الروض المربع شرح زاد المستقنع ط المؤيد

 [كتاب المناسك]
جمع منسك - بفتح السين وكسرها- وهو التعبد. يقال: تنسك: تعبد، وغلب إطلاقها على متعبدات الحج. والمنسك في الأصل من النسيكة وهي الذبيحة.
(الحج) بفتح الحاء في الأشهر، عكس شهر ذي الحجة، فرض سنة تسع من الهجرة، وهو لغة: القصد، وشرعا: قصد مكة لعمل مخصوص في زمن مخصوص.

(والعمرة) لغة: الزيارة، وشرعا: زيارة البيت على وجه مخصوص، وهما (واجبان) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ولحديث عائشة «يا رسول الله هل على النساء من جهاد قال نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة» . رواه أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح، وإذا ثبت ذلك في النساء فالرجال أولى.
إذا تقرر ذلك فيجبان (على المسلم الحر المكلف القادر) أي المستطيع (في عمره مرة) واحدة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحج مرة فمن زاد فهو متطوع» رواه أحمد وغيره. فالإسلام والعقل شرطان للوجوب، والصحة والبلوغ وكمال الحرية شرطان للوجوب، والإجزاء دون الصحة والاستطاعة شرط للوجوب دون الإجزاء، فمن كملت له الشروط وجب عليه السعي (على الفور) ويأثم إن أخره بلا عذر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تعجلوا

(1/246)


إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له» رواه أحمد.

(فإن زال الرق) بأن عتق العبد محرما (و) زال (الجنون) بأن أفاق المجنون وأحرم إن
لم يكن محرما (و) زال (الصبا) بأن بلغ الصغير وهو محرم (في الحج) وهو (بعرفة) قبل الدفع منها أو بعده إن عاد فوقف في وقته ولم يكن سعى بعد طواف القدوم (وفي) أي وقت وجد ذلك في إحرام (العمرة قبل طوافها صح) أي الحج والعمرة فيما ذكر (فرضا) ، فتجزيه عن حجة الإسلام وعمرته ويعتد بإحرام ووقوف موجودين إذا، وما قبله تطوع لم ينقلب فرضا، فإن كان الصغير أو القن سعى بعد طواف القدوم قبل الوقوف لم يجزئه الحج ولو أعاد السعي؛ لأنه لا يشرع مجاوزة عدده ولا تكراره، بخلاف الوقوف فإنه لا قدر له محدود وتشرع استدامته. وكذا إن بلغ أو عتق في أثناء طواف العمرة لم يجزئه ولو أعاده.

(و) يصح (فعلهما) أي الحج والعمرة (من الصبي) نفلا لحديث ابن عباس «أن امرأة رفعت إلى النبي - صلى الله وعليه وسلم - صبيا فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر» رواه مسلم. ويحرم الولي في مال عمن لم يميز ولو محرما أو لم يحج، ويحرم مميز بإذنه ويفعل ولي ما يعجزهما لكن يبدأ الولي في رمي بنفسه ولا يعتد برمي حلال، ويطاف به لعجز راكبا أو محمولا، (و) يصحان من (العبد نفلا) لعدم المانع ويلزمانه بنذره ولا يحرم به ولا زوجة إلا بإذن سيد وزوج، فإن عقداه فلهما تحليلهما ولا يمنعها من حج فرض كملت شروطه، ولكل من أبوي حر بالغ منعه من إحرام بنفل كنفل جهاد ولا يحللانه إن أحرم.

(والقادر) المراد فيما سبق (من أمكنه الركوب ووجد زادا وراحلة) بآلتهما (صالحين لمثله) لما روى الدارقطني بإسناده عن أنس عن النبي - صلى الله وعليه وسلم - في قوله عز وجل: {مَنِ اسْتَطَاعَ

(1/247)


إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] قال: «قيل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: " الزاد والراحلة» وكذا لو وجد ما يحصل به ذلك (بعد قضاء الواجبات) من الديون حالة أو مؤجلة والزكاة والكفارات والنذور (و) بعد (النفقات الشرعية) له ولعياله على الدوام من عقار أو بضاعة أو صناعة (و) بعد (الحوائج الأصلية) من كتب ومسكن وخادم ولباس مثله وغطاء ووطاء ونحوها، ولا يصير مستطيعا ببذل غيره له، ويعتبر أمن الطريق بلا خفارة يوجد فيه الماء والعلف على المعتاد وسعة وقت يمكن السير فيه على العادة.
(وإن أعجزه) عن السعي (كبر أو مرض لا يرجى برؤه) أو ثقل لا يقدر معه على الركوب إلا بمشقة شديدة أو كان نضو الخلقة لا يقدر ثبوتا على راحلة إلا بمشقة غير محتملة (لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه) فورا (من حيث وجبا) أي من بلده لقول ابن عباس: «إن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله تعالى في الحج شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: حجي عنه» متفق عليه. (ويجزئ) الحج والعمرة (عنه) أي عن المنوب عنه إذا (وإن عوفي بعد الإحرام) قبل فراغ نائبه من النسك أو بعده؛ لأنه أتى بما أمر به فخرج من العهدة، ويسقطان عمن لم يجد نائبا ومن لم يحج عن نفسه لم يحج عن غيره. ويصح أن يستنيب قادر وغيره في نفل حج أو بعضه، والنائب أمين فيما يعطاه ليحج منه ويحتسب له نفقة روجوعه وخادمه إن لم يخدم مثله نفسه.

(ويشترط لوجوبه) أي الحج والعمرة (على المرأة وجود محرمها) لحديث ابن عباس:

(1/248)


«لا تسافر امرأة إلا مع محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم» رواه أحمد بإسناد صحيح، ولا فرق بين الشابة والعجوز وقصير السفر وطويله، (وهو) أي محرم السفر (زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب) كأخ مسلم مكلف (أو سبب مباح) كأخ من رضاع كذلك، وخرج من تحرم عليه بسبب محرم كأم المزني بها وبنتها، وكذا أم الموطوءة بشبهة وبنتها والملاعن ليس محرما للملاعنة؛ لأن تحريمها عليه أبدا عقوبة وتغليظ عليه لا لحرمتها ونفقة المحرم عليها، فيشترط لها ملك زاد وراحلة لهما، ولا يلزمه مع بذلها ذلك سفر معها، ومن أيست منه استنابت وإن حجت بدونه حرم وأجزأ.

(وإن مات من لزماه) أي الحج والعمرة (أخرجا من تركته) من رأس المال أوصى به أو لا. ويحج النائب من حيث وجبا على الميت؛ لأن القضاء يكون بصفة الأداء، وذلك لما روى البخاري عن ابن عباس «أن امرأة قالت: يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت؟ أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء» ويسقط بحج أجنبي عنه لا عن حي بلا إذنه، وإن ضاق ماله حج به من حيث بلغ وإن مات في الطريق حج عنه من حيث مات.

(1/249)


[باب المواقيت]
الميقات لغة: الحد، واصطلاحا موضع العبادة وزمنها.
(وميقات أهل المدينة ذو الحليفة) - بضم الحاء وفتح اللام - بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، وهي أبعد المواقيت من مكة بينها وبين مكة عشرة أيام. (و) ميقات (أهل الشام ومصر والمغرب الجحفة) - بضم الجيم وسكون الحاء المهملة - قرب رابغ بينها وبين مكة نحو ثلاث مراحل. (و) ميقات (أهل اليمن يلملم) بينه وبين مكة ليلتان. (و) ميقات (أهل نجد) والطائف (قرن) -بسكون الراء- ويقال: قرن المنازل وقرن الثعالب على يوم وليلة من مكة. (و) ميقات (أهل المشرق) أي العراق وخراسان ونحوهما (ذات عرق) منزل معروف سمي بذلك؛ لأن فيه عرقا وهو الجبل الصغير، وبينه وبين مكة نحو مرحلتين. (وهي) أي هذه المواقيت (لأهلها) المذكورين (ولمن مر عليها من غيرهم) أي من غير أهلها، ومن منزله دون المواقيت يحرم منه لحج وعمرة، (ومن حج من أهل مكة فـ) إنه يحرم (منها) لقول ابن عباس: «وقت رسول الله - صلى الله وعليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن أتى عليهن، من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمحله من أهله، وكذلك أهل مكة يهلون منها» متفق عليه. ومن لم يمر بميقات أحرم إذا علم أنه حاذى أقربها منه لقول عمر: " انظروا إلى حذوها من قديد " رواه البخاري. ويسن أن يحتاط فإن لم يحاذ ميقاتا أحرم من مكة بمرحلتين (وعمرته) أي عمرة من كان بمكة يحرم لها (من الحل) " لأن «النبي - صلى الله وعليه وسلم - أمر عبد الرحمن

(1/250)


بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم» متفق عليه.
ولا يحل لحر مسلم مكلف أراد مكة أو النسك تجاوز الميقات بلا إحرام إلا لقتال مباح أو خوف أو حاجة تتكرر كحطاب ونحوه، فإن تجاوزه لغير ذلك لزمه أن يرجع ليحرم
منه إن لم يخف فوت حج أو على نفسه، وإن أحرم من موضعه فعليه دم وإن تجاوزه غير مكلف أحرم من موضعه، وكره إحرام قبل ميقات ويحج قبل أشهره وينعقد.
(وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة) منها يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر.

[باب الإحرام]
[الإحرام] لغة: نية الدخول في التحريم، لأنه يحرم على نفسة بنيته ما كان مباحا له قبل الإحرام من النكاح والطيب ونحوهما.
وشرعا: (نية النسك) أي نية الدخول فيه لا نية أن يحج أو يعتمر.
(سن لمريده) أي مريد الدخول في النسك من ذكر وأنثى، غسل) ولو حائضا ونفساء " لأن النبي - صلى الله وعليه وسلم - «أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل» رواه مسلم، وأمر عائشة أن تغتسل لإهلال الحج وهي حائض.

(1/251)


أو تيمم (لعدم) أي: عدم الماء أو تعذر استعماله لنحو مرض (و) سن له أيضا تنظيف) بأخذ شعر وظفر وقطع رائحة كريهة لئلا يحتاج إليه في إحرامه فلا يتمكن منه.
(و) سن له أيضا تطيب) في بدنه بمسك أو بخور أو ماء ورد ونحوها؛ لقول عائشة: «كنت أطيب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت، وقالت كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم» متفق عليه.
وكره أن يتطيب في ثوبه، وله استدامة لبسه ما لم ينزعه، فإن نزعه فليس له أن يلبسه قبل غسل الطيب منه ومتى تعمد مس ما على بدنه من الطيب أو نحاه عن موضعه ثم رده إليه أو نقله إلى موضع آخر فدى لا إن سال بعرق أو شمس.
(و) سن له أيضا تجرد من مخيط) وهو كل ما يخاط على قدر الملبوس عليه كالقميص والسراويل "لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تجرد
لإهلاله" رواه الترمذي (و) سن له أيضا أن يحرم في إزار ورداء أبيضين نظيفين) ونعلين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين» رواه أحمد، والمراد بالنعلين: التاسومة ولا يجوز له لبس السرموزة والجمجم، قاله في " الفروع " (و) سن إحرام عقب ركعتين) نفلا أو عقب فريضة؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أهل دبر صلاة» رواه النسائي.
(ونيته شرط) فلا يصير محرما بمجرد التجرد أو التلبية من غير نية الدخول في النسك لحديث: «إنما الأعمال بالنيات» .

(1/252)


(ويستحب قوله: اللهم إني أريد نسك كذا) أي أن يعين ما يحرم به ويلفظ به، وأن يقول: (فيسره لى) وتقبله مني، وأن يشترط فيقول: (وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني) لقوله - صلى الله وعليه وسلم - لضباعة بنت الزبير حين قالت له: إني أريد الحج وأجدني وجعة، فقال: «حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني» متفق عليه.
زاد النسائي في رواية إسنادها جيد: «فإن لك على ربك ما استثنيت» فمتى حبس بمرض أو عدو أو ضل الطريق حل ولا شيء عليه، ولو شرط أن يحل متى شاء أو إن أفسده لم يقضه، لم يصح الشرط، ولا يبطل الإحرام بجنون أو إغماء أو سكر كموت، ولا ينعقد مع وجود أحدها.

والإنساك: تمتع وإفراد وقران، (وأفضل الأنساك التمتع) فالإفراد فالقران، قال أحمد لا شك أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قارنا والمتعة أحب إلي اهـ.
وقال: لأنه آخر ما أمر به النبي - صلى الله وعليه وسلم - ففي " الصحيحين ": " أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابه لما طافوا وسعوا أن يجعلوها عمرة إلا من ساق هديا،
وثبت على إحرامه لسوقه الهدي، وتأسف بقوله: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم» .

(1/253)


(وصفته) أي التمتع (أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه) من مكة قربها أو بعيد منها.

(والإفراد أن يحرم بحج) ثم بعمرة بعد فراغه منه، والقران أن يحرم بهما معا أو بها ثم يدخله عليها قبل شروعه في طوافها، ومن أحرم به ثم أدخلها عليه لم يصح إحرامه بها.
ويجب على الأفقي وهو من كان مسافة قصر فأكثر من الحرم إن أحرم متمتعا أو قارنا (دم) نسك لا جبران، بخلاف أهل الحرم، ومن منه دون المسافة فلا شيء عليه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] .
ويشترط أن يحرم بهما من ميقات أو مسافة قصر فأكثر من مكة، وأن لا يسافر بينهما، فإن سافر مسافة قصر فأحرم فلا دم عليه، وسن لمفرد وقارن فسخ نيتهما بحج وينويان بإحرامهما ذلك عمرة مفردة لحديث " الصحيحين " السابق، فإذا حلا أحرما به ليصيرا متمتعين ما لم يسوقا هديا أو يقفا بعرفة، وإن ساقه متمتع لم يكن له أن يحل

(1/254)


فيحرم بحج إن طاف وسعى لعمرته قبل حلق، فإذا ذبحه يوم النحر حل منهما.
(وإن حاضت المرأة) المتمتعة قبل طواف العمرة (فخشيت فوات الحج أحرمت به) وجوبا (وصارت قارنة) لما روى مسلم أن عائشة كانت متمتعة فحاضت، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أهلي بالحج» وكذا لو خشيت غيرها، ومن أحرم وأطلق صح وصرفه لما شاء وبمثل ما أحرم فلان انعقد بمثله، وإن جهله جعله عمرة لأنها اليقين، ويصح أحرمت يوما أو بنصف نسك لا إن أحرم فلان فأنا محرم لعدم جزمه.

(وإذا استوى على راحلته قال) قطع به جماعة، والأصح عقب إحرامه: لبيك اللهم لبيك) أي: أنا مقيم على طاعتك وإجابة أمرك «لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد
والنعمة لك والملك، لا شريك لك» روي ذلك عن ابن عمر عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث متفق عليه، وسن أن يذكر نسكه فيها، وأن يبدأ القارن بذكر عمرته وإكثار التلبية، وتتأكد إذا علا نشزا أو هبط واديا أو صلى مكتوبة أو أقبل ليل أو نهار أو التقت الرفاق أو سمع ملبيا أو فعل محظورا ناسيا أو ركب دابته أو نزل عنها أو رأى البيت (يصوت بها الرجل) أي يجهر بالتلبية؛ لخبر السائب بن خلاد مرفوعا: «أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية» وصححه الترمذي،

(1/255)


وإنما يسن الجهر بالتلبية في غير مساجد الحل وأمصاره، وفي غير طواف القدوم والسعي بعده، وتشرع بالعربية لقادر وإلا فبلغته ويسن بعدها دعاء وصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وتخفيها المرأة) بقدر ما تسمع رفيقتها، ويكره جهرها فوق ذلك مخافة الفتنة، ولا تكره التلبية لحلال.

[باب محظورات الإحرام]
أي: المحرمات بسببه، (وهي) أي محظوراته (تسعة) :
أحدها - (حلق الشعر) من جميع بدنه بلا عذر، يعني: إزالته بحلق أو نتف أو قلع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] .
(و) الثاني - (تقليم الأظافر) أو قصه من يد أو رجل بلا عذر، فإن خرج بعينه شعر أو كسر ظفره فأزالهما أو زالا مع غيرهما فلا فدية، وإن حصل الأذى بقرح أو قمل ونحوه فأزال شعره لذلك، فدى، ومن حلق رأسه بإذنه أو سكت ولم ينهه، فدى، ويباح للمحرم غسل شعره بسدر ونحوه، (فمن حلق) شعرة واحدة أو بعضها فعليه طعام مسكين، وشعرتين أو بعض

(1/256)


شعرتين فطعام مسكينين، وثلاث شعرات فعليه دم، (أو قلم) ظفرا فطعام مسكين، أو ظفرين فطعام مسكينين، أو (ثلاثة فعليه دم) أي شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام وإن خلل شعره وشك في سقوط شيء به استحبت.

الثالث - تغطية رأس الذكر إجماعا، وأشار إليه بقوله: (ومن غطى رأسه بملاصق
فدى) سواء كان معتادا كعمامة وبرنس، أم لا كقرطاس وطين ونورة وحناء أو عصبه بسير أو استظل في محمل راكبا أو لا ولو لم يلاصقه، ويحرم ذلك بلا عذر لا إن حمل عليه أو استظل بخيمة أو شجرة أو بيت.

الرابع - لبسه المخيط، وإليه الإشارة بقوله: (وإن لبس ذكر مخيطا فدى) ولا يعقد عليه رداء ولا غيره إلا إزاره ومنطقته وهميانا فيهما نفقة مع حاجة لعقد، وإن لم يجد نعلين لبس خفين أو لم يجد إزارا لبس سراويل إلى أن يجد ولا فدية.

الخامس - الطيب وقد ذكره بقوله: (وإن طيب) محرم بدنه أو ثوبه) أو شيئا منهما أو استعمله في أكل أو شرب (أو ادهن) أو اكتحل أو استعط (بمطيب أو شم) قصدا (طيبا أو تبخر بعود ونحوه) أو شمه قصدا ولو بخور الكعبة أثم و (فدى) ، ومن الطيب مسك وكافور وعنبر وزعفران وورس وورد وبنفسج ولينوفر وياسمين وبان وماء ورد

(1/257)


وإن شمها بلا قصد أو مس ما لا يعلق كقطع كافور أو شم فواكه أو عودا أو شيحا أو ريحانا فارسيا أو نماما أو ادهن بدهن غير مطيب فلا فدية.

السادس - قتل صيد البر أو اصطياده، وقد أشار إليه بقوله: (وإن قتل صيدا مأكولا بريا أصلا) كحمام وبط، ولو استأنس بخلاف إبل وبقر أهلية ولو توحشت (ولو تولدت منه) أي: من الصيد المذكور (ومن غيره) كالمتولد بين المأكول وغيره أو بين الوحشي وغيره تغليبا للحظر، (أو تلف) الصيد المذكور (في يده) وبمباشرة أو سبب كإشارة ودلالة وإعانة ولو بمناولة آلة أو جناية دابة وهو متصرف فيها (فعليه جزاؤه) ، وإن دل ونحوه محرم محرما فالجزاء بينهما، ويحرم على المحرم أكله مما صاده أو كان له أثر في صيده أو ذبح أو صيد لأجله، وما حرم عليه لنحو دلالة أو صيد له لا يحرم على محرم غيره، ويضمن بيض صيد ولبنه إذا حلبه بقيمته ولا يمتلك المحرم ابتداء صيدا بغير إرث، وإن أحرم وبملكه صيد لم يزل ولا يده الحكمية، بل تزال يده المشاهدة بإرساله.
(ولا يحرم) بإحرام أو حرم حيوان إنسي) كالدجاج وبهيمة الأنعام لأنه ليس بصيد، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذبح البدن في إحرامه بالحرم، (ولا) يحرم (صيد البحر) إن لم يكن بالحرم لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] وطير الماء بري، (ولا) يحرم بحرم ولا إحرام (قتل محرم الأكل) كالأسد والنمر والكلب إلا المتولد كما تقدم، (ولا) يحرم قتل الصيد الصائل) دفعا عن نفسه أو ماله سواء خشي التلف أو الضرر بجرحه أو لا، لأنه التحق بالمؤذيات فصار كالكلب العقور.

(1/258)


ويسن مطلقا
قتل كل مؤذ غير آدمي، ويحرم بإحرام قتل قمل وصئبانه ولو برميه ولا جزاء فيه، لا براغيث وقراد ونحوهما، ويضمن جراد بقيمته ولمحرم احتاج لفعل محظور فعله ويفدي، وكذا لو اضطر إلى أكل صيد فله ذبحه وأكله كمن بالحرم، ولا يباح إلا لمن له أكل الميتة.

السابع - عقد النكاح، وقد ذكره بقوله: (ويحرم عقد النكاح) فلو تزوج المحرم أو زوج محرمة أو كان وليا أو وكيلا في النكاح حرم، (ولا يصح) لما روى مسلم عن عثمان مرفوعا «لا ينكح المحرم ولا ينكح» (ولا فدية) في عقد النكاح كشراء الصيد ولا فرق بين الإحرام الصحيح والفاسد.
ويكره للمحرم أن يخطب امرأة كخطبة عقده أو حضوره أو شهادته فيه، (وتصح الرجعة) أي لو راجع المحرم امرأته صحت بلا كراهية لأنه إمساك، وكذا شراء أمة للوطء.

الثامن - الوطء وإليه الإشارة بقوله: (وإن جامع المحرم) بأن غيب الحشفة في قبل أو دبر من آدمي أو غيره حرم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ} [البقرة: 197] قال ابن عباس: هو الجماع، وإن كان الوطء (قبل التحلل الأول فسد نسكهما) ولو بعد الوقوف بعرفة، ولا فرق بين العامد والساهي لقضاء بعض الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بفساد الحج ولم يستفصل، (ويمضيان فيه) أي يجب على الواطئ والموطوءة المضي في النسك الفاسد ولا

(1/259)


يخرجان منه بالوطء، روي عن عمر وعلي وأبي هريرة وابن عباس، فحكمه كالإحرام الصحيح لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] (ويقضيانه) وجوبا (ثاني عام) روي عن ابن عباس وابن عمرو، وغير المكلف يقضي بعد تكليفه وحجة الإسلام فورا من حيث أحرم أولا إن كان قبل ميقات وإلا فمنه، وسن تفرقهما في قضاء من موضع وطء إلى أن يحلا، والوطء بعد التحلل الأول لا يفسد النسك وعليه شاة، ولا فدية على مكرهة ونفقة حجة وقضاؤها عليه؛ لأنه المفسد لنسكها.

التاسع - المباشرة دون الفرج وذكرها بقوله: (وتحرم المباشرة) أي: مباشرة الرجل المرأة (فإن فعل) أي باشرها (فأنزل لم يفسد حجه) كما لو لم ينزل، ولا يصح قياسها على الوطء لأنه يجب به الحد دونها، (وعليه بدنة) إن أنزل بمباشرة أو قبلة أو تكرار نظر أو لمس لشهوة، أو أمنى باستمناء قياسا على بدنة الوطء، وإن لم ينزل فشاة كفدية أذى، وخطأ في ذلك كعمد، وامرأة مع شهوة كرجل في ذلك (لكن يحرم) بعد

(1/260)


أن يخرج (من الحل) ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم (لطواف الفرض) أي ليطوف طواف الزيارة محرما، وظاهر
كلامه أن هذا في المباشرة دون الفرج إذا أنزل وهو غير متجه؛ لأنه لم يفسد إحرامه حتى يحتاج لتجديده، فالمباشرة كسائر المحرمات غير الوطء، هذا مقتضى كلامه في " الإقناع " كـ " المنتهى " و " المقنع " و " التنقيح " و " الإنصاف " و " المبدع " وغيرها، وإنما ذكروا هذا الحكم فيمن وطئ بعد التحلل الأول إلا أن يكون على وجه الاحتياط مراعاة للقول بالإفساد.

(وإحرام المرأة) فيما تقدم كالرجل إلا في اللباس) أي لباس المخيط فلا يحرم عليها ولا تغطية الرأس، (وتجتنب البرقع والقفازين) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين» رواه البخاري وغيره، والقفازان: شيء يعمل لليدين يدخلان فيه يسترهما من الحر كما يعمل للبزاة، ويفدي الرجل والمرأة بلبسهما، (و) تجتنب أيضا (تغطية وجهها) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها» فتضع الثوب فوق رأسها وتسدله على وجهها لمرور الرجال قريبا منها، (ويباح لها التحلي) بالخلخال والسوار والدمالج ونحوها، ويسن لها خضاب عند إحرام وكره بعده، وكره لهما اكتحال بإثمد لزينة، ولها لبس معصفر وكحلي وقطع رائحة كريهة بغير طيب واتجار وعمل صنعة ما لم يشغلا عن واجب أو مستحب، وله لبس خاتم، ويجتنبان الرفث والفسوق والجدال، وتسن قلة الكلام إلا فيما ينفع.

(1/261)


[باب الفدية]
أي أقسامها، وقدر ما يجب، والمستحق لأخذها (يخير بفدية) أي في فدية حلق) فوق شعرتين وتقليم) فوق ظفرين وتغطية رأس وطيب ولبس مخيط بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مد بر أو نصف صاع من تمر أو شعير أو ذبح شاة) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكعب بن عجرة: «لعلك آذاك هوام رأسك؟ ... قال نعم يا رسول الله، فقال: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة» متفق عليه.
و" أو " للتخيير
وألحق الباقي بالحلق (و) يخير (بجزاء صيد بين) ذبح (مثل إن كان) له مثل من النعم (أو تقويمه) أي: المثل بمحل التلف أو قربه (بدراهم يشتري بها طعاما) يجزئ في فطرة أو يخرج بعدله من طعامه (فيطعم كل مسكين مدا) إن كان الطعام برا، وإلا فمدين.
(أو يصوم عن كل مد) من البر (يوما) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] الآية، وإن بقي دون مد صام يوما (و) يخير (بما لا مثل له) بعد أن يقومه بدراهم لتعذر المثل ويشتري بها طعاما كما مر (بين إطعام وصيام) على ما تقدم.

(وأما دم متعة وقران فيجب الهدي) بشرطه السابق لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، والقارن بالقياس مع المتمتع (فإن عدمه) أي: عدم الهدي أو عدم ثمنه، ولو وجد من يقرضه (فصيام ثلاثة أيام) في الحج

(1/262)


(والأفضل كون آخرها يوم عرفة) وإن أخرها عن أيام منى صامها بعد وعليه دم مطلقا (و) صيام (سبعة) أيام (إذا رجع إلى أهله) قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] وله صومها بعد أيام منى وفراغه من أفعال الحج، ولا يجب تتابع ولا تفريق في الثلاثة ولا السبعة.

(والمحصر) يذبح هديا بنية التحلل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] و (إذا لم يجد هديا صام عشرة أيام) بنية التحلل (ثم حل) قياسا على التمتع.
(ويجب بوطء في فرج في الحج) قبل التحلل الأول (بدنة) وبعده شاة، فإن لم يجد البدنة صام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع لقضاء الصحابة، (و) يجب بوطء (في العمرة شاة) وتقدم حكم المباشرة، (وإن طاوعته زوجة لزمها) أي ما ذكر من الفدية في الحج والعمرة، - في نسخة لزماها - أي البدنة في الحج والشاة في العمرة، والمكرهة لا فدية عليها، وتقدم حكم المباشرة دون الفرج، ولا شيء على من فكر فأنزل والدم الواجب لفوات أو ترك واجب كمتعة.

[فصل من كرر محظورا من جنس واحد في الإحرام]
فصل (ومن كرر محظورا من جنس) واحد بأن حلق أو قلم أو لبس مخيطا أو تطيب أو وطئ ثم أعاده ولم يفد) لما سبق (فدى مرة) سواء فعله متتابعا أو متفرقا؛ لأن الله تعالى أوجب في حلق الرأس فدية واحدة ولم يفرق بين ما وقع في دفعة أو

(1/263)


دفعات، وإن كفر عن السابق ثم أعاده لزمته الفدية ثانيا (بخلاف صيد) ففيه بعدده ولو في دفعة لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] .
(ومن فعل محظورا من أجناس) بأن حلق وقلم أظافره ولبس المخيط فدى لكل مرة) أي لكل جنس فديته الواجبة فيه سواء (رفض إحرامه أو لا) إذ التحلل من الحج لا يحصل إلا بأحد ثلاثة أشياء: كمال أفعاله، أو التحلل عند الحصر، أو بالعذر إذا شرطه في ابتدائه، وما عدا هذه لا يتحلل به، ولو نوى التحلل لم يحل ولا يفسد إحرامه برفضه بل هو باق يلزمه أحكامه، وليس عليه لرفض الإحرام شيء لأنه مجرد نية.

(ويسقط بنسيان) أو جهل أو إكراه فدية لبس وطيب وتغطية رأس) لحديث «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، ومتى زال عذره أزاله في الحال (دون) فدية (وطء وصيد وتقليم وحلاق) فتجب مطلقا لأن ذلك إتلاف، فاستوى عمده وسهوه كمال الآدمي، فإن استدام لبس مخيط أحرم فيه ولو لحظة فوق المعتاد من خلعه فدى ولا يشقه،

(1/264)


(وكل هدي أو إطعام) يتعلق بحرم أو إحرام كجزاء صيد ودم متعة وقران ومنذور وما وجب لترك واجب أو فعل محظور في الحرم، فإنه يلزمه ذبحه في الحرم.
قال أحمد مكة ومنى واحد والأفضل نحر ما بحج بمنى وما بعمرة بالمروة، ويلزمه تفرقة لحمه أو إطلاقه، (لمساكين الحرم) لأن القصد التوسعة عليهم وهو المقيم به والمجتاز من حاج وغيره ممن له أخذ زكاة لحاجة، وإن سلمه لهم حيا فذبحوه أجزأ وإلا رده وذبحه، (وفدية الأذى) أي الحلق (واللبس ونحوهما) كطيب وتغطية رأس وكل محظور فعله خارج الحرم، (ودم الإحصار حيث وجد بسببه) من حل أو حرم لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر هديه في موضعه بالحديبية وهي من الحل ويجزئ بالحرم أيضا.

(ويجزئ الصوم) والحلق بكل مكان) لأنه لا يتعدى نفعه لأحد فلا فائدة لتخصيصه (والدم) المطلق (شاة) كأضحية شاة جذع ضأن أو ثني معز (أو سبع بدنة) أو بقرة، فإن ذبحها فأفضل وتجب كلها (وتجزئ عنها) أي عن البدنة (بقرة) ولو في جزاء صيد كعكسه وعن سبع شياه بدنة واحدة أو بقرة مطلقا.
[باب جزاء الصيد]
أي مثله في الجملة إن كان وإلا فقيمته، فيجب المثل من النعم فيما له مثل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] «وجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الضبع كبشا» ويرجع فيما قضت به الصحابة إلى ما قضوا به فلا يحتاج أن يحكم عليه مرة أخرى لأنهم

(1/265)


أعرف، وقولهم أقرب إلى الصواب، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» ومنه (في النعامة بدنة) روي عن عمر وعثمان وعلي وزيد وابن عباس ومعاوية لأنها تشبهها.
(و) في حمار الوحش) بقرة روي عن عمر، (و) في بقرته) أي الواحدة من بقر الوحش بقرة، روي عن ابن مسعود، (و) في (الإبل) على وزن قنب وخلب وسيد بقرة روي عن ابن عباس.
(و) في الثيتل) بقرة، قال الجوهري الثيتل الوعل المسن.
(و) في (الوعل بقرة) يروى عن ابن عمر أنه قال: في الأروى بقرة. قال في " الصحاح ": الوعل هي الأروى، وفي " القاموس ": الوعل بفتح الواو مع فتح العين وكسرها وسكونها تيس الجبل.
(و) في الضبع كبش) قال الإمام: حكم فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكبش. (و) في الغزالة عنز) روي عن جابر عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «في الظبي شاة» . (و) في الوبر) وهو دويبة كحلاء دون السنور لا ذنب لها جدي.
(و) في الضب جدي) قضى به عمر وزيد، والجدي الذكر من أولاد المعز له ستة أشهر.
و) في اليربوع جفرة) لها أربعة أشهر، روي عن عمر وابن مسعود، و) في الأرنب عناق) روي عن عمر، والعناق الأنثى من أولاد المعز أصغر من الجفرة، (و) في الحمامة شاة) حكم به عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس ونافع بن عبد الحارث في حمام الحرم، وقيس عليه حمام الإحرام، والحمام كل ما عب الماء وهدر.
فيدخل فيه الفواخت والوراشين والقطا والقمري والدبسي،

(1/266)


وما لم تقض فيه
الصحابة يرجع فيه إلى قول عدلين خبيرين وما لا مثل له كباقي الطيور ولو أكبر من الحمام فيه القيمة، وعلى جماعة اشتركوا في قتل صيد جزاء واحد.

[باب حكم صيد الحرم]
أي حرم مكة (يحرم صيده على المحرم والحلال) إجماعا لحديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة» (وحكم صيده كصيد المحرم) فيه الجزاء حتى على الصغير والكافر لكن بجريد لا جزاء فيه ولا يملكه ابتداء بغير إرث، (ولا يلزم المحرم جزاءان، ويحرم قطع شجره) أي شجر الحرم وحشيشه) الأخضرين اللذين لم يزرعهما آدمي لحديث «ولا يعضد شجرها ولا يحش حشيشها» وفي رواية: «ولا يختلى شوكها» ويجوز قطع اليابس والثمرة وما زرعه الآدمي، والكمأة والفقع، وكذا الإذخر كما أشار إليه بقوله: «إلا الإذخر» قال في" القاموس ": حشيش طيب الريح لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا الإذخر» ويباح انتفاع بما زال أو انكسرت بغير فعل آدمي ولو لم يبن،

(1/267)


وتضمن شجرة صغيرة عرفا بشاة وما فوقها ببقرة روي عن ابن عباس ويفعل فيها كجزاء صيد، ويضمن حشيش وورق بقيمته وغصن بما نقص، فإن استخلف شيئا منها سقط ضمانه كرد شجرة فتنبت لكن يضمن نقصها، وكره إخراج تراب الحرم وحجارته إلى الحل لا ماء زمزم، ويحرم إخراج تراب المساجد وطيبها للتبرك وغيره.

(ويحرم صيد) حرم (المدينة) لحديث علي «المدينة حرام ما بين عير إلى ثور لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا يصح أن تقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره» رواه أبو داود، (ولا جزاء فيه) أي فيما حرم من صيدها وشجرها وحشيشها، قال أحمد في رواية بكر بن محمد: لم يبلغنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أحدا من أصحابه حكموا فيه بجزاء.
(ويباح الحشيش) من حرم المدينة (للعلف) لما تقدم، (و) يباح اتخاذ (آلة الحرث ونحوه)
كالمساند وآلة الرحل من شجر حرم المدينة، لما روى أحمد عن جابر بن عبد الله " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حرم المدينة قالوا: يا رسول الله إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح وإنا لا نستطيع أرضا غير أرضنا، فرخص لنا فقال: «القائمتان والوسادة والعارضة والمسند، فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط منها شيء» والمسند: عود البكرة ومن أدخلها صيدا فله إمساكه وذبحه.

(1/268)


(وحرمها) يريد في بريد وهو (ما بين عير) جبل مشهور بها (إلى ثور) جبل صغير لونه إلى الحمرة فيه تدوير ليس بالمستطيل خلف أحد من جهة الشمال، وما بين عير إلى ثور هو ما بين لابتيها، واللابة الحرة وهي أرض تركبها حجارة سود، وتستحب المجاورة بمكة وهي أفضل من المدينة قال في " الفنون ": الكعبة أفضل من مجرد الحجرة فأما والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها فلا والله ولا العرش وحملته ولا الجنة لأن بالحجرة جسدا لو وزن به لرجح. اهـ. وتضاعف الحسنة والسيئة بمكان وزمان فاضل.

[باب ذكر دخول مكة وما يتعلق به]
من الطواف والسعي (يسن) دخول مكة (من أعلاها) والخروج من أسفلها، (و) يسن دخول (المسجد) الحرام (من باب بني شيبة) لما روى مسلم وغيره عن جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة ارتفاع الضحى وأناخ راحلته عند بني شيبة ثم دخل» ، ويسن أن يقول عند دخوله بسم الله وبالله ومن الله وإلى الله، اللهم افتح لي أبواب فضلك، ذكره في أسباب الهداية،

(1/269)


(فإذا رأى البيت رفع يديه) بفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رواه الشافعي عن ابن جريج (وقال ما ورد) ومنه: «اللهم أنت
السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة وبرا، وزد من عظمه وشرفه ممن حجه واعتمره تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة وبرا، الحمد لله رب العالمين كثيرا كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، والحمد لله الذي بلغني بيته ورآني لذلك أهلا، والحمد لله على كل حال، اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام وقد جئتك لذلك، اللهم تقبل مني واعف عني وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت» يرفع بذلك صوته.

(ويطوف مضطبعا) في كل أسبوعه استحبابا إن لم يكن حامل معذور بردائه، والاضطباع: أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر، وإذا فرغ من الطواف أزال الاضطباع، (يبتدئ المعتمر بطواف العمرة) ؛ لأن الطواف تحية المسجد الحرام، فاستحبت البدأة به لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، (و) يطوف (القارن والمفرد للقدوم) وهو الورود.
(فيحاذي الحجر الأسود بكله) أي بكل بدنه فيكون مبدأ طوافه؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبتدئ به (ويستلمه) أي يمسح الحجر بيده اليمنى، وفي الحديث: «أنه نزل من الجنة أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم» رواه الترمذي وصححه،

(1/270)


(ويقبله) لما روى عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استقبل الحجر ووضع شفتيه عليه يبكي طويلا، ثم التفت فإذا بعمر بن الخطاب يبكي، فقال يا عمر ها هنا تسكب العبرات» رواه ابن ماجه، نقل الأثرم، ويسجد عليه، وفعله ابن عمر وابن عباس، (فإن شق) استلامه وتقبيله لم يزاحم واستلمه بيده وقَبَّلَ يَدَهُ) لما روى مسلم عن ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استلمه وقبل يده» ، (فإن شق) استلمه بشيء وقبله؛ لما روي عن ابن عباس، فإن شق (اللمس أشار إليه) أي إلى الحجر بيده أو بشيء ولا يقبله لما روى البخاري عن ابن عباس قال: «طاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعير
فلما أتى الحجر أشار إليه بشيء في يده وكبر» (ويقول) مستقبل الحجر بوجهه كلما استلمه (ما ورد) ومنه: «بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - لحديث عبد الله بن السائب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك عند استلامه.
(ويجعل البيت عن يساره) لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف كذلك، وقال: «خذوا عني مناسككم» .
(ويطوف سبعا يرمل الأفقي) أي المحرم من بعيد من مكة (في هذا الطواف) فقط إن طاف ماشيا فيسرع المشي ويقارب الخطا (ثلاثا) أي في ثلاثة أشواط، (ثم) بعد أن

(1/271)


يرمل الثلاثة أشواط (يمشي أربعا) من غير رمل لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يسن رمل لحامل معذور ونساء ومحرم من مكة أو قربها، ولا يقضي الرمل إن فات في الثلاثة الأول، والرمل أولى من الدنو من البيت، ولا يسن رمل ولا اضطباع في غير هذا الطواف.

(و) يسن أن (يستلم الحجر والركن اليماني كل مرة) عند محاذاتهما لقول ابن عمر: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في طوافه» قال نافع: وكان ابن عمر يفعله، رواه أبو داود، فإن شق استلامهما أشار إليهما، لا الشامي وهو أول ركن يمر به، ولا الغربي وهو ما يليه، ويقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] وفي بقية طوافه: " اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا رب اغفر وارحم واهدني السبيل الأقوم، وتجاوز عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم " وتسن القراءة فيه.

(ومن ترك شيئا من الطواف) ولو يسيرا من شوط من السبعة لم يصح لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف كاملا، وقال: «خذوا عني مناسككم» ، (أو لم ينوه) أي ينوي الطواف لم يصح؛ لأنه
عبادة أشبه بالصلاة، ولحديث «إنما الأعمال بالنيات» ، (أو) لم ينو (نسكه) بأن أحرم مطلقا وطاف قبل أن يصرف إحرامه لنسك معين لم يصح طوافه، (أو طاف على الشاذروان) بفتح الذال وهو ما فضل عن جدار الكعبة لم يصح طوافه؛ لأنه من البيت فإذا لم يطف به لم يطف بالبيت جميعه، (أو) طاف على (جدار الحجر) بكسر الحاء المهملة لم يصح طوافه " لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف من وراء الحجر والشاذروان وقال: «خذوا عني مناسككم» ، (أو) طاف وهو

(1/272)


عريان أو نجس) أو محدث (لم يصح) طوافه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه» رواه الترمذي والأثرم عن ابن عباس.
ويسن فعل باقي المناسك كلها على طهارة، وإن طاف المحرم لابس مخيط صح وفدى، (ثم) إذا تم طوافه (يصلي ركعتين) نفلا يقرأ فيهما بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و " الإخلاص " بعد " الفاتحة " وتجزئ مكتوبة عنهما، وحيث ركعهما جاز، والأفضل كونهما (خلف المقام) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] .

[فصل بعد الصلاة في المقام يعود ويستلم الحجر]
فصل (ثم) بعد الصلاة يعود و (يستلم الحجر) لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويسن الإكثار من الطواف كل وقت (ويخرج إلى الصفا من بابه) أي باب الصفا ليسعى فيرقاه) أي الصفا (حتى يرى البيت) فيستقبله (ويكبر ثلاثا ويقول ما ورد) ثلاثا ومنه: الحمد لله على ما هدانا لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ويدعو بما أحب ولا يلبي.

(1/273)


(ثم ينزل) من الصفا (ماشيا إلى) أن يبقى بينه وبين (العلم الأول) وهو الميل الأخضر في ركن المسجد نحو ستة أذرع، (ثم يسعى) ماشيا سعيا (شديدا إلى) العلم (الآخر) وهو الميل الأخضر بفناء المسجد حذاء دار العباس، (ثم يمشي ويرقى المروة ويقول ما قاله على الصفا، ثم ينزل) من المروة (فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه إلى الصفا، يفعل ذلك) أي ما ذكر من المشي والسعي سبعا ذهابه سعية ورجوعه سعية) يفتتح بالصفا ويختتم بالمروة، ويجب
استيعاب ما بينهما في كل مرة فيلصق عقبه بأصلهما أن لم يرقهما فإن ترك مما بينهما شيئا ولو دون ذراع لم يصح سعيه.
(فإذا بدأ بالمروة سقط الشوط الأول) فلا يحتسبه ويكثر من الدعاء والذكر في سعيه، قال أبو عبد الله: كان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة، قال: رب اغفر وارحم واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم، ويشترط له نية وموالاة وكونه بعد طواف نسك ولو مسنونا.

(وتسن فيه الطهارة) من الحدث والنجس (والستارة) أي ستر العورة، فلو سعى محدثا أو نجسا أو عريانا أجزأه. (و) تسن الموالاة بينه وبين الطواف، والمرأة لا ترقى الصفا ولا المروة ولا تسعى

(1/274)


سعيا شديدا، وتسن مبادرة معتمرة بذلك.
(ثم إن كان متمعا لا هدي معه قصر من شعره) ولو لبده ولا يحلقه ندبا ليوفره للحج، (وتحلل) لأنه تمت عمرته (وإلا) بأن كان مع المتمتع هدي لم يقصر، (وحل إذا حج) فيدخل الحج على العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا، والمعتمر غير المتمتع يحل سواء كان معه هدي أو لم يكن في أشهر الحج أو في غيرها (والمتمتع) والمعتمر (إذا شرع في الطواف قطع التلبية) لقول ابن عباس يرفعه: «كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ولا بأس بها في طواف القدوم سرا.

[باب صفة الحج والعمرة]
(يسن للمحلين بمكة) وقربها حتى متمتع حل من عمرته الإحرام بالحج يوم التروية) وهو ثامن ذي الحجة، سمي بذلك؛ لأن الناس كانوا يتروون فيه الماء لما بعده (قبل الزوال) ، فيصلي بمنى الظهر مع الإمام، ويسن أن يحرم (منها) أي من مكة، والأفضل من تحت الميزاب (ويجزئ) إحرامه (من بقية الحرم) ومن خارجه ولا دم عليه، والمتمتع إذا عدم الهدي وأراد الصوم سن له أن يحرم يوم السابع ليصوم الثلاثة محرما (ويبيت بمنى)
ويصلي مع الإمام استحبابا، (فإذا طلعت الشمس) من يوم عرفة (سار) من منى (إلى عرفة) فأقام بنمرة إلى الزوال يخطب بها الإمام أو نائبه خطبة قصيرة مفتتحة بالتكبير يعلمهم فيها الوقوف ووقته والدفع منه والمبيت بمزدلفة، (وكلها) أي كل عرفة موقف إلا بطن عرنة) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل عرفة موقف وارفعوا عن بطن عرنة» رواه ابن ماجه.

(1/275)


(ويسن أن يجمع) بعرفة من له الجمع بين الظهر والعصر) تقديما، (و) أن (يقف راكبا) مستقبل القبلة (عند الصخرات وجبل الرحمة) لقول جابر: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جعل بطن ناقته القصوى إلى الصخرات وجعل جبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة» ، ولا يشرع صعود جبل الرحمة ويقال له: جبل الدعاء (ويكثر الدعاء بما ورد) كقوله: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل في قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا، ويسر لي أمري " ويكثر الاستغفار والتضرع والخشوع وإظهار الضعف والافتقار ويلح في الدعاء ولا يستبطئ الإجابة.

ومن وقف) أي حصل بعرفة ولو لحظة) أو نائما أو مارا أو جاهلا أنها عرفة (من فجر عرفة إلى فجر يوم النحر وهو أهل له) أي للحج بأن يكون مسلما محرما بالحج ليس سكرانا ولا مجنونا ولا مغمى عليه (صح حجه) لأنه حصل بعرفة في زمن الوقوف (وإلا) يقف بعرفة أو وقف في غير زمنه أو لم يكن أهلا للحج (فلا) يصح حجه لفوات الوقوف المعتد به، (ومن وقف) بعرفة (نهارا ودفع) منها (قبل الغروب ولم يعد) إليها (قبله) أي قبل الغروب ويستمر بها إليه (فعليه دم) أي شاة لأنه ترك واجبا، فإن عاد إليها أو استمر للغروب أو عاد بعده قبل الفجر فلا دم عليه؛ لأنه أتى بالواجب وهو الوقوف بالليل والنهار.

(1/276)


(ومن وقف ليلا فقط فلا) دم عليه، قال في " شرح المقنع ": لا نعلم فيه خلافا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج» .
(ثم يدفع بعد الغروب) مع الإمام أو نائبة على طريق المأزمين إلى مزدلفة) وهي ما بين المأزمين إلى ووادي محسر، ويسن كون دفعه (بسكينة) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيها الناس السكينة السكينة» ، (ويسرع في الفجوة) لقول أسامة: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يسير العنق فإذا وجد فجوة نص» أي: أسرع؛ لأن العنق انبساط السير، والنص فوق العنق، (ويجمع بها) أي بمزدلفة (بين العشاءين) أي يسن لمن دفع من عرفة أن لا يصلي المغرب حتى يصل إلى مزدلفة، فيجمع بين المغرب والعشاء من يجوز له الجمع قبل حط رحله، وإن صلى المغرب بالطريق ترك السنة وأجزأه، (ويبيت بها) وجوبا لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بات بها، وقال: «خذوا عني مناسككم» ، (وله الدفع) من مزدلفة قبل الإمام (بعد نصف الليل) لقول ابن عباس: «كنت فيمن قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى» متفق عليه، (و) الدفع (قبله) أي قبل نصف الليل (فيه دم) على غير سقاة ورعاة، سواء كان عالما بالحكم أو جاهلا، عامدا أو ناسيا (كوصوله إليها) أي إلى مزدلفة (بعد الفجر) فعليه دم لأنه ترك نسكا واجبا (لا) إن وصل إليها (قبله) أي قبل الفجر فلا دم عليه، وكذا إن دفع من مزدلفة قبل نصف الليل وعاد إليها قبل الفجر لا دم عليه.
(فإذا أصبح) بها (صلى الصبح) بغلس ثم أتى المشعر الحرام) وهو جبل صغير بالمزدلفة سمي بذلك؛ لأنه من علامات الحج (فيرقاه أو يقف عنده ويحمد الله ويكبره) (ويهلله ويقرأ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] الآيتين، ويدعو حتى يسفر) لأن

(1/277)


في حديث جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لم يزل واقفا عند المشعر الحرام حتى أسفر جدا» ، فإذا أسفر سار قبل طلوع الشمس بسكينة.

(فإذا بلغ محسرا) وهو واد بين مزدلفة ومنى سمي بذلك لأنه يحسر سالكه أسرع) قدر (رمية حجر) إن كان ماشيا، وإلا حرك دابته؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أتى بطن محسر حرك قليلا كما ذكره جابر، (وأخذ الحصى) أي حصى الجمار من حيث شاء، وكان ابن عمر يأخذ
الحصى من جمع، وفعله سعيد بن جبير، وقال: كانوا يتزودون الحصى من جمع. والرمي تحية منى فلا يبدأ قبله بشيء، (وعدده) أي عدد حصى الجمار (سبعون) حصاة كل واحدة (بين الحمص والبندق) كحصا الخذف، فلا تجزئ صغيرة جدا ولا كبيرة ولا يسن غسله.
(فإذا وصل إلى منى وهي من وادي محسر إلى جمرة العقبة) بدأ بجمرة العقبة فـ (رماها بسبع حصيات متعاقبات) واحدة بعد واحدة فلو رمى دفعة واحدة لم يجزئه إلا عن واحدة، ولا يجزئ الوضع (يرفع يده اليمنى) حال الرمي (حتى يرى بياض إبطه) لأنه أعون على الرمي (ويكبر مع كل حصاة) ويقول: اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا.
(ولا يجزئ الرمي بغيرها) أي غير الحصاة كجوهر وذهب ومعادن، (ولا) يجزئ الرمي (بها ثانيا) لأنها استعملت في عبادة فلا تستعمل ثانيا كماء الوضوء، (ولا يقف) عند جمرة العقبة بعد رميها لضيق المكان. وندب أن يستبطن الوادي وأن يستقبل القبلة وأن يرمي على جانبه الأيمن، وإن وقعت الحصاة خارج المرمى ثم تدحرجت فيه أجزأت.
(ويقطع التلبية قبلها) لقول الفضل بن عباس: " إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لم يزل يلبي حتى رمى

(1/278)


جمرة العقبة» " أخرجاه في " الصحيحين " (ويرمي) ندبا بعد طلوع الشمس) لقول جابر: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرمي الجمرة ضحى يوم النحر وحده» أخرجه مسلم، (ويجزئ) رميها (بعد نصف الليل) من ليلة النحر لما روى أبو داود عن عائشة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر أم سلمة ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت» ، فإن غربت شمس يوم الأضحى قبل رميه رمى من غد بعد الزوال.
(ثم ينحر هديا إن كان معه) واجبا كان أو تطوعا، فإن لم يكن معه هدي وعليه واجب اشتراه وإن لم يكن عليه واجب سن له أن يتطوع به، وإذا نحر الهدي فرقه على مساكين الحرم.

(ويحلق) ويسن أن يستقبل القبلة ويبدأ بشقه الأيمن (أو يقصر من جميع شعره) لا من كل شعرة بعينها ومن لبد رأسه أو ظفره أو عقصه فكغيره، وبأي شيء قصر الشعر أجزأه، وكذا أن نتفه أو أزاله بنورة، لأن القصد إزالته، لكن السنة الحلق أو التقصير، (وتقصر منه
المرأة) أي من شعرها (قدر أنملة) فأقل، لحديث ابن عباس يرفعه «ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير» رواه أبو داود، فتقصر من كل قرن قدر أنملة أو أقل، وكذا العبد ولا يحلق إلا بإذن سيده، وسن لمن حلق أو قصر أخذ ظفر أو شارب وعانة وإبط.
(ثم) إذا رمى وحلق أو قصر (قد حل له كل شيء) كان محظورا بالإحرام إلا النساء) وطءا ومباشرة وقبلة ولمسا لشهوة وعقد نكاح، لما روى سعيد عن عائشة مرفوعا «إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء» .

(1/279)


(والحلق والتقصير) ممن لم يحلق (نسك) في تركهما دم لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فليقصر ثم ليتحلل» ، (ولا يلزم بتأخيره) أي الحلق أو التقصير عن أيام منى (دم ولا بتقديمه على الرمي والنحر) ولا إن نحر أو طاف قبل رميه ولو عالما، لما روى سعيد عن عطاء أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قدم شيئا قبل شيء فلا حرج» ويحصل التحلل الأول باثنين من حلق ورمي وطواف، والتحلل الثاني بما بقي مع سعي، ثم يخطب الإمام بمنى يوم النحر خطبة يفتتحها بالتكبير يعلمهم فيها النحر والإفاضة والرمي.

[فصل طواف القارن والمفرد بنية الفريضة طواف الزيارة]
فصل (ثم يفيض إلى مكة ويطوف القارن والمفرد بنية الفريضة طواف الزيارة) ويقال: طواف الإفاضة فيعينه بالنية، وهو ركن لا يتم حج إلا به، وظاهرة أنهما لا يطوفان للقدوم ولو لم يكونا دخلا مكة قبل، وكذا المتمتع يطوف للزيارة فقط كمن دخل المسجد وأقيمت الصلاة فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد، واختاره الموفق والشيخ تقي الدين، وابن رجب ونص الإمام، واختاره الأكثر أن القارن والمفرد إن لم يكونا دخلاها قبل يطوفان للقدوم برمل ثم للزيارة وأن المتمتع يطوف للقدوم ثم للزيارة بلا رمل.
(وأول وقته) أي: وقت طواف الزيارة (بعد نصف ليلة النحر) لمن وقف قبل ذلك بعرفات، وإلا فبعد الوقوف، (ويسن) فعله (في يومه) لقول ابن عمر: «أفاض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر» متفق عليه، ويستحب أن يدخل البيت فيكبر في نواحيه ويصلي فيه ركعتين بين العمودين تلقاء وجهه ويدعو الله عز وجل،

(1/280)


(وله تأخيره) أي تأخير الطواف عن أيام منى لأن آخر وقته غير محدود كالسعي.

(ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعا) لأن سعيه أولا كان للعمرة فيجب أن يسعى للحج (أو) كان (غيره) أي غير متمتع بأن كان قارنا أو مفردا (ولم يكن سعى مع طواف القدوم) فإن كان سعى بعده لم يعده لأنه لا يستحب التطوع بالسعي كسائر الأنساك غير الطواف؛ لأنه صلاة، (ثم قد حل له كل شيء) حتى النساء وهذا هو التحلل الثاني، (ثم يشرب من ماء زمزم لما أحب ويتضلع منه) ويرش على بدنه وثوبه ويستقبل القبلة ويتنفس ثلاثا، (ويدعو بما ورد) فيقول: بسم الله اللهم اجعله لنا علما نافعا ورزقا واسعا وريا وشبعا وشفاء من كل داء، واغسل به قلبي واملأه من خشيتك.

(ثم يرجع) من مكة بعد الطواف والسعي فـ) يصلي ظهر يوم النحر بمنى، و (يبيت بمنى ثلاث ليال) إن لم يتعجل وليلتين إن تعجل في يومين، ويرمي الجمرات بمنى أيام التشريق (فيرمي الجمرة الأولى وتلي مسجد الخيف سبع حصيات) متعاقبات يفعل ذلك كما تقدم في جمرة العقبة (ويجعلها) أي الجمرة (عن يساره ويتأخر قليلا) بحيث لا يصيبه الحصا (ويدعو طويلا) رافعا يديه، (ثم) يرمي (الوسطى مثلها) سبع حصيات [يرمي] ويتأخر قليلا ويدعو طويلا لكن يجعلها عن يمينه، (ثم) يرمي (جمرة العقبة) بسبع كذلك (ويجعلها عن يمينه ويستبطن الوادي ولا يقف عندها عندما يفعل هذا) الرمي للجمار الثلاث على الترتيب والكيفية المذكورة (في كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال) فلا يجزئ قبله ولا ليلا لغير سقاة ورعاة، والأفضل الرمي قبل صلاة الظهر ويكون (مستقبل القبلة) في الكل، (مرتبا) أي

(1/281)


يجب ترتيب الجمرات الثلاث على ما تقدم.
(فإن رماه كله) أي رمى حصا الجمار السبعين كله (في) اليوم (الثالث) من أيام التشريق (أجزأه) الرمي أداء لأن أيام التشريق كلها وقت للرمي (ويرتبه بنية) فيرمي لليوم
الأول بنية ثم للثاني مرتبا وهلم جرا كالفوائت من الصلاة (فإن أخره) إي الرمي (عنه) أي عن ثالث أيام التشريق فعليه دم (أو لم يبت بها) أي بمنى (فعليه دم) لأنه ترك نسكا واجبا، ولا مبيت على سقاة ورعاة.
ويخطب الإمام ثاني أيام التشريق خطبة يعلمهم فيها حكم التعجيل والتأخير والتوديع، (ومن تعجل في يومين خرج قبل الغروب) ولا إثم عليه وسقط عنه رمي اليوم الثالث ويدفن حصاه (وإلا) يخرج قبل الغروب (لزمه المبيت والرمي من الغد) بعد الزوال، قال ابن المنذر: وثبت عن عمر أنه قال: " من أدركه المساء في اليوم الثاني فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس ".

(فإذا أراد الخروج من مكة) بعد عوده إليها (لم يخرج حتى يطوف للوداع) إذا فرغ من جميع أموره لقول ابن عباس: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت طوافا إلا أنه خفف عن المرأة الحائض» متفق عليه، ويسمى طواف الصدر، (فإن أقام) بعد طواف الوداع (أو اتجر بعده أعاده) إذا عزم على الخروج وفرغ من جميع أموره ليكون آخر عهده بالبيت، كما جرت العادة في توديع المسافر أهله وإخوانه، (وإن تركه) أي طواف الوداع (غير حائض رجع إليه) بلا إحرام إن لم يبعد عن مكة، ويحرم بعمرة إن بعد عن مكة فيطوف ويسعى للعمرة ثم للوداع، (فإن شق) الرجوع على من بعد مكة دون مسافة قصر أو بعد عنها مسافة قصر فأكثر فعليه دم،

(1/282)


ولا يلزمه الرجوع إذا، (أو لم يرجع) إلى الوداع، (فعليه دم) لتركه نسكا واجبا، (وإن أخر طواف الزيارة) ونصه أو القدوم (فطافه عند الخروج أجزأ عن) طواف (الوداع) لأن المأمور به أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل، فإن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة، ولا وداع على حائض ونفساء إلا أن تطهر قبل مفارقة البنيان.

(ويقف غير الحائض) والنفساء بعد الوداع في الملتزم وهو أربعة أذرع (بين الركن) الذي به الحجر الأسود (والباب) ويلصق به وجهه وصدره وذراعيه وكفيه مبسوطتين (داعيا بما ورد) ومنه: " اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى أبلغتني بنعمتك إلى بيتك وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، وهذا أوان انصرافي إن أنت أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك،
اللهم فأصحبني العافية في بدني والصحة في جسمي والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير" ويدعو بما أحب ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويأتي الحطيم أيضا وهو تحت الميزاب فيدعو، ثم يشرب من ماء زمزم، ويستلم الحجر ويقبله ثم يخرج، (وتقف الحائض) والنفساء (ببابه) أي باب المسجد (وتدعو بالدعاء) الذي سبق.

(ويستحب زيارة قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبر صاحبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) لحديث «من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي» رواه الدارقطني، فيسلم عليه مستقبلا له، ثم يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره ويدعو بما أحب،

(1/283)


ويحرم الطواف بها، ويكره التمسح بالحجرة ورفع الصوت عندها، وإذا أدار وجهه إلى بلده قال: لا إله إلا الله آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

(وصفة العمرة أن يحرم بها من الميقات) إن كان مارا به (أو من أدنى الحل) كالتنعيم (من مكي ونحوه) ممن بالحرم، و (لا) يجوز أن يحرم بها (من الحرم) لمخالفة أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وينعقد وعليه دم، (فإذا طاف وسعى وحلق أو قصر حل) لإتيانه بأفعالها.
(وتباح) العمرة (كل وقت) فلا تكره بأشهر الحج ولا يوم النحر أو عرفة، ويكره الإكثار والموالاة بينها باتفاق السلف، قاله في " المبدع ". ويستحب تكرارها في رمضان لأنها تعدل حجة. (وتجزئ) العمرة كل وقت من التنعيم وعمرة القارن (عن) عمرة (الفرض) التي هي عمرة الإسلام.

(1/284)


(وأركان الحج) أربعة (الإحرام) الذي هو نية الدخول في النسك لحديث «إنما الأعمال بالنيات» ، (والوقوف) بعرفة لحديث (الحج عرفة) ، (وطواف الزيارة) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، (والسعي) لحديث «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» رواه أحمد.
(وواجباته) سبعة (الإحرام من الميقات المعتبر له) وقد تقدم، (والوقوف بعرفة إلى الغروب) على من وقف نهارا، (والمبيت لغير أهل السقاية والرعاية بمنى) ليالي أيام التشريق على ما مر، (و) المبيت (بمزدلفة إلى ما بعد نصف الليل) لمن أدركها قبله على غير السقاة والرعاة، (والرمي) مرتبا، (والحلاق) أو التقصير، (والوداع، والباقي) من أفعال الحج وأقواله السابقة (سنن) كطواف القدوم والمبيت بمزدلفة ليلة عرفة والاضطباع والرمل في موضعهما وتقبيل الحجر والأذكار والأدعية وصعود الصفا والمروة.

(وأركان العمرة) ثلاثة: (إحرام، وطواف، وسعي) كالحج.
(وواجباتها: الحلاق) أو التقصير، (والإحرام من ميقاتها) لما تقدم، (فمن ترك الإحرام لم ينعقد نسكه) حجا كان أو عمرة كالصلاة لا تنعقد إلا بالنية، (ومن ترك ركنا غيره) أي غير الإحرام (أو نيته) حيث اعتبرت (لم يتم نسكه) أي

(1/285)


لم يصح (إلا به) أي بذلك الركن المتروك هو أو نيته المعتبرة، وتقدم أن الوقوف بعرفة يجزئ حتى من نائم وجاهل أنها عرفة، (ومن ترك واجبا) ولو سهوا (فعليه دم) فإن عدمه فكصوم المتعة (أو سنة) أي ومن ترك سنة (فلا شيء عليه) ، قال في " الفصول " وغيره: ولم يشرع الدم عنها لأن جبران الصلاة أدخل فيتعدى إلى صلاته من صلاة غيره، [كما لو سها الإمام فإنه يتعدى إلى صلاة المأموم]

[باب الفوات والإحصار]
الفوات: كالفوت مصدر فات: إذا سبق فلم يدرك، والإحصار مصدر أحصره مرضا كان أو عدوا، ويقال: حصره أيضا.
(ومن فاته الوقوف) بأن طلع عليه فجر يوم النحر ولم يقف بعرفة (فاته الحج) لقول جابر: «لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع، قال أبو الزبير: فقلت له أقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك؟ قال نعم» رواه الأثرم، (وتحلل بعمرة) فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر إن لم يختر البقاء على إحرامه ليحج من قابل (ويقضي) الحج الفائت (ويهدي)
هديا يذبحه في قضائه (إن لم يكن اشترط) في ابتداء إحرامه، لقول عمر لأبي أيوب لما فاته الحج: اصنع ما يصنع المعتمر، ثم قد حللت، فإن أدركت الحج قابلا فحج واهد ما استيسر من الهدي، رواه الشافعي.
والقارن وغيره سواء، ومن اشترط بأن قال في ابتداء إحرامه: وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني فلا هدي عليه ولا قضاء إلا أن يكون الحج واجبا فيؤديه،

(1/286)


وإن أخطأ الناس فوقفوا في الثامن أو العاشر أجزأهم، وإن أخطأ بعضهم فاته الحج.

(ومن) أحرم فـ صده عدو عن البيت) ولم يكن له طريق إلى الحج (أهدى) أي نحر هديا في موضعه (ثم حل) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] سواء كان في حج أو عمرة، أو قارنا، وسواء كان الحصر عاما في جميع الحاج أو خاصا بواحد كمن حبس بغير حق، (فإن فقده) أي الهدي (صام عشرة أيام) بنية التحلل (ثم حل) ولا إطعام في الإحصار، وظاهر كلامة كالخرقي وغيره عدم وجوب الحلق أو التقصير، وقدمه في " المحرر " و " شرح ابن رزين ".
(وإن صد عن عرفة) دون البيت تحلل بعمرة) ولاشيء عليه، لأن قلب الحج عمرة جائزة بلا حصر فمعه أولى، وإن حصر عن طواف الإفاضة فقط لم يتحلل حتى يطوف، وإن أحصر عن واجب لم يتحلل وعليه دم.
(وإن حصره مرض أو ذهاب نفقة) أو ضل الطريق (بقي محرما) حتى يقدر على البيت، لأنه لا يستفيد بالإحلال التخلص من الأذى الذي به بخلاف حصر العدو، فإن قدر على البيت بعد فوات الحج تحلل بعمرة ولا ينحر هديا معه إلا بالحرم، هذا (إن لم يكن اشترط) في ابتداء إحرامه أن محلي حيث حبستني، وإلا فله التحلل مجانا في الجميع.

(1/287)


[باب الهدي والأضحية والعقيقة]
الهدي ما يهدى للحرم من نعم وغيرها، سمي بذلك لأنه يهدى إلى الله سبحانه وتعالى، والأضحية، بضم الهمزة وكسرها: واحدة الأضاحي، ويقال: ضحية، وأجمع المسلمون على مشروعيتهما.
(أفضلها إبل ثم بقر) إن أخرج كاملا لكثرة الثمن ونفع الفقراء (ثم غنم) وأفضل كل جنس أسمن فأغلى ثمنا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] فأشهب وهو الأملح أي الأبيض، أو ما بياضه أكثر من سواده، فأصفر فأسود. (ولا يجزئ فيها إلا جذع ضأن) ماله ستة أشهر كما يأتي، (وثني سواه) أي سوى الضأن من إبل وبقر ومعز (فلإبل) أي السن المعتبر لإجزاء إبل (خمس) سنين (ولبقر سنتان ولمعز سنة ولضأن نصفها) أي نصف سنة لحديث «الجذع من الضأن أضحية» رواه ابن ماجه.

(وتجزئ الشاة عن واحد) وأهل بيته وعياله لحديث أبي أيوب «كان الرجل في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون» قال في " شرح المقنع ": حديث صحيح، (و) تجزئ البدنة والبقرة عن سبعة) لقول جابر: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نشترك

(1/288)


في الإبل والبقر كل سبعة في واحد منهما» رواه مسلم، وشاة أفضل من سبع بدنة أو بقرة. (ولا تجزئ العوراء) بينة العور بأن انخسفت عينها في الهدي ولا في الأضحية، ولا العمياء (و) لا (العجفاء) الهزيلة التي لا مخ فيها، (و) لا العرجاء التي لا تطيق مشيا مع صحيحة، (و) لا (الهتماء) التي ذهبت ثناياها من أصلها، (و) لا (الجداء) أي ما شاب ونشف ضرعها، (و) لا (المريضة) بينة المرض، لحديث البراء بن عازب: «قام فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " أربع لا تجوز في الأضاحي العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والعجفاء التي لا تنقي» رواه أبو داود والنسائي. (و) لا (العضباء) التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها (بل) تجزئ (البتراء) التي لا ذنب لها (خلقة) أو مقطوعا، والصمعاء وهي صغيرة الأذن (والجماء) التي لم يخلق لها قرن (وخصي غير مجبوب) بأن قطع خصيتاه فقط، (و) يجزئ مع الكراهة (ما بأذنه أو
قرنه) خرق أو شق أو (قطع أقل من النصف) أو النصف فقط على ما نص عليه في رواية حنبل وغيره. قال في " شرح المنتهى " وهذا هو المذهب.

(والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى فيطعنها بالحربة) أو نحوها (في

(1/289)


الوهدة التي بين أصل العنق والصدر) لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفعل أصحابه كما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن سابط، (و) السنة أن يذبح غيرها) أي غير الإبل على جنبها الأيسر موجهة إلى القبلة، (ويجوز عكسها) أي ذبح ما ينحر ونحر ما يذبح لأنه لم يتجاوز محل الذبح، ولحديث «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» ، (ويقول) حين يحرك يده بالنحر أو الذبح: بسم الله) وجوبا والله أكبر) استحبابا (اللهم هذا منك ولك) ، ولا بأس بقوله: اللهم تقبل من فلان، ويذبح واجبا قبل نفل (ويتولاها) أي الأضحية، (صاحبها) إن قدر (أو يوكل مسلما ويشهدها) أي يحضر ذبحها إن وكل فيه، وإن استناب ذميا في ذبحها أجزأت مع الكراهة.

(ووقت الذبح) لأضحية وهدي نذر أو تطوع أو متعة أو قران (بعد صلاة العيد) بالبلد، فإن تعددت فيه فبأسبق صلاة، فإن فاتت الصلاة بالزوال ذبح، وإن كان بمحل لا تصلى فيه العيد فالوقت بعد (أو قدره) أي قدر زمن صلاة العيد، ويستمر وقت الذبح (إلى) آخر (يومين بعده) أي بعد يوم العيد. قال أحمد: أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والذبح في اليوم الأول عقب الصلاة والخطبة، وذبح الإمام أفضل ثم ما يليه.
ويكره) الذبح في ليلتهما) أي ليلتي اليومين بعد يوم العيد خروجا من خلاف من قال بعدم الإجزاء فيهما، (فإن فات) وقت الذبح (قضى واجبه) وفعل به كالأداء

(1/290)


وسقط التطوع لفوات وقته، ووقت ذبح واجب بفعل محظور من حينه، فإن أراد فعله لعذر فله ذبحه قبله، وكذا ما وجب لترك واجب وقته من حينه.

[فصل يتعين الهدي والأضحية بقوله هذا هدي أو أضحية]
فصل (ويتعينان) أي الهدي والأضحية (بقوله هذا: هدي أو أضحية) أو لله لأنه لفظ يقتضي الإيجاب، فترتب عليه مقتضاه، وكذا يتعين بإشعاره أو بتقليده بنية (لا بالنية) حال الشراء أو
السوق كإخراجه مالا للصدقة، (وإذا تعينت) هديا أو أضحية لم يجز بيعها ولا هبتها) لتعلق حق الله تعالى بها كالمنذور عتقه نذر تبرر (إلا أن يبدلها بخير منها) فيجوز، وكذا لو نقل الملك فيها واشترى خيرا منها جاز نصا، واختاره الأكثر، لأن المقصود نفع الفقراء وهو حاصل بالبذل، ويركب لحاجة فقط بلا ضرر.
(ويجز صوفها ونحوه) كشعرها ووبرها (إن كان) جزه (أنفع لها ويتصدق به) وإن كان بقاؤه أنفع لها لم يجز جزه، ولا يشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها، (ولا يعطى جازرها أجرته منها) لأنه معاوضة، ويجوز أن يهدي له أو يتصدق عليه منها.

(ولا يبيع جلدها ولا شيئا منها) سواء كانت واجبة أو تطوعا لأنها تعينت بالذبح (بل ينتفع به) أي بجلدها أو يتصدق به استحبابا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا لحوم

(1/291)


الأضاحي والهدي وتصدقوا واستمتعوا بجلودها» ، وكذا حكم جلها.
(وإن تعيبت) بعد تعينها (ذبحها وأجزأته) وإن تلفت أو عابت بفعله أو تفريطه لزمه البدل كسائر الأمانات (إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين) كفدية ومنذور في الذمة عين عنه صحيحا فتعيب وجب عليه نظيره مطلقا، وكذا لو سرق أو ضل ونحوه وليس له استرجاع معيب وضال ونحوه وجده.

والأضحية سنة مؤكدة على المسلم وتجب بنذر (وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها) كالهدي والعقيقة لحديث «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من إهراقة الدم» .
(وسن أن يأكل) من الأضحية ويهدي ويتصدق أثلاثا) فيأكل هو وأهل بيته الثلث، ويهدي الثلث، ويتصدق بالثلث حتى من الواجبة وما ذبح ليتيم أو مكاتب لا هدية ولا صدقة منه، وهدي التطوع والمتعة والقران كالأضحية، والواجب بنذر أو تعيين لا يأكل منه، (وإن أكلها) أي الأضحية (إلا أوقية تصدق بها جاز) لأن الأمر بالأكل والإطعام مطلق (وإلا)
يتصدق منها بأوقية بأن أكلها كلها (ضمنها) أي الأوقيه بمثلها لحما؛ لأنه حق

(1/292)


يجب عليه أداؤه مع بقائه فلزمته غرامته إذا أتلفه كالوديعة.
ويحرم على من يضحي) أو يضحى عنه أن يأخذ في العشر) الأول من ذي الحجة من شعره) أو ظفره أو بشرته شيئا) إلى الذبح، لحديث مسلم عن أم سلمة مرفوعا «إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي» ، وسن حلق بعده.

[فصل تسن العقيقة عن المولود]
فصل (تسن العقيقة) أي الذبيحة عن المولود في حق أب ولو معسرا ويقترض، قال أحمد: العقيقة سنة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد عق عن الحسن والحسين وفعله أصحابه (عن الغلام شاتان) متقاربتان سنا وشبها فإن عدم فواحدة، (وعن الجارية شاة) لحديث أم كرز الكعبية قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة» .
(تذبح يوم سابعه) أي سابع المولود، ويحلق فيه رأس ذكر ويتصدق بوزنه ورقا ويسمى فيه، ويسن تحسين الاسم، ويحرم بنحو عبد الكعبة وعبد النبي،

(1/293)


ويكره بنحو حرب ويسار، وأحب الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، (فإن فات) الذبح يوم السابع (ففي أربعة عشر فإن فات ففي إحدى وعشرين) من ولادته يروى عن عائشة، ولا تعتبر الأسابيع بعد ذلك فيعق في أي يوم أراد.
(تنزع جدولا) جمع جدل بالدال المهملة أي أعضاء (ولا يكسر عظمها) تفاؤلا بالسلامة كذلك قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: وطبخها أفضل، ويكون منه بحلو.
(وحكمها) أي حكم العقيقة فيما يجزئ ويستجب ويكره والأكل والهدية والصدقة، (كالأضحية) لكن يباع جلد ورأس وسواقط ويتصدق بثمنه (إلا أنه لا يجزئ فيها) أي في العقيقة (شرك في دم) فلا تجزئ بدنة ولا بقرة إلا كاملة، قال في " النهاية ": وأفضلها شاة.

(ولا تسن الفرعة) - بفتح الفاء والراء - نحر أول ولد الناقة، (ولا) تسن (العتيرة) أيضا وهي ذبيحة رجب لحديث أبى هريرة مرفوعا: «لا فرع ولا عتيرة» متفق عليه، ولا يكرهان، والمراد بالخبر نفي كونهما سنة.
* * *

(1/294)