الفتاوى الكبرى الفقهية على مذهب الإمام الشافعي

أبواب: الهبة - اللقطة - الجعالة

ج / 3 ص -362-        باب الهبة
وسئل: رضي الله تعالى عنه عن شخص له دار ملكها لولده القاصر أو البالغ السفيه المشمول بحجره مثلا وقبل له ذلك من نفسه لنفسه وأذن له في تسلمها من نفسه لنفسه مثلا فتسلمها له وحازها له وهو ساكن هو وإياه فيها إلى حين وفاة الوالد مثلا فهل يملكها الولد بمقتضى ذلك ويرجع الولد على تركة والده بأجرة المثل مدة سكناه فيها إلى حين وفاته. وهل يكون الحكم كذلك إذا ملكها لأجنبي وقبل منه وأذن له في تسلمها وحوزها ثم حازها وتسلمها، لكن هو وإياه ساكنان إلى حين وفاة المتملك أوضحوا لنا ذلك؟.
فأجاب بقوله: إذا وهب داره لولده المشمول بحجره ومضى زمن يمكن فيه القبض وقصد القبض عنه أو أقبض من نفسه لنفسه، ملك الولد الدار وله على الأب أجرة سكناه لها بعد القبض عنه، ولا يعتد بقبض المحجور عليه حتى يأذن له والده فيه، ولا بد في القبض من خلوها من أمتعة غير الموهوب له، فمتى كانت مشغولة بأمتعة غيره لم يصح من الأب قبض ولا إقباض لها. وكذا الموهوبة لأجنبي لا يصح منه قبضها وإن أذن له فيه الواهب حيث كانت مشغولة بأمتعة الواهب أو بأمتعة أجنبي آخر غير الموهوب له، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: عن قول القفال في فتاويه: لو جهز ابنته بأمتعة لم تملكها إلا بلفظ مع القبض ويصدق بيمينه أنه لم يملكها لها إلا ادعته ا هـ. فإذا ماتت البنت وادعى الزوج أن له في الأمتعة الميراث وقال الأب: بل هي لي لأني لم أهب ولم أعط بنتي الأمتعة إلا تجهيزا فما يكون الحكم في ذلك. وفي فتاوى القاضي حسين: أنه لو نقل ابنته وجهزها إلى دار الزوج فإن قال: هذا جهاز ابنتي فهو ملك لها، وإن لم يقل فهو إعارة ويصدق بيمينه ا هـ. فهل يصدق أيضا بيمينه بعد موت البنت إذا طلب الزوج الميراث. أم لا يصدق على ذلك. ا هـ. وقول الخوارزمي في الكافي: أنه لو اشترى حليا أو ديباجا وزين به ولده الصغير، يكون ملكا له وحكاه القمولي عن القفال وقرره ا هـ. فهل معناه أنه يكون ملكا للأب أم يكون للولد. ابسطوا لنا الجواب؟. فأجاب بقوله: ما أفتى به القفال صحيح وذلك لأن الهبة لا بد فيها من الإيجاب والقبول والقبض بالإقباض أو الإذن فيه، سواء في ذلك الهبة من الأب أو غيره على الأصح لكن الأب والجد يتوليان طرفي الإيجاب والقبول والقبض والإقباض بخلاف غيرهما فإذا وهب للصغير أو نحوه ولي غيرهما قبل له الحاكم، وإنما صدق الأب بيمينه في أنه لم

 

ج / 3 ص -363-        يملكه لها إذا ادعته؛ لأن الأصل بقاء الجهاز على ملكه حتى يعلم ناقل له عن ملكه إلى ملكها، فإذا لم يعلم حكم ببقاء ملكه وصدق في ذلك دونها، وإذا صدق بالنسبة إليها لزم تصديقه بالنسبة إلى زوجها بالأولى، فإذا ماتت وادعى الزوج أن له في تلك الأمتعة الربع أو النصف وأنكر الأب كونها ملكا لها صدق بيمينه، ولم يثبت للزوج حق في تلك الأمتعة إن وافق الأب على أنها كانت له وادعى أنه وهبها لبنته، وكذا إذا أقام الأب بينة على أنها له قبل أن يجهز بها بنته، أما إذا أنكر الزوج كونها ملكا للأب قبل التجهيز ولا بينة للأب صدق الزوج بيمينه، فإذا حلف كانت تركة عنها وورثها عنها الزوج وغيره، ثم ما أفتى به القفال لا ينافيه ما ذكر في السؤال عن القاضي، بل هو موافق له؛ لأن القاضي لم يجعل نقله الجهاز معها إلى دار الزوج مقتضيا لملكها، وإنما جعل المقتضي لذلك إقراره بقوله: هذا جهاز بنتي فتملكه حينئذ بذلك؛ لأنه إقرار لها بالملك. وأما مجرد نقله الأمتعة إلى بيت زوجها بنفسه أو بوكيله فلا عبرة به، بل هو باق على ملكه، فإذا ادعته هي أو زوجها بعد موتها وادعى الأب أنه باق على ملكه، ولم يثبت قوله: هذا جهازها أو ملكها أو لها صدق بيمينه كما في كلام القفال، فما قاله القاضي موافق لما قاله القفال، أما ما ذكره السائل عن الكافي فصاحب الكافي لم يقله من عند نفسه، وإنما نقله عن القفال وعبارته عنه: لو اشترى حليا أو ديباجا لزوجته وزينها به، لا يصير ملكا لها، وفي الولد الصغير يكون تمليكا له انتهت، وبما تقرر عن القفال يعلم رد نقل هذا عنه، فإن صح عنه فهو إما اختيار له خارج عن المذهب وإما مرجوع عنه وذلك؛ لأن الذي صح عنه ما سبق وهو صريح في أنه لا يكتفى بالفعل، بل من اللفظ في هبة الوالد وغيره، ومما يضعفه قول الشيخين في الروضة وأصلها: لو غرس شجرا وقال عند غرسه: أغرسه لطفلي لم يملكه الطفل بذلك فإن قال: جعلته له واكتفينا بأحد الشقين من الولد أي وهو القول الضعيف ملكه؛ لأن هبته له على هذا القول لا تقتضي قبولا، وإن لم يكتف بأحد الشقين من الولد، وهو الأصح لم يصر ملكه بذلك. هذا حاصل عبارتهما وهو صريح في رد كلام القفال هذا الأخير، وأن مجرد تزيين الأب لولده الصغير لا يقتضي تمليكه باتفاق الأصح ومقابله المذكورين ومن ثم ضعف كلام القفال هذا جماعة من المتأخرين منهم السبكي والأذرعي والأزرقي اليمني وغيرهم، وسكوت آخرين عليه إنما هو للعلم بضعفه مما قدموه قبله، فلا حجة فيه خلافا لما يوهمه كلام السائل، ومما تقرر من عبارة القفال التي نقلها عنه في الكافي يعلم رد قول السائل، فهل معناه أنه يكون ملكا للأب أو يكون للولد. ووجه رده أن عبارة الكافي المذكورة صريحة واضحة في أن مراده أنه يصير ملكا للولد، لكن قد تقرر أنه ضعيف بل شاذ لا يعول عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: رضي الله تعالى عنه هل يحل للرجل أن يهب بعض أولاده عينا دون الآخرين؟. فأجاب بقوله: يكره للأب والجد وإن علا كراهة تنزيه لا تحريم خلافا لابن حبان من أصحابنا، وإن أطال في الاستدلال له في صحيحه أن يهب لأحد من أولاده وإن سفلوا

 

ج / 3 ص -364-        أكثر مما يهب لغيره سواء في ذلك الذكر والأنثى والقريب والبعيد كالابن وابن الابن أو ابن البنت، كما شمله إطلاقهم، وإن قال الأذرعي: لم أر فيه شيئا والمتبادر عدم الكراهة ا هـ.، وذلك للنهي عن ذلك في خبر الصحيحين ولأنه يفضي إلى العقوق. وبحث ابن الرفعة أن محل كراهة ذلك إن استوت حاجاتهم بخلاف ما إذا اختلفت لانتفاء المحذور السابق حينئذ قاله ابن الرفعة وغيره، وإذا ارتكب التفضيل المكروه فالأولى أن يعطي الآخرين ما يحصل به العدل، فإن لم يفعل سن له على ما حكاه في البحر أن يرجع أي في الكل عند التخصيص وفي الزائد فقط عند التفضيل، قاله الأذرعي ولا كراهة في التخصيص ولا يستحب الرجوع حيث رضي المحروم بذلك لدينه أو لغناه، أو علم منه ذلك بصريح قوله وثقته به، أو أذن ابتداء في الهبة لأخيه دونه، أو التمس هو له ذلك. أما الرجوع عند العدل بينهم في هبة الجميع أو في هبة بعضهم فمكروه إلا إن احتاج إليه لدين أو نفقة عيال قاله الأذرعي وإلا لمصلحة كأن يكونوا عققة أو يستعينوا بما أعطاه لهم في معصية وأصروا عليها بعد إنذاره لهم بالرجوع، فلا يكره كذا ذكره الشيخان وقال الأسنوي: بل القياس استحباب الرجوع في الثانية إن لم يكن واجبا وبحث في العاق أن الرجوع إن زاده عقوقا كره أو أزال عقوقه استحب، وإن لم يفد شيئا فيهما أبيح، قال: ويحتمل استحباب عدمه وقوله: إن لم يكن واجبا وافقه فيه الأذرعي فقال: الذي يظهر أنه إذا علم أنه يستعين به في معصية، وتعين الرجوع طريقا في كفه أو انكفافه عنها أنه يجب الرجوع حينئذ فتأمله. تجده حقا إن شاء الله سبحانه وتعالى ا هـ. وبحث أيضا تحريم الهبة لمن يعلم منه أنه يصرف ذلك في المعاصي لما فيه من الإعانة عليها، ويسن للولد العدل في هبته لوالديه فإن أراد تفضيل أحدهما فالأم أولى قاله الزركشي، وقضية كلامهم: أن نحو الإخوة لا يجري فيهم هذا الحكم قال ابن الرفعة: ويحتمل طرده للإيحاش وقد يفرق بأن المحذور في الأولاد عدم البر وهو واجب قال: ولا شك أن التسوية بينهم مطلوبة لكن دون طلبها في الأولاد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عن قول الإمام الغزالي في الإحياء: لو طلب من إنسان أن يهبه مالا في ملأ من الناس مثلا فاستحى منهم أن لا يعطيه وكان يود أن يكون في خلوة فلا يعطيه، فوهب له لم يحل له ذلك كالمصادر، وكذا كل من وهب له اتقاء شره أو شر سعايته ا هـ. وإذا كان شخص في بلادنا ببجيلة حضر بعض أسواقهم وجلس في ناحية من السوق واجتمع عليه خلق كثير وقال لهم: أطلب من فضل الله سبحانه وتعالى ثم من كل رجل منكم يعطني محلقا مثلا ثم قال لهم: والفقير منكم والمحجور عليه لا أطلب منه شيئا فأجابوه وسلموا إليه ذلك بانشراح صدر وبشاشة وجه فيما يظهر من غير إلحاح من السائل ولا تذلل ولا إظهار فاقة ولا إيذاء لمسئول، فهل يكون كمسألة الغزالي المذكورة أم لا لما ذكرناه قريبا، ولكونه لم يقصد واحدا منهم بعينه، ولكون السائل يتحقق ويتيقن أنه لو طلب من كل واحد منهم في خلوة لأعطاه ذلك القدر وأكثر منه. فأجاب بقوله: الجواب عن هذه المسألة

 

ج / 3 ص -365-        حاصله أن المدار في ذلك على القرائن المحتفة بالأخذ أو بالسؤال أو بالإعطاء، والموفق لا يخفى عليه تلك المخايل والقرائن، فمتى ظهر له من حال المعطي قرائن تدل على أن الحامل له على إعطائه له ما سأله فيه، بل وما لم يسأله مجرد الحياء امتنع عليه أخذ ذلك؛ لأن نفس مالكه لم تسمح به عن طيب نفس وانشراح. وإنما الحامل له عليه خوفه من ألسنة الناس ومن ثم ألحق الغزالي بذلك هدية القادم إذا علم أو ظن من حاله أن الحامل له على تفرقتها على أصدقائه وجيرانه خوف ألسنتهم ومذمتهم فهذا ممنوع من قبوله أيضا؛ لأن مالكه لم يسمح به كما مر، وأما إذا دلت القرائن على طيب نفسه بذلك بأن ظهر عليه أمارة الرضا بذلك وظن من حاله أنه لو كان بمحل خلوة وسئل: أعطى جاز قبول ما أعطاه، وكلام الغزالي رحمه الله تعالى قاض بهذا التفصيل الذي ذكرته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عن شخص ملك شخصا عقارا نحو أرض وقبل منه في المجلس وأذن المالك في تسليمه بالكلية واعترف المملك له بالتسليم والجواز قبل التمليك مثلا فهل يكفي اعترافه بذلك والحال أن المال في بلدة غير بلدة التمليك، وهل له التصرف فيه بمقتضى ذلك أو لا بد من التسليم والحوز بعد التمليك والإذن وبعد مضي زمن يصل إليه. وهل يشترط وصوله إليه بنفسه أو بوكيله أو يكفي مضي زمن يصل إليه وإن لم يصل إليه بنفسه أو بوكيله. وهل يكون حكم البيع والرهن في التسليم كذلك كما ذكر. وإذا رجع المملك قبل مضي الزمن الذي يصل إليه وقبل الحوز هل يصح رجوعه ويملكه مالكه الأول ويتصرف فيه، ولا اعتبار بما وقع بينهما من الإيجاب والقبول. أم لا. وما صورة الحوز. إذا كان أرضا بيضاء أو دارا أو نخلا مثلا هل يكفي الوقوف عليه بنفسه أو بوكيله. أو لا بد من التصرف في الأرض بالحرث والزرع. والدار بالسكنى والإسكان. والنخل بالتصرف. وما قولكم رضي الله تعالى عنكم أيضا إذا ملكه وأخلي له ذلك ثم إن المملك أباحه للمالك الأول مدة قبل التسليم والحوز، فهل تصح هذه الإباحة قبل التسليم أو لا بد من التسليم والحوز ثم الإباحة. أوضحوا لنا ذلك؟. فأجاب بقوله: إذا وهب الإنسان أو رهن أو بيع له ما تحت يده لم يحصل القبض إلا بإذن نحو الواهب ومضي زمن بعد الإذن يمكن فيه السير إلى ذلك والتخلية من متاع غيره في غير المنقول، والنقل في المنقول، فعلم أنه لا يجوز للمتهب التصرف في الموهوب له الغائب عن بلده إلا بعد الإذن ومضي تلك المدة، ومجرد اعترافه المذكور في السؤال لا عبرة به وللواهب الرجوع قبل الإذن، وكذا بعده وقبل مضي تلك المدة وأنه لا يشترط وصول المتهب إليه بنفسه ولا بوكيله، وأن القبض في نحو الأرض والدار والنخل بالتخلية والتفريغ من أمتعة غير المتهب، وإن لم يتصرف فيه، وأنه لا تصح إباحة المتهب ما وهب له للواهب قبل قبضه حسا في الحاضر وتقديرا في الغائب كما ذكر. ولا ينافي ذلك قولهم لو ملك شيئا ولم يقبضه فأباحه صح؛ لأن هذا فيما ملك بنحو بيع فكانت الإباحة فيه متضمنة للقبض، وأما الهبة قبل القبض فإنها لا تقتضي الملك أصلا، فلم

 

ج / 3 ص -366-        يمكن القول بصحة الإباحة؛ لأنها إنما تكون في مملوك ونحوه ولا ملك هنا ولا استحقاق قبل القبض بوجه، وقبض الحصة الشائعة في نحو الهبة بقبض الجميع، ولا يشترط إذن الشريك في غير المنقول، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عمن ملك شخصا حصة مشاعة من دور مشتركة مستأجرة مدة طويلة وهي مشغولة بأمتعة المستأجرين وأذن لها في تسلمها مثلا فهل تصح الهبة ويتوقف القبض على إذن الشريك فإن امتنع أجبره عليه الحاكم؟. فأجاب بقوله: التمليك المذكور صحيح ويصح قبضه إذا خليت الدور المذكورة من أمتعة غير المتهب، ولا يتوقف ذلك على إذن الشريك نعم إن امتنع ذوو الأمتعة من نقلها أمر القاضي من ينقلها حتى يصح، وأجرة ذلك على المتهب هذا هو قياس كلامهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: نفع الله سبحانه وتعالى به عمن سلم لزوجته حليا قبل وطئها ثم اختلفا فادعت ملكه وادعى بقاءه على ملكه، وما يرسل به أبو الزوجة يوم ثامن التزويج إلى بيت بنته من مطعوم وملبوس وحيوان يبقى ويتولد، هل تملكه البنت أو زوجها وما حكم النقوط؟. فأجاب بقوله: العبرة في ذلك بنية الدافع فإن نوى في الأول أنه دفعه لها عما لها عليه سقط مما لها عليه من جنسه بقدره، فإن كان من غير جنسه رجع عليها به وطالبته بما لها عليه، إذ لا بد حينئذ من شروط الاستبدال، ولم توجد فإن نوى القرض ملكته ملك قرض ورجع عليها ببدله أو الهدية أو الهبة ملكته بشرط الإقباض أو الإذن فيه، وكذا حكم ما يرسل به أبوها لبيتها، فإن نواها أو الزوج عمل به، وإلا رجع إليه. والنقوط أفتى الأزرقي والنجم البالسي بأنه قرض فيرجع به دافعه، وخالفهما البلقيني والعادة الغالبة قاضية بأن أحدا لا يعطي شيئا منه إلا بقصد أن يدفع إليه مثله إذا عمل نظير ذلك الفرح، وقاعدة أن العادة محكمة تؤيد الأول، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: رضي الله تعالى عنه عما إذا أرسل إنسان إلى بلد معينة مالا ليتصدق به في تلك البلدة وعين من ذلك لقاضيها مقدارا معينا مثلا وكان متولي قضاها في زمن الإرسال والتعيين شخصا معلوما ولم يزل متوليا بها إلى أن وصل المال المذكور مثلا ووضع في حاصل مختوم عليه بختم القاضي المذكور مثلا واستمر مدة على ذلك ثم ورد إلى تلك البلدة عزل القاضي المذكور وولاية غيره قبل قبض القاضي الأول للقدر المذكور من المال المذكور، مع إمكان ذلك قبل ورود العزل المذكور، ومع اطراد العادة في تلك البلدة بأنه مهما عين لذوي الولايات الشرعية من الصدقات التي هي غير مستمرة ومرتبة الواردة إلى تلك البلدة يصرف ذلك لمن كان متوليا يباشر تلك الوظيفة في زمن وصول تلك الصدقة. وأما المرتبات فكل إنسان يأخذ منها بقدر زمن مباشرته لتلك الوظيفة سواء وصلت في زمن ولايته أو بعد ذلك، فهل المستحق الآن لقبض القدر المعين المذكور القاضي الأول أم القاضي الثاني. أو لا هذا

 

ج / 3 ص -367-        ولا هذا. وإذا كان القاضي الثاني قد ولاه القضاء ولي الأمر من بلاد بعيدة عن البلدة المذكورة في زمن هو قبل زمن وصول مال الصدقة إلى البلدة المذكورة، لكنه لم يصل خبر ولايته إليها ولم يبلغ القاضي الأول ذلك إلا بعد وصول المال المذكور بمدة كما تقدم ذكر ذلك فهل وقوع ذلك، والحالة هذه مانع لاستحقاق القاضي الأول للقدر المعين المذكور اعتبارا بتقديم زمن ولاية القاضي الثاني في البلاد البعيدة. أو وقوع ذلك ليس بمانع لاستحقاق القاضي الأول لذلك اعتبارا بمباشرته ونفوذ قضائه في ذلك الزمن لعدم بلوغه خبر العزل المذكور؟. فأجاب بقوله: يحتمل أن يقال: باستحقاق المعزول لأمور منها في المطلب وغيره ولو جعل الواقف التولية للأفضل أو الأرشد من ابنيه واستقرت على واحد ثم حدث فيهم أفضل منه، لم تنتقل إليه وهذا يشهد لاستحقاق المعزول؛ لأنهم كما نظروا للمتصف بالأفضلية حال جعل الواقف ولم ينظروا إلى صيرورته مفضولا، كذلك ينظر حال قول المتصدق للمتصف بالقضاء. وإن صار بعد ذلك غير متصف به، ومما يدل له أيضا قول الشيخين وغيرهما: لو أوصى لمواليه أو وقف عليهم لم يدخل من يعتق بموته كالمستولدة والمدبر، وعللوه بأنهما ليسا من الموالي حال الوصية، فكذا يعلل بنظيره في مسألتنا فيقال: الثاني ليس بقاض حال قول المتصدق فإن قلت: صرحوا بأنه لو وقف على أولاده دخل فيهم من يحدث له من الأولاد قلت: الفرق أن الوقف على الأولاد والإخوة ونحوهم وقف على جهة فلم ينظروا فيها للأفراد، فدخل غير الموجود تبعا له وهنا النظر إلى صدق هذا اللفظ حال الوقفية، فمن صدق عليه استحق ومن لا فلا. وسيأتي ما يوضح ذلك من أن لفظ المولى من باب المشترك ولفظ الأولاد من باب المتواطئ ومسألتنا كذلك من باب المشترك لا المتواطئ، والجامع بينهما وبين الوقف والوصية أن كلا لا يستحق إلا بالقبول، أما الوصية والصدقة فواضح، وأما الوقف فعلى المعتمد من اضطراب طويل إن كان الموقوف عليه معينا لا جهة، وكما أن الصدقة متوقفة على القبض كذلك الوصية متوقفة بعد الموت على القبول ولم ينظروا لوجوده حال الموت، بل نظروا لوجوده حال الوصية فكذا ينظر هنا للوصف حال قوله أعطوا. فإن قلت: إنما يتم ذلك إن لو كان المولى حال الوصية يدخل وإن خرج عن كونه مولى حال الموت كان كافرا فحارب واسترق قلت: ذاك متعد فلا يناسبه الإعطاء؛ لأنه أزال الوصف المقتضي لاستحقاقه باختياره ولا كذلك في مسألتنا، ثم رأيت المحقق أبا زرعة قال في باب الهبة مع باب الوصية من واد واحد: وإن كان الأول تمليكا منجزا والآخر معلقا على الموت، لكن جمعهما الموت والشيخ الإمام أبا حسن السبكي أشار كما نقله عنه الأذرعي. وأقره إلى أن الخلاف في قبول الوقف مبني على الخلاف في قبول الصدقة الناجزة، فهذا صريح في أن باب الوصية والوقف والصدقة من واد واحد، وهو المدعى ومما قد يدل لذلك أيضا قول البغوي لو أوصى لطلبة العلم صرف إلى من دخل في طلبه يومئذ ا هـ. فاعتبر يوم الوصية مع أن الملك فيها إنما يحصل بالموت بشرط القبول، ومما يدل له دلالة

 

ج / 3 ص -368-        قوية قولهم لو مات المجاهد بعد انقضاء الحرب وقبل حيازة المال أسهم له وثبت للورثة حق الملك أو التمليك على ما فيه من نزاع مع أن الغنيمة إنما تملك بالحيازة أو اختيار التمليك فنظروا لجريان سبب الملك في حياته، وإن لم يوجد الملك نفسه فيها، ولم ينظروا لموته قبل حصول الملك المقتضي لعدم استحقاقه، فكذلك في مسألتنا جرى سبب الملك في حال ولايته فليستحق إذ طرو عزله بعد ذلك كطرو موت المجاهد. فإن قلت: أي جامع بين المسألتين. قلت: الجامع بينهما واضح وهو أن الاتصاف بكل من الصفتين أعني القضاء وحضور الوقعة وإن لم يقاتل مقتض للاستحقاق، وقد أعطوا المتصف بحضور الوقعة مع زوال أهليته قبل حصول الملك فكذلك يعطى هنا المتصف بالقضاء مع زوال صفته وبقاء أهليته بالمساواة، بل بالأولى ومما يشهد لذلك أيضا قولهم: لو أوصى لحر فرق لم تكن الوصية لسيده بحال، بل متى عتق فهي له فإن مات رقيقا بعد موت الوصي كان الموصى به في أعلى قياس ما ذكروه في مال من استرق بعد نقض أمانه فليتأمل ذلك، فإنه نظير مسألتنا وذلك؛ لأنهم لم يبطلوا الوصية له بطرق رقه، بل نظروا لاتصافه بالحرية المقتضي لاستحقاقه حال الوصية، ولم ينظروا إلى أن طرو الوصف المقتضي لعدم استحقاقه وهو الرق، بل أوقفوا الأمر إلى تأهله للإعطاء، فإن تأهل له بأن عتق أعطي وإلا كان فيئا؛ لأنه لم يكن إعطاؤه لمستحقه لاتصافه بالرق المانع من ذلك إلى الموت. وفي مسألتنا الوصف وإن زال الموصوف به متأهل للإعطاء فليعط على قياس ما ذكروه؛ لأنه كما لم تبطل الوصية بطرو الرق كذلك لا يبطل هنا الاستحقاق بطرو العزل وعدم إعطاء الموصى له لمانع قام به خلى عنه القاضي في مسألتنا، ولباحث أن يبحث ويأخذ من هذا الفرع أن المال المعين هنا للقاضي يوقف فإن اتصف المعزول بالصفة بأن ولي أخذه، وإن مات قبل اتصافه بها كان فيئا ويجاب: بأن سبب الوقف ثم قيام مانع بالموصى إليه لا يمكن الإعطاء معه. وهنا لا مانع فيمكن الإعطاء وإنما كان فيئا ثم لأنه ذمي مات لا عن وارث وله مال استحقه قبل الرق ومما يشهد لذلك أيضا إفتاء ابن الصلاح ونقلوه عنه وأقروه في موقوف على الفقهاء والمتفقهة والمقيمين بدمشق من أهلها والواردين من الشام إليها دون غيرهم، فتأخر منه حاصل وتأخرت قسمته حتى ورد وارد من الموصوفين، فهل يقاسمهم؟. فأجاب: لا يساهمهم؛ لأنهم ملكوا الريع قبل وروده، فهذه نظير مسألتنا؛ لأنه لم يعتبر فيه الوصف الحادث بعد استحقاق القسمة وكذلك الوصف في مسألتنا حادث بعد استحقاق القسمة فإن قلت: يناقض ذلك ما أفتى به أيضا من أنه لو وكله في المطالبة بحقوقه دخل فيه ما يتجدد قلت: ذاك إنما دخل تبعا لا مقصودا، فلا تناقض لاغتفارهم في باب الوكالة دخول أشياء كثيرة تبعا كما يعرف بتصفح كلامهم فيها ومما يشهد لذلك أيضا ما صرح به الغزالي في البسيط من أن لفظ التصدق صريح في إزالة الملك عن الرقبة في الحال إلى المتصدق عليه، فيؤخذ منه اعتبار الصفة حال اللفظ بالتصديق وعدم النظر إلى حال الصفة المتجددة بعد وعبارة الرافعي:

 

ج / 3 ص -369-        الصحيح الذي دل عليه مدار المذهب ونقله الأثبات من متأخري الأصحاب وقطع به المتولي والبغوي.
واعتمده الروياني وغيرهم أنه لا يشترط في الهدية والصدقة إيجاب ولا قبول، وأنه لا فرق في ذلك بين الأطعمة وغيرها، ثم صرح به الشيخان أن القبض إنما هو شرط للزوم أي لا للملك أو شبهة الملك، وفرعا على ذلك أنه لو مات الواهب أو الموهوب له بعد العقد وقبل القبض لا ينفسخ به قالا: لأنه يئول إلى اللزوم كالبيع الجائز أي في زمن الخيار فأفهم صريح هذا أن الملك الناقص أو شبهة الملك تحصل قبل القبض. وعليه يحمل ما في المنهاج وأصله والروضة وأصلها من حصول الملك بالعقد قبل القبض فإن قلت: صرح ابن سريج بأنه لو أرسل صدقة مع رسوله ثم بدا له فاستردها من الطريق كان له ذلك وإذا مات قبل وصولها كانت تركة، وهذا يقتضي خلاف ما مر عن الشيخين غيرهما قلت: لا يناقضه ولا يخالفه لأنا إنما أثبتنا له شبهة ملك أو ملكا غير تام، وإنما يرد ذلك أن لو أثبتنا له ملكا تاما، وكلام الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب مصرح بأن رسول المهدي لو أوجب فقبل المهدي إليه ملك، وإن لم يقبض. وعبارة الشيخ: وإذا أراد أن يملك الهدية وكل الرسول الحامل لها حتى يوجب ويقبل المهدى إليه فيملك بذلك. ا هـ. وظاهر هذا أنه يملك بالقبول ولو بغير قبض ملكا تاما، ومنازعة ابن الصباغ للشيخ إنما هي من حيثية أخرى كما يعلم بتأمل كلامه وكلام ابن الرفعة، ويحتمل أن يقال: يعمل بالعرف في ذلك، ومما يشهد له قول الإمام في النهاية والغزالي في البسيط والقشيري في الموضح العادة تفسر اللفظ المجمل في العقود اتفاقا، فانظر لحكاية الاتفاق من هؤلاء الأئمة والصدقة من العقود جزما، وقوله أعطوا القاضي الشافعي كذا مجمل أي مجمل. وليس المراد المجمل عند الأصوليين كما هو واضح جلي، ومما يشهد لذلك أيضا قول الرافعي في باب النذر: لو نذر للقبر الذي بجرجان تعين صرف ذلك إلى الجماعة التي جرت العادة أن ما يجتمع يقسم عليهم عملا بالعرف، فكما تعين الصرف إليهم مع أن الناذر لم يذكرهم، فأولى في مسألتنا، ومما يشهد له أيضا ما أفتى به ابن الصلاح والغزالي وغيرهما من أن العرف في زمن الواقف ينزل بمنزلة شرط الواقف له في وقفه صريحا حينئذ، ومما يشهد له أيضا قول القمولي: العرف الخاص يؤثر كالعرف العام. وقول النووي: متى وجد اصطلاح سابق وجب العمل بقضيته، وقاعدة الأصحاب في الوكالة كما قاله الإمام: أن القرينة قد تقوى فيترك لها إطلاق اللفظ، وقد يتعادل اللفظ والقرينة فتارة يغلب مقتضى اللفظ وتارة يغلب مقتضى القرينة، وقد أوضحوه بصور في الوكالة، ويحتمل أن يقال: بالتسوية بين المعزول والمتولي لقولهم: لو اندرس شرط الواقف ولم تعرف مقادير الاستحقاق أو كيفية الترتيب قسمت الغلة بينهم بالسوية. ويجاب: بأن محل ذلك كما قيده الزركشي أخذا مما مر عن النووي وغيره بأن لا تكون العادة قاضية فيه بالتفصيل وإلا وجب عملا بالعادة وبأن لا يوجد اصطلاح سابق، فمتى وجد وجب العمل بقضيته، ومما يشهد بالاشتراك بينهما أيضا قول ابن النقيب: لو وقف على مواليه

 

ج / 3 ص -370-        وأطلق ولم يكن هناك إلا واحد وحمل عليه ثم وجد الآخر دخل، كما لو وقف على الإخوة فحدث أخ ويرد بأن كلام ابن النقيب ضعيف ولا شاهد له في القياس على الإخوة لوضوح الفرق بين مسألتهم ومسألة الموالي؛ وهو أن إطلاق الموالي على الفريقين من الاشتراك اللفظي، وقد دلت القرينة على إرادة أحد معنييه وهي الانحصار في الوجود فصار المعنى الآخر غير مراد. وأما عند عدم القرينة فيحمل عليهما احتياطا أو عموما على خلاف في ذلك عند الأصوليين، بخلاف الوقف على الإخوة، فإن الحقيقة واحدة، وإطلاق الاسم على كل واحد منهم من المتواطئ فمن صدق عليه هذا الاسم استحق من الوقف، وإن لم يوجد عند الوقف إلا أن يقيد بالموجودين حالة الوقف فيتبع تقييده، ويحتمل أن يقال: يوقف إلى مراجعة المتصدق ومما يشهد له مسائل كثيرة غنية عن البيان، ويحتمل أن يقال: باستحقاق المتولي ومما يشهد له؛ قولهم: لو أوصى لعبد وهو ملك زيد فباعه ثم مات الموصي وقبل العبد كانت الوصية للمشتري دون البائع، حكاه الرافعي في باب القسامة عن القاضي أبي الطيب وبناه هنا أعني في الوصية على أنها لم تملك ويجاب بأن الموت في الوصية كقول المتصدق: أعطوا فلانا كذا بجامع أن سبب الملك في الوصية هو الموت بشرط القبول، وسببه هنا قول المتصدق: أعطوا بشرط القبض، والموت هنا هو السبب الأول إنما وقع في ملك المشتري، فكان هو المستحق بخلافه في مسألتنا، فإن السبب الأول هو قول المتصدق وقع في زمن ولاية المعزول. ومما يشهد لاستحقاق المتولي أيضا ما رجحه الأذرعي فيما لو شرط النظر لحاكم المسلمين ببلد كذا فنصب القاضي واحدا ثم مات أو انعزل، من أن المنصوب ينعزل بموت القاضي الذي نصبه وانعزاله ويعود النظر فيه إلى القاضي الجديد؛ لأن النظر آل إليه بشرط الواقف، ويرد بأن النائب إنما انعزل هنا لانعزال من ناب عنه فهو فرع، والفرع لا يمكن بقاؤه بعد زوال الأصل ولا كذلك في مسألتنا. ومما يشهد لاستحقاقه أيضا قول الشيخين وغيرهما: لو قال لا أرى منكرا إلا رفعته إلى القاضي ولم يعين أحدا بلفظه ولا نيته اختص بقاضي البلد حملا له على المعهود، وهل يتعين قاضي البلد في الحال لأنه المعهود. أم يقوم مقامه من ينصب بعده وجهان أو قولان أصحهما في الروضة والثاني قال الرافعي: حملا للألف واللام على تعريف الجنس أي: جنس قاضي البلد، فلو عزل الأول وولى غيره بر بالرفع إلى المتولي دون المعزول، وهذا فيه دلالة قوية، بل صريحة على استحقاق المتولي في مسألتنا دون المعزول، وقد يمكن تمحل فرق لا يسلم من نزاع، فينبغي إمعان النظر في كل ذلك سيما هذا الآخر، فإنه قد يدعى أنه نص في المسألة قاطع للنزاع، فحينئذ الذي ينبغي أن يقال: إن اطردت عادة وكان المتصدق من أهلها ولم يمكن مراجعة المتصدق، أو روجع فلم يكن له نية عمل بها، وإلا استحقه المتولي عملا بهذا الفرع الأخير لقوة دلالته بل صراحتها في ذلك.
سئل: عمن وهب لولده عينا فمرض الولد فهل للأب الرجوع؟. فأجاب بقوله: نعم له

 

ج / 3 ص -371-        الرجوع خلافا لمن أفتى بعدمه لثبوته له ما بقي الموهوب في ولاية المتهب، ولا نظر لما يتخيل من تعلق حق الورثة به بالمرض، وفارق تعلق الغرماء به عند الحجر عليه بالفلس بعدم مزاحمة أحد للأب الآن؛ إذ الورثة لا حق لهم إلا بالموت، بخلاف الغرماء فإن حقهم تعلق به بمجرد الحجر.
وسئل: بما صورته اختلف من بيده عين هو وواهبها له أو وارثه في الإذن في القبض أو اتفقا عليه وادعى أحدهما الرجوع فمن المصدق؟. فأجاب بقوله: يصدق الواهب أو وارثه في عدم الإذن في القبض، وكذا إن ادعى أحدهما الرجوع عنه ما لم يكن بيد المتهب فإنه المصدق حينئذ، فإن ادعى أحدهما أنه قبض عن جهة أخرى كوديعة، أو عارية صدق المتهب أيضا، كما في اختلاف المرتهن والراهن، لكن لهما تحليفه.
سئل: عن رجل دفع لزوجته مبلغا وقال: اشتر به جارية للخدمة، فزادت المرأة على المبلغ من عندها واشترت الجارية لنفسها، ثم أن الزوج وطئ الجارية فحملت، فأتى ومعه رجل آخر إلى شخص يسأله عن الحكم في ذلك، واعترف في سؤاله: بأن الجارية ملك لزوجته اشترتها لنفسها، وأنه ظن أنها تحل له بمقتضى المبلغ الذي أعطاه لزوجته ودفعته في قيمة الجارية، فهل هذه شبهة تدرأ عنه الحد وتثبت النسب والحرية، كما لو وطئ أمة لغيره على فراشه ظنها أمته. أو تكون شبهة تثبت ما عدا الحرية كما لو وطئ جارية لشخص وادعى أنه اشتراها منه فأنكر المالك وحلف. أو لا تكون شبهة كما لو وطئ الجارية المرهونة بغير إذن الراهن وظن أنها تحل له بسبب الرهن وكان ناشئا بين العلماء هذه الواقعة المسئول عنها، وعن قولهم: ادعاء الملك شبهة. وكذا ظنه هل ذلك على إطلاقه. حتى إذا بين سببا لا يقتضي الملك يقبل منه كأن ادعى أنها ملكه، وأن سبب الملك ارتهانه لها، أو إباحة مالكها له، أو قرضه أو هبته لمالكها ثمنها حين اشتراها وما أشبه ذلك، أو محمول على ما إذا أطلق أو بين سببا يقتضي الملك؟. فأجاب بقوله: أما قوله لها ما ذكر فمحتمل؛ لأنه إما أن يريد اشتر جارية لخدمتك اللازمة لي فتكون حينئذ وكيلة عنه في شرائه وما زادته قرض ترجع به عليه، وإما أن يريد اشتر به جارية لخدمتك لأني وهبته لك وحينئذ فتكون ملكا لها ولا شبهة له فيها، وقوله بعد ذلك: الجارية ملك لها اشترتها لنفسها مؤيد للاحتمال الثاني لكنه لم يذكره إلا بعد وقوع الوطء، ولا تصريح في كلامه بأنه كان معتقدا ذلك حين الوطء لاحتمال أنه أراد الاحتمال الأول أو أنه اعتقد أنها اشترتها له ولها فوطئها بظن ذلك، ثم ظهر له أنها إنما اشترتها كلها لنفسها فاعترف بأنها ملك لها فيجب استفساره، فإن أراد الاحتمال الأول، أو ظن أنها اشترتها له ولها فالولد حر نسيب، ولا حد عليه، لاحتمال ما ذكره وليس في كلامه ما ينافيه إلا لو كان أقر بما ذكر قبل الوطء، وإن أراد الاحتمال الثاني حد وكان الولد رقيقا، وبما تقرر يعلم أنه في الحالة الأولى نظير من وطئ أمة غيره يظن أنها ملكه، وفي

 

ج / 3 ص -372-        الثانية ليس نظير من وطئ من ادعى أنه اشتراها فأنكر المالك وحلف، لأنه في هذه الحالة يزعم الملك، فأسقطنا عنه الحد لاحتمال ما ادعاه، ولم نثبت حرية الولد لثبوت ملكها للحالف والولد جزء منها، فلا يفوت عليه رقه بمجرد دعوى الغير. ولا يلزم من النظر إليها بالنسبة لإسقاط الحد المبني على الدرء ما أمكن النظر بالنسبة لفوات المال المبني على الاحتياط ما أمكن، وأما في تلك فهو يزعم الملك لها فلم يفده ظنه المذكور في السؤال شيئا، ولا ينافي ما تقرر في هذه قولهم: ادعاء الملك شبهة لأن معناه أنه شبهة بالنسبة لإسقاط الحد فقط، لا لإثبات الحرية أيضا لوجود معارضها من حلف المالك، بخلاف ظن الملك، فإنه شبهة في الأمرين، أما الحد فواضح، وأما ثبوت الحرية فلأنه لم يوجد معارض لظنه مع عذره فيه، ثم الذي يقتضيه إطلاقهم أنه متى ادعى الملك أو ظنه لم يستفسر لكنه إذا تبرع بتفسير نظر فيه فإن كان ربما يتوهم العامة منه إباحة الوطء كان شبهة وإلا فلا.
سئل: نفع الله تعالى به عما لو جرت العادة بالتسامح بأخذ شيء من البقولات أول وقت النبات من مال الغير يؤكل مثلا هل هو حلال طيب أم لا؟. وقد يأخذ ذلك الصبي ويأتي به إلى أهل الثروة، والعادة جارية بإعطائه شيئا في مقابلة ذلك، ولولا ذلك لم يأت بشيء لهم ويأكل ذلك الورع وغيره وفي نفس الفقيه منه شيء. فأجاب بقوله: حيث اطردت عادة أهل ناحية بالمسامحة في البقولات بحيث يجزم الآخذ بأن مالك المأخوذ لا يتأثر فيه أو يغلب على ظنه ذلك جاز الأخذ، نظير ما صرحوا به في أخذ الثمار الساقطة، ومن جاز له أخذ شيء تصرف فيه بالأكل لا بالبيع ونحوه إلا إن اطردت العادة برضا الملاك بتصرفه فيه بما شاء، فحينئذ يجوز له أن يهديه لغيره، ولذلك الغير الأكل منه، نعم إن علم أو ظن أنه إنما سمح له في مقابلة شيء يعطيه له لم يجز له الأكل منه، حتى يعطيه المقابل أو يعزم على ذلك، وحيث جزم بالرضا وبأنه لا شبهة له في ذلك، لم يكن ترك الأكل ورعا وإلا كان تركه من الورع.
وسئل: نفع الله تعالى عن قول الإرشاد في باب الهبة إلا إن تفرخ، وقد مر في الفلس إذا كان المبيع بيضا فتفرخ لا يمنع رجوع البائع فيحتاج للفرق بينهما. فأجاب بقوله: أما هذا السؤال فجوابه: أني فرقت بينهما في شرح الإرشاد حيث قلت في باب الهبة: إلا إن استهلك كأن تفرخ البيض أو نبت الحب؛ لأن الموهوب صار مستهلكا، قال الشيخان عن البغوي: هذا إذا ضمنا الغاصب بذلك وإلا فقد وجد عين ماله فيرجع، وقضيته ترجيح، الرجوع وبه جزم البلقيني واختاره الزركشي وهو قياس ما قالوه في المفلس، وعلى الأول يفرق: بأن تعلق حق البائع ثم آكد من تعلق حق الأصل هنا، كما يعلم من فروع البابين وفارق ما هنا ما ذكروه في الغاصب بأنه متعد لا ملك له فلا يفيده هذا التغير حدوث ملك، بخلاف الفرع فإن ملكه صحيح، وما حصل من التغير لا يمنع بقاء الموهوب على حاله، فامتنع بسبب ذلك رجوع الأصل.

 

ج / 3 ص -373-        وسئل: عمن أرسل شيئا لفقير فهل لآخر مثله في الفقر أخذه من الرسول قهرا أم لا. فإن قلتم: لا فما المراد مما رواه البخاري عن معن بن يزيد: أن أباه أخرج دنانير صدقة فوضعها عند رجل في المسجد الحديث وهل في قوله صلى الله عليه وسلم حين تخاصما: "لك ما نويت ولك ما أخذت" ما يدل على جواز ذلك أم لا؟. وهل يفرق فيه بين صدقة التطوع والفرض أو لا؟. فأجاب بقوله: ليس لآخر وإن كان مثله في الفقر أو أعلى منه أخذ ذلك من الرسول قهرا ولا اختيارا سواء في ذلك صدقة الفرض والنفل، لما قرره الأئمة أن المرسل باق على ملك مرسله حتى يقبضه المرسل إليه، وما دام لم يقبضه فهو باق على ملك مرسله، وقد عينه لإنسان، فلم يجز لغيره أخذه مطلقا. وأما حديث البخاري المذكور فيعلم الجواب عنه من ترجمته وسياقه وهما باب إذا تصدق على ابنه وهو لا يشعر، حدثنا محمد بن يوسف قال أخبرنا إسرائيل قال حدثنا أبو الجويرية: إن معن بن يزيد حدثه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأبي وجدي وخطب أي: النبي صلى الله عليه وسلم علي أي: خطب لي امرأة من وليها فأنكحني وخاصمت إليه، وكان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فأتيته بها فقال: والله ما إياك أردت فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لك ما نويت يا يزيد ولك ما أخذت يا معن" ا هـ.
فتأمل الترجمة تعلم ما صرح به الأئمة من أن في الحديث حذفا لا بد منه تقديره فوضعها عند رجل في المسجد، وأذن له في أن يتصدق بها على محتاج إليها إذنا مطلقا وقوله فجئت فأخذتها من المأذون له في التصدق بها بإذنه، لا بطريق الاعتداء، كما تدل عليه رواية البيهقي عن أبي جويرية في هذا الحديث قلت: وما كانت خصومتك. قال: كان رجل يغشى المسجد فيتصدق على رجال يعرفهم فظن أني بعض من يعرف، فذكر الحديث، وضمير أتيته لأبيه، وقوله له ما إياك أردت معناه لو أردت أنك تأخذها لناولتها لك ولم أوكل فيها، وكأنه كان يظن أن الصدقة على الولد لا تجزي، أو أنها على الأجنبي أفضل منها على الولد، ومعنى لك ما نويت أنك نويت أن تتصدق بها على من يحتاج إليها، وابنك محتاج إليها فوقعت الموقع، وإن كان لم يخطر ببالك أنه يأخذها أو أن أخذه لها لا يقع الموقع. ومعنى: ولك ما أخذت يا معن أي لأنك محتاج إليها فوقع أخذك لها الموقع، وإن خالف ظن أبيك، قال ابن رشد: الظاهر أن أباه لم يرد بقوله له ما إياك أردت أني أخرجتك بنيتي، وإنما أطلقت لوكيلي أن يتصدق بها على من تجزي مني الصدقة عليه، ولم تخطر أنت يا معن ببالي، فأمضى النبي صلى الله عليه وسلم الإطلاق لأنه فوض للوكيل بلفظ مطلق فنفذ فعله، وفي الحديث دليل على أنه يعمل بالمطلقات على إطلاقها، وإن احتمل أن المتكلم المطلق لو خطر بباله فرد من الأفراد لقيد اللفظ به. واستدل بعضهم بالحديث على جواز دفع الصدقة إلى كل أصل وفرع وإن لزمته، نفقته قال في فتح الباري: ولا حجة فيه؛ لأنها واقعة حال، فاحتمل أن يكون معن كان مستقلا لا يلزم أباه يزيد نفقته ا هـ. وهو غير صحيح؛ لأن واقعة الحال القولية إذا تطرق إليها الاحتمال أفادها العموم بخلاف واقعة الحال الفعلية، فإن تطرق

 

ج / 3 ص -374-        الاحتمال إليها يسقطها، وهذا هو محمل قول الشافعي رضي الله تعالى عنه مرة: وقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال أكسبها العموم في المقال، فهذا في الواقعة القولية كما في هذا الحديث، وقد أشار إلى ذلك رضي الله عنه بقوله في المقال، وقوله مرة أخرى: وقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال، وأسقط بها الاستدلال، فهذا في الواقعة الفعلية، كوضع يد عائشة رضي الله عنها على قدمه صلى الله عليه وسلم، وهو في الصلاة فإنه لما احتمل أن يكون من وراء حائل لم يكن فيه دليل للحنفية على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء، والأولى أن يجاب بأنا لا نمنع دفع الصدقة المفروضة إلى الأصل أو الفرع إلا إن كان مكفيا بنفقة قريبه الدافع، لأن دفعها له حينئذ يمنع من وجوب الإنفاق على الدافع على أن المدفوع إليه غني بإنفاق قريبه، بخلاف ما إذا لم يكن مكفيا بنفقة الدافع كأن كان عليه دين فله حينئذ الدفع إليه، والحاصل أنه استنبط من العموم الدال عليه هذا الحديث معنى خصصه بغير مكفي بنفقة قريبه. قال في فتح الباري أيضا: وفي الحديث أن الأب لا رجوع له في الصدقة على ولده بخلاف الهبة، وهو عجيب فإن مذهبنا أن له الرجوع فيهما، وليس في الحديث ما ينافي ذلك بوجه، وإنما كان يتم له ذلك لو قال يزيد أبو معن رجعت، أو أراد الرجوع ولم يمكنه صلى الله عليه وسلم من ذلك، ولم يقع ذلك مطلقا وإنما الذي وقع كما تقرر في الكلام على الحديث أن معنا ظن أن أخذ ولده لا يجزيه فبين له صلى الله عليه وسلم: أنه يجزيه، فتأمل ذلك فإنه مهم، والله سبحانه وتعالى أعلم، أسأل الله أن يلهمنا الحق وييسر لنا اتباعه بمنه وكرمه آمين.
وسئل: نفع الله سبحانه وتعالى به عما يأخذه المالك من مستأجر الأرض وقت عقد الإجارة من غير الأجرة هل هو حرام أو لا؟. وهل يفرق بين كون المستأجر حربيا أو لا؟، وذلك عند الكفرة قاعدة مطردة احتراما لصاحب الأرض. فأجاب بقوله: إن اعتيد الإهداء إلى المؤجر فأهدى المستأجر إليه شيئا بطيب نفس لا لحياء ولا لظن كونه واجبا عليه، وإنما هو لمحض التبرع وإيثار فعل الجميل، جاز للمؤجر القبول حينئذ، ومتى فقد شرط مما ذكرته لم يحل القبول أخذا من كلام الغزالي وغيره.
وسئل: رضي الله عنه عن عطايا الملوك الذين يأخذون أموال الناس ظلما والغالب على ما تحت أيديهم الحرام، وقد يمكن أن يكونوا اقترضوها، أو اشتروا شيئا في الذمة واستأذنوا بقبضه، فإذا أعطوا أحدا منها شيئا وجهل الحال، فهل يجوز قبوله ولا يطالب به في الآخرة إذا كان في الباطن حراما؟. أم يحرم قبوله؟. وإذا قبله فما حكم الصلاة فيه، والصدقة منه هل يثاب عليها كما يثاب في فعله من غيرها أم دونه أم لا يثاب بل يأثم؟. وقوله في جواهر القمولي.
فرع: لو أخذ من يد غيره بتمليك أو إباحة ظانا أنه ملكه اعتمادا على الظاهر، وكان في الباطن حراما هل يطالب به في الآخرة أم لا؟. قال البغوي: إن كان ظاهر المأخوذ منه الخير

 

ج / 3 ص -375-        فأرجو أن لا يطالب وإلا طولب ا هـ. كلامه، هل هو مقر على كلامه هذا أم لا؟. ولا يخفى على مولانا فسح الله سبحانه وتعالى في مدته اختلاط الحرام في هذا الزمان، فقد لا يمكن التحرز لأمور؛ أحدها: أن المشهور أن الدراهم ما يضربها إلا السلاطين، ولا يمكن غيرهم أن يضربها لما يخشاه منهم ولو قدرنا الحل فمستفيض أن الذي يضربها يشتري فضتها بعقد لا يسلم فيه من الربا، إذا كان الإنسان يؤاخذ بغلبة الحرام. وإذا قلتم لا مؤاخذة في ذلك، فهل يحصل على من أخذ من ذلك شيئا إثم مثل توسيخ قلبه عن العبادة. أم لأنه وافق الظاهر؟.
فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: أما عطايا الملوك فاختلف السلف الصالح ومن تبعهم من الخلف في قبولها، فقبلها قوم اعتمادا على أمور يطول بسطها، وامتنع من قبولها آخرون ورعا وزهدا، وهذا الأحوط للدين والعرض ولقد وقع لمثل إبراهيم بن أدهم رضي الله تبارك وتعالى عنه أنهم أحسوا بظلمة قلوبهم لتناول شيء من بعض أتباع السلاطين، فالحرام باطنا يؤثر في ذلك، ولقد تعفف حتى عن الحلال خوفا أن يقع في حرام. ومن المشاهدة أن بعض النواحي يكثر فيها الصالحون والمتقون، وبعضها يقلون فيه، ولقد استقرينا سبب ذلك فلم نجده غير أكل الحلال أو قلة تعاطي الشبهات، فكل ناحية كثر الحل في قوت أهلها كثر الصالحون فيها وعكسه بعكسه، إذا تقرر ذلك فمعتمد مذهبنا أن معاملة من أكثر أمواله حرام مكروهة لا محرمة، وقول الغزالي في الإحياء: إنها محرمة خلاف المذهب، كما في شرح المهذب، فعليه يجوز الأخذ من مال السلطان مطلقا ما لم يعلم في شيء بعينه منه أنه حرام فلا يجوز قبوله، ومع الجواز يكون الآخذ تحت خطر احتمال الوقوع في الحرام فيتأثر قلبه به، بل ويطالب به في الآخرة إن كان المعطي غير مستقيم الحال، كما ذكروه عن البغوي، وأقروه عليه، وهو واضح من حيث المؤاخذة وعدمها، لأن ظاهر حاله إن كان مستقيما كان معامله معذورا وإلا فلا. أما من حيث أخذ حسنات آكل الحرام وإن لم يشعر به ولو ممن ظاهره الاستقامة في مقابلة ما أكله من مال الغير، فالبغوي لا يجري تفصيله في هذا، لأن أخذ الحسنات لا فرق فيه بين المتعدي بأخذ مال الغير وعدمه، كما أشرت إلى ذلك فيمن مات وعليه دين لم يعص بأدائه في شرح الإرشاد والحاصل: أن أخذ الحسنات في مقابلة المأخوذ من مال الغير لا يفرق فيه بين المتعدي وغيره، بخلاف المعاتبة والمؤاخذة فإنه يفرق فيها بين المتعدي وغيره، كمن عامل من ظاهره الظلم أو أخذ أموال الناس، وغير المتعدي كمن عامل من ظاهره الخير. والصلاة في الحرام الصرف صحيحة ولا ثواب فيها عند الجمهور، خلافا لجمع محققين وفي المشكوك في حرمته فيها الثواب لعدم التعدي، ودعوى عدم إمكان التحرز عن الحرام ممنوعة، لكن الحق أنها متعسرة. ولقد اعترض قول القاضي حسين يسن للصائم أن يفطر على ما لا شبهة فيه كأن يغترف بيده من الدجلة، فإن صوابه أن يقول: من ماء السماء النازل منها إلى يده، لأن الدجلة أم الفرات يخرج منها في بلاد الترك بركة يحوط عليها لصيد السمك فيملك ماؤها، ثم ينفتح ما يسدها فينزل ويختلط بالفرات أو الدجلة، فلم

 

ج / 3 ص -376-        يخل عن الشبهة فإذا روعيت هذه الشبهة مع ندرتها فما ظنك بغيرها. وهذا هو السبب في قول بعض الأكابر مع تقدمه بقرون عديدة الآن أيسنا من الحلال المحض، والحاصل أن الشبهة كثيرة إذا، وأن التنقي عنها متعسر، وأن غاية ما يختلف الناس فيه وتتفاوت مراتبهم بسببه الإكثار من تعاطي الشبهة والتقليل منها، والله سبحانه وتعالى يوفقنا لمرضاته ويخفف عنا ما تحملناه من عظيم مخالفاته وبمنه وكرمه آمين.
وسئل: رحمه الله تعالى عن ولد ولد قال لجدته وإخوانه حضور: سدسك من تركة والدنا رددته علينا، قالت نعم رددته عليكم ثم قال لها: والحصة التي قدرها النصف الآيلة إليك بالإرث من والدك لنا، قالت: نعم، فهل يستحقون بذلك سدسها وحصتها المذكورة أم لا؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: قولها: رددته عليكم الظاهر أنه كناية هبة، فإذا وجدت شروطها وقبضوا الموهوب بإذنها ملكوه وإلا فلا، وقولها: نعم في الصورة الثانية لا يمكن أن يكون إقرارا مع قوله لها الآيلة إليك بالإرث من والدك؛ لأن الإقرار إخبار عن حق سابق، وقوله: ما ذكر فيه الاعتراف لها بأنها مالكة لذلك حالا، والمملوك حالا يستحيل الإقرار به ولا بيعا، لعدم ذكر ثمن، ولا هبة لأنه لم يقع بعد نعم بناء على أنها يكتفى بها في مثل ذلك قبول، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: هل تصح هبة المنافع؟. فأجاب: نفع الله سبحانه وتعالى به بقوله: للأصحاب فيها وجهان؛ أحدهما: أنها عارية للدار لا تملك منافعها بل تكون إباحة، والثاني: أنها هبة فتكون أمانة فلا يضمن الدار إن تلفت تحت يده، ورجح الزركشي تبعا للماوردي الأول، ورجح البلقيني كالسبكي الثاني، قال: ويكون قبض المنافع باستيفائها، وتبعه عليه البلقيني في الحواشي وهو المعتمد، وما ذكره في غير الحواشي من أن الهبة تلزم بقبض الدار، رده عليه تلميذه أبو زرعة، وقال: لا تلزم إلا بإتلافها، وأخذه من فرق السبكي رحمه الله تعالى بين كون المنافع في الإجارة مقبوضة بقبض الدار، وإن لم يتلف المستأجر المنافع بخلافه في هبة المنافع بأن الإجارة فيها معاوضة فكانت كملك الأجرة بالقبض، ولا معاوضة في الهبة فلم تلزم إلا بالإتلاف فللواهب الرجوع فيما بقي من المنافع، ولو بعد قبض العين، لأن المعقود عليه وهو المنافع باق يؤخذ شيئا فشيئا، فلم يكن قبض الدار قبضا لها؛ لأنها إنما توجد بوجوب الزمان بخلاف الأعيان فإن الاستيلاء عليها بكمالها، ثم بالقبض ولم يبق بعده علقة فاتضح فرقان ما بينهما.
وسئل: رضي الله عنه هل تصح هدية العقار؟. فأجاب بقوله: أخذ بعض المتأخرين من حدهم الهدية بما ينقل إكراما أنها لا تصح، وليس كما قال، بل الوجه الصحة كما أفاده البلقيني نقلا، فالتعبير بالنقل إما للأغلب أو لبيان أن العقار وإن صح إهداؤه شرعا لا يسمى هدية وضعا.

 

ج / 3 ص -377-        وسئل: نفع الله سبحانه وتعالى به عما اعتيد من إهداء الطعام والشراب للثواب بأن يملأ ظرف الهدية ويرد وإن لم يفعل ذلك وقع العتب والذم هل يحل تناوله أو لا؟. فأجاب بقوله: مذهبنا أن الهبة بقصد الثواب يوجبه، وكذلك هبة الأدنى للأعلى، وإن اعتيد أنها لا تكون إلا لطلب المقابلة والهدية كالهبة في ذلك، وحينئذ فلا عمل بتلك العادة. هذا بالنسبة للأحكام الظاهرة، أما بالنسبة لمن علم أو غلب على ظنه من المهدي أو الواهب بقرائن أحواله أنه لم يهد أو يهب إلا لطلب مقابل، فلا يحل له أكل شيء من هديته أو هبته، إلا إن قابله بما يعلم، أو يظن أنه رضي به في مقابلة ما أعطاه، وقد صرح الأئمة في المهدي حياء، ولولا الحياء لما أهدى أو خوف المذمة ولولا خوفها لما أهدى، بأنه يحرم أكل هديته لأنه لم يسمح بها في الحقيقة، وكل ما قامت القرينة الظاهرة على أن مالكه لا يسمح به لا يحل تناوله وقد ذكروا في باب الضيافة من ذلك فروعا لا تخفى.
وسئل: رحمه الله تعالى عما يفعل للزوجة يوم ثامن زواجها من أقاربها، أو من زوجها من طعام وغيره هل يملكه المنقول إليه من غير تمليك؟، وإذا لم يعلم هل قصد بذلك الزوجة أو غيرها ما الحكم؟. فأجاب بقوله: يملكه المنقول إليه من غير تمليك؛ لأنه هدية لصدق حدها عليه، وهي ما ينقل أي غالبا لدار الغير إكراما له، أي غالبا أيضا، ولا شك أن هذا كذلك، نعم إن كان ثم أحد له على الناقل دين وادعى الناقل أنه إنما نقله لدائنه عن دينه، صدق الناقل بيمينه، وإذا لم يعلم أنه قصد الزوجة أو غيرها، فإن قامت قرينة واضحة بشيء عمل به وإلا فهي ملك لمن أرسلت لداره، لما علمت أن هذا هو موضوع الهدية، هذا كله إن لم يعرف قصد المالك لنحو موته أو جنونه، وإلا صدق في تعيين من أرسلها له، وهذا كله واضح، وإن لم أر من صرح به.

باب اللقطة
وسئل: رضي الله تعالى عنه بما لفظه يقع في ركب الحجيج أنهم قد يطرحون طعامهم لعجز جمالهم عن حمله، وقد يتركون ما عجز من جمالهم في البرية فيأتي إنسان ويأخذ ذلك، أو يطعم الدواب حتى تقوى، ثم يأخذها فهل يباح ذلك ويملك ما يأخذه؟. فأجاب بقوله: قال في الحاوي: إذا ترك دابة، أو بعيرا كبيرا في الصحراء لعجزه عن السير وعجز المالك عن حمله، أو القيام به، فمر به رجل فأحياه بالقيام عليه ومراعاته حتى عاد إلى حاله في السير والعمل. حكي عن الليث والحسن بن صالح أنه يكون لمحييه دون تاركه إلا أن يكون التارك تركه ليعود إليه فيكون أحق به، وقال أحمد وإسحاق المحيي أحق به بكل حال، وقال: هو على ملك تاركه ولكن لآخذه الرجوع بما أنفق، ومذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه على ملك تاركه ولا رجوع للمنفق كما لو عالج عبدا أشفى على الهلاك

 

ج / 3 ص -378-        حتى برأ أو أخرج متاعا غرق في البحر وعن الحسن البصري أن من أخرج متاعا قد غرق في البحر ملكه على صاحبه، وهذا شاذ مدفوع بالخبر والإجماع، ولكن لو وجد في البحر قطعة عنبر في الموضع الذي يجوز أن يوجد فيه كانت ملكا لواجدها، وهذا كما لو صيدت سمكة من البحر فوجد في جوفها قطعة عنبر كانت ملكا للصائد إذا كان بحرا يجوز أن يوجد فيه العنبر، أما الأنهار وما لا يكون معدنا للعنبر من البحار، فإنه يكون لقطة. وأما اللؤلؤ فلا يكون في البحر إلا في صدفه، فإن وجد فيه كان ملكا لواجده وإن وجد خارج صدفه كان لقطة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: رحمه الله تعالى عمن وجد زمن الأمن أمة مميزة آبقة فأخذها ليردها لمالكها فهربت من عنده قبل التمكن فهل يضمن؟، وهل العبد مثلها؟. وفي أدب القضاء للغزي ما يقتضي تقييده ذلك بمن عرف المالك. فأجاب بقوله: أفتى القاضي وابن الصلاح بأنه يجوز لواجد العبد الآبق أخذه ليرده، فإن لم يجد سلمه للحاكم، فإن هرب قبل تمكنه من ذلك لم يضمنه وإلا ضمنه، وما اقتضته عبارة الغزي من أن من لا يعرف المالك يضمن مطلقا، قد يفهم من قول القاضي: أخذه ليرده فإنه لا يتصور الأخذ للرد على من لا يعرف، وظاهر أن معرفة الحاكم الأمين كمعرفة المالك حتى يجوز للآخذ الدفع إليه ولا ضمان بالهروب قبل التمكن، ويدل لذلك قولهم: العبد عرضة للضياع، مع قولهم: إن ولاية حفظ مال الغائبين للحاكم، والأمة التي لا تحل وغيرها في ذلك سواء كما اقتضته عبارة الرافعي رحمه الله تعالى، وصرح به بعضهم، ثم إذا أخذها الحاكم فعل الأصلح من حفظها وبيعها، فإن هربت منه قبل تمكنه من فعل الأصلح لم يضمن وإلا ضمن.
وسئل: نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه بما لفظه: إذا جوزتم التقاط العبد المميز في زمن النهب، فكيف يجوز أن يعرف ملتقطه أنه عبد حتى يلتقطه مع أنه لا يؤخذ بعلامات الأرقاء ككونه حبشيا أو زنجيا؛ لأن الأصل في الناس الحرية؟. فأجاب بقوله: صوره بعضهم بأن يقر مجهول بالغ أنه قن مملوك ولا يعين المالك، فله التقاطه حينئذ زمن النهب للتملك ذكرا كان أو أنثى ا هـ. والظاهر: أن هذا التصوير غير متعين بدليل تعبيرهم بالمميز دون البالغ، وحينئذ فالذي يظهر أنه يجوز له أن يعتمد في وضع يده عليه بالعلامات والقرائن التي يظن بها رقه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب الجعالة
وسئل: رضي الله تعالى عنه فيمن قال لمعلم علم ابني القرآن العظيم وأنا آجر لك مثل ما يؤجر أصحابي لك أو آجر له أجرا معلوما، وهو لا يقرأ القرآن فعلمه إلى آخر سورة الملك فمات الابن أو المعلم، أو ترك المعلم التعليم، أو امتنع الولي عن تسليمه إليه كم

 

ج / 3 ص -379-        يستحق المعلم أو وارثه من الأجر. أفتونا مأجورين أثابكم الله سبحانه وتعالى الجنة؟. فأجاب بقوله: إذا جاعل إنسانا على تعليم ابنه القرآن كله بأجرة معلومة أو مجهولة صح، وله في المجهولة أجرة المثل، ثم إذا علمه البعض فقط دون الباقي، فإن كان ذلك لموت المعلم أو المتعلم وجب للمعلم في الثانية ولورثته في الأولى القسط من المسمى المعلوم، ومن أجرة المثل إذا كان مجهولا لوقوع العمل مسلما بالتعليم مع ظهور أثر العمل على المحل، بخلاف نحو رد الآبق، وإن كان لامتناع الأب من التعليم وجب للفقيه أجرة مثل ما عمل، لأن المنع فسخ أو كالفسخ، وحكم الفسخ من المالك في أثناء العمل يقتضي وجوب أجرة المثل للعامل فيما عمل، وإن كان لامتناع المعلم له لم يستحق شيئا، لأن العامل في الجعالة متى فسخ أو امتنع من العمل أو إتمامه لم يستحق شيئا؛ لأنه امتنع باختياره ولم يحصل غرض المالك سواء أوقع ما عمله مسلما أم لا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وسئل: رضي الله عنه عن رجل وجد عبدا لرجل فراح إليه يطلب منه شيئا يسمونه أهل البلد بشارة حتى أنه وصل سيد العبد فقال: أطلب منك ما حد، وحد بشارة فقال سيد العبد: أعطيك ما فادينا عليه من الجعل وهو دون ما أراد فمسك العبد، فقال ممسك العبد: بلغني نداؤك بذلك هات ذلك فقال سيد العبد: هات عبدي وأسلم لك ذلك فراح واجد العبد يريد أن يأتي بالعبد فوجده قد أبق فهل على واجد العبد ضمانه لكونه حبسه لأجل الجعل أم لا؟. أجاب بعض المفتين: بأن عليه ضمانه؛ لأن الأئمة رضي الله تعالى عنهم قالوا: ليس له حبسه لأجل الجعل وأجاب مفت آخر: بأن يده يد أمانة لا يجب عليه شيء من ذلك فما الصحيح عندكم من ذلك؟. فأجاب بقوله: إن واجد العبد لا يستحق شيئا في مقابلة رده له إلا إذا ثبت أن المالك قال: من رد عبدي فله كذا، فإذا ثبت ذلك وسمعه واجد العبد قبل أن يجد العبد ثم وجده وأمسكه استحق حينئذ الجعل الذي عينه المالك لمن رد عبده، ولو اختلفا فقال الواجد: شرطت جعلا وأنكر المالك، أو قال: شرطته على عبد آخر، أو قال شخص: أنا رددته وقال المالك: بل جاء بنفسه أو رده غيرك صدق المالك بيمينه وعلى الآخر البينة، نعم لو اختلفا في بلوغه النداء، فالقول قول الراد بيمينه كما لو اختلفا في سماع ندائه وإذا رده لا يستحق الجعل إلا إن سلمه للمالك، فلو رده إلى دار المالك فمات قبل التسليم، أو هرب منه، أو غصبه ظالم منه، أو تركه العامل، أو ترك هو العامل ورجع بنفسه لم يستحق العامل شيئا. نعم لو لم يجد المالك وسلمه للحاكم فهرب استحق كما في فروع ابن القطان، وكذا لو هرب المالك وسلمه للحاكم فيستحق اتفاقا قال الزركشي: فإن لم يكن حاكم أشهد واستحق وبما تقرر علم أن من رد آبقا أو مالا بغير إذن مالكه أو بإذنه، ولم يلتزم له شيئا في مقابلة الرد فلا شيء له سواء أكان معروفا بالرد أم لا، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله تعالى قال ابن الرفعة في الكفاية تبعا للإمام: وفي ضمانه لما وضع يده عليه حينئذ الخلاف في انتزاع المغصوب لرده، وقضيته أنه يضمن؛ لأن الأصح فيمن انتزع مغصوبا ليرده على

 

ج / 3 ص -380-        مالكه أنه يضمنه إلا إن انتزعه من حربي أو من عبد المغصوب منه، وبهذا يعلم أن واجد العبد يضمنه في صورة السؤال حيث لم يثبت أن المالك نادى عليه بجعل أو أمر من ينادي عليه بذلك، أما إذا ثبت ذلك وهرب منه وهو جاء به في الطريق فإن كان هربه بتفريط من واجده، كأن خلاه بمضيعة أو لم يحتفظ عليه حق الحفظ ضمنه، وإن كان بغير تفريط منه كأن خلاه عند الحاكم لم يضمنه، هذا كله حيث هرب منه وهو آت به إلى المالك، أما لو وجده ثم جاء به إلى داره وحبسه عنده لأجل استيفاء الجعل المشروط له، فهرب منه في مدة الحبس فإنه يضمنه؛ لأنه مفرط بحبسه، سواء هرب بتفريط منه في حفظه حتى هرب أم لا، لما تقرر من أن حبسه نفسه تفريط، وقد أشار الغزي وغيره إلى ما ذكرته من التفصيل بقولهم: أبق عبد
فظفر به من يعرف مالكه فأخذه ليرده فهرب قبل تمكنه من رده ورفع أمره إلى الحاكم بلا تقصير لم يضمنه، بخلاف من لم يعرف مالكه أو لم يرد رده أو قصر فإنه يضمنه ا هـ. وبه يعلم أن من لم يعرف مالكه يضمنه وإن لم يفرط وكذلك من لم يرد رده يضمنه وإن لم يفرط لتقصيره فيهما وبما تقرر علم خطأ كل من المفتيين المذكورين في السؤال؛ لأن إطلاق الجواب في محل التفصيل خطأ، لكن سبب ذلك أن كثيرين الآن صاروا يتسورون ذرى منصب الإفتاء قبل التأهل له فيضلون ويضلون، والله سبحانه وتعالى يهدينا وإياهم لسواء السبيل إنه حسبنا ونعم الوكيل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
سئل عما إذا رد الصبي العين المجعول عليها جعل فهل يستحق الجعل؟. فأجاب بقوله: نعم يستحقه كما اقتضاه إطلاقهم وأفتى به البارزي، وقاسه على ما لو قال له خط هذا الثوب ولك أجرة، وله احتمال أنه يستحق أجرة المثل كما لو عقد الإجارة مع الصبي على عمل ويجاب: بأن الإجارة يشترط فيها القبول وهو لا يصح من الصبي فكانت فاسدة، بخلاف الجعالة فإنه لا يشترط فيها إلا العمل وهو يصح من الصبي، فلم تكن فاسدة وإذا لم تفسد وجب المسمى.
وسئل: بما صورته لو جوعل شخص على زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء للميت عند القبر الشريف فعجز عن الزيارة فهل يجوز له أن يجاعل غيره أو لا؟. أجاب أبو قضام: نعم يجوز له أن يجاعل عليها غيره أو يستنيب فيها تبرعا قاله إمام الحرمين، والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا فيجب له المسمى، والله سبحانه وتعالى أعلم وأجاب الفقيه أحمد بن عبد الله ملحاح: فضل المجاعل ليس له أن يجاعل إلا أن يكون في الصيغة عموم كمتى حصلت حجة ونحو ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم وكلام الأصحاب في باب الجعالة يدل لصحة فتوى أبي قضام حيث قالوا: إن الجعيل المعين كالوكيل المعين، لكن يشكل على فتواه ما قالوه، ولو وكله فيما يمكنه عادة ولكنه عاجز عنه لسفر أو مرض، فإن كان التوكيل في حال علمه بسفره أو مرضه جاز له أن يوكل، وإن طرأ العجز فلا، وقضية تقييدهم بذلك في الوكيل: أن

 

ج / 3 ص -381-        يجري مثله في الجعيل فيقتضي أنه لو وقع عقد الجعالة في حال الصحة باليمن مثلا ثم طرأ العجز بمكة مثلا، أنه لا يجوز للجعيل أن يجاعل، فهل هو كذلك حتى لا يصح ما يفعله كثير من اليمنية والحضارمة. أو تصح جعالة الجعيل إذا طرأ له العجز، سواء أكان العجز طارئا أو كان موجودا حال العقد، وسواء علم المجاعل بطرو العجز أم لا؟، وهل المعتمد ما أفتى به أبو قضام أو ما أفتى به أبو فضل؟. فأجاب بقوله: هذه المسألة فيها خلاف بين الأصحاب ولم يره الشيخان فأبديا فيها بحثا، وبيان ذلك أن الرافعي قال: وقد خطر بالبال هنا أن العامل المعين هل يوكل الغير لينفرد بالرد كما يستعين به. وأنه إذا كان النداء عاما فوكل رجلا غيره ليرده هل يجوز. ويشبه أن يكون الأول كتوكيل الوكيل والثاني كالتوكيل بالاحتطاب ا هـ. وعبارة الروضة: فإن قيل: هل للعامل المعين أن يوكل بالرد غيره كما يستعين به وهل إذا كان النداء عاما يجوز أن يوكل من سمعه غيره في الرد. قلت: يشبه أن يكون الأول كتوكيل الوكيل والثاني كالتوكيل بالاحتطاب والاستقاء انتهت. فظاهر بحثهما، بل صريحه في الأولى أنه يتأتى هنا ما قالوه في توكيل الوكيل من اشتراط عذر أو عدم لياقة، ولا إشكال في ذلك على هذا البحث خلافا لما أشار إليه السائل نفع الله تعالى به وفي الثانية، والصورة أن الموكل سمع النداء قبل توكيله الجواز مطلقا، وجزم بما بحثاه في الصورتين مختصرو الروضة وغيرهم، فإن قلت: ينافي بحثهما هذا قولهما كالأصحاب لو قال لزيد: رده ولك كذا فأعانه آخر في رده بعوض أو مجانا، فالكل لزيد فإنه قد يحتاج للمعاونة، وغرض الملتزم العمل بأي وجه أمكن فلا يحمل على قصر العمل على المخاطب، ولا شيء للمعاون إلا إن التزم له زيد أجرة فيستحقها حينئذ. قلت: فرق واضح بين التوكيل والإعانة فإن التوكيل فيه رفع يده واستقلال يد وكيله، وليس يد وكيله كيده بخلاف يد قنه غير مكاتبه، فاغتفر في الإعانة ما لم يغتفر في التوكيل، فلذا جازت الإعانة مطلقا، وفصل في التوكيل بين المعين فلا يجوز له توكيل غيره إلا بعذر؛ لأن الجاعل قد يكون مقصوده مباشرة العامل بنفسه فامتنع توكيله حيث لا عذر، ومن ثم لو قال له: لتعمل بنفسك لم يجز له التوكيل مطلقا، وبين المبهم فجاز له التوكيل مطلقا؛ لأن الجاعل لم يقصد عين أحد، فإن قلت: ينافي ما ذكر من التفصيل في التوكيل عند التعيين قول إمام الحرمين في النهاية الذي استند إليه أبو قضام ظاهر قوله: لمعين إن رددت عبدي فلك كذا يقتضي استدعاء العمل من المخاطب نفسه ولا معنى لحمل اللفظ على قصر العمل في المخاطب، بل يتعين حمله على تحصيل المقصود والسعي فيه بأي وجه كان، حتى لو استعان العامل بمن أراد بأجرة يبذلها أو أعانه متبرعا، فإذا حصل المقصود فلا نظر إلى جهات العمل بناء على مقصود الباب ا هـ. وجرى عليه الغزالي في بسيطه فقال: إذا عين مخاطبا وقال إلا رددت عبدي الآبق فلك كذا، فليس يتعين عليه السعي بنفسه، بل له الاستعانة بغيره، فإذا حصل العمل استحق الأجرة. ا هـ. قلت: لا ينافيه بل هو عينه؛ لأن الإمام والغزالي إنما فرضا ذلك في الإعانة لا في التوكيل، كما فهمه السبكي وهو واضح، وعبارة

 

ج / 3 ص -382-        الأذرعي في توسطه عقب كلامهما، قال قائل: وأحسبه السبكي رحمه الله تعالى، وعلى هذا لا فرق بين عبده والأجنبي، وهو صحيح يشهد له مسألة معاونة الغير له، وهي منصوصة متفق عليها ا هـ. وجرى عليه الخادم فقال: وقد يشهد لما قاله الغزالي اتفاق الأصحاب فيما إذا قال: إن رددته فلك كذا فشاركه غيره في الرد وقصد معاونته أنه يستحق زيد الجعل؛ لأنه إذا صح أن يقع عمل الأجنبي له من غير إذنه فبإذنه أولى.
فإن قلت: سلمنا أن كلام الغزالي وإمامه في المعاونة لا التوكيل فكلام القاضي حسين وتلميذه أبي سعيد المتولي صريحان في منع التوكيل، وعبارة القاضي في تعليقته غير المشهورة: ولو رده عبده استحق؛ لأن يد العبد يده، ولو رد وكيله لا يستحق الأجرة؛ لأنه لم يشترط له شيء؛ ولأن يد الوكيل غير يده انتهت.
وعبارة المتولي: إذا رده وكيله لم يستحق شيئا قلت: غاية ذلك أن هذين الإمامين أطلقا منع التوكيل.
والشيخان وغيرهما اعتمدوا التفصيل السابق فيه فتعين حمل إطلاق هذين على أحد شقي تفصيل أولئك وبما فرقت به بين التوكيل والإعانة صرح الأذرعي فقال: وقد يفرق بين مسألة المعاونة والتوكيل بأنه تفويض كلي أي: ولا كذلك الاستعانة، وهذا هو عين ما قدمته من الفرق وبه يعلم أن إطلاق كل من أبي قضام وأبي فضل ليس بصحيح، أما أبو قضام فإنه اعتمد كلام الإمام كما صرح به، وقد علمت أن كلام الإمام إنما هو في الإعانة لا في التوكيل، والذي في السؤال إنما هو من باب التوكيل في معين؛ لأن الفرض أن الجاعل قال لآخر: جاعلتك على الزيارة والدعاء فجاعل غيره ليزور ويدعو، وتخلف هو فهذا توكيل لانفراد الوكيل لا إعانة، وكلام الإمام إنما هو في الإعانة لا التوكيل فاتضح أن إطلاق أبي قضام الجواز هنا غير صحيح وإن استدلا له بكلام الإمام غير صحيح أيضا، وأما أبو فضل فإنه اعتمد إطلاق القاضي والمتولي امتناع التوكيل في المعين، وأخذ بمفهوم ذلك من جوازه حيث لا يتعين، وهو إطلاقا وأخذا غير صحيح أيضا لما علمت أن المعتمد حمل كلام القاضي والمتولي على غير المعذور فيمتنع التوكيل حينئذ بخلاف المعذورون. المعتمد عند الشيخين وغيرهما في عدم التعيين جواز التوكيل مطلقا والعجب كل العجب من هذين الإمامين، كيف غفلا عن كون هذه المسألة في كلام الشيخين ومختصري الروضة وغيرهم، واعتمد الأول كلام الإمام وهو ليس في هذه الصورة والثاني كلام القاضي والمتولي وهو ليس موفيا لتفصيله الذي فصله من الامتناع عند التعيين مطلقا والجواز عند الإبهام مطلقا، وليس كذلك كما تقرر واتضح، فالحاصل أن المعتمد عند الشيخين رحمهما الله تعالى وغيرهما أن الجاعل متى قال: جاعلتك لتدعو مثلا، فإن عذر جاز له التوكيل بأجرة وغيرها وإلا فلا، وتجوز له الإعانة بمن يشاركه في الإتيان بالعمل الملتزم مطلقا، هذا كله إن لم يقل بنفسك، وإلا امتنعت الاستعانة والتوكيل مطلقا كما أشار إليه الأذرعي نقلا عن غيره، ومتى قال من دعا لميتي بمحل كذا، فله كذا جاز التوكيل مطلقا فضلا عن الاستعانة، ويستحق الموكل والمستعين المسمى فاحفظ ذلك وافهمه ولا تغتر بما وقع لكل من ذينك الإمامين

 

ج / 3 ص -383-        لما علمته، ثم رأيت القمولي أول كلام المتولي فقال عقبه ولعل مراده إذا لم يستعن به الموكل في رده أي: بأن فوض إليه الرد من أصله وهو قادر عليه، بخلاف ما إذا استعان به بأن شاركه فيه، فإنه يستحق مطلقا. وهذا صريح من القمولي أيضا فيما قدمته من الفرق بين الإعانة والتوكيل فإن قلت: ما الفرق بين ما هاهنا من أن قوله لآخر إلا فعلت كذا فلك كذا لا يتعين عليه فعله بنفسه على ما تقرر، بخلاف استأجرتك لتحج أو لتدعو أو تزور وقلنا: بصحته، فإنه يتعين المباشرة بنفسه مطلقا قلت: الإجارة ليس فيها شائبة توكيل فوجب العمل بمقتضى قوله لمعين: لتفعل كذا من قصره على فعله، والجعالة فيها شائبة توكيل كما علم مما مر وصرحوا به فنظروا إلى أن الغرض تحصيل المقصود لا عين محصله على ما مر فيه من التفصيل فتأمله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل: عن شخص جوعل على تحصيل حجة وزيارة بلفظ واحد أو على التعاقب بأربعين أشرفيا مثلا فلما حج ذلك المجاعل عمن جوعل له شرع في السير إلى المدينة ليزور عنه فلما بلغ إلى مقرح توفي فهل يستحق أجرة الزيارة بكمالها أو يستحق القسط منها أو لا يستحق شيئا أصلا؟. فإن قلتم يستحق أو لا يستحق مثلا فهل بين الجعالة والإجارة فرق أم لا؟. فأجاب بقوله: الجعيل لا يستحق شيئا كالأجير الذي مات قبل الميقات بجامع أن كلا منهما لم يأت بشيء مما أمر به، فهما سواء في هذا وإنما يتخالفان في أن الجاعل لا يستحق شيئا، وإن أتى ببعض المأمور به، والأجير يستحق وفرقوا بينهما بأن الإجارة لازمة تجب الأجرة فيها بالعقد شيئا فشيئا، والجعالة جائزة لا يثبت فيها شيء إلا بفعل ما شرط عليه ولم يوجد، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.