الروض المربع شرح زاد المستقنع ط المؤيد

 [كتاب الوصايا]
جمع وصية، مأخوذة من وصيت الشيء: إذا وصلته، فالموصي وصل ما كان له في حياته بما بعد موته. واصطلاحا: الأمر بالتصرف بعد الموت أو التبرع بالمال بعده. وتصح الوصية من البالغ الرشيد ومن الصبي العاقل والسفيه بالمال، ومن الأخرس بإشارة مفهومة، وإن وجدت وصية إنسان بخطه الثابت ببينة أو إقرار ورثة صحت، ويستحب أن يكتب وصيته ويشهد عليها.
و (يسن لمن ترك خيرا وهو المال الكثير) عرفا (أن يوصي بالخمس) ، روي عن أبي بكر وعلي، وهو ظاهر قول السلف، قال أبو بكر: رضيت بما رضي الله به لنفسه، يعني في قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] .

(ولا تجوز) الوصية (بأكثر من الثلث لأجنبي) لمن له وارث، (ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة لهما بعد الموت) «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسعد حين قال: أوصي بمالي كله؟ قال: " لا " قال: بالشطر؟ قال: " لا " قال: فالثلث، قال: " الثلث والثلث كثير» متفق عليه، وقوله -

(1/468)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وصية لوارث» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه. وإن وصى لكل وارث بمعين بقدر إرثه جاز، لأن حق الوراث في القدر لا في العين، والوصية بالثلث فما دون لأجنبي تلزم بلا إجازة، وإذا أجاز الورثة ما زاد على الثلث أو لوارث (فـ) إنها (تصح
تنفيذا) لأنها إمضاء لقول المورث بلفظ: أجزت أو أمضيت أو نفذت، ولا تعتبر لها أحكام الهبة.

(وتكره وصية فقير) عرفا (وارثه محتاج) لأنه عدل عن أقاربه المحاويج إلى الأجانب.
(وتجوز) الوصية (بالكل لمن لا وارث له) ، روي عن ابن مسعود، لأن المنع فيما زاد على الثلث لحق الورثة، فإذا عدموا زال المانع، (وإن لم يف الثلث بالوصايا) ولم تجز الورثة (فالنقص) على الجميع (بالقسط) ، فيتحاصون لا فرق بين متقدمها ومتأخرها والعتق وغيره، لأنهم تساووا في الأصل وتفاوتوا في المقدار فوجبت المحاصة كمسائل العول.

(وإن أوصى لوارث فصار عند الموت غير وارث) كأخ حجب بابن تجدد، (صحت) الوصية اعتبارا بحال الموت، لأنه الحال الذي يحصل به الانتقال إلى الوارث والموصي له، (والعكس بالعكس) ، فمن أوصى لأخيه مع وجود ابنه فمات ابنه بطلت الوصية إن لم تجز باقي الورثة. (ويعتبر) لملك الموصي له المعين الموصي به (القبول) بالقول أو ما قام مقامه كالهبة (بعد الموت) ، لأنه وقت ثبوت حقه وهي على التراخي فيصح، (وإن طال الزمن) بين القبول والموت.

(1/469)


و (لا) يصح القبول (قبله) أي قبل الموت، لأنه لم يثبت له حق، وإن كانت الوصية لغير معين كالفقراء أو من لا يمكن حصرهم كبني تميم أو مصلحة مسجد ونحوه أو حج، لم تفتقر إلى قبول ولزمت بمجرد الموت، (ويثبت الملك به) أي بالقبول (عقب الموت) قدمه في ((الرعاية)) والصحيح أن الملك حين القبول كسائر العقود، لأن القبول سبب، والحكم لا يتقدم سببه، فما حدث قبل القبول من نماء منفصل فهو للورثة والمتصل يتبعها. (ومن قبلها) أي الوصية (ثم ردها) ولو قبل القبض (لم يصح الرد) ، لأن ملكه قد استقر عليها بالقبول، إلا أن يرضى الورثة بذلك فتكون هبة منه لهم تعتبر شروطها.

(ويجوز الرجوع في الوصية) لقول عمر: يغير الرجل ما شاء في وصيته، فإذا قال: رجعت في وصيتي أو أبطلتها ونحوه، بطلت، وكذا إن وجد منه ما يدل على الرجوع. (وإن قال) الموصي: (إن قدم زيد فله ما وصيت به لعمرو، فقدم) زيد (في حياته) أي حياة الموصي (فله) أي فالوصية لزيد لرجوعه عن الأول وصرفه إلى الثاني معلقا بالشرط وقد وجد، (و) إن قدم زيد (بعدها) أي بعد حياة الموصي فالوصية (لعمرو) ، لأنه لما مات قبل قدومه استقرت له لعدم الشرط في زيد، لأن قدومه إنما كان بعد ملك الأول وانقطاع حق الموصي منه.
(ويخرج) وصي فوارث فحاكم (الواجب كله من دين وحج وغيره)

(1/470)


كزكاة ونذر وكفارة (من كل ماله بعد موته وإن لم يوص به) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] ولقول علي: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدين قبل الوصية» رواه الترمذي، (فإن قال: أدوا الواجب من ثلثي بدئ به) أي بالواجب، (فإن بقي منه) أي من الثلث (شيء أخذه صاحب التبرع) لتعيين الموصي، (وإلا) يفضل شيء (سقط) التبرع، لأنه لم يوص له بشيء إلا أن يجيز الورثة فيعطى ما أوصي له به، وإن بقي من الواجب شيء تمم من رأس المال.

[باب الموصى له]
(تصح) الوصية (لمن يصح تملكه) من مسلم أو كافر، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 6] قال محمد بن الحنفية: هو وصية المسلم لليهودي والنصراني، وتصح لمكاتبه ومدبره وأم ولده (ولعبده بمشاع كثلثه) لأنها وصية تضمنت العتق بثلث ماله، (ويعتق منه بقدره) أي بقدر الثلث، فإن كان ثلثه مائة وقيمة العبد مائة فأقل عتق كله، لأنه يملك من كل جزء من المال ثلثه مشاعا، ومن جملته نفسه فيملك ثلثها فيعتق ويسري إلى بقيته. (ويأخذ الفاضل) من الثلث لأنه صار حرا، وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث،
(و) إن وصى (بمائة أو) بـ (معين) كدار وثوب (لا تصح) هذه الوصية (له) أي

(1/471)


لعبده، لأنه يصير ملكا للورثة فما وصى له به فهو لهم، فكأنه وصى لورثته بما يرثونه فلا فائدة فيه، ولا تصح لعبد غيره.

(وتصح) الوصية (بحمل) تحقق وجوده قبلها لجريانها مجرى الإرث. (و) تصح أيضا (لحمل تحقق وجوده قبلها) أي قبل الوصية بأن تضعه لأقل من ستة أشهر من الوصية إن كانت فراشا أو لأقل من أربع سنين إن لم تكن كذلك، ولا تصح لمن تحمل به هذه المرأة.

(وإذا أوصى من لا حج عليه أن يحج عنه بألف صرف من ثلثه مؤنة حجة بعد أخرى حتى ينفد) الألف راكبا أو راجلا، لأنه وصى بها في جهة قربة فوجب صرفها فيها، فلو لم يكف الألف أو البقية، حج به من حيث يبلغ، وإن قال: حجة بألف، دفع لمن يحج به واحدة عملا بالوصية حيث خرج من الثلث وإلا فبقدره، وما فضل منها فهو لمن يحج لأنه قصد إرفاقه.
(ولا تصح) الوصية (لملك) وجني (وبهيمة وميت) كالهبة لهم لعدم صحة تمليكهم، (فإن أوصى لحي وميت يعلم موته فالكل للحي) ، لأنه لما أوصى بذلك مع علمه بموته، فكأنه قصد الوصية للحي وحده،

(1/472)


(وإن جهل) موته (فـ) للحي (النصف) من الموصى به، لأنه أضاف الوصية إليهما ولا قرينة تدل على عدم إرادة الآخرة. ولا تصح الوصية لكنيسة وبيت نار أو عمارتهما ولا لكتب التوراة والإنجيل ونحوها.
(وإن أوصى بماله لابنيه وأجنبي فردا) وصيته (فله التسع) لأنه بالرد رجعت الوصية إلى الثلث والموصي له ابنان والأجنبي فله ثلث الثلث وهو تسع، وإن وصى لزيد والفقراء والمساكين بثلثه، فلزيد التسع، ولا يدفع له شيء بالفقر، لأن العطف يقتضي المغايرة، ولو أوصى بثلثه للمساكين وله أقارب محاويج غير وارثين لم يوص لهم فهم أحق به.

[باب الموصى به]
(تصح الوصية بما يعجز عن تسليمه كآبق وطير في هواء) وحمل في بطن ولبن في ضرع لأنها تصح بالمعدوم فهذا أولى. (و) تصح (بالمعدوم كـ) وصية بـ (ما يحمل حيوانه) وأمته (وشجرته أبدا أو مدة معينة) كسنة. ولا يلزم الوارث السقي لأنه لم يضمن تسليمها بخلاف بائع، (فإن) حصل شيء فهو للموصي له بمقتضى الوصية، وإن (لم يحصل منه شيء بطلت الوصية) لأنها لم تصادف محلا.

(1/473)


(وتصح بـ) ما فيه نفع مباح من (كلب صيد ونحوه) كحرث وماشية (وبزيت متنجس) لغير مسجد، (و) للموصي (له ثلثهما) أي ثلث الكلب والزيت المتنجس، (ولو كثر المال إن لم تجز الورثة) لأن موضع الوصية على سلامة ثلثي التركة للورثة، وليس من التركة شيء من جنس الموصى به، وإن وصى بكلب ولم يكن له كلب، لم تصح الوصية.

(وتصح بمجهول كعبد وشاة) لأنها إذا صحت بالمعدوم فالمجهول أولى، (ويعطى) الموصى له (ما يقع عليه الاسم) ، لأنه اليقين كالإقرار، فإن اختلف الاسم بالحقيقة والعرف قدم (العرفي) في اختيار الموفق، وجزم به في ((الوجيز)) و ((التبصرة)) لأنه المتبادر إلى الفهم، وقال الأصحاب: تغلب الحقيقة لأنها الأصل.
(وإذا وصى بثلثه) أو نحوه، (فاستحدث مالا ولو دية) بأن قتل عمدا أو خطأ وأخذت ديته (دخل) ذلك (في الوصية) ، لأنها تجب للميت بدل نفسه ونفسه له فكذا بدلها، ويقضي منها دينه ومؤنة تجهيزه. (ومن
أوصي له بمعين فتلف) قبل موت الموصي أو بعده قبل القبول (بطلت)

(1/474)


الوصية لزوال حق الموصي له. (وإن تلف المال كله غيره) أي غير المعين الموصي به (فهو للموصي له) ، لأن حقوق الورثة لم تتعلق به لتعيينه للموصي له (إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة) ، وإلا فبقدر الثلث، والاعتبار في قيمة الوصية ليعرف خروجها من الثلث وعدمه بحالة الموت لأنها حالة لزوم الوصية، وإن كان ما عدا المعين دينا أو غائبا أخذ الموصي له ثلث الموصي به، وكل ما اقتضى من الدين أو حضر من الغائب شيء ملك من الموصى به قدر ثلثه حتى يملكه كله.

[باب الوصية بالأنصباء والأجزاء]
الأنصباء جمع نصيب، والأجزاء جمع جزء. (وإذا أوصى بمثل نصيب وارث معين فله مثل نصيبه مضموما إلى المسألة) ، فتصح مسألة الورثة وتزيد عليها مثل نصيب ذلك المعين فهو الوصية، وكذا لو أسقط لفظ مثل (فإذا أوصى بمثل نصيب ابنه) أو بنصيبه (وله ابنان، فله) أي للموصي له (الثلث) ، لأن ذلك مثل ما يحصل لابنه، (وإن كانوا ثلاثة فـ) للموصي (له الربع) لما سبق، (وإن كان معهم بنت فله التسعان) ، لأن المسألة من سبعة لكل ابن سهمان وللأنثى سهم، ويزاد عليها مثل نصيب ابن فتصير تسعة، فالاثنان منها تسعان.
(وإن أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته، ولم يبين) ذلك الوارث (كان له مثل ما لأقلهم نصيبا) ، لأنه اليقين، وما زاد مشكوك فيه، (فمع ابن وبنت) له (ربع) مثل نصيب البنت، (ومع زوجة وابن) له (تسع) مثل نصيب الزوجة، وإن وصى بضعف نصيب ابنه فله مثلاه وبضعفيه فله ثلاثة أمثاله وبثلاثة أضعافه فله أربعة أمثاله وهكذا.
(و) إن أوصى (بسهم من ماله فله سدس) بمنزلة سدس مفروض، وهو قول علي وابن مسعود، لأن السهم في كلام العرب السدس، قاله إياس بن معاوية، «وروى ابن

(1/475)


مسعود أن رجلا أوصى لآخر بسهم من المال فأعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السدس» . (و) إن أوصى (بشيء أو جزء أو حظ) أو نصيب أو قسط (أعطاه الوارث ما شاء) مما يتمول، لأنه لا حد له في اللغة ولا في الشرع، فكان على إطلاقه.
[باب الموصى إليه]
لا بأس بالدخول في الوصية لمن قوي عليه ووثق من نفسه لفعل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (تصح وصية المسلم إلى كل) مسلم (مكلف عدل رشيد ولو) امرأة أو مستورا أو عاجزا، ويضم إليه أمين أو (عبدا) لأنه تصح استنابته في الحياة فصح أن يوصى إليه كالحر (ويقبل) عبد غير الموصي (بإذن سيده) ، لأن منافعه مستحقة له، فلا يفوتها عليه بغير إذنه.

(وإذا أوصى إلى زيد و) أوصى (بعده إلى عمرو ولم يعزل زيدا اشتركا) ، كما لو أوصى إليهما معا. (ولا ينفرد أحدهما بتصرف لم يجعله) موص (له) لأنه لم يرض بنظره وحده

(1/476)


كالوكيلين، وإن غاب أحدهما أو مات، أقام الحاكم مقامه أمينا، وإن جعل لأحدهما أو لكل منهما أن ينفرد بالتصرف صح، ويصح قبول الموصي إليه الوصية في حياة الموصى وبعد موته، وله عزل نفسه متى شاء، وليس للموصي إليه أن يوصي إلا أن يجعله إليه.

(ولا تصح وصية إلا في تصرف معلوم) ليعلم الوصي ما أوصى إليه به ليحفظه ويتصرف فيه، (يملكه الموصي كقضاء دينه وتفرقة ثلثه والنظر لصغاره) ، لأن الوصي يتصرف بالإذن فلم يجز إلا فيما يملكه الموصي كالوكالة. (ولا تصح) الوصية (بما لا يملكه الموصي كوصية المرأة بالنظر في حق أولادها الأصاغر ونحو ذلك) ، كوصية الرجل بالنظر على بالغ رشيد فلا تصح لعدم ولاية الموصي حال الحياة.

(ومن وصي) إليه (في شيء لم يصر وصيا في غيره) لأنه استفاد التصرف بالإذن، فكان مقصورا على ما أذن فيه، كالوكيل. ومن أوصى بقضاء دين معين فأبى الورثة أو جحدوا أو تعذر إثباته قضاه باطنا بغير علمهم،

(1/477)


وكذا إن أوصى إليه بتفريق ثلثه وأبوا أو جحدوا أخرجه مما في يده باطنا. وتصح وصية كافر إلى مسلم إن لم تكن تركته نحو خمر وإلى عدل في دينه.
(وإن ظهر على الميت دين يستغرق) تركته (بعد تفرقة الوصي) الثلث الموصى إليه بتفرقته (لم يضمن) الوصي لرب الدين شيئا، لأنه معذور بعدم علمه بالدين، وكذا إن جهل موصي له فتصدق به هو أو حاكم ثم علم، (وإن قال: ضع ثلثي حيث شئت) أو أعطه لمن شئت أو تصدق به على من شئت (لم يحل) للوصي أخذه (له) لأنه تمليك ملكه بالإذن، فلا يكون قابلا له كالوكيل، (ولا) دفعه (لولده) ولا سائر ورثته لأنه متهم في حقهم أغنياء كانوا أو فقراء. وإن دعت الحاجة إلى بيع بعض العقار لقضاء دين أو حاجة صغار وفي بيع بعضه ضرر فله البيت على الصغار والكبار إن امتنعوا أو غابوا.
(ومن مات بمكان لا حاكم به ولا وصي جاز لبعض من حضره من المسلمين [تولى] تركته وعمل الأصلح حينئذ فيها من بيع وغيره) ، لأنه موضع ضرورة ويكفنه منها، فإن لم تكن فمن عنده، ويرجع عليها أو على من تلزمه نفقته إن نواه لدعاء الحاجة لذلك.

(1/478)