الفتاوى الكبرى الفقهية على مذهب الإمام الشافعي

ج / 3 ص -384-        كتاب الفرائض
وسئل: رضي الله تعالى عنه عن رجل هلك مثلا وخلف جدتين إحداهما أم أمه مثلا والثانية أم أبيه مثلا وجدا مثلا وامرأة حاملا، وعن رجل هلك مثلا وخلف جدا وجدة؟. فأجاب بقوله: المسألة الأولى من أربع وعشرين، وتعول لسبع وعشرين للجدتين السدس عائلا يقسم بينهما بالسوية، وللزوجة الثمن عائلا، ويوقف للعمل ثلثان عائلان لاحتمال كونه أنثيين فأكثر، وللجد ما بقي ثم إن بان الحمل محاباة فأكثر فظاهر، وإن بان أنثى أخذت الجدتان السدس من أربعة وعشرين، والزوجة الثمن منها، والبنت نصفها، والباقي للجد، وإن بان ذكرا أو أكثر أو ذكرا، وأنثى أخذت الجدتان السدس من أربعة وعشرين، والزوجة الثمن منها، والباقي للذكر أو الذكور، والإناث للذكر مثل حظ الأنثيين، والمسألة الثانية من ستة للجدة السدس، وللجد ما بقي، وشرط إرث الجدة مع الجد أن لا تدلي به، وإلا حجبها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رضي الله تعالى عنه بما صورته الحمد لله الذي أنار الكون بالعلماء، وجعلهم سببا لكشف الغمة، والعماء، وأنار الحكمة في قلوبهم فاستنارت حتى بلغت عنان السماء تفضلوا يا شيخ الإسلام بكشف هذا الرين الذي عم على قلوب أهل زماننا حتى إن أحدهم يموت، ولا يوصي تكون له الضياع فيقسم ما بيده للأولاد، ويخرجه عن ملكه في حال حياته، ويجعل الذكر، والأنثى فيه سواء فإذا مات الشخص المذكور، وجاءت الأنثى تطلب حقها قال لها أخوها: لا أقسم ما أعطاني أبي، وإنما جعل لك معي في حياته تأكلين إذا احتجت، وامتنع فهل يا شيخ الإسلام إذا دفع رب المال الأرض إلى أولاده الذكور في حال حياته يجوز هذا مع الخطر العظيم فإن قلتم: نعم فكيف لهذا المعطي إذا دفع لبعض أولاده شقصا من الأرض المذكورة مثلا ومات المدفوع إليه مثلا وقد زرع الشقص المذكور زمنا مثلا وهو أي: المدفوع إليه قد خلف زوجة مثلا وبنتا هل يعطيان ما في يده من هذه الأرض المذكورة التي فيها حق الإناث المذكورات أو لا؟. فإن قلتم: لا فكيف الصواب الذي تركن إليه؟. فأجاب: بأنه إذا قسم ما بيده بين أولاده فإن كان بطريق أنه ملك كل واحد منهم شيئا على جهة الهبة الشرعية المستوفية لشرائطها من الإيجاب، والقبول، والإقباض أو الإذن في القبض، وقبض كل من الأولاد الموهوب لهم ذلك، وكان ذلك في حال صحة الواهب جاز ذلك، وملك كل منهم ما

 

ج / 3 ص -385-        بيده لا يشاركه فيه أحد من إخوته، ومن مات منهم أعطي ما كان بيده من أرض، ومغل لورثته كالزوجة، والبنت المذكورين في السؤال، وإن كان ذلك بطريق أنه قسم بينهم من غير تمليك شرعي فتلك القسمة باطلة. فإذا مات كان جميع ما يملكه إرثا لأولاده للذكر مثل حظ الأنثيين، ومن شك في ذلك أو اعتقد خلافه فقد كفر، ومرق من الدين فتضرب عنقه إن لم يتب، ويجدد إسلامه، وقد عمت هذه المصيبة، وطمت بين نواحي أهل بجيلة، ومن ضاهاهم، فيجب إذاعة ذلك فيهم، وإعلامهم بأن اعتقاد أن الأنثى لا ترث كفر يخرج معتقده عن ملة الإسلام، والعياذ بالله، وإما بطريق أن يقف ما بيده على أولاده في حال صحته مثلا ويشترط أن الأنثى لا حق لها فيه ما دامت متزوجة مثلا وأنها لا تستحق شيئا فيه إلا إذا احتاجت فهذا وقف صحيح يجب العمل بقضيته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل في شخص مات عن زوجة مثلا وأخ لأب فقالت الزوجة إنها حامل فهل تصدق أم لا؟. فإن طلبت الزوجة القسمة قبل الوضع فهل تجاب أو لا؟. فإن أجابها الأخ للقسمة، ولم يكن وصيا، ولا وكيلا من جهة الحاكم فهل تصح القسمة أو لا؟. ثم مات الأخ المذكور عن ثلاثة بنين أحدهم غائب ثم رجعت الزوجة المذكورة عن الحمل فهل تصدق أم لا؟. فإن صدقت فذاك، وإن لم فهل تتربص أم لا؟. فإن قلتم: تتربص فإلى متى ثم بعد أن رجعت طلبت القسمة ثانيا فهل تجاب أو لا؟. فلو أجابها الحاضرون للقسمة في غيبة أخيهم فهل تصح القسمة أو لا؟. فإذا حضر الغائب أو وكيله فهل له إبطال القسمة الأولى أو الثانية دون الأولى؟. فأجاب بقوله: نعم تصدق في دعوى الحمل إن ظهرت مخايله أو وصفته بعلامة خفية وكذا إن لم تدعه، وأمكن لقرب الوطء، ولها طلب القسمة؛ لأنها تستحق الثمن في هذه الصورة على كل تقدير نعم ليس لها طلب القسمة من الأخ، ولا من ورثته لعدم صحتها منهم ما دام الحمل موجودا، وإنما يقسم لها القاضي، وإن رجعت إذ لا أثر لرجوعها مع رجائه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسألة: هلك مثلا وترك ابن أخ مثلا وشقيقته فهل يعصبها مثلا ويأخذ حصتها مثلا وما الفرق بينهما مثلا وبين بنت الابن التي يعصبها أخوها مثلا وترث معه عند استيفاء البنتين الثلثين مثلا وولد بنت الابن هل يرث أم أمه مثلا وأم أبي أمه مثلا وهل يرثانه أو لا؟. الجواب: بنت الأخ ليست وارثة في حال من الحالات؛ لأنها من ذوات الأرحام فلا يتصور أن أخاها يعصبها بخلاف بنت الابن فإنها وارثة فعصبها أخوها، وغيره، ولا يرث ولد بنت الابن أم أمه ولا أم أبي أمه، وترث منه الأولى دون الثانية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئلت عن طائفتين اقتتلتا مثلا وفقد منهم جمع الغالب على الظن موتهم في جملة من قتل فهل يقسم إرثهم مثلا وتتزوج نساؤهم؟. فأجبت: لا تحل القسمة ولا التزويج إلا إن ثبت ببينة موته أو مضت مدة يعلم أنه لا يعيش إليها ولو بغلبة الظن فلا يشترط القطع بأنه لا

 

ج / 3 ص -386-        يعيش أكثر منها فإذا مضت المدة المذكورة حكم الحاكم بموته وقسم ماله على من كان وارثا له عند الحكم ثم بعد الحكم بموته تعتد زوجته فإذا انقضت عدتها تزوجت، وأما قبل ذلك فلا يحل لها أن تتزوج، وإن غلب على ظنها موته؛ لأن الأصل بقاء حياته حتى يثبت موته نعم لمن أخبرها عدل، ولو عبدا أو امرأة بوفاة زوجها أن تتزوج سرا؛ لأن ذلك خبر لا شهادة ولا تمكن من ذلك ظاهرا، وأما قول بعضهم قد يقال: إذا ساغ لها اعتماده، وعلمنا ذلك اتجه جواز اعتماده ظاهرا أيضا ففيه وقفة كما قاله الأذرعي أي: لأن ذلك إنما جاز لها سرا للضرورة فلو جوزناه لها ظاهرا لكنا مبطلين لعصمة محققة الثبوت بمجرد ظن لم يعتضد بما يقويه من حكم أو تمام نصاب أو نحوهما، وبهذا يتضح رد تلك المقالة، وأن المعتمد خلافها، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

باب الوصية
وسئل عمن قال في مرض موته عبدي حر بعد موتي أو عتيق كذلك بثلاثة أيام مثلا وثمر أرضي الفلاني أو استغلال أرضي الفلاني وصية له مثلا وإن سرق أو سافر من بلدنا أو ناكر أهله ما هي له ما حكمه؟. فأجاب: بأن قوله لقنه ما ذكر في السؤال في حكم الوصية له فيعتق بعد الموت بثلاثة أيام، ويستحق الثمر أو الغلة، ويكون كل من عتقه، وما وصى له به من الثلث فإن وفى بهما فذاك أو بأحدهما فقط قدم عتقه، وبطلت وصيته، وإن لم يف الثلث بكل عتق منه قدر الثلث وصارت الوصية لمن بعضه حر، وبعضه للوارث، وأما اشتراطه عليه أنه متى سرق أو سافر أو ناكر أهله لا حق له في الوصية فهو صحيح نظير ما قالوه فيما لو قال أوصيت لفلان بكذا إلا أعطى ولدي كذا فإن وجد الشرط استحق الوصية، وإلا فلا. ثم رأيت جمعا من المتقدمين والمتأخرين صرحوا بصحة تعليق الوصية بالشروط منهم الصيمري في شرح الكفاية وصاحب التنبيه، والماوردي، وابن الرفعة في المطلب، وتبعهم القمولي فقال: تعليقها بالشرط كأوصيت له بكذا إن تزوج بنتي أو إن رجع من سفره وتعليقها بمرضه كإن مت في مرضي هذا فأعطوا فلانا كذا أو فسالم حر فإن برئ، ومات بغيره بطلت، وعبارة الماوردي لو أوصى بعتقها على أن لا تتزوج عتقت على الشرط فإن تزوجت لم يبطل العتق، والنكاح؛ لأن عدم الشرط يمنع من إمضاء الوصية، ونفوذ العتق يمنع من الرجوع فيه لكن يرجع عليها بقيمتها، ويكون ميراثا، ولو طلقها الزوج لم تستحق استرجاع القيمة، ولو أوصى لأم ولده بألف على أن لا تتزوج أعطيت الألف فإن تزوجت استرجع منها بخلاف العتق انتهت. وفيها التصريح بأن الوصية تقبل التعليق، والشرط، وبه يرد قول التدريب أنها تقبل التعليق دون الشرط اللهم إلا أن يحمل على شرط ينافي مقتضاها، وبه يرد أيضا ما في الرافعي في الوقف عن القفال مما يقتضي أنها لا تقبل التعليق أيضا، والفرق

 

ج / 3 ص -387-        بينهما أن التعليق ما دخل على أصل الفعل بأداته كان، وإذا، والشرط ما جزم فيه بالأصل، وشرط فيه أمرا آخر إذا تقرر ذلك اتضح ما ذكرته في الجواب عن صورة السؤال، وعلم أنه المنقول المعتمد، ووقع لبعضهم إفتاء مستند إلى كلام الروضة في الهبة يخالف ظاهره ما تقرر، وسيعلم رده مما سأذكره، وعند وجود السرقة أو نحوها مما شرط عدمه يسترجع الموصى به له منه إن بقي بيده أو بيد من باعه مثلا فإن تلف رجع الورثة عليه بمثله في المثلي وقيمته في المتقوم. ولو أوصى لآخر بعين وقال إلا مات قبل البلوغ عادت لوارثي فقد ذكر في باب الهبة ما يؤخذ منه حكم ذلك، وهو أنه يصح عقد العمرى لا شرطها ففي أعمرتك هذا أو وهبته لك أو جعلته لك عمرك فإذا مت عاد إلي أو إلى وارثي صح العقد لا الشرط فإذا قبل المعمر وقبض ملكه، فيتصرف فيه كيف شاء فإذا مات فهو لورثته ثم لبيت المال ولا يجوز تعليق العمرى إلا بموت المعمر كإذا مت فهو لك عمرك، فيكون وصية فإن زاد، وإن مت عاد إلي أو إلى ورثتي أو إلى فلان فهو وصية بالعمرى على صورة الحاكم السابقة ا هـ. فافهم قولهم، فيكون وصية وقولهم فهي وصية الخ، صحة الوصية في الصورة الأولى، وموته بعد موت الموصي قبل البلوغ لا يوجب عودها لورثة الموصي كما تقرر في العمرى من فساد الشرط فيها مع صحة العقد. ولو قال أوصيت له بهذه إلا بلغ مثلا وبمنفعتها قبل البلوغ فإن مات قبله فهي لوارثي فيؤخذ مما مر تقييد الوصية بالعين بما بعد البلوغ فإذا بلغ ملكها وقبل البلوغ إنما يملك منفعتها فقط وقوله: فإن مات قبله لوارثي باطل لما مر نعم يشترط بلوغه قبل موت الموصي أخذا من قولهم: متى دخلت الدار فأنت مدبر اشترط حصول الدخول في حياة السيد كسائر الصفات المعلق عليها فإن مات السيد قبل البلوغ فلا تدبير إذا علمت ذلك فلا ينافي هذا ما مر من صحة تعليق الوصية بالشرط، ولزومه؛ لأن الشروط ثم لا تنافي موضوع الوصية، وهنا تنافيها إذ موضوعها ملك العين، والتصريف، وأنها لا تعود لورثة الموصي بشرط عودها لهم لا لموجب من الموصى له فكان الشرط باطلا مع القول بصحتها نظير ما مر في العمرى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل فيما لو قال أوصيت بكذا وكذا واجب كفارة ولم يعين في وصيته أنه كفارة يمين ولا غيرها مثلا وذلك القدر لا يبلغ كفارة يمين أو يزيد عليها ولا يبلغ تمام ثانية كيف صرفها مثلا والحال أن في عرف الموصي أن ذلك يصرف على غير القانون الشرعي بينوا ذلك فقد صرح بعضهم بأنه يحمل على الواجب، وبعضهم بأنه يحسب من رأس المال إن لم يقل على سبيل الاحتياط، وإلا فمن الثلث فلو عرف بالقرائن من الموصي إرادة الاحتياط ما حكمه؟. فأجاب: بأن الذي يتجه في ذلك أنه يجب إخراج تلك الكفارة التي أوصى بها من رأس المال ما لم يصرح بأنها للاحتياط ولا أثر للقرائن ولا للعرف في ذلك ولا لكون الكفارة الموصى بها تبلغ كفارة يمين أو تزيد عليها أو تنقص عنها لاحتمال أنه كان عليه كفارات، وأخرج بعضها، وبقي بعضها، ويلزمه صرفها على الفقراء، والمساكين لكل مسكين

 

ج / 3 ص -388-        مد؛ لأن هذا هو الأغلب في الكفارات فليحمل لفظه عليه أما إذا صرح بأن أمره بإخراج تلك الكفارات إنما هو على سبيل الاحتياط فإن كان الاحتياط واجبا كانت من رأس المال أيضا، وإن كان احتياطا مندوبا كانت من الثلث، وإن شك فالذي يظهر انصرافه إلى المندوب؛ لأنه المتبادر من لفظ الاحتياط، ويحتمل انصرافه للواجب احتياطا لبراءة الذمة.
وسئل عن رجل أوصى وصية، وضمن مكتوب الوصية بإشهاد شرعي أنه في عام كذا أوقف جميع ما بيده إذ ذاك من العقار بمكة، وحده على أولاده لصلبه الثلاثة، وهم فلان وفلان وفلان بالسوية عليهم ثم من بعدهم على أولادهم، وأولاد أولادهم، وذريتهم، ونسلهم، وعول على مكتوب وقف سابق مؤرخ في العام المذكور أعلاه ثم إن الرجل الموصي انتقل بالوفاة إلى رحمة الله سبحانه وتعالى ولم يوجد مكتوب الوقف المعول عليه في تركته، وحصل نزاع بين الورثة في الوقف المتضمن بكتاب الوصية فهل هذا الإشهاد الصادر منه في حال مرضه الذي توفي فيه صحيح أم لا؟. وهل يخرج الوقف من الثلث أم لا؟. وهل إذا عول على مكتوب الوقف كما ذكر أعلاه، وفقد عمل بإشهاده الثاني بالوقفية كما ذكر بكتاب وصيته أم لا؟. فأجاب: بأنه إذا أقر في حال مرضه بوقف سابق على المرض صح إقراره؛ لأن الإقرار ليس تبرعا حتى يعتبر من الثلث، وإنما هو إخبار عن حق سابق فوجب العمل به سواء أكان لوارث أم أجنبي فلا تدخل الأعيان التي أقر بوقفيتها في التركة بل تكون مستحقة للموقوف عليهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عما لو أوصى بنخلة على مسجد مثلا وأخرى على مكان آخر بمسجد آخر ساقية مملوكة على القول بصحته ثم نسي الشهود أو بعضهم دون النصاب معين كل فهل يأتي هنا ما ذكروه فيما لو اندرس شرط الواقف، وما لو أشكل التقسيط على النشو لجهل مقدار السقي، ولو كانت الوصية لغير جهة كمعينين الوقف على إصلاحها، والحال ما ذكر أو ما الحكم؟. فأجاب: بأن ذلك يحتاج إلى ذكر ما قالوه في الوقف ليتعرف هل يصح تخريج هذه عليه أو لا؟. والذي في الروضة، وغيرها في ذلك أنه لو اندرس شرط الواقف مثلا وجهل الترتيب بين أرباب الوقف أو المقادير بأن لم يعلم هل سوى الواقف بينهم أو فاضل قسمت الغلة بينهم بالسوية إذ لا مرجح. فإن تنازعوا في شرطه ولا بينة صدق ذو اليد بيمينه لاعتضاد دعواه باليد فإن لم يكن لواحد منهم على الوقوف يد أو كان في أيديهم سوى بينهم فإن جهل مستحق الوقف صرف لأقرباء الواقف ثم للمصالح هذا كله حيث لم يكن الواقف أو من يقوم مقامه حيا كما بينه الماوردي، والروياني بما حاصله أن الواقف إن كان حيا عمل بقوله بلا يمين فإن مات رجع لوارثه فإن لم يكن له وارث وله ناظر من جهة الواقف رجع إليه لا إلى المنصوب من جهة الحاكم فإن وجد، واختلفا فهل يرجع إلى الوارث أو إلى الناظر، وجهان رجح الأذرعي منهما الثاني، وفي فتاوى النووي، وإذا قلنا بالأصح أن الوقف يثبت

 

ج / 3 ص -389-        بالاستفاضة لا يثبت بها شروطه، وتفاصيله بل إن كان وقفا على جماعة معينين أو جهات متعددة قسمت الغلة بينهم بالسوية أو على مدرسة مثلا أو تعذرت معرفة الشروط صرف الناظر الغلة فيما يراه من مصالحها ا هـ. وسبقه إلى ذلك ابن سراقة، وغيره لكن قال الأسنوي: هذا الإطلاق ليس بجيد بل الأرجح فيه ما أفتى به ابن الصلاح فإنه قال: يثبت بالاستفاضة أن هذا وقف لا أن فلانا وقفه قال: وأما الشروط فإن شهد بها منفردة لم يثبت، وإن ذكرها في شهادته بأصل الوقف سمعت؛ لأنه يرجع حاصله إلى بيان كيفية الوقف ا هـ. قال الأسنوي: ولا شك أن النووي لم يطلع عليه ا هـ. وتبع الأسنوي على ذلك شيخنا شيخ الإسلام زكريا فقال الأوجه حمل ما أفتى به النووي على ما قاله ابن الصلاح ا هـ. وأنت خبير بأن الفقهاء سووا بين بابي الوقف، والوصية في مسائل كثيرة فلا يبعد أن تقاس مسألة الوصية المذكورة على ما قلناه في مسألة الوقف فيقال: إن كان للموصي وارث رجع إليه فإن لم يكن له وارث رجع إلى وصيه إن كان له وصي فإن وجدا، واختلفا فهل يرجع إلى الوارث أو إلى الوصي احتمالان أرجحهما الثاني على قياس الوجهين السابقين في مسألة الوقف، والراجح منهما فإن لم يكن وارث، ولا وصي قسمت غلة النخلتين بين المسجدين أو المسجد، والضمير المذكور، وهو جسر في وسط النهر يجعل لسده حتى يسقى ما عليه من الأراضي، ويدل لذلك قول النووي في فتاويه السابق أو جهات متعددة قسمت الغلة بينهم بالسوية بل مسألتنا أولى بذلك من مسألة النووي؛ لأن بعض الجهات يحتمل أن يكون استحقاقه متأخرا عن بعض، ومع ذلك لم ينظروا إليه بل سووا بينها حذرا من الترجيح بلا مرجح، ومسألتنا نتحقق أن واحدة من النخلتين مستحق لهذه، وواحدة مستحقة لهذا فاستحقاقها متيقن، وإنما شككنا في المعين فكان حملها على التساوي الذي ليس فيه إلا فوز إحداهما بزيادة على حصتها من حصة الأخرى أولى من مسألة الوقف التي فيها احتمال ذلك واحتمال أن إحدى الجهات فاز بما لا يستحق فيه شيئا بالكلية. فإن قلت: يمكن الفرق بأن مسألة الوقف تحقق فيها أن لكل واحد من المعينين أو الجهات حقا في هذا الوقف المشكوك في شروطه، وإنما الشك في تعجيل استحقاقه، وتأخره بخلاف مسألة الوصية فإنا نتحقق أنه ليس لكل من الجهتين حق في كل من النخلتين المشكوك فيهما فيلزم على التساوي هنا إعطاء واحدة من الجهتين شيئا لا استحقاق لها فيه بوجه لا متقدما ولا متأخرا بخلافه في مسألة الوقف فإن غاية ما يلزم عليه تعجيل حق المتأخر وهذا الحق كما لا يخفى قلت: محتمل لكن يمكن أن يجاب بأن بعض الجهات في مسألة الوقف قد يتصور أنه لا يستحق شيئا في هذا الوقف بأن يكون استحقاقه مشروطا بانقراض غيره إلى ذهاب عين الوقف، والقسمة بينهما على السواء فاستوت المسألتان، ويكفي في الجامع بينهما أن كلا يحتمل فيه إعطاء من لا يستحق، وتنقيص حق من يستحق وهذا جامع صحيح يكفي مثله في صحة القياس. وأما تخريج هذه المسألة المشار إليه في السؤال على ما قالوه في الزكاة من أن ما يسقى بنحو المطر

 

ج / 3 ص -390-        والدولاب سواء واجبه ثلاثة أرباع العشر فإن غلب أحدهما قسط باعتبار عيش الزرع أو الثمر، ونمائه لا بعدد السقيات فلو كانت مدته ثمانية أشهر، وسقى في ستة أشهر من الشتاء، والربيع مرتين بالمطر، وفي شهرين من الصيف ثلاثة بالنضح، وجب ثلاثة أرباع العشر، وربع نصفه فإن جهل المقدار أو الغالب فثلاثة أرباعه فغير صحيح؛ لأن وجوب ثلاثة أرباعه عند الجهل إنما هو لأجل تقدير التساوي؛ لأن الأصل عدم زيادة أحدهما على الآخر ولا حد للنقص عن التساوي يرجع إليه فقدرنا التساوي احتياطا وقيل: الواجب نصف العشر؛ لأن الأصل براءة الذمة من الزائد، ويرد بما ذكرته، وبه يتضح ما تقرر من أن مسألتنا لا يصح تخريجها على هذه؛ لأن الذي في هذه تعلق به حق المستحقين لكن شككنا في قدر حقهم فقدرنا التساوي احتياطا لهم؛ لأن الغارم متحد، والمغروم عنه كذلك بخلاف مسألتنا فإن المستحق فيها جهتان متمايزتان، والمستحق عينان كذلك فلا يلزم من الحمل على التساوي في مسألة الزكاة للاحتياط الحمل عليه في مسألة الوصية على أنه لو سلم الحمل عليه في مسألة الوصية كان موافقا لما قررته في قياسها على مسألة الوقف، وعلى مسألة الزكاة فكل منهما يقتضي ما يقتضيه الآخر لا أنه يقتضي خلافه، وعلم مما قدمته أنه لا فرق في مسألة الوصية بين أن تكون لجهتين أو لمعينين أو لجهات أو لمعينين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عن الوصي بتفرقة الكفارة هل له أن يأخذ لنفسه من ذلك مثلا ويتولى الطرفين؟. فأجاب: بأنه لا يجوز له أن يأخذ لنفسه شيئا مما أوصى له بتفرقته سواء الكفارة، وغيرها فقد قال الشافعي: رضي الله تعالى عنه في الأم إذا قال الرجل: ثلث مالي لفلان يضعه حيث يراه الله سبحانه وتعالى فليس له أن يأخذ لنفسه شيئا كما لا يكون له لو أمره أن يبيع شيئا أن يبيعه من نفسه؛ لأن معنى بيعه يكون مبايعا، وهو لا يكون مبايعا إلا لغيره وكذا معنى يضعه يعطيه لغيره وكذلك ليس له أن يعطيه وارثا للميت؛ لأنه إنما يجوز له ما كان يجوز للميت فلما لم يكن للميت أن يعطيه لم يجز لمن صيره إليه أن يعطي منه من لم يكن له أن يعطيه قال رضي الله تعالى عنه: وليس له أن يضعه فيما ليس فيه للميت نظر ولا يكون له أن يحبسه عند نفسه ولا يودعه غيره؛ لأنه لا أجر للميت في هذا، وإنما الأجر للميت أن يسلك في سبل الخير التي يرجى أن تقربه إلى الله عز وجل. قال رضي الله تعالى عنه: فاختار للموصى إليه أن يعطيه أهل الحاجة من قرابة الميت حتى يعطي كل رجل منهم دون غيرهم فإن إعطاءهم أفضل من إعطاء غيرهم لما ينفردون به من صلة الميت قرابتهم، ويشتركون به أهل الحاجات في حاجاتهم وقرابته ما وصفت من القرابة من قبل الأب، والأم معا وليس الرضاع قرابة، وأحب له إن كان له رضعاء أن يعطيهم دون جيرانه؛ لأن حرمة الرضاع تقابل حرمة النسب. ثم أحب أن يعطي قرابته الأقرب منهم فالأقرب، وأقصى الجوار فيها أربعون دارا من كل ناحية ثم أحب له أن يعطيه لفقير ممن يجد، وأشده تعففا، وانكسارا ولا يبقي في يده منه شيئا يمكنه أن يخرجه ساعة من نهار ا هـ. كلام الأم، وهو مشتمل على

 

ج / 3 ص -391-        فوائد نفيسة فلذا أحببت ذكره برمته ليستفاد ما اشتمل عليه، ويوافقه قول الروضة لو قال: ضع ثلث مالي حيث رأيت أو فيما أراك الله لم يكن له وضعه في نفسه ا هـ. وبكلام الأم، والروضة يعلم أنه لو قال فرق هذه الدراهم للفقراء مثلا وهو فقير أو للمساكين مثلا وهو مسكين لم يكن له الأخذ منها، وهو أحد وجهين ذكرهما الشيخ أبو حامد، وغيره بلا ترجيح. فإن قلت: فهل للموصي طريق في الأخذ قلت: نعم بأن يعزل نفسه، فيأخذه الناظر العام، وهو القاضي أو نائبه، فيجوز له حينئذ أن يعطي من كان وصيا فإن قلت: لا يحتاج لعزله نفسه بل حيث فرق القاضي أو نائبه جاز له إعطاؤه قلت: ممنوع؛ لأنه لا ولاية للقاضي مع وجود الوصي فعلم أن بقاءه على وصيته من غير قادح فيه مانع للقاضي من التصرف وله من الأخذ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عما إذا تواطأ شخص مثلا وآخر على أن يوصي للآخر بشيء مثلا ويرده على أحد ورثته ثم أوصى فمات ثم مات الموصى له قبل الرد فهل الموصى به لورثة الموصى له أو لورثة الموصي مثلا ولو أراد الموصى له أن يرد لكن قد مات المتواطئ على الرد عليه مثلا وخلف ورثة وقلنا أن للموصى له الرد على المورث لا الوارث ما حكمه؟. فأجاب: بأنه حيث صحت الوصية للموصى له بأن وجدت فيها شروطها المعروفة، ومنها أن يقبلها الموصى له بعد موت الموصي فإذا قبلها حينئذ ملكها ملكا تاما ولا عبرة بمواطأته مع الموصي على أنه يرد على أحد ورثته فإذا مات الموصى له كان الموصى به لورثته لا لورثة الموصي، ولو أراد الموصى له أن يفي بما واطأ عليه الموصي جاز له الرد إلى أحد ورثة الموصي، وإلى وارث ذلك الأحد لكن لا يكفي قوله رددت ذلك عليك بل لا بد من إيجاب وقبول؛ لأنه تمليك جديد لما قلناه من أن الموصى له ملك الموصى به ملكا تاما فلا يخرج عن ملكه إلا بصيغة تفيد التمليك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رضي الله تعالى عنه عن وصي شاهد على طفل بموصى به لآخر في مخلف إلى هذا الطفل لا شاهد به غيره هل له تنفيذ هذه الوصية أم لا؟. فأجاب: بأن الوصي حيث علم أن الميت أوصى بشيء لإنسان وصية صحيحة وكان يخرج من الثلث جاز له بل وجب عليه دفعه له لكن لا يجوز له ذلك ظاهرا؛ لأنه لا يقبل قوله في ذلك، وإنما يلزمه ذلك باطنا حيث لم يخش من ضرر يلحقه بسبب ذلك، وإذا لم يلزمه دفعها إلى الموصى له لزمه إمساكها وعدم التصرف فيها حتى يكمل المحجور عليه ثم يعلمه بالحال ليبرأ من عهدتها هذا ما يظهر من كلامهم، وذلك؛ لأنهم جعلوا الوصي في مال الموصى عليه متصرفا له بالمصلحة وهذا من المصلحة كما أنه لو خاف على المال من استيلاء ظالم جاز له تخليصه بشيء منه. قال الأذرعي: ومن هذا ما لو علم أنه لو لم يبذل شيئا لقاضي سوء لانتزع منه المال، وسلمه لبعض خونته، وأدى ذلك إلى استئصاله، ويجب أن يتحرى في أقل ما يمكن أن يرضى به الظالم، والظاهر تصديقه إذا نازعه المحجور عليه بعد رشده في بذل

 

ج / 3 ص -392-        ذلك، وإن لم تدل عليه القرائن قال، ويقرب من هذا قول ابن عبد السلام يجوز تغييب مال اليتيم، والسفيه، والمجنون لحفظه إذا خيف عليه الغصب كما في قصة الخضر عليه الصلاة والسلام، وبحث الأذرعي هنا أنه لا يصدق في فعله ذلك لهذا الغرض إلا إن دلت الحال على صدقه، والفرق بين هذا، وتصديقه فيما مر ذكرته في شرح الإرشاد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عمن أوصى بقراءة ختمة أو أكثر هل يجوز أن يكون القارئ في الختمات واحدا أو لا بد من جماعة وهل يجوز الاقتصار على ختمة واحدة أو لا وهل يكون القارئ الموصى به أم لا؟. فأجاب: بأن الذي يتجه أخذا من كلامهم سيما كلام ابن الصلاح في فتاويه الذي ذكرته في أوائل المسائل السابقة أنه إن كان في زمن الموصي عادة مطردة في قراءة تلك الختمة أو الختمات وجب على الوصي أن يعمل بما اطردت به العادة، وإن لم يكن ثم عادة كذلك جاز أن يكون القارئ واحدا سواء أكان الموصى به ختمة أم أكثر ثم إن كان لفظ الموصي أوصيت بقراءة ختمة كان الواجب قراءة ختمة واحدة أو أوصيت بقراءة ختمات كان الواجب ثلاث ختمات، وإذا عين الوصي واحدا أو أكثر للقراءة فقبل وقرأ ملك الموصى به.
وسئل عما إذا أوصى لمن بات يقرأ على قبره هل له النوم إذا غلبه فإن قلتم: نعم فهل يقضي ما فاته مثلا وإذا ترك ليلة بات الموصي في القبر سهوا أو عمدا هل يقضي أم لا؟. فأجاب: بأن الذي يتجه كما يشهد له قياس نظائره أن من أوصى لمن بات يقرأ على قبره لا يجب على الموصى له استيعاب الليل بالقراءة، وإنما الذي يلزمه إحياء أكثره بالقراءة، وحينئذ فإن أحيا الأكثر جاز له نوم الباقي سواء أغلبه النوم قبل أن يحيي الأكثر أم لا فإنه يجوز له النوم لكن يلزمه قضاء مثل ذلك الزمن الذي فوته وكذلك يلزمه القضاء لو ترك المبيت ليلة كاملة سواء أكان عامدا أم ساهيا فإن لم يتصور القضاء بأن استغرقت الوصية جميع الليالي حسب عليه ما فوته من جامكيته، ويدل لذلك ما أفهمه كلام النووي في فتاويه، وبه صرح ابن الصلاح من أن المدرس أو نحوه لو عطل التدريس أياما في الشهر حسب عليه من جامكيته، وما نقل عن ابن عبد السلام مما يخالف ذلك ضعيف. فإن قلت: أفتى البرهان المراغي بأن من حبس ظلما عن مباشرة مثلا وظائفه استحق جامكية مدة حبسه قلت: ما أفتى به ضعيف، والقياس خلافه، ومن ثم عرض ما أتى به على التاج الفزاري فامتنع من موافقته كما ذكره جامع فتاوى التاج المذكور، وغيره ثم رأيت الزركشي نقل عن التاج أنه أفتى بأن من تولى وظيفة، وأكره على عدم مباشرتها استحق المعلوم ثم قال الزركشي: والظاهر خلافه؛ لأنها جعالة، وهو لم يباشر ا هـ. ويجمع بينه، وبين ما قبله بأن يكون التاج ممن لم يوافق البرهان أو لا ثم وافقه، ومع ذلك فما قالاه ضعيف، والمعتمد خلافه كما تقرر، والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

ج / 3 ص -393-        وسئل رضي الله تعالى عنه ما حكم الفرار، والمجيء من مكان الطاعون، وإليه وهل حكم مكانه في بيوت الجيران كحكم مكانه في قرية أخرى وهل صح أنه وخز من الجن، وإذا خص في قرية في الصغار، ونادرا في الكبار هل يكون التبرع في حق من لم يصبه من الثلث إذا مات وقت الطاعون به أو بغيره؟. فأجاب بقوله: الأصل في امتناع الفرار من الطاعون قوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 243] الآية، وقد اختلف المفسرون في سبب فرارهم، وأحسن الطرق، وأقواها أن فرارهم كان بسبب الطاعون، وفي مدة موتهم فقيل: سبعة أيام وقيل: ثمانية وقيل: شهر، وقيل: أكثر منه بحيث بليت أجسادهم، ويؤيده رواية الطبراني أنهم رجعوا وقد توالدت ذريتهم، وفي عددهم، ومعظم الروايات أنهم كانوا أربعة آلاف وصوب الطبري أنهم كانوا أزيد من عشرة آلاف؛ لأن الألوف جمع كثرة، وتبعه جمع. وأكثر ما قيل: أنهم ست مائة ألف، ومن غرائب التفسير أن ألوف جمع آلف كجلوس جمع جالس فليس فيه نص على العدد بل على تألف قلوبهم، وفي الآية دليل كما قاله الرازي على أن الله سبحانه وتعالى كره فرارهم من الطاعون، وهو نظير قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب: 16] وقوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]، وفي امتناع الدخول إلى مكانه حديث الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل، وعلى من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه". وفي الصحيحين أيضا أن عمر رضي الله تعالى عنه خرج إلى الشام فلما قرب منها أخبر أن بها طاعونا فاستشار المهاجرين الأولين فرأى بعضهم الدخول ليتم ما خرجوا إليه، وبعضهم عدمه خوفا على من معهم من الصحابة فقال: ارتفعوا عني ثم دعا الأنصار فاختلفوا كذلك فقال: ارتفعوا عني ثم دعا مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، وهم الذين أسلموا قبل الفتح فحصل لهم فضل بالهجرة قبله إذ لا هجرة بعده فأجمع رأيهم على الرجوع من غير اختلاف فنادى عمر بذلك في الناس فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله فقال عمر: أوغيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة، والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله سبحانه وتعالى فجاء عبدالرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حوائجه فقال: إن عندي في هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه" فحمد الله سبحانه وتعالى عمر رضي الله تعالى عنه ثم انصرف. واختلف العلماء في الخروج من البلد الذي وقع به الطاعون مثلا والقدوم عليه،

 

ج / 3 ص -394-        وظاهر كلام ابن عبد البر، والقاضي عياض المالكيين أن النهي في ذلك للتحريم ثم زاد الثاني أن أكثر العلماء على ذلك، وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: هو كالفرار من الزحف، وعلى ذلك جرى إمام الأئمة من أصحابنا ابن خزيمة فإنه ترجم في صحيحه باب الفرار من الطاعون من الكبائر، وأن الله سبحانه وتعالى يعاقب من وقع منه ذلك ما لم يعف عنه، واستدل بحديث عائشة في ذلك يعني قوله صلى الله عليه وسلم: "الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف" رواه الإمام أحمد، والطبراني، وابن عدي، وغيرهم. ومن ثم قال التاج السبكي، وتبعه المحققون: مذهبنا، وهو الذي عليه الأكثر أن النهي عن الفرار منه للتحريم وكلام النووي في شرح مسلم صريح في تحريم القدوم على بلد الطاعون كالفرار منه فإنه قال بعد تلك الأحاديث السابقة، وفي الأحاديث منع القدوم على بلد الطاعون، ومنع الخروج منه فرارا من ذلك أما الخروج لعارض فلا بأس به وهذا الذي ذكرنا هو مذهبنا، ومذهب الجمهور. وقال القاضي، وهو قول الأكثرين حتى قالت عائشة رضي الله تعالى عنها الفرار منه كالفرار من الزحف ومنهم من جوز القدوم عليه، والخروج عنه فرارا أي: وهو المشهور من مذهب مالك ثم قال: والصحيح ما قدمناه من النهي عن القدوم عليه، والفرار منه ا هـ. ويؤخذ من قوله: أما الخروج عنه لعارض فلا بأس به أن الخروج بقصد التداوي جائز، وهو ظاهر، ومن قوله: والخروج عنه فرارا أن محل الخلاف في الخروج عنه لأجل الفرار فمذهبنا، ومذهب الجمهور الحرمة، ومذهب مالك الكراهة، وبذلك يرد قول التاج السبكي: ليس محل النزاع فيمن خرج فارا من قضاء الله تعالى فذلك شيء لا سبيل إلى القول بأنه غير محرم بل الظاهر أن محل النزاع فيما إذا خرج للتداوي ا هـ. ووجه رده ما تقرر من أن خروجه للتداوي ينبغي أن يكون جائزا بلا خلاف كما أفاده كلام شرح مسلم، ومن أن محل الخلاف فيمن خرج للفرار كما أفاده كلام شرح مسلم أيضا نعم إن اقترن بقصد الفرار قصد أن له قدرة على التخلص من قضاء الله، وأن فعله هو المنجي له فواضح أن ذلك حرام بل كفر اتفاقا بخلاف قصد الفرار فقط فإنه محل الخلاف وقد مر عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله وليس في كلامه تأييد للمالكية؛ لأنه لم يفر من محل الطاعون ثم رأيت بعض المحققين من متأخري الشافعية اعترض ما مر عن التاج السبكي فقال عقب ما مر عنه هذا ليس بظاهر؛ لأن الخروج للتداوي ليس حراما في مذهب الشافعي، وجماعة وقد صح أن الخروج حرام فكيف محله ما إذا خرج للتداوي، والخروج للتداوي ليس بمحرم بل العبارة الصحيحة أن يقول: محل النزاع فيما إذا خرج فارا من المرض الواقع مع اعتقاده أنه لو قدره عليه لأصابه، وأن فراره لا ينجيه لكن يخرج مؤملا أن ينجو هذا الذي ينبغي أن يكون محل النزاع فمن منع احتج بالنهي، ومن أجاز حمل النهي على التنزيه ا هـ. وهو كلام حسن، والحاصل أن من خرج لشغل عرض له أو للتداوي من علة به طعن أو غيره فلا يختلف في جواز الخروج له

 

ج / 3 ص -395-        لأجل ذلك، ولو عرضت له حاجة للخروج، وانضم لذلك قصد الفرار فالذي اقتضاه كلام أئمتنا في فروع متعددة الحرمة؛ لأن قصد المحرم وجد، وانضمام القصد الجائز له لا يمنع إثمه فهو نظير ما لو قرأ الجنب بقصد القرآن، والذكر، وما لو قال في الصلاة: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} [مريم: 12] أو سبحان الله بقصد القرآن، وتنبيه الغير فإن الصلاة تبطل نظرا لقصد التنبيه، وإن انضم إليه قصد القرآن، وبهذا يظهر لك أنه لا فرق هنا بين أن يغلب قصد الفرار أو الحاجة أو يتساويا فالحرمة موجودة في الأحوال الثلاثة خلافا لبعض المالكية، ومحل النظر إلى قوة الباعث، وضعفه فيما إذا جاز القصدان لكن أحدهما يقتضي الثواب، والآخر يقتضي عدمه كقصد الوضوء، والتنظيف أو التبرد على أن النظر هنا لقوة الباعث إنما هو رأي الغزالي. وأما ابن عبد السلام فإنه يغلب قصد نحو التبرد هنا، وإن ضعف فلا ثواب عنده مطلقا، واعلم أن بعض العلماء ذهب إلى أن النهي عن الخروج تعبدي؛ لأن الفرار من المهالك مأمور به وقد نهي عنه في هذه الصورة فهو لسر لا نعلمه، وذهب كثير من العلماء إلى أنه معلل إما بالطاعون إذا وقع في البلد عم جميع من فيه بمداخلة سببه فلا يفيده الفرار منه بل إن كان أجله قد حضر فهو ميت، وإن رحل، وإلا فلا، وإن أقام فتعينت الإقامة لما في الخروج من العبث الذي لا يليق بالعقلاء، وإما بأن الناس لو تواردوا على الخروج لبقي من وقع به الطاعون عاجزا عن الخروج فضاعت المرضى لفقد من يتعهدهم، والموتى لفقد من يجهزهم. وإما بأن خروج الأقوياء فيه كسر لقلوب من لا قوة له على الخروج، وإما بأن الخارج يقول: لو لم أخرج لمت، ويقول المقيم: لو خرجت لسلمت، فيقعون في اللو المنهي عنه مع ما في الخروج من الفرار من حكم الله، وعدم الصبر المأمور به، والإعراض عما في الإقامة من الأجر الكبير إذ للميت به أجر شهيد وكذا للمقيم صابرا محتسبا، وإن لم يمت به وقال ابن عبد البر النهي عن الخروج للإيمان بالقدر، وعن القدوم لرفع ملامة النفس. وقال ابن العربي حكمة منع القدوم أنه تعالى أمر أن لا يتعرض أحد للحتف، وإن كان لا نجاة من قدر الله مع الصيانة عن الشرك لئلا يقول الداخل: لو لم أدخل لم أمرض، وغيره لو لم يدخل فلان لم يمت. وقال ابن دقيق العيد الذي يترجح عندي في الجمع بين النهي عن الفرار، والنهي عن القدوم أن القدوم عليه تعرض للبلاء ولعله لا يصبر عليه، وربما كان فيه ضرب من الدعوى لمقام الصبر، والتوكل فمنع ذلك لاغترار النفس، ودعواها ما لا تثبت عليه عند التحقيق، وأما الفرار فقد يكون داخلا في باب التوغل في الأسباب متصورا بصورة من يحاول النجاة مما قدر عليه، ويشير إلى ما قررته قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموه فاصبروا" فأمرهم بترك التمني لما فيه من التعرض للبلاء، وخوف الإضرار بالنفس، وأمرهم بالصبر عند الوقوع تسليما لأمر الله سبحانه وتعالى. ا هـ. وخرج بالفرار من محل الطاعون الفرار من أرض الوباء فإنه جائز بالإجماع كما قاله الجلال السيوطي، وعبارته الوباء غير الطاعون، والطاعون أخص من الوباء وقد اختص أي: الطاعون بكونه شهادة

 

ج / 3 ص -396-        ورحمة، وبتحريم الفرار منه، وهو من الوباء بغيره كالحمى، ومن سائر أسباب الهلاك جائز بالإجماع، وما أشار إليه من الفرق بين الوباء، والطاعون هو ما عليه الأكثرون خلافا لبعض المالكية حيث زعم أنه هو. وسيأتي إيضاح الفرق بينهما، وتردد بعضهم فيما لو كانت الأرض التي وقع بها الطاعون وخمة، والأرض التي يريد التوجه إليها صحيحة فتوجه إليها بهذا القصد، ونقل غيره أن من السلف من منع نظرا إلى صورة الفرار، ومنهم من أجاز نظرا إلى أنه مستثنى من عموم الخروج فرارا؛ لأنه لم يتمخض الفرار ا هـ. والذي يتجه ترجيحه على قواعدنا أنه إن خرج بقصد التداوي أو حاجة أخرى جاز أو بقصد الفرار، ولو مع قصد التداوي أو غيره حرم كما مر، والذي يظهر أنه لو عم إقليما لم يحرم الخروج من بعض قراه إلى بعض؛ لأنه لا فرار حينئذ ألبتة، وأنه لو خص محلة من بلدة ولم يوجد منه شيء في بقية محلات تلك البلد كان حكم المحلة حينئذ كحكم البلد المستقل، فيحرم الخروج منها فرارا، والدخول إليها أي: لغير حاجة كما هو ظاهر هنا، وفيما مر؛ لأنه إذا جاز الخروج لحاجة جاز الدخول قياسا إذ لا يظهر بينهما فرق في ذلك فإن قلت: ينافي هذا ما مر من أنه إذا وقع في البلد عم جميع من فيه بمداخلة سببه. قلت: لا منافاة؛ لأن ما قلناه من أن المحلة ليست كالبلد فيما إذا تحققنا اختصاصه بها، وتحققنا أنه لم يوجد شيء من أسبابه في بقية البلد فحينئذ يحرم لغير أهل تلك المحلة دخولها لغير حاجة، والخروج منها بقصد الفرار، وأما إذا لم نتحقق ذلك فحكم بقية البلد حكم تلك المحلة؛ لأن الغالب أنه إذا وقع في بلد عم جميع من فيه بمداخلة سببه، والحاصل أنه متى تحقق اختصاصه بمحل من بلد، وتحقق أنه لم يوجد شيء من أسبابه في بقية تلك البلد كان ذلك المحل كبلد مستقلة، فيحرم الدخول، والخروج إليه بقيدهما السابق، وأنه متى لم نتحقق ذلك لم يكن له حكم مغاير لذلك البلد. وسيأتي بحث الزركشي أن الساكن قريبا من بلد الطاعون لا يعطى حكمها، وبه يعلم أن لمن قرب من بلده ولم يدخلها الرجوع، ولو بقصد الفرار، وهو ظاهر كما أفهمته التعاليل السابقة في حكمة منع الدخول، والخروج، ومر عن عمر رضي الله تعالى عنه ما يؤيد ذلك، وهو قوله: نفر من قدر الله إلى قدر الله، وهو صريح فيما قلناه. وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فناء أمتي بالطعن، والطاعون فقيل: يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون قال: وخز أعدائكم من الجن، وفي كل شهادة". وروى أحمد، وغيره عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فقال: "غدة كغدة الإبل المقيم فيها كالشهيد، والفار منها كالفار من الزحف"، وسندها حسن في رواية للطبراني عنها: الطاعون شهادة لأمتي، ووخز أعدائكم من الجن يخرج في الآباط، والمراق، والفار منه كالفار من الزحف، والصابر فيه كالمجاهد في سبيل الله، وقوله: يخرج في المراق، والآباط هو باعتبار الغالب كما قاله غير واحد من أهل العلم وقد يخرج في الأيدي، والأصابع، وحيث شاء الله من البدن قال الخليل، وغيره، وهو الوباء، والأصح أنه غيره، ومن ثم قال القاضي عياض:

 

ج / 3 ص -397-        أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض فسميت طاعونا لشبهها بذلك، وإلا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونا، وجرى على الفرق بينهما أيضا ابن سينا، وغيره من حذاق الأطباء ففسروا الطاعون بأنه مادة سمية تحدث ورما قتالا تحصل في مغابن البدن، والرخو منه، وسببه دم رديء مائل إلى العفونة، والفساد يستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو، ويؤدي إلى القلب كيفية فيحدث القيء، والغثيان، والغشي، والخفقان، وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردأ ما يقع في الأعضاء الرعشة. قال أعني: ابن سينا، والطواعين تكثر عند الوباء، وفي البلاد الوبية، ومن ثم أطلق على الطاعون أنه وباء بالعكس قال، وأما الوباء فهو فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح، ومدده ا هـ. فعلم أن الطاعون أخص من الوباء، ويدل له حديث الصحيحين: على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال مع حديثهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قدمنا المدينة، وهي أوبى أرض الله، فعلم منه أن الوباء يدخلها دون الطاعون فكان غيره، ومما يفارقه فيه خصوص سببه الذي لم يرد في شيء من الأوباء نظيره، وهو كونه من طعن الجن وكونه من طعنهم لا يخالف ما مر عن الأطباء أنه ينشأ عن مادة سمية أو هيجان الدم أو انصبابه إلى عضو أو غير ذلك؛ لأنه لا مانع أن يحدث عن الطعنة الباطنة، فيحدث منها المادة السمية أو يهيج بسببها الدم أو ينصب، وعذر الأطباء في عدم تعرضهم لكونه من طعن الجن أن ذلك أمر لا يدركه العقل، وإنما يتلقى من الشارع فتكلموا على ما ينشأ عن ذلك الطعن بقدر ما اقتضته قواعد علمهم. على أن ابن القيم أبطل القول بأنه ينشأ من فساد الهواء بأمور منها أنه يقع في أعدل الفصول، وفي أصح البلاد هواء، وأطيبها ماء، ومنها أنه لو كان من الهواء لعم الناس، والحيوانات، وربما كثر عند اعتداله وقل عند فساده ولدام في الأرض؛ لأن الهواء يصح تارة، ويفسد تارة، والطاعون يأتي على غير قياس ولا تجربة ولا انتظام فربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ عدة سنين، ومنها أن كل داء تسبب من الأسباب الطبيعية له دواء من الأدوية الطبيعية على ما صح في الحديث وهذا الطاعون قد أعيا الأطباء دواؤه حتى سلم حذاقهم أنه لا دواء له إلا الذي خلقه وقدره ا هـ. قال شيخ الإسلام في فتح الباري: يقع في الألسنة، وهو في نهاية ابن الأثير تبعا لغريبي الهروي بلفظ: وخز إخوانكم من الجن، ولم أره بلفظ إخوانكم بعد التتبع الطويل البالغ في شيء من طرق الحديث المسندة لا في الكتب المشهورة ولا الأجزاء المنثورة وقد عزاه بعضهم لمسند أحمد، والطبراني أو كتاب الطواعين لابن أبي الدنيا ولا وجود لذلك في واحد منها، وجرى على ذلك أيضا في كتاب بذل الماعون فقال: ما حاصله جميع ما وقفت عليه من الروايات بلفظ: وخز أعدائكم أو بلفظ: طعن أعدائكم، وقول الزركشي، وفي لفظ أحمد: إخوانكم غلط في المتن، والسند ثم ذكر روايات المسند، ومعجم الطبراني وليس ذلك في شيء منها. ثم هو صاحب آكام المرجان في أحكام الجان، وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الله الشبلي

 

ج / 3 ص -398-        الدمشقي الحنفي من تلامذة المزي، والذهبي في الحديث في ذكره ذلك عن مسند أحمد وكتاب الطواعين لابن أبي الدنيا. ثم ذكر أنه لم ير بلفظ إخوانكم في شيء من كتب الحديث ولا من كتب الغريب إلا في كتاب الغريبين للهروي، والنهاية لابن الأثير ثم على تقدير صحة لفظ: إخوانكم فالجمع بينهما، وبين أعدائكم أمور الأول أن الأخوة في الدين لا تنافي العداوة؛ لأن عداوة الجن للإنس بالطبع، وإن كانوا مؤمنين. الثاني أن رواية أعدائكم في طعن الكافرين منهم للمسلمين منا، ورواية إخوانكم في طعن المسلمين منهم للكافرين من الإنس الثالث أن كلا من اللفظين يفيد ما يفيده الآخر فحيث جاء بلفظ أعدائكم فهو على عمومه إذ لا يقع الطعن إلا من عدو في عدوه، ويكون الخطاب لجميع الإنس فإن الطعن يكون من كافري الجن في مؤمني الإنس أو من مؤمني الجن في كافري الإنس، ويؤيده حديث: أنه شهادة للمسلمين، ورجز على الكافرين، وحيث جاء بلفظ إخوانكم فهو على عمومه أيضا لكن المراد به أخوة التقابل كما يقال: الليل، والنهار أخوان أو أخوة التكليف فإن الجن، والإنس هما الثقلان بنص القرآن لاستوائهما في التكليف، وهو المراد بزاد إخوانكم من الجن فإنه زاد للمؤمن، والكافر جميعا ثم في تسليط الجن على الإنس بالطعن حكمة بالغة فإن أعداءنا منهم شياطينهم. وأما المطيعون منهم فهم إخواننا، والله تعالى أمرنا بمعاداة أعدائه من الفريقين فأبى أكثر الناس إلا مسالمتهم فسلطهم الله عليهم عقوبة لهم حيث أطاعوهم فيما أمروهم به من معاصيه، وأما من لم يطعهم فهو شهادة لهم، ورحمة وهذه سنة الله سبحانه وتعالى في العقوبات تقع عامة فتكون طهرا للمؤمنين، وانتقاما من الفاجرين، وإنما مكن الجني من طعن المؤمن مع أنه محروس بالمعقبات من بين يديه، ومن خلفه إرادة للخير به، ونيلا لدرجة الشهادة كما مكن عدوه الظاهر منه لذلك مع أنه في أكثر أوقاته ممنوع منه بالرعب تارة، وبالقوة، والنصر أخرى ولا ينافي كونه وخز الجن وقوعه في رمضان كما هو مشاهد بل ربما كان فيه أكثر منه في غيره؛ لأن الشياطين، وإن كانت تصفد، وتغلغل كما صح في الحديث إلا أنه ليس فيه أن أعمالها تبطل بالكلية، وإنما الذي يحصل لها بذلك المنع من معظم العمل. والجواب بأنه يحتمل أنهم طعنوا قبل دخوله ولم يظهر إلا بعد دخوله، ويحتمل أن تصفيدهم إنما هو عما يأثم به الآدمي من تحسين الفجور ليقع فيه، وأما هذا فالمرتب عليه ثواب فلا يمنعون منه كما لا يمنعون من الاحتلام على أن تصفيدهم فيه استشكل من جهة أخرى، وهي وجود المعاصي الكبائر، وغيرها فيه، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون المصفدون منهم مسترقي السمع فقط، وأن تسلسلهم يقع في لياليه فقط، ويحتمل أن المراد أنهم لا يخلصون فيه إلى إفساد المسلمين مثل ما يخلصون في غيره لاشتغال المسلمين بالصوم القامع للشهوات، وبالقراءة، والذكر، ويحتمل أن المصفد بعضهم لا كلهم، وهو الأصح للحديث الصحيح: إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين مردة الجن. على أن مردة نعت مخصص أو بدل مخصص أو بدل بعض من كل، وعليه يحمل

 

ج / 3 ص -399-        إطلاق بقية أحاديث تصفيد الشياطين فعليه يحصل الجمع بأن الوخز يقع في رمضان من غير المردة. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فناء أمتي في الطعن والطاعون" إما الطلب لرواية أحمد: اللهم اجعل فناء أمتي في الطاعون، وفي أخرى عند أحمد، وغيره: اللهم اجعل فناء أمتي قتلا في سبيلك بالطعن، والطاعون أو الخبر لقول ابن الأثير في النهاية أراد أن الغالب على فناء الأمة الفتن التي تسفك فيها الدماء، والوباء، وبه يندفع استشكال الحديث بأن أكثر الأمة يموتون بغير الطعن، والطاعون. ويندفع أيضا الجواب عنه بأن المراد بالأمة الصحابة أو الخيار قال الجلال السيوطي: وما قاله ابن الأثير صحيح بلا شك فإنه إذا استقرئ الأمر وجد من يموت بالطاعون أكثر ممن مات بينه، وبين الطاعون الذي قبله فكيف إذا انضم إلى ذلك القتل في الجهاد، وفي الفتن ولم يقصد صلى الله عليه وسلم بذلك على أنه للدعاء الدعاء على أمته بالهلاك، وإنما المراد منه حصول الشهادة لهم بكل من الأمرين، والموت حتم لا بد منه فكان القصد جعل ذلك سببا للموت الذي قدره الله سبحانه وتعالى أو دعا بذلك ليكون كفارة لما يقع بين الأمة من العداوة كما ورد أن القتل لا يمر بذنب إلا محاه لا محالة، وبذلك علم الجواب عن استشكال الدعاء بالشهادة مع استلزامه تمكن الكافر من المسلم، وهو معصية، وتمني المعصية حرام، ووجه الجواب أن المطلوب قصدا إنما هو نيل الدرجة الرفيعة المرتبة على الشهادة التي هي سبب لدفع الكفار، وإذلالهم، وإعلاء كلمة الإسلام.، وأما فعل الكافر فهو من ضرورة الوجود فليس منظورا إليه، واعلم أن شهيد الطاعون ملحق بشهيد المعترك ففي حديث سنده حسن: يأتي الشهداء، والمتوفون بالطاعون، فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء فيقال: انظروا فإن كانت جراحاتهم كجراح الشهيد أي: تسيل دماؤهم، وريحهم كريح المسك فهم شهداء، فيجدونهم كذلك، وفي حديث صحيح: تختصم الموتى، والمتوفون على فرشهم إلى ربنا جل جلاله في الذين يموتون بالطاعون، فيقول الشهداء: إخواننا قتلوا كما قتلنا، ويقول المتوفون على فرشهم: إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى جراحاتهم فإن أشبهت جراحات المقتولين فإنهم منهم فإذا جراحهم أشبهت جراحهم. وقضية حديث البخاري في كتاب الطب، والقدر أن أجر الشهيد إنما يكتب لمن لم يخرج من بلد الطاعون، وأقام قاصدا ثواب الله سبحانه وتعالى راجيا صدق وعده عارفا أنه إن وقع له أو صرفه عنه فهو بتقدير الله غير متضجر به إن وقع به، وظاهر الحديث أيضا أن من وجدت فيه تلك الصفات يحصل له أجر الشهيد، وإن مات بغير الطاعون، واستشكل كونه شهادة، ورحمة بأنه صح أنه قرن بالدجال وصح أنه لا يدخل مكة ولا المدينة، وأجيب بأنه لما كان من طعن الجن لم يدخلهما إشارة إلى أن كفار الجن، وشياطينهم ممنوعون من دخولهما أو من التسليط على أهلهما صيانة من الله سبحانه وتعالى لهم حتى من مؤمني الجن بناء على وقوع الطعن منهم أيضا ولم يذكر أحد قط أنه وقع بالمدينة طاعون أصلا خلافا لما يوهمه كلام القرطبي وكذا مكة، ومن حكى أنه دخلها

 

ج / 3 ص -400-        فقد تجوز، وأطلق الطاعون على الوباء، وإذا وقع الطاعون في بلد كان حكم أهلها في التصرف كحكم المريض مرض الموت سواء من أصابه، ومن لم يصبه كما صححه الشيخان كالبغوي، وإن نازعهما الزركشي في ذلك، وأطال نعم إنما يكون مخوفا في حق من لم يصبه إن وقع في أمثاله كما صرح به صاحب الكافي حيث قال: وإذا وقع في البلد في أمثاله فهو مخوف على أصح الوجهين قال الأذرعي: وقوله في أمثاله قيد متعين كما شوهد في الطواعين السابقة، واللاحقة من طواعين السلف طاعون الأشراف، وطاعون الفتيان، وشوهد في عصرنا في وقت في الأطفال، وتارة في النساء، وتارة في الشباب دون الشيوخ. ا هـ، وتبعه الزركشي فقال: ينبغي أن يكون موضع كونه مخوفا في حق من لم يصبه ما إذا وقع الطاعون في أمثاله فإن وقع في الأطفال مثلا فيشبه أن لا يكون مخوفا في حق البالغين، وإلى ذلك يشير كلام صاحب الكافي فإنه قال: إن أصابه مخوف، وإن وقع في أمثاله فهو مخوف على أصح الوجهين فقوله في أمثاله قيد حسن لا بد منه وقد تختلف الطواعين الواقعة في كل عصر فيعتبر في كل وقت بحسبه ا هـ. قال أعني: الزركشي، وسكتوا عن فروع: أحدها الساكن قريبا من بلد الطاعون دون مسافة القصر هل يعطى حكم بلد الطاعون، والظاهر أن حكمهم حكم الأصحاء في تبرعاتهم. الثاني الواردون من بلد الطاعون إلى بلد ليس بها، والظاهر أن حكمهم حكم البلد الذي انتقلوا عنه؛ لأنهم بصدد أن يقع بهم ذلك لما قد علق بأجسادهم منه كما شاهدنا ذلك كثيرا فيحسب تبرعهم من الثلث إذا حصل الموت بذلك الداء بعد التبرع ا هـ. وذكر فرعا ثالثا مبنيا على ضعيف لا حاجة لنا بذكره، وطاعون الأشراف الذي ذكره الأذرعي كان في زمن الحجاج سمي بذلك لكثرة من مات فيه من أشراف الناس، وطاعون الفتيان كان بالبصرة سنة سبع، وثمانين من الهجرة سمي بذلك لكثرة من مات فيه من النساء الشواب، والعذارى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رضي الله تعالى عنه في شخص قال في مرض موته يفعلون لي كذا وكذا بمثناة من تحت ولم يعلم إلى من يشير من يكون الوصي مثلا وإذا زاد مثلا ويكون النظر لفلان هل يكون هو الوصي؟. فأجاب: إذا قال: يفعلون لي كذا ولم يعلم إلى من يشير فلا وصي له فإن قال: ويكون النظر لفلان لم يثبت لفلان نظر؛ لأنه إنما يتصور حيث عرف الوصي، وهو هنا مجهول، والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسألة: شخص مرض بالاستسقاء المخوف فأعتق في مرض موته أمة ثم عقد عليها ولم يدخل بها ثم ملكها حليا ذهبا وفضة مجهول القدر مثلا والثمن ثم مات فهل العتق مثلا والتزويج صحيح أم لا؟. وهل ترث المعتوقة المذكورة من معتقها، ثم دبر عبيدا له مثلا وجواري مثلا وملك أحدهم حملين فهل التمليك مثلا والتدبير صحيح أم لا؟. وإذا لم يحتمل الثلث ذلك تنفذ أم لا؟. الجواب: إن خرجت من الثلث بان صحة نكاحها، وعتقها، وإذا لم يدخل بها فلا مهر لها إن

 

 

ج / 3 ص -401-        أدى وجوبه إلى ثبوت دين على الميت كأن كانت قيمتها مساوية لثلثه؛ لأن وجوبه حينئذ يؤدي إلى رق بعضها لعدم خروجها من الثلث فبطل النكاح، والمهر فكان إثبات المهر مؤديا إلى عدم إثباته فسقط أما إذا خرجت من ثلثه مع وجوب المهر فإنه يجب لها إذ لا مانع من وجوبه حينئذ، وعلى كل تقدير فلا ترث منه بالزوجية شيئا سواء أدخل بها أم لا؟. وما ملكه لها إن خرج من الثلث أيضا فازت به. وإن خرج بعضه فازت بذلك البعض، وإن لم يخرج منه شيء توقف نفوذ الوصية به كالبعض في المسألة التي قبل هذه على إجازة الورثة بشروطها ولا يضر جهل قدره، وثمنه فتطالب بإحضاره، وينظر إلى قدره وقيمته وقت الموت ثم ما فضل من ثلثه عن قيمتها وقيمة الحلي الذي ملكه لها ينظر فيه فإن وفى بقيمة المدبرين كلهم عتقوا بموته، وإن لم يفضل شيء لم يعتق منهم شيء، وإن فضل ما لا يفي بجميعهم أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة عتق منه ما يفي بالثلث سواء أكان شقصا من واحد أم أكثر هذا كله إن لم يجز الورثة، وإلا عتق من أجازوا له ممن لم يخرج من الثلث فعلم أن لهم إجازة بعض من لم يخرج من الثلث دون بعض، وتمليك أحدهم الحملين إن نزل منزلة الوصية بأن قال: ملكته إياهما بعد موتي صح، وإلا بأن قال: ملكته إياهما ولم يقل بعد موتي لغا فيما يظهر أخذا من إطلاقهم بطلان تمليك السيد عبده، ولو مدبرا وقولهم: التبرعات المنجزة في المرض كالهبة منزلة منزلة الوصية، محله إذا كانت مع من يصح منه قبولها كما هو ظاهر بخلاف المدبر في مسألتنا فإنه لا يصح منه قبولها قبل الموت لبقاء رقه فكانت ملغاة. وفيما إذا صحت بأن قال بعد موتي لكون الوصية بذينك الحملين متأخرة في الاستحقاق عن رتبة الموصى له بهما فلا يستحق منهما شيئا حتى يعتق جميعه ثم بعد عتق جميعه يوزع ما بقي من الثلث على الحملين، وعلى بقية المدبرين كما يدل عليه كلامهم، وإن لم أر من صرح به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل ادعى وارث وصي صرف مورثه ما تحت يده على محجوره فهل يصدق؟. فأجاب بقوله: نعم يصدق؛ لأن مورثه لو ادعى الإنفاق عليه المحتمل صدق فكذلك هو؛ لأنه خليفته، ويشهد له تصديق وارث الوديع في الرد لمورثه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رضي الله تعالى عنه في شخص أسند وصيته في حال صحته مثلا وسلامته لرجل جعله وصيا على بيع تركته مثلا ووفاء ديونه ثم قال: وصيته ولم أعلم أن عندي دينارا ولا درهما إلا ما في البيت من الأثاث، والكتب فاسأل وصيي إن لم يخلصني جميع ذلك أن يخلصني من عنده ثم قال: فإن أبقى الكتب لما أعلم من غيرته عليها فالوصية بها لعقبي أو لعقبه فإن انقرضوا فالمرجع خزانة المغاربة برباط سيدنا عثمان رضي الله تعالى عنه ثم توفي إلى رحمة الله تعالى بعد مدة عن الأثاث، والكتب، وعن بيت تجدد له ملكه بعد الوصية فباع الوصي الأثاث، وسد به بعض الدين، وبقي بعض الدين فهل قول الموصي فإن أبقى الكتب الخ. وصية

 

ج / 3 ص -402-        بوقفها على تقدير وفاء الدين من غيرها وقد حصل ذلك؛ لأن في البيت وفاء، وزيادة، وحينئذ، فيضم ما بقي من ثمن البيت بعد، وفاء بقية الدين إلى قيمة الكتب فإن حصل ما يحتمل ثلثه الكتب خرجت وقفا أو الحكم غير ذلك؟. فأجاب بقوله: ليس قول الموصي ما ذكر وصية بوقفها؛ لأنه لا دلالة فيه على ذلك من كلامه لا صريحا ولا كناية بل قوله: الوصية بها لعقبي الخ. صريح في عدم إرادة وقفها، ودال على إرادة الوصية بمنافعها لعقبه أو عقب الوصي ثم من بعدهما لمن يريد الانتفاع بها في خزانة المغاربة المذكورة ولو لا إتيانه بأو في قوله: لعقبي أو عقبه لقلنا: إن ذلك وصية بمنافعها إن خرجت من ثلثه لمن ذكر كذلك أخذا من كلامهم على الوصية بالمنافع لكنه لما أتى بأو صار كلامه لغوا أما قوله: فالوصية بها لعقبي أو عقبه فأخذا من قول أصحابنا يشترط في الموصى له أن يكون معينا كالموقوف عليه حتى يمكن تمليكه؛ لأن الوصية تمليك للعين، والمنفعة أو لأحدهما، والوقف تمليك للمنفعة فلا تصح الوصية لأحد الرجلين أو لفلان مثلا وهناك من يشاركه في الاسم لإبهام الموصى له، والمبهم لا يمكن تمليكه وكذلك لا يصح الوقف على أحد الرجلين أو على فلان، وهناك من يشاركه في الاسم لما ذكر، وفي قول ضعيف يصح الوقف، وعليه فبحث جماعة أنه يرجع إلى تعيين الواقف فوارثه وقياس ذلك صحة الوصية أيضا على هذا القول، وعليه، فيرجع إلى تعيين الموصي ثم وارثه ولا شك أن الوصية أو الوقف لزيد أو عمرو كالوصية أو الوقف لأحد هذين بجامع إبهام الموصى له، والموقوف عليه في كل منهما فكما صرحوا بالبطلان في أحد هذين فكذلك نقول بالبطلان في هذا أو هذا لوجود الجامع المذكور، وعدم ظهور فارق كما هو جلي فإن قلت: هذا ظاهر إن جعلت أو هنا للشك من المتكلم أو للإبهام على السامع أو للتخيير بين المعطوفين سواء امتنع الجمع بينهما أم جاز وقصر ابن مالك، وغيره التخيير على الأول وسموا الثاني بالإباحة وليس المراد الإباحة الشرعية؛ لأن الكلام في معنى أو بحسب اللغة بل الإباحة بحسب العقل أو العرف أما إذا جعلت لمطلق الجمع كالواو في قوله:

وقد زعمت ليلى بأني فاجر                     لنفسي تقاها أو عليها فجورها

أي: وعليها فجورها أو لتقسيم الكلي إلى جزئياته نحو الكلمة اسم أو فعل أو حرف أي: منقسمة إلى الثلاثة تقسيم الكلي إلى جزئياته، فيصدق على كل منها أو الكل إلى أجزائه نحو ثنتان صدور رماح أشرعت أو سلاسل في قول الحماسي:

وقالوا لنا ثنتان لا بد منهما                    صدور رماح أشرعت أو سلاسل

أو للإضافة كبل نحو: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] أي: بل يزيدون وقيل: هي هنا بمعنى الواو، وعلى الأول فوجه جواز الإضراب في كلامه تعالى أنه أخبر عنهم بأنهم مائة ألف بناء على حزر الناس مع كونه تعالى عالما بأنهم يزيدون ثم ذكر التحقيق مضربا عما

 

ج / 3 ص -403-        يغلط فيه الناس بناء منهم على ظاهر الحزر أي: أرسلناه إلى جماعة يحزرهم الناس مائة ألف، وهم كانوا يزيدون على ذلك وكذا قوله تعالى: {كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] فلا يتجه حينئذ القياس على أحد هذين؛ لأنه نص في الإبهام وهذا أعني: أوصيت لهذا أو هذا ليس كذلك لما تقرر أن أو على كل من هذه المعاني الثلاثة تفيد جواز الجمع بينهما أو تعين الثاني بناء على أنها للإضافة قلت: لنا في الجواب عن ذلك مسلكان أحدهما أنا لو تنزلنا، وسلمنا أن أو موضوعة لكل من تلك المعاني السابقة فهذا أعني: الحمل على أنها لمطلق الجمع أو ما بعده إنما يتعين حيث علم مراد المتكلم إما بتصريح منه بذلك أو قرينة تبين أن مراده ذلك دون غيره من بقية معانيها أما إذا جهل مراد المتكلم كما في صورة السؤال فإن الموصي مات ولم يعلم مراده بأو ولا قامت قرينة ظاهرة على أنه أراد بها مطلق الجمع أو نحوه فلا يجوز حملها على ذلك؛ لأنه ترجيح من غير مرجح فإن قلت: يرجحه أن كلام المكلف ينبغي صونه عن الإبطال، والإفساد ما أمكن كما صرح به الأئمة في مواضع من كتاب الوقف، وغيره قلت: محل هذا الصوت ما لم يكن الكلام ظاهرا في الوجه المقتضي لفساده، وإلا وجب الأخذ بظاهره، والإعراض عن التكلفات البعيدة التي لا يعول عليها في مثل ذلك، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأن أو فيه ظاهرة في أنها لتخيير الموصي الوصي في الصرف لعقبه أو عقب الوصي، ولو كان التكلف لصرف اللفظ عن ظاهره سائغا لتكلفوا وقال في أحد هذين إنه خير الوصي في الصرف لمن شاء منهما فلما أعرضوا عن ذلك، وأخذوا بظاهر اللفظ، ومدلوله من الإبهام المتعذر معه التمليك كما مر كان قياسه الإعراض عن التكلف في صرف أو عن ظاهرها في مثل ذلك من التخيير أو نحوه كما سيتضح، والأخذ بظاهرها المقتضي للإبهام المتعذر معه التمليك أيضا على أن تجويز الإضراب في صورة السؤال في غاية البعد إذ العادة قاضية بإحالة أن الإنسان يقصد الإضراب عن إعطاء عقبه، والحكم بإعطاء عقب غيره على أنه ممتنع صناعة؛ لأنها إذا أتت للإضراب لا يكون بعدها إلا الجمل ولا تكون حينئذ حرف عطف بل حرف استئناف قاله الرضي وكذلك التقسيم؛ لأنه يستدعي سبق مقسم سابق حتى تكون أو مقسمة له إلى جزئياته أو أجزائه فلم يبق إلا احتمال كونها لمطلق الجمع كالواو وقد مر امتناع الحمل عليه؛ لأنه خلاف الظاهر من معانيها ولم تقم عليه قرينة قوية حتى تكون مقوية للحمل عليه، وبما تقرر علم أن هذا المعنى هو الذي يحتاج عنه بخلاف التقسيم، والإضراب لما تبين من استحالتهما، وبخلاف نحو التخيير، والشك فإن هذه تقتضي ما قلناه من البطلان فلم يبق من معانيها ما يحوج للجواب عنه غير احتمال كونها لمطلق الجمع وقد علمت مما تقرر الجواب عنه بأنه خلاف الظاهر من معانيها لندرته، وعدم تبادره منها ولم تقم عليه قرينة قوية حتى تكون مرجحة للحمل عليه ويأتي عنه جواب آخر ثانيها أنا لا نسلم أن أو موضوعة بطريق الأصالة والحقيقة المتبادرة لكل مما ذكر من المعاني السابقة التي من

 

ج / 3 ص -404-        جملتها كونها لمطلق الجمع ففي الكشاف أوائل البقرة أو في أصلها موضوعة لتساوي شيئين فصاعدا في الشك ثم اتسع فيها فاستعيرت للتساوي في غير الشك ثم أوضحه بالتمثيل له، وحاصله أن معناها الحقيقي الشك، وأن كلا من التخيير، والإباحة معنى مجازي لها، وأنها تستعمل في غير الخبر بالمعنى المجازي فقط، وفي الخيرية، وبالحقيقي أيضا، وفي المفصل أن كلمة أو لأحد الأمرين مطلقا، وهو صريح في أن معناها هذا يعم جميع مواردها في الإنشاء، والإخبار، وفي أن أو للتشكيك، والإبهام، والتخيير، والإباحة ليس شيء منها داخلا في مفهومها بل يستفاد من مواقعها في الكلام باعتبار السياق وقرائن الأحوال، وما اختاره في الكشاف مبني على تبادر الشك منها في الخبر، ويوافق ما تقرر في معنى كلام المفصل قول السعد التفتازاني في التلويح في نحو جالس الحسن أو ابن سيرين الإباحة، والتخيير قد يضافان إلى صيغة الأمر أي: لأن صيغة الأمر قد تأتي للإباحة كما في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وقد يضافان إلى كلمة أو والتحقيق أن كلمة أو لأحد الأمرين أو الأمور، وأن جواز الجميع، وامتناعه إنما هو بحسب محل الكلام، ودلالة القرائن ا هـ. وقد حرر ذلك الرضي أتم تحرير فقال: وقالوا: إن لأو إذا كان في الخبر ثلاثة معان الشك، والإبهام، والتفصيل، وإذا كان في الأمر فله معنيان التخيير، والإباحة، الشك إذا أخبرت عن أحد الشيئين ولا تعرفه بعينه، والإبهام إذا عرفته بعينه وتقصد أن تبهم الأمر على المخاطب ثم قال: والتفصيل إذا لم تشك ولم تقصد الإبهام إذا عرفته بعينه، وتقصد أن تبهم الأمر على المخاطب ثم قال: والتفصيل إذا لم تشك ولم تقصد الإبهام على السامع كقولك: هذا إما أن يكون جوهرا أو عرضا إذا قصدت الاستدلال على أنه جوهر لا غير أو على أنه عرض لا غير أو على أنه لا هذا ولا ذاك. وأما في الأمر فإن حصل للمأمور بالجمع بين الفعلين فضيلة، وشرف في الغالب فهي للإباحة نحو تعلم الفقه أو النحو، وإلا فهي للتخيير نحو اضرب زيدا أو عمرا، والفرق بينهما أن الإباحة يجوز فيها الجمع بين الفعلين، والاقتصار على أحدهما، وفي التخيير يتحتم أحدهما ولا يجوز الجمع هذا ما قيل: وينبغي أن يعرف أن جواز الجمع بين الأمرين في نحو تعلم العلم إما النحو أو الفقه لم يفهم من إما، وأو بل ليستا إلا لأحد الشيئين في كل موضع، وإنما استفيدت الإباحة مما قبل العاطفة، وما بعدها معا؛ لأن تعلم العلم خير، وزيادة الخير خير بدلالة أو وأما في الإباحة، والتخيير، والشك، والإبهام، والتفصيل على معنى أحد الشيئين أو الأشياء على السواء وهذه المعاني تعرض في الكلام لا من قبل أو وإما بل من قبل أشياء أخر فالشك من قبل جهل المتكلم، وعدم قصده إلى التفصيل، والإبهام، والتفصيل من حيث قصده إلى ذلك، والإباحة من حيث كون الجمع تحصل به فضيلة، والتخيير من حيث لا يحصل به ذلك ثم بين أنها في الاستفهام لا تحتمل شيئا من المعاني المذكورة، وفي التمني يجوز فيه الجمع، وفي التحضيض، والعرض كالأمر في الإباحة، والتخيير بحسب القرينة قال ولما كثر استعمال أو في الإباحة التي معناها جواز الجمع جاز استعمالها بمعنى الواو ثم قال بعد أمثلة ذكرها: فلفظة أو في جميع الأمثلة موجبة

 

ج / 3 ص -405-        كانت أو لا. مفيدة لأحد الشيئين أو الأشياء ثم قال: فلم تخرج أو عن معنى الوحدة التي هي موضوعة له ا هـ. وإذا تأملت كلامه هذا الموافق لما مر عن التلويح، والمفصل من أن أو إنما هي موضوعة في كل موضع من مواضعها بطريق الحقيقة لمعنى الوحدة فهي لأحد الأمرين أو الأمور، وجواز الجمع، وامتناعه إنما هو بحسب محل الكلام، ودلالة القرائن كما بينه الرضي بما لا مزيد عليه في التحقيق كما يظهر بتأمله علمت اتجاه ما قلناه من أن أوصيت بهذا لزيد أو عمرو باطل كقوله: لأحد هذين لما تقرر من أن معنى أو ومعنى أحد متقاربان بل متحدان باعتبار الأصل في أو، وإذا بان أن قوله: فالوصية بها لعقبي أو عقبه لغو باطل لما تقرر أن قوله: فإن انقرضوا فالمرجح خزانة المغاربة باطل أيضا؛ لأن المفرع على الباطل باطل، ويؤيد ذلك قول الشيخين، وغيرهما بناء على أنه يشترط لصحة الوقف قبول البطن الأول من الموقوف عليهم فإن رد البطن الأول بطل الوقف قطعا كالوصية، والوكالة ا هـ. وأيضا فالمعطوف على الباطل باطل كما صرحوا به، ومن ثم لو قال: نساء العالمين طوالق، وأنت يا زوجتي طالق لم يقع عليه طلاق فكذلك قوله: فإن انقرضوا الخ. إما مفرع أو معطوف على ما قبله، وهو باطل، فيكون هو باطلا أيضا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عما إذا كان لأيتام قاصرين مال صار إليهم من والدهم ولم يكن لهم حاجز شرعي بوصاية من والدهم ولا بإقامة من حاكم شرعي فباع ذلك عنهم أخوهم الأكبر المتولي لأمرهم الذاب عنهم بطريق الحماية، والرعاية، والخلالة، والحنو، والشفقة، واشترى ذلك منه إنسان آخر بثمن اتفقا عليه، واعترف البائع المشار إليه عند الإشهاد عليه بالبيع المذكور بأنه قبض الثمن من المشتري بتمامه وكماله من غير حيلة في ذلك قبضا صحيحا شرعيا مبرئا لذمة المشتري من جميع الثمن، ومن كل جزء منه براءة صحيحة شرعية براءة قبض بطريق الوصاية الشرعية على إخوته المذكورين من والدهم، وبأن الثمن المعقود به ثمن المثل لذلك، وبأن للأيتام المذكورين الحظ، والمصلحة، والغبطة في بيع ذلك بالثمن المذكور حسبما اعترف البائع المذكور بذلك رعاية لما يظهر به صحة البيع المذكور كما جرت عادة الموثقين باسترعاء مثل ذلك، وتسطيره في الوثائق رعاية لما سبق ذكره، وثبت ذلك عند حاكم شرعي شافعي، وحكم بموجبه ثم توفي المشتري عن ورثة مستوعبين لميراثه شرعا ثم ادعى الأيتام المبيوع عليهم بعد بلوغهم، ورشدهم أن البيع المذكور ليس بصحيح، وطالبوا ورثة المشتري بالمبيع المذكور لكون البيع وقع من غير ثبوت مسوغاته الشرعية التي منها كون البائع وصيا أو قيما، ومنها وجود الحظ، والمصلحة لهم في ذلك، ومنها أن الثمن ثمن المثل لذلك، وإنما عول في ذلك كله على اعتراف البائع به على الصورة المشروحة أعلاه ولم يصدر إذن من حاكم شرعي في بيع ذلك فهل دعوى الأيتام، ومطالبتهم بما ذكر مسموعة أم لا؟. وهل يكفي لصحة البيع المذكور اعتراف البائع بالمسوغات المذكورة أم لا؟. وإذا لم تجد ورثة المشتري بينة شرعية تشهد بأن البائع كان حين البيع وصيا أو قيما مثلا وبوجود بقية المسوغات الشرعية إذ

 

ج / 3 ص -406-        ذاك فهل يتبين بطلان البيع، وبقاء المبيع في ملك الأيتام، واستحقاقهم لانتزاع ذلك من ورثة المشتري أم لا؟. وإذا تبين ذلك، وانتزع الأيتام المبيع المذكور بالطريق الشرعي بمسطور، وأراد ورثة المشتري الرجوع بالثمن على البائع أو صدق الأيتام على صحة البيع، وطالبوا بالثمن فادعى البائع أن اعترافه بقبض الثمن لم يكن عن قبض حقيقة، وأن المشتري لم يدفع له شيئا من الثمن، وأن الثمن باق في ذمة المشتري إلى الآن فهل دعواه بذلك مسموعة لتحليف ورثة المشتري أم لا؟. وإذا قلتم: نعم فهل يقبل جواب ورثة المشتري عن ذلك بأن الأيتام لا يستحقون علينا شيئا من هذا الثمن أو لا نعلم استحقاقهم علينا بشيء من هذا الثمن أو أن مورثنا توفي ولم يبق في ذمته شيء من هذا الثمن، والحال أنهم يصدقون على شراء مورثهم للمبيع المذكور من البائع المذكور بالثمن المذكور، وإذا قلتم: لا يقبل ذلك منهم فماذا يكون كيفية يمين ورثة المشتري المترتبة على الدعوى المذكورة وهل هي على البت بأن اعتراف البائع بالقبض كان بعد وجود حقيقة قبضه للثمن أو بأن مورثهم دفع الثمن كله للبائع أو هي على نفي العلم أي: بأنهم لا يعلمون أن الاعتراف عن غير حقيقة القبض أو لا يعلمون بقاء الثمن في ذمة مورثهم، وما حكم الله في ذلك كله على مذهب الحاكم الشافعي المثبت لمضمون المكتوب المذكور أفتونا مأجورين، وابسطوا لنا الجواب، وأوضحوه أثابكم الله الجنة آمين؟. فأجاب بقوله: أما دعوى الأيتام المذكورين، ومطالبتهم بما ذكر فممنوعة ولا يكفي لصحة البيع المذكور اعتراف البائع بالمسوغات المذكورة بل لا بد من ثبوتها بإقامة بينة تشهد بجميعها مفصلة من أن البائع وصي أو قيم من جهة حاكم شرعي، وأن البيع بثمن المثل، وأن فيه مصلحة للمحجور عليه ولا بد من بيان الشاهد لوجه المصلحة إلا أن يكون فقيها موافقا للقاضي على الأوجه أو باعتراف المدعين بعد بلوغهم، ورشدهم بجميع ما ذكر فإن وجدت بينة أو اعتراف كما ذكر فالبيع صحيح، وإلا فهو باطل ولا نظر لحكم القاضي المذكور في السؤال؛ لأنه إنما حكم بموجب ما ثبت عنده من إقرار البائع، وموجبه الصحة إن ثبت ما ذكرناه، وإلا فالبطلان، وإذا بان بطلان البيع فالمبيع باق على ملك الأيتام، فينزعونه من ورثة المشتري، ويرجعون عليهم بأرش عيب حدث في المبيع بعد قبض مورثهم إلى حين انتزاعه منهم، وبأجرة المبيع تلك المدة إن صلح أن يؤجر، وإن لم يستعمل ولا كان معدا للاستعمال، وبأقصى ما تلف منه في تلك المدة بزوائده المنفصلة كالولد، واللبن، وغيرهما ولا رجوع للورثة على الأيتام بما أنفقوا على المبيع نعم يرجعون على البائع بما غرموه للأيتام من أجرة منافع، وفوائد لم يستوفوها هم ولا مورثهم بخلاف ما غرموه من بدل ما استوفوه منها فلا رجوع لهم به على أحد؛ لأن منفعته عادت إليهم؛ ولأنهم المباشرون لا للإضافة ثم بعد انتزاع المبيع من ورثة المشتري بالطريق الشرعي الذي تقرر للورثة الرجوع على البائع بالثمن الذي اعترف بقبضه من مورثهم، وأما إذا صدق الأيتام على صحة البيع، وأن البائع وليهم فيقبل إقراره عليهم بقبض الثمن، فيرجعون به عليه لا على ورثة المشتري ولا يقبل قوله

 

ج / 3 ص -407-        بالنسبة إليهم لم يكن إقراري عن حقيقة كما هو ظاهر، وفي الصورتين تقبل دعواه على ورثة المشتري بما ذكر في السؤال لتحليفهم. نعم إن كانت صفة إقراره ما ذكر في السؤال من أنه أقر بقبض الثمن بكماله من غير حيلة في ذلك قبضا صحيحا شرعيا مبرئا لذمة المشتري من جميع الثمن، ومن كل جزء منه إلى آخر ما ذكر في السؤال، وشهد الشهود عليه بأنه تلفظ بجميع ما ذكر أو ببعضه المؤدي معناه فلا تقبل دعواه عليهم حينئذ؛ لأنا إنما قبلنا دعواه لعدم القبض لاحتمال أنه كان أقر به كملا ولأن العادة جرت بأن الوثائق يشهد عليها قبل تحقيق ما فيها وهذا لا يتأتى مع قوله: من غير حيلة في ذلك الخ. لتحليفهم؛ لأنه لا يعتاد في الإقرار عن غير حقيقة أن يذكر فيه ذلك فلا نظر لهذه الدعوى، وإن كانت ممكنة لمخالفتها للعادة كما يصرح به قوله: لو أقر بإتلاف مال ثم قال: أشهدت عازما عليه لم يقبل؛ لأن ذلك لا يعتاد أي: وإن كان ممكنا، وبهذا يعلم أن ما ذكر لا ينافي ترجيح الأذرعي، وغيره من أن من أقر بقبض ممكن ثم قال: أقررت باطلا قبلت دعواه لتحليف المقر له أنه قبض منه، وإن لم يذكر لإقراره تأويلا، ولو كان الإقرار بذلك بعد الدعوى عليه في مجلس القاضي خلافا للقفال، وإن قال: إنه لا يكاد يقر عند القاضي إلا عن تحقيق لشمول الإمكان لذلك هذا كله إن كانت العادة ما ذكرته من أن الإقرار بهذه الصيغة لا يقع مع عدم مطابقته لما في نفس الأمر فإن ثبت أنه معتاد قبلت دعواه للتحليف، ولو مع هذه الألفاظ أما إذا لم يشهد الشهود على المقر بأنه تلفظ بهذه الألفاظ فلا عبرة بوقوعها في خطهم، وتقبل دعوى المقر له لتحليف الورثة مطلقا ثم لا بد في جوابهم، وحلفهم من مطابقتهما للدعوى فإن كانت بصيغة إن إقراري بالقبض باطل كان الحلف بصيغة إن إقراره بالقبض صحيح أو بصيغة إن المشتري لم يدفع لي شيئا من الثمن كانت اليمين بصيغة أن مورثي دفع لك الثمن جميعه أو بصيغة إنكم تعلمون أن إقراري لم يكن عن حقيقة كانت اليمين بصيغة لا نعلم أن إقرارك عن غير حقيقة، ويقاس بما ذكر من الصور ما في معناها وأصل ذلك قول الأصحاب: لا بد في اليمين، والجواب من مطابقتهما للدعوى وقولهم إن اليمين في كل إثبات، وفي كل نفي فعل من نفسه أو مملوكه الذي في يده يكون على البت، وفي نفي فعل غيره يكون على نفي العلم ا هـ. وبما تقرر يعلم الجواب عن جميع ما ذكر في السؤال، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئلت عمن قرأ وهلل مثلا وأذن لآخر أن يدعو الله أن يوصل ثواب ذلك إلى فلان ما الحكم حينئذ أو قرأ مثلا ودعا بإيصال ثواب ذلك لحي ما حكمه، وما حقيقة الثواب الواصل للميت؟. فأجبت بقولي: الدعاء للغير الحي أو الميت بثواب الداعي أو غيره الآذن له لا ينبغي فإن ثواب الإنسان لا ينتقل عنه إلى غيره بالدعاء، فيكون الدعاء بذلك مخالفا للواقع، وهو ممتنع أما الدعاء بحصول مثل ذلك الثواب للغير فلا بأس به؛ لأنه من الدعاء للأخ المسلم بظهر الغيب، والأحاديث دالة على قبوله بهذا، وغيره مع أنه ليس فيه محذور فلم يكن

 

ج / 3 ص -408-        لامتناعه وجه بل لو ذكر الداعي الثواب، ومراده مثله لم يكن فيه امتناع أيضا؛ لأن إضمار مثل في نحو ذلك سائغ شائع ذائع، ومن ثم لو قال: أوصيت لفلان بنصيب ابني صح، وأعطي مثل نصيب ابنه بشرط رعايته لمعنى المثلية المتبادر في مثل ذلك،، وحقيقة الثواب الواصل للميت: هي كل ملائم واصل للروح من نعيمها بالمعارف الإلهية، والمواهب الاختصاصية، والتمكن من دخول الجنة، والتملي بما شاهدته منها، ومجيء رزقها إليها على باب الجنة أو فيها، وهي بقباب نحو اللؤلؤ أو بخيامه أو بأجواف طير خضر أو غير ذلك بحسب تفاوت المقامات، والعنايات ثم المتنعم بهذا النعيم الأرفع الأوسع الأكمل الأفضل هو الروح بطريق الذات، وأما الجسد فهو، وإن كان بالبرزخ يحصل له بعض آثاره؛ لأنه فيه يحس بالنعيم، وضده فللروح من الثواب أعلاه وللجسد منه أدناه، وسره أن حقيقة المعرفة، والتوحيد، وسائر الطاعات الباطنة - والمدار ليس إلا عليها - إنما ينشأ عن الروح فاستحقت أكمل الثواب، وأفضله، وأما غير ذلك من الطاعات الظاهرة فهو بالنسبة إليها كالتبع، والقائم به البدن فاستحق من الثواب أدناه ولا يستبعد إدراكه له مع كونه جمادا لا روح فيه؛ لأنه ليس كالجماد من كل وجه بل له نوع إدراك؛ لأن الروح، وإن كانت بعيدة عنه - إذ أرواح المؤمنين في عليين، وأرواح الكفار في سجين - لكن لها اتصال بالبدن كما أن الشمس بالسماء الرابعة ولها اتصال، وشعاع، وإنارة، ونفع عام بالأرض فبذلك الاتصال الواصل إلى البدن من الروح صار للبدن نوع إحساس، وإدراك فأحس بالنعيم، ونضرته، وابتهج بما يرد عليه من شهوده، ومسرته.
وسئل سؤالا صورته قد وقع الطاعون عندنا بأرض اليمن وأهل اليمن يفرون منه، ويقولون إنه عدوى فهل هو عدوى أو لا؟. وأنا رأينا في شرح مسلم كلاما في الطاعون، وفي إحياء علوم الدين، ونحن نريد الزيادة منكم فالمسئول منكم أن تذكروا لنا ما يحضركم من ذلك في بيان الطاعون، وما يتعلق به حتى نعظ به أهل البلد، والمسئول منكم بسط ذلك جزاكم الله خيرا؟. فأجاب: بأن الكلام على الطاعون مثلا وما يتعلق به كثير، ومن ثم أفرد بتآليف فلنشر هنا إلى ملخصها، وهي تنحصر في مسائل منها الكلام على حقيقته وقد صح عن الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: "
فناء أمتي بالطعن والطاعون فقيل: يا رسول الله الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟. قال: وخز أعدائكم من الجن، وفي كل شهادة"، وفي رواية: وهو شهادة للمسلم. وورد عن عائشة رضي الله تعالى عنها بسند حسن سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فقال: "غدة كغدة الإبل، المقيم فيه كالشهيد، والفار منه كالفار من الزحف"، وفي رواية: "شبه الدمل يخرج في الآباط، والمراق، وفيه تزكية أعمالكم، وهو لكل مسلم شهادة"، وفي أخرى: "الطاعون شهادة لأمتي، ووخز أعدائكم من الجن يخرج في الآباط، والمراق، الفار منه كالفار من الزحف، والصابر فيه كالمجاهد في سبيل الله"، وكونه يخرج في الآباط، والمراق هو الغالب فلذلك اقتصر صلى الله عليه وسلم عليهما وقد يخرج في الأيدي

 

ج / 3 ص -409-        والأصابع كما وقع لمعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه لما روى حديث الطاعون دعا لنفسه ولأهل بيته بالحظ الأوفر منه فطعنوا، وماتوا، وطعن هو في أصبعه السبابة فكان يقول: ما يسرني أن لي بها حمر النعم، ومن ثم قال: النووي في تهذيبه الطاعون مرض معروف، وهو بثر، وورم مؤلم جدا يخرج منه لهيب، ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة بنفسجية كدرة، ويحصل معه خفقان القلب، والقيء، ويخرج في المراق، والآباط غالبا ا هـ. وقال: محققو الأطباء: الطاعون مادة سمية تحدث ورما قتالا يحدث في المواضع الرخوة، والمغابن من البدن، وأغلب ما يكون تحت الإبط، وخلف الأذن أو عند الأرنبة، وسببه دم رديء مائل إلى العفونة، والفساد، فيستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو، ويغير ما يليه، ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فيحدث القيء، والغثيان، والغشي، والخفقان، وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤه ما يقع في الأعضاء الرئيسية، والأسود منه قل من يسلم منه، وأسلمه الأحمر ثم الأصفر، وتكثر الطواعين عند الوباء، وفي البلاد الوبية، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء، وعكسه، وأما الوباء فهو فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح، ومدده ا هـ. وبه يعلم أن الطاعون أخص من الوباء مطلقا فكل طاعون وباء ولا عكس، وبه صرح القاضي عياض، واستدل له وجزم به آخرون، واستدل بعضهم بأنه صح أن المدينة لا يدخلها الطاعون وصح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أوبى أرض الله، وعن بلال أنها أرض الوباء، فيلزم أن الطاعون غير الوباء، وإلا تعارض الحديثان فقول ابن الرتي أنه هو غير صحيح، وإنما تجوز عنه به لكون كل منهما ينشأ عنه كثرة الموت، ويفارقه بخصوص سببه، وهو كونه من طعن الجن، والوباء إنما هو لفساد الهواء الذي ينشأ عنه عموم الأمراض ولا ينافي كون سبب الطاعون طعن الجن ما مر عن الأطباء من أنه ينشأ عن مادة سمية أو هيجان الدم، وانصبابه إلى عضو أو غير ذلك لجواز أن ذلك يحدث عند الطعنة الباطنة التي أخبر بها الصادق فتكلموا على ما ظهر بحسب قواعدهم دون ما بطن؛ لأنه لا يدرك بالعقل قيل: وقد ينشأ الطاعون عن فساد الهواء وهذا قول مزيف كما بينه ابن القيم في هديه بأمور كثيرة منها أنه يقع في أعدل الفصول، وفي أصح البلاد هواء، وأطيبها ماء وباء لا يعم الناس، ولو كان من الهواء لعم بل قد يفني أهل بيت ولا يدخل بيتا يجاورهم، وبأنه قد يقل عند فساد الهواء، ويكثر عند اعتداله، وبأن كل داء بسبب من الأسباب الطبيعية له دواء من الأدوية الطبيعية على ما صح في الحديث: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله والطاعون باعتراف حذاق الأطباء لا دواء له ولا دافع له إلا الذي خلقه وقدره ثم قوله صلى الله عليه وسلم: "فناء أمتي بالطعن، والطاعون" معناه الطلب لما في بعض طرقه عند أحمد من التصريح بذلك بقوله: "اللهم اجعل فناء أمتي بالطاعون"، وفي رواية: "اللهم اجعل فناء أمتي قتلا في سبيلك بالطعن، والطاعون" وقيل: إنه على الخبر لا الدعاء أي: الغالب على فناء الأمة الفتن التي تسفك فيها الدماء، والوباء، ومن زعم أن أكثر الأمة يموتون بغير هذين

 

ج / 3 ص -410-        فقد أخطأ بل أكثرهم يموتون بهما كما صرح به ابن الأثير واستدل غيره بالاستقراء على أن من يموت بالطاعون أكثر ممن يموت فيما بينه، وبين الطاعون الآخر فكيف إذا انضم لذلك القتل الحاصل في الجهاد، وفي الفتن التي لا تنقطع ولا تحصى كثرة، وعموما في أقطار الأرض، وعلى أن ذلك للدعاء فليس القصد به الدعاء على الأمة بالهلاك بل المراد الدعاء لهم بلازم ذلك، وهو حصول الشهادة لهم بكل من ذينك فالقصد الدعاء بجعلهما سببا للموت الذي لا بد منه لا الدعاء بمطلق الهلاك، ومن لازم حصول الشهادة أن ذلك يكون كفارة لما يقع من الأمة لما ورد أن القتل لا يمر بذنب إلا محاه، ومما يؤيد ذلك أن كثيرين من كبار الصحابة، وغيرهم تمنى الشهادة، والموت بالطاعون ولم ينظروا إلى أنها تستلزم تمكين الكافر من قتل المسلم، وهو معصية، وتمني المعصية حرام؛ لأن قصدهم بتمنيها ليس ذلك بل نيل درجتها الرفيعة ولا نظر لفعل الكافر لأنه من ضرورة الوجود ثم ما ذكر من أنه وخز أعدائنا من الجن هو الثابت، وما وقع لابن الأثير تبعا لغريبي الهروي من أنه وخز إخوانكم فمردود بأنه لم يرد في شيء من كتب الحديث بعد التتبع الطويل البالغ، ونسبة الزركشي كغيره ذلك إلى رواية أحمد وهم وكذا نسبته لمسند الطبراني أو كتاب الطواعين لابن أبي الدنيا، وعلى تسليم وروده فلا تنافي؛ لأن أخوتهم في الدين لا تنافي عداوتهم؛ لأنها بالطبع، وإن كانوا مؤمنين أو أن الأولى في طعن كافرهم لمسلمنا، والثانية في طعن مسلمهم لكافرنا أو أن كلا يفيد ما يفيده الآخر إذ لفظ: أعدائكم على عمومه؛ لأن الطعن لا يقع إلا من عدو في عدوه، ويكون الخطاب لجميع الإنس فإن الطعن يكون من كافرهم في مؤمننا أو من مؤمنهم في كافرنا، ويؤيده حديث: أنه شهادة للمسلم، ورجز على الكافر، ولفظ: إخوانكم على عمومه أيضا لكن المراد به أخوة التقابل كما في -الليل، والنهار والشمس والقمر أخوان- أو أخوة التكليف فإنه يعمهم أيضا وهو المراد به في حديث: زاد إخوانكم من الجن فإنه زاد للكافر أيضا، وحكمة تسليطهم على الإنس بالطعن أن الله سبحانه وتعالى أمرنا بمعاداة أعدائنا منهم أيضا وهم شياطينهم فأبى أكثر الناس إلا مسالمتهم بل، ومطاوعتهم على ما يطلبونه منهم من المعاصي، والضلال فسلطوا عليهم عقوبة لهم كما سلط عليهم أعداؤهم من الإنس حيث أفسدوا في الأرض، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم عقوبة لمستحقها، وشهادة رحمة لأهلها وهذه سنة الله سبحانه وتعالى في العقوبات تقع عامة فتكون طهرا للمؤمنين، وانتقاما للكافرين. وقيل: الحكمة أن الله سبحانه وتعالى اختص المؤمن لنفسه، وأراد به الخير في كل ما أصابه من خير أو شر أو ألم أو لذة وقيض له من يستغفر له أو يشفع له أو يعاونه من ملك، ونبي، ومؤمن، ومن يعاديه من شيطان يزله، وعدو يقاتله وجني يخزه وهو سبحانه وتعالى له حافظ ولعدوه قاهر مع أنه إن أصابه شر فشكر أو خير فصبر كان خيرا له، وسلط الجن عليه مع كونه محفوظا في جميع أموره كما جاز أنه يطعنه عدوه الظاهر في وقت مع حفظه بالرعب أو النصر في أكثر أحواله لإرادة الخير به

 

ج / 3 ص -411-        ونيله درجة الشهادة بقتل العدو له، وقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} أي: من حيث العموم فلذلك يجوز أنه يطعنه عدوه الجني مع كونه ممنوعا منه بالمعقبات من الملائكة في أكثر أحواله لإرادة الخير به، ونيله درجة الشهادة من وخزه مع ضعف كيده، ومن ثم كان طعنه غير نافذ بخلاف طعن الإنس إذ ذاك أصل الوخز بفتح الواو، وسكون المعجمة بعدها زاي،، وسبب عدم نفوذه أنه يقع من الباطن إلى الظاهر فيؤثر في الباطن أولا ثم قد ينفذ إلى الظاهر، وطعن الإنس يؤثر أولا في الظاهر ولا يقال: يلزم من كونه من وخز الجن عدم وقوعه في رمضان لما صح أن الشياطين تفل فيه، وتصفد. وقد وقع فيه بل كان فيه أكثر منه في غيره؛ لأن تصفيدهم إنما هو عما يترتب عليه إثم من تزيين المعصية لابن آدم حتى يقع فيها، بخلاف ما لا يترتب عليه ذلك بل يترتب عليه الثواب كالطاعون فلا يمنعون منه كما لا يمنعون مما لا إثم فيه ولا ثواب كالاحتلام وذلك باعتبار الغالب، وإلا فقد يزينون لابن آدم كثيرا من المعاصي فيه، ثم رأيت الحليمي أجاب بذلك، وابن خزيمة قال: المراد بعضهم لا كلهم لحديث: "صفدت الشياطين مردة الجن" فمردة نعت مخصص أو بدل بعض من كل، ورواية مردة بمعنى رواية وصفدت الشياطين المطلقة، وعلى هذا فالوخز يقع في رمضان من غير المردة، وقال عياض: يحتمل المراد كلهم إشارة إلى كثرة الثواب وقلة إغوائهم فهم كالمصفدين. ورجح القرطبي حمله على ظاهره لكن بالنسبة لمن صام الصوم المعتبر بشروطه، وآدابه، ورجح بعض المحققين ما قاله ابن خزيمة، ومنها الكلام على كونه شهادة وقد مر ذلك في الأحاديث السابقة وهو في الصحيحين، وأيضا، وفي حديث حسن: "أتاني جبريل بالحمى، والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام فالطاعون شهادة لأمتي، ورحمة لهم، ورجس على الكافر" ولا ينافي هذا أنه قد يكون عقوبة. فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما ظهرت الفاحشة في قوم قط إلا سلط الله تعالى عليهم الموت"، وفي رواية: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا"، وفي رواية: "ما من قوم يظهر فيهم الزنا إلا أخذوا بالفناء، وما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب". ووجه عدم المنافاة أن من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن عجل لهم عقوباتهم في الدنيا كما في الحديث: "أمتي أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة عذابها في الدنيا الفتن، والزلازل، والقتل". رواه أبو داود بسند حسن وهو محمول على معظم الأمة لثبوت أحاديث الشفاعة في قوم يعذبون ثم يخرجون من النار، والحاصل أن كونه عقوبة بسبب المعصية لا ينافي كونه شهادة لجميع من طعن لا سيما من لم يباشر المعصية المذكورة ولعل سبب العموم تقاعدهم عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أو زيادة حسنات من لم يباشر الفاحشة للحديث الصحيح: إن الرجل لتكون له عند الله المنزلة ما يبلغها بعمله فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها ولا كونه شهادة في حق

 

ج / 3 ص -412-        العاصي نفسه؛ لأن من الرحمة في حقه أن تعجل له العقوبة في الدنيا لتكفر خطاياه، وإنما كان سببه ظهور الزنا؛ لأنه غالبا يقع سرا، وحده: إزهاق روح المحصنين فإذا لم يقم عليهم الحد سلط الله تعالى عليهم عدوا يقتلهم سرا من حيث لا يرونه. وقاعدة العذاب أنه إذا نزل يعم المستحق له، وغيره ثم يبعثون على نياتهم، ثم الشهيد فعيل بمعنى فاعل؛ لأنه حي فروحه شهدت دار السلام، وروح غيره إنما تشهدها يوم القيامة أو؛ لأنه يشهد عند الموت ما له من الكرامة، أو؛ لأنه الذي يشهد يوم القيامة بإبلاغ الرسل، أو بمعنى مفعول؛ لأنه مشهود له بالجنة أو بالأمان من النار أو بحسن الخاتمة من الله أو من ملائكته،، والشهادة اصطلاحا تخصيص من حصل له سبب من أسبابها بثواب مخصوص، وكرامة زائدة ولا يختص ذلك بقتيل المعركة ففي حديث الموطإ: الشهداء سبعة سوى قتيل المعركة، وعددها المطعون، والغريق، وصاحب ذات الجنب أي: وهو الميت بقرحة ذات الجنب، والمبطون أي: الذي يموت بمرض بطنه كالاستسقاء، وقيل: صاحب الإسهال، وقيل: المجنون، وقيل: صاحب القولنج، والحريق، والميت تحت الهدم، والمرأة تموت بجمع أي: بتثليث الجيم قيل: هي التي تموت بالولادة ألقت ولدها أو لا، وقيل: إن لم تلقه وصححه النووي وقيل: هي البكر، وفي رواية: المرأة يجرها ولدها بسررها إلى الجنة وقيل: هي التي تموت بمزدلفة، ورد بأنه خطأ ظاهر مثلا ومن الشهداء: صاحب السل، رواه أحمد والطبراني والغريب رواه جماعة وفيه عدة أحاديث ضعيفة على ما قاله المنذري وصاحب الحمى رواه الديلمي ومن لدغته هامة أو افترسه سبع والشريق والخار عن دابته والمتردي من رأس جبل، رواه الطبراني وغيره. ومن قتل دون ماله أو دمه أو دينه أو أهله، رواه أصحاب السنن الأربعة. ومن قتل دون مظلمة، رواه أحمد والنسائي. والميت في حبس حبس فيه ظلما، رواه ابن منده. ومن عشق فكتم فعف، رواه الخطيب والديلمي. والميت وهو طالب للعلم، رواه البزار. والمائد في البحر الذي يصيبه القيء، رواه أبو داود. ومن مات مرابطا، رواه ابن حبان. ومن صبر في الطاعون وإن لم يمت به على ما يأتي وأمناء الله تعالى على خلقه قتلوا أو ماتوا، رواه أحمد. ومن قرأ حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ الثلاث آيات آخر سورة الحشر ومات في يومه أو حين يمسي ومات في ليلته، رواه الترمذي وقال: غريب. ومن مات على وصية، رواه ابن ماجه. ومن مات على وضوء، رواه الآجري. ومن صلى الضحى وصام ثلاثة أيام من كل شهر ولم يترك الوتر في حضر ولا سفر، رواه أبو نعيم. ومن قال: اللهم إني أشهدك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك، ورسولك أبوء بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب غيرك حين يصبح، ومات في يومه أو يمسي، ومات من ليلته، رواه الأصبهاني وغيره. ومن مات من ليلة الجمعة أو يومها، أخرجه جماعة، وفي حديثه: أنه يوقى فتنة القبر، ومن دعا في مرضه بأن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أربعين مرة

 

ج / 3 ص -413-        ومات في مرضه ذلك، رواه الحاكم. وفي حديثه: وإن برئ برئ وقد غفرت له جميع ذنوبه، ومن مات عقب رمضان أو عمرة أو غزو أو حج. نقله جمع عن الحسن، ومن سأل الله سبحانه وتعالى الشهادة بصدق، أخرجه مسلم ولفظه: من طلب الشهادة صادقا أعطيها، ولو لم تصبه، وفي رواية: من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه منازل الشهداء، وإن مات على فراشه، قال: النووي الثانية مفسرة للأولى، ومعناهما أنه يعطى من ثواب الشهداء، وإن مات على فراشه، وورد بسند حسن: كل موتة يموت بها المسلم فهو شهيد أي: لكن الشهادة تتفاضل، ومن مات مريضا رواه ابن ماجه. وفي حديثه: ووقي فتنة القبر، وغدي عليه، وريح برزقه من الجنة، وظاهره شمول جميع الأمراض وهو كذلك وقول القرطبي يقيد بقوله: من يقتله بطنه أي: صاحب الإسهال أو الاستسقاء مردود وهذه الخصال الزائدة على الأربعين ورد في كل منها أن صاحبها شهيد أي: يعطى أجر الشهداء، ومراتبها في ذلك متفاوتة حتى في الأشخاص كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة في شهداء المعركة وللشهداء خصوصيات منها أنه يغفر له أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويزوج اثنين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه، رواها الترمذي بسند صحيح غريب. ومنها أنهم: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] كما في القرآن العزيز وأن أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش، رواه مسلم، وبعض هذه الخصال يكون لسائر الشهداء كالأخيرة كما نقله القرطبي عن العلماء وكوقاية فتنة القبر كما ذكره الجلال السيوطي، ونقله عن القرطبي ورد على من توقف من معاصريه في كون المطعون يأمن فتنة القبر قال: وأعجب من ذلك من ظن أن شهيد المعركة يفتن في قبره وهو مخالف للنص ا هـ. وقد صح عند أحمد، وغيره أن المطعون كشهيد المعركة. ولفظ حديثهم: يختصم الشهداء، والمتوفون على فرشهم إلى ربنا جل جلاله في الموتى يتوفون في الطاعون، فيقول الشهداء: قتلوا كما قتلنا، ويقول المتوفون على فرشهم: إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى جراحهم فإن أشبهت جراح المقتولين فإنهم منهم فإذا جراحهم أشبهت جراحهم، وفي رواية سندها حسن: يأتي الشهداء، والمتوفون بالطاعون، فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء فيقال: انظروا فإن كانت جراحاتهم كجراح الشهداء تسيل دما، وريحهم كريح المسك فهم شهداء، فيجدونهم كذلك، نعم يشترط لتحصيل الشهادة بالطاعون أمور. منها ما دل عليه حديث البخاري أن يمكث في بلده الواقع به الطاعون صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له محتسبا فعلم أن أجر الشهداء إنما يكتب لمن لم يخرج بل أقام قاصدا بذلك ثواب الله تعالى راجيا به صدق موعوده عارفا أنه إن سلم أو مات به فهو بتقدير الله سبحانه وتعالى غير متضجر به لو وقع، معتمدا على الله تعالى في سائر أحواله فمن اتصف بذلك كتب له أجر شهيد، وإن سلم من الطاعون كما

 

ج / 3 ص -414-        اقتضاه ظاهر الحديث كمن خرج للجهاد فمات قبله بسبب آخر، ويؤيد ذلك رواية مسلم: ومن مات في الطاعون فهو شهيد ولم يقل بالطاعون واحتمال كونها للسببية، وإن أيده ما في الحديث: ومن مات في البطن أي: بها لا يمنع أن ظاهر الحديث ما مر بل ظاهره أنه يكتب له أجر شهيد، وإن لم يمت في زمن الطاعون، وفضل الله سبحانه وتعالى واسع، ونية المؤمن خير من عمله وروى أحمد: إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش ولا يلزم من ذلك أن من اتصف بما مر، ومات بالطعن يكتب له أجر شهيدين لما مر أن درجات الشهداء متفاوتة فأرفعها من اتصف بما مر، ومات مطعونا ثم من اتصف، وطعن ولم يمت ثم من اتصف ولم يطعن، ومات زمن الطاعون بغيره ثم من اتصف ولم يطعن ولا مات زمنه على أنه لا مانع من تعدد أجر الشهادة لمن اجتمع فيه سببان فأكثر من أسبابها كغريب مطعون كما يتعدد القيراط لمن صلى على جنائز وكما أن من اقتنى كلابا ينقص من أجره قراريط بعددهم، وظاهر الحديث أن المطعون شهيد مثلا وإن كان فاسقا. بل هو صريح حديث الصحيحين: الطاعون شهادة لكل مسلم، ولا يلزم مساواته للعدل لتفاوت درجات الشهداء كما مر، ويؤيده أن شهيد المعركة لا يقدح فسقه في شهادته فوجود التبعات لا يقدح فيها؛ لأنها ثواب وكرامة زائدة، وذلك لا ينافيه فسق ولا غيره نعم صح أن الشهيد يغفر له كل ذنب إلا الدين، وفي معناه سائر تبعات العباد، وحديث ابن ماجه: يغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين ولشهيد البحر الذنوب والدين ضعيف، فإن ثبت حمل على من خرج مجاهدا في البحر فغرق قيل: ويمكن أن يقال: أفاد استثناء الدين أن حق العباد لا يسقط بمجرد الشهادة، وأفاد إثباته أنه قد يوهب من مزيد الثواب ما يوفي منه المظالم التي في قبله، ويتوفر له ثواب الشهادة كاملا، وبما اقتضاه ظاهر الحديث من أن من مات بسبب من أسباب الشهادة فهو شهيد. وإن مات في معصية جزم الإمام ابن العربي، ومثل ذلك بمن غرق في قطع الطريق قال: وكل من مات بسبب معصية فليس بشهيد، وإن مات في معصية بسبب من أسباب الشهادة فله أجر شهادته، وعليه إثم معصيته، وحكمة كون الطاعون لا يدخل مكة والمدينة كما يأتي مع أنه شهادة ورحمة أنه ليس نفس الشهادة بل سببها ولما كان من الجن مدحت البلدان بأنه لا يدخلهما إشارة إلى أن كفار الجن ممنوعون من دخولهما للعبث والفساد بأهلهما حماية لهم ببركة جواره وجوار نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو وإن سلم وقوعه من مؤمني الجن أيضا فمؤمنوهم يجلونهما من إيقاع ذلك فيهما علما منهم بجلالتهما وتعظيما لحقهما فلذلك لم يدخل إليهما طاعن أصلا، وأجيب أيضا بأن سبب الرحمة لا ينحصر في الطاعون. فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ولكن عافيتك أوسع لي" فكان عدم دخولهما من خصائصهما ولوازم دعائه صلى الله عليه وسلم لهما بالصحة، وخصهما بذلك لاختصاصهما به دون غيرهما، وفي ذلك معجزة كبرى وهي عجز الأطباء قاطبة عن حماية شخص واحد من الطاعون وهو صلى الله عليه وسلم قد حمى هذين مع كثرة من فيهما منه على ممر الأعصار وتوالي الأزمان، وقد عوضنا عنه بالأمن لحديث أبي

 

ج / 3 ص -415-        داود الطيالسي: من مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين، وبالشفاعة لحديث ذكره ابن ماجه في مسنده: من مات في أحد الحرمين استوجب شفاعتي وكان يوم القيامة من الآمنين، وروي أيضا: من مات بمكة أو في طريق مكة بعث من الآمنين، قال الحافظ السخاوي: ويروى الأمن من فتنة القبر لمن مات في أحد الحرمين أو في طريق مكة أو مرابطا ولمن يقرأ سورة الملك عند منامه، ولكونه شهادة جاء عند الديلمي أن الطاعون أول رحمة ترفع من الأرض، وعند ابن السني وغيره أوشك الفالج أن يفشو في الناس حتى يتمنوا الطاعون مكانه. ومنها الكلام على الخروج من محله والدخول إليه قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} [البقرة: 243] الآية، وأقوى الطرق، وأحسنها أن فرارهم كان من الطاعون فعوقبوا على ذلك بأن أماتهم الله سبحانه وتعالى قبل آجالهم ثم بعد مدة أحياهم الله، وبقيت عليهم آثار الموت فلا يلبسون ثوبا إلا صار عليهم كفنا ليعرفهم أهل ذلك الزمان، فيعتبروا بهم. قال الإمام أبو بكر الرازي: دلت الآية على أن الله تعالى كره فرارهم من الطاعون وهو نظير قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب: 16] وقوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] وقوله: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]، وفي الصحيحين: الطاعون رجس أرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه، وفيهما: أن عمر خرج للشام فأخبر أن بها وباء فاستشار المهاجرين فاختلفوا، والأنصار فاختلفوا فدعا من كان هناك من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فاتفق رأيهم على أن يرجع بالناس ولا يقدمهم على ذلك الوباء فهم بالرجوع فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟. فقال عمر: لو غيرك قالها نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، وكان عبد الرحمن بن عوف غائبا فلما جاء قال: إن عندي في هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه" فحمد الله تعالى عمر ثم انصرف. وقد ورد بمعنى ذلك عدة أحاديث، واختلف العلماء في دخول بلد الطاعون مثلا والخروج منه فأكثر العلماء على الأخذ بظاهر الحديث، ومن ثم قال التاج السبكي: مذهبنا وهو الذي عليه الأكثر أن النهي عن الفرار منه للتحريم بل قال ابن خزيمة: إن الفرار منه كبيرة، وإن الله تعالى يعاتب الفار منه ما لم يعف عنه واستدل على ذلك بحديث أحمد، والطبراني، وابن عدي، وغيرهم: الفار من الطاعون كالفار من الزحف، وبه يعلم وهم ابن رشد المالكي في دعواه الإجماع على عدم التحريم، وضعف قول كثيرين أن النهي للتنزيه قيل: وهو المشهور من مذهب مالك، وتزييف القول باستحباب الخروج عنه قال التاج السبكي: واتفقوا على جواز الخروج لشغل عرض غير الفرار، قال: وليس محل النزاع فيمن خرج فارا من قضاء الله تعالى فذلك لا سبيل إلى القول بحله بل الظاهر أن محل النزاع فيما إذا خرج

 

ج / 3 ص -416-        للتداوي ا هـ. واعترض بأن الخروج للتداوي غير محرم في مذهبنا فالعبارة الصحيحة أن يقال: محل النزاع إذا خرج فارا من المرض الواقع مع اعتقاد أنه لو قدره الله عليه لأصابه، وأن فراره لا ينجيه لكن يؤمل النجاة وخرج بقوله مع اعتقاد الخ، من خرج فارا من قضاء الله تعالى معتقدا أن ذلك ينجيه فلا توقف في تحريمه بل ربما يكفر به، ولو قصد الخروج لحاجة، والفرار فالذي يظهر أنه يأثم بقدر قصده؛ لأن الفرار محرم وقصد المحرم حرام سواء انفرد أو شاركه قصد شيء آخر جائز، وبه يعلم أن الأرض التي وقع بها الطاعون لو كانت وخمة، والتي يريد التوجه إليها صحيحة فتوجه إليها بهذا القصد حرم عليه؛ لأن هذا من صور الفرار لغير حاجة كما اقتضاه إطلاق أصحابنا، ثم ما المراد بكونه في أرض الطاعون حتى يحرم عليه الخروج منها، والذي يظهر في ذلك أنه إن وقع بإقليم حرم عليه الخروج من ذلك الإقليم لا من بعض قراه إلى بعض؛ لأنها كلها بالنسبة إلى عموم الطاعون بمنزلة الموضع الواحد، وإن اختص ببلد أو بلاد من إقليم حرم الخروج مما اختص به إلى غيره لا من بعض ما اختص به إلى بعضه، وإذا كان في بلد مثلا فهل الفرار منها بالخروج إلى خارج عمرانها أو سورها أو إلى خارج مزارعها لم أر في ذلك كالذي قبله شيئا، والذي يظهر أنه يتبع في ذلك عرف أهلها فكل محل عدوا الخروج إليه فرارا حرم الخروج إليه، وإلا فلا، وحكم دخول محل الطاعون كالخروج منه فيما تقرر من التحريم، وغيره وقد صرح بذلك النووي في شرح مسلم فقال: وفي هذه الأحاديث منع القدوم على بلد الطاعون، ومنع الخروج منه فرارا من ذلك أما الخروج لعارض فلا بأس به هذا مذهبنا، ومذهب عامة الجمهور من العلماء قال القاضي: وهو قول الأكثرين، ومنهم من جوز ذلك، والصحيح ما قدمناه من النهي عن القدوم عليه، والفرار منه ا هـ. قيل: والنهي عن الخروج تعبدي؛ لأن الفرار عن المهالك مأمور به، وعلله آخرون بأنه إذا وقع بمحل عم جميع من فيه فلا يفيده الخروج شيئا فكان عبثا، وبأنه لو مكن الناس منه بقي من وقع به عاجزا عن الخروج فلا يبقى للمرضى متعهد ولا للموتى مجهز، وأيضا ففي خروج الأقوياء كسر لقلوب الضعفاء وقال ابن عبد البر: النهي عن الخروج للإيمان بالقدر، وعن القدوم لدفع ملامة النفس قال غيره: ولأن الله سبحانه وتعالى أمر أن لا يتعرض أحد للحتف، وإن كان لا نجاة من قدر الله، وفيه الصيانة عن الشرك لئلا يقول القائل: لو لم أدخله لم أمرض، ولو لم يدخل فلان لم يمت. وقال ابن دقيق العيد: الذي يترجح عندي في الجمع بين النهي عن الفرار، والنهي عن القدوم أن علة القدوم التعرض للبلاء ولعله لا يصبر عليه، وربما كان فيه نوع دعوى لمقام الصبر، والتوكل فمنع لاغترار النفس، ودعواها ما لا تثبت عليه عند التحقيق، وأما الفرار فقد يكون داخلا في باب التوغل في الأسباب متصورا بصورة من يحاول النجاة مما قدر عليه، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا" فأمرهم بترك التمني لما فيه من التعرض للبلاء وخوف الإضرار بالنفس ثم أمرهم بالصبر عند الوقوع تسليما لأمر الله

 

ج / 3 ص -417-        وإذا خرج فهل يلزمه العود خروجا من المعصية أو لا لانتهائها بالخروج لم أر في ذلك شيئا، والقياس أننا متى قلنا بأن النهي تعبدي وجب العود، وإلا بني ذلك على علة التحريم فعلى العلة الأولى لا يجب العود، وعلى الثانية وهي أنه لو مكن الناس من الخروج لضاع الباقون يجب العود؛ لأن الحق للغير فلو مكناه من التمادي لضاع حق الغير بخلاف ما لو ألزمناه بالعود فإن قلت: في عوده دخول وقد تقرر أنه محرم فتعارض في حقه واجب وهو العود، ومحرم وهو الدخول فلم غلب الأول قلت: هذا التعارض ممنوع؛ لأن هذا الآن لا يسمى ابتداء دخول، والمحرم إنما هو ابتداء الدخول لا الدخول من حيث هو ألا ترى أن من خرج لا للفرار ثم أراد العود فإنه يجوز له ذلك من غير توقف مع أن فيه دخولا فدل ذلك على أن المحرم هو ابتداء الدخول فقط، وحينئذ فلم يتعارض ما مر، وإذا تقرر أنه لا تعارض فاتجه البناء الذي ذكرته، ومع ذلك لو قيل: بعدم وجوب العود مطلقا لم يبعد، وإن كان ذلك هو الوجه. ومنها أنه هل يدخل مكة، والمدينة وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة على كل نقب منها أي: طريق أو باب أو مدخل ملك لا يدخلها الدجال ولا الطاعون، وضمير منها عائد على كل واحدة من البلدين قال ابن قتيبة: ولم يقع بهما طاعون قط، وأقره الأئمة بعده منهم النووي رحمه الله تعالى في أذكاره وغيره، وما قيل: إنه دخلها في عام تسع وأربعين وسبعمائة فهو وإن نقله جماعة فهو مردود بأن الأمر ليس كما ظنوا أي: بل كان ذلك وباء لا طاعونا كما يدل له كلام الفاسي في موضع، وإن عبر عنه بالطاعون في موضع آخر؛ لأن الوباء قد يسمى طاعونا مجازا كعكسه بجامع كثرة الموت فيهما كما مر فعلم أنه لم يدخل مكة طاعون قط ولا يدخلها إن شاء الله تعالى لصحة الحديث كما مر وقول الدماميني إسناده ضعيف وهم، وفي حديث البخاري فلا يدخلها يعني: المدينة الدجال ولا الطاعون إن شاء الله قيل: هذا الاستثناء يحتمل التعليق، ويحتمل التبرك وهو أولى وقيل: إنه يتعلق بالطاعون، وعدم دخول الطاعون للمدينة أمر متفق عليه إلا ما شذ به القرطبي من قوله: المراد لا يدخلها طاعون عظيم مثل طاعون عمواس، وطاعون الجارف إذ قضيته أنه يدخلها طاعون غير عظيم وليس كذلك كما جزم به العلماء. ومنها أنه هل يشرع الدعاء برفعه أما الدعاء برفعه، والخروج إلى الصحراء فبدعة قيل: بل لو قيل بتحريمه لكان ظاهرا؛ لأنه إحداث كيفية يظن الجهال أنها سنة، وأما القنوت له في الصلاة فليس بمشروع عند غير الشافعية، واختلف الشافعية فبعضهم أفتى به، وبعضهم أفتى بامتناعه، والأوجه الأول كما بينته في حاشية العباب، وغيرها مع الرد على من أطال في خلافه ولا كراهة في الدعاء برفعه عن نفسه أو غيره من غير اجتماع لذلك وكرهه بعض الحنابلة، ومال إليه بعض متأخري الشافعية، ويدل لما مر من القنوت له قول الشيخين يشرع القنوت في سائر الصلوات لنازلة كالوباء فقولهما كالوباء يشمل الطاعون إما بقياس المساواة، وإما لكونه يطلق عليه مجازا كما مر ولا يمنع من ذلك كونه شهادة ورحمة

 

ج / 3 ص -418-        لأنه وإن كان كذلك إلا أنه ينشأ عنه موت العلماء، وأكابر أهل الإسلام، فيحصل للإسلام بذلك ضعف، ووهن فطلب رفعه لأجل ذلك نظير ما مر في أنه لا يدخل مكة والمدينة مع كونه شهادة، وبما قررته يندفع قول من قال: لا يصح التمسك بكلام الشيخين المذكور؛ لأنه أخص من الوباء وقد اختص بكونه شهادة، ورحمة ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف الوباء فلهذا يشرع الدعاء برفع الوباء دونه قال: ويؤيد ذلك اختصاصه بتحريم الفرار منه وهو من الوباء بغيره كالحمى، وسائر أسباب الهلاك جائز بإجماع ا هـ. ولا متمسك له فيما استدل به آخرا لما مر من أن النهي عن الفرار تعبدي عند قوم.
"تتمات" يجوز الدعاء بطول العمر كما دعا به صلى الله عليه وسلم لأنس وقيده بعض المحققين بمن في بقائه نفع للمسلمين فيندب له الدعاء حينئذ فإن كان نفعه قاصرا فهو دون الأول. قال: ومن عداهما قد يصل للكراهة، والتحريم إن اتصف بضدهما، وإن لم يتصف فقد قال بعضهم: لا ينبغي لأحد أن يحب ما يحبه إبليس فإنه يحب طول البقاء، والحق أن الضابط الرجوع إلى المتعلق قال بعض العلماء: الأجل لا يزيد ولا ينقص، وفائدة الدعاء تظهر في أنه يجوز أن الله تعالى قدر أن زيدا عمره ثلاثون فإن دعا فأربعون، وعلى هذا ينزل جميع أنواع الدعاء ا هـ. والطاعون من الأمراض المخوفة عندنا بل أهل محلته كلهم في حكم المريض مرضا مخوفا فلا ينفذ تبرعهم في زمنه إلا من الثلث، ولو ممن لم يصبه. ومنها ينبغي أخذا مما مر من منع التعرض للبلاء، ومن مشروعية الدواء التحرز أيام الوباء من أمور أوصى بها بعض حذاق الأطباء والاعتناء بأمور أخرى مثل إخراج الرطوبات الفضلية، وتقليل الغذاء، وترك الرياضة، والمكث في الحمام، وملازمة السكون، والدعة، وأن لا يكثر من استنشاق الهواء الغض، وأول ما يبدأ به في علاج الطاعون شرطه إن أمكن ليسيل ما فيه لئلا تزداد سميته فإن احتيج لمصه بالمحجمة فعل بلطف، ويعالج أيضا بما يبرد، وبإسفنجة مغموسة في خل، وماء أو دهن ورد أو دهن تفاح أو دهن آس وبالاستفراغ بالفصد بما يحتمله الوقت أو يوجر بما يخرج الخلط ثم يقبل على القلب بالحفظ، والتقوية بالمبردات قاله ابن سينا، وبه رد على أطباء الوقت في تركهم معالجة المطعون رأسا لكن قال بعضهم: لا فائدة في هذا التدبير؛ لأنه مبني على أن سبب الطاعون فساد الهواء الذي مال إليه الأطباء وليس كذلك بل سببه وخز الجن كما مر فالأولى طرح ذلك كله، والتوكل على الله سبحانه وتعالى وكذلك يطرح ما في مفردات ابن البيطار، وغيرها من أن من تختم بالياقوت أو علقه عليه أمن من الطاعون قال جمع من الأطباء: ويحذر الصحيح زمن الطاعون مخالطة من أصابه قال التاج السبكي: ومحله أن يشهد عدلا طب بأن المخالطة سبب لأذى المخالط، ورد ما قاله بأنه يخالف شهادة الحس المشاهد المتكرر فإن كثيرين من المخالطين المخالطة الكلية لا يصيبهم منها شيء وقد ثبت بطلان العدوى بالحديث الصحيح، والقول بأن المرض يعدي بمحض طبعه كفر، وبأنه يعدي بأمر خلق فيه لا ينفك عنه إلا معجزة أو كرامة مذهب

 

ج / 3 ص -419-        إسلامي لكنه مرجوح وبأنه لا يعدي بطبعه بل بعادة إلهية وقد تتخلف نادرا كذلك، وبأنه لا يعدي أصلا بل من وقع له ذلك المرض فهو بخلق الله سبحانه وتعالى فيه ابتداء وهذا هو الراجح لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يعدي شيء شيئا" وقوله: "فمن أعدى الأول" قيل: واستقرئ أن من طعن، وسلم لا يموت بعد ذلك بالطعن، ونوزع فيه بأن جمعا وقع لهم خلاف ذلك، وعلى تسليم الاستقراء فحكمته أن الله سبحانه وتعالى إنما يسلط الجني على الإنسي مرة واحدة. ومن الآداب التي ينبغي فعلها عند وقوع الطاعون المبادرة إلى التوبة، والتنقي من جميع المظالم، والتبعات واستعمال الأذكار التي تحرس من الجن كقراءة الفاتحة؛ لأنها شفاء من كل داء كما في حديث الدارمي، وسورة الإخلاص؛ لأن من قرأها حين يضع جنبه على فراشه يأمن من كل شيء إلا الموت أخرجه البزار بسند ضعيف. وسورة البقرة لما صح أن الشيطان يفر من بيت قرئت فيه، وآية الكرسي لما صح أن من قرأها عند النوم لا يزال عليه من الله تعالى حافظ ولا يعتريه شيطان حتى يصبح وصح من قرأها في بيته ليلا لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال، ومن قرأها نهارا لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام، والآيتين آخر سورة البقرة لما صح أنهما لا يقرآن في دار ثلاث ليال، فيقربها شيطان، والإخلاص والمعوذتين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كما عند البزار أمر بالتعوذ بهن وقال: "ما تعوذ العباد بمثلهن قط" وكقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الخ. لما صح أنها حرز من الشيطان الرجيم في ذلك اليوم إلى المساء. وصح ذلك عند الترمذي فيمن قالها عشر مرات دبر صلاة الفجر وهو ثاني رجله قبل أن يتكلم، قيل: وأعظم الأسباب النافعة منه كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذلك، وشرط حصول النفع بجميع ما ذكر صفاء القلب من الكذب، والإخلاص في التوبة، والندم على ما فرط منه، وإلا فغلبة أسباب الداء تبطل نفع الدواء كأن يغفل عن ذلك حتى تهجم عليه الآفة ثم يطلب الإقالة بذلك فلا يجد إليها سبيلا، وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه أحسن ما يداوى به الطاعون التسبيح، ووجهه أنه يدفع العذاب قال الله تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143] الآية، والمحفوظ عنه لم أر للوباء أنفع من البنفسج يدهن به، ويشرب،، ويتأكد لمن أصابه طاعون أو مرض غيره أن يديم سؤال العافية وقد صح أمره صلى الله عليه وسلم للعباس بالإكثار من الدعاء بها، وورد بسند ضعيف خلافا للحاكم: ما سئل الله شيئا أحب إليه من العافية، وورد عند ابن ماجه: أن الدعاء بها أفضل الدعاء، وصح عند الترمذي: لم يعط الناس بعد اليقين خيرا من العافية، وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن اشتكى إليه وجعا في جسده: "امسح بيمينك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد، وأحاذر، وأن يصبر على قضاء الله سبحانه وتعالى وقدره فإن أمور المؤمن كلها خير إن أصابه خير شكر، وإن أصابه شر صبر". رواه مسلم. وروى ابن حبان: إن الرجل لتكون له عند الله عز وجل المنزلة فما يبلغها بعمل فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها، وصح ما يصيب المسلم

 

ج / 3 ص -420-        من نصب ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عز وجل بها خطاياه، وروى الطبراني بسند لا بأس به من أصيب بمصيبة في ماله أو في نفسه فكتمها ولم يشكها إلى الناس كان حقا على الله تعالى أن يغفر له، وصح إذا اشتكى المؤمن خلصه الله تعالى من الذنوب كما يخلص الكير خبث الحديد، وأن يحسن ظنه بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه تعالى عند ظن عبده به كما في الصحيحين من رواية أحمد وغيره إن ظن بي خيرا فله، وإن ظن شرا فله. وصح في سيد الاستغفار أن من قاله صباحا فمات يومه أو ليلته دخل الجنة نسأل الله تعالى ذلك، وأن يختم لنا بالحسنى، ويبلغنا من فضله المقام الأسنى آمين هذا خلاصة ما تيسر جمعه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وسئل سؤالا صورته إذا كان بعض أهل بلادنا بأرض بجيلة الشخص منهم في مرض موته يريد أن يوصي بعين من تركته لبعض ورثته، فيقول مثلا هذا لفلان وهذا لفلانة على قصد الوصية لا قصد الإقرار، واطرد عرفهم بأن ذلك وصية فهل يكون ذلك وصية لاطراد عرفهم بذلك، فيترتب عليه أحكام الوصية من جواز الرجوع فيه وكون المقر له وارثا فلا تصح بغير إجازة الورثة، وأن يكون من الثلث فما دونه، وغير ذلك من أحكام الوصية أو يكون ذلك اللفظ إقرارا لقول الأئمة رضي الله تعالى عنهم صيغة الإقرار هذا لفلان وقد أتى المقر بصيغة الإقرار، فيترتب عليه أحكام الإقرار من جواز إقرار المريض للوارث، وغير ذلك من أحكام الإقرار أوضحوا لنا القول في ذلك فيما إذا كان الحال ما ذكرنا في السؤال؟. فأجاب بقوله: الجواب عن هذا السؤال هو ما صرح به أئمتنا من أنه إن قال: هو له بعد موتي كان صريحا في الوصية، وإن قال هو له ولم يقل بعد موتي كان صريحا في الإقرار ولا يحمل على الوصية، وإن نواها نعم إن قال: هو له من مالي كان كناية في الوصية؛ لأنه لا يصلح للإقرار حينئذ، ومثله عبدي هذا له، فيكون كناية وصية أيضا وكذا لو قال: عينته له بخلاف قوله: وهبته له بدون بعد موتي فإنه يكون صريحا في الهبة، وإن نوى به الوصية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عن شخص أسند وصيته إلى ولد له وجعل أخاه ناظرا على ولده الوصي، وأولاده الصغار فلما بلغ الصغار رشدهم عمر أخوهم الوصي بئرا له ولهم، وأذن له الناظر في العمارة وقال له: كل ما تخسره في المحل خذ حسابه مني فعمر البئر المذكورة وخسر فيها نحو أربعين أشرفيا فأعطاه الإخوة مما يخصهم من الخسارة في البئر المذكورة أشرفيين ثم امتنعوا من إعطاء بقية ما يخصهم فهل يلزم الناظر الخروج من بقية الحساب أم على الصغار وهل يطالب المعمر إخوته أم العم الناظر؟. فأجاب بقوله: حيث بلغ الموصى عليه رشده بأن بلغ مصلحا لدينه، وماله اشترط إذنه في العمارة، ومتى لم يأذن فصاحب العمارة متبرع بها فلا رجوع له عليه بشيء بل له الرجوع بما دفعه إليه إن ظن أنه واجب عليه لتبين

 

ج / 3 ص -421-        أنه ليس عليه شيء، وإن لم يبلغ كذلك فإن أذن القاضي للمعمر رجع في مال الموصى عليه، وإلا لم يرجع على أحد بشيء، وأما إذن العم الناظر على الوصي فلا عبرة به؛ لأنه لا يستقل بالتصرف فإن جعل له الميت الاستقلال به كفى إذنه في رجوع المعمر على المحاجير بما خصهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل فسح الله تعالى في مدته عمن ترك زوجة، وابن ابن عم شقيق، وابن ابن عم لأب، وعبدا بسبعين أو ثمانين وجملا بثلاثين، وأربع شياه، وأعتق العبد في مرض موته، وأوصى له بالغنم، وأوصى بثلث الجمل لزوجته، وثلثيه للذي للأب فهل تصح الوصايا وهل يرث ابن ابن العم لأب مع الشقيق؟. فأجاب بقوله: الوارث هو زوجته، وابن ابن عمه الشقيق دون ابن ابن العم لأب فإن أجاز الوارثان الوصايا كلها فلا إشكال، وإن رداها قدم المعتق فيعتق من العبد بقدر ثلث المال فإذا فرضنا أن جميع التركة العبد، والجمل، والشياه تساوي مائة وعشرين فثلث ماله أربعون فيعتق من العبد بقدرها فإذا كانت قيمته ثمانين عتق نصفه ولا شيء لابن ابن العم لأب، والثمانون الباقية للزوجة ربعها عشرون ولابن ابن العم الشقيق الباقي وهو ستون.
وسئل عن شخص دبر مملوكا له في مرض موته، وأوصى له بعشرين دينارا ذهبا ثم مات في مرضه ذلك، وترك طفلا صغيرا، وعقارا لا تزيد غلته عن كفاية الولد المذكور، ومن يخدمه، وطالب المدبر المذكور بما أوصى له به الميت فهل للوصي بيع شيء من العقار المذكور لإيفاء الدين المذكور، وتنفيذ الوصية أم لا؟. وإذا قلتم: بالمنع، وفضل شيء من الغلة عن كفاية السنة فهل يصرف الفاضل للمدبر الموصى له بالعشرين المذكورة أم لا؟. فأجاب بقوله: إنما يعتق المدبر إن وفى به الثلث ثم إن لم يبق من الثلث شيء فلا شيء له بالوصية، وإن بقي ما يفي بالوصية وهي العشرون المذكورة أعطيها أو ما يفي ببعضها أعطيه فقط، وإن لم يف الثلث بالمدبر عتق منه بقدر الثلث وصارت الوصية لمن بعضه للوارث، وبعضه حر.
وسئل رضي الله عنه عن الحيلة المذكورة في الوصية للوارث في شرح الروض، وغيره هل هي مثال حتى لو عكس الموصي لم يختلف الحكم، وعما لو أوصى بشيء على رشا بئر، وعمقت هل يزاد من الموصى به طولا في الرشاء على المعهود من البئر وقت الوصية، وعمن قال في وصيته: ويحج، ويزارعني بكذا أو من حج عني فله كذا وقال قبل الوصية أو بعدها أو في أثنائها، والوصي في تنفيذ وصاياي فلان فحج من علم بالوصية من غير إذن من الموصي، وحج آخر بإذن الوصي فلمن يكون الموصى به؟. فأجاب بقوله: ما ذكره من صورة الحيلة مثال كما هو ظاهر ففي عكس تلك الصورة تصح الوصية أيضا فلا يستحقها الموصى إليه إلا إن أعطى الوارث ما ذكره الموصي حتى لو أوصى له بدرهم إن

 

ج / 3 ص -422-        أعطى ولده العالم يستحق الدرهم إلا إن أعطى الولد الألف؛ لأن ذلك لا مقابلة فيه بعقد ولا بغيره حتى يتوهم امتناعه لما فيه من مقابلة القليل بالكثير، وإنما هو تعليق للاستحقاق بشرط فإن الموصي شرط لاستحقاق الموصى إليه الوصية أن يعطي ولده كذا فإعطاء الولد شرط في الاستحقاق لا مقابل للموصى به فاتضح أن صورة ما ذكروه في الحيلة المذكورة في السؤال مثال، وأنه ليس بقيد، وأن الضابط ما أشرت إليه من أن يوصى لإنسان بشيء قليل أو كثير إلا أعطى ولده شيئا قليلا أو كثيرا، والذي يتجه أنه يزاد في الرشاء بحسب الحاجة؛ لأنه لا ضابط له معين بل يختلف باختلاف كثرة زيادة ماء البئر، ونقصه فلم يقصد بالوصية تقييدها بالقدر المعهود عندها، وإنما القصد حصول ما يطلع الماء بسببه سواء أزاد على المعهود حال الوصية أم نقص عنه، وأيضا فالمدار في الوصية، ونحوها على اللفظ غالبا حيث لا عرف مطرد بخلافه ولا شك أن قوله أوصيت بكذا على رشاء البئر الفلانية يتناول الرشاء الطويل، والقصير فلم يكن في الحمل عليه عند تعميق البئر أو قلة مائها عن المعهود حال الوصية مخالفة للفظ الموصي بوجه بل موافقة له لما تقرر أن لفظه يشمل كل ما يسمى رشاء لذلك البئر، والذي يتجه في يحج عني، ونحوه أنه لا بد من إذن الوصي، وإلا لم يستحق الحاج بدون إذنه شيئا؛ لأنه متبرع بخلافه فيمن حج عني فله كذا فإن من سبق بالحج عنه هو المستحق لما عين في الوصية وإن لم يأذن له الوصي، والفرق أنه هنا لم يفوض الأمر لأحد بل جعل الاستحقاق منوطا بشرط عام، وهو من حج، وعند تعلقه بشرط عام كذلك لا يتوقف الاستحقاق على إذن الوصي؛ لأن الموصي قطع توقفه عليه بالتعليق على الشرط المذكور بخلافه في يحج عني فإنه لما لم يعمم ولا عين كان مفوضا التعيين للوصي فمن أذن له استحق، ومن لا فلا.
وسئل عمن مات عن بنت، وأخ، وابن أخ، وأوصى أن لبنته النصف، والنصف الآخر بين أخيه، وابن أخيه فما الحكم؟. فأجاب بقوله: للبنت النصف وللموصى له السدس وللأخ الثلث؛ لأنه لما جعل الوصية في نصيب الأخ دل على أن قصده توفير النصف على البنت فاتبع شرطه ثم لا يملك الوصية في نصيب الأخ إلا في ثلثه فصحت في ثلثه، وبقي موقوفا على إجازة الأخ هذا ما أفتى بنظيره القاضي وكلام الروضة، وأصلها في دوريات الوصايا يدل عليه، وإن أفتى أبو منصور بن الصباغ بما ينازع فيه، وتبعه بعض الفرضيين.
وسئل عمن أوصى بما في داره من طعام هل يتناول الجلجلان؟. فأجاب بقوله: الطعام لغة يتناول حتى الماء كما في التهذيب للنووي، وشرعا كذلك في الربا، وفي الأيمان يستثنى الدواء للعرف، وفي الوكالة لو وكله بشراء طعام لا يختص بالحنطة، وفي المهذب لو أذن له في التجارة في الطعام لم يتجر إلا في الحنطة، وحمله بعض شراح الوسيط على بلد عرفهم ذلك فإن أطلق في محل آخر على نحو الشعير أو غيره اختص به،

 

ج / 3 ص -423-        ويؤيده قول الماوردي اسم الطعام يطلق في العرف بالعراق على الحنطة إذا تقرر هذا فالمتجه حمل الطعام في لفظ الموصي على عرف بلده فإن لم يكن ثم عرف مطرد تخير الوارث في أي أنواع الطعام يعطيه منه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عمن أوصى بثمرة شجرة هل تدخل ثمرتها المؤبرة؟. فأجاب بقوله: لا تدخل المؤبرة عند موت الموصي، وإن حدث الثمر بعد الوصية خلافا لبعضهم.
وسئل عمن أوصى بوقف شيء، وتأخر وقفه عن موته حتى حصل منه ريع فلمن يكون؟. فأجاب بقوله: أفتى بعضهم بأنه يكون لمستحق الوقف، وإليه يميل كلام الجواهر، وبعضهم بأنه يكون للوارث وهو الأقرب قياسا على كسب العبد الموصى بعتقه قبل العتق، وفيه خلاف فالذي رجحه الرافعي أنه قبل العتق للوارث، وحكى البندنيجي القطع بأنه للعبد ثم رأيت الأذرعي رجح ذلك أيضا وكذلك غيره لكنه قاسه على من مات وله عقار له أجرة، وعليه دين فاستغل الوارث ذلك الريع مدة ثم أثبت الدين، وأخذ أصحابه ذلك العقار، وبقي لهم شيء فالذي عليه الأئمة أنه لا رجوع لهم على الوارث بما أخذه ا هـ. وفي القياس نظر لا يخفى.
وسئل عمن أوصى لعبد زيد الصغير فهل يقبل له سيده؟. فأجاب بقوله: نعم يقبل له على الأوجه.
وسئل عمن أوصى أو وقف على المحتاجين فما المراد بهم؟. فأجاب بقوله: حكى الأذرعي عن فتاوى القفال أن المراد بالمحتاج من تحل له الزكاة وجزم به في الأنوار، وبحث الأذرعي مراجعة الواقف إن كان حيا وهو متجه إن تيسر، وظاهر أن المراد من يحل له أخذ الزكاة الفقراء، والمساكين، ومن في معناهم ممن شرط إعطائه الحاجة دون البقية لقرينة لفظ الحاجة.
وسئل بما صورته مات الموصى، والوصي غائب فهل ينوب عنه القاضي في نحو تنفيذ الوصايا كغيبة الولي في النكاح، وما معنى قولهم تنفيذ الوصايا للحاكم وقضاء الديون للأب؟. فأجاب بقوله: نعم ينوب الحاكم بدلا عنه كما ذكره الشيخان فيما لو أوصى لاثنين فغاب أحدهما، وما ذكره من أن تنفيذ الوصايا حيث لا وصي للقاضي، وأن قضاء الديون للأب مفروض في ورثة أطفال وقولهم للوارث قضاء الديون المراد إذا كان كاملا.
وسئل عمن أوصى بنحو كفارة فهل يجوز إعطاء شيء منها لوارث له لا يلزمه نفقته في حياته؟. فأجاب بقوله: لا يجوز كما صرحوا به بل صرحوا أن من أوصى لأقاربه لم يعط وارثه الشامل لمن تلزمه نفقته، وغيره هذا في غير الكفارة، وأما الإطعام فيها فحكمه في الصرف إلى فقراء الورثة حكم الزكاة في صرفها بعد الموت وقد ذكر القاضي حسين أنه لا

 

ج / 3 ص -424-        يجوز للإمام صرفها إلى ابن الميت الفقير قال في البحر، ويحتمل أن يجوز لزوال شبهة استحقاق النفقة وكذا قال العجلي واستبعد ما قاله القاضي؛ لأن الإنسان يجوز أن يؤخذ منه الزكاة، وتصرف إليه وليس هذا بأعظم منه وقال القفال: يجوز صرف الزكاة إلى زوجته بعد موته، والأوجه عندي ما قاله القاضي؛ لأن الحاكم نائب في الحقيقة عن الميت وهو لا يجوز له إعطاء ابنه من زكاته فكذا من قام مقامه، وبهذا تعلم رد ما اعتمده بعضهم من الجواز إذا دفعت إلى الإمام أو نائبه ثم دفعها إلى المستحق من الورثة قياسا على ما لو دفعها عن الميت أجنبي من ماله إذ الأجنبي ليس نائبا عن الميت بخلاف الحاكم فلا يقاس أحدهما على الآخر.
وسئل عمن أوصى بأن ما فضل من ثلثه يجعله الوصي تحت يده، ويصرفه لفلان، وفلان فمات أحدهما بعد موت الموصى فهل ينتقل لمن؟. فأجاب بقوله: يستحقه ورثة الموصي لا الموصى له قبل ولا يأتي فيه خلاف صاحب التقريب فيما لو أوصى لشخص بدينار كل سنة؛ لأنه لا غاية هناك.
وسئل عمن عتق عبده ثم أوصى له بأرض، وشرط أن لا يبيعها، وأنه إلا مات من غير ولد رجعت لورثة الموصي فهل يعمل بشرط أم لا؟. فأجاب بقوله: أفتى بعضهم بأنه يملكها، ويصح البيع ولا تعود لملك الورثة؛ لأن الشرط المذكور فاسد كما في الروضة في الهبة، وأفتى غيره بأن هذا إذا لم يشترط الموصي عدم البيع، وإلا كانت وصية بالمنفعة فقط كما في المهمات، وغيرها، والأوجه الأول ولا ينافي ذلك صحة الشرط في قول الجواهر يصح تعليقها بالشرط كأوصيت له بكذا إن تزوج أو إن رجع من سفره، وفي قول الماوردي لو أوصى لأم ولده بألف على أن لا تتزوج أعطيت الألف فإن تزوجت استرجع منها، ولو أوصى بعتقها على أن لا تتزوج عتقت على الشرط فإن تزوجت لم يبطل العتق، والنكاح؛ لأن عدم الشرط يمنع من إمضاء الوصية، ونفوذ العتق يمنع من الرجوع فيه لكن يرجع عليها بقيمتها، وتكون ميراثا، ولو طلقها الزوج لم تستحق استرجاع القيمة ا هـ. ووجه عدم المنافاة أن هذه الشروط خارجة عن العين الموصى بها فلا ينافي ملكها بخلاف شرط أنه لا يبيع أو أنها ترجع لورثته فقول جمع متقدمين، ومتأخرين يصح تعليق الوصية بالشرط ينبغي أن يستثنى منه نحو ما ذكر في السؤال من الشروط المنافية لموضوع الوصية إذ موضوعها ملك العين بالتصرف فيها بالبيع، وغيره فاشتراط عدم البيع مناف لموضوعها فكان القياس أنه يفسدها فإن قلت: وبقية الشروط منافية لموضوعها قلت: ممنوع، وإنما غاية ما فيها تعليق استحقاقها على صفة فحيث وجدت وجد الاستحقاق، وإلا فلا.
وسئل بما صورته قال في وصيته أريد لفلان كذا من مالي فهل هو بمعنى أعطوه؟. فأجاب بقوله: أفتى القاضي حسين فيمن قيل: له أتريد أن أطلق زوجتك فقال: نعم إنه

 

ج / 3 ص -425-        توكيل في طلاقها قال الأسنوي: وفيه نظر من حيث إن الإرادة ميل القلب، وتجد الناس كثيرا يريدون الشيء ولا يظهرونه، ويرد بأن قوله في الجواب: نعم أي: أريد ذلك منك بمعنى وكلتك فيه أو أمرتك به، وحينئذ فالقياس أن ما ذكر في السؤال بمعنى أعطوه كذا من مالي.
وسئل عمن أوصى بقراءة ختمة، وذكر للقراء شيئا معروفا من الحب، واللحم فهل يعطونه أو يطبخه لهم الوصي؟. فأجاب بقوله: المتبع في ذلك حيث احتمل لفظ الموصي لمعان مختلفة ما اطرد به عرفه حال الوصية، فيجب على الوصي أن يتبع جميع ما اطردت به العادة فإن اختلفت تخير، ووجب عليه رعاية الأصلح كما قاله بعضهم في ناظر الوقف، ولو اعتيد أن الوصي يأخذ من ذلك شيئا فهل له العمل بالعادة في ذلك وكأن الموصي نص له عليه أو لا. محل نظر.
وسئل عمن قال أوصيت لفلان بثلث ما ورائي فهل هو صريح أو كناية؟. فأجاب بقوله: قياس كلامهم أنه كناية، وإن اشتهر عند الناس أن ذلك مراد به الموت إذ مأخذ الصراحة ليس هذا الاشتهار كما قالوه في الطلاق ثم رأيت بعضهم أفتى بأنه صريح، وكأنه فهم أن مأخذ الصراحة الاشتهار تبعا للرافعي.
وسئل عمن أوصى لمن عامله بكذا فهل يصح؟. فأجاب بقوله: إن كانوا محصورين معروفين صح، وإلا احتمل الصحة أيضا كالفقراء واحتمل الفرق، والأول أقرب فعليه يجب إعطاء ثلاثة منهم.
وسئل رضي الله تعالى عنه عمن أوصى لأم الأطفال عليهم أو نصبها الحاكم هل يبطل حقها بتزوجها كالحضانة أو يفرق؟. فأجاب بقوله: الأوجه أنه لا يبطل، ويفرق بينه، وبين الحضانة بأن حفظ الصغير، وتربيته يحتاج إلى مباشرة أعمال تفوت على الزوج بعض حقوقه بخلافه هنا فإنه لا يجوز لها التوكيل فيما لا يتيسر لها مباشرته.
وسئل عمن قال الشيء الفلاني صدقة بعد موتي لمسجد كذا ثم بعد ذلك أوصى بوصايا فما الحكم؟. فأجاب بأن قوله: صدقة بعد موتي وصية فحكمه كالوصايا التي بعده بخلاف ما لو لم يقل بعد موتي فإنه يكون إقرارا أو إنشاء، وعلى كل فيقدم على بقية الوصايا.
وسئل هل تصح الوصية بالمرهون؟. فأجاب بقوله: نعم تصح مطلقا ولا تبطل إلا ببيعه في الدين ولا يجب على الورثة تسلمه من التركة لتبقى الوصية نعم لو تبرع الموصى له بقضاء الدين لتسلم له العين فهل يجب على الدائن قبوله كالوارث؛ لأن له علقة به أو لا. يجب عليه؛ لأنه لا يجب على الغريم قبول قضاء متبرع غير الوارث كل محتمل، والأقرب الثاني، ويفرق بينه، وبين الوارث بأن الوارث مالك بخلاف الموصى له فإنه غير مالك إلى الآن.

 

ج / 3 ص -426-        وسئل هل تصح الوصية بالمدبر؟. فأجاب بقوله: صرح الشيخان في بابه بصحتها، ونظر فيه بأن الوصية رجوع بالقول وهو ممتنع، وبأنهم ذكروا أنه لو أوصى به ثم دبره كان رجوعا؛ لأن التدبير أقوى إذ لا يفتقر لقبول ولا يبطل بالرد، والقاعدة أن الأقوى يرفع الأضعف ولا عكس، ويجاب بأن قولهم الرجوع بالقول ممتنع محمول على غير التدبير بقرينة كلامهم فيه وكأن وجهه أن التدبير نفسه قيل: إنه وصية بل ذكروا فروعا تقتضيه فلما كان من جنسها أثرت فيه، وبهذا يعلم الجواب عن الإشكال الثاني.
وسئل عمن أوصى بعتق عبد ثم أوصى به لرجل أو عكسه فما الحكم؟. فأجاب بقوله: إن ذكر الثانية في الأولى كأوصيت له بالذي أوصيت بعتقه كان رجوعا، وإلا شرك بينهما فيعتق نصفه وللموصى له نصفه إن قبل، وإلا عتق الجميع.
وسئل عمن أوصى لآخر بثلثه ثم لآخر إلا فعل كذا بأرضه الفلانية، وإن لم يفعل كانت لورثته فهل قوله: كانت لورثته رجوع عن الوصية الأولى؟. فأجاب بقوله: إن فعل ذلك على وفق الشرط كانت الأرض بينه، وبين الموصى له أولا، وإلا كان قوله: المذكور رجوعا فقد قالوا لا يصح الرجوع في الهبة للابن إلا منجزا، وفرقوا بينه، وبين الوصية بأنه يجوز تعليقها بخلاف الهبة، وتبقى الوصية في ثلث الباقي من مخلفه غير الأرض المذكورة.
وسئل عمن أوصى لأولاد زيد وله حمل مجتن حال الوصية فهل يدخل في أولاده كالوقف، وإلا فما الفرق؟. فأجاب بقوله: يشهد للفرق قولهم الوصية للمعدوم باطلة، والباطل لا ينقلب صحيحا، والحمل معدوم، وإن نزله الفقهاء في البيع، ونحوه منزلة المعلوم للتبعية ثم لما هو كالجزء منه وهنا ليس كذلك، وحينئذ فالفرق أن الوصية للمعين لا تصح إلا إذا كان الموصى له موجودا كما تقرر بخلاف الوقف فإنه يصح على المعدوم بالتبعية فدخل فيه الحمل تبعا للموجودين لكنه لا يستحق إلا عند الانفصال إذ لا يسمى ولدا إلا حينئذ.
وسئل رضي الله تعالى عنه عمن قال حجوا عني من أرضي أو بأرضي فهل تتعين تلك الأرض وهل بين العبارتين فرق؟. فأجاب بقوله: نعم تتعين، وبين العبارتين فرق إذ الأولى تقتضي أن يحج عنه من أجرة أرضه، والثاني يقتضي أن الموصي أو الحاكم يبيعها، ويحج عنه بثمنها أو يعطيها أجرة لمن يحج إن رضي.
وسئل عن امرأة تشاجرت هي، وزوجها فقالت: حقي بعد عيني صدقة على مسجد كذا فهل هو وقف أو وصية أو نذر؟. فأجاب بقوله: الذي ذكروه أي: فيما إذا كان على معين ولم تقل بعد موتي، والمسجد المذكور معين فإذا أرادت بقولها بعد عيني بعد موتي كان وصية، وإن لم تعلم إرادتها فالظاهر العمل بعرف أهل بلدها المطرد في المراد بتلك الكلمة، ويحتمل إلغاؤه مطلقا بناء على أن مأخذ الصراحة ليس هو الاشتهار إلا أن يفرق.

 

ج / 3 ص -427-        وسئل رضي الله تعالى عنه بما صورته أفتى القفال بأنه لو أوصى بثلثه للفقراء فقاسم الوصي الورثة، وأفرز الثلث فتلف في يده قبل قسمته فكتلفه في يد المستحقين؛ لأن يده كيدهم وكذا القيم في الحج إذا أخذ من رأس المال فتلف قبل أن يستأجر به من يحج، وذكر في موضع آخر أن الموصي لو أخرج من التركة الثلث للفقراء، وأفرز ذلك فقبل أن يفرقه على المساكين تلف في يده رجع في باقي التركة بالثلث؛ لأن تلفه في يد الوصي لا يجعل كوصوله للمستحقين ا هـ. فما الراجح من ذلك؟. فأجاب بقوله: لا خفاء أن الوصي نائب عن الميت في الإقباض، وحينئذ فلا يتصور كونه نائبا عن المستحقين في القبض لئلا يلزم منه اتحاد القابض، والمقبض بلا ضرورة إذا تقرر ذلك فالأوجه ما ذكره آخرا من أن تلفه في يده لا يجعل كوصوله للمستحقين؛ لأنه ليس وكيلا عنهم بل عن الميت، ومن وكل آخر في قضاء دينه بكذا فتلف بيد وكيله قبل أن يقبضه منه الدائن تلف على الموكل، وبقي حق الدائن على ما هو عليه لا يقال بالإفراز يتبين ملك الورثة لما أفرز لهم فتلفه قبل الوصول إليهم كهو بعده؛ لأنا نقول هنا ممنوع بل بتلفه قبل الوصول لهم يتبين أن ما أفرز للورثة صار كأنه كل التركة فيؤخذ ثلثه.
وسئل عمن له زوجة، وولد، وولد ابن فأوصى لولد الابن بوصية في نصيب الابن خاصة فهل تصح وصيته، ويدخل النقص على الابن دون الزوجة كما يدل عليه كلام الروضة، وأفتى به القاضي حسين وكذا ابن السني؟ لكن قال: إنها في ثلث نصيب من جعلت في نصيبه، ووافقهما ابن منصور على صحة الوصية لكن من رأس المال، والباقي بين الورثة، وفي فتاوى الشرف الجياني بعد نقل ما ذكر الصواب إبطال الوصية إذا شرط أن يكون في نصيب أحد الورثة؛ لأن في ذلك تغييرا لحكم الله سبحانه وتعالى فإن حكمه أن الوصية من رأس المال فإذا خصصها بنصيب أحدهم فقد وفر نصيب الآخر بعد ما كانت تؤخذ منه لو كانت شائعة وهذا وصية له فتحتاج إلى إجازة إذ لا تصح إلا بها؟. فأجاب بقوله: الذي صرح به الشيخان في الروضة، وأصلها ولم يحكيا فيه خلافا صحة الوصية المذكورة، واختصاص الوصية بحصة من خصصها الموصى به، وعبارتهما فصل في الوصية بنصيب، وبجزء شائع على شرط أن لا يضام بعض الورثة أي: لا يدخل النقص عليه مثاله ابنان، وأوصى لزيد بربع المال ولعمرو بنصيب أحد الابنين على أن لا يضام الثاني بالوصيتين هي من أربعة لذكره الربع لزيد سهم وللابن الذي شرط له أن لا يضام سهمان يبقى سهم لعمرو وللابن الآخر لا يصح عليهما فتضرب اثنين في أربعة أي: فتصح من ثمانية لمن لم يضم أربعة ولمن أضيم أي:، وأجاز إذ الوصية بأكثر من الثلث واحد وللموصى له بالربع اثنان ولعمرو الموصى له بنصيب أحد الابنين واحد، وحينئذ اختص النقص بنصيب من شرط إضافته، ومن شرط عدم إضافته أخذ حقه كاملا بتقدير عدم الوصية ثم قال الشيخان أيضا مسألة ثلاث بنين أحدهم بكر، وأوصى من ثلث ماله لزيد بنصيب أحدهم ولعمرو بثلث ما بقي من الثلث، وشرط أن

 

ج / 3 ص -428-        لا يضام بكر، وبينا طريقة استخراج ذلك، وأنها تصح من أربعة وعشرين لبكر الذي شرط أن لا يضام الثلث كاملا وهو ثمانية ولكل من الاثنين اللذين شرط إضافتهما خمسة ولزيد الموصى له من ثلث ماله بنصيب أحدهم خمسة ولعمرو الموصى له بثلث ما بقي من الثلث أي: بعد إخراج الوصية الأولى واحد؛ لأن الباقي من الثلث بعد خمسة زيد ثلاثة ثلثها واحد، وبذلك صح ما قاله الموصي، فإن بكرا أخذ الثلث كاملا باعتبار رءوس البنين الثلاثة وصدق أنه لم يضم؛ لأن ما أخذه هو حصته مع قطع النظر عن الوصية، وما أخذه كل من الابنين الآخرين هو دون حصته الأصلية بثلاثة فأخذنا ثلاثة من سهم كل منهما الأصلي وهو ثمانية وقسمنا هذه الستة المأخوذة بين الوصيتين فأعطينا زيدا منها خمسة مثل نصيب أحد المضامين، وعمرا واحدا لأنه ثلث الباقي من الثلث، وحينئذ فالوصية هنا بالربع لما علمت أن مجموع الوصيتين ستة من أربعة وعشرين وقد اختصت كما ترى بنصيبي المضامين، وبقي نصيب من شرط عدم إضافته كاملا فأثرت الوصية في تخصيص بعض الأنصباء بالنقص لكن يشترط إجازة المضامين كما يأتي فهذا تصريح من الشيخين في صورة السؤال بصحة الوصية، وبدخول النقص على الابن دون الزوجة إن أجاز وقول السائل نفع الله تعالى به كما يدل كلام الروضة وقوله: لكن قال إنها في ثلث نصيب من جعلت في نصيبه يوهم أن عبارة الروضة، وأصلها ليست صريحة في ذلك ولا في تخصيص بمن شرط إضافته وليس كذلك فيهما لما علمت مما تقرر أن عبارة الشيخين صريحة في صحة الوصية، وفي تخصيص النقص بمن شرط إضافته، وأنه لا خلاف في ذلك، وعلى فرض خلاف فيه فهو ضعيف أو شاذ، وما علل به ينافيه لاقتضائه صحتها، وإنما شرط تنفيذها الإجازة وهذا هو الحق فقد قالوا: عقب ما مر عن الروضة إنما تستقيم هذه المسألة، ونظائرها إذا أجاز المضام كما صرح به الرافعي فإن لم يجز خرجت الوصية من كل التركة ما لم تزد على الثلث، ويقسم الباقي على كل الورثة، وعلته أنها تتضمن وصية لوارث، ومن ثم قال الإمام المحقق خاتمة المحققين المتأخرين من الفرضين الشهاب ابن الهائم في شرح كفايته، وغيره، وأقره شراح كلامه كشيخنا شيخ الإسلام زكريا وكالشيخ الإمام البدر سبط المارديني لو خلف جدا، وبنتا، وأوصى لأجنبي بثلث الباقي بعد الفرض فإن قلنا بالضعيف إنه لا يفرض للجد فيها فالوصية بالسدس، وإن قلنا بالأصح إنه يفرض له فيها كالأب معها فالوصية بالتسع واعلم أن هذه الوصية تضمنت وصية أخرى لوارث وهو البنت لإدخاله الضيم على الجد دونها كما لو أوصى بإدخال الضيم عليه دونها فلمن دخل عليه الضيم أن لا يجيز ما حصل به الضيم؛ لأن ضرر الوصية لا يختص ببعض الورثة، وفي هذه المسألة قد اختص الضيم بالجد فإن أجاز للبنت فعلى الضعيف تصح من ستة للبنت ثلاثة وللموصى له سهم وللجد سهمان، وعلى الأصح تصح من ثمانية عشر للبنت تسعة وللجد ثلاثة بالفرض، وثلث الباقي سهمان للموصى له، ويبقى أربعة للجد بالعصوبة يجتمع له سبعة، وإن رد للبنت بطلت

 

ج / 3 ص -429-        وصيتها ولم تفتقر وصية الأجنبي إلى إجازة؛ لأنها دون الثلث فهي على الضعيف وصية بالسدس أيضا ليخرج من مخرجه، ويقسم الباقي على اثنين فتصح من اثني عشر للموصى له سهمان ولكل من البنت، والجد خمسة، وعلى الأصح وصية بالتسع أيضا، فيخرج من مخرجه، ويقسم الباقي على ستة فتصح من تسعة بالاختصار للموصى له سهم ولكل من البنت، والجد أربعة قال: ولا يضر عدم صدق قول الموصي إذ رعاية صدقه إنما تجب حال الإجازة قال شيخنا، وأقول: العبرة بالفرض المعلق به وصيتة لا بما يأخذه الورثة فصدق قوله: حال الرد أيضا وقال البدر الدماميني في شرح الفصول هو، والمتن ما حاصله وليس الخلاف في كون الجد مع البنت يأخذ بالفرض أو التعصيب لفظيا كما زعم جمع أئمة منهم الرافعي، والنووي بل معنوي إذ يظهر أثره فيما لو أوصى وقد ترك بنتا وجدا لزيد بنصف ما يبقى بعد نصيب ذوي الفروض، ويكون ذلك كالوصية بإدخال الضيم على بعض الورثة دون بعض فيما لو قال على أن لا يضام ذو الفرض، ويختص الضيم بالعاصب فتفتقر هذه الوصية إلى إجازة من دخل عليه الضيم؛ لأنها وصية بإدخال الضيم على بعض الورثة دون بعض وهي وصية لوارث فلمن دخل عليه الضيم أن لا يجيز القدر الذي حصل به الضيم فإن أجاز الجد الوصية للبنت فعلى الضعيف وهو أن الجد يأخذ عصوبة فقط يكون للبنت النصف وللجد نصف الباقي ولزيد النصف الآخر، وتصح من أربعة، وعلى الأصح أنه يأخذ بهما يكون لها النصف وللجد السدس فرضا وله نصف الباقي عصوبة، ونصفه الآخر لزيد فلزيد في هذه الصورة ربع المال على الضعيف، وسدسه على الصحيح، وأن رد وصيتها فلزيد الربع أيضا على الضعيف، والسدس على الصحيح لكن لا يدخل الضيم على الجد وحده فعلى الضعيف الباقي بعد ربع الوصية بين البنت، والجد، وتصح من ثمانية للبنت ثلاثة فرضا وللجد ثلاثة عصوبة ولزيد اثنان، وعلى الصحيح يخرج لزيد السدس وصية، والباقي للبنت نصفه وللجد سدسه فرضا وباقيه عصوبة فتصح من ستة، وثلاثين، وبالاختصار من اثني عشر ا هـ. وعبارة الفصول صريحة في التسوية في الحكم بين ما إذا صرح الموصي بقوله على أن لا يضام ذو الفرض، وبين ما إذا لم يصرح به بأن اقتصر على أوصيت لزيد بنصف ما يبقى بعد إخراج الفرض أو بعد نصيب ذي الفرض وصرح بمقتضى ذلك في شرح كفايته أي: كما مر عنه، وأخذ ما فيها، وفي الفصول من تدريب شيخه السراج البلقيني، وفي مجموع الكلائي وعمدة ابن الملقن عن قول المنهاج: الأب يرث بالفرض إذا كان معه ابن الخ، ما يوافق التدريب ولم نجد هذه الصورة أعني: الوصية بجزء مما يبقى بعد إخراج الفرض من غير ذكر اشتراط إدخال الضيم على ذوي الفروض دون العاصب في شيء من كتب الأصحاب القديمة ولا المتأخرة بعد البحث الطويل السنين العديدة، وأما هؤلاء المصنف، والكلائي، وابن الملقن فكلهم أصحاب البلقيني ولم يعزها أحد منهم إلى غيره ولا زال مشايخنا، وغيرهم يختلفون فيها منهم ابن المجدي فقال المراد بقوله: بعد إخراج الفرض إنما هو لتميز الباقي ليعلم

 

ج / 3 ص -430-        قدر المأخوذ منه لا أنه يعطي لذي الفرض فرضه، وتعطى الوصية من الباقي فهي من الدوريات كما لو أوصى لزيد بمثل نصيب بعض ورثته، وأوصى لعمرو بجزء ما يبقى بعد إخراج النصيب وجعل ما يفهم من عبارة الفصول، وغيره سهوا، ووافقه على ذلك العلائي القلقشندي لكن غلطه جمع منهم الجلال المحلي، فأجاب بعبارة الفصول معتمدا على ما في التدريب، وتوقف عن الجواب شيخا الإسلام ابن حجر والقاياتي، والظاهر ما قاله ابن المجدي ا هـ. كلام البدر المارديني، وبذلك كله علم أن الحق في مسألة السؤال، ونحوها صحة الوصية لكنها تتوقف على إجازة من دخل الضيم عليه، ويجمع بين ما نقل في السؤال من المقالات المختلفة بحسب الظاهر بأن ما في الروضة، ونقل عن القاضي محله عند الإجازة وكلام ابن منصور محله عند الرد وكذلك تصويب الجياني، وإن أوهم تعبيره بالبطلان خلاف ذلك؛ لأن تعليله المذكور في السؤال صريح في الصحة عند الإجازة فيحمل قوله: بالبطلان على ما يحتاج للإجازة ولم يجزه الوارث، وبذلك يعلم أنه لا خلاف بين الأئمة المذكورين في السؤال فإن قلت: مسألة الخلاف المذكورة آخرا تشبه مسألة السؤال فيجزي فيها خلاف أولئك المتأخرين أيضا قلت: ممنوع بل بينهما فرق واضح فإن صورة السؤال لما قال فيها في نصيب الابن خاصة كان مصرحا بإدخال الضيم عليه وحده وصورة الخلاف إنما هي فيما إذا سكت ولم يصرح بذلك كما مر فتأمل هذه المسألة بجميع أطرافها فإنها مهمة، ويقع الغلط فيها كثيرا وقد اتضح حكمها. ولله سبحانه وتعالى الحمد.
وسئل رضي الله تعالى عنه عمن قال في وصيته: ومن حج عني فله كذا، والوصي في ذلك أو في تنفيذ وصاياي فلان فأخرج الوصي حاجا فأحرم قبل مخرج الوصي آخر علم بالوصية ما حكمه؟. فأجاب بقوله: يقع إحرام المتقدم للميت، ويستحق الموصى به وقد أفتيت بذلك قديما فيما أظن، ووجهه أن الموصي لما قال: من حج عني فله كذا لم يجعل للوصي نظرا في تعيين من يحج عنه بل قطع تعيينه بتعبيره بمن حج عني والسابق بالإحرام صدقت عليه هذه العبارة فاستحق بنص الموصي بخلاف معين الوصي فإنه خارج عن عبارة الموصي بسبق الأول له، والوصي ليست له ولاية إلا في إقباض الموصى به لا في تعيين يخالف قضية لفظ الموصي فلا تغرير منه يقتضي غرمه.
وسئل عن شخص أوصى بحجة بمائة دينار مثلا فجاعل الوصي أو الوارث حيث لم يكن ثم وصي شخصا للحج عن الميت المذكور بأقل مما أوصى به الميت المذكور جهلا منه بقدر ما أوصى به الميت أو عمدا فهل يستحق الحاج جميع ما أوصى به الميت، وإن لم يسمه له في عقد الجعالة أو لا؟. يستحق إلا ما سمي له، ويصرف الزائد للورثة أو ينظر في لفظ الموصي فإن قال: أوصيت لمن يحج عني استحق جميعه، وإن لم يسمه له في عقد الجعالة أو أوصيت بأن يحج عني أو أوصيت بحجة مثلا فلا يستحق إلا ما سمى له في عقد الجعالة

 

ج / 3 ص -431-        ويصرف الزائد للورثة. فأجاب بقوله: قال الأذرعي: لو قال أحجوا عني زيدا بخمسين دينارا لم يجز أن ينقص منها شيء مع خروجها من الثلث، وإن وجد من يحج بدونها، وإن لم يعين أحدا فوجد من يحج بأقل قال ابن عبد السلام في الفتاوى صرف إليه ذلك القدر إذا خرج من الثلث وكان الباقي للورثة وقيل: يجب صرف الجميع قلت: وهو الصحيح، والقياس الظاهر ا هـ. وفي الجواهر قال أحجوا عني بألف درهم فإن عين من يحج عنه وكان الألف أكثر من أجرة المثل صرف إليه إن احتمل الثلث الزيادة وكان المعين أجنبيا فإن كان وارثا فالزيادة على أجرة المثل وصية لوارث، وإن لم يعين من يحج عنه فإن كان الألف زائدا على أجرة المثل فوجهان أحدهما لا يحج عنه إلا بأجرة المثل، والثاني يحج عنه به إن وفى الثلث به، وبه يشعر نصه في الأم، وبه أجاب الماوردي، واختاره ابن الصلاح ا هـ. ونقل الغزي الثاني عن الرافعي أيضا حيث قال في أدب القضاء، وتبعه شيخنا زكريا رحمه الله تعالى قال: حجوا عن فلان بألف درهم، وأجرة مثله خمسمائة فوجهان أحدهما لا يصرف لمن يحج إلا أجرة مثله؛ لأن الزيادة وصية ولم يعين الموصى له، والثاني هو وصية لشخص موصوف بأن يحج عنه، فيدفع عنه إليه الألف إن خرجت الزيادة من الألف من الثلث، وبه صرح الرافعي ا هـ. وقال الروياني في البحر أوصى بأن يشتري له عشرة أقفزة حنطة جيدة بمائتي درهم، ويتصدق بها فكان ثمنها مائة درهم فثلاثة أوجه أحدها ترد المائة أي: للورثة، والثاني أنها وصية، والثالث يشتري بها حنطة بهذا السعر، ويتصدق بها ا هـ. قال شيخنا زكريا سقى الله تعالى عهده، والأوجه الأول إذا علمت ذلك فعلى ما مر عن ابن عبد السلام لا يستحق الحاج إلا المسمى له، والباقي للورثة سواء أقال الموصي لمن يحج عني أو أن يحج عني أو بحجة مثلا؛ لأن ما قاله ابن عبد السلام موافق لأول وجهي الجواهر، وأول أوجه البحر، وأول وجهي أدب القضاء وقد علله قائله بأن الزيادة وصية ولم يعين الموصى له أي: فتكون الوصية باطلة بالزائد لعدم تعيين الموصى له به، وإذا كان هذا هو ملحظ البطلان فلا فرق فيه بين أن يقول لمن يحج عني أو بحجة مثلا لاستواء الكل في المعنى المعلل به وهو أن الزائد وصية لمن لم يعين فتبطل، وعلى ما رجحه الأذرعي وهو المعتمد إذ هو الموافق لثاني وجهي الجواهر المنقول عن قضية نص الأم، وتصريح الماوردي، واختيار ابن الصلاح ولثاني أوجه البحر ولثاني وجهي أدب القضاء المنقول عن تصريح الرافعي يستحق الحاج بقية الألف إذا وفى بها الثلث؛ لأن ثاني وجهي أدب القضاء علل الاستحقاق بأنه وصية لشخص موصوف بأن يحج عنه فأفهم هذا تقييد استحقاقه للزيادة باتصافه بالحج عنه، والحاج في صورة السؤال متصف بذلك فليستحق الزيادة عملا بقضية هذه العلة التي صرح بها الرافعي وإذا كانت العلة في استحقاقه اتصافه بما ذكر وهذا الاتصاف موجود في كل من تلك الصور فظهر أن المعتمد في صورة السؤال أن الحاج يستحق الزيادة مطلقا لما علمت أنها وصية له بشرط اتصافه بالحج عنه وقد وجد فيه هذا

 

ج / 3 ص -432-        الوصف فإن قلت: الصورة التي ذكروا فيها جميع ما مر إنما هي حجوا وصورة السؤال أوصى بحجة فربما يتوهم بينهما فرق قلت: نعم يتوهم ذلك لولا ما قررته من أن علة الوجه الأول السابق تقتضي عدم الاستحقاق مطلقا، وعلة الوجه الثاني السابق تقتضي الاستحقاق مطلقا كما مر ذلك مبسوطا فأخذنا بمقتضى العلة، وأعرضنا عن خصوص الصورة؛ لأن النظر إلى مقتضى العلة، والإعراض عن خصوص الصورة هو دأب الأئمة كما لا يخفى على من تدبر كتبهم فإن قلت: لم جرى في صورة البحر وجه ثالث ولم يجز فيها قبلها إلا وجهان قلت: يوجه ذلك بأن تعيين ثمن الأقفزة قرينة على أنه ليس قصده إلا التصدق بما يحصل به زاد على العشرة أو نقص عنها؛ لأن الزيادة في الصدقة مطلوبة أصالة فجرى ذلك الوجه بالتصدق بالزائد بخلاف الحج فإن الزيادة فيه على حجة الفرض متوقفة على الوصية مع أن الأصل فيه الامتناع عن الغير كما هو شأن سائر العبادات لولا ما وردت به السنة فلم يجز فيه وجه بأن يحج عنه حجة أخرى بالزائد فتأمله تعلم به الرد على من حاول تخريج وجه من مسألة الصدقة إلى الحج ثم رأيتني ذكرت جواب ما في السؤال في شرح العباب بما يوافق ما قدمته لكن مقيدا، وعبارتي فيه فرع عين الموصي مقدارا للحج ولم يعين أحدا فاستأجر الوصي للحج بدونه فالذي يحثه ابن الرفعة وصاحب الوافي أن ما ذكره الموصي إن كان أجرة المثل كان الباقي لورثته وإن كان أكثر منه فهو للأجير، ويكون وصية له، ويوافقه ما صححه الأذرعي، والسبكي من أنه في هذا، وفيما لو قال: أحجوا عني رجلا بألف، فيحج عنه بالألف، ويكون الزائد وصية فإن عين مقدارا أو شخصا وهو زائد على أجرة مثله صرف إليه إن احتمل الثلث الزيادة ولم يكن وارثا، وإلا لم يصرف إليه الزائد؛ لأنه وصية وهي له ممتنعة، فيحج عنه المعين إن رضي، وإلا فغيره بأجرة المثل، وإن كان قدر أجرة مثله، ورضي غيره بدونه ولم يرض هو أجيب غيره قاله الأكثرون قال القاضي: وكذلك لو تبرع واحد بالحج، ونظر فيه الزركشي من حيث إنه قصد تخصيص المذكور بالمال ولهذا جعل الزائد وصية له ثم قال: وإنما يتجه هذا أي: كلام القاضي إذا عين المال فقط ا هـ. ويجاب بأنه لا يظهر الغرض في التخصيص إلا عند الزيادة على أجرة المثل، وأما عند الاقتصار عليها فليس هناك كبير غرض حتى ينظر إليه فقدم حق الورثة المحقق على حق المعين المحتمل لأن يكون عينه لقصد إيثاره على غيره ولأن يكون موافقة انتهت، وفيها فوائد، وأولها موافق لما أفتيت به فيما مر لكن فيها زيادة قيد وهو أن شرط كونه وصية يستحقها، وإن أوجر بدونها أن يزيد ذلك على أجرة المثل وهذا لا ينافي ما مر عن الأذرعي، وغيره؛ لأن ذاك قبل الاستئجار، فيستأجر عنه بما عينه الميت مطلقا وهذا الذي في كلام ابن الرفعة وهو الموافق لصورة السؤال فيما إذا وقع الاستئجار بأقل مما عينه الميت ففيه التفصيل بين أن يكون المعين أجرة المثل فلا غرض في تعيينه، وبين أن يزيد فله غرض في التعيين، فيكون الزائد وصية، ويحتمل أنه لا فرق، وأنه يستحق المعين إذا استؤجر بدونه، وإن كان المعين أجرة

 

ج / 3 ص -433-        المثل وهو قضية ما مر عن الأذرعي، وغيره كما بينته فيما مر.
وسئل عن شخص أوصى لزيد بجميع ماله ولآخر بنصفه ولآخر بثلثه ولآخر بربعه ولآخر بخمسه ولآخر بسدسه ولآخر بسبعه ولآخر بثمنه ولآخر بتسعه ولآخر بعشره، وأجاز الورثة الوصية فمن كم تصح هذه المسألة؟. فأجاب بقوله: قال في الروضة: وإن زادت الوصايا على المال بأن أوصى لزيد بماله كله ولعمرو بثلثه فإن أجازوا فقد عالت المسألة إلى أربعة لزيد ثلاثة ولعمرو سهم، وإن ردوا قسم الثلث بينهما على أربعة، وتكون قسمة الوصية من اثني عشر، ولو أوصى لزيد بنصف ماله ولعمرو بثلثه ولبكر بربعه قسم المال بينهم على ثلاثة عشر سهما إن أجازوا، وإلا قسم ثلثه على ثلاثة عشر ا هـ. وبه يعلم أنك تفرض في هذه المسألة لزيد ما تصح منه تلك الكسور وهو ألفان وخمس مائة وعشرون ثم تزيد عليها تلك الكسور فحينئذ تصح من سبعة آلاف، وثلاث مائة، وأحد وثمانين لزيد ألفان وخمس مائة وعشرون وللموصى له بالنصف ألف، ومائتان وستون، وبالثلث ثمان مائة، وأربعون، وبالربع ست مائة وثلاثون، وبالخمس خمس مائة وأربعون، وبالسدس أربع مائة وعشرون، وبالسبع ثلاث مائة وستون، وبالثمن ثلاث مائة وخمسة عشر، وبالتسع مائتان وثمانون، وبالعشر مائتان، واثنان وخمسون، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عن شخص أوصى لجيرانه وكان في جيرانه مسجد هل يكون كدار، فيستحق نصيبها من يسكنها أو يكون نصيبها لها، ويعمل الناظر فيه بالأهم من عمارتها كما لو أوصى لها فإن قلتم: إنه كدار، ويكون نصيبها لمن يسكنها ولم يسكن فيها أحد فما الحكم فيه أو لا يكون كدار فلا يستحق شيئا؟. فأجاب بقوله: الذي يتجه أن المسجد يحسب من جملة الدور التي هي مائة وستون مجموع أربعين دارا من كل جانب، وأن ما يخصه يصرف لمصالحه لا لسكانه لقولهم إنه حر يملك.
وسئل عمن أوصى لوارثه ثم قبل الإجازة وقف الموصى له الموصى به على بعض الورثة المحتاج إلى إجازتهم يصح في حصة الوارث الموقوف عليه بما يختص بإجازته قياسا على بيع الرهن من المرتهن أم لا؟. فأجاب بقوله: الكلام على هذه المسألة يحتاج لمقدمة هي أن الأصح أن الإجازة من الوارث تنفيذ لإعطاء الميت لا عطية مبتدأة من الوارث فلا يحتاج بعد قبول الوصية إلى قبول ثان وليس للمجيز الرجوع عن إجازته، ولو لولده، وبالإجازة وقبوله الوصية يتبين أن الموصى له ملك الوصية من حين الموت، وإن لم يقبضها فتكون له فوائدها من حينئذ إذا تقرر ذلك علم منه أن وقف الوارث لما أوصى له به مورثه بعد موت مورثه وقبوله الوصية موقوف على إجازة بقية الورثة فإن أجازوا كلهم بان أنه ملك الموصى به كله بالموت، وأن وقفه صحيح كما لو وقف مال أبيه ظانا حياته فبان أنه عند الوقف كان ميتا فإنه يصح؛ لأن العبرة في العقود بما في نفس الأمر، وإذا علم أن صحة وقفه

 

ج / 3 ص -434-        موقوفة على الإجازة علم أنه لا فرق بين أن يقف على وارث تعتبر إجازته أم لا؟. فإذا وقف على وارث تعتبر إجازته، اشترط لتبين صحة الوقف عليه وقوع الإجازة منه، ومن غيره إن وجد باللفظ كأجزت أو أمضيت لا بالفعل ولا بمجرد الرضا من غير لفظ فإذا أجاز الموقوف عليه، وغيره بانت صحة الوقف الموصى به كله عليه، وإن رد هو أو غيره أو هو مع غيره صح الوقف فيما يملكه الواقف بالإرث، وفي حصة المجيز دون حصة الراد، ويفرق بين ما قررته، وما أشار السائل نفع الله تعالى به إلى القياس عليه من أن بيع الراهن الرهن من المرتهن صحيح من غير احتياج إلى لفظ فك الرهن منه بأن ملك الراهن هناك تام، وإنما تعلق للمرتهن به حق الوثيقة فقط فكان قبوله لبيعه متضمنا لفك تلك الوثيقة، وانحلالها فلا يحتج معه إلى غير قبول البيع بخلاف الوارث هنا فإن حقه في ملك عين الموصى به لغيره فكان حقه أقوى فتوقفت صحة الوصية على تصريحه بالإجازة ولم يكتف بمجرد رضاه أو فعله لما علمت أن قوة تعلقه بملك رقبة الموقوف اقتضى أن لا بد أن يوجد منه ما يزيل ذلك التعلق الأقوى ولا يزيله إلا بما يماثله في القوة وهو اللفظ لأنه لا يحتمل التأويل بخلاف مجرد الفعل أو الرضا، ومن ثم لو باع الوارث الموصى له الموصى به من أحد الورثة أيضا وقبله لم يكتف بقبوله عن التصريح بالإجازة بل لا بد من وجود لفظها أو ما في معناه، ولو بعد قبول البيع فإذا وجد بانت صحة البيع وصحة قبوله فاتضح فرقان ما بين هذا، والرهن، وإن لم أر أحدا أشار إلى شيء من ذلك لكنه ظاهر لمن تأمل كلامهم وأحاط بمداركهم على وجهها فإن قلت: قد اكتفوا في إجازة خيار البيع بمجرد قبول الشراء أو إيجابه فلم لا يكون ما هنا كذلك قلت: الفرق بين ما هنا، وذاك واضح فإن الإجازة ثم بالفعل كافية وهنا لا يكتفى إلا باللفظ، وأيضا فالشرط هنا وقوع حقيقة الإجازة، وأما ثم فالشرط للزوم عدم الفسخ إذ لو مضى زمن الخيار ولم يفسخ ولم يجز لزم العقد فعلم أن ملحظ الإجازة ثم غير ملحظها هنا فلا يقاس ما هنا بما هناك، ونحوه ثم رأيت القمولي نقل في جواهره في آخر باب الصداق عن الأصحاب ما قد يشير إلى أن قبول الوارث الوقف أو البيع أو نحوها لا يكون إجازة، وعبارته قال المتولي لو وهب مريض مالا يخرج من ثلثه، وسلمه له ثم وهبه الموهوب له من الوارث، وسلمه ثم مات المريض أي: ورد الوارث فهل يغرم الموصى له قيمته للوارث من أصحابنا من أطلق وجهين كهبة من الزوج، ومنهم من فرق بأن حق الوارث متعلق به وقت الهبة ولهذا لو تصرف الموهوب له في المال ببيع أو هبة من أجنبي فله أي: الوارث نقض تصرفه فإذا عاد إليه من جهته جعل كأن الهبة لم تكن، وحق الزوج لا يتعلق بالصداق عند الهبة فنفذ التصرف ولهذا لو باعت لم يجز للزوج نقضه، والعود إليه بعد ذلك إنما هو من غير جهة الصداق انتهت قال البلقيني: وينبغي ترجيح الطريقة الثانية ا هـ. فتأمل تحويرهم الرد للوارث بعد قبول الهبة وقبضه من الموصى له تجده صريحا لولا فرضه ذلك قبل الموت إلا أن يقال: إنه تصوير لما هو ظاهر أن تينك الطريقتين

 

ج / 3 ص -435-        يجريان فيما لو وقع ذلك بعد الموت في أن هذا القبول، والقبض ليسا إجازة، وإلا لم يجز له الرجوع كما مر وهذا عين ما قدمته أن قبول الوارث للوقف أو البيع أو نحوهما من الموصى له بما يتوقف على إجازة الوارث لا يكون متضمنا لإجازته بل له الرد بعده، وما رجحه البلقيني من الطريقة الثانية هو الوجه الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه لوضوح الفرق بين ما هنا، والصداق، وحاصله أن الزوجة قبل الطلاق تملك الصداق ملكا تاما حقيقيا فصح تصرفها فيه ولم يكن للزوج بعد الفراق فإذا وهبته له ثم فارقها كانت متلفة له قبل الفراق فرجع عليها ببدله، وأما الموصى له في مسألتنا فهو قبل الإجازة من الوارث لا ملك له تام بدليل أن للوارث نقض تصرفه فإذا تصرف، ولو مع الوارث بالهبة له أو الوقف عليه لم يكن للوارث الرجوع عليه؛ لأنه إن رد الوصية ملك الموصى به بطريق الإرث، وإن أجاز بأن ملك الموصى به وصحة الوصية فلا رجوع له أيضا، ومما يؤيد ما ذكرته قول القفال على كل من القولين أي: إن إجازة الوارث تنفيذ أو ابتداء عطية تجوز بلفظ الإجازة، والتنفيذ ولا يفتقر إلى القبول؛ لأنها ليست بهبة محضة وهكذا ذكره في الحاوي ا هـ. فعلمنا من كلامه، وإن كان غير معتمد بالنسبة للقول الثاني الذي هو الضعيف أن الإجازة على الأصح فيها هبة لكنها غير محضة، وإذا كان فيها ذلك اتضح أنه لا بد فيها من اللفظ، وأنه لا يكفي الفعل نظرا إلى شائبة الهبة فإن للوارث حقا فيما نفذه فكأنه بإجازته وهبه ذلك الحق فكانت إجازته متضمنة للهبة فاتضح أنه لا يكفي فيها الفعل كالهبة وصرح المتولي بأن الإجازة على الأصح أنها تنفيذ تنزل منزلة الإبراء ا هـ. وهو كالصريح فيما ذكرته؛ لأن الإبراء لا بد فيه من اللفظ ولا يكفي الفعل وقد نص الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأم على أنها منزلة منزلة الإبراء حيث قال إنها إسقاط لحق الوارث عن مال الميت فلا تصح مع الجهل به كالإبراء وقد جرى الأصحاب على ذلك فقالوا: لا تصح الإجازة مع الجهل بمقدار ما أجازه.
وسئل عمن أوصى بثمرة بستان لأناس معينين عشر سنين ليكون بعد العشر الأصل، والشجر ملكا لإنسان هل يصح أو لا؟. وبعد موت الموصي يكفي قبول الموصى لهم بالرقبة قبل موت من لهم ثمرة البستان أو لا؟. فأجاب بقوله: إذا قال: أوصيت بثمرة بستاني لفلان أو لبني فلان عشر سنين ثم بعد مضيها يكون الأصل، والثمرة لفلان صحت الوصيتان على ما ذكره كما دل عليه كلامهم في مسائل منها قولهم لو قال استخدموا عبدي سالما بعد موتي سنة ثم أعطوه فلانا أو ثم أعتقوه صح ولا تقوم عليهم خدمة السنة لاستعمالهم ملكهم، وتقوم بعدها وقولهم: لو قال: إلا ولدت دابتي ذكرا فهو لزيد أو أنثى فهي لعمرو صح، واتبع ما قاله فإن ولدتهما معا أو مرتبين أعطي الذكر لزيد، والأنثى لعمرو وقولهم: لو أوصى لصبي بشيء وقال: لا تعطوه له حتى يبلغ لم يعط حتى يبلغ كما لو قال: أعتقوه بعد موتي بثلاثة أيام وقولهم: لو أوصى بمنفعة عبده لزيد، وبرقبته لعمرو جاز فإن رد عمرو فهل تعود المنفعة للموصى له بالرقبة أو للوارث وجهان الأصح الثاني وقولهم لو أوصى لزيد من أجرة داره

 

ج / 3 ص -436-        مثلا كل سنة بدينار ثم جعله بعده لوارث زيد أو للفقراء جاز وقولهم: لو أوصى بعتق رقيقه بعد خدمة زيد سنة جاز ولا يعتق قبل السنة سواء أرد الموصى له بالخدمة الوصية أم قبلها، ووجه دلالة هذه النقول على ما ذكرته أن صحة الوصية الأولى لا نزاع ولا توقف فيها لإطباق الأئمة على صحتها، وإنما التوقف في صحة الوصية الثانية؛ لأنها معلقة بمضي الأولى وقد علمت من كلامهم المذكور، ومن غيره أن التعليق، والجهل، والإبهام لا يضر في الوصية؛ لأنها مبنية على الجهالات، والأخطار توسعة للإنسان في آخر عمره أن يستبقي لنفسه من ماله شيئا يفوز بثوابه في الآخرة بأي وجه كان، وإذا لم يضر فيها التعليق، والجهل، والإبهام، والإخطار فالوصية الثانية في صورتنا صحيحة وإن كانت معلقة بمضي الأولى لما تقرر أن التعليق مغتفر في الوصية، وإذا قلنا بصحتها فالرقبة مدة السنين العشر التي هي الوصية الأولى ملك للوارث ولكن لا يصح تصرفه فيها كما صرحوا بنظيره لتعلق الوصية الثانية بها، ويعتبر خروج البستان المذكور جميعه من الثلث، وإن حكمنا بملك الوارث للرقبة المدة المذكورة؛ لأن ملك الرقبة خالية عن المنفعة كلا ملك كما صرحوا به ثم الذي يظهر من كلامهم أيضا أنه يصح قبول الموصى لهم بالرقبة، والثمرة عقب موت الموصي، وإن كان استحقاقهم منتظرا أخذا بعموم قولهم: إن القبول يدخل وقته بالموت فإن قلت: كلامهم مصرح بأنه لو أوصى له بما ستحمله هذه الأمة لم يصح قبوله للوصية قبل الحمل، وبعده فيه وجهان بناء على أنه يعلم، فيصح قلت: فرق ظاهر بين هذه، ومسألتنا؛ لأن الموصى به موجود فيها بخلافه في مسألة الحمل، والمعدوم لا يصح قبوله بخلاف الموجود وتعلق حق الغير به لا يصيره كالمعدوم كما هو ظاهر.
وسئل عمن قال: حجوا عني بخمسين ولم يعين أحدا فاستأجر الوارث بدون الخمسين فالفاضل لمن هو على القول الراجح؟. فأجاب بقوله: هو للورثة كما لو تبرع عنه وارث أو أجنبي بالحج فإن المعين كله يكون للورثة؛ لأنه لهم بطريق الأصل، وإنما أخرج عنهم لجهة معينة فإذا تعذر صرفه في تلك الجهة رجع إليهم على الأصل وقد ذكر الأئمة لذلك نظائر منها ما في البحر للروياني من أنه لو أوصى أن يشتري له عشرة أقفزة حنطة جيدة بمائتي درهم يتصدق بها فكان ثمنها مائة درهم ففيه ثلاثة أوجه: أحدهما يرد المائة للورثة، والثاني أنها وصية، والثالث يشتري بها حنطة بهذا السعر، ويتصدق بها قال شيخنا زكريا سقى الله تعالى ثراه:، والأوجه الأول، ومنها قولهم لو قال أعتقوا عني بثلثي رقابا ففضل من ثلثه عن أنفس رقبتين شيء أعطي هذا الفاضل للورثة لبطلان الوصية فيه وقولهم لو قال: حجوا عني بثلثي صرف ثلثه إلى ما يمكن من حجة أو حجتين فصاعدا فإن فضل ما لا يمكن أن يحج به فهو للورثة، وإن لم يوف ثلثه بحجة بطلت الوصية وكذا لو قال حجوا من ثلثي بمائة فلم يجد من يحج تبطل الوصية كما جزم به الرافعي، ويعود إرثا قال الماوردي: ولا يعود إلى الثلث وقيل: لا تبطل، ويتصدق بها عنه، ولو قال:

 

ج / 3 ص -437-        حجوا عني بثلثي حجة صرف إلى حجة واحدة قال في الحاوي: سواء سمى من يحج أم لا؟. ثم إن كان الثلث أكثر من أجرة المثل لم يجز أن يستأجر للحج عنه الوارث فإن لم يعين أحدا فوجهان في الإبانة أحدهما لا يحج عنه إلا بأجرة المثل والباقي للورثة، والثاني يصرف الجميع للحجة، ولو أوصى أن يحج عنه زيد بألف فإن كان قدر الأجرة أو أقل أعطى له وارثا كان أو غيره، وإن كان أكثر من الأجرة أعطى له إن كان أجنبيا فإن كان وارثا، ورضي بقدر الأجرة أعطيه، ورد الباقي للورثة، وإن لم يرض استؤجر غيره بأجرة المثل، والباقي يعود إرثا، فيكون للورثة وكذا لو تطوع شخص جاز، ورد الكل للورثة ولم يجز استئجار المعين هذا في الفرض أما النفل فإن امتنع المعين ففي جواز حج غيره عنه وجهان، ولو استأجر الوصي زيدا المعين بخمس مائة وهو غير وارث ولم يعلم المستأجر بالوصية قال ابن الرفعة في الكفاية لم أر في ذلك نقلا، وفي الحاوي ما يمكن تخريجه عليه وهو إذا أوصى بشراء عبد زيد بألف، وبعتقه عنه فاشتراه بخمس مائة وأعتقه، والبائع لم يعلم بالوصية فإن كان يساوي ألفا فالباقي للورثة أي:؛ لأنه لا محاباة فلا وصية فإذا رضي البائع بدون الثمن صح البيع وتعين الفاضل للورثة، وإن كان يساوي خمس مائة فالباقي للبائع؛ لأنه وصية له، وإن ساوى سبع مائة فللوارث مائتان إذ لا وصية بالنسبة إليها وللبائع ثلاث مائة؛ لأنها القدر الموصى به إذ هو الزائد على ثمنه وهو السبع مائة ا هـ. وما بحثه في الكفاية في المعين وخرجه على كلام الحاوي المذكور ذكره في المطلب أيضا وخرجه على كلام الحاوي المذكور لكن على وجه غير الوجه الذي ذكره في الكفاية فإن الذي فيها فيما إذا عين الموصى له، والذي فيه فيما إذا لم يعينه فإنه قال فيه: وقع في الفتاوى في زماننا أن شخصا أوصى بأن يحج عنه بأربع مائة حجة الإسلام ولم يعين أحدا فاستأجر أمين الحاكم شخصا للحج عنه بثلاث مائة، وأفهمه أن ذلك هو الموصى به ولم يعلم المستأجر صورة الحال فحج عنه ثم تبين بعد ذلك الحال فطلب المائة الزائدة فاقتضى النظر بعد إمعان الفكر أن القدر الموصى به إن كان قدر أجرة المثل فذكره ليس لغرض فيه بل لأجل أن ذلك هو أجرة المثل فتصح الإجازة ولا يستحق الأجير المائة الفاضلة، وإن كان أكثر من أجرة المثل كأن كانت أجرة المثل ثلاث مائة استحق الأجير المائة الزائدة ثم أيد ذلك بمسألة الماوردي كما مر نقله عنه في الكفاية ثم قال في المطلب عقب كلام الماوردي: وهذا ما وقع في نفسي صحته لا لأجل ما ذكره الماوردي في مسألة العبد من التعليل بأن ذلك وصية له فإن هذا التعليل غير واضح؛ لأن القدر الزائد، وإن كان تبرعا عليه لكنه إنما جعله في ضمن عقد، والتبرع في ضمن العقد لا يفرد عن العقد ألا ترى أنه لو باعه بمحاباة في مرض موته، واتفق رد الورثة الثمن بعيب لا يبقى قدر المحاباة من المبيع على ملك المشتري لأنه وقع في ضمن عقد قد انفسخ فلا يفرد بالحكم فكذا نقول إذا وقع الثمن بخمس مائة وصح بطل القدر الزائد من المحاباة على القيمة؛ لأنه لم يدخل في العقد ولكنه أي: الماوردي قد قال: إن ذلك مذهبنا

 

ج / 3 ص -438-        بعد أن حكى عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى أن جميع الخمس مائة الفاضلة للبائع كيف كان الحال، والذي يظهر لي أن يكون مأخذا لما وقع في نفسي على ما عليه نفرع أن الإذن في الاستئجار مقيد بذلك القدر المعين لأجل غرض تحسين الأجير الحج، وفي الاستئجار بدونه مخالفة للإذن، وتفويت لغرض الموصي فلا يصح لكن الحج وقع عن الميت بعقد فاسد فاستحق الأجير القدر الموصى له به مع زيادته على أجرة المثل؛ لأن الموصي جعل لمن يحج عنه ذلك القدر فاستحق بمقتضى الوصية ا هـ. كلام المطلب، وما ذكره فيه من التفصيل متجه، ومن القياس على كلام الماوردي فيه نظر فإن كلام الماوردي في موصى له معين وكلام المطلب من غير معين، وشتان ما بينهما لكن آل كلام المطلب إلى أنه لا يرتضى القياس على كلام الماوردي، وإنما يلحظ استحقاق الحاج للمعين كله حيث زاد على أجرة المثل ما ذكره في آخر كلامه فعليه إن كانت الخمسون المذكورة في السؤال أجرة مثل الحج من الموضع الذي عينه الميت، وإلا فمن الميقات فالباقي للورثة، وإن كانت أكثر من أجرة المثل فالباقي للموصى له، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عن قولهم في باب الوصية أوصى لأقاربه دخل القريب الوارث، وتبطل في قسطه هل تبطل في قسط الورثة كلهم أو كل وارث بالنسبة إلى نفسه، وما معنى قولهم بالبطلان بأنه لا يمكن إجازة الإنسان لنفسه فيعارض بالوصية للوارث، وأنها تصح بالإجازة فلزم إجازته لنفسه؟. فأجاب بقوله: ما أشار إليه السائل نفع الله سبحانه وتعالى به من الإشكال أبديت قريبا منه على وجه آخر في شرح الإرشاد، وعبارته بعد قول المتن حتى وارثه على المرجح في الشرح الصغير والمهمات لوقوع الاسم عليهم ثم تبطل في نصيبهم لتعذر إجازتهم لنفسهم، ويصح الباقي لغيرهم وقضية التعليل أنه لو تعدد الوارث على هذا لم يبطل جميع نصيبه، وإنما يبطل منه ما يحتاج إلى إجازة نفسه خاصة، وحينئذ ينتج من ذلك أنه يعتبر في صحة الوصية للوارث الإجازة لنفسه وهو ممتنع فكان القياس أن يدخل، ويعطى نصيبه كما لو أوصى لأهله فإنه يحمل على من تلزمه نفقته على الأصح في الروضة إلا أن يقال بما هنا في تلك من أنه لا يدخل أو يدخل، ويبطل نصيبه وقيل: لا يدخل الوارث بقرينة الشرع؛ لأنه لا يوصى له عادة وهو ما رجحه في المنهاج كأصله، ومشى عليه الحاوي، والمصنف في روضه قبل، وأشعر به كلام الروضة، وأصلها انتهت عبارة الشرح المذكور ولك أن تمنع تلك المعارضة التي ذكرها السائل، وتفرق بين ما هنا، والوصية للوارث بأن الموصي هنا علقها باسم قريبه الشامل لورثته لكن لما لم ينص الموصي على خصوص الوصية للوارث اختلف نظر الأئمة حينئذ في أن ذلك الشمول منظور إليه أو لا. فمن قال: إنه منظور إليه وهم القوم المصححون للقول الأول لم يقله إلا من حيث النظر إلى عموم القرابة فقال بدخوله ثم لما حقق النظر قال بعدم إعطائه لتعذر إجازته لنفسه أي: في هذا الغرض بخصوصه من حيث النظر إلى مراد الموصي الذي دل عليه كلامه وهو برء لمن

 

ج / 3 ص -439-        لا حق له في إرثه، وإذا كان هذا هو مراده، فيتعذر إعطاء الوارث؛ لأنه لو أخذ لتوقف على إجازته لنفسه، ولو أجاز لنفسه لأخذ من حيث إجازته؛ لأنها السبب القريب لا من حيث الوصية؛ لأنها سبب بعيد فكان في أخذه منافاة لغرض الموصي، وأما الموصى للوارث بخصوصه فلم يعلق بمطلق القرابة، وإنما قصد أنه مع قيام وصف الإرث به يأخذ فكان ذلك متضمنا أنه أذن له في أن يجيز، ويأخذ فلم يكن في أخذه بعد إجازته منافاة لغرض الموصي على أن هذا كله غير محتاج إليه فإنا لا نعتبر في الوصية للوارث الإجازة إلا إذا كان معه ورثة غيره فإذا أجازوا الوصية له صحت، وإن لم يجز هو، وإذا ردوها بطلت، وإن أجاز هو، وأما إذا لم يكن هناك وارث غيره فإنه لا تصح الوصية له لتعذر إجازته لنفسه، وأما ما هنا فالذي معه غير ورثة وهم لا تعتبر إجازتهم فلو أعطيناه لصححنا الوصية له مع انفراده، ووقفناها على إجازته لنفسه وهو محال فالموضعان على حد سواء وهو أنه حيث لم يكن مع الوارث الموصى له غيره لم تصح الوصية له لتعذر إجازته لنفسه، وحيث كان معه غيره صحت إن أجازها ذلك الغير، وما قالوه هنا من صور ما إذا كان الوارث ليس معه غيره وقد تقرر أنه لا يمكن أخذه بالوصية حينئذ إذ لو أخذ لتوقف على إجازته لنفسه وحده، وإجازته لنفسه متعذرة فتأمل ذلك يتضح لك أنه لا إشكال بين ما قالوه هنا من دخوله نظرا لشمول اسم القريب له أي: حتى يزاحم بقية الأقارب، وعدم إعطائه لتعذر إجازته لنفسه إذ لا وارث غيره وحيث لم يكن مع الوارث الموصى له وارث آخر بطلت الوصية له، وما قالوه ثم من صحة الوصية للوارث الذي معه ورثة غيره، وتوقفها على إجازتهم.
وسئل عن تزويج الأم المولاة على أولادها من قبل الحاكم هل تبطل وصايتها بتزويجها كحضانتها؟. فأجاب بقوله: قال بعضهم: رأيت معلقا أنها تبطل ولم يسنده المعلق إلى أحد وهو منقاس غير بعيد فإن قيل: للوصي التوكيل في البيع فكذا قيم الحاكم قلنا: وإن جوزنا لها التوكيل هي مشغولة بحق الزوج كما أن الحاضنة تسقط حضانتها بالتزويج مع إمكان أن تستنيب من يتولى الحضانة عنها ا هـ. وعندي فيه نظر، والذي دل عليه إطلاقهم بقاء ولايتها مع التزوج سواء أكانت وصية أو قيمة من جهة الحاكم، ويفرق بينهما، وبين الحاضنة بأن من شأن الحاضنة تعهد المحضون، وأن يكون عندها، وفي محلها، والتزوج من شأنه أن يشغل عن هذا، وإن رضي الزوج بإقامة الولد بمحله فذلك لا يوثق به منه غالبا فكان التزوج منافيا لمقصود الحضانة من كل وجه فبطل بها بخلافه هنا فإنه غير مناف لمقصود التصرف عن الغير بنحو البيع لسهولة تعاطيها لذلك بنفسها وهي في بيتها، وتوكيلها مع قيامها بجميع حقوق الزوج فلا مزاحمة بين الحقين حتى يتوهم أنها تشتغل بحقوقه عن التصرف للأولاد بخلاف الحضانة كما تقرر فافهم ذلك واحفظه فإنه مهم وكثير الوقوع.
وسئل رضي الله تعالى عنه بما صورته مسألة مهمة وقع فيها خلاف طويل بين فقهاء

 

ج / 3 ص -440-        حضرموت ولم يتحرروا منها على شيء بل كل منهم يخطئ صاحبه فالمسئول مزيد تحريرها، وتوضيحها صورتها شخص له ولد ذكر، وبنت، وأولاد ابن ميت أوصى لهم بميراث أبيهم لو كان حيا أو بمثل ميراث أبيهم لو كان حيا أو قال: هم على ميراث أبيهم لو كان حيا فكيف القسمة بينهم فهل لأولاد الابن خمسان؛ لأنه ميراث أبيهم أو لهم سبعان كما يؤخذ من كلام الروضة، وغيرها، وعرف البلد أنهم ينزلونهم منزلة أبيهم من غير فرض زيادة، ومن ثم أفتى جماعة من الفقهاء الذين كانوا مفتين بحضرموت بالأول، وأطبق الناس عليه من غير نكير أجاب بعضهم بما حاصله إذا كانت الصورة كما ذكر فلهم سبعا تركة الموصي على المعتمد كما صرح به في مثل صورة السؤال ابن المقري في الروض تبعا للروضة، وغيرها، وذلك كما لو مات له ابنان، وأوصى بمثل نصيبهما نعم إن قال الموصي: أولاد ابني على ميراث أبيهم لو كان حيا أو جعلتهم على ميراث أبيهم لو كان حيا فالوصية بالخمسين ا هـ. وأجاب آخر بما حاصله الكلام في وجهين الأول من حيث الصيغة فإذا قال: أوصيت لفلان بمثل نصيب ابني وله ابن وارث صحت أو بنصيب ابني صحت أيضا كما في الروض، والحاوي، والإرشاد تبعا للشرح الصغير في باب الوصية وللروضة، وأصلها في باب المرابحة تقدير المثل لكثرته في الاستعمال؛ ولأن الوصية واردة على مال الموصي ولا نصيب للابن قبل موته فكان الغرض التقدير لما يستحقه بعده ولذا لو لم يكن له ولد أصلا وكان صيغته أوصيت لفلان بمثل نصيب ابني صح كما قاله البغوي في تهذيبه، والخوارزمي في كافيه قال: والتقدير بمثل نصيب ابني لو كان الثاني من حيث الحصة في صورة السؤال، والذي يظهر أنه يلحق بما قاله البغوي، والخوارزمي ما لو قال لابن ابنه الذي قد مات أبوه: أوصيت لفلان بنصيب أبيه، ويكون التقدير بمثل نصيب أبيه لو كان حيا فالموصى به خمسا التركة وهو مقتضى الضابط الذي ذكره الأئمة وهو تصحيح للفريضة بدون الوصية، ويزاد فيها مثل ما للمذكور فمسألة السؤال من ثلاثة للابن سهمان وللبنت سهم فيزاد عليها مثل نصيب الموصى بمثل نصيبه وهو سهمان فتكون الجملة خمسة وليس للابن الموصي بمثل نصيبه سهم، ومن جعل له سهما حتى صارت القسمة أسباعا فقد خالف الفقهاء الذين أفتوا بالخمسين، والحادثة مفروضة فيمن أوصى بمثل نصيب ميت وصورة الروضة وغيرها من كتب الأصحاب مفروضة في بنين أحياء كلهم، ومن المحال جهل الفقهاء المذكورين بمسألة الروضة وكتب الأصحاب ولكنهم عرفوا أن الصورة غير الصورة المذكورة في الحادثة فأضربوا عن قياسها على مسألة الروضة، ووهم من قاسها عليها مع وضوح الفرق فإن الموصي في الحادثة جعل الموصى له بمنزلة والده الميت فلا يحسب للميت سهم بل للموصى له فقط ولا شك أن الموصي خصوصا العامي إنما يقصد بذلك أن الحافد بمنزلة أبيه، وأن ميراث أبيه لو كان حيا يكون له ولا ينبغي لمفت أن يفتي بغير ذلك فالمعروف المعهود، والمعلوم عند القائل، والسامع هو ما ذكرناه قال الإمام أحمد بن أبي بكر الناشري: والعرف

 

ج / 3 ص -441-        قد يضعف فيطرح وقد يقوى فيؤخذ به قطعا وقد يبلغ رتبة يتردد في قوته، وضعفه، فيثور الخلاف ا هـ.
وهذه المسألة مما قوي فيها العرف فإن أهل جهتنا إنما يقصدون ما ذكرته لا غير وقد تكلم العلماء في البيع، والشراء بالدينار في بلد يعتقدون الدينار أربعة دراهم وهو في الشرع المثقال، والعوام لا يعرفونه إلا أربعة دراهم قال المحب الطبري في شرحه للتنبيه بعد ذكره الخلاف، وبعد كلام طويل ما حاصله: يصح البيع، والشراء، ويحصل على الدينار المتعارف بينهم، واختاره الجياني في فتاويه وقال: لا يمكن القول بغيره نظرا للعرف ا هـ. فكذا في مسألتنا لا يمكن أن يكون مراد العامي أن للحافد سهما ولوالده سهما وهذا مما لا يشك فيه ذو لب ولا يخفى أن الحافد يحتاج إلى إجازة الورثة فيما زاد على الثلث وأجاب بما حاصله من أوصى بمثل نصيب ابنه لو كان حيا فرضت حياته، وأنه ورث، ويجعل لابنه مثل ما يقع له زائدا على المفروض، فيكون فيمن له ابن، وبنت، وابن مات وله ابن أوصى له بمثل نصيبه لو كان حيا، فيقع للابن سبعا التركة، ولو ترك لفظة مثل فله ذلك على الأصح الذي رجحه الشيخان وجزم به غير واحد كالأستاذ أبي منصور، فيكون على الوجهين في ذكر مثل ولكن حكى أبو إسحاق على ما جزم به أن الأصحاب جعلوا للموصى له في حذفها مثل نصيب الحي، ويكون موضع أبيه حيا ففي مسألتنا يكون له الخمسان، وما قيل: أن القاضي ابن عبسين اعتمد هذا هو خلاف ما كتبناه عنه أن الصحيح عنده هو ما رجحه غيره من أن له السبعين نعم في السؤال صورة ما لو أوصى بكون أولاد ابنه على ميراث أبيهم، والذي نعتقده فيها أنهم يكونون موضعه لو كان ولا يفرضون زائدين، فيكون لهم في هذه الخمسان وهو ما نقلوه عن الماوردي في قوله: أوصيت لابن ابني بما كان نصيب أبيه أنه يجعل موضعه بلا فرض، وزيادة، وبمثل ذلك نقول فيما إذا قال: جعلته موضع أبيه أو أقمته في محله في إرثي فلو لم يقل في الكل إن لم يكن حيا فالذي رآه الفقيه عبد الله بن عبسين أنه كما لو ذكره، وتصح الوصية قال: وهو الذي أطبق الناس على العمل به ويقدر أنه تلفظ به كما هو المفهوم في العموم وكما يكثر التقدير في الكتاب، والسنة، ولغة العرب وهذا كله فيما إذا لم يدع الموصى له إرادة الموصي لكونه كالحي بالأصل فإن ادعى ذلك أو علم الوارث به حلف الوارث أنه لا يعلم إرادته ذلك فإن ردها حلف الموصى له على ما ادعى به واستحقه فإن حلف بعض الورثة ورد بعض فحلف هو شارك من رد بقسطه فيما زاد وكذلك من المعلوم أن ما زاد على الثلث حيث يفرض يتوقف على الإجازة وليس عندي من البحث غير ما ذكر، وأجاب آخر بما حاصله صورة السؤال بعينها مذكورة في كلام الأصحاب، ولنقدم مقدمة يتضح بها وجه الصواب قال في الروضة: إذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابن واحد لا يرثه غيره فالوصية بالنصف إن أجيزت، وإلا فبالثلث وكذا لو كان له أبناء فأوصى بمثل نصيبهم، ولو لم يكن له ابن أو لم يكن وارثا لرق أو غيره فالوصية باطلة ولو قال: أوصيت له بنصيب ابني فوجهان أصحهما عند العراقيين والبغوي بطلان الوصية،

 

ج / 3 ص -442-        وأصحهما عند الإمام، والروياني، وبه قطع أبو منصور صحتها، والمعنى بمثل نصيب ابني فإن صححناها فالوصية بالنصف على الأصح وقيل: بالكل حكاه البغوي، ولو كان له ابنان فأوصى بمثل نصيب أحدهما أو بمثل نصيب ابن فالوصية بالثلث، وإن كانوا ثلاثة فبالربع أو أربعة فبالخمس، وعلى هذا القياس، ويجعل الموصى له كابن آخر معهم، وضابطه أن تصحح فريضة الميراث، ويزاد عليها مثل نصيب الموصي بمثل نصيبه ا هـ. المقصود من كلام الروضة والأصح من الوجهين فيما إذا أوصى بنصيب ابنه الصحة كما في الشرح الصغير هنا، والروضة، وأصلها في المرابحة، وتبعهما ابن المقري وغيره حملا على أن المعنى بمثل نصيبه وجرى عليه في الوسيط حيث قال: إذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابن واحد فله النصف حتى يتماثلا فإن كان له ابنان فأوصى بمثل نصيب أحدهما فله الثلث فإن كانوا ثلاثة فبالربع، وبالجملة تراعى المماثلة عندنا بعد القسمة وقال مالك: هو وصية بحصة لابن قبل القسمة فإن كانوا ابنين فبالنصف أو ثلاثة فبالثلث وهو ضعيف لأن ما ذكرناه محتمل وهو الأقل فيؤخذ به، ولو أوصى بنصيب ولده كان كما لو أوصى بمثل نصيب ولده وقال أبو حنيفة: هو باطل؛ لأنه وصية بالمستحق وهو ضعيف؛ لأنه إذا قال: بعت بما باع به فلان فرسه صح وكان معناه بمثله انتهت عبارة الوسيط إذا عرفت هذا، واتضح لك معناه علمت أن الوصية في صورة السؤال على قياس ذلك إنما هي بمثل نصيب الميت بعد القسمة لو كان حيا أما في الصيغة الثانية في السؤال فواضح، ووجهه يؤخذ مما قدمناه عن الغزالي في احتجاجه على مالك رضي الله تعالى عنه، وأما في الصيغة الأولى وهي ما إذا أوصى لهم بميراث لو كان حيا فكذلك أيضا؛ لأن من لازم صحة الوصية فيها التقدير بالمثلية كما عرفته مما قدمناه فيما إذا أوصى بنصيب ابنه الحي فصارت كالصيغة الثانية في السؤال إذا تقرر هذا علم أن الوصية في صورة السؤال إنما هي بسبعي التركة وذلك لأنه مثل نصيب الميت بعد القسمة لو كان حيا وهو لو كان حيا كان أصل المسألة من خمسة لكل ابن سهمان وللبنت سهم فزدنا عليه مثل نصيب أبيهم وهو سهمان، وذلك سبعا التركة وهذا كاف في الجواب على صورة السؤال لمن فهم كلام الأصحاب بل صرح بذلك الأئمة كالشيخين، وعبارة الروضة لو أوصى وله ابن بمثل نصيب ابن ثان لو كان فالوصية بالثلث أو وله ابنان بمثل نصيب ابن ثالث لو كان فالوصية بالربع وقال الأستاذ أبو إسحاق في الأولى بالنصف، وفي الثانية بالثلث وهل يفرق بين قوله: بمثل نصيب ابن ثان أو ثالث لو كان، وبين أن يحذف لفظة مثل، فيقول: بنصيب ابن القياس أنه على الوجهين فيما إذا أضاف إلى الوارث الموجود، وحكى الأستاذ أبو منصور عن الأصحاب أنهم فرقوا فقالوا: إذا أوصى بمثل نصيبه دفع إليه نصيبه لو كان زائدا على أصل الفريضة، وإذا أوصى بنصيبه دفع إليه لو كان من أصل الفريضة فعلى هذا إذا أوصى بنصيب ثالث لو كان فالوصية بالثلث، ولو قال بمثل نصيب ابن ثالث لو كان فبالربع كما سبق ولو أوصى وله ثلاثة بنين بمثل نصيب بنت لو كانت فالوصية بالثمن وقال

 

ج / 3 ص -443-        الأستاذ أبو إسحاق: بالربع انتهت عبارة الروضة فالمعتمد ما قال الشيخان أنه القياس وهو أنه لا فرق بين أن يأتي بلفظة مثل أو يحذفها لا ما حكاه الأستاذ أبو منصور من الفرق وقد جرى على ما ذكراه في الروض، وأقره الشيخ زكريا في شرحه، ووجه ما قال أنه القياس أنه يحتمل أن الموصي أراد المماثلة قبل القسمة، ويحتمل أنه أراد ذلك بعدها والاحتمال الثاني هو المتيقن فوجب الأخذ به، وبذلك يعلم أن كون الوصية بسبعي التركة في صورة السؤال صحيحا لا إشكال فيه، وأن المسألة مذكورة في كلامهم، وممن نص على المسألة أيضا حجة الإسلام في وسيطه فقال بعدما قدمناه عنه ولو كان له ابنان فقال: أوصيت له بمثل نصيب ابن ثالث لو كان لا يعطى إلا الربع وكان ذلك الابن المقدر كابن، وفيه وجه أنه يعطى الثلث وكأنه قرره مكانه انتهت عبارة الوسيط وهي قاطعة لكل ريب بحمد الله وهذا هو مقتضى الضابط السابق فبان أن الأصحاب متفقون على ما ذكرناه فيما إذا كانت الصيغة أوصيت له بمثل نصيب أبيه لو كان حيا إلا ما شذ به أبو إسحاق، وأن الشيخين ألحقا بها ما إذا حذف لفظ مثل، ووافقهما المتأخرون على ذلك وقول السائل، وعرف البلد الخ. جوابه أن التحقيق في ذلك أخذا مما قدمناه أنه إن علم إرادة الموصي ذلك عمل بها؛ لأن لفظه محتمل له، وإلا حمل على المماثلة بعد القسمة؛ لأنه المتيقن كما مر وغاية ما في ذلك أن هذا اللفظ كناية في إرادة المماثلة قبل القسمة، والكناية يرجع فيها إلى النية كما هو معلوم، ومن تأمل كلام الأصحاب علم أنه لا مدخل للعرف هنا ذكروا أن الصراحة في الألفاظ لا تؤخذ من الشيوع، ورجحه النووي وأن القرائن لا تصير الكناية صريحا، وأيضا فالصيغة تحتمل المماثلة قبل القسمة، وبعدها، والثاني هو المتيقن فيؤخذ به؛ لأن الأصل تنزيل الوصية على المتيقن كما صرح به الأصحاب، ونظيره الإقرار بشيء يحتمل معان متعددة وقد نص الشافعي رضي الله تعالى عنه، وتبعه الأصحاب على عدم اعتبار العرف فيه حيث قال: أصل ما أبني عليه مسائل الإقرار أن أطرح الشك، وأبني على اليقين ولا أستعمل الغلبة قال الشيخ أبو علي: أراد لا أستعمل العادة ولا ما غلب على الناس ثم رأيت عن قواعد الزركشي أنه نقل عن الرافعي أن العرف إنما يعمل به في إزالة الإبهام لا في تغيير مقتضى الصرائح هذا إذا علم أن اللافظ أراد غير مقتضى لفظه، وأما عند الجهل فيعمل بمقتضى لفظه ا هـ. وهو يؤيد ما قلناه ولله الحمد لكن الذي رأيته في نسخة من القواعد أن القائل بذلك هو الإمام لا الرافعي فليحرر ذلك فإن تلك النسخة ضعيفة وقد صرح الأصحاب بأن ما ذكرناه هو مقتضى لفظ الموصي كما يعلم ذلك بمراجعة شرح الروض، وغيره ثم لا يخفى أن الموصى له لو ادعى أن الموصي أراد المماثلة قبل القسمة وهو الخمسان في صورة السؤال، وبه تقبل دعواه، ويحلف الوارث على نفي العلم بإرادة ذلك فإن نكل حلف هو على البت كما في نظائره وهو واضح، ولترجع الآن إلى ما في كلام المجيب بأن له الخمسين فنقول: أما كلامه في أول جوابه من حيث صحة الصيغة فواضح وهو صريح في أن الوصية في صورة

 

ج / 3 ص -444-        السؤال إنما هي بمثل نصيب أبيهم لو كان حيا لكنه لم يبين هل المراد المثلية قبل القسمة أو بعدها وكلامه في آخر جوابه صريح في أن المراد بذلك قبل القسمة لأنه، جعل للموصى له الخمسين وقد علمت مما قدمناه أنه ليس كذلك على مذهبنا، وإنما يأتي على مذهب مالك أو على ما قاله أبو إسحاق أو على ما فرق به الأستاذ أبو منصور في الصيغة الأولى، وكل ذلك ضعيف كما قررناه، وأما ما نقله عن البغوي، والخوارزمي فهو صحيح لكن قوله: ويظهر أن يلحق بذلك الخ. كلام من لم يقف على نقل في المسألة وقدمنا في المقدمة عن الروضة ما يقتضي بطلان هذه الوصية التي بحث صحتها. وإذا بطلت الوصية فيما لو أوصى بمثل نصيب ابنه ولا ابن له وارث إذ لا نصيب للابن مع التصريح هنا بالمثلية فما ظنك بالصورة التي بحثها الفقيه المذكور الفرق بينها، وبين مسألة البغوي، والخوارزمي ظاهر فلا يصح إلحاقها بها نعم قال بعض المتأخرين: ينبغي حمل كلام الروضة على ما إذا لم يرد الوصية بمثل نصيبه لو كان حيا، وظاهره أنه يراجع في ذلك لا أن كلامه محمول عليه بخلاف مسألة البغوي، والخوارزمي. وأما قوله: إن للموصى له الخمسين الخ. فهذا بناه على ما فهمه من كلام الأصحاب من أن المراد المماثلة قبل القسمة وقد علمت أنه ليس كذلك وكذا قوله: إن ذلك مقتضى الضابط الذي ذكره الأصحاب إنما يأتي على فهمه المذكور، وبالجملة فقد أتى بكلام الأصحاب ولم يفهم معناه، وأما قوله إن الإفتاء باستحقاق السبعين مخالف لإفتاء المتقدمين من المفتين بحضرموت كابن مزروع، وابن عبسين، وابن الحاج أنه إنما يستحق الخمسين فجوابه أني راجعت فتاوى العلامة ابن مزروع من أكابرهم فرأيت كلامه موافقا لما قررناه لا مخالفا له لكن هذا الفقيه لم يفهمه كما لم يفهم كلام الأصحاب في مسألة السؤال على أن هذه ليست منصوصة بعينها في كلام ابن مزروع، وإنما الذي فيها ما إذا أوصى بمثل نصيب وارث حي لكن المعنى في ذلك لا يختلف كما علم مما قررناه، وأما العلامة ابن عبسين فهو مصرح في فتاويه بأن المسألة في الروضة لكنه مال إلى الفرق الذي ذكره أبو منصور ولا شك أن الشيخين هما العمدة لا سيما وقد، وافقهما فحول المتأخرين، وأما ابن الحاج فلم أقف له على كلام في المسألة، وأما قوله: إن مسألة الروضة مفروضة في بنين أحياء الخ. فهو كلام من لم يقف على الفرع الذي قدمناه عن الروضة أو لم يفهمه إذ مسألة الروضة هي مسألة السؤال بعينها فإن قول الموصي أوصيت لهم بمثل ميراث أبيهم لو كان حيا كقوله أوصيت لك بمثل نصيب ابن ثان لو كان وهي مسألة الروضة وهذا مما لا شك فيه، ومن ثم نسب ابن عبسين مسألة السؤال للروضة، وإن مال إلى الوجه الضعيف كما مر، وأما قوله: أن الموصي جعل الموصى له بمنزلة والده الخ. فهذا إنما يأتي على فهمه المذكور أن المراد المماثلة قبل القسمة وقد علمت أنه ليس كذلك على المعتمد في المذهب، وأما بقية كلامه فرده ظاهر مما ذكرناه، وأجاب آخر لكن في سؤاله زيادة هي. ولو كانت المسألة بعينها وللموصي ثلاثة بنين، وبنت فأوصى لأولاد ابنه بمثل نصيب واحد من أعمامهم فمات

 

ج / 3 ص -445-        قبل موت الموصي اثنان، وبقي واحد فهل لهم مثل نصيبه تاما أو ينقص عليهم، وتحسب الأموات أحياء أم لا. ينقص ولهم مثل ميراث الحي فقال ما حاصله الصواب أن للموصى لهم سبعا المال في صورة السؤال؛ لأنه الذي أطبق عليه الأصحاب ومنهم الشيخان في العزيز، والروضة، وغيرهما فيما إذا كان له ابن، وبنت، وأوصى بمثل نصيب ابن ثان لو كان حيا ولم يحكوا فيه إلا وجها ضعيفا وهذا المثال الذي ذكروه نظير صورة السؤال، وأما القول بالخمسين فيما إذا كانت الوصية ممن له ابن، وبنت فإنما ذكره الأصحاب فيما إذا كانت صيغة الوصية أوصيت بمثل نصيب ابني أي: الموجود ففي هذه الصورة تكون الوصية بالخمسين كما ذكروه، ونحن نوضح النقل في الصورتين جميعا ليظهر الحق فيتبع، ونقدم الصورة الثانية؛ لأنها كالأصل للأولى فنقول إذا أوصى من له ابن بمثل نصيب ابنه كانت الوصية بنصف المال بلا خلاف بين أصحابنا، وعللوا بأن هذا اللفظ يقتضي أن يكون لكل منهما نصيب، وأن يكون النصيبان مثلين فلزم التسوية. وإن كان له ابنان، وأوصى بمثل نصيب أحدهما كانت الوصية بالثلث، وعلى هذا القياس، وبهذا قال أبو حنيفة، وأحمد رضي الله تعالى عنهما كما حكاه أصحابنا، وحكوا عن مالك رضي الله تعالى عنه أنها في صورة الابن بكل المال والابنين بنصف المال وهذا هو الذي يتبادر إليه فهم العوام في مثل ذلك، وذكر الإمام في النهاية أن مالكا يعتبر النصيب بنصيب الابن قبل الوصية وهو إذ ذاك جميع المال، والشافعي يعتبره مع مزاحمة الوصية، ومقتضى ذلك المساواة ا هـ. وفي أوصيت بنصيب ابني وجهان عندنا أحدهما البطلان، وعليه العراقيون، والبغوي وهو مذهب أبي حنيفة لوروده على حق الغير، والثاني، وبه قال الأستاذ أبو منصور، والإمام، والروياني، وغيرهم وجرى عليه الرافعي في العزيز في باب المرابحة الصحة؛ لأن المعنى بمثل نصيبه قالوا: ومثله في الاستعمال كثير، والغرض التقييد بما يستحقه الابن لا نفس نصيبه، ومثله ما إذا باع بما باع به فلان فرسه فإنه يصح. ولو أوصى بمثل نصيب ابنه الميت فمقتضى قول الروضة، ولو لم يكن له ابن أو لم يكن وارثا لرق أو غيره بطلت الوصية البطلان، ويتعين حمله على ما لو لم يرد الوصية بمثل نصيبه لو كان موجودا أو وارثا فإن أراد ذلك صحت وصيته بلا شك؛ لأن مثل هذا مستعمل في الكلام الفصيح كثيرا، ونظائره في الفقه كثيرة، ومن شواهده ما لو أوصى بنصيب ابنه ولم يذكر المثل بل أفتى الجمال بن كبن رحمه الله تعالى بحمل البطلان في كلام الروضة، وغيرها على ما إذا صدر ذلك من أهل ناحية لا يعتادون ذلك قال فإن اعتادوه كان وصية عملا بعرفهم ا هـ. وهو حسن. ولو قال: من له ابن واحد أوصيت بمثل نصيب ابن ثان لو كان قال الأصحاب كما حكمه حكم من له ابنان، وأوصى بمثل نصيب أحدهما فتكون الوصية بالثلث فإن كان له ابنان، وأوصى بمثل نصيب ابن ثالث لو كان كانت الوصية بالربع، وعلى هذا القياس، وفي وجه لأبي إسحاق أنها في الأول بالنصف، وفي الثاني بالثلث وكأنه أقام الموصى له مقام ابن ثان أو ثالث، وفرق بينه، وبين أوصيت له بمثل

 

ج / 3 ص -446-        نصيب ابني بأن ذلك يتضمن تشريكا، ومزاحمة فلهذا كانت الوصية فيه بالنصف كما سبق إذا عرفت هذا كله علمت أن قول الموصي أوصيت لأولاد ابني بمثل ميراث أبيهم يتخرج على ما قدمناه فيما إذا أوصى بمثل نصيب ابنه الميت فإن قيل: بالبطلان هناك كان هذا باطلا؛ لأن الميت لا ميراث له، وإن قيل: هناك بالصحة فكذا يقال هنا، وإذا صحت الوصية كانت بالسبعين في صورة السؤال كما قدمناه؛ لأن الابن الميت كالابن الزائد المقدر وجوده بجامع أن كلا منهما ليس له إرث ولا مزاحمة في الميراث، وإنما قدر كونه وارثا، وأما قوله: أولاد ابني على ميراث أبيهم، فيتخرج أيضا على هذا، وفيه مع ذلك شيء آخر وهو أنه كناية في الوصية فإن أرادها صحت، وإلا فلا نعم يظهر أن محل ما أطلقه الأصحاب في هذه الأمثلة هو ما إذا أراد الموصي المعنى الذي اعتبره الشافعي رضي الله تعالى عنه أو أطلق فلم يرد شيئا، وأما إذا قصد المعنى الذي اعتبره مالك رضي الله تعالى عنه، فيظهر أن الحكم كما ذكره مالك، وعليه فتكون الوصية بالخمسين في صورة السؤال، ووجه ذلك أن اللفظ يحتمله بتجوز شائع في الكلام فإذا قصده وجب اعتباره ألا ترى أنه لو صرح بهذا المعنى في نفس الوصية وجب اعتباره بلا تردد ويؤيده قول الكفاية عن البندنيجي. لو قال: أوصيت بمثل نصيب ابني لو لم أوص لأحد كانت الوصية بكل المال، وفي شرح الروض نحوه عن الماوردي وهو لو أوصى بمثل ما كان نصيبا لابنه أي: قبل الوصية كانت الوصية بجميع المال إجماعا كما صرح به الماوردي ا هـ. وما ذكره الماوردي والبندنيجي هو عين ما اعتبره مالك لكن نقول به في صورة الإطلاق وهما إنما يقولان به في صورة التصريح به، ومن المعلوم أن ما وجب اعتباره عند التصريح به بالنسبة لحمل اللفظ عليه لكون اللفظ محتملا له مع عدم منافاته له أنه يجب اعتباره عند قصده، وأمثلته في كلام الأصحاب لا تخفى. وقد رأيت لبعض فضلاء اليمن المتأخرين فيمن أوصى لجيرانه وقصد الجار القريب من داره دون غيره أنه يعتبر قصده، وتنفذ به وصيته قال: وما ذكره الأصحاب من اعتبار أربعين دارا من كل جانب محله عند قصده ذلك أو عند الإطلاق ا هـ. وما ذكره صحيح جار على مقتضى قواعد المذهب وهو مؤيد لما ذكرناه فإن قلت كيف يحمل اللفظ عند الإطلاق على معنى يقتضي حكما، وإذا قصد المتلفظ غير ذلك المعنى يتغير ذلك الحكم وهل في كلام الأصحاب ما يشهد لهذا قلت: قدمنا أن هذا ليس على إطلاقه، وإنما هو حيث كان اللفظ محتملا للمعنى الذي قصده اللافظ. ولو على تجوز، وشواهده في كلام الأصحاب لا تحصى منها لو أوصى لإسراج الكنيسة لم يصح ما لم يقصد انتفاع المقيم بها أو المجتاز أو لعبد غيره صحت ما لم يقصد تمليكه على نزاع فيه أو لدابة الغير لم يصح ما لم يفسر بعلفها أي: يقصده. ولو قال: الدار التي اشتريتها لنفسي أو ورثتها من أبي ملك زيد لم يصح إقراره إلا إن أراد بذلك كما في داري لفلان، ولو قال: هذا المال لورثة زيد حمل عند الإطلاق على عدد رءوسهم، وإن تفاوت إرثهم فإن قال المقر: أردت الإرث قبل، وإن نازعه أقلهم حصة

 

ج / 3 ص -447-        كما في الكفاية عن الماوردي، وأقره، والدراهم في الخلع المعلق، والإقرار تحمل على الإسلامية لا على غالب نقد البلد ولا على الزائدة أو الناقصة إلا إن قال أردتها، واعتيدت قال في الروضة: ولا يجب استفساره ليخبر عن مراده بل نأخذ بالظاهر من الحمل على الإسلامية إلا أن يخبر عن مراده. ولو قال المنفي باللعان بعد استلحاقه: لست ابن فلان كان قذفا عند الإطلاق فنحده من غير أن نسأله عن إرادته ما لم يدع محتملا كلم يكن ابنه حين نفاه فإن ادعاه صدق بيمينه، وتتبع الشواهد لذلك مما يطول وليس مرادنا أن هذه كلها نظائر لصورة السؤال في اللفظ، والمعنى، وإنما هي شواهد لما قررناه أن اللفظ حالة الإطلاق يحمل على معنى ثم إذا قصد اللافظ غيره اعتبر قصده بالشرط السابق، وإذا تقرر هذا وادعى الموصى لهم أو نائبهم في صورة السؤال أن الموصي قصد الإيصاء لهم بالخمسين سمعت الدعوى ثم إن اعترف الوارث بذلك فذاك، وإن أنكر كان القول قوله: بيمينه على نفي العلم بقصد مورثه لذلك لكن حلف الوارث في مثل هذه الحالة لا يكاد ينفك عن الحرج؛ لأن العوام، وغيرهم من المتفقهة في الجهة إنما يقصدون ذلك في صورة السؤال غالبا ثم إن حلف الوارث انقطعت الخصومة واستقرت الوصية على السبعين، وإن نكل ردت اليمين على الموصى لهم فمن كان كاملا حلف واستحق نصيبه من الخمسين إن أجاز الوارث الزائد على الثلث، وإلا فمن الثلث، ومن لم يكن كاملا وقفت يمينه إلى الكمال ولا يخفى أن الحالف منهم تكون يمينه على البت، وأما قول من قال بالفرق بين قول الموصي أوصيت لهم بميراث يستلزم تقدير المثل كما في أوصيت بنصيب ابني، وأن قوله: هم على ميراث أبيهم لا يستلزم ذلك وهذا تخيل باطل إذ لا فرق بين اللفظين في تقدير المثل، وعدمه، وبيان ذلك أن الموصي لما نسب الميراث إلى أبيهم في اللفظين مع كونه إذ ذاك ميتا لا ميراث له احتجنا في تصحيحه إلى تقدير يصح به الكلام فقلنا: إن المعنى هم على ميراث أبيهم لو كان حيا أو أوصيت لهم بميراث أبيهم لو كان حيا، ومعلوم أن هذا التقدير الذي هو سبب تصحيح الوصية يستلزم تقدير لفظ المثل في المثالين جميعا؛ لأنه إذا قدر حياته ليكون وارثا كان الموصى به نظير نصيبه لا عين نصيبه كما فيما لو قال من له ابن واحد: أوصيت بمثل نصيب ابن ثان لو كان لي، وذلك؛ لأن الأول قدرت حياته وهو ميت، والثاني قدر وجوده وهو معدوم وقد عرفت أن الأصحاب أطبقوا على أن الوصية فيه أعني: في صورة المقدر وجوده وهو معدوم تكون بالثلث فكذلك في صورة الميت المقدر حياته وهذا في غاية الوضوح إن شاء الله تعالى فإن قلت فما اللفظ الذي إذا تلفظ به الموصي في صورة السؤال كان للموصى لهم الخمسان على مذهبنا من غير منازعة من الوارث قلت: هو أن يقول: أوصيت لهم بخمسي التركة مثلا أو بمثل نصيب عمهم أو بمثل نصيب ابني الموجود أو ابني من غير وصف بالموجود؛ لأن الإطلاق محمول عليه وكذلك لو قال بنصيبه من غير ذكر المثل على الأصح كما سبق، وما حكي عن فتاوى ابن عبسين، وابن

 

ج / 3 ص -448-        مزروع رحمهما الله تعالى من أن الوصية تكون بخمسي التركة فلم أقف عليه فإن كان فرض ما سألا عنه أن الموصى له ابن، وبنت، ولو أوصى بمثل نصيب الابن الموجود فجوابهما بأن الوصية في ذلك تكون بالخمسين صحيح لموافقته ما قدمناه عن الأصحاب، وإن كان فرض ما سئل عنه أن الموصى له ابن، وبنت وله ابن ثان ميت، وأوصى بمثل نصيب الابن الميت أو بمثل ميراثه فما أجابا به فيها من أن الوصية بالخمسين غير صحيح لمخالفته للمنقول كما عرفت لكن اعتقادنا أن جوابهما إنما هو في الفرض الأول، ويكون التخليط من المستشهد بكلامهما وقول المفتي الأول كما لو كان له ابنان، وأوصى بمثل نصيبهما إما سبق قلم أو فيه إخلال من الناقل لأن هذا لا مشابهة بينه، وبين صورة السؤال؛ لأنه إن أراد أن له ابنين فقط، وأوصى بمثل نصيبهما فظاهر أن الوصية بنصف المال، وتصح المسألة من أربعة أسهم للموصى له سهمان ولكل ابن سهم، وإن أراد تقدير زيادة ابن ثان مع الابن، والبنت المذكورين في السؤال فالوصية بمثل نصيب الابنين في هذا المثال وصية بأربعة أتساع المال بتقديم التاء على السين، وتكون المسألة من تسعة أسهم للموصى له أربعة أسهم ولكل ابن سهمان وللبنت سهم وليس واحد من هذين المثالين نظيرا لصورة السؤال، وأما السؤال عمن له ثلاثة بنين، وبنت، وأوصى لأولاد ابنه بمثل نصيب واحد من أعمامهم إلى آخر ما ذكره السائل فجوابه أن الظاهر أن الاعتبار في ذلك بحالة الموت؛ لأنها التي يعلم فيها النصيب، ويتقرر فيها مقداره، وعليه، فيستحق الموصى لهم في الصورة التي ذكرها السائل ربع التركة فهذه أجوبة المفتين بحضرموت فتفضلوا بإمعان النظر فيها، وبيان ما فيها من المقبول، والمردود ليظهر الحق الذي يجب اتباعه، والعمل به، ويدحض الباطل الذي يجب الاعتراض عن التمسك بشيء من سببه فإن الله سبحانه وتعالى لم يقم خلفاء الرسل إلا لهداية الأمم، وإطفاء نار المحن، وإنارة الظلم أخذا عليهم أن لا يكتموا شيئا مما نزل إليهم، وأن لا يحابوا أحدا، وإن عز عليهم، وأن لا يخافوا في الله لومة لائم ولا سطوة لسان أو صارم فعليهم من الله شآبيب الرحمة وهوامع الإنعام، والغفران إنه الجواد الكريم الرءوف الرحيم. فأجاب رضي الله تعالى عنه في تأليف حافل ملقبا له "بالحق الواضح المقرر في حكم الوصية بالنصيب المقدر" الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم اللهم هداية للحق وتوفيقا للصواب المنقول المعتمد الظاهر الجلي حتى عند صغار الطلبة الذي لا يجوز لشافعي العدول عنه أن الذي يستحقه الموصى لهم في مسألة السؤال السابقة بأقسامها الأربعة هو السبعان لا الخمسان وأما إفتاء المفتي الثاني بالخمسين فهو غلط منه كما سيجيء في الكلام على جوابه وما نقل عن مثل ابن عبسين وابن مزروع من إفتائهما بذلك فهو بتقدير صحته عنهما لا ينظر إليه ولا يعول عليه لأنا إذا كنا لا ننظر لمثل ابن الرفعة ومن تأخر عنه كالسبكي والأسنوي والأذرعي والبلقيني والزركشي إذا خالفوا الشيخين وإن تمسكوا بكلام الأكثرين كما بسطت الكلام على ذلك في شرح العباب

 

ج / 3 ص -449-        والفتاوى فما بالك بمثل أولئك الذين لم يلحقوا غبار هؤلاء لا سيما وما استندوا إليه هنا في المخالفة مما اتفق أهل المذهب على ضعفه كما سيجيء تحقيقه ولقد أنهي إلينا من فتاوى جماعة من الحضارمة ما علمنا منه أنهم كثيرا يميلون فيها عن المعتمد في المذهب إلى الضعيف بل ربما وقع لبعضهم التمسك بمذهب مالك مثلا والإفتاء به وهذا وإن كان أئمتنا مصرحين بغاية قبحه إلا أننا نحسن الظن بأولئك لصلاحهم ولكن الحق أحق أن يتبع وبيان مثل ذلك واجب علينا لا رخصة لنا في تركه ثم رأيت شيخ الإسلام السراج البلقيني ذكر في فتاويه نظير مسألة السؤال بل عينها ولا يؤثر ما فيها من الزيادة وأن بعض أهل عصره ممن هو معد نفسه للتصنيف والإفتاء أفتى فيها بما لم يوافقه عليه أحد من أصحاب الشافعي وهو نظير الإفتاء في مسألتنا بالخمسين حرفا بحرف. وتلك المسألة هي رجل توفي له ولد يسمى أحمد فوصى لأولاده بتسعي ما يخلفه، ويتركه ثم بعد مدة طويلة توفي له ولد آخر يسمى محمدا فوصى لأولاده بمثل نصيب أبيهم أن لو كان أبوهم حيا حين وفاته أي: الموصى ثم توفي الموصى المذكور وانحصرت وراثته في ثلاثة أولاد لصلبه ذكر وأنثيين فما لأولاد ولده أحمد من تركته بحق الوصية المذكورة وما لأولاد ولده محمد من ذلك بحق الوصية المذكورة فأجاب فيها بعض المفتين من الشافعية بالقاهرة بما نصه: يكون لأولاد أحمد خمسا الثلث ولأولاد محمد الباقي من الثلث وهو ثلاثة أخماس. قال البلقيني: فلما وقفت على هذه الفتوى تعجبت من هذا المجيب من وجهين: أحدهما وهو أخفهما: أنه أطلق الجواب ولم يفصل بين أن يكون حصل رد أم لا؟ لأن الثلث إنما يقسم على الوصايا الزائدة إذا حصل رد جميع الوصايا من جميع الورثة فلعله فهم أن المسئول عنه حالة الرد لكن كان ينبغي أن يكون ذلك مقيدا إما في نفس السؤال وإما في الجواب الثاني وهو أعضلها لأنه أثبت في المسألة حكما لا يوافقه عليه أحد من أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنهم وقبل الشروع في بيان خطابه أبين الشبهة التي خطر لي أنها قامت عنده حتى كتب ما تقدم عنه فأقول اعتقد هذا الرجل أن الموصى لهم بمثل نصيب أبيهم أن لو كان حيا كأن الوصية لهم صدرت بثلث المال لأن أباهم لو كان حيا لكان له الثلث بسبب أن الميت لم يخلف من الورثة غير ابن وبنتين وإذا كانت الوصية صدرت بثلث المال فكان هذا الموصى أوصى لأولاد أحمد بتسعي ماله ولأولاد محمد بثلث ماله فمعنا تسعان وثلث مخرج التسعين من تسعة والثلث من ثلاثة والثلاثة داخلة في التسعة فمسألة الوصيتين من تسعة للموصى لهم بالثلث ثلاثة وللموصى لهم بالتسعين سهمان صار مجموع ذلك خمسة والرد حاصل فيقسم الثلث على هذه الخمسة فيكون لأولاد أحمد خمسا الثلث ولأولاد محمد الباقي من الثلث وهو ثلاثة أخماسه ا هـ. ما خطر لي من الشبهة التي قامت عند هذا الرجل ولا شبهة وكيف يحسن أن تقوم هذه الشبهة عند من تصدى للفتوى والتصنيف والاشتغال وآفة ذلك عدم التثبت والإهمال وعدم التروي والحامل لهذا الرجل على هذه

 

ج / 3 ص -450-        الكتابة أنه ضنين بنفسه، ويعتقد أنه إذا فهم شيئا لا يمكن أن يكون الصواب إلا ما فهمه، ويضن الشخص بنفسه حتى يقع في المهالك والمرجو من الله سبحانه وتعالى السلامة من ذلك ومن حق هذا الرجل أن لا يكتب في شيء الجواب حتى يراجع كتب الأصحاب ا هـ. كلام البلقيني إذا تأملته مع الإفتاء السابق بالخمسين وجدت الشبهة التي راجت على هذا الرجل المعاصر للبلقيني هي بعينها التي راجت على ذلك المفتي بالخمسين فالآفة فيهما واحدة وهي ما ذكره من الإهمال وعدم التثبت والتروي والحامل عليهما واحد وهو ما ذكره أيضا من رؤية الإنسان لنفسه وأنه لا أعلم منه وأنه إذا فهم شيئا لا يتطرق إليه خطأ وكل ذلك من أقبح الأخلاق التي يجب اجتنابها وأشنع الأوصاف التي لا يرضى بها إلا من شدت عليه الشقاوة أطنابها ثم قال البلقيني ما حاصله وقد آن كشف قناع هذه المسألة وبيان أنها ليست مشكلة وذلك منحصر في أربعة أبحاث الأول أن أولاد محمد هل يجعلون بمنزلة أبيهم، ويكون لهم ما يستحقه أبوهم لو كان حيا فهو الموصى به لهم أو يقدر كأن أباهم حي وكأن الموصي مات عن ابنين وبنتين وأوصى لأولاد محمد بمثل نصيب أبيهم وحكم ذلك يعرف من مسألة قررها الأصحاب وهي ما إذا كان للشخص ابن وأوصى لزيد بمثل نصيب ابن ثان أو ابنان وأوصى لزيد بمثل نصيب ابن ثالث لو كان فالمعروف في هذه المسألة أن لزيد في الصورة الأولى الثلث وفي الثانية الربع فهذا هو الصحيح المعروف بين الأصحاب ووجهه أنا نقدر ابنا آخر موجودا وكأنه أوصى لزيد بمثل نصيب أحد ابنيه في الصورة الأولى، أو أحد بنيه في الصورة الثانية وإذا كان الأمر كذلك لم يقسم بالاتفاق إلا ما قررناه فكذلك عند التقدير وقال الأستاذ أبو إسحاق لزيد في الصورة الأولى النصف وله في الثانية الثلث قال في الروضة الصحيح الأول وفي النهاية أن هذه الحكاية عن الأستاذ حكاها الشيخ الإمام عنه قال الإمام وهذا الذي حكاه عن الأستاذ متجه من طريق المعنى مختل جدا من صيغة اللفظ ولكنه ليس معدودا من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه والأستاذ مسبوق فيه باتفاق الأصحاب على مخالفته فإن صار إلى مذهب بعض المتقدمين أي: كمالك رضي الله تعالى عنه كما يعلم مما يأتي فهو مذهب من المذاهب وليس معدودا من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وإن لم يوافق ما نقل عنه بعض المتقدمين فلا يظن به على علو قدره مخالفة الإجماع ولعله ذكر ما ذكره إظهار الوجه من الاحتمال من غير أن يعتقده مذهبا ا هـ. فإذا علمت ذلك علمت أن الموصى به لأولاد محمد إنما هو الربع وكأن الميت خلف ابنين وابنتين وأوصى لأولاد محمد بمثل نصيب أبيهم وإذا كان الأمر كذلك لم يكن لهم إلا الربع بالاتفاق وعلى وجه أبي إسحاق للموصى لهم به الثلث لا بالمعنى الذي فهمه ذلك الرجل بل لما يأتي في البحث الثاني وبذلك يتبين لك مخالفة ما أفتى به ذلك الرجل للأصحاب كلهم واعلم أن الذي في السؤال بمثل نصيب أبيهم وليس ذكر المثل بشرط بل لو حذفه لكان الحكم كذلك نظير ما إذا كان له

 

ج / 3 ص -451-        ابنان وأوصى لزيد بنصيب ابن ثالث لو كان فقد قال الرافعي: القياس أنه على الوجهين فيما إذا أضاف إلى الوارث الموجود ومراده بذلك أن من كان له ابن وارث فأوصى لزيد بنصيب ابنه وهو قد قدم فيها وجهين أصحهما عند العراقيين والبغوي بطلان الوصية وأصحهما عند الإمام والروياني وغيرهما وبه قطع أبو منصور صحتها أي: وهذا هو المعتمد الذي صححه الشيخان في المرابحة وإذا صحح معناها فهي وصية بالنصف على الصحيح وقيل بالكل حكاه البغوي إذا عرفت ذلك فنقول لو أوصى لأولاد محمد بنصيب أبيهم لو كان حيا فعلى ما قال الرافعي أنه القياس وفرعنا على الوجه الأول أي: وهو الضعيف تكون الوصية باطلة وعلى الثاني وهو الذي عليه الفتوى تكون الوصية صحيحة وقول الرافعي: القياس أنه على الوجهين الخ. إما أن يريد الوجهين في الصحة والبطلان وهو ظاهر وأما أن يريد الوجهين في المقدر وقد قرر في المقدر ما قدمناه من أنها وصية بالنصف على الصحيح والمعنى بمثل نصيب ابني وعلى هذا فلا فرق في مسألة نصيب ابن ثالث بين إثبات لفظة مثل وحذفها لكن حكى الأستاذ أبو منصور عن الأصحاب أنهم فرقوا فقالوا إذا أوصى بمثل نصيبه دفع إليه نصيبه لو كان زائدا على أصل الفريضة وإذا أوصى بنصيبه دفع إليه لو كان من أهل الفريضة فعلى هذا إذا أوصى بنصيب ثالث لو كان وله ابنان فالوصية بالثلث ولو أثبت لفظ مثل فالوصية بالربع وبذلك نقول في مسألتنا إذا سقط لفظ مثل وفرعنا على ما حكاه أبو منصور عن الأصحاب أي: وهو ضعيف فإن أولاد محمد يكون الموصى لهم به الثلث بالمعنى الآتي وعن ذلك ينشأ سؤال قوي وهو أن الصحيح في مسألة من أوصى لشخص بنصيب ابنه وله ابن أن الوصية بالنصف والمعنى بمثل نصيب ابنه وأنه لا فرق بين حذف لفظة مثل وإثباتها إلا في وجه ضعيف جدا حكاه البغوي وههنا المحكي عن الأصحاب كما قال أبو منصور التفرقة بين ابن ثان، أو ثالث فما السبب في ذلك وعلى الجملة فالصحيح في الصورة المسئول عنها أن أولاد محمد إنما أوصى لهم بالربع بالمعنى الآتي ا هـ. كلام البلقيني في هذا المبحث وهو صريح أي: صريح في أن كلام الأصحاب مصرح ببطلان الإفتاء في مسألة السؤال بالخمسين وما أشار إليه البلقيني أخيرا من الإشكال مبني على تسليم حكاية أبي منصور الفرق المذكور والمعتمد أنه لا فرق وأن تلك الحكاية ممنوعة فلا إشكال وسيأتي في الكلام على الجواب الثالث ما يتضح به رد كلام أبي منصور من جهة المعنى أيضا فراجعه.
"المبحث الثاني" أنا إذا جعلنا لأولاد محمد الربع على الصحيح أو الثلث على الضعيف وهو رأي أبي إسحاق أو عند حذف لفظة مثل على ما حكاه أبو منصور فهل معناه من أصل المال أو هو من الباقي بعد التسعين الصواب الذي لا يسوغ لأحد مخالفته أن المعنى إنما هو الثاني وسبب ذلك أن أباهم لو كان حيا إنما يأخذ نصيبه بعد التسعين فالمشبهون به كذلك بطريق الأولى وكان هذا الشخص له ثلاثة بنين أوصى لزيد بتسعي ماله

 

ج / 3 ص -452-        ولعمرو بنصيب أحد بنيه ومن تخيل خلاف ذلك فقد حاد عن طريق الصواب وكتب الأصحاب مملوءة من الفروع الشاهدة لما قررته فلم أحتج إلى نقل ذلك لكثرته.
"المبحث الثالث" أنا إذا جعلناه من الباقي بعد التسعين فهل يقسم الثلث عند الرد على النسبة أو يدفع لأولاد أحمد تسعا المال والباقي من الثلث وهو التسع لأولاد محمد الحق الذي لا تجوز مخالفته أنا نقسم الثلث عند الرد على النسبة ولا يجوز هذا الاحتمال الثاني إذ يلزم عليه أن من أوصى لزيد بثلث ماله ولعمرو وبنصف أحد بنيه الثلاثة وحصل رد أن لا يدفع لعمرو شيء وكذلك يلزم أن هذا الشخص لو كان أوصى لأولاد أحمد بثلث ماله ولأولاد محمد بمثل نصيب أبيهم أن لو كان حيا لا يدفع إليهم شيء عند الرد وهذا باطل ولوضوح بطلانه لم أحتج إلى نقل كلام الأصحاب الدال على ما قررت أنه الحق فإن ذلك مما لا يخفى.
"المبحث الرابع" أنا هل نعتبر عدد أولاد الموصي حالة الوصية أو حالة الموت هذا مما لم أقف فيه على نقل والذي يظهر لي أن الوصية إن صدرت منه بنصيب أحد أبنائه الثلاثة مثلا اعتبر العدد حالة الوصية وأما لو أوصى بمثل نصيب زيد وهو من أولاده مثلا فالمعتبر حالة الموت لا محالة وعلى هذا تتخرج مسألتنا فإن الوصية صدرت لهم بمثل نصيب أبيهم أن لو كان أبوهم حيا وذلك مجهول حال الوصية والعاقبة أسفرت عن العلم به فإن قال قائل فقد يكون غرض الموصي النصيب بتقدير العدد الموجود عند الوصية فالجواب أنا لا اطلاع لنا على مقصوده وإنما الحكم دائر مع مقتضى الألفاظ ا هـ. وظاهر كلام الأئمة في الوصية أن المدار على العدد الموجود عند الموت لا الوصية مطلقا ومما يصرح به قولهم العبرة في الوصية للوارث بكونه وارثا عند الموت وإن كان عند الوصية غير وارث لا الوصية وإن كان عندها وارثا فلو أوصى لأخ لا يرثه غيره عند الوصية ثم حدث له ابن كانت وصية لغير وارث أو عكسه كانت وصية لوارث فلم يعتبروا علم الميت ولا أداروا عليه حكما هنا فكذلك في مسألة البلقيني لأنه هنا إذا تعمد المنهي عنه من غير تمييز بعض الورثة عن بعض ولم ينظروا إليه وإنما نظروا للوارث حالة الموت دون الوصية فأولى أن لا ينظر لجهله بعدد الأولاد ولا لعلمه به في مسألة البلقيني وإنما النظر لهم عند الموت سواء وافق عددهم عنده ظنه أم خالفه فإن قلت قضية كلام الأذرعي اعتبار الوصية مطلقا فإنه لما نقل قولهم لو أوصى بمثل نصيب ابنه ولا ابن له وارث بطلت الوصية قال لو كان له عند الوصية ابن وارث ثم مات قبله ينظر إلى حالة الإيصاء أو الموت والقلب إلى الأول أميل ا هـ. قلت الأوجه هنا أيضا الاعتبار بوقت الموت وبه يصرح قول الدارمي وإن استشكله الأذرعي وقال إنه لم يره لغيره لو قال بمثل نصيب أحد ولدي وله ذكور وإناث وكافر وعبد وقاتل فلا شيء فإن عتق العبد وأسلم الكافر قبل الموت فله مثل نصيب الأقل

 

ج / 3 ص -453-        ا هـ. فهو صريح في أن العبرة في أن له وارثا أو غير وارث بحالة الموت لا الوصية فيؤيد ما ذكرته ويتبين أنه المنقول فاعتمده إذا عرفت جميع ما قرره البلقيني في أولاد محمد الموصى لهم بمثل نصيب أبيهم لو كان حيا عند موت الموصي من أن الوصية لهم إنما هي بالربع على المعتمد نظرا إلى تقدير ابن ثان وكأن الميت خلف ابنين وبنتين وأوصى لأولاد محمد بمثل نصيب أبيهم والثلث على الضعيف نظيرا إلى عدم ذلك التقدير اتضح لك ما قرر في مسألة السؤال التي هي عين مسألة البلقيني هذه من أن الموصى به لأولاد الولد إنما هو السبعان على المعتمد نظرا إلى تقدير ابن ثان وكأن الميت خلف ابنين وبنتا وأوصى لأولاد ولده بمثل نصيب أبيهم لو كان حيا إذ بهذا الفرض يكون الموصى به السبعين بلا شك والخمسين على الضعيف نظرا إلى عدم ذلك التقدير وحينئذ فالمفتي بالخمسين مع وجود مثل مفت بوجه ضعيف معدوم من المذهب بل محكي عن الأصحاب لكن المعتمد عندهم خلافه فليكن ذلك الإفتاء في حيز النبذ والطرح عقوبة لمستحله حتى لا يعود إلى مثل ذلك وتمسكه بالعرف الذي أشار إليه سيأتي رده إن شاء الله تعالى عند الكلام على جوابه وسيأتي في الكلام على بقية الأجوبة ما يزيد ذلك وضوحا وبيانا.
"الكلام على الجواب الأول" قوله: فلهم سبعا تركة الموصي الخ، هو الصواب الذي لا تجوز مخالفته كما مر وقوله كما لو كان له ابنان وأوصى بمثل نصيبهما سبق قلم أو أن نسخته من شرح الروض محرفة من نصيب أحدهما إلى نصيبهما ولم يدرك تحريفها فبادر إلى كناية ما فيها من غير تأمل والصواب ما فيه وهو لو أوصى وله ابن بمثل نصيب ابن ثان لو كان فهي بالثلث كما لو كان له ابنان وأوصى بمثل نصيب أحدهما فإن هذه هي التي نظير المسألة وبيانه أنه علم من كلامهم هنا أنه في مثل هذه يقدر وجود المشبه به ثم يزاد مثل نصيبه للموصى له فمن ثم كانت الوصية في المثال المذكور بالثلث وإذا كانت فيه بالثلث لزم كونها في مسألة السؤال بالسبعين لأنك تقدر وجود أبيهم ثم تزيد مثل نصيبه وإذا قدرت وجوده كان له الخمسان من خمسة فتزيد عليها اثنين للموصى لهم فيكون لهم اثنان من سبعة فاتضح أن ما ذكرته هو النظير لا ما ذكره ذلك المفتي إذ لا مشابهة بينه وبين مسألة السؤال بوجه كما هو واضح جلي قوله نعم إن قال الموصي أولاد ابني على ميراث أبيهم الخ. عجيب منه مع إفتائه بالسبعين في أوصيت لهم بميراث أبيهم. وأي فرق بين الصورتين لأنه إن جرى على المعتمد الذي رجحه الشيخان من أنه لا فرق بين الإتيان بمثل وحذفها فلا فرق بين الصورتين أو على خلافه الذي حكاه الأستاذ أبو منصور عن الأصحاب فكذلك فما المعنى الذي أوجب التفرقة المذكورة وكأنه تخيل أنه إذا أتى بنحو أوصيت كان ذلك قرينة على تقدير المثل وإذا لم يأت بذلك لم يكن هناك داع لتقديرها وهذه غفلة ظاهرة عن مأخذهم في تقدير المثل وهو ورود الوصية سواء أكانت بلفظها أم بما يتضمنه أو يستلزمه على مال الموصي لا على مال أبيهم الميت المجعول لهم نصيبه إذ لا مال له في تركة أبيه

 

ج / 3 ص -454-        لموته قبله فتعين أنه ليس الغرض إلا التقدير لما يأخذه أولاده من تركة جدهم بما كان يستحقه أبوهم لو فرضت حياته عند موت الموصي وإذا كان هذا هو ملحظ الأصحاب في تقدير المثل فلا فرق كما هو جلي بين أن يقول أوصيت بميراث أبيهم أو هم على ميراث أبيهم أو جعلتهم على ميراثه لأن الداعي الذي ذكرته أخذا مما ذكروه موجود في كل من الصيغ فالفرق بينهما لمجرد ذلك الأمر المتخيل خطأ صراح لا وجه له فالصواب أن لأولاد الابن السبعين في الصور الأربع المذكورة في السؤال نعم في صراحة هم على ميراث أبيهم أو جعلتهم على ميراثه لو كان حيا نظر وإنما تتضح صراحتهما أن ضم إلى ذلك بعد موتي. وأما بدونه فلا بل لا يبعد أنه كناية لاحتماله فهو نظير قوله هذا لفلان من مالي المصرح فيه بأنه كناية لاحتماله الهبة الناجزة والوصية فإن قلت التعبير بالميراث بمنزلة قوله بعد موتي فليكن ذلك صريحا لذلك قلت كونه بمنزلته ممنوع لأن الميراث إنما يفهم ذلك بطريق الاستلزام لا الصراحة كما هو واضح لا سيما وتقدير مثل الذي سبق أنه لا بد منه يبعد ذلك الاستلزام لأن المماثلة لا تقتضي التساوي في سائر الاعتبارات فاتضح أن التعبير بالميراث لا يساوي التعبير ببعد موتي فلم يتجه إلحاقه به في الصراحة.
"الكلام على الجواب الثاني" قوله: وله ابن وارث فيه إيهام أن هذا قيد في ذكر المثل وليس كذلك بل هو جار عند حذفه أيضا قوله بمثل نصيب ابني صح كما قاله البغوي الخ، فيه تحريف قبيح وصوابه بمثل نصيب ابن بالتنوين ويفرق بين الصحة في هذه والبطلان في بمثل نصيب ابني ولا ابن له وارث بأن الإضافة إليه تقتضي أنه إنما ربط الوصية بمثل نصيب ابن له موجود له نصيب فإذا لم يكن له ابن كذلك لغت كما دل عليه كلام الموصي وأما إذا لم يضفه إليه فإنه لم يعتبر ذلك وإذا لم يعتبره فتصحيح اللفظ ما أمكن أولى من إهماله وهو هنا ممكن بتقدير نصيب ابن لي لو كان فاتضحت الصحة هنا والبطلان فيما مر ويؤيد ذلك قول الأئمة لو قال أعطوا فلانا شاة فمات ولا غنم له اشتريت له شاة وإن قال شاة من غنمي فمات ولا غنم له بطلت الوصية والفرق أنه هنا اعتبر وجود غنم له يعطي منها فإذا لم توجد بطلت الوصية لعدم ما يتعلق به وثم لم يعتبر ذلك فاشتريت له تصحيحا للفظ ما أمكن قوله والذي يظهر الخ، كلام ليس في محله من وجوه عديدة لا تخفى على من له أدنى اشتغال وآفة المبادرة إلى مثل هذا السفساف ما مر عن شيخ الإسلام البلقيني وأي جامع بين مسألة البغوي وصورة السؤال سوى مجرد الصحة في كل منهما وليس الكلام فيها بل في قدر حصة ما للموصى لهم وليس في مسألة البغوي تعرض لمقدر أصلا بل لمجرد الصحة كما صرح هذا المفتي به وإذا علم أنه ليس فيها تعرض لغير الصحة فكيف يقيسها عليها ويستنتج من القياس أن للموصى لهم خمس التركة هذا مما لا ينبغي صدوره من عاقل فضلا عن فاضل وقوله لو كان حيا عجيب أيضا فإن هذا مصرح به في لفظ الموصي كما في السؤال وقوله فالموصى به خمسا التركة مفرع على غير أصل إذ الذي قبله لا

 

ج / 3 ص -455-        يقتضيه بوجه وقوله وهو مقتضى الضابط الخ غير صحيح بل هو ناشئ عن عدم فهم ذلك الضابط وإلا فهو صريح في السبعين لا الخمسين كما يعلم ذلك من قول الأصحاب لو أوصى بمثل نصيب أحد أبنائه فرض كابن آخر معهم فلو كانوا ثلاثة فالوصية بالربع أو أربعة فبالخمس وهكذا وضابطه أن تصحح الفريضة الخ. فهذا في ابن موجود ففي معدوم قدر وجوده يفرض وجوده ثم يزاد مثل نصيبه بدليل قولهم أيضا لو كان له ابن وأوصى لزيد بمثل نصيب ابن ثان لو كان أو ابنان وأوصى لزيد بمثل نصيب ابن ثالث لو كان لزيد في الأولى الثلث وفي الثانية الربع وكأنه أوصى له بمثل نصيب أحد ابنيه في الأولى أو أحد بنيه في الثانية ولو كان الأمر كذلك لم يقسم بالاتفاق إلا ما قررناه فكذلك عند التقدير وقال أبو إسحاق له في الأولى النصف وفي الثانية الثلث ومر عن إمام الحرمين أن مقالته هذه ليست معدودة من المذهب اتفاقا فعلى هذه المقالة الشاذة التي اتفق الأصحاب على أنها ليست من المذهب يصح ما قاله هذا المفتي لأن ملحظ الخلاف أن الموصي بنصيبه هل يجعل من الورثة اعتبارا للمماثلة بما قبل القسمة وعبارة الإمام بما قبل الوصية والمعنى واحد أو يقدر زائدا اعتبارا لها بما بعد القسمة مع مزاحمة الوصية وعبارة الجواهر والمماثلة مرعية بعد القسمة لا قبلها فأبو إسحاق كمالك رضي الله تعالى عنهما يقول بالأول والأصحاب كلهم على الثاني وهو الصواب لأن الأمر محتمل وعند الاحتمال يجب التنزيل على الأقل لأنه اليقين وما زاد عليه مشكوك فيه فلا يجوز إخراجه عن ملك الورثة المستحق لهم بطريق الأصالة المفيدة لليقين أو الظن القوي بمجرد الشك وبهذا يعلم رد قول الإمام السابق أن ما حكي عن أبي إسحاق متجه من طريق المعنى فأي اتجاه له مع ما ذكرته فتأمله فعلى الأول يجعل أولاد الابن هنا بمنزلة أبيهم قبل القسمة ويكون ما يستحقه أبوهم لو كان حيا هو الموصى به لهم والذي كان يستحقه الخمسان لأن معه ذكرا آخر وبنتا فيكونان أعني الخمسين اللذين يستحقهما الأب بتقدير حياته لبنيه الموصى لهم بمثل نصيبه لو كان حيا وعلى الثاني الذي عليه الأصحاب كافة كما علمت يقدر كأن أباهم حي وكأن الموصي مات عن ابنين وبنت ثم يزاد على ذلك مثل نصيب الابن المقدر وجوده وهو اثنان من خمسة ثم يعطى ذلك وهو السبعان للموصى لهم فاتضح أن استحقاقهم للسبعين هو الذي عليه الأصحاب كافة وللخمسين هو الذي يقول به الأستاذ أبو إسحاق لكنه شاذ خارج عن المذهب فلا يجوز لأحد أن يعول عليه ولا أن يلتفت إليه وقوله فمسألة السؤال من ثلاثة الخ، هذا هو سبب غلطه كما مر عند سوق كلام البلقيني لأنه ظن أن ذلك الضابط جار على حد سواء فيما إذا كان الموصى بمثل نصيبه موجودا أو مقدرا وجوده وليس الأمر كذلك بالاعتبار الذي فهمه وإنما جاز فيهما بالاعتبار الذي قررته وهو أنه عند الوجود يزاد مثل ما للموصى بمثل نصيبه وعند التقدير يزاد ذلك المقدر وجوده ثم يزاد مثل ماله كما صرح به الأصحاب كافة فيما مر آنفا وقوله ومن جعل له سهما حتى صارت القسمة

 

ج / 3 ص -456-        أسباعا فقد خالف الفقهاء الذين أفتوا بالخمسين يقال عليه هذا مما ينادى على صاحبه بالجهل المفرط لأن أولئك الفقهاء المراد بهم مثل الفقيه الصالح ابن عبسين وابن مزروع كما مر إن وافق كلامهم كلام الأصحاب فالحجة في كلام الأصحاب وإن خالف كلامهم كلام الأصحاب فلا يلتفت إليهم كما مر مبسوطا أول الجواب فإن قال هذا المحتج بكلام أولئك الفقهاء أن هؤلاء يفهمون كلام الأصحاب ولا يخالفونه فأنا أقلدهم في ذلك من غير نظير لكلام الأصحاب قلنا هذا أول دليل على الجهل لأن المفتي إذا لم يكن له نقد يميز به بين كلام الأصحاب ومخالفه ولا بين الصحيح وغيره ولا بين كلام الشيخين وما خالفه فالإفتاء عليه حرام بالإجماع وقد تقرر أن الأصحاب كافة على السبعين لا الخمسين فإن صح ما ذكر عن أولئك الفقهاء مع ذكر مثل فهو موافق لما مر عن أبي إسحاق وقد مر عن الإمام أن ما قاله أبو إسحاق ليس معدودا من المذهب فهو شاذ خارج عن المذهب وقواعده وإنما هو موافق لمالك رضي الله تعالى عنه أو مع حذفها فهو موافق لما حكاه أبو منصور عن الأصحاب لكنه مع ذلك ضعيف كما جرى عليه الشيخان والمتأخرون فلا تجوز مخالفتهم. وإذا علم أنه كذلك فكيف يسوغ لمفت على مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه أن يترك ما عليه الأصحاب ويفتي بشاذ خارج عن المذهب ما ذاك إلا لتعصب أو جهل قبيح وذلك موجب للمقت والغضب نعوذ بالله تعالى من مقته وغضبه وقوله وصورة الروضة وغيرها من كتب الأصحاب مفروضة في بنين أحياء كلهم يقال عليه هذا من الكذب أو الجهل لأنه نفسه نقل فيما مر صورة البغوي والخوارزمي المفروضة في ابن ميت أو معدوم بالكلية بدليل قوله والتقدير بمثل نصيب ابن لي لو كان فكيف مع نقله لهذا يزعم أن صورة الروضة وغيرها من كتب الأصحاب مفروضة في بنين أحياء كلهم وكيف راج عليه ذلك مع ذكر الروضة وأصلها كالأصحاب لمسائل الموصي بمثل نصيبه الموجود والمقدر الوجود وذكرهم الخلاف في كل من القسمين والتفريع الطويل على ما يتعجب من أجله من رأي قول هذا المفتي وصورة الروضة وغيرها الخ. وقوله ومن المحال الخ. يقال عليه هذا من السفساف الذي لا يصدر مثله ممن له أدنى مسكة لما تقرر أن كلام الأصحاب مشتمل على الصورتين وأنهم في الموجود يجعلون مثل ما للموصى بنصيبه زائدا على سهام المسألة وفي المقدر وجوده يقدرون وجوده وسهمه ثم يزيدون مثل سهمه على المسألة هذا مما لا مرية فيه. فإن فرض صدقه في أن الفقهاء الذين ذكرهم أفتوا بالخمسين في عين صورة السؤال فهم قد جهلوا مسألة الروضة وكتب الأصحاب ولكنا لا نعتقد ذلك فيهم وإنما نحمل ذلك على أنه تحريف من الناقل عنهم وقوله ووهم من قاسها عليها مع وضوح الفرق يقال عليه الوهم والخطأ إنما هو ممن يخالف كلام الأصحاب الصريح الذي لا يقبل التأويل من غير مستند ثم يتوهم أن المتمسكين بكلام الأصحاب قاسوا مع وضوح الفرق وليس الأمر كما توهم بل لا قياس في ذلك وإنما الحكم الذي هو استحقاق

 

ج / 3 ص -457-        السبعين منصوص في كلام الأصحاب كما سبق بيانه في كلام البلقيني وفيما قررته المرة بعد المرة في الكلام على جواب هذا الزاعم لما كان الأحرى به الإمساك عنه وعدم الدخول في ورطته وأي ورطة أقبح من ورطة التقول في الدين بالرأي من غير مستند يعتد به أو يعذر صاحبه في التمسك به وقوله فإن الموصي في الحادثة الخ. كلام لا يجديه شيئا ومن أين له ذلك والمراعى في الوصايا ونحوها إنما هو دلالات الألفاظ لا المقصود إلا إذا علمت واحتملها اللفظ والذي يدل عليه لفظ الموصي في الحادثة هو ما قاله الأئمة وقد مر لك أن الإمام قال عن مقالة أبي إسحاق الموافقة لما انتحله هذا المفتي أنها مختلة جدا من جهة اللفظ وقوله: ولا شك الخ هو من تهوره أيضا ولو أراد السلامة من ذلك لقال ولا شك أن الموصي إن قصد ذلك وعلم كان الموصى له منزلا منزلة أبيه على أن الجزم بذلك عند القصد نظرا لأن الذي دل عليه إطلاق الأصحاب أنه لا فرق فيما ذكروه في الصورتين السابقتين هو مقتضى لفظ الموصي الصريح فيه والصريح لا يقبل الصرف عن معناه بالقصد. ويؤيد ذلك أن الأصحاب لم يعولوا على القصد هنا أصلا وإنما رتبوا على كل صورة مقتضاها الدال عليه لفظها عندهم فإن قلت قد علم من كلامهم في محال أن القصد حيث احتمله اللفظ يرجع إليه وسيأتي في الجواب الأخير من ذلك عدة مسائل قلت تلك المسائل التي عولوا فيها على القصد ليس فيها صريح صرفه القصد عن مدلوله بالكلية فلا يستدل بها على ما هنا كما سيأتي بسط ذلك إن شاء الله سبحانه وتعالى فإن قلت قد ذكر الأئمة الرجوع إلى إرادة الموصي والدعوى بها على الوارث وأنه يحلف على نفي العلم بها قلت هذا من أعدل شاهد لنا لأنهم لم يذكروا ذلك إلا في الإيصاء بنحو الجزء أو الحظ أو السهم أو النصيب وكل من هذه محتمل للقليل والكثير فأثرت فيه الإرادة بخلاف ما نحن فيه فإنه صريح في شيء معين كما صرحوا به فلا تقبل دعوى إرادة مخالفة لذلك الصريح فإن قلت ذكروا ذلك أيضا فيما إذا أوصى من له ابن وبنت لزيد بمثل نصيب الابن ولعمرو بمثل نصيب البنت فقالوا تارة يريد بمثل نصيبها قبل دخول الوصية عليها فيكون للأول الخمسان وللثاني الربع أو بعد دخول الوصية عليها فيكون للأول الخمسان وللثاني السدس قلت هذا من أعدل شاهد لنا أيضا لأنهم لما رأوا أن اللفظ هنا محتمل فرقوا بين الإرادة وعدمها ولما رأوه في مسألتنا غير محتمل لم يفرقوا بل أطلقوا ما مر ولم يجعلوا للإرادة مدخلا في ذلك. وقوله: ولا ينبغي لمفت أن يفتي بغير ذلك الخ، هذا من جملة تهوره وجسارته وكأنه ظن أن غيره مثله في عدم فهمه لكلام الأصحاب بالكلية حتى وقع فيما وقع فيه من الخطإ والخطل والوهم والزلل وقوله: فالمعروف المعهود الخ، هذا مما يسجل عليه بالاختلال في الفهم والتأمل كما لا يخفى وإنما الذي كان ينبغي له أن يذكر مسألة القصد أولا ويتكلم عليها لأنها غير مسألة العرف وإن أهل جهتهم قد اطرد عرفهم بأنهم إنما يريدون أن الحافد يأخذ نصيب أبيه لو كان حيا وبفرض وجود هذا العرف واطراده في

 

ج / 3 ص -458-        جهتهم لا يعول عليه بناء على الأصح أن العرف الخاص لا يرفع اللغة ولا العرف العام ولا يعارضه ومن ثم ضعف الجمهور قول القفال أن العادة المطردة في ناحية تنزل منزلة الشرط قال فلو عم الناس اعتياد إباحة منافع الرهن للمرتهن كان ذلك بمنزلة اشتراط عقد في عقد فيفسد الرهن فجعل الاصطلاح الخاص بمثابة العادة العامة واتفق الجمهور على ضعف قوله حتى تلميذه القاضي حسين فإنه قال ويحكى عن طائفة من أصحابنا أنهم قالوا إن كان الموصي بالدابة مصريا فإطلاق هذا اللفظ منه يحمل على الحمار لأن عادتهم جارية بركوب الحمر فلا ينصرف إلى غيرها وهذا فاسد لأنه عادة بلد واحدة وهي لا تعتبر وإنما يعتبر الأغلب من عادات البلاد ا هـ. فتأمل قوله لأنه عادة بلد واحدة أي إقليم واحد لأن المراد ليس خصوص مصر بل جميع إقليمها فإذا لم يعتبر تخصيصهم الدابة بالحمار إن فرض صدق ذلك منهم وإلا فالذي نقله الأئمة أن عرفهم إطلاق الدابة على الخيل والبغال أيضا فكذلك لا يعتبر هنا العرف الذي ذكره هذا المفتي لأنه إن سلم له وجود هذا العرف يكون خاصا والعرف الخاص لا يرفع مقتضى اللغة ولا العرف العام إلا لعارض كما يعلم من تتبع كلام الأئمة فمن ذلك بحث الأذرعي أن الوصية بالعود من البدوي الذي لا يعرف إطلاق العود على غير الرمح يحمل على الرمح ويفرق بين هذه وما نحن فيه بأن العود لفظ مشترك والعرف له دخل في تعين بعض محامله وما نحن فيه لفظ صريح في مقتضاه الذي مر تقريره وتفصيله والعرف لا دخل له في الصرائح فما بحثه الأذرعي من الأول وما ذكره الأئمة في الوصية بالنصيب من الثاني بل إذا تأملت قولهم المذكور وجدتهم مصرحين بأن الصريح لا يغير عن مقتضاه وإن اطرد العرف العام بخلافه وبذلك صرحوا في مواضع منها قولهم ليست المعاطاة بيعا حتى في المحقرات وإن أطبق الناس على عدها بيعا في ذلك وقوله عن الناشري والعرف قد يضعف فيطرح الخ، قد يقال عليه ما زعمته من العرف هنا ضعيف فهو مطروح وزعمك قوته لا يفيدك شيئا وإن سلم لك لما علمت أن العرف الخاص لا يرفع اللغة ولا العرف العام، وأن العرف وإن عم إنما يؤثر في إزالة الإبهام لا في تغيير مقتضى الصرائح وأنه مطلقا لا ينزل منزلة الشرط وقوله وقد تكلم العلماء في البيع والشراء بالدينار الخ، هذا من الخلط الناشئ عن عدم الفهم ألا ترى إلى قول الرافعي العادة الغالبة إنما تؤثر في المعاملات لكثرة وقوعها ورغبة الناس فيما يروج فيها غالبا ولا تؤثر في التعليق والإقرار بل يبقى اللفظ على عمومه فيهما أما في التعليق فلقلة وقوعه وأما في الإقرار فلأنه إخبار عن وجوب سابق وربما تقدم الوجوب على العرف الغالب إلى آخر كلامه وإلى قول غيره لا خلاف أنه لو اشترى منه متاعا بألف درهم في بلد دراهمه ناقصة أنه يلزمه الناقصة والفرق أن البيع معاملة والغالب أن المعاملة تقع فيما يروج فيها بخلاف الإقرار إذا علمت ذلك ظهر لك الفرق بين نحو البيع والوصية بأن القصد في البيع ما يروج فمن ثم حكمت العادة فيه ونزل المطلق فيه على غالب نقد البلد إن كان فيه غالب وإلا

 

ج / 3 ص -459-        وجب بيانه وليس ذلك مقصودا في الوصية إذ لا معاوضة فيها فلا يقصد فيها رواج ولا عدمه وأيضا فوقت الملك فيها إنما يدخل بالموت وقد يكون الزمن الذي بينه وبين الوصية طويلا فلم يمكن اعتبار الغالب وقت الوصية لأنه لا ملك فيه ولا وقت الموت لأنه مجهول وقت الوصية فتعين النظر فيه لمدلول اللفظ ولم يكن للعرف دخل فيه أصلا كما اتضح بما قررته وحررته فاعلمه وقوله لا يمكن أن يكون مراد العامي الخ، يقال عليه هذا إلى المجازفة أقرب منه إلى الإفتاء وما الذي سلب الإمكان الأعم أو الأخص وإنما غاية الأمر أن يقال يبعد من العامي أن يريد أن للحافد سهما ولوالده سهما ومع ذلك فهذا لا يؤثر لأنا ندير الأمر في الوصية ونحوها على مدلول اللفظ سواء أقصده اللافظ أم لا؟ وما أحسن قول القاضي حسين وأقروه وههنا مقدمة ينبني عليها أكثر مسائل الوصية وهي أن لفظ الموصي إذا احتمل معنيين حمل على أظهرهما وإذا احتمل قدرين حمل على أقلهما ا هـ. ولو تأمل هذا المفتي مثل ذلك لظهر له الحق وزال عنه عمى العصبية وسلم من داء الحمية وقوله وهذا مما لا يشك فيه ذو لب يقال عليه التنوين فيه للعهد أي ذو لب سقيم وقلب لم يلق السمع قاله الأئمة وهو شهيد وإنما ولع بهواه ودندن على ما أغواه وفي سحيق الآراء وسخيف الإذراء أرواه وأهواه أعاذنا الله سبحانه وتعالى وإياه من هوى متبع وأيقظنا وإياه لاجتناب الآراء التي توقع في هوة الشذوذ والغرابة والبدع وأقبل بقلوبنا على ما يرضيه عنا على الدوام وأخذ بأزمة نواصينا إلى الدأب فيما ينفع الناس ويخلصهم من ورطة العقاب والآثام أنه الجواد الكريم الرءوف الرحيم وبشهادة الله لم أقصد تنقيص ذات هذا المفتي بكلامه مما سبق فإنه قد يكون معذورا فيما برز عنه كما هو الظاهر من أحوال من تصدى لإفتاء الناس ونفعهم وإنما قصدت بذلك التنفير عن مقالته فإني بالغت في تقصي كتب الأئمة فلم أر لها وجها يوافق الصواب ولا يستحق أن يؤهل للخطاب فبالغت فيما سبق مني تنفيرا لمن لا أهلية له عن اعتمادها ومساعدة لذلك المفتي لئلا يعمل بفتواه في ذلك فيكون عليه من العقوبة غاية ازديادها ختم الله لنا أجمعين بالحسنى من غير سابقة محنة ولا فتنة بمنه وكرمه آمين.
"الكلام على الجواب الثالث" قوله: ولكن حكى أبو إسحاق على ما جزم به الأصحاب جعلوا للموصى له حذفها مثل نصيب الحي ويكون موضع أبيه حيا ففي مسألتنا يكون له الخمسان ا هـ. وهذا الذي نقله عن أبي إسحاق سبق قلم منه وإنما هذا عن أبي منصور كما مر وإيضاحه يعلم من سوق كلامي الأستاذين ومقابليهما قال الأصحاب ولو كان له ابن أو ابنان أو ثلاثة فأوصى لزيد بمثل نصيب ابن ثان أو ثالث أو رابع لو كان فالوصية في الأولى بالثلث وفي الثانية بالربع وفي الثالثة بالخمس وعلى هذا القياس وقال الأستاذ أبو منصور هذه الوصية إنما تتضمن إقامة الموصى له مقام الابن المقدر فالوصية في الأولى بالنصف والثانية بالثلث وهكذا ولو قال أوصيت له بنصيب ابن ثان أو ثالث لو كان من

 

ج / 3 ص -460-        غير لفظ مثل فهو كما لو قال بمثل نصيب ابن ثان لو قال الرافعي والقياس أنه على الوجهين فيما إذا أضاف إلى الوارث الموجود وحكي عن الأستاذ أبي منصور أن الأصحاب فرقوا بين هذين اللفظين فيما إذا أضاف إلى الوارث المقدر ولم يفرقوا إذا أضاف إلى الوارث الموجود وقالوا إذا أوصى بمثل نصيب ابنه لو كان أعطي نصيبه زائدا على سهام الورثة وإن أوصى بنصيبه دفع إليه نصيبه من أصل سهام الورثة أو بمثل نصيب ابنه الموجود أو بنصيبه دفع إليه نصيبه زائدا على سهام الفريضة ا هـ. فتأمل كلامهم هذا تعلم أن كلام أبي إسحاق مخالف لما حكاه أبو منصور عن الأصحاب لأن كلام أبي إسحاق إنما هو في أن الوارث المقدر وجوده لا يحسب زائدا على أصل الفريضة وإنما يقدر قيامه مقام المقدر وجوده سواء كانت الوصية بالنصيب أو بمثل النصيب وقد علمت مما مر أن كلام أبي إسحاق هذا شاذ مخالف لأئمة المذهب كافة مختل جدا من جهة اللفظ بل والمعنى كما سبق وما حكاه أبو منصور وإنما هو فيما إذا أضاف إلى الوارث الموجود ولم يفترق الحال بين الإتيان بمثل وحذفها أو إلى المقدر الموجود افترق الحال بين أن يأتي بمثل فيقدر زائدا أو بحذفها فيقدر غير زائد وهذا الشق الأخير هو الذي يناسب ما مر عن أبي إسحاق فهو ضعيف مثله ويفرق على طريقة أبي منصور بأنه في حالة التقدير إذا أتي بمثل كان صريحا في الزيادة وإذا حذفها كان صريحا في عدم الزيادة ويرد بأنه إن قدر مثل لم يفترق الحال وإلا فالوصية باطلة من أصلها لأن القائلين بالصحة عند حذفها إنما يعتبرون تقديرها كما صرحوا به فحيث لا تقدير تعين الوجه القائل ببطلانها مطلقا كما هو واضح ثم رأيت ابن الرفعة فرق على طريقة أبي منصور بأن صريح اللفظ في حالة وجود الولد يتضمن حرمانه وهو ليس للموصي أي فلم يفترق الحال بين الإتيان بمثل وحذفها بخلافه مع تقدير وجوده فإنه لا يتضمن ذلك فاعتبرنا مثل عند وجودها وحذفها ا هـ. موضحا وهو يرجع لما فرقت به وقد علمت رده فتأمله فمن ثم اتضح ما عليه الشيخان من أنه لا فرق بين ذكر مثل وحذفها ولا بين الوارث الموجود والمقدر الوجود قوله ما لو أوصى بكون أولاد ابنه على ميراث أبيهم ليس في السؤال التصريح بلفظ الوصية ولا بما يقوم مقامه كقوله بعد موتي ومن ثم قدمت أن في صراحة نحو قوله هم على ميراث أبيهم نظرا وأنه لا يبعد أن يكون كناية قوله: والذي نعتقده فيها الخ، هو اعتقاد صحيح إذ لا مأخذ له من كلامهم فالحق أنا حيث صححنا كونه وصية يكون كأوصيت بميراث أبيهم وقد مر الكلام على ذلك في الكلام على الجواب الأول مبسوطا فراجعه وقوله: وهو ما نقلوه عن الماوردي في قوله: أوصيت لابن ابني بما كان نصيب أبيه أنه يجعله موضعه بلا فرض زيادة إجماعا وبمثل ذلك نقول فيما إذا قال جعلته موضع أبيه أو أقمته في محله في إرثي ا هـ. يقال عليه إن أردت بقولك وهو ما نقلوه أن هذا السابق بعينه منقول عن الماوردي فغير صحيح أو لا بعينه وإنما يؤخذ منه فكان يتعين غير هذه العبارة على أن كلام الماوردي الذي نقلوه عنه

 

ج / 3 ص -461-        ليس في أوصيت لابن ابني الخ، فقول هذا المجيب أنهم نقلوا كلام الماوردي في هذه الصورة غير صحيح أيضا ولعله تبع من لا يحرر النقل أو ظن أن صورة الماوردي هي هذه الصورة فجعلها هي وليس الأمر كما ظن مع أن النقل عن الماوردي في مشاهير الكتب كشرح الروض لشيخنا شيخ الإسلام زكريا رحمه الله تعالى وهو ليس على هذا الوجه ولا قريبا منه وعبارته مع المتن ولو أوصى لزيد بمثل نصيب الابن الحائز وأجاز الوصية أعطي النصف لاقتضائها أن يكون لكل منهما نصيب وأن يكون النصيبان مثلين فيلزم التسوية وإن رد الوصية ردت إلى الثلث ولو أوصى بمثل ما كان نصيبا له كانت وصيته بجميع المال إجماعا لأنه لم يجعل لابنه نصيبا صرح به الماوردي انتهت فهذه الصورة المنقولة عن الماوردي غير تلك الصورة كما رأيت وعند التأمل هذه لا تفهم حكم تلك وبيان ذلك أن الإيصاء بالنصيب أو مثله يشعر بالاشتراك والتماثل فلزمت التسوية بين الوارث والموصى له وبما كان نصيبا له أي لولا الوصية يشعر باستقلال الموصى له بكل المال فكانت وصية بكله ويوجه ذلك بأنه لما لم يتعرض لوصف النصيب بشيء دل النصيب في كلامه على أنه يريد مزاحمته لابنه ويلزم من مزاحمته له الاشتراك وأن له النصف فحملنا لفظه على ذلك وأما إذا تعرض لوصفه بأنه النصيب الذي كان يأخذه لولا الوصية فإنه يكون مصرحا بعدم المزاحمة وأن الوصية بكل المال وإن عبر بمثل ما كان ولم يقل بما كان ولما كان المعنى في هذه الأخيرة واضحا أجمعوا عليه وفي الأولى محتملا اختلفوا فيه وأنت إذا تأملت مدرك كلام الماوردي هذا وجدته غير جار في هذه الصورة التي قال ذلك المفتي أنهم نقلوه عنه فيها وهي قوله أوصيت لابن ابني بما كان نصيب أبيه ووجه عدم جريانه فيها أن أباه لا نصيب له قبل الوصية ولا بعدها فساوى ذلك قوله أوصيت له بنصيب أبيه لو كان وقد صرح هو في هذه أن أباه يقدر وارثا ويزاد على التركة مثل نصيبه فإن قلت ما وجه المساواة التي ادعيتها بين هاتين الصورتين قلت هي واضحة ومع ذلك فوجهها أن الأب الموصي بمثل نصيبه غير موجود فوجب التقدير فيه حتى تصح الوصية وإذا وجب تقدير وجوده لذلك فيقدر وجوده كما حصل بأوصيت له بمثل نصيب أبيه لو كان حيا كذلك يحصل بأوصيت له بما كان نصيب أبيه أي لو كان حيا فلا فرق بينهما في ذلك بوجه ويفرق بينهما وبين صورة الإجماع السابقة بأن المشبه به فيها لما كان المال كله له حقيقة لولا الوصية كان الشبيه به مشعرا بمزاحمته ما لم يأت الموصي بلفظ صريح في خلاف ذلك وهو أوصيت لزيد بمثل ما كان نصيبا لابني والذي كان نصيبا له لولا الوصية الكل فكانت الوصية بالكل فعلم بهذا اتضاح ما بين الموجود والمقدر الوجود وإن كنا لا نفرق بينهما فيما مر لأن ذاك لمدرك سبق غير هذا فالحق الواضح ما سبق من أنه لا فرق بين هم على ميراث أبيهم أو جعلتهم موضعه أو أقمتم مقامه في إرثي أو نحو ذلك وأن كلام الماوردي لا يدل على ما يخالف ذلك بوجه ثم رأيت الزركشي في الخادم نقل عن الماوردي الفرق بما يؤيد ما ذكرته،

 

ج / 3 ص -462-        وعبارة الخادم بعد قول الشيخين إذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابن واحد لا يرثه سواه فالوصية بالنصف ا هـ. أطلق ذلك وصورة المسألة إذا لم يقل مع ذلك بما كان نصيبه فأما لو أوصى له بمثل ما كان نصيب ابنه كانت وصية بجميع المال إجماعا صرح بذلك الماوردي وفرق بأنه في المسألة الأولى جعل لابنه مع الوصية نصيبا فلذلك كانت بالنصف وفي الثانية لم يجعل له نصيبا فلذلك كانت بالكل انتهت عبارة الزركشي فتأمل ما فرق به الماوردي تجده عين ما فرقت به ولكن ما فرقت به شرح له لأنه أبسط منه وأوضح فتأمل ذلك حق التأمل فإنه مما يلتبس إلا بعد مزيد تقص وتأمل وتحر قوله فلو لم يقل في الكل لو لم يكن حيا سبق قلم وصوابه لو كان حيا قوله فالذي رآه الفقيه الخ ما رآه الفقيه المذكور متجه ويدل له قول البغوي وتلميذه الخوارزمي السابق أنه لو قال أوصيت له بمثل نصيب ابن ولا ابن له صح وكان التقدير بمثل نصيب ابن لي لو كان بخلاف ما لو قال بمثل نصيب ابني ولا ابن له وارث فإن الوصية تبطل كما قاله الأصحاب وقدمت الفرق بين الصورتين وبهذا يعلم أن محل ما رآه الفقيه المذكور ما إذا قال أوصيت لهم بمثل ميراث أبيهم فقط أما لو ضم إليه بمثل ميراث أبيهم ابني فإن الوصية تبطل ما لم يصرح بقوله لو كان حيا.
"الكلام على الجواب الرابع" قوله: بعينها ممنوع ولعله تبع في ذلك ما يأتي في الجواب الخامس مع رده وتزييفه قوله وكذا لو كان له أبناء فأوصى بمثل نصيبهم هذا اختصار لعبارة الروضة وفيه إجحاف وإيهام وعبارتها وكذا لو كان له ابنان أو بنون فأوصى بمثل نصيبهما أو نصيبهم فهو كابن قوله عند الإمام والروياني حذف من الروضة وغيرها ولا وجه لحذفه قوله فإن صححناها حذف قبله من الروضة مسألة لا تعلق لها بما نحن فيه قوله على الأصح عبارة الروضة على الصحيح وبينهما فرق واضح ووقع لهذا المفتي فيما يأتي أنه قال وعبارة الروضة وساق ما ليس في عبارة الروضة كما يعلم بتأمل عبارتها وكأنه لم يحط بأن الناقل متى قال وعبارة كذا تعين عليه سوق العبارة المنقولة بلفظها ولم يجز له تغيير شيء منها وإلا كان كاذبا إذ العبارة اسم للألفاظ المعبر بها عما في الضمير فالقصد بسوقها حكاية تلك الألفاظ بعينها ومتى قال قال فلان كان بالخيار بين أن يسوق عبارته بلفظها أو بمعناها من غير لفظها لكن لا يجوز له تغيير شيء من معاني ألفاظه وإلا كان كاذبا وهذا المفتي عبر بقال في الروضة وغير بعض المعنى وفيما يأتي بقوله وعبارة الروضة وغير بعض الألفاظ فوقع في كل من تينك الورطتين فعليه بعد اليوم التحري فيما ينقله ومعرفة الفرق بين قوله قال فلان كذا وقوله وعبارة فلان كذا قوله بما باع به فلان فرسه صح محله إن علما قدر ما باع به وإلا لم يصح قوله لكن الذي رأيته في نسخة من القواعد الخ الذي في القواعد إنما هو عن الإمام ومن نقله عن الرافعي فقد وهم وإنما الرافعي حكى بعض فروع تلك القاعدة عن الإمام وعبارة الزركشي عن الإمام فيما نحن فيه لو عم في ناحية استعمال الطلاق في إرادة الخلاص والانطلاق ثم أراد الزوج حمل

 

ج / 3 ص -463-        الطلاق في مخاطبة زوجته على معنى التخلص وحل الوثاق لم يقبل منه ذلك والعرف إنما يعمل في إزالة الإبهام لا في تغيير مقتضى الصرائح انتهت كما في النسخة التي رأيتها الآن وليس فيها ما ذكر عنها في كلام هذا المجيب وهو قوله هذا إذا علم أن اللافظ أراد غير مقتضى لفظه وأما عند الجهل فيعمل بمقتضى لفظه على أن هذا ليس ملائما لكلام الإمام ولا مناسبا له بل فيه مناقضة له لأن فرض كلام الإمام كما رأيت في إرادته بالطلاق التخلص ومع ذلك لا يقبل منه فأولى إذا جهلت إرادته وتلك الزيادة قضيتها أن حالة علم الإرادة يخالف حالة الجهل وأن اللفظ إنما يعمل بمقتضاه عند الجهل وبالجملة فهذا كلام صادر عن عدم التأمل بالكلية فلنضرب عنه صفحا قوله ثم لا يخفى الخ، إنما يأتي ذلك إن قلنا بقبول إرادة ذلك وقد قدمت ما فيه فراجعه قوله من حيث الصيغة فواضح يقال عليه أي وضوح فيه مع ما فيه من الإيهام والتحريف الفاحش كما قدمته مبسوطا في الكلام عليه قوله هو صريح في أن الوصية في صورة السؤال الخ، هذا عجيب كيف ولا إيماء لذلك فيه فضلا عن الصراحة على أن ذلك هو لفظ السؤال فأي حاجة إلى ادعاء أن كلام ذلك المفتي صريح فيه أو لا؟ وقوله أو على ما قاله أبو إسحاق في عطفه هذا إيهام أن ما قاله أبو إسحاق غير ما قاله مالك رضي الله تعالى عنه وليس كذلك كما علم مما مر قوله في الصيغة الأولى أي في السؤال قوله فهو صحيح يقال عليه ليس كما زعمت بل هو تحريف عنهما أي تحريف فما راج عليه من التحريف راج عليه وسبب ذلك عدم التأمل والتحري قوله وقد قدمنا في المقدمة عن الروضة ما يقتضي بطلان هذه الوصية الخ، يقال عليه هذا كلام من لم يحط بمدرك البطلان في كلام الروضة ومدرك الصحة في كلام البغوي والخوارزمي ومن تبعوهما وقد قدمت أوائل الكلام على الجواب الثاني الفرق بينهما مبسوطا فراجعه لتعلم منه أن الصواب الذي دل عليه كلامهما أعني البغوي والخوارزمي الصحة في أوصيت لهم بمثل ميراث أبيهم وإن لم يقل لو كان حيا لأنه مثل قوله ولا ابن له أوصيت لزيد بمثل نصيب ابن قالوا والتقدير بمثل نصيب ابن لي لو كان حيا وما أحسن قول الخادم قوله فلو لم يكن له ابن أو لم يكن وارثا لرق أو غيره فالوصية باطلة ا هـ. هذا إذا كانت الصيغة بالإضافة فأما لو قال أوصيت له بمثل نصيب ابن بالتنوين ولا ابن له ففي التهذيب والكافي أنه يصح وكأنه قال يمثل نصيب ابن لي لو كان وفي نصيب ابني لا يصح على الأصح ا هـ. قوله وإذا بطلت الوصية فيما لو أوصى الخ ربما يفهم منه أن ملحظ البطلان عند حذف مثل لكنه قدم خلافه وبه يبطل كلامه هذا كما هو جلي قوله والفرق بينها وبين مسألة البغوي الخ، يقال عليه زعم ظهور الفرق بينهما ناشئ عن عدم فهم كلام البغوي وكلام الروضة وعدم فهم الفرق بينهما الذي قدمته وبين فهم الصحة في قوله ولا ابن له أوصيت بنصيب ابن والتقدير بنصيب ابن لي لو كان كيف يخفى عليه الصحة في قول من مات له ولد ولولده ولد أوصيت لهذا بميراث أبيه مع أن الملحظ فيهما واحد وهو أنه لم

 

ج / 3 ص -464-        يضف في كل منهما الابن المعدوم الموصى بنصيبه إليه ومن ثم اتجه أنه لو قال بنصيب ابني أبيهم بطلت الوصية لأنها حينئذ مثل قول من لا ولد له أوصيت له بنصيب ابني لامتناع التقدير بلو كان مع الإضافة بخلافه مع عدمها كما صرحوا به فيما مر وبهذا يندفع ما حكاه هذا المجيب عن بعض المتأخرين بقوله نعم قال بعض المتأخرين الخ، ووجه اندفاعه أن كلام الروضة مفروض كما علمت في أوصيت له بمثل ميراث ابني ومع هذا الفرض لا يتصور التقدير بلو كان لي ابن كما تقرر لأن الإضافة تقتضي الوجود والتقدير بلو كان لي ابن يقتضي العدم فبينهما تناقض بخلافه في مثل ميراث ابن فإنه لا يقتضي وجودا فلا ينافيه التقدير بلو كان لي ابن فمن ثم قالوا بالصحة هنا نظرا لهذا التقدير وبالبطلان ثم لتعذره فكيف مع ذلك يأتي ذلك البحث فهو بحث غير صحيح ولعله من أبحاث فقهاء جهتهم فإننا لم نر ذلك في الكتب التي عندنا بل كلامهم الذي قررته صريح في رده كما علمت فاحفظ ذلك ولا تغتر بغيره قوله وظاهره الخ، هذا البحث مع كونه مردودا ليس ظاهره ذلك كما هو جلي لأن كلام الروضة إذا حمل على ما إذا لم يرد ذلك كان مفيدا للبطلان فيما إذا أطلق أو أراد مثل نصيبه مع كونه معدوما وللصحة فيما إذا أراد مثل نصيبه لو كان حيا هذا معنى هذا البحث المردود فكيف مع ذلك يقال وظاهره الخ، وقوله بخلاف مسألة البغوي والخوارزمي لا معنى له هنا بل هو مبني على وهمه السابق كغيره في فهم كلامهم ونقله على غير وجهه كما مر بسطه قوله على ما فهمه من كلام الأصحاب من أن المراد الخ، حق العبارة المناسبة للمقام على ما وهم فيه وإلا فكلام الأصحاب صريح في اعتبار المماثلة في المقدر وجوده بما بعد القسمة لا يقبل تأويلا.
"الكلام على الجواب الخامس" قوله: ومنهم الشيخان ليس على وفق الاصطلاح أن المراد بالأصحاب المتقدمون وهم أصحاب الأوجه غالبا وضبطوا بالزمن وهم من قبل الأربع مائة ومن عداهم يسمون بالمتأخرين ولا يسمون بالمتقدمين ومن ثم اعترضوا قول المنهاج وأفتى المتأخرون بأن منهم ابن سراقة وهو قبل الأربع مائة لا سيما وهو قد نقله عن مشايخه ويوجه هذا الاصطلاح بأن بقية أهل القرن الثالث من جملتهم السلف المشهود لهم على لسانه صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون فلما عدوا من السلف وقربوا من عصر المجتهدين وكانت ملكة الاجتهاد فيهم أقوى من غيرهم خصوا تمييزا لهم على من بعدهم باسم المتقدمين فاحفظ ذلك فإنه مهم قوله وهذا المثال الذي ذكروه نظير صورة السؤال يقال عليه قد ذكرت أنه الذي أطبق عليه الأصحاب وأنه في الروضة والعزيز فأما الروضة والعزيز وفروعهما فلم نر هذا المثال بخصوصه مع الحكم عليه بالسبعين وأن فيه وجها أنها بالخمسين فيهما بل ولا في الجواهر مع بسط فروعها واستيعابها لما في أكثر كتب الأصحاب ولا في التوسط والخادم وغيرهما من كتب المتأخرين المبسوطة المستوعبة. وأما كتب الأصحاب المبسوطة كالحاوي والنهاية والبحر والتعاليق التي على المختصر وغيرها

 

ج / 3 ص -465-        فلم يتيسر لنا الآن الوقوف عليها بل كثير من مبسوطاتهم لم نرها وإنما ننقل عنها بالوسائط فبفرض كون هذا المثال بخصوصه في بعضها الذي لم نره الاعتراض متوجه على ذلك المفتي لأنه ذكر أنه في الروضة وأصلها وأنهم أطبقوا عليه والحال أنا لم نره في كتاب مع الفحص والتقصي عنه وظهور الحق في المسألة غني عن هذا المثال وذكره في كلامهم لأن حكمه كحكم صورة السؤال معلوم من كلامهم علما لا يقبل التشكيك فأي حاجة إلى ادعاء خلاف الواقع وهو الإطباق الذي اختل بما ذكر قوله وعليه العراقيون هو ما نسبه القاضي إليهم وجزم به ابن الصباغ منهم ونقله الماوردي عن الجمهور وصاحب البيان عن الأكثرين والروياني في البحر عن أصحابنا مطلقا وقال القاضي في تعليقه أنه المشهور ولم ينظر النووي إلى هذا كله فلم يكتف بترجيحه الصحة كالرافعي بل أشار إلى أن القول بالبطلان وجه غريب كما أفهمه لفظ الروضة وهو وذكروا فيما إذا قال أوصيت له بنصيب ابني وجها أنه لا يصح وإنما يصح إذا قال بمثل نصيب ابن ا هـ. وقوله لوروده على حق الغير علة ضعيفة جدا ومن ثم لما نقل القاضي حسين فرق أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه بأنه في مثل نصيب ابني جعل له مثل ما للابن ومعناه مثل ما يأخذه ابني وفي نصيب ابني جعل له ما جعله الشرع للابن فلم يجز كما لو أوصى بملك الابن. قال في رده لنا أن الابن يستحق كل المال فقوله نصيب ابني وصية له في الحقيقة بكل المال والشيء الواحد لا يكون لهما فتزاحما فقسم بينهما نصفين وليس كما لو أوصى بملك الغير لأن ذلك غير مملوك له في الحال وما أوصى به في مسألتنا مملوك له في الحال والابن يتلقاه من جهته فاتبع تصرفه فيه قوله وغيرهم أي كالفوراني بل جزم به الأستاذ أبو منصور وجزم به الغزالي أيضا وصححه القفال والقاضي ونسبه الإمام إلى المعتبرين من الأصحاب والفرضيين قوله بما باع به فلان فرسه أي فإنه يصح أي إن علما قدره كما في عبارة الروضة هنا مع علمه مما ذكروه في البيع قوله ويتعين حمله الخ، إن أراد رجوع الضمير إلى ما في الروضة ففي التعبير بالتعين نظر بل لو تمسك متمسك بإطلاقهم البطلان وإن أراد لكان له وجه لما قدمته عن الخادم وغيره في الكلام على الجواب الرابع وحاصله أنه حيث أضاف الابن إليه ولا ابن له موجود لم يكن فيه التقدير لمناقضته للإضافة كما مر مبسوطا وحيث لم يضفه إليه كأوصيت بنصيب ابن صحت لقبول التقدير لو كان موجودا أو وارثا فإن هذا التفريع إنما يناسب قول الروضة ولو لم يكن له ابن أو لم يكن وارثا والحاصل أن الذي استفيد من مجموع عبارة الشيخين والبغوي وغيره أنه متى قال بمثل نصيب أو بنصيب ابني ولا ابن له وارث بطل مطلقا أو ابن بالتنوين صح مطلقا، وقد قال الأذرعي في التوسط بعد قول الروضة ولو أوصى بمثل نصيب ابنه ولو لم يكن له ابن أو لم يكن وارثا لرق أو غيره فالوصية باطلة قلت ولم أر فيه خلافا وفي النفس من إطلاق البطلان شيء وقد يقال إنه موص بمثل نصيب ابن لو كان أو كان من به مانع وارثا وقد يجهل كثير من الناس حرمان

 

ج / 3 ص -466-        الرقيق أو القاتل فيوصي بمثل نصيبه ظانا وراثته ا هـ. فتأمل قوله وفي النفس الخ، وقوله: وقد يقال الخ، تعلم بهما أن المعول عليه إنما هو إطلاق الأصحاب وإن أمكن أن يقال ما أبداه الأذرعي كما هو ظاهر للمتأمل قوله فلا شك فيه ما في قوله ويتعين بل فيه ظن بعدم صحة الوصية تمسكا بكلامهم فضلا عن شك والإرادة إنما يعمل بها كما مر مبسوطا في الكلام على الجواب الثالث حيث لم يكن في اللفظ ما ينافيها وقد علمت مما مر في الكلام على الجواب الرابع أنه حيث أضاف الابن إليه نافاه ذلك التقدير كما يصرح به قول الخادم بعد كلام الروضة المذكورة هذا إذا كانت الصيغة بالإضافة فأما لو قال أوصيت له بمثل نصيب ابن بالتنوين ولا ابن له ففي التهذيب والكافي أنه يصح وكأنه قال بمثل نصيب ابن لي لو كان وفي نصيب ابني لا يصح هذا التقدير على الأصح ا هـ. فعلم منه أن هذا التقدير إنما يتأتى مع عدم الإضافة لا مع وجودها وظاهر كلامه ككلامهم ا هـ. لا فرق في البطلان بين قوله بنصيب ابني فقط أو ابني الميت وفي الصحة بين ابن أو ابن ميت وفي الفرق بين ابني الميت وابن ميت نظر ظاهر لأن الإضافة إليه إنما تنافي تقدير الوجود من أصله لا تقدير الحياة لأن اللغة والعرف يقتضيان صحة إضافة ابنه الميت إليه فليس فيها منافاة لتقدير لو كان حيا فتأمله قوله ومن شواهده ما لو أوصى بنصيب ابنه ولم يذكر المثل في كونه هذا من شواهد التعين الذي ذكره نظر أي نظر لأن هذا ليس في اللفظ ما يدل على إحالة ذلك التقدير بل فيه ما يدل على تعينه كما علم مما مر في الاحتجاج على أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأما في أوصيت بمثل نصيب ابني ولا ابن له ففيه ما يحيل تقدير لو كان موجودا وهو الإضافة إليه كما مر تصريحهم به قوله وهو حسن فيه نظر لما في الكلام على الجواب الثاني أن العرف الخاص لا يعمل به في تخصيص اللغة ولا العرف العام وكلاهما هنا يقتضي أن الإضافة إليه تحيل التقدير بلو كان موجودا فلم يعمل بالعرف الخاص فيه سيما مع قول الإمام السابق أن العام إنما يعمل به في إزالة الإبهام لا في تغيير مقتضى الصرائح وكلام الروضة وغيرها يفيد أن أوصيت بنصيب ابني ولا ابن له صريح في البطلان بمقتضى الوضع لا العرف فلا يؤثر فيه العرف نعم إن أراد ابنا كابني نحو ما قدمته في ابني الميت كان قريبا لأن اللغة والعرف لا ينافيانه ومع ذلك ظاهر كلام المتأخرين كافة أن المعتمد إطلاق الأصحاب البطلان. وكم من مسألة المعتمد فيها إطلاقهم وإن كان في بعض جزئياتها نظر بل أنظار واضحة فليس اعتماد ذلك ببدع في المذهب قوله يتخرج على ما قدمناه الخ، ليس هذا التخريج بصحيح لوضوح الفرق بين مسألة الروضة ومسألة السؤال لأن صورتها التي ذكرها أوصيت لأولاد ابني بمثل ميراث أبيهم وصورة الروضة أوصيت له بمثل ميراث ابني الميت وشتان ما بينهما إن أحطت بما مر أن سبب البطلان في كلام الروضة الإضافة إليه في المشبه به المحيلة لتقدير وجوده أو حياته كما مر مبسوطا وهذا ليس موجودا هنا لأن أباهم المشبه به لم يضفه إليه فلم يكن هنا موجب للبطلان بوجه وقد

 

ج / 3 ص -467-        مر في صورة السؤال أنه قال بمثل ميراث أبيهم لو كان حيا وهذه لا نزاع فيها فإن قلت الإضافة إليه في أولاد ابني مثلها في نصيب ابني قلت ممنوع وكان هذا هو سبب الالتباس لأن قوله أوصيت لأولاد ابني صحيح الظاهر لا يحتاج إلى تقدير اتفاقا وإنما الإشكال في مثل ميراث ابني مع فقده فهذا هو الذي ليس بصحيح الظاهر والتقدير لما مر فتأمل ذلك تعلم أن الوجه صحة أوصيت لأولاد ابني بمثل ميراث أبيهم وإن لم يقل لو كان حيا نظير ما مر عن البغوي وغيره نعم إن قال بمثل ميراث أبيهم ابني الميت أمكن أن يقال فيه بالبطلان وإن أمكن الفرق بينه وبين ابني الميت قوله فيتخرج أيضا على هذا قد علمت مما تقرر منع التخريج في هذا أيضا قوله وهو أنه كناية في الوصية هو كذلك كما بسطت الكلام فيه في الكلام على الجواب الثالث قوله: فيظهر أن الحكم كما ذكره مالك فيه نظر كما مر بيانه مبسوطا بشواهده في الكلام على الجواب الثاني، وقد مر عن الإمام أن ما ذكره أبو إسحاق الموافق لمالك رضي الله تعالى عنه مختل جدا من جهة اللفظ ففيه تصريح بأن اللفظ لا يحتمله إلا بتجوز بعيد وذلك غير معتبر عندهم لأنهم إنما يقولون على القصد إن احتمله اللفظ احتمالا قريبا كما يعلم من سير كلامهم وسيأتي قريبا تصريحهم به فاندفع قول هذا المجيب ووجه ذلك الخ، ووجه اندفاعه أنه يكفي ادعاء كون التجوز سائغا فحسب بل لا بد مع ذلك من كونه قريبا فهمه من اللفظ وما ذكره مالك ليس كذلك كما علمته من قول الإمام المذكور قوله ألا ترى في الاستدلال بذلك نظر بل لا يصح أنه إذا تلفظ بذلك في الوصية انتقل من لفظ صريح في مدلوله إلى لفظ صريح في مدلول آخر فوجب اعتباره لما مر أن المدار في الوصايا ونحوها إنما هو على الألفاظ ومؤدياتها وأما حيث أتى باللفظ الصريح في شيء وقصد به خلاف ذلك الصريح فإنه لا يقبل لما تقرر أن المدار هنا على الألفاظ ومدلولاتها الموضوعة هي لها ما أمكن فاتضح أنه لا جامع بين التلفظ بما قاله مالك وقصده من اللفظ الدال وضعا عند أئمتنا على خلافه فتأمل قوله ويؤيده الخ، هذا الذي ذكره إنما يؤيد ما بعد قوله ألا ترى من التصريح بذلك المعنى وقد علمت أنه إذا ذكر ذلك لا نزاع في اعتباره كما هو واضح فلا يحتاج إلى مؤيد بما ذكره وأما مسألة اعتبار مجرد القصد التي هي محل النزاع فلم يذكر لها مؤيدا وقوله. وما ذكره الماوردي والبندنيجي هو ما اعتبره مالك هذا عجيب منك لأن ما ذكره الماوردي حكى فيه الإجماع فكيف يخص بمالك ويقال إنه الذي اعتبره مالك وأيضا فمحل كلام مالك وغيره فيما إذا لم يصرح في نفس الوصية بالمعنى السابق فمالك رضي الله تعالى عنه يرى أن لفظه موضوع لتنزيله منزلة المشبه به من غير زيادة مطلقا والشافعي رحمه الله تعالى يرى أنه موضوع لتنزيله منزلته مع اعتبار الزيادة كما مر فمحل اختلافهما إنما هو عند عدم التصريح من الموصي بشيء من ذلك وحينئذ فكيف يدعى أن ما ذكره الماوردي والبندنيجي المصرح فيه الموصي بما هو صريح فيما ذكراه هو ما اعتبره مالك ما هذا من هذا المجيب إلا تساهل

 

ج / 3 ص -468-        غير مرضي وقوله عقبه لكنه الخ، لا ينفعه في رد الاعتراض عليه لأن به يبطل قوله إن ما ذكراه هو عين ما اعتبره مالك لأنهما إذا كانا لا يعتبرانه إلا عند التصريح به وهو يعتبره عند عدم التصريح به فأي اتحاد بين المقالتين حتى يقال إن إحداهما عين الأخرى قوله بالنسبة لحمل اللفظ عليه الخ، هذه العبارة لا تلائم ما قبلها لأن ما وجب اعتباره عند التصريح به هو اللفظ الدال على ذلك المعنى المعتبر وأي لفظ آخر يبقى حتى يقال بالنسبة لحمل اللفظ عليه فإن جعلت ما للمعنى المعتبر والتقدير أن المعنى الذي يجب اعتباره عند التصريح به لم يصح قوله بالنسبة لحمل اللفظ عليه لكون اللفظ محتملا له لأنه إذا فرض أولا التصريح به كيف يفرض ثانيا أن اللفظ محتمل له. فعلم أن قوله بالنسبة الخ غير صحيح على كل من التقديرين ثم ادعاؤه هذه القاعدة وهي أن كل ما وجب اعتباره عند التصريح به يجب اعتباره عند قصده سببه الغفلة عن قولهم كل ما لو ظهر في عقد أبطله يكره قصده عند ذلك العقد كالنكاح بقصد أن يطلق والبيع بقصد الحيلة ومما يبطل بحثه السابق وقاعدته هذه قول البغوي في تهذيبه كل لفظ إذا وصل به لفظ آخر وقبل في الظاهر إذا نواه لا يقبل في الظاهر ومن مثل ذلك أن تقول أنت طالق قاصدا إن دخلت الدار لا يفيده ظاهرا مع أن اللفظ يحتمله أو متلفظا به قبل وأجرى الغزالي وغيره ما ذكره البغوي في كل ما أحوج إلى تقييده الملفوظ به بقيد زائد ومن ثم قال في الوسيط لو ذكر لفظا ونوى معه أمرا لو صرح به لا ينتظم مع المذكور ففي تأثيره وجهان الأقيس أنه لا يؤثر ا هـ. فتأمل ذلك تعلم به رد ذلك البحث وبطلان تلك القاعدة وقوله وأمثلته في كلام الأصحاب لا تخفى ومما يبطلها أيضا قولهم اللفظ الصادر من المكلف إذا عرف مدلوله في اللغة أو العرف لم يجز العدول عنه إلا بأمور منها أن ينوي المتكلم به غير مدلوله ويكون اللفظ محتملا لما نواه ففي بعض المواضع قد يقبل قوله وفي بعضها قد لا يقبل بحسب قربه من اللفظ وبعده وفي فتاوى القاضي حسين حلف لا يتزوج النساء ثم قال أردت واحدة معينة أو ثنتين لم يقبل لوجود لفظ الجمع. وما نحن فيه من المواضع التي لا يقبل فيها قصد ما مر عن مالك لبعده من اللفظ كما مر التصريح به عن الإمام ومن كلامهم الشاهد لما نحن فيه الصريح يعمل بنفسه ولا تقبل إرادة غيره به والمحتمل يرجع فيه إلى إرادة اللافظ ومرادهم بالمحتمل المذكور المحتمل لمعان على السواء بدليل قول الإمام الألفاظ ثلاثة نص لا يقبل التأويل وظاهر يقبله ومحتمل يتردد بين معان لا يظهر اختصاصه بواحد منها فالنص لا محيص عنه والظاهر يعمل به على حكم ظهوره فإن ادعى اللافظ تأويلا ففيه تفصيل يطول في المذهب والمحتمل لا بد من مراجعة صاحب اللفظ ا هـ. ملخصا ومن الظاهر الذي لا يقبل تأويله قوله هذا أخي ثم قال أردت أخوة الرضاع لا يقبل على الأصح أو أخوة الإسلام لا يقبل قطعا ولو قال غصبت داره وقال أردت دارة الشمس والقمر لم يقبل على الصحيح في زوائد الروضة عن الشاشي فإذا لم تقبل الإرادة في هذه المسائل ففي مسألتنا بالمساواة بل

 

ج / 3 ص -469-        بالأولى قوله وقد رأيت لبعض فضلاء اليمن الخ، هذا البحث بتقدير تسليمه لا يشهد له لوضوح الفرق بينه وبين مسألته لأن لفظ الجيران مقول على القريب والبعيد بالتواطؤ أو التشكيك وكل منهما تؤثر فيه النية ومن ثم كان المشترك يحمل على جميع معانيه ما لم يخصه المتكلم بأحدها وأما ما نحن فيه فهو من اللفظ الموضوع لجزئي مخصوص فلا تقبل إرادة صرفه عنه وما أحسن قول الإمام الصريح ما يتكرر على الشيوع أما في عرف الشرع أو في عرف اللسان وإذا حصل ذلك لزم إجراء اللفظ على ظاهره ولا يقبل العدول عن موجب الظاهر في الظاهر ا هـ. فإن قلت لم أثرت النية في تخصيص العام في مسألة الجيران ولم يؤثر في لفظ النساء فيما مر آنفا عن القاضي حسين قلت لأن تخصيص العام لا يبطله إذ الأصح أن العام المخصوص حجة فيما عدا ما خرج منه ولو عملنا بالنية في مسألة القاضي لأبطلنا الجمعية من أصلها فتأمله فإن قلت اتفق أصحابنا على أن الضعف هو الشيء ومثله فإذا أوصى له بضعف نصيب ابنه كانت وصية بالثلثين وقال مالك وغيره هو المثل وذكر الأذرعي كلاما ثم قال ويؤخذ منه أنه لو كان الموصي ممن يرى أن الضعف المثل فقط أعطي مثل نصيب الابن فقط وليس ببعيد ولا يكاد يعدم له شاهد أو شواهد من كلامهم أن المرجع في الوصية إلى العرف فهذا يؤيد ما قاله هذا المفتي وغيره من المفتين السابقين أنه يعمل بإرادة الموصي فيما مر وما قاله مالك رضي الله تعالى عنه قلت لا تأييد في ذلك لأن الضعف لفظ مشترك في اللغة بين الشيء ومثله وبين المثل كما نقله أبو إسحاق النحوي ثم نقل أن العرف العام خصصه بالمعنى الأول بذلك صرح الأزهري أيضا في كلامه على المختصر فقال إنه بالمعنى الأول هو المعروف بين الناس وأما من جهة اللغة فهو المثل فما فوقه إلى عشرة أمثاله وأكثر وأدناه المثل ا هـ. وإذا تقرر ذلك اتضح أنه ليس نظير مسألتنا لأنه لاشتراكه لغة أثر فيه القصد ولتخصيص العرف العام له بالأول حمل عليه عند الإطلاق وإن خالف قاعدة الشافعي رضي الله تعالى عنه من الأخذ بالأقل فالحاصل أن فيه اعتبارين من حيث اللغة والعرف العام فلا يقاس به ما فيه اعتبار واحد وهو ما مر عن أولئك المفتين فتأمل ذلك واحفظه قوله فإن قلت كيف يحمل اللفظ عند الإطلاق الخ لا يحتاج إلى هذا السؤال والجواب مع تصريحهم به على وجه أوضح وأتم من هذا حيث قالوا اللفظ الصادر من المكلف إذا عرف مدلوله في اللغة أو العرف إلى آخر ما قدمته قريبا فراجعه تعلم به ما في كلام هذا المفتي وقوله ولو على تجوز مر رده من كلامهم وأنه لا بد من قرب ذلك الاحتمال حتى تقبل إرادته قوله ما لم يقصد انتفاع المقيم أو المجتاز إنما قبل قصره لأن إسراج الكنيسة محتمل لذلك ولمقابله على السواء لأنه مطلق في الأحوال فأثر فيه القصد لذلك وحينئذ فليس هذا مشابها لصورة السؤال بوجه ولا مؤيدا لقوله قبله ولو على تجوز لما تقرر أنه محتمل لكل من تلك الأحوال على السؤال قوله ما لم يقصد تمليكه هذا وما بعده من المطلق في الأحوال أيضا فيأتي فيه ما مر في الإسراج

 

ج / 3 ص -470-        قوله إلا إن أراده إنما قبل هنا لأن فيه تغليظا على نفسه وما هو كذلك يقبل فيه وإن بعد احتماله من اللفظ كما علم من قول الصيدلاني من فسر اللفظ بغير ما يقتضيه ظاهره ينظر فيه فإن كان ذلك عليه قبل لأنه غلظ على نفسه وإن كان له لا عليه قبل باطنا لا ظاهرا إن اتصل بحق آدمي ا هـ. ملخصا قوله ولو قال هذا المال الخ، إنما قبلت إرادته ما ذكر في هذه المسائل لنحو ما سبق من أن اللفظ يحتمل ما أراده فيها احتمالا قريبا فلا شاهد في شيء منها لما أطلقه من القبول مع بعد الاحتمال قوله سمعت الدعوى مبني هو وما بعده على تأثير ذلك القصد وقبوله وقد علمت ما في ذلك قوله على نفي العلم هو ما نقله الشيخان في صورة ما لو أوصى بجزء مثلا عن الأكثرين ولم يفصلا بين أن يدعي علم الوارث بإرادة الأكثر وأن لا لكن صرح القاضي حسين وغيره بأن شرط سماع دعواه ادعاؤه ذلك والمعتمد الأول قوله فقلنا إن المعنى هم على ميراث أبيهم لو كان حيا في هذا نظر إن أراد أنه تقدير لما في السؤال وهو الظاهر وذلك أن هذا هو عين لفظ السؤال فكيف يقال إنه تقدير له وإن هذا التقدير هو السبب لتصحيح الوصية قوله فظاهر أن الوصية بنصف المال هذه العبارة إنما تقال كما لا يخفى على من مارس عبارتهم في بحث يفهم من كلام الأصحاب فهما واضحا لا فيما هو منصوص لهم وقد صرحوا بذلك فلا يحتاج أن يقال فيه هذه العبارة الموهمة أن ذلك بحث من هذا المفتي قوله فجوابه أن الظاهر أن الاعتبار في ذلك بحالة الموت هو كما ذكره كما بسطت الكلام فيه في أوائل جوابي مع البلقيني المعتبر في مثل هذا حالة الوصية فراجعه حتى تعلم الحق في ذلك قوله وعليه فيستحق الموصى لهم في الصورة التي ذكرها السائل ربع التركة هذا منه إن أراد بقوله واحد من أعمامهم أحد الذكور كما هو صريح اللفظ تناقض لأنه إذا اعتبر عددهم عند الموت صارت صورة المسألة هي قوله السابق. فإن قلت فما اللفظ الذي إذا تلفظ به الموصي الخ، فبين ثم أنه في ابن وبنت وأولاد ابن أوصى لهم بمثل نصيب عمهم أن لهم الخمسين ثم ذكر هنا على الأثر في هذه بعينها أن لهم الربع ووجه كون هذه الصورة هي تلك بعينها أنها مفروضة في ثلاثة بنين وبنت وأولاد ابن ميت أوصى لهم بمثل نصيب أحد أعمامهم ثم مات ابنان في حياة أبيهم الموصي فإذا اعتبرنا حالة الموت فهو لم يمت إلا عن ابن وبنت وأولاد ابن أوصى لهم بمثل نصيب عمهم الموجود وهذه الصورة هي عين تلك التي قدم فيها في عين هذا التصوير أن لهم خمس التركة وهذا هو الصواب الذي يصرح به كلامهم فقوله هنا أن لهم ربع التركة غلط فإن قلت فإن اعتبرنا هنا حالة الوصية ما الذي يكون لأولاد الابن الموصى لهم بمثل نصيب أحد أعمامهم قلت يكون لهم التسعان لأن مسألتهم من سبعة يزاد عليها مثل نصيب أحدهم وهو سهمان وإن أراد بأحد أعمامهم ما يشمل عمتهم صح ما قاله لكن من أي قاعدة أخذ حمل قول الموصي واحد من أعمامهم على ما يشمل الأنثى فإن احتج بالتغليب فهو نوع من المجاز وهو لا يجوز الحمل عليه عند

 

ج / 3 ص -471-        الإطلاق العاري عن القرينة بل وإن احتف بها هنا كما علم مما مر في تقرير أنه لا يعتبر هنا قصد ولا عرف خاص، فإن قلت الحامل له على ذلك الحمل قول الروضة وغيرها لو أوصى لزيد بمثل نصيب أحد ورثته أعطي مثل أقلهم نصيبا ثم قال فإذا كان له ابن وبنت فالوصية بالربع قلت إن كان ذلك هو الحامل له على ما ذكره فهو غفلة عن التصويرين لأنه هنا عبر بأقلهم فتناول البنت دون الابن وفي مسألتنا عبر بالأعمام وهو إنما يتناول الذكور دون الإناث فإن قلت قد يستدل لما قاله بقولهم لو أوصى من له ثلاث بنات ولم يأت بلفظ أخوة ولا بنوة كان لفظه صادقا على كل فنزلوه على الأقل وهو نصيب بنت من الثلاثة لصدق لفظه عليها وعود ضميرهم على الجمع الشامل لذكور وإناث شائع لا يحتاج لقرينة وأما إذا كان هناك عمة وأعمام فخص الأعمام بقوله بمثل نصيب واحد من أعمامه فالقول بحمله على العمة بعيد جدا مع أنه لا دليل عليه بل الدليل على خلافه وهو أن الوصف بكونه واحدا من الأعمام صريح في أن المراد الذكور لا ما يعمهم والأنثى فإن قلت قد يدل له قول الرافعي: لو كان له ابن وبنت ابن وأخ وأوصى بمثل نصيب أحد ولديه كانت الوصية بالسبع قلت لا دليل فيه لأن ولد الولد يسمى ولدا حقيقة وعلى مقابله وأنه لا يحمل عليه عند الإطلاق فهنا قرينة ظاهرة وهي التثنية ومن ثم لما ذكر الرافعي ما مر قال بعد كلام في وقوع اسم الولد على ولد الولد خلاف سبق في الوقف فإن وقع عليهما فالتصوير ظاهر وإلا فالمنع إنما هو عند الإطلاق فأما هنا فالتثنية في قوله أحد ولدي قرينة تبين إرادتهما جميعا ا هـ. وهذا منه رحمه الله تعالى مؤيد لما ذكرته أن الأعمام لا يشملون العمة في هذا الباب إلا بقرينة ظاهرة تدل عليه لأن ولد الولد إذا احتاج شمول الولد له هنا إلى قرينة مع أنه يطلق عليه كثيرا بل حقيقة على الأصح في بعض الأبواب كالحجب وغيره فما بالك بالعم فالحق أنه لا يشمل العمة إلا بقرينة واضحة تدل على شمولها ولا قرينة هنا كذلك فكان الحق في تلك الصورة الذي دل عليه كلامهم كما هو واضح بأدنى تأمل أن لأولاد الابن الخمسين لا الربع وفقنا الله سبحانه وتعالى أجمعين لإيضاح الحق واتباعه وخلصنا من دسائس نفوسنا الحاملة على التورط في هوة الباطل وابتداعه ويسر لنا من غير عائق ولا مانع الدأب في تحقيق العلوم الذي هو أفضل الأعمال وأخذ بنواصينا إلى أن ننتظم في سلك المتقدمين من أهل الكمال وأبقى من حملة العلم في كل إقليم جمعا جما وأتحفهم من قربه وهيبته وقيامهم بحقوق ربوبيته بما يحصل به على أيديهم الهداية لمتبعيهم عربا كانوا أو عجما وأقبل بقلوب خلقه إليهم حتى يعولوا في كشف المعضلات والنوائب عليهم وأخرج من نفوسهم الضغائن التي تقطع عن الوصول إلى خلافة الرسل الكرام التي هي أعلى المقامات في هذه الدار ودار السلام وألحقنا بهم في ذلك إنه الكفيل بكل خير في سائر الأحوال والمسالك لا إله غيره ولا مأمول إلا بره وخيره فضراعة إليه بأكمل أنبيائه وواسطة عقد أصفيائه أن يعصمني من الخطإ والخطل ومن الزيغ والزلل وأن يعفو عما

 

ج / 3 ص -472-        اقترفت من الذنوب وما حويت من العيوب إنه الجواد الكريم الرءوف الرحيم.
وسئل نفع الله تعالى به هل يجوز للوصي في تفريق نحو الكفارة صرفها لأهل المكفر بعد موته لأن تهمة دفع النفقة عن نفسه قد زالت بالموت أو لا يجوز ذلك لأن الوصي لا يجوز له الدفع إلا لمن يتمكن الموصي من الدفع إليه وهو الآن غير متمكن من ذلك؟. فأجاب بقوله: الظاهر أنه لا يجوز للوصي صرف كفارة الميت لممونه لأنه نائب عن الميت فأعطي حكمه وأيضا فما يصرف منه تركة وهي ملك للورثة وإن فرض أنه عينه للصرف منه إذ لا يخرج عن مالك الورثة إلا بصرفه لا قبله فكيف يصرف له من ملكه وبهذا يعلم أن ذلك لا يختص بالموت بل سائر الورثة كذلك ولو لم يرث الممون لكونه قاتلا فهل يجوز الصرف إليه نظرا للمعنى الثاني أو لا نظرا للمعنى الأول كل محتمل والثاني أقرب إلى إطلاقهم فهو الأوجه نظرا إلى أن الوصي نائب الميت فإن قلت العلة في منع صرف الميت في حياته لممونه دفع المؤنة عن نفسه وهو منتف في صرف الوصي إذ لا مؤنة على الميت تدفع عنه حينئذ فكان ينبغي جواز صرفه لممون غير وارث لنحو حجبه بأقرب منه كجد عال وفرع سافل قلت تنزيلهم الوصي منزلة الميت في جواز الصرف لما لزم الميت يقتضي تقييده بما كان يتقيد به الميت في الصرف لأنه نائبه سواء أوجد المعنى الذي منع الميت لأجله أم لا لما تقرر أن الملحظ في الجواز النيابة عن الميت والنائب المتقيد تصرفه بكونه على جهة النيابة لا يتوقف على وجود المعنى الموجود في المستناب عنه فتأمله.
وسئل عمن روى خبر:
"من لم يوص لم يؤذن له في الكلام مع الموتى" قيل يا رسول الله وهل تتكلم الموتى قال: "نعم ويتزاورون؟". فأجاب بقوله: أخرجه الشيخ ابن حبان.
وسئل عمن أوصى لغيره بمنافع نخلة مثلا فما هي منفعة النخلة هل هو كرمها وليفها والاستظلال بظلها ونحو ذلك أو يدخل في ذلك الثمرة والليف ككسب العبد أو لا يدخل ذلك؟ فأجاب بعضهم بما حاصله عدم دخول نحو الثمر بمجرد ما ذكر وأن النخلة لا منفعة لها إلا نحو الاستظلال والتجفيف وربط الدواب بها وعلى ذلك تحمل المنفعة الموصى بها واعترض عليه آخر وأجاب بما حاصله أن إطلاق المنفعة يشمل جميع الفوائد كالثمرة والكرم والليف ونحوها بالنسبة إلى النخلة واللبن والصوف ونحوهما بالنسبة إلى الماشية مستشهدا بأن الموصى له بمنفعة العبد يملك أجرة حرفته لأنها أبدال منفعته ويملك أيضا مهر الجارية على خلاف فيه وأطال في الرد على الأول ثم أجاب الأول ثانيا بما حاصله تقرير جوابه الأول والرد على المعترض المجيب الثاني مستشهدا بأن الوصية بالمنفعة إنما تطلق على ما يرد عليه عقد الإجارة وهو نحو الاستظلال بظلها كما اقتضاه كلام الأصحاب تصريحا وتلويحا وأدل دليل على ذلك اقتصارهم على دخول الكسب والمهر لا غيرهما من الثمر واللبن وغير ذلك مما لا يخفى وإنما قالوا بدخول نحو

 

ج / 3 ص -473-        الكسب لأنه بدل المنفعة مع ما في ذلك من الخلاف ولو كان غيرهما داخلا كالثمر واللبن لوجب على المتعقب أن ينص عليه وأطال في الرد على المعترض المجيب الثاني فتفضلوا سيدي بالجواب الشافي فإن قلتم بما قاله الأول فتفضلوا ببيان دليله والرد لما استشهد به الأول أثابكم الله سبحانه وتعالى الجنة بمنه وكرمه آمين؟. فأجاب بقوله: الذي يصرح به كلامهم أن نحو الثمرة واللبن لا يدخل في الوصية بالمنفعة ومما يصرح بذلك أمور منها ما في تدريب البلقيني أن نحو الثمرة لا يدخل في مطلق الوصية بعين نحو الشجرة بكل حال فإذا كانت الوصية بالأصل نفسه لا يدخل فيها نحو الثمرة فما بالك بالوصية بالمنفعة فإن قلت ما في التدريب مرجوح قلت هو مع كونه مرجوحا يدل لما قلناه إذ لا وجه له إلا النظر إلى لفظ نحو الشجرة لا يتناول نحو ثمرتها لأن نحو الثمرة عين أخرى لا يشملها لفظ الشجرة. ولا تقاس الوصية بنحو البيع لضعفها عن الاستتباع بخلافه وإذا جرى هذا من البلقيني في هذه الصورة فقال بعدم دخول نحو الثمرة لما ذكرته لزم بالضرورة أنه قائل في الوصية بالمنفعة أنها لا تشمل نحو الثمرة ولا يلزم من ضعف كلامه في الأول ضعفه هنا لوضوح فرقان ما بين الصورتين فإن الوصية بالعين أقوى من الوصية بالمنفعة ومنها قول الجواهر في الوصية بما ستحمله هذه الجارية أو البهيمة في هذا العام أو أبدا وجهان أصحهما أنها تصح كما تصح بالمنافع ثم قالوا وفي الوصية بما سيحدث من الثمار طريقان أحدهما القطع بالصحة وأصحهما أنه على الوجهين في الحمل سواء أوصى بثمرتها هذا العام أو كل عام ا هـ. ففي قوله كما تصح بالمنافع التصريح بأن نحو الحمل والثمر ليس من الوصية بالمنافع وإلا بأن كان داخلا في الوصية بالمنافع لزم قياس الشيء على نفسه وهو فاسد فتعين أن الوصية بالمنافع لا تشمل عينا كثمرة وليف وصوف ولبن ومنها قول الرافعي ينبغي أن يقال الوصية بالغلة والكسب لا تفيد استحقاق السكنى والركوب والاستخدام وبواحد منها لا يفيد استحقاق الغلة والكسب فإن الغلة فائدة عينية والمنفعة تطلق في مقابلة العين فيقال الأموال تنقسم إلى الأعيان والمنافع ا هـ. فتأمل جعله المنفعة مقابلة للعين تجده صريحا واضحا في أن المنفعة لا تشمل عينا أصلا وإنما تشمل الآثار التي تصح الإجارة لها لا غير وتعرض ابن الرفعة وغيره كما في ميدان الفرسان لرد بحثه هذا لا يمنع الاستدلال به فيما ذكرناه لأن رده من حيثية أخرى كما يعلم بتأمل كلامهم في ذلك ويوافق ذلك تعليل الأصحاب للوجه القائل بأن ولد الموصى بمنافعها للورثة بأن استحقاق المنفعة لا يشمله كالإجارة فهذا تصريح منهم بأن المنفعة لا تشمل الأعيان ولأجل ذلك نظر الأصح إلى هذا فقال إن الموصى له بالمنفعة لا يملك الولد بل منافعه فقط لأنه جزء من الأم فأجرى عليه حكمها عملا بقاعدة أن الولد تابع لأمه لأنه جزء منها وهذا لا يتصور القول به في نحو الثمرة واللبن فتعين أنه للوارث لما تقرر أن المنافع الموصى بها لا تشمل الأعيان بوجه ومنها ما في الجواهر أن المراد بالمنافع الموصى بها ما تملك

 

ج / 3 ص -474-        بالإجارة الصحيحة وهذا نص قاطع للنزاع ككلام الرافعي السابق في أن الوصية بالمنافع لا تشمل عينا أصلا لأن العين لا تملك بعقد الإجارة قصدا مطلقا بل تبعا لضرورة أو حاجة وفي شرح المنهاج للزركشي إنما صحت الوصية بالمنافع لأنها أموال تقابل بالأعواض فكانت كالأعيان وهو صريح فيما مر عن الرافعي أن المراد بالمنافع هنا ما يقابل الأعيان وفيه أيضا وضبط الإمام المنافع بما تملك بالإجارة وهذا كما مر عن القمولي صريح في أنه لا يدخل في المنافع عين أصلا وفيه أيضا وفي وجه ضعيف تصح الوصية بالثمرة التي ستحدث دون الحمل لأنها تحدث من غير إحداث أمر في أصلها كالمنافع بخلاف الولد فهذا صريح في أن الثمرة ليست من المنافع وإلا لم يصح قياسها عليها بل متن المنهاج صريح في ذلك وهو وتصح بالمنافع وكذا بثمرة أو حمل سيحدثان في الأصح فجزم بصحتها بالمنافع وحكى الخلاف في صحتها بثمرة ستحدث فلو كانت الثمرة التي ستحدث من المنافع لم يتأت الخلاف كيف وقد أجمعوا إلا من شذ على صحة الوصية بالمنافع والاستدلال بملك أجرة الحرفة والمهر غير صحيح لأن أجرة الحرفة بدل منفعة يصح الاستئجار لها وليس بدل عين حتى يكون دليلا على ما زعمه من تناول المنفعة للأعيان التي ذكرها ولأن المهر بدل منفعة أيضا هي الوطء الذي هو الانتفاع وإن لم يصح الاستئجار له فليس بدل عين أيضا على أن الراجح عدم دخوله لأنه بدل عما لا يستأجر له فلم تشمله المنفعة وبه يتجه ما قاله الأول وأما استشهاد الأول بأن الوصية بالمنفعة إنما تطلق على ما يرد عليه عقد الإجارة فهو المنقول كما قدمته لكن قوله وهو نحو الاستظلال بظلها غير صحيح لأنها إن كانت في أرض مملوكة للغير لم يجز الاستظلال بظلها أو مباحة جاز الاستظلال بظلها وإن منع منه المالك لأنه بمجرده لا يقصد ولا يقابل بمال وإنما منفعتها ربط الدواب والأمتعة بها وتجفيف الثياب عليها وغير ذلك مما في معناه فهذا هو القصد بالوصية بمنافعها نعم الحق الذي دل كلامهم في مواضع أنه لو قامت القرائن الظاهرة على أنه ليس القصد من الوصية بمنافعها إلا نحو ثمرتها كأن لم يتعارف عندهم منفعة للنخلة إلا ثمرتها ونحوها وإلا نحو لبن الغنم وصوفها دخلت العين حينئذ لأن ذلك العرف يخرج المنفعة عن حقيقتها ويصرفها إلى أن المراد بها مطلق الفوائد الشاملة للأعيان وبهذا يجمع بين هذين الإفتاءين المذكورين في السؤال فيحمل الأول على ما إذا كان ثم منافع حقيقة والثاني على ما إذا لم يكن لها منفعة إلا نحو الثمر واطرد العرف بأنه المراد بالوصية أو قامت القرائن الظاهرة على ذلك فتأمله ثم رأيتني أوضحت المسألة في شرح المنهاج بما لا مزيد عليه.
وسئل عمن أوصى بوصايا وجعل الوصايا في عين من ماله فهل يمتنع على الورثة التصرف في التركة حتى تنفذ الوصايا أم في العين وحدها الموصى فيها بالوصية أو يقال إن قال الموصي أوصيت لفلان بمائة دينار في العين الفلانية اختص التعلق بها ولا يعم جميع

 

ج / 3 ص -475-        التركة كما لو قال الميراث في العبد لزيد وفسره بوصية أو الحكم غير ذلك بينوه؟. فأجاب بقوله: الذي دل عليه كلامهم أنه إذا قيد الوصية بعين من ماله كأعطوا فلانا مائة من أجرة داري أو ثمنها تقيدت الوصية بتلك العين حتى لو تلفت قبل إخراج الوصية منها بطلت ولم يكن للموصى له حق في باقي التركة وبعد أن تعلم هذا يعلم أن من الواضح في صورة السؤال أن الورثة لا يمتنع عليهم التصرف قبل إخراج تلك الوصايا إلا في العين المتعلقة تلك الوصايا بها دون بقية التركة لأن حق الموصى له لا يتصور تعلقه بغير تلك العين فكيف يحجر على الورثة في غيرها. وإنما ينحصر ذلك التعلق في تلك العين لا غير فحجر عليه فيها فقط وهذا واضح جلي وعجيب من ترديد السائل المذكور فيه مع إحاطته بكلام الأصحاب الصريح فيما ذكرته إلا أن يكون للمسألة باطن غير ما دل عليه لفظ السؤال فحينئذ ينبغي شرح الصورة كما هي ليقع الكلام فيها وليس هذا نظير ما لو أوصى بعين حاضرة هي ثلث ماله وباقيه دين أو غائب وليس تحت يد الوارث يحجر على الورثة في ثلثها وعلى الموصى له حتى في ثلثها وإن ملكه بكل تقدير وذلك لأنه يحتمل بقاء غيرها فتكون كلها له وتلف غيرها فيكون له ثلثها ومع ذلك لا يتصرف فيه لأن تصرفه يتوقف على تصرفهم في مثله وهو متعذر لما تقرر وفي صورة السؤال لا يحتمل تعليق الموصى له بغير تلك العين المتعلق بها الوصايا أصلا فلم يكن لمنع الورثة من التصرف في غيرها وجه كما مر.
وسئل عما إذا قال شخص في مرض موته ثلث مالي لفلان ولم يقل بعد موتي هل يكون وصية للعلم مراده بعد الموت أم لا؟. فأجاب بقوله: هذا كناية فإن نوى به الوصية فوصية أو الهبة الناجزة فهبة وبهذا يجمع بين قول القاضي ليس وصية أي صريحا وقول الزجاجي وصية أي إن أرادها ولا عبرة بالقرائن الدالة على أن مراده ما ذكر، والله سبحانه وتعالى أعلم.