم, وقرأ الفاتحة في كل قيام ولم تبطل صلاته, فما صورته؟ "فأجاب" بأن صورته أن يركع قبل إمامه فإنه إن كان عامدا سن له العود وإلا جاز, وعلى كل فإذا رجع وقرأ الفاتحة في كل ركعة صدق عليه ما ذكر في السؤال, وفي السجود يسن له العود أيضا أو يجوز. وعليه فيزاد على ما ذكر فيقال بثمان ركوعات وثمان سجدات, ومقتضى كلام القفال أنه يجوز له العود ثم الركوع ثم العود. وقضية إطلاق غيره جوازه مرة ثالثة ورابعة ما لم تتوال أفعاله, وعليه فيقال بدل ثمان ركوعات ستة عشر ركوعا أو اثنان وثلاثون سجودا أو أكثر من ذلك, وإذا عاد إلى القيام ثم فارق إمامه فهل يحسب له ذلك الركوع أو لا بد من ركوع ثان فيه نظر؟ والأقرب الثاني؛ لأن عوده إلى الإمام فيه إبطال لذلك الركوع.
"وسئل" - فسح الله في مدته وأعاد علينا من بركته - عن إمام سجد إحدى سجدتي السهو فأدركه مسبوق فيها ثم أحدث فهل يسجد المسبوق الثانية؟ "فأجاب" بقوله: الذي نقله

 

ج / 1 ص -258-        القاضي أبو الطيب عن الأصحاب أنه لا يسجدها, وهو ظاهر خلافا لابن أبي هريرة.
"وسئل" - نفع الله به وأعاد علينا من بركته - هل تجب متابعة الإمام في سجود السهو فورا؟ "فأجاب" بقوله: نعم يجب ذلك؛ فإذا فرغ الإمام من السجدتين ولم يسجد المأموم بطلت صلاته إن كان عامدا عالما بالتحريم.
"وسئل" رضي الله عنه عمن سجد للسهو ولم يأت بشرائط السجود, فهل تبطل صلاته؟ "فأجاب" بقوله: الذي يتجه أنه إن طرأ له عدم الإتيان بالشرائط بعد أن أتى بصورة السجدة فعاد فورا إلى القعود لم تبطل صلاته, وإن سجد قاصدا عدم الإتيان بها أو طرأ له ذلك بعد أن أتى بصورة السجود واستمر فيه وطال بطلت صلاته. هذا هو الذي دل عليه كلامهم خلافا لمن أطلق الصحة.
"وسئل" - نفع الله به - عمن قام قبل إمامه سهوا من التشهد الأول فهل يفرق بين قيامه قبل فراغ الإمام للتشهد أو لا؟ "فأجاب" بقوله الذي يظهر أنه إن قام بعد فراغ الإمام من التشهد لم يجب عليه العود؛ لتقصير الإمام بجلوسه حينئذ أو قبله وجب العود.
"وسئل" - نفع الله به - عمن صلى من رباعية ركعتين ثم سلم ناسيا ثم أحرم بصلاة أخرى لغا ما أحرم به وبنى على الأولى إن قصر الفصل فأي فرق بين ذلك وما لو ظن أنه لم يحرم بصلاة كان أحرم بها فجدد الإحرام فإنه يلغي إحرامه الثاني, ويعتد بما أتى به فلأي معنى لم يعتد بما أتى به في الأول كما هنا أو لم يلغ ما هنا كما هناك؟ "فأجاب" بقوله: يمكن الفرق بأنه في الأولى أتى بما أتى به بعد سلامه معتقدا أنه من صلاة أخرى مغايرة للأولى فكان ذلك صارفا عن الاعتداد به عما بقي منها, وأما في الثانية فما أتى به كان مع اعتقاده أنه من تلك الصلاة بعينها فألغى إحرامه لوقوعه في غير محله سهوا واعتد بما أتى به؛ لأنه لم يقصد به شيئا آخر فلا صارف.
"وسئل" رضي الله عنه عمن صلى في الصف الأول ولم يمكنه التجافي في الركوع والسجود أو حصل ريح كريه أو رؤية من يكرهه أو نظر ما يلهيه فهل يكون الصف الثاني أو غيره إذا خلا عن ذلك أفضل أو لا؟ "فأجاب" بقوله مقتضى قولهم المحافظة على الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أولى من المحافظة على الفضيلة المتعلقة بمكانها - أن الصف الثاني أو غيره إذا خلا عما ذكر في السؤال أو نحوه يكون أفضل من الصف الأول, وهو ظاهر حيث حصل له من نحو الزحمة ورؤية ما ذكر ما يسلب خشوعه أو ينقصه, وإلا ففي كون الصف الثاني المشتمل على الإتيان بالتجافي أفضل من الأول وقفة؛ لأن قضية قولهم يسن الدخول للصف الأول وإن لم يكن فيه فرجة بل ما يسعه لو تضام بعضهم إلى بعض أنه لا فرق بين أن يترتب على ذلك فوات التجافي أو لا ويفرق بينه وبين نظر ما يلهيه ونحوه أن نظر ذلك مكروه بخلاف ترك التجافي على ما حققته في غير هذا المحل من حمل قول المجموع يكره

 

ج / 1 ص -259-        ترك شيء من سنن الصلاة على السنن المتأكدة كالأبعاض أو التي قيل بوجوبها أو على أن المراد بالكراهة خلاف الأولى.
"وسئل" نفع الله به عمن صلى خلف إمام ثم بعد الصلاة تبين كونه محدثا لم تجب الإعادة بخلاف ما لو صلى خلف مالكي مثلا فلا يبسمل ثم تبين فإنه تجب الإعادة فما الفرق مع أن الإمام فيهما لم تصح صلاته بالنسبة إلى اعتقاد المأموم؟ "فأجاب" بقوله رضي الله عنه يمكن الفرق بأن من شأن الحدث أنه لا يبحث عنه ولا يطلع عليه غالبا بخلاف العقيدة فإن من شأنها البحث عنها, ويطلع عليها غالبا فكان المأموم هنا صادرا منه نوع تقصير فأمر بالإعادة بخلافه في مسألة الحدث فإنه لا تقصير منه ألبتة فلم يؤمر بالإعادة.
"وسئل" رضي الله عنه هل يكره ارتفاع المأموم على إمامه في المسجد لغير حاجة؟ "فأجاب" بقوله ظاهر كلام الشيخين وغيرهما الكراهة لكن اختار بعض المتأخرين عدمها أخذا من نص في الأم ويجاب بأن الشافعي رضي الله عنه له نص آخر بكراهة الارتفاع في المسجد فقد كره رضي الله عنه صلاة الإمام داخل الكعبة, والمأمومون خارجها وعلله بعلوه عليهم فقد تحصل أن له نصين أخذ الشيخان وغيرهما بهذا النص الموافق للقياس وتركوا النص الآخر لمخالفته القياس؛ إذ ارتفاع أحدهما على الآخر يخل نظام تمام المتابعة المطلوب بين الإمام والمأموم على أن كلام الأم ليس نصا في نفي الكراهة, وعلى التنزل فهو في العلو لحاجة كما يعلم بتأمله فإنه قال: لا بأس وهي محتملة لنفي الحرمة ونفي الكراهة ثم استدل بعلو المؤذنين فليس فيه دلالة صريحة على مخالفة إطلاق الشيخين وغيرهما.
"وسئل" نفع الله به عن إتيان المصلي بركن كالقراءة حالة النسيان هل تحسب له وما الفرق بينه وبين ما لو أتى به حالة الشك, ولو نسي سجدة من رباعية فقام وأحرم بنافلة ناسيا وأتى بالسجود على قصد النافلة هل يحسب عن سجود الرباعية؟ "فأجاب" بقوله: يحسب ما قرأه في حالة النسيان لا الشك؛ لأن الناسي غير منسوب لتقصير بخلاف الشاك, وتحسب تلك السجدة, وإن أتى بها على ظن أنها من النافلة كما قاله العلائي والزركشي وقال القاضي والبغوي: لا تحسب وانتصر له بعضهم بأن النفل إنما يقوم مقام الفرض إذا اشتملت عليه النية كجلسة الاستراحة بخلاف سجدة التلاوة والنفل المستقل أولى بعدم الاحتساب من سجدة الاستراحة ا هـ ويرد بأنا لا نسلم عدم اشتمال النية على تلك السجدة؛ لأنه لما نسي كان ما أتى به من الإحرام وما بعده لغوا إلى أن يصل إلى محل السجدة المتروكة فتحسب له حينئذ, وإن أتى بها على ظن أنه في نافلة أخرى لعذره بنسيانه المتسبب عنه هذا الظن ويفرق بينه وبين سجدة التلاوة بأن هذه فعلها لعارض في الصلاة

 

ج / 1 ص -260-        وهو التلاوة مع علمه بالحال فكان ذلك صارفا لنية الصلاة فلم تحسب سجدة التلاوة عن سجودها, والحاصل أن هنا صارفا غير معذور فيه بالنسبة للحسبان بخلافه ثم.
"وسئل" نفع الله به عمن لحق مع الإمام ركعة من الصبح مثلا وسجد الإمام سجود السهو وهو جالس ناس فذكر بعد سلام الإمام ولم يسجد أو سجد سجدة وبقيت الثانية هل يسجدها أو يسجد الجميع إذا لم يسجد أو يترك؟ "فأجاب" بقوله: الذي في شرحي للمنهاج قضية كلامهم أن سجود السهو بفعل الإمام له يستقر على المأموم ويصير كالركن حتى لو سلم بعد سلام إمامه ساهيا عنه لزمه أن يعود إليه إن قرب الفصل وإلا تعاد صلاته كما لو ترك منها ركنا ولا ينافي ذلك أنه لو لم يعلم بسجود إمامه للتلاوة إلا وقد فرغ منه لم يتابعه؛ لأنه ثم فات محله بخلافه هنا ا هـ.
"وسئل" نفع الله بعلومه عن مأموم سلم إمامه فقام لإتيان ما بقي عليه فرأى في قيامه سجود إمامه للسهو فهل عليه العود للسجود لمتابعة إمامه أو يمضي على صلاته ويسجد آخر صلاة نفسه؟ "فأجاب" بقوله: نعم عليه العود للسجود لمتابعة إمامه ما لم يتيقن خطأه في عوده؛ لأنه بعوده إليه بشرطه يعود إلى الصلاة, وتبين أن سلامه لم يقع به تحلل لما قرروه أن السلام متى شرع بعده العود لسجود السهو بان أنه غير سلام التحلل, والحاصل أن سلام من عليه سجود السهو موقوف فإن عاد للصلاة بشرطه بان أنه لم يتحلل به, وأنه لم يخرج به من الصلاة امتنع عليه العود بان أنه للتحلل والمأموم لا يجوز له القيام للإتيان بما عليه إلا بعد سلام الإمام الذي يخرج به من الصلاة وإلا لزمه العود إلى الجلوس وإن كان الإمام قد سلم بأن لم يعلم المأموم بذلك إلا وقد صلى ركعة أو أكثر فيلزمه أن يعود إلى القعود ويلغي ما أتى به ثم يقوم ويأتي بجميع ما بقي عليه لو قام عقب سلام الإمام.
"وسئل" رضي الله عنه عما إذا قام الإمام من التشهد الأول بعد إتمامه إياه والمأموم لم يفرغ منه بعد أيلزمه القيام وترك البقية رعاية للمتابعة أم له القعود للإتمام إتيانا بما أمر به أو يقال إن لم يطل المكث بقراءة البقية جاز وإلا فلا, وإذا قيل بالجواز فهل الأولى المتابعة أم لا؟ "فأجاب" بقوله: اضطربت في ذلك فتاوى مشايخنا وأهل عصرهم, والذي يتجه ترجيحه من ذلك أنه يجوز له من غير كراهة التخلف لإتمامه كما يجوز له القنوت عند ترك إمامه له إذا لحقه في السجدة الأولى بجامع أنه في كل منهما لم يأت بشيء لم يأت به الإمام, وإنما أدام ما كان فيه الإمام فليس فيه مخالفة فاحشة وبه فارق عدم إتيانه بالتشهد عند ترك إمامه له لما فيه حينئذ من المخالفة الفاحشة ومن ثم بطلت صلاته إن علم وتعمد ومن أتم التشهد لا تبطل صلاته اتفاقا فظهر الفرق بينهما باتفاق القائلين بالتخلف للإتمام والقائلين بعدمه فلا يقاس الإتمام بأصل الإتيان فتدبره ليظهر لك ضعف من منع التخلف للإتمام كالتخلف للإتيان به من أصله, وإنما سووا بين التخلف لقراءة السورة والتخلف لإتمامها في امتناعهما

 

ج / 1 ص -261-        عند ركوع الإمام؛ لأن المأموم لا سورة له بالأصالة بخلاف التشهد فإنه مطلوب من المأموم بالأصالة, وأيضا فهو من الأبعاض وهي آكد من السورة نعم قيد شيخنا شيخ الإسلام زكريا في فتاويه جواز التخلف لذلك بما إذا كان يسيرا ومراده أنه لو تخلف إلى إن قام الإمام من الركوع بطلت صلاته لتخلفه بتمام ركنين فعليين لسنة والتخلف بهما ولو لسنة مبطل وإذا قيل بالجواز فالأولى المتابعة خروجا من خلاف من منع ذلك نعم قضية قولهم لا يشتغل بسنة بعد التحرم كالافتتاح والتعوذ إلا إن علم أنه يدرك الفاتحة بكمالها قبل ركوع الإمام أنه هنا لو علم أنه يدرك الفاتحة بكمالها قبل ركوع الإمام سن له التخلف للإتمام ويؤيده ما مر في القنوت فإن قلت: إذا تخلف للإتمام فهل يكون حكمه حكم الموافق أو المسبوق قلت إذا تخلف لذلك فإن أدرك زمنا يسع الفاتحة من قراءة نفسه فهو الموافق فيتخلف لإتمام الفاتحة ما لم يسبق بأكثر من ثلاثة أركان طويلة وإن لم يدرك زمنا يسع الفاتحة فهو كالمسبوق فيقرأ بقدر ما فوت نظير ما لو اشتغل المسبوق بدعاء الافتتاح بجامع تقصير كل باشتغاله بسنة عن فرض المتابعة, وبه يندفع ما أفتى به بعضهم أنه تلزمه الفاتحة كلها مطلقا فيتخلف لها ما لم يسبق بأكثر من ثلاثة أركان ثم إذا ركع الإمام وعليه بقية مما لزمه فإن أتمه وأدرك الركوع بشرطه أدرك الركعة, وإن لم يدركها فإن فرغ قبل شروعه في الهوي للسجود وافقه فيما هو فيه وفاتته الركعة فإن ركع عامدا عالما بطلت صلاته, وإن أراد الإمام الهوي للسجود وبقيت عليه بقية فقد تعارض في حقه واجبان إكمال ما فوته ومتابعة الإمام ولا مخلص له عن ذلك إلا بنية المفارقة فتلزمه, هذا كله بناء على أن المشتغل بدعاء الافتتاح غير معذور, وهو ما عليه جمع محققون, وقال آخرون: إنه معذور فيتخلف بثلاثة أركان طويلة, ويدرك الركعة كالموافق والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب.
"وسئل" نفع الله به عمن نقل تسبيح الركوع إلى السجود أو عكس هل يسن له سجود السهو لذلك مع أنه لا فرق بينهما على ما في بعض الروايات أو لا فرق إلا في الأعلى والعظيم أو لا ولو كرر الفاتحة مرتين هل يسن له السجود كما في العباب وغيره أو لا فإن قلتم نعم فما العلة في ذلك, ومن الذي صرح به من المتقدمين, وهل يطرد ذلك في التشهد أو لا؟ "فأجاب" بقوله: الذي بحثه الإسنوي وغيره أن نقل التسبيح يقتضي السهو, واعترضه بعض المتأخرين بأنه مخالف لما جزم به النووي في مجموعه من أنه لا سجود لنقل الافتتاح والتسبيح والدعاء إلى غير محلها لكن كلام الكفاية يقتضي السجود وبأنه لا يقاس نقل نحو التسبيح على نقل نحو القنوت؛ لأن الأبعاض آكد من بقية السنن, وإنما ألحقت السورة بالفاتحة لتأكدها وشبهها بها ا هـ. ولما ذكرت ذلك في شرح العباب قلت عقبه: قد تتبعت ما نقل عن المجموع في مظانه فلم أره في النسخة التي عندي فإن وجد فيه فلا كلام, وإلا فالأوجه ما مر عن الإسنوي وغيره, وعليه فنقل أذكار الركوع والاعتدال والسجود والجلوس بين السجدتين إلى غير محالها المطلوبة فيه يقتضي سجود

 

ج / 1 ص -262-        السهو, وأما قول بعضهم قد يفرق بأن القيام محل التسبيح في الجملة بدليل صلاة التسبيح والافتتاح بقوله سبحانك اللهم..إلخ ولا كذلك القراءة في غير القيام أو بدله فيجاب عنه بأن الكلام في نقل التسبيح المختص بمحل كسبحان ربي العظيم في الركوع, وسبحان ربي الأعلى في السجود مثلا, والقيام ليس محلا لذلك في الجملة على أن صلاة التسبيح خارجة عن القياس, ومختلف في مشروعيتها ويبطل ما ذكره ما تقرر من أن القنوت قبل الركوع بنيته مقتض للسجود مع أن القيام محل للدعاء في الجملة في دعاء الافتتاح, ويؤخذ من التقييد في هذه بالنية أنه لا بد في نقل نحو التسبيح من أنه ينوي به أن هذا تسبيح نحو الركوع كالقنوت بل أولى ثم رأيت الفتى وشيخنا زكريا رحمهما الله تعالى. بحثا ذلك وسواء في نقل ما مر النقل سهوا أو عمدا كما في المجموع لتركه التحفظ المأمور به في الصلاة فرضها ونفلها أمرا متأكدا كتأكد التشهد الأول ا هـ المقصود من عبارة شرح العباب ومنها يعلم أن نقل تسبيح الركوع المختص به إلى السجود بنية كونه تسبيح الركوع وعكسه يقتضي السجود لتركه التحفظ المذكور, وخرج بقولي: المختص ما اشترك فيه الركوع والسجود فلا يتصور فيه نقل؛ لأن ما وقع منه في أحدهما يقع في محله. والذي في شرح العباب أيضا أنه يسجد للسهو أيضا في تكرير الفاتحة كما نقله الزركشي عن الرافعي وهو متجه وإن جزم بعض المتأخرين بخلافه لكن إن كررها عمدا لجريان وجه ببطلان الصلاة بذلك فالسجود له أولى منه لنقل نحو السورة, ويحتمل إلحاق تكريرها سهوا أو شكا بذلك, وهو قريب قياسا على ما مر في نقل ذلك لتركه التحفظ السابق وبما قررته يعلم أن الذي يتجه أن تكرير التشهد كتكرير الفاتحة في التفصيل المذكور وأن ما في الخادم عن القاضي من أنه لو كرره ناسيا أو شك فيه فأعاده لم يسجد - فيه نظر ا هـ. ومنها يعلم جواب ما في السؤال والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

باب في صلاة النفل.
"وسئل" نفع الله تعالى به عن تكرير سورة الإخلاص في التراويح هل يسن وإذا قلتم لا فهل يكره أم لا وقد رأيت في المعلمات لابن شهبة أن تكرير سورة الإخلاص في التراويح ثلاثا كرهها بعض السلف قال: لمخالفتها المعهود عمن تقدم؛ ولأنها في المصحف مرة فلتكن في التلاوة مرة ا هـ فهل كلامه مقرر معتمد أم لا بينوا ذلك وأوضحوه لا عدمكم المسلمون "فأجاب" فسح الله في مدته بقوله: تكرير قراءة سورة الإخلاص أو غيرها في ركعة أو كل ركعة من التراويح ليس بسنة, ولا يقال: مكروه على قواعدنا. لأنه لم يرد فيه نهي مخصوص, وقد أفتى ابن عبد السلام وابن الصلاح وغيرهما بأن قراءة القدر المعتاد في التراويح هو التجزئة المعروفة بحيث يختم القرآن جميعه في الشهر أولى من سورة قصيرة

 

ج / 1 ص -263-        وعللوه بأن السنة القيام فيها بجميع القرآن, واقتضاه كلام المجموع واعتمد ذلك الإسنوي وغيره قال الزركشي وغيره: ويقاس بذلك كل ما ورد فيه الأمر ببعض معين كآيتي البقرة وآل عمران في سنة الصبح, أفتى البلقيني بأن من قرأ سورة في ركعتين إن فرقها لعذر أثيب عليها ثواب السورة الكاملة. لأنه صح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بالأعراف في أولتي المغرب وأما سورة نحو ثلاث أو أربع آيات فتفريقها خلاف السنة وفي الخادم عن البيهقي عن الربيع قلت للشافعي رضي الله عنه أيستحب الجمع بين سور فقال نعم وأفعله واستدل له بحديث الصحيحين عن ابن مسعود ولقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين في كل ركعة وعبارة المجموع ويجوز أن يجمع بين سورتين فأكثر في كل ركعة واحدة, وذكر الحديث, وأنت خبير بأن الأقرب للسنة أن ذلك مندوب لا جائز فقط, ولو كرر السورة في ركعتين. فالظاهر أنه يحصل أصل سنة القراءة وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الصبح إذا زلزلت في الركعتين كلتيهما والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه ما حكم الجمع عند قبور الصالحين وفي مسجد الجند في ليلة أول جمعة من رجب؟ "فأجاب" بقوله ما اعتادته العامة من القبائح التي يفعلونها ليلة أول جمعة من رجب بدعة شديدة القبح والفحش فيتعين على ولاة الأمر أيد الله بهم الدين وأزال بسيوف عدلهم المفسدين منع العامة من إظهار تلك المفاسد التي تحصل من اجتماعهم في الأماكن الفاضلة وجميع ما روي من الأحاديث المشتهرة في فضائل هذه الليلة وليلة نصف شعبان باطل كذب لا أصل له وإن وقع في بعض كتب الأكابر كالإحياء للغزالي وغيره.
"وسئل" رضي الله عنه عن التحية هل يخاطب بها المار وهل يجوز فعلها من قعود ولو دخل وقرأ آية سجود فكيف الطريق في تحصيلهما مع أنه لو سجد فاتت أو صلاها فات السجود لطول الفصل ولو خرج المعتكف لحاجة ثم عاد فهل يشرع له التحية أو لا؟ "فأجاب" بقوله: الذي يتجه. وذهب إليه ابن دقيق العيد أخذا من التقييد بالجلوس في نحو حديث:
"فلا تجلس حتى تصلي ركعتين" أن المار لا يخاطب بها ونظر فيه ابن العماد بأن ذلك خرج مخرج الغالب فيكون الأمر بها معلقا على مطلق الدخول تعظيما للبقعة, وأما فعلها من قعود فيجوز سواء نوى قائما ثم جلس أو قارنت نيته الجلوس بخلاف ما إذا جلس ثم نوى فيما يظهر لأنها تفوت بالجلوس عمدا وإن قل وزعم بعضهم أن الطريق في تحصيل ما ذكر أن يحرم بالركعتين ويقرأ الآية فيهما ثم يسجد وخطأه ابن العماد بأن السجود لقراءته التي في الصلاة لا لتلك المتقدمة ثم قال: إن طريق ذلك أن يسجد للتلاوة فإذا جلس نوى قبل سلامه زيادة ركعتين ويقوم فيصليهما؛ لأن النفل المطلق يجوز فيه الزيادة والنقص ا هـ. وفي كون سجود التلاوة من النفل المطلق نظر لمنافاة ذلك لتعريفهم له بأنه الذي لا يتقيد

 

ج / 1 ص -264-        بوقت ولا سبب وهذا متقيد بسبب القراءة, وقد يقال: لا نسلم أنه بفعل السجود تفوته التحية؛ لأنه جلوس قصير لعذر فهو كالجلوس القصير ناسيا. وأما مسألة المعتكف فالأوجه فيها أنه مخاطب بالتحية سواء قلنا: إن اعتكافه باق أم لا لوجود الدخول منه فقد شمله كلامهم والخبر وقول ابن العماد إن الذي تشهد له القواعد خلاف ذلك؛ لأنه لم يخرج من المسجد حكما فهو كالقدوة الحكمية يفارق المأموم فيها الإمام حسا لا حكما يرد بأن المدار على الخروج الحسي سواء أصحبه خروج حكمي أم لا بل الخروج هنا وجد حكما أيضا, وإنما لم يقطع الاعتكاف؛ لأن العزم على العود عند الخروج بمنزلة النية إذا دخل فمن ثم اكتفى به عنهما, ولأن الخروج لما لا بد منه ونحوه كأنه مستثنى حال النية فلم تشمله فلا يقال: الاعتكاف في حال الخروج باق حكما وبهذا علم أنه ليس كالمأموم في القدوة الحكمية وعلى التنزل فيمكن الفرق بأنا إنما جعلنا القدوة حكمية؛ لأنه لم يوجد من المأموم ما ينافيها من كل وجه؛ لأنا عهدنا فيها في الجملة تخلفا عن الإمام بغير عذر, ولا يكون مبطلا, وبأن الذي ألجأنا إلى ذلك مراعاة مصالح تعود على المأموم كتحمل سهوه, وهنا وجد ما ينافي الاعتكاف من كل وجه, وهو الخروج, ولا مصالح تعود على الخارج لو قلنا ببقاء اعتكافه حكما لأنا وإن لم نقل بذلك نقول لا ينقطع اعتكافه بذلك لما ذكرنا أولا لبقاء الاعتكاف الحكمي.
"وسئل" رضي الله عنه عمن خص ليلة الجمعة في كل أسبوع بصلاة التسبيح فهل يكره أو لا؟ "فأجاب" بقوله نعم يكره لشمول قولهم يكره تخصيص ليلة الجمعة بقيام وفعلها كل أسبوع يمكن في غير ليلة الجمعة وما حكاه الدميري عن صاحب المستوعب من أن وقتها ليلة الجمعة ويومها غريب ففي فتاوى ابن الصلاح أنها لا تختص بليلتها كما جاء في الحديث, ومثل ليلتها يومها في أنها لا تختص به لا في أنها تكره فيه.
"وسئل" رضي الله عنه عمن فاته حزبه ليلا وفيه اللهم إني أمسيت أشهدك..إلخ ونحو ذلك فهل إذا قضاه نهارا يسن له الإتيان بلفظ المساء ونحوه وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم
"أن يقبلني في هذه الغداة أو العشية" أو بين هذا وما قبله فرق؟ "فأجاب" بقوله ظاهر كلامهم أنه يأتي باللفظ الوارد عند القضاء وإن لم يكن مناسبا لذلك الوقت, وينوي المساء الماضي, وهذا ظاهر في نحو أمسيت دون نحو هذه العشية إلا أن ينزل ما مضى منزلة الحاضر فيشير إليه بإشارته كما أشاروا إلى ما لم يوجد, وأقاموه مقام الحاضر.
"وسئل" رضي الله عنه بما لفظه غير النفل المطلق كسنة الظهر هل تجوز الزيادة والنقص فيها بأن ينوي ثنتين ويصلي أربعا أو عكسه. "فأجاب" بقوله: مقتضى تقييدهم ذلك بالنفل المطلق أنه لا يجوز في غيره وهو متجه؛ إذ الأصل في العبادة وجوب البقاء على نيتها في الابتداء وخرج عن ذلك النفل المطلق لعدم انحصاره فبقي ما عداه على الأصل

 

ج / 1 ص -265-        "وسئل" رضي الله عنه عمن صلى الوتر ثلاثا فهل له أن يصلي الباقي منه بعد ذلك بنية الوتر. "فأجاب" بقوله: نعم له ذلك فيما يظهر إذ معنى كونه وترا أن فيه الوتر, وهو كذلك سواء توسط الوتر أم تقدم أم تأخر.
"وسئل" رضي الله عنه سنة الظهر البعدية هل يجوز تقديمها على الظهر بعد الوقت أو لا؟ "فأجاب" بقوله فيها وجهان وجه يحتمل ترجيح الجواز؛ لأن التبعية إنما كانت في الوقت وقد زالت بزواله ووجه يحتمل ترجيح المنع إجراء لما بعد الوقت مجرى ما فيه وهو الأقرب.
"وسئل" فسح الله في مدته هل يجوز التغيير والنقص في الوتر وسنة الظهر مثلا كالنافلة المطلقة, وهل يجوز جمع سنة الظهر القبلية والبعدية إذ صلاهما بعد الفرض بتسليمة وهل يجوز تقديم سنة الظهر البعدية عليها إذا خرج الوقت أم لا؟ "فأجاب" بقوله: لا يجوز التغيير والنقص فيما ذكر والفرق بين النافلة المطلقة وغيرها واضح جلي فلا يعدل عنه, ولا يجوز أيضا جمع ما ذكر بتسليمة في نية وإن اقتضت عبارة بعضهم خلافه؛ لأنه لا يمكن أن يقال: إن الأربعة تقع عن كل منهما كما هو واضح ولا أن يقال: إن الركعتين الأولتين تقع عن القبلية والأخيرتين تقع عن البعدية ولا عكسه؛ لأن نية المتأخرتين لا تقارن فعلهما حينئذ, وأما المسألة الأخيرة ففيها وجهان والأوجه عدم الجواز إلحاقا لما بعد الوقت بما فيه, ولا يقال: إن التبعية زالت بزوال الوقت؛ لأن الأصل في كل تابع تأخره عن متبوعه في الوقت وبعده فالحكم بخلافه يحتاج لدليل.
"وسئل" نفع الله به عمن صلى تحية المسجد قاعدا فهل تجزئه؟ "فأجاب" بقوله: إن أحرم بها قائما ثم قعد وصلاها قاعدا أجزأته عن التحية, وإلا فلا بناء على الأصح أن الجلوس اليسير عمدا يفوتها.
"وسئل" نفع الله بعلومه لو نوى التحية والظهر حصلا قطعا والجنابة والجمعة حصلا على الأصح ما الفرق بين المسألتين؟ "فأجاب" بقوله: قد يفرق بينهما على تسليم ما ذكر, وإن اقتضى قولهم في الفرق بين حصول غسل العيد بنية غسل الجمعة وعكسه وعدم حصول التحية أي ثوابها بنية سنة الظهر مبنى الطهارات على التداخل بخلاف الصلاة أن مسألة الطهارة أولى بالقطع بأن غسل الجمعة قيل بوجوبه فجرى في اندراجه نظرا لتأكده وللقول بوجوبه فلم يكف اقترانه بغيره بخلاف التحية فإنه لم يقل بمثل ذلك فكان لا وجه لعدم اندراجها مع نيتها.
"وسئل" رضي الله عنه عن التمييز بين المؤكدتين من الأربع وغير المؤكدتين هل لا يشترط ذلك ويقال: من اقتصر على ركعتين يقال فيه اقتصر على المؤكد, ومن أتى بالأربع أتى بالمؤكد وغير المؤكد من غير تعيين أم المراد غير ذلك وما هو؟ "فأجاب" بقوله: وظاهر أنه

 

ج / 1 ص -266-        لا يشترط تمييز المؤكد من غيره بالنية كما لا يجب تمييز القضاء عن الأداء بل أولى وأنه إن اقتصر على ركعتين وقعتا عن المؤكد؛ لأنه أقوى بتأكد طلبه كما لو اقتصر عليه أداء وقضاء على صلاة تنصرف للأداء من غير نية لقوة الأداء, وأنه إن صلى الأربع أثيب على المؤكد وغيره, ولا فائدة للتمييز حينئذ لحصول الثوابين على كل تقدير, والله - تعالى - أعلم.
"وسئل" فسح الله في مدته هل تسن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بين تسليمات التراويح أو هي بدعة ينهى عنها؟ "فأجاب" بقوله الصلاة في هذا المحل بخصوصه. لم نر شيئا في السنة ولا في كلام أصحابنا فهي بدعة ينهى عنها من يأتي بها بقصد كونها سنة في هذا المحل بخصوصه دون من يأتي بها لا بهذا القصد كأن يقصد أنها في كل وقت سنة من حيث العموم بل جاء في أحاديث ما يؤيد الخصوص إلا أنه غير كاف في الدلالة لذلك, ومنه ما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه ومثله لا يقال من قبل الرأي أن من قام في جوف الليل لا يعلم به أحد فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم حمد الله ومجده وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم واستفتح القولين فذاك الذي يضحك الله إليه يقول انظروا إلى عبدي قائما لا يراه أحد غيري. وعن أبي هريرة لكن لم يعرف له سند أنه قال: من قام من الليل فتوضأ فأحسن الوضوء ثم كبر عشرا وسبح عشرا وتبرأ من الحول والقوة على ذلك ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فأحسن الصلاة لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه من الدنيا والآخرة وروى أبو الشيخ من طريق الديلمي في مسند الفردوس له. وكذا الضياء في المختارة وقال: لا أعرف الحديث إلا بهذا الطريق, وهو غريب جدا, وفي رواية من فيه بعض المقال أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من أوى إلى فراشه ثم قرأ:
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] ثم قال اللهم رب الحل والحرام ورب البلد الحرام ورب الركن والمقام ورب المشعر الحرام بحق كل آية أنزلتها في شهر رمضان بلغ روح سيدنا محمد تحية وسلاما أربع مرات وكل الله به ملكين حتى يأتيا سيدنا محمدا فيقولا له إن فلان بن فلان يقرئك السلام ورحمة الله فأقول على فلان بن فلان مني السلام ورحمة الله وبركاته" ومما يشهد للصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بين تسليمات التراويح أنه يسن الدعاء عقب السلام من الصلاة وقد تقرر أن الداعي يسن له الصلاة أول الدعاء وأوسطه وآخره وهذا مما أجمع عليه العلماء في أوله وآخره, وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال "إذا أراد أحدكم أن يسأل الله شيئا فليبدأ بمدحه والثناء عليه بما هو أهله ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل بعد فإنه أجدر أن ينجح أو يصيب" وأخرج النسائي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال "الدعاء كله محجوب حتى يكون أوله ثناء على الله - عز وجل - وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو فيستجاب لدعائه" وروى البيهقي والتيمي وأبو اليمن بن عساكر وابن بشكوال وغيرهم وفي سنده الحارث الأعور وقد ضعفه الجمهور أنه صلى الله عليه وسلم قال "ما من دعاء إلا بينه وبين السماء حجاب حتى يصلي على محمد وعلى آل محمد فإذا فعل ذلك انخرق ذلك الحجاب ودخل الدعاء, وإذا لم يفعل رجع الدعاء". وروى عبد بن حميد والبزار في مسنديهما وعبد الرزاق في جامعه وابن أبي

 

ج / 1 ص -267-        عاصم والتيمي والطبراني والبيهقي والضياء وأبو نعيم والديلمي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوني كقدح الراكب قيل: وما قدح الراكب قال: إن المسافر إذا فرغ من حاجته صب في قدحه ماء فإن كان له إليه حاجة توضأ منه أو شربه, وإلا أهراقه اجعلوني في أول الدعاء وأوسطه وآخره" والقدح بفتح أوليه. قال ابن الأثير كالهروي أراد صلى الله عليه وسلم لا تؤخروني في الذكر والراكب يعلق قدحه في آخر رحله ويجعله خلفه والهاء في أهراقه. وفي رواية هراق مبدلة من همزة أراق يقال أراق الماء يريقه وأهراقه يهريقه بفتح الهاء هراقة ويقال فيه أهرقت الماء أهريقه إهراقا فيجمع بين البدل والمبدل, ومما يشهد للصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فيما مر بالنسبة لمن لم يلق أخاه ويصافحه إلا حينئذ خبر "ما من عبدين متحابين في الله - عز وجل". وفي رواية "ما من مسلمين يستقبل أحدهما صاحبه" وفي رواية "يلتقيان فيتصافحان ويصليان على النبي صلى الله عليه وسلم إلا لم يتفرقا حتى يغفر لهما ذنوبهما ما تقدم منها, وما تأخر" أخرجه الحسن بن سفيان وأبو يعلى في مسنديهما وابن حبان في الضعفاء له وابن بشكوال وغيرهم وجاء من طرق كثيرة أنه صلى الله عليه وسلم قال "ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله تعالى فيه, ولم يصلوا على نبيه صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم من الله ترة يوم القيامة فإن شاء عذبهم, وإن شاء غفر لهم" حديث حسن, وفي رواية صحيحة "ما من قوم جلسوا مجلسا ثم قاموا منه لم يذكروا الله ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان ذلك المجلس عليهم ترة أي بكسر الفوقية وراء مخففة مفتوحة ثم تاء - حسرة وندامة كما في رواية "إلا كان عليهم حسرة وإن دخلوا الجنة لما يرون من الثواب". وفي أخرى إلا قاموا عن أنتن جيفة ورجالها رجال الصحيح على شرط مسلم.
"وسئل" رضي الله عنه عما نقل عن الإمام الحليمي رضي الله عنه أن المشروع في صلاة التراويح أن تصلى بعد ربع الليل قال: وأما إقامتها في أول الوقت مع العشاء فمن بدع الكسالى والمترفين وليس من القيام المسنون في شيء إنما القيام المسنون ما كان في وقت النوم فمن قام لا في وقت النوم فهو كسائر المتطوعين ا هـ فما ذكره هل هو موافق لكلام غيره أو لا وهل هو معتمد أو لا وعلى قوله فهل الأولى لمن لم يجد الجماعة إلا في أول الوقت التعجيل لتحصيل ثواب الجماعة أو التأخير ليكون آتيا بالقيام المسنون؟ "فأجاب" بقوله قد ذكرت المسألة في شرح العباب وعبارته أما وقت التراويح المختار فقال الحليمي يدخل بمضي ربع الليل الأول لأنهم أي في زمن عمر رضي الله عنه كانوا ينامونه ويقومون ربعين وينصرفون في الرابع لسحورهم وحوائجهم قال وأما فعلها عقب العشاء فمن بدع الكسالى والمترفين, وليس من القيام المسنون في شيء؛ لأنه إنما سمي قياما لاستدعائه القيام من المضجع فهو كسائر المتطوعين ليلا أو نهارا ا هـ. وظاهره بل صريحه أن وقتها عنده يدخل بفعل العشاء ففهم الأذرعي من كلامه أنه إنما يدخل بمضي الربع بعيد مناف لكلامه كما علمت, وما جرى عليه من أن وقت اختيارها ذلك لما ذكره اعتمده جمع,

 

ج / 1 ص -268-        وفيه نظر, ويرد ما احتج به ما في البخاري أن أبيا في زمن عمر رضي الله عنهما كان يصلي بهم قبل أن يناموا, وبه يتجه خلاف ما قاله الحليمي وإن أول وقتها المختار, وهو وقت الوتر المختار, وهو ثلث الليل كالعشاء, ومحله فيمن لم يرد التهجد أما من يريده فالأفضل له أن يكون بعد النوم فالحاصل أن من أراد التراويح أو الوتر قبل النوم امتد وقت الاختيار في حقه إلى ثلث الليل, ومن أراد أحدهما بعده فالأفضل أن يكون في الوتر آخر الليل, وفي التراويح قبل ذلك. وعلى هذا يحمل كلام الحليمي لما علمت أنه إنما بنى كلامه على ما حكاه عن الصحابة رضي الله عنهم من أنهم كانوا ينامون الربع الأول ويقومون ربعين بعده وأن الذي في البخاري خلاف ذلك, وأنهم إنما كانوا يصلون قبل النوم فبهذا يرد ما قاله الحليمي على أن ما قاله مخالف لكلام غيره فإن الأصحاب ألحقوا التراويح بالعشاء في الوقت فظاهره أن تقديمها أول الوقت أفضل وإنما خالفهم الحليمي لظنه صحة ما حكاه عن الصحابة مما ذكر وقد بان عدم صحته فالذي يتجه ما مر من التفصيل, ولو تعارض فعلها أول الوقت في جماعة, وفعلها أثناءه بعد النوم بلا جماعة فالأفضل رعاية الجماعة إن كانت مشروعة مشتملة على آدابها ومعتبراتها لا كما اعتيد من تعدد الجماعات المقترنة بقبائح من المخالفات. بل والمفسدات فهذه الجماعة والصلاة التي معها ليس فيهما شيء من الكمال فينبغي للموفق أن يتنبه لذلك لئلا يضيع عمله عليه وهو يحسب أنه يحسن صنعا وفقنا الله لمرضاته آمين.
"وسئل" نفع الله به عن صلاة الإشراق كما في الإحياء هل هي من الضحى أو لا وإن قلتم لا فلم لم يذكرها من بعد حجة الإسلام كالشيخين وغيرهما رضي الله عنهم أجعلوها من الضحى أم كيف الحكم في ذلك, وكيف ينوي بها, وإذا مضى وقتها فهل يصليها أو لا, وكيف ينوي بها حينئذ؟ "فأجاب" بأنها ليست من الضحى كما صرح به الحجة وعبارة شرح العباب قال الغزالي وركعتا الإشراق غير الضحى ووقتها عند الارتفاع للشمس كرمح قال وهي المذكورة في قوله تعالى:
{يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ} [صّ: 18] أي يصلين ا هـ وفي جعله لها غير الضحى نظر ففي المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها هي صلاة الأوابين وهي صلاة الضحى وسميت بذلك لخبر "لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب" وهي صلاة الأوابين رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم وحينئذ فمقتضى المذهب أنه لا يجوز فعلها بنية صلاة الإشراق إذا لم يرد فيها شيء ثم رأيت في الجواهر عن بعضهم أنه جعلها من صلاة الضحى وهو متجه لما علمت انتهت عبارة شرح العباب وبها يعلم أن الغزالي مصرح بأنها غير الضحى, وغيره مصرح بأنها من الضحى, وأن هذا هو اللائق بالقواعد؛ لأن مغايرتها للضحى لم يصح فيه شيء, ومبنى الصلوات على التوقيف ما أمكن وكأن هذا الذي أشرت إليه مما يضعف كلام الغزالي هو السر في حذف أكثر من بعده له وعدم تعويلهم عليه بل على ما قاله ابن عباس وهو الحجة

 

ج / 1 ص -269-        في مثل ذلك أنها صلاة الضحى فعلى كلام الغزالي ينوي بها سنة صلاة الإشراق وإن قضاها ليلا مثلا كما ينوي بصلاة الضحى سنة صلاة الضحى, وإن قضاها ليلا أيضا وعلى ما قاله غير الغزالي ينوي بها سنة صلاة الضحى ولا يزيد بها الضحى على الثمان بل يكون من جملتها بناء على أن الثمان أكثرها, وعلى أن أكثرها ثنتا عشرة هي أعني صلاة الإشراق من جملة تلك الثنتي عشرة وسواء جعلناها هي أو غيرها يسن قضاؤها كما يصرح به كلامهم وينوي بها ما مر من سنة صلاة الإشراق على مقالة الغزالي أو سنة صلاة الضحى على مقالة غيره التي هي أوجه والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي الله عنه عما إذا كان على شخص فائتة وأراد أن يقضيها مع راتبتها فهل يقدم الراتبة المتقدمة على الفرض أو يؤخرها عنه أو لا يقضي الرواتب إلا بعد تمام الفرائض إن كانت عليه ومن كانت عليه فوائت كثيرة فهل له أن يصلي النوافل مع قضاء تلك الفوائت أم لا وهل يفرق بين الرواتب وغيرها في ذلك أو لا وبين رواتب الفائتة والحاضرة أو لا؟ "فأجاب" بقوله: الذي رجحته في شرح العباب أنه لا يجوز له تقديم البعدية على الفائت كالحاضر وعبارته: ولو فاتته العشاء فهل له قضاء الوتر قبلها وجهان في البحر أوجههما كما مر أنه لا يجوز؛ لأن الأصل في القضاء أنه يحكي الأداء ودعوى قصور التبعية على الوقت تحتاج لدليل ثم رأيت بعض مختصري الروضة ومحشيها رجحا ما رجحته وبعض شراح الإرشاد رجح مقابله. واستند لهذه الدعوى المردودة, وابن عجيل رجح ما رجحته أيضا فقال: القياس في الرواتب المتأخرة يقضي بأنه لا بد من الترتيب في القضاء كما لا بد منه في الأداء؛ لأن ترتيب إحداهما على الأخرى لا يتعلق بوقت بخلاف الفرائض فإن ترتيب بعضها على بعض استحق لأجل الوقت فسقط بفواته وبخلاف صوم السبعة الأيام وصوم الثلاثة فإنه مختلف في أن التفريق بينهما هل كان في الأداء لأجل الوقت فسقط بفواته أو كان من حيث العمل فلم يسقط بفواته وأما هذا فلم يختلف فيه أحد, ولا يشرع فيه اختلاف ا هـ. واعتمده الريمي في تفقيهه انتهت عبارة الشرح المذكور, ومنها علم أن المعتمد الذي عليه ابن عجيل والريمي وبعض مختصري الروضة وبعض محشيها أنه لا يجوز تقديم المتأخرة على الفرض بما تقرر, وأن من رجح جواز تقديمها زاعما قصور التبعية على الوقت يحتاج لإقامة دليل على ذلك الزعم, ولن نجده بل الموجود في كلامهم رده ومن عليه فوائت فإن كانت فائتة بعذر جاز له قضاء النوافل معها سواء الراتبة وغيرها؛ إذ من المقرر عندنا أنه يسن قضاء النوافل المؤقتة ليلا ونهارا وإن لم تشرع لها جماعة طال الزمان أو قصر, وفي وجه ضعيف وإن قال الماوردي: إنه الصحيح وإن عليه عامة الأصحاب أنه لا يقضي إلا المستقلة كالعيد دون الراتبة. وفي آخر ضعيف قال به القفال أن التراويح لا تقضى نعم لا يقضى ذو سبب كالكسوف والاستسقاء والتحية ونحوها مما يفعل لعارض زال؛ لأن فعله لذلك العارض وقد زال, ولو اعتاد صلاة, ولو غير

 

ج / 1 ص -270-        مؤقتة ففاتته سن له قضاؤها قال الرافعي في صوم التطوع: وقد يندب قضاء النفل المطلق كأن شرع فيه ثم أفسده. وإن كانت فاتت بغير عذر لم يجز له فعل شيء من النوافل قبل قضائها؛ لأنه واجب عليه فورا وبصرف الزمن للنوافل تفوت الفورية فلزمه المبادرة لقضائها, وهي لا توجد إلا إن صرف لها جميع زمنه فيجب على من عليه فوائت بغير عذر أن يصرف جميع زمنه إلى قضائها, ولا يستثني من ذلك إلا الزمن الذي يحتاج إلى صرفه فيما لا بد منه من نحو نومه وتحصيل مؤنته ومؤنة من تلزمه مؤنته, وهذا ظاهر, وإن لم يذكروه؛ لأنه إذا لزمه القضاء فورا كان مخاطبا به خطابا إيجابيا إلزاميا في كل لحظة فما اضطر لصرفه في غير ذلك بعذر في التأخير بقدره. وما لم يضطر لصرفه في شيء يجب عليه صرفه في ذلك الواجب عليه الفوري, وإلا كان عاصيا آثما بالتأخير كما أنه عاص آثم بالترك والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" نفع الله به عمن يريد التهجد والغالب أنه يفوته فيقضيه فهل الأفضل له أن يصليه بعد العشاء وترا إن قلنا التهجد هو الوتر أو لا فيقضيه وإذا غلب على ظنه أن هذه الليلة لا يمكنه القيام فيها فهل الأفضل أن يقدمه وترا أو لا وهل الأفضل إذا قضاه أن يصليه قبل صلاة الصبح إن وسع الوقت أو يجوز بعدها قبل مضي وقت الكراهة أو يصبر إلى أن يمضي وقت الكراهة؟ "فأجاب" بقوله إذا فاته تهجد سن له قضاؤه سواء قلنا إن الوتر هو التهجد أم غيره والأصح أن بينهما عموما وخصوصا من وجه لاشتراكهما في صلاة بعد النوم بنية الوتر وانفراد الوتر بصلاة قبل النوم بنية الوتر وانفراد التهجد بصلاة بعد النوم لا بنية الوتر, وإذا أراد التهجد وحده أو مع نية الوتر به فإنما يسن ذلك لمن استيقظ من نومه؛ إذ هذا هو وقت التهجد كما علم مما تقرر, وأما الأفضل فهو أنه إن وثق بيقظته سن له تأخير وتره إلى ما بعد يقظته؛ لأنه الاتباع المعروف من أحواله صلى الله عليه وسلم الغالبة وإن لم يثق بذلك سن له تقديم وتره قبل نومه, وإذا قضاه فالأولى أن يبادر به كما أن المبادرة بقضاء الفرائض التي فاتت بعذر سنة, وإذا سن له المبادرة به فالأولى قضاؤه قبل فعل الصبح إن وسع الوقت, وإلا فبعد مضي وقت الكراهة وإن جاز فعله فيه لأنه ذو سبب ما لم يتحر به الوقت المكروه.
"وسئل" نفع الله به عن صلاة التسبيح حيث قيل باستحبابها على الراجح على ما في أحاديثها من الضعف هل هي من النوافل المطلقة أو المقيدة باليوم أو الجمعة أو الشهر أو السنة أو العمر كما جاء في حديث العباس رضي الله تعالى عنه:
"إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل"..إلخ وإذا قلتم إنها من النوافل المقيدة يكون قضاؤها مستحبا, وتكرارها في اليوم أو الليلة غير مستحب أم لا, وإذا قلتم إنها من النوافل المطلقة يكون قضاؤها غير مستحب, وتكرارها في اليوم مستحب أم لا, وهل التسبيح فيها فرض أو بعض أو هيئة, وعلى

 

ج / 1 ص -271-        كل الأحوال لو نواها, ولم يسبح أو عكس تكون صلاة تسبيح ويترتب عليها ثوابها أو لا وهل يفرق في ترك التسبيح بين العمد أو السهو أم لا وهل إذا سها عن التسبيح في ركن وانتقل إلى ما بعده وتذكر يرجع إليه ليسبح فيه ويلغي ما بعده أو يتدارك ما فاته من التسبيح في حال سهوه سواء كان تسبيح ركن أو أكثر ويأتي به في محل التذكر مع تسبيح ذلك الركن الذي يذكر فيه أم لا. وهل التسبيح فيها تابع للقراءة في السرية والجهرية أم يسر به في الليل والنهار كسائر أذكار الصلوات وهل تجب بالنذر, وتكون أفضل من غير المنذورة أم لا, وهل الفصل فيها أفضل من الوصل مع قوله في الحديث: أربع ركعات أم الوصل أفضل أم كيف الحال وما حكم الله سبحانه وتعالى في ذلك أفتونا وابسطوا الجواب أثابكم الله الجنة بكرمه آمين؟ "فأجاب" رضي الله تعالى عنه بقوله الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه اللهم هداية للصواب, الحق في حديث صلاة التسبيح أنه حسن لغيره فمن أطلق تصحيحه كابن خزيمة والحاكم يحمل على المشي على أن الحسن يسمى لكثرة شواهده صحيحا, ومن أطلق ضعفه كالنووي في بعض كتبه ومن بعده أراد من حيث مفردات طرقه. ومن أطلق أنه حسن أراد باعتبار ما قلناه فحينئذ لا تنافي بين عبارات الفقهاء والمحدثين المختلفة في ذلك حتى إن الشخص الواحد يتناقض كلامه في كتبه فيقول في بعضها حسن وفي بعضها ضعيف كالنووي وشيخ الإسلام العسقلاني ومحمل ذلك النظر لما قررته فاعلمه والذي يظهر من كلامهم أنها من النفل المطلق فتحرم في وقت الكراهة, ووجه كونها من المطلق أنه الذي لا يتقيد بوقت ولا سبب وهذه كذلك لندبها كل وقت من ليل أو نهار كما صرحوا به ما عدا وقت الكراهة لحرمتها فيه كما تقرر, وعبارة الروياني: ويستحب أن يعتادها في كل حين, ولا يتغافل عنها, وعبارة غيره ينبغي الحرص عليها وما يسمع بعظيم فضلها ويتهاون فيها إلا متهاون بالدين وعلم من كونها مطلقة أنها لا تقضى لأنها ليس لها وقت محدود حتى يتصور خروجها عنه وتفعل خارجه لما أفاده الخبر. وكلام أصحابنا أن كل وقت غير وقت الكراهة وقت لها وأنه يسن تكرارها, ولو مرات متعددة في ساعة واحدة, والتسبيحات فيها هيئة كتكبيرات العيدين بل أولى فلا يسجد لترك شيء منها, ولو نواها ولم يسبح فالظاهر صحة صلاته بشرط أن لا يطول الاعتدال ولا الجلوس بين السجدتين ولا جلسة الاستراحة إذ الأصح المنقول أن تطويل جلسة الاستراحة مبطل كما حررته في شرح العباب وغيره. وإنما اشترطت أن لا يطول هذه الثلاثة؛ لأنه إنما اغتفر تطويلها بالتسبيح الوارد فحيث لم يأت به امتنع التطويل, وصارت نافلة مطلقة بحالها لكنها لا تسمى صلاة تسبيح, فإن قلت: كيف ينوي صفة ثم يتركها؟ قلت: لا بعد في ذلك؛ لأن تلك الصفة كمال, وهو لا يلزم بنيته ألا ترى أن من نوى سجود السهو فسجد واحدة ثم طرأ له الاقتصار عليها جاز بخلاف ما لو نوى الاقتصار على سجدة ابتداء لنيته ما لا يجوز حينئذ. فإن قلت: قضية هذا الأخير أنه لو نوى صلاة التسبيح, وفي عزمه حال النية

 

ج / 1 ص -272-        أن لا يأتي بالتسبيح عدم صحة صلاته قلت يفرق أنه هنا نوى مبطلا, وهو سجدة فرده, وهي لا تسمى سجود سهو, وإنما جاز الاقتصار عليها إذا طرأ بعد النية؛ لأنها نفل, وهو لا يلزم بالشروع فيه, وأما ثم أعني في صورة التسبيح فهو لم ينو مبطلا. وإنما نوى ترك كمال فلم تبطل بنيته؛ إذ غايته أن نافلته حينئذ لا تسمى صلاة تسبيح, وهو غير مناف لصحة السنة نعم إن نوى صلاة التسبيح ناويا أن لا يأتي به, وأنه يطول ركنا قصيرا بغير تسبيح فالبطلان واضح حينئذ لأنه نوى مبطلا حينئذ, ولو لم ينو صلاة التسبيح ثم أراد أن يأتي به, وهذا هو مراد السائل نفع الله به بقوله أو عكس جاز له الإتيان به ما لم يطل به ركنا قصيرا؛ لأن نيته انعقدت نافلة لا تسمى صلاة تسبيح, وهم لم يغتفروا تطويل القصير إلا في صلاة التسبيح اتباعا للوارد ما أمكن, ولو سها عن التسبيح في ركن وانتقل لما بعده لم يجز له الرجوع إليه فإن فعل عامدا عالما فيما يظهر؛ لأن هذا مما يخفى على العوام بطلت صلاته, وإذا لم يجز له العود إليه تداركه فيما يليه إن كان غير قصير كتسبيح الاعتدال في السجود. فإن كان قصيرا كأن ترك تسبيح الركوع واعتدل لم يتداركه في الاعتدال لأنه لا يطوله عن الوارد بل في السجود؛ لأنه طويل ذكر ذلك البغوي وغيره وهو ظاهر والسنة الإسرار بتسبيحها ليلا ونهارا وأما قراءتها ففي النهار يسرها وفي الليل يتوسط فيها بين الجهر والإسرار كسائر النوافل المطلقة وتجب بالنذر كما هو صريح كلام الأئمة في باب النذر لما تقرر أنها سنة مقصودة وكل ما هو كذلك يجب بالنذر. وإذا نذرت صارت واجبة فيثاب عليها ثواب الواجب سواء قلنا: إن النذر نفسه مكروه, وهو ما عليه الجمهور لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن النذر لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل أو مندوب إن كان غير نذر لجاج", وهو الذي يعتمد كما بينته في شرح العباب وغيره ويجوز فيها الفصل والوصل؛ لأن الحديث يتناولهما لكن استحسن الغزالي في الإحياء أنه إذا صلاها في النهار وصلها بتسليمة واحدة. وإن صلاها في الليل فصلها بتسليمتين أي لقوله صلى الله عليه وسلم "صلاة الليل مثنى مثنى" لكن في رواية: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى, وكأن الغزالي - رحمه الله تعالى - إنما أخذ بالرواية الأولى لأنها أشهر هذا ما تيسر الآن ونحن على جناح سفر مع فقد الكتب لا سيما شرحي للعباب الذي جمع فأوعى وشرحي للإرشاد وغيرهما. وقد ذكرت في صلاة التسبيح في شرح العباب من الأبحاث والفوائد ما لا يستغني فاضل عن مراجعته, والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب.
"وسئل" نفع الله به عمن فاته التسبيح والتحميد والتكبير بعد صلاة العشاء ويأتي بها عند أخذ المضجع هل تتأدى به السنتان أو لا؟ "فأجاب" بقوله: إن طال الفصل بين سلامه من العشاء وأخذ المضجع بحيث لا ينسب عرفا ذلك الذكر إلى الصلاة فاتته سنة ذلك الذكر بعد الصلاة؛ إذ من الواضح أن مراد من صرح به أن الأذكار التي تسن بعد سلام الصلاة إنما تحصل سنتها حيث لم يطل الفصل بينهما طولا تخرج به الأذكار عن أن تنسب إلى الصلاة, وإن قصر الفصل وقصد به الإتيان لهما احتمل أن يقال تحصل له السنتان؛ لأن القصد وقوع

 

ج / 1 ص -273-        النوم على ذكر, فإذا أتى به للصلاة وله كفي لهما, ولو أتى به بقصد الصلاة فقط أو بقصد النوم فقط حصل ما نواه, ولم يثب على الآخر, ولكن يسقط عنه طلبه أخذا مما قالوه في تحية المسجد إذا صلى غيرها أنه لا يحصل فضلها إلا إن نويت, وإلا سقط طلبها على ما فيه مما بسطته في شرح العباب وغيره, والجامع بينها وبين ما هنا أن القصد منها أن لا ينتهك المسجد بالجلوس فيه من غير صلاة وقد حصل ذلك وإن لم ينو وكان قياسه حصول فضلها كما قال به جماعة لكن خبر "إنما الأعمال بالنيات" يرده. فجمعنا يجعل الكلام في مقامين سقوط الطلب فيحصل بأي صلاة كانت, وحصول الثواب فيتوقف على النية, والقصد هنا وقوع النوم على ذكر وختم الصلاة به فأعطي حكم التحية فيما تقرر من أنهما إن نويا حصلا وإلا حصل ما نوى فقط, وسقط طلب الآخر ويأتي ذلك فيما إذا طال الفصل وقلنا بندب قضاء مثل هذا الذكر فإذا أتى به في مضجعه ناويا به القضاء وذكر النوم حصلا, وإلا حصل ما نواه فقط هذا حاصل ما يظهر في هذا المسألة, وإن لم أر من صرح بشيء منه لما تقرر أن القصد وقوع النوم على الذكر وختم الصلاة به وهما حاصلان بواحد.
"وسئل" نفع الله به عمن قضى الفرض مع راتبته فهل تقدم الراتبة المتأخرة على فرضها أم لا؟ "فأجاب" بقوله الذي رجحته في شرح العباب وغيره أنه لا يجوز له تقديمها؛ لأن الأصل في القضاء أنه يحكي الأداء ودعوى قصور التبعية على الوقت تحتاج لدليل وسبقني لذلك بعض مختصري الروضة وبعض محشيها وابن عجيل والريمي في تفقيهه فرجحوا ما رجحته أيضا, وعبارة ابن عجيل القياس في الرواتب المتأخرة يقضي أنه لا بد من الترتيب في القضاء كما لا بد منه في الأداء؛ لأن ترتيب إحداهما على الأخرى لا يتعلق بوقت بخلاف الفرائض فإن ترتيب بعضها على بعض استحب لأجل الوقت فسقط بفواته وبخلاف صوم السبعة الأيام وصوم الثلاثة فإنه مختلف في أن التفريق بينهما هل كان في الأداء لأجل الوقت فسقط بفواته أو كان من حيث الفعل فلم يسقط بفواته. وأما هذا فلم يختلف فيه أحد ولا يسوغ فيه خلاف ا هـ.
"وسئل" نفع الله به عن قراءة الكافرون والإخلاص تسن في كم نافلة؟ "فأجاب" بقوله: تسن في سنة المغرب والطواف والاستخارة والركعتين عند إرادة السفر وفي سنة الإحرام وقيس بها التحية والضحى وسنة الزوال ونحوها وتسن في صبح الجمعة للمسافر رواه الطبراني, وكذا في مغرب ليلة الجمعة رواه البيهقي وتسن في عشاء ليلة الجمعة قراءة سورة الجمعة والمنافقين أو سبح وهل أتاك قال بعض المتأخرين: وتسن قراءة سورة الإخلاص في كل من أولتي الوتر.
"وسئل" نفع الله به عما يسن للرجل إذا زفت إليه امرأة ودخل بها؟ "فأجاب" بقوله يسن له إذا دخل بها أن يأخذ بناصيتها ويقول بارك الله لكل منا في صاحبه ثم ما رواه أبو داود

 

ج / 1 ص -274-        وابن ماجه وهو "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه" وروى الطبراني أنه يصلي ركعتين وهي أيضا خلفه وتقول "اللهم بارك لي في أهلي وبارك لأهلي في وارزقني منهم اللهم اجمع بيننا ما جمعت في خير وفرق بيننا إذا فرقت في خير" ويسن لمن اشترى خادما أو بهيمة أن يأخذ بناصيته ويقول "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه".
"وسئل" رضي الله عنه عمن أحرم بسنة الظهر أو الوتر مثلا من غير تعيين عدد ثم أراد أن يجمع بين الأربع منها بتسليمة أو أحرم بركعتين مثلا بالتعيين ثم أراد أن يجمع بين الأربع بتسليمة أو عكس هل يجوز ذلك إذا غير النية كما في النوافل المطلقة أو لا وهل يفرق بين الصورة الأولى والثانية وقد رأيت في فتاوى ابن العراقي فيما إذا أحرم بركعتين ثم أراد الزيادة ما هذا لفظه: الذي يتبين ويفهم من نصوصهم نصا وتعليلا أن ذلك لا تتأدى به السنة الراتبة وحسبك من قول الشيخ أبي إسحاق وإن كانت نافلة غير راتبة أجزأته نية فعل الصلاة وما قبل الزيادة والنقصان ذلك فيفهم منه اشتراط التعيين, ومنع الإجمال, وبحثهم في ذلك مشهور هذا لفظه, ولم يعرف مراده مما نقله عن الشيخ أبي إسحاق, ولعل في الكلام سقطا بينوا لنا ذلك وهل يجوز الجمع بين المتقدمة على الفرض والمتأخرة عنه في تسليمة إذا أخر المتقدمة أو لا؟ "فأجاب" بقوله: قد تردد الإسنوي فيما لو نوى الوتر من غير عدد هل يلغو لإبهامه أو يصح, ويحمل على ركعة؛ لأنها المتيقنة أو على ثلاث؛ لأنها أفضل كنية الصلاة فإنها تنعقد ركعتين مع صحة الركعة أو إحدى عشرة لأنها الغاية فحمل الإطلاق عليها بخلاف الصلاة فيه نظر ا هـ والذي رجحه شيخنا شيخ الإسلام زكريا سقى الله عهده صبيب الرحمة والرضوان وأسكنه أعلى فراديس الجنان أنه يصح, ويحمل على ما يريده من ركعة أو ثلاث أو خمس أو سبع أو تسع أو إحدى عشرة ا هـ وظاهره أنه ليس له أن يعين شفعا كأربع ويسلم منها ويوجه بأنه إنما نوى الوتر وهو حقيقة لا تنصرف إلا إلى الوتر دون الشفع, وإنما جاز فيما إذا أوتر بأكثر من ركعة أن ينوي بكل شفع ركعتين من الوتر بل هو الأولى على المنقول المعتمد لأنهما من سنة هي وتر نعم لو لم ينو الوتر بل نوى من الوتر فظاهر أن له تعيين الشفع كالأربع ويسلم منها حينئذ, والفرق أن الأربع تسمى من الوتر, ولا تسمى الوتر فلزمه في نية الوتر أن يعين عددا هو وتر حقيقة بخلافه في نية من الوتر فيجوز له أن يعين شفعا هذا ما يتعلق بنية الوتر من غير تعيين عدد, وأما ما يتعلق بنية سنة الظهر من غير تعيين عدد فإن قلنا فيها بجواز الوصل كالوتر يأتي فيها نظير ما سبق في الوتر, وإن قلنا فيها بامتناع ذلك لزمه الاقتصار على ركعتين, والمسألة مختلف فيها فالذي أفتى به النووي - رحمه الله تعالى, وجرى عليه في مجموعه واعتمده جمع متأخرون أنه تصح نية سنة الظهر الأربع القبلية أو البعدية بتسليمة بتشهد أو تشهدين. وبحث ابن الرفعة والسبكي والزركشي وأبو شكيل أن ذلك لا يجوز, وبه صرح الماوردي وفرق النووي رحمه الله بين هذه, وامتناع جمع أربع من التراويح

 

ج / 1 ص -275-        في تسليمة بأن التراويح أشبهت الفرض بطلب الجماعة فلا تغير عما ورد فيها, وأيضا فجنس الراتبة ورد فيه الوصل كالوتر بل ورد في حديث ضعيف الوصل في سنة الظهر وسنة العصر, ومن ثم قال الغزالي: إن الوصل هنا أفضل لكن المعتمد أن الفصل هنا أفضل كالوتر, ولأنه أكثر عملا إذا تقرر ذلك فنية العدد لا تجب فيجوز على كل من الجواز والمنع نية سنة الظهر القبلية أو البعدية من غير تعيين ثم على الأول المعتمد يتخير بين أن يقتصر على ركعتين ويسلم, وأن يصلي الأربع بتسليمة وعلى الثاني يلزمه الاقتصار على ركعتين, ولا تجوز له الزيادة عليهما. هذا كله إذا لم يعين عددا, وأما إذا عين عددا كركعتين من إحدى الرواتب فلا يجوز له الزيادة على ما عينه بوجه؛ لأن ذاك إنما هو في النفل المطلق, والفرق بينه وبين غيره أن الشارع لما لم يجعل له عددا وفوضه إلى خيرة المتعبد كان أمره أخف من غيره فجاز لمن نوى منه عددا أن يزيد عليه, وأن ينقص عنه بشرط تعيين النية قبل الزيادة والنقص. وأما غير النفل المطلق من الرواتب وغيرها فمتى نوى عددا منه لا يجوز نقصه, ولا الزيادة عليه, وما نقل في السؤال عن ابن العراقي كلام إجمالي يصح تنزيله على وجه صحيح, وإن كان المتبادر منه غير صحيح, وذلك لأنه إن أراد بقوله: إذا أحرم بركعتين أنهما من الراتبة صح قوله: لا يتأدى به السنة الراتبة أي بل فيه تفصيل, وهو أنه إن زاد عليهما جاهلا وقع له جميع ما أتى به نفلا مطلقا, ولم يحسب له عن الراتبة. وإن زاد عالما بعدم جواز الزيادة بطل جميع ما أتى به ولم يأت بشيء من الراتبة, وإن أراد أنه أحرم بركعتين من النافلة المطلقة صح كلامه أيضا بحمله على أن مراده أنه يجوز له زيادة ركعتين على الركعتين المنويتين, ولا يقع له ذلك عن السنة الراتبة, وإن كان على صورتها وقوله: وما قبل أي الزيادة والنقصان ذلك كلام غير ملتئم, وقوله: فيفهم منه أي من قول الشيخ أجزأته نية فعل الصلاة, وما ذكر أنه يفهم من كلام الشيخ هذا اشتراط التعيين, ومنع الإجمال كلام صحيح؛ لأن الشيخ لما اكتفى في النافلة المطلقة بنية فعل الصلاة من غير زائد على ذلك أفهم أن الراتبة ونحوها لا بد فيهما من التعيين, وأخذ هذا الحكم من هذه العبارة غير محتاج إليه فإنه مذكور حتى في المختصرات فاستنباطه مما ذكر قصور أي قصور على أنه غير مناسب لما مهده قبله بقوله الذي يتبين إلخ. وإذا أخر الراتبة المتقدمة إلى ما بعد الفرض لم يجز أن يجمع بينها وبين المتأخرة في نية واحدة اتفاقا كما هو ظاهر أما عند المانعين لجمع الأربع فواضح, وأما عند المجوزين له فالفرق بين الصورتين أن النية ثم واحدة فأمكن الجمع, وأما النية هنا فمختلفة؛ إذ لا بد في هذه الصورة أن يعين في نية سنة الظهر المتقدمة والمتأخرة اتفاقا, وإذا اشترط تعيين كل استحال الجمع؛ إذ من البين إلغاء قوله: أصلي ثمان ركعات سنة الظهر المتقدمة والمتأخرة؛ لأن هذا لو جاز لكانت الثمانية بجميع. أجزائها واقعة عن القبلية على حدتها وعن البعدية على حدتها, وهذا مبطل لأنه يلزم عليه أداء القبلية بثمان والبعدية بثمان, وهو تلاعب.
"وسئل" نفع الله به عما إذا دخل شخص المسجد بقصد الطواف وقلتم بسقوط التحية

 

ج / 1 ص -276-        عنه فصلى ركعتين بنية التحية هل تنعقد أم لا لأنها صلاة لا سبب لها؟ "فأجاب" أدام الله وجوده بقوله: تنعقد بلا ريب ودعوى أنه لا سبب لها ليست في محلها بل سببها باق كما صرح به الأصحاب وعبارة القاضي أبي الطيب وغيره إنما لم يبدأ بها ثم بالطواف؛ لأن القصد بدخول المسجد البيت؛ وتحيته إنما هي الطواف فبدئ به؛ لأن التحية تندرج في ركعتيه فالبداءة به لا تفوتها بخلاف عكسه قال الإسنوي وغيره: ومقتضى ذلك أنه لو أخر ركعتي الطواف بأن خرج من المسجد بلا صلاة بعد الطواف قبل الجلوس فقد فوت التحية أي تحية المسجد كما لو جلس فيه بعد الطواف بلا صلاة, ومقتضى ذلك أنه لو دخل الكعبة لا تسن له التحية إلا أن يقال: الطواف تحية رؤيتها فيسن له تحية دخولها ركعتان وهو متجه, وقول جمع: الطواف تحية المسجد الحرام دون البيت مردود بتصريح كثيرين بخلافه ا هـ واعترضه الزركشي فقال: قوله الطواف تحية الرؤية عجيب. وإنما هو تحية البيت ولا تسن التحية عند دخول البيت فيما ذكر؛ لأن المساجد المتصلة لها حكم الواحد, وقد صلى عن الأول فلا يصلي للثاني ا هـ ورد ما قاله أولا بأنه لا عجب فيه؛ إذ العبارتان بمعنى واحد وما قاله ثانيا بقوله نفسه في خادمه القياس أنه مخاطب بالطواف أولا تحية للبيت وهو مع المسجد تختلف أحكامهما وهما كمسجدين؛ ولهذا فضلت النافلة داخله عليها في المسجد خارجه ا هـ فكونهما كمسجدين مؤيد لما قاله الإسنوي ومانع لقياس الزركشي له على بقية المساجد المتلاصقة, والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب.
"وسئل" أدام الله النفع بعلومه عن قوله:
{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] عند ترك السجود لآية السجدة لحدث أو عجز عن السجود كما جرت به العادة عندنا هل يقوم الإتيان بها مقام السجود كما قالوا بذلك في داخل المسجد بغير وضوء أنه يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنها تعدل ركعتين كما نقله الشيخ زكريا رحمه الله في شرح الروض عن الإحياء وكذلك قوله في سجوده سجوده سجد وجهي الفاني لوجهك الباقي هل لذلك سند معتبر أو يقال لا بأس به للمناسبة؟ "فأجاب" بقوله إن ذلك لا أصل له. فلا يقوم مقام السجدة بل يكره له ذلك إن قصد القراءة ولا يتمسك بما في الإحياء أما أولا فلأنه لم يرد فيه شيء, وإنما قال الغزالي: إنه يقال: إن ذلك يعدل ركعتين في الفضل, وقال غيره: إن ذلك روي عن بعض السلف, ومثل هذا لا حجة فيه بفرض صحته فكيف مع عدم صحته. وأما ثانيا فمثل ذلك لو صح عنه صلى الله عليه وسلم لم يكن للقياس فيه مساغ؛ لأن قيام لفظ مفضول مقام فعل فاضل محض فضل فإذا صح في صورة لم يجز قياس غيرها عليها في ذلك, وأما ثالثا فتلك الألفاظ التي ذكروها في التحية سبحان الله والحمد لله..إلخ فيها فضائل وخصوصيات لا توجد في غيرها منها أنها صلاة الحيوانات والجمادات ومنها أنها المرادة من قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الاسراء: 44] ومنها أنها الكلمات الطيبات والباقيات الصالحات ومنها أنها.

 

ج / 1 ص -277-        القرض الحسن في قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:11] ومنها أنها الذكر الكثير في قوله تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب: 41]: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] وما اعتيد من قول العامة في السجود سجد وجهي الفاني لوجهك الباقي لا أصل له فيما أعلم فيتأكد تركه.
"وسئل" نفع الله به هل صح أو ورد أنه صلى الله عليه وسلم صلى التراويح عشرين ركعة؟ "فأجاب" بقوله: لم يصح ذلك بل الأمر بقيام رمضان والترغيب فيه من غير ذكر عدد, وصلاته صلى الله عليه وسلم بهم صلاة لم يذكر عددها ليالي ثم تأخر في رابع ليلة خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها, وأما ما ورد من طرق أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر. وفي رواية زيادة "في غير جماعة" فهو شديد الضعف اشتد كلام الأئمة في أحد رواته تجريحا وذما ومنه أنه يروى في الموضوعات كحديث ما هلكت أمة إلا في إدار ولا تقوم الساعة إلا في إدار وأن حديثه هذا الذي في التراويح من جملة مناكيره. وقد صرح السبكي بأن شرط العمل بالحديث الضعيف أن لا يشتد ضعفه قال الذهبي ومن يكذبه مثل شعبة فلا يلتفت إلى حديثه ومما يرده ما صح عن عائشة رضي الله عنها لم يزد صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة, وعن عمر رضي الله عنه نعمت البدعة أي التراويح. فهو صريح في حدوثها بعده صلى الله عليه وسلم وبه صرح الشافعي رضي الله عنه وتبعوه لكنها بدعة حسنة, نعم روى ابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم ثمان ركعات ثم أوتر ثم انتظروه في القابلة فلم يخرج إليهم.
"وسئل" رضي الله عنه عمن نسي قراءة سبح و
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] في الوتر فهل يقرؤه إذا تذكر ذلك في الثالثة فيما إذا أوتر بثلاث ركعات أو لا؟ "فأجاب" بقوله إن وصلها فالقياس أنه يتدارك ذلك في الثالثة. نظير ما لو ترك سورتي أوليي المغرب فإن القياس كما بينته في شرح العباب أنه يتداركهما في ثالثتها, وأما إذا فصلها فالظاهر أنه لا يتدارك, ويفرق بأن الأولى صارت الثلاثة فيها صلاة واحدة فلحق بعضها نقص بعض فشرع فيها التدارك جبرا لذلك البعض بخلاف الثانية فإن الثالثة بالفصل صارت كأجنبية عن الأوليين فلم يشرع تدارك فيها.
"وسئل" نفع الله به بما لفظه ما ملخص ما للناس في صلاة التراويح؟ "فأجاب" بقوله قد جمع التقي السبكي في ذلك تأليفا نافعا سماه إشراق المصابيح في صلاة التراويح. فانظروه ولم يمنعني من تلخيصه إلا ضيق الوقت وكثرة الاشتغال والله سبحانه الموفق.
"وسئل" نفع الله به بما لفظه أنكر بعضهم صلاة الضحى محتجا بخبر البخاري عن عائشة رضي الله عنها ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسبح سبحة الضحى وإني لأسبحها وبخبر مسلم أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى قالت لا إلا أن يجيء من مغيبه فالقصد الجواب عن ذلك مقدمين

 

ج / 1 ص -278-        عليه الأحاديث المثبتة لها؟ "فأجاب" بقوله مما يثبتها حديث الشيخين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى غير أم هانئ. فإنها قالت: إنه صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة واغتسل وصلى ثمان ركعات فلم أر صلاة أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود. وفي رواية صحيحة أنه كان يسلم من كل ركعتين وفي رواية أخرى أن نزوله صلى الله عليه وسلم كان بأعلى مكة وأنه لما صلى الثمان سألته ما هذه الصلاة قال صلاة الضحى وروى مسلم كان صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء وصح عن أنس رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر صلى سبحة الضحى ثمان ركعات وفي رواية عنه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ست ركعات فما تركهن بعد ذلك وفي أخرى سندها حسن عن جبير بن مطعم. رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى وفي أخرى عند ابن أبي شيبة عن حذيفة خرج صلى الله عليه وسلم إلى حرة بني معاوية وتبعت أثره فصلى الضحى ثمان ركعات طول فيهن ثم انصرف وفي أخرى للدارقطني عن أبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ببقيع الزبير ثمان ركعات وقال إنها صلاة رغب ورهب وفي أخرى لأحمد عن عتبان بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم صلى سبحة الضحى فقاموا وراءه فصلوا وفي أخرى للبزار وابن عدي والبيهقي عن عبد الله بن أبي أوفى أنه صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ركعتين يوم بشر برأس أبي جهل وبالفتح وفي أخرى لأحمد والطبراني عن عائذ بن عمر وكان في النافلة فتوضأ صلى الله عليه وسلم ثم صلى بنا الضحى وفي أخرى سندها ضعيف عن أبي هريرة كان صلى الله عليه وسلم لا يترك صلاة الضحى في سفر ولا غيره وفي أخرى رجالها ثقات عن علي كرم الله وجهه كان صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى وفي أخرى عنه. رواها جمع كانت الشمس إذا ارتفعت قيد رمح أو رمحين صلى ركعتين ثم أمهل حتى ارتفع الضحى صلى أربع ركعات وفي أخرى لابن منده وابن شاهين عن قدامة وحنظلة الثقفيين رضي الله عنهما قالا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتفع النهار وذهب كل أحد, وانقلب الناس خرج إلى المسجد فركع ركعتين أو أربعا ثم ينصرف وفي أخرى لابن أبي الدنيا "كتب علي النحر ولم يكتب عليكم, وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها" أي على سبيل الوجوب؛ إذ ورد الأمر بها والترغيب فيها من رواية بضع وعشرين صحابيا من ذلك خبر الترمذي وغيره. "من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا في الجنة من ذهب" وخبر أبي الشيخ "ركعتان من الضحى تعدلان عند الله بحجة وعمرة متقبلتين" وخبر الأصبهاني وغيره "يا أنس صل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين". وخبر الأصبهاني "من صلى الضحى فقرأ فيها بفاتحة الكتاب و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص:1] عشرا وآية الكرسي عشرا استوجب رضوان الله الأكبر" وخبر مسلم وابن أبي شيبة وعبد بن حميد "صلاة الأوابين حين ترمض الفصال" أي تبرك من شدة حر الأرض في أخفافها وذلك إذا مضى ربع النهار ومن ثم كان هذا أفضل أوقاتها عند بعض أصحابنا. وخبر الديلمي "المنافق لا يصلي الضحى ولا يقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وخبر مسلم وغيره على كل سلامى أي مفصل من ابن آدم في كل يوم صدقة ويجزي عن ذلك كله ركعتا الضحى

 

ج / 1 ص -279-        وخبر أحمد ورجاله ثقات بعث سرية فغنموا وأسرعوا الرجعة فتحدث الناس بقرب مغزاهم وكثرة غنيمتهم وقرب رجعتهم فقال صلى الله عليه وسلم "ألا أدلكم على أقرب منهم مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة من توضأ ثم غدا إلى المسجد لسبحة الضحى فهو أقرب منهم مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة" وخبر الطبراني والبيهقي "من صلى الصبح في مسجد جماعة ثم ثبت فيه حتى يصلي الضحى كان له كأجر حاج أو معتمر تام له حجته وعمرته" وفي رواية لابن منيع والبيهقي حرمه الله على النار أن تلقمه أو تطعمه. وخبر البيهقي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي ركعتي الضحى بسورتيهما الشمس وضحاها والضحى وخبر أحمد ورجاله رجال الصحيح قال الله تعالى "ابن آدم لا تعجز من أربع ركعات أول النهار أكفك آخره" وخبر أبي داود وغيره "من قعد في مصلاه حتى ينصرف من صلاة الصبح وحتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرا غفر له خطاياه وإن كانت أكثر من زبد البحر". وخبر جماعة في مسانيدهم "يا أبا ذر أصليت الضحى" قال: لا قال: "قم فصل" الضحى فصلى ثم جاء" وخبر أبي نعيم "صل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار". وخبر الطبراني بسند جيد "من صلى صلاة الغداة في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم قام فصلى ركعتين انقلب بأجر حجة وعمرة" وخبر مسلم عن أبي الدرداء أوصاني حبيبي بثلاث لا أدعهن ما عشت أوصاني بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى وأن لا أنام حتى أوتر وخبر الشيخين عن أبي هريرة بمثل ذلك, وخبر الطبراني بسند حسن "من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين. ومن صلى أربعا كتب مع العابدين ومن صلى ستا كفي ذلك اليوم ومن صلى ثمانيا كتب من القانتين, ومن صلى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتا في الجنة" وخبر الحاكم وصححه "لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب" قال: وهي صلاة الأوابين, وخبر أبي يعلى والطبراني بسند جيد "من صلى الغداة فقعد في مقعده فلم يلغ بشيء من أمر الدنيا, ويذكر الله حتى يصلي الضحى أربع ركعات خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه لا ذنب له". وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن أنه سئل هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون الضحى قال نعم كان منهم من يصلي ركعتين ومنهم من يصلي أربعة منهم من يمد إلى نصف النهار إذا تقرر ذلك فالجواب عن خبر عائشة المذكور في السؤال أن ذلك نفي منها فتقدم عليه الروايات المثبتة لها على أن قولها إلا أن يجيء من مغيبه فيه إثبات منها لها لا يقال: لو فعلها لم يخف على عائشة لأنه لم يكن ملازما لعائشة في جميع أوقاته بل قد يكون. مسافرا أو في المسجد أو عند غيرها من نسائه أو أصحابه فلم يصادف وقت الضحى عندها إلا نادرا, وما رأته صلاها في تلك الأوقات النادرة فقالت: ما رأيته ولا ينافيه أن يبلغها بإخباره أو إخبار غيره أنه صلاها, ولذلك ورد عنها أنه صلاها. ومما يتضح به هذا المقام خبر الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها ويدعها حتى نقول لا يصليها فمن نفى لم

 

ج / 1 ص -280-        يطلع إلا على تلك الأوقات التي كان يتركها فيها وأما ما في صحيح مسلم عن مجاهد قال دخلت المسجد أنا وعروة بن الزبير. فإذا عبد الله بن عمر جالس والناس يصلون الضحى في المسجد فسألناه عن صلاتهم فقال بدعة. فأجاب عنه النووي رحمه الله كعياض بأن مراده أن إظهارها في المسجد والاجتماع لها هو البدعة لا أن أصل صلاتها بدعة ولما ذكر الإمام المجتهد محمد بن جرير ما جاء فيها من الأحاديث والآثار قال ما حاصله: وكل ذلك عندنا صحيح غير متدافع وذلك أن من روى أنه رآه صلى الله عليه وسلم صلى الضحى أربعا يجوز أن يكون رآه في حال فعله ذلك فقط ورآه غيره في حال أخرى صلاها ركعتين ورآه غيره في حالة أخرى صلاها ستا وهكذا أو سمعه واحد يحث على عدد. وآخر على عدد آخر فأخبر كل منهم عما رأى وعما سمع وكذلك من حكى عنه أنه لم يصلها قط إنما هو خبر منه عما عنده من العلم بذلك فلا يدفع قول من علمه يصليها برؤيته ذلك؛ لأن قول القائل: لم يصلها ليس خبرا منه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لم أصلها قط, ولا أصليها, وإنما هو خبر منه عن نفسه بما عنده من العلم في ذلك والدليل على صحة ما قلناه خبر "من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين ومن صلاها أربع" الحديث السابق وفي رواية مرسلة صلى النبي صلى الله عليه وسلم الضحى يوما ركعتين ثم يوما أربعا ثم يوما ستا ثم يوما ثمانيا ثم ترك يوما. فقد أبان ما ذكرناه من هذين الخبرين صحة ما قلناه من احتمال خبر كل مخبر أن يكون إخباره على قدر ما شاهده أو سمعه ا هـ.
"سئل" نفع الله به قال الجلال السيوطي في الأشباه والنظائر إن الإيتار بثلاث ركعات أفضل من الإيتار بخمس أو سبع كما قال فما سبب قلة الفضيلة بزيادة الأعمال وفي الحديث
"فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل, ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل" فهل يدل الحديث على أن الزيادة أفضل أو على أن الكل سواء.
"فأجاب" - نفع الله به - بقوله: ما ذكر من تفضيل الثلاث على الخمس مثلا. ليس بصحيح على إطلاقه وكأن قائله نظر إلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه لا يصح ما زاد على الثلاث لكن يلزم عليه تفضيل الثلاث على الأحد عشر, وليس كذلك باتفاق من يعتد به بل صح قوله صلى الله عليه وسلم
"لا توتروا بثلاث وأوتروا بخمس أو سبع ولا تشبهوا الوتر بصلاة المغرب" وبهذا يعلم ضعف ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة من تعيين الثلاث وكونها موصولة لمخالفته لهذه السنة الصحيحة, ولما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الإيتار بخمس وبسبع وبتسع موصولة ومفصولة وبثلاث, وأخذ السبكي وتبعه الإسنوي والأذرعي والزركشي وسبقه ابن خزيمة من النهي عن الثلاث. أنه يكره الإيتار بثلاث موصولة ولم ينظروا إلى ما ذكره عن أبي حنيفة رضي الله عنه والفصل في كل عدد أفضل من الوصل قال السبكي: وحينئذ فالثلاث الموصولة أدنى مراتب أعداد الوتر في الفضيلة والإحدى عشر المفصولة أعلاها وكل عدد مفصول أفضل منه ومما دونه موصولا ولو تعارضت زيادة العدد والفعل كخمس موصولة مع ثلاث مفصولة فالذي ينبغي

 

ج / 1 ص -281-        النظر إلى زيادة الركعات دون الفصل فترجح الخمس الموصولة وعلى هذا القياس ا هـ وتبعه على ذلك الزركشي وغيره ونقله عن الروياني والقاضي أبي الطيب وعن نصه في القديم. وضعف قول المجموع عن الإمام وأقره وجزم به في التحقيق, والخلاف في التفضيل بين الفصل والوصل إنما هو في الوصل بثلاث أما فيما زاد عليها فالفصل أفضل قطعا ا هـ وأقول الأوجه أن الخمس الموصولة أفضل من حيث زيادة العمل. والثلاث المفصولة أفضل من حيث الفصل الأكثر من أحواله صلى الله عليه وسلم ومع التقابل لا شك أن الزيادة الأولى أكثر ثوابا, ومجرد التفاوت في موافقة الأكثر لا تقتضي أن يعدل زيادة الركعتين بخلاف ما هو موافق للاتباع كصلاة الضحى ثمانيا فإنه أفضل من الأكثر الذي لا يوافقه كصلاتها اثني عشر؛ لأن في زيادة الاتباع ما يربو على زيادة العمل كما صرحوا به, ومن ثم قال ابن عبد السلام قد يكون قليل العمل البدني وخفيفه أفضل من كثيره وثقيله كتفضيل القصر على الإتمام وصلاة الصبح على سائر الصلوات عند من يراها الوسطى, ولو كان الثواب على قدر التعب لما كان الأمر كذلك, ولما فضلت ركعة الوتر على ركعتي الفجر ا هـ. وقال القفال وغيره: لا يصح الإيتار بالثلاث الموصولة من المتعمد العالم, وبه يعلم أنه لا يمكن وتر مجمع عليه؛ لأن أبا حنيفة رضي الله عنه يعين الثلاث الموصولة ويبطل ما عداها من الأقل والأكثر المفصول والموصول ، والقفال وغيره يبطلون ما عينه وبما قررته علم أن ما دل عليه الحديث المذكور في السؤال من تساوي الكل في الفضل غير مراد. وإنما المراد التساوي في الجواز, وعليه محمل الحديث بل هو مدلوله كما لا يخفى فتأمله.

باب سجود التلاوة
"وسئل" رضي الله عنه عما لو تعدد قراءة آية السجدة أو سماعها هل المشروع حينئذ سجدة أو سجدتان من القارئ وغيره أو لا ففي شرح الروض للشيخ زكريا والخادم كلام في ذلك تفضلوا ببيان المعتمد في كل ما ذكر؟ "فأجاب" بقوله نفع الله بعلومه وفسح في مدته: أما الجواب عن هذه المسألة مع تحرير ما في شرح الروض والخادم فوجدتني ذكرت في شرح مختصر الروض حاصل ذلك, وعبارة متنه وشرحه في ذلك ويتكرر السجود بسماع آية وقراءتها فيما يظهر لتعدد السبب ثم رأيته في الخادم اعتمد ذلك, وكذا بقراءة أخرى وبتكرر قراءة آية. ولو كان تكريرها بصلاة في ركعة أو أكثر سواء أقرب الفصل, أو طال اتحد المكان أو اختلف خلافا لما في البيان والمجموع لتجدد السبب بعد توفية حكم الأول, ويحتمل أن يفرق بين من يكررها للحفظ فيكفيه مرة لئلا ينقطع عن قراءته وحفظه ومن يكررها للتدبر والإيمان فيعيده ا هـ وهو قريب لكن كلامهم يخالفه فلا فرق وينبغي أن لا يسجد الإمام في الركعة الواحدة إلا مرة ولا سيما عند كثرة الجمع والحوائل بينهم وبينه

 

ج / 1 ص -282-        لما فيه من التشويش والتطويل والابتداع ويجب الجزم بأنه لا يجوز له ذلك في السرية ا هـ. وواضح مما يأتي أن محل سن التكرير بل السجود إذا أمن التشويش وإلا لم يسن السجود فأولى التكرير وأما الحرمة فلا وجه لها لأنهم بسبيل من أن يفارقوه وكفى للكل سجدة واحدة قال الشارح أي شيخنا زكريا في شرحه للأصل, وهو الروض: وقضية تعبيرهم بكفاه أنه يجوز تعددها وفيه نظر ا هـ وبمقتضى هذا النظر أخذ بعض شراح الإرشاد فجزم كالولي العراقي بأنه لا يسجد إلا سجدة واحدة, وهذا منهم غفلة عما يأتي من أنه لو طاف أسابيع, ولم يصل عقب كل سنة سن فضلا عن الجواز أن يوالي ركعاتها كما والاها. فكذا يقال بمثله هنا وبهذا يعلم الراجح من قول الزركشي وهل المشروع سجدات وترجع إلى واحدة أو لا تشرع إلا سجدة واحدة فيه احتمالان ا هـ فالراجح الأول ويعني بقوله أنها ترجع إلى واحدة أنه يكتفى منه بها لا أنه لا يسن له غيرها وإلا كان هو الثاني ثم رأيت صاحب الأصل أي ابن المقري مشى على ما رجحته أولا انتهت عبارة المتن والشرح المذكورين, وبها يعلم الجواب عن قول السائل وفقه الله - تعالى - هل المشروع..إلخ والله الموفق للصواب.
"وسئل" فسح الله في مدته بما لفظه سجد إمامه الحنفي للشكر في الصلاة فهل إذا لم يتابعه يسجد للسهو؟ "فأجاب" بقوله لا يسجد للسهو لانتظاره لأنه فعل صدر منه وقد نزل منزلة السهو فيحمله إمامه بل يسجد لسجود إمامه لأنه بمنزلة السهو إذا كان القياس وجوب المفارقة على المأموم؛ لأن العبرة بعقيدته لكن لما كان السجود من جنس الصلاة سومح فيه فنزل منزلة السهو, والإمام لم يسجد له فيسجد له المأموم بعد سلام الإمام, ويدل لما قلته من القياس المذكور ومخالفته قولهم: لو نوى مسافران شافعي وحنفي إقامة أربعة أيام بموضع انقطع بوصولها سفر الشافعي فقط وجاز له مع أنه يكره الاقتداء بالحنفي مع اعتقاده بطلان صلاته لقصره في الحضر. وأجيب بأن كلامهم في اعتبار اعتقاد المأموم إذا ترك الإمام واجبا في ترك واجب لا يجوزه الشافعي مطلقا بخلافه فيما ذكرناه. فإنه يجوز القصر والسجود في الجملة ويدل لذلك أيضا قولهم لا يضر اعتقاد المخالف حيث أتى بصورة الواجب كونه نفلا بخلاف الإمام الموافق لعلم المأموم ببطلانها عندهما.
"وسئل" نفع الله بعلومه عمن سجد إمامه سجود التلاوة وهو ناس فذكر بعد ما رفع الإمام هل يلزمه أن يهوي إلى المحل الذي الإمام فيه أم لا؟. "فأجاب" نفع الله به بقوله: لا يلزمه هوي أصلا؛ لأن الهوي غير مقصود لنفسه وإنما هو تابع للسجود فحيث سقط عنه السجود سقط عن تابعه.