الروض المربع شرح زاد المستقنع ط المؤيد

[باب الهبة والعطية]
الهبة: من هبوب الريح، أي مروره، يقال: وهبت له شيئا وهبا- بإسكان الهاء - وفتحها - وهبة، والاتهاب: قبول الهبة، والاستيهاب: سؤال الهبة، والعطية هنا: الهبة في مرض الموت. (وهي التبرع) من جائز التصرف (بتمليك ماله المعلوم الموجود في حياته غيره) مفعول تمليك، بما يعد هبة عرفا، فخرج بالتبرع عقود المعاوضات كالبيع والإجارة،
وبالتمليك الإباحة كالعارية، وبالمال نحو الكلب، وبالمعلوم المجهول، وبالموجود المعدوم، فلا تصح الهبة فيها وبالحياة الوصية.
(وإن شرط) العاقد (فيها عوضا معلوما فـ) هي (بيع) لأنه تمليك، بعوض معلوم، ويثبت الخيار والشفعة، فإن كان العوض مجهولا لم تصح، وحكمها كالبيع الفاسد فيردها بزيادتها مطلقا، وإن تلفت رد قيمتها، والهبة المطلقة لا تقتضي عوضا سواء كانت لمثله أو دونه أو أعلى منه، وإن اختلفا في شرط عوض فقول منكر بيمينه.

(ولا يصح) أن يهب (مجهولا) كالحمل في البطن واللبن في الضرع، (إلا ما تعذر علمه) ، كما لو اختلط مال اثنين على وجه لا يتميز فوهب أحدهما لرفيقه نصيبه منه، فيصح للحاجة كالصلح. ولا يصح أيضا هبة ما لا يقدر على تسليمه كالآبق والشارد.

(1/460)


(وتنعقد) الهبة (بالإيجاب والقبول) بأن يقول: وهبتك أو أهديتك أو أعطيتك فيقول: قبلت أو رضيت ونحوه (أو) بـ (المعاطاة الدالة عليها) أي على الهبة، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يهدي ويهدى إليه، ويعطي ويعطى، ويفرق الصدقات، ويأمر سعاته بأخذها وتفريقها، وكان أصحابه يفعلون ذلك ولم ينقل عنهم إيجاب ولا قبول، ولو كان شرطا لنقل عنهم نقلا متواترا أو مشتهرا.

(وتلزم بالقبض بإذن واهب) لما روى مالك عن عائشة أن أبا بكر نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية، فلما مرض، قال: يا بنية كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا ولو كنت حزتيه أو قبضتيه كان لك، فإنما هو اليوم مال وارث فاقتسموه على كتاب الله تعالى، وروى ابن عيينة عن عمر نحوه، ولم يعرف لهما في الصحابة مخالف، (إلا ما كان في يد متهب) وديعة أو غصبا ونحوهما، لأن قبضه مستدام فأغنى عن الابتداء، (ووارث الواهب) إذا مات قبل القبض (يقوم مقامه) في الإذن والرجوع، لأنه عقد يؤول إلى اللزوم فلم ينفسخ بالموت، كالبيع في مدة الخيار، وتبطل بموت المتهب ويقبل، ويقبض للصغير ونحوه وليه، وما اتهبه عبد غير مكاتب وقبله فهو لسيده، ويصح قبوله بلا إذن سيده.

(1/461)


(ومن أبرأ غريمه من دينه) ولو قبل وجوبه (بلفظ الإحلال أو الصدقة أو الهبة
ونحوها) كالإسقاط أو الترك أو التمليك أو العفو (برئت ذمته، ولو) رده (لم يقبل) لأنه إسقاط حق فلم يفتقر إلى القبول كالعتق، ولو كان المبرأ منه مجهولا، لكن لو جهله ربه وكتمه المدين خوفا من أنه لو علمه لم يبرئه لم تصح البراءة، ولو أبرأ أحد غريميه أو من أحد دينيه لم تصح لإبهام المحل.
(وتجوز هبة كل عين تباع) وهبة جزء مشاع منها إذا كان معلوما، (و) هبة (كلب يقتنى) ونجاسة يباح نفعها كالوصية، ولا تصح معلقة ولا مؤقتة إلا نحو: جعلتها لك عمرك أو حياتك أو عمري أو ما بقيت، فتصح، وتكون لموهوب له ولورثته بعده، وإن قال: سكناه لك عمرك أو غلته أو خدمته لك أو منحتكه فعارية لأنها هبة المنافع. ومن باع أو وهب فاسدا ثم تصرف في العين بعقد صحيح صح الثاني لأنه تصرف في ملكه.

[فصل التعديل في العطية]
فصل (يجب التعديل في عطية أولاده بقدر إرثهم) للذكر مثل حظ الأنثيين اقتداء بقسمة الله تعالى، وقياسا لحال الحياة على حال الموت، قال عطاء: ما كانوا يقسمون إلا على كتاب على الله تعالى، وسائر الأقارب في ذلك كالأولاد، (فإن فضل بعضهم) بأن أعطاه فوق إرثه أو حصته (سوى) وجوبا (برجوع) حيث

(1/462)


أمكن (أو زيادة) المفضول ليساوي الفاضل أو إعطاء ليستووا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» متفق عليه مختصرا، وتحرم الشهادة على التخصيص أو التفضيل تحملا وأداء إن علم، وكذا كل عقد فاسد عنده مختلف فيه، (فإن مات) الواهب (قبله) أي قبل الرجوع أو الزيادة (ثبتت) للمعطي، فليس لبقية الورثة الرجوع، إلا أن يكون بمرض الموت فيقف على إجازة الباقين.

(ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته اللازمة) لحديث ابن عباس مرفوعا «العائد في هبتة كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» متفق عليه، (إلا الأب) فله الرجوع قصد التسوية أو لا، مسلما كان أو كافرا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده» رواه الخمسة، وصححه الترمذي من حديث عمر وابن عباس، ولا
يمنع الرجوع نقص العين أو تلف بعضها أو زيادة منفصلة، ويمنعه زيادة متصلة وبيعه وهبته ورهنه ما لم ينفك، وله أي لأب حر (أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه) لحديث عائشة مرفوعا «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم» رواه سعيد

(1/463)


والترمذي وحسنه، وسواء كان الوالد محتاجا أو لا، وسواء كان الولد كبيرا أو صغيرا ذكرا أو أنثى، وليس له أن يتملك ما يضر بالولد أو تعلقت به حاجته، ولا ما يعطيه ولدا آخر، ولا في مرض موت أحدهما المخوف، (فإن تصرف) والده (في ماله) قبل تملكه وقبضه (ولو فيما وهبه له) أي لولده وأقبضه إياه (ببيع) أو هبة (أو عتق أو إبراء) غريم ولده من دينه لم يصح تصرفه، لأن ملك الولد على مال نفسه تام، فيصح تصرفه فيه ولو كان للغير أو مشتركا لم يجز، (أو أراد أخذه) أي أراد الوالد أخذ ما وهبه لولده (قبل رجوعه) في هبته بالقول كرجعت فيها، (أو) أراد أخذ مال ولده قبل (تملكه بقول أو نية وقبض معتبر لم يصح) تصرفه، لأنه لا يملكه إلا بالقبض مع القول أو النية فلا ينفذ تصرفه فيه قبل ذلك، (بل بعده) أي بعد القبض المعتبر مع القول أو النية لصيرورته ملكا له بذلك، وإن وطئ جارية ابنه فأحبلها صارت أم ولد له وولده حر، ولا حد ولا مهر عليه إن لم يكن الابن وطئها.

(وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه) كقيمة متلف أو أرش جناية، لما روى الخلال «أن رجلا جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأبيه يقتضيه دينا عليه فقال: " أنت ومالك لأبيك» "، (إلا بنفقته الواجبة عليه فإن له مطالبته بها وحبسه عليها) لضرورة حفظ النفس، وله الطلب بعين مال له بيد أبيه، فإن مات الابن فليس لورثته مطالبة الأب بدين ونحوه كمورثهم، وإن مات الأب رجع الابن بدينه في تركته،

(1/464)


والصدقة: وهي ما قصد به ثواب الآخرة، والهدية: وهي ما قصد به إكراما وتوددا ونحوه نوعان من الهبة حكمهما فيما تقدم، ووعاء هدية كهي مع عرف
[فصل في تصرفات المريض]
فصل
(في تصرفات المريض) بعطية أو نحوها (من مرضه غير مخوف، كوجع ضرس وعين وصداع) أي وجع رأس (يسير، فتصرفه لازم كـ) تصرف (الصحيح، ولو) صار مخوفا و (مات منه) اعتبارا بحال العطية، لأنه إذ ذاك في حكم الصحيح. (وإن كان) المرض الذي اتصل به الموت (مخوفا كبرسام) وهو بخار يرتقي إلى الرأس ويؤثر في الدماغ فيختل عقل صاحبه، (وذات الجنب) قرح بباطن الجنب (ووجع قلب) ورئة لا تسكن حركتها. (ودوام قيام) وهو المبطون الذي أصابه الإسهال ولا يمكنه إمساكه، (و) دوام (رعاف) . لأنه يصفي الدم فتذهب القوة، (وأول فالج) وهو داء معروف يرخي بعض البدن، (وآخر سل) بكسر السين (والحمى المطبقة و) حمى (الربع، وما قال طبيبان مسلمان عدلان أنه مخوف) فعطاياه كوصية، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم» رواه ابن ماجه.

(ومن وقع الطاعون ببلده) ، أو كان بين الصفين عند التحام حرب، وكل من الطائفتين مكافئة للأخرى أو كان من المقهورة أو كان في لجة البحر عند هيجانه أو قدم أو حبس

(1/465)


لقتل. (ومن أخذها الطلق) حتى تنجو (لا يلزم تبرعه لوارث بشيء ولا بما فوق الثلث) ولو لأجنبي، (إلا بإجازة الورثة لها إن مات منه) ، كوصية لما تقدم، لأن توقع التلف من أولئك كتوقع المريض، (وإن عوفي) من ذلك (فكصحيح) في نفوذ عطاياه كلها لعدم المانع،
(ومن امتد مرضه بجذام أو سل) في ابتدائه (أو فالج) في انتهائه (ولم يقطعه بفراش، فـ) عطاياه (من كل ماله) لأنه لا يخاف تعجيل الموت منه كالهرم، (والعكس) بأن لزم الفراش (بالعكس) فعطاياه كوصية لأنه مريض صاحب فراش يخشى منه التلف. (ويعتبر الثلث عند موته) لأنه وقت لزوم الوصايا واستحقاقها وثبوت ولاية قبولها وردها، فإن ضاق ثلثه عن العطية والوصية، قدمت العطية لأنها لازمة، ونماء العطية من القبول إلى الموت تبع لها، ومعاوضة المريض بثمن المثل من رأس المال والمحاباة كعطية.

(و) تفارق العطية الوصية في أربعة أشياء.
أحدها: أنه (يسوي بين المتقدم والمتأخر في الوصية) لأنها تبرع بعد الموت يوجد دفعة واحدة، (ويبدأ بالأول فالأول في العطية) لوقوعها لازمة.
(و) الثاني: أنه (لا يملك الرجوع فيها) أي في العطية بعد قبضها لأنها تقع لازمة في

(1/466)


حق المعطي في الحياة ولو كثرت، وإنما منع من التبرع بالزائد على الثلث لحق الورثة، بخلاف الوصية فإنه يملك الرجوع فيها.
(و) الثالث: أن العطية (يعتبر القبول لها عند وجودها) لأنها تمليك في الحال بخلاف الوصية فإنها تمليك بعد الموت، فاعتبر عند وجوده.
(و) الرابع: أن العطية (يثبت الملك) فيها (إذن) أي عند قبولها كالهبة لكن يكون مراعى، لأنا لا نعلم هل هو مرض الموت أو لا، ولا نعلم هل يستفيد مالا أو يتلف شيء من ماله فتوقفنا لنعلم عاقبة أمره، فإذا خرجت من الثلث تبينا أن الملك كان ثابتا من حينه وإلا فبقدره. (والوصية بخلاف ذلك) فلا تملك قبل الموت لأنها تمليك بعده فلا تتقدمه، وإذا ملك المريض من يعتق عليه بهبة أو وصية أو أقر أنه أعتق ابن عمه في صحته، عتقا من رأس المال وورثا، لأنه حر حين موت مورثه لا مانع به، ولا يكون عتقهم وصية ولو دبر ابن عمه عتق ولم يرث، وإن قال أنت حر آخر حياتي عتق وورث.

(1/467)