الروض المربع شرح زاد المستقنع ط دار الفكر

كتاب الوقف
مدخل
...
9- كتاب الوقف
يقال: وقف الشئ وحبسه وأحبسه وسبله بمعنى واحد وأوقفه لغة شاذة وهو مما اختص به المسلمون ومن القرب المندوب إليها.
"وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة" على بر أو قربة والمراد بالأصل: ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه. وشرطه أن يكون الواقف جائز التصرف.
"ويصح" الوقف "بالقول وبالفعل الدال عليه عرفا كمن جعل أرضه مسجدا وأذن للناس في الصلاة فيه" أو أذن فيه وأقام أو جعل أرضه "مقبرة وأذن" للناس "في الدفن فيها" أو سقاية وشرعها لهم لأن العرف جار بذلك وفي دلالة على الوقف.
"وصريحه" أي صريح القول: "وقفت وحبست وسبلت" فمتى أتى بصيغة منها صار وقفا من غير انضمام أمر زائد "وكنايته: تصدقت وحرمت وأبدت" لأنه لم يثبت لها فيه عرف لغوي ولا شرعي "فتشرط النية مع الكناية أو اقتران" الكناية بـ " أحد الألفاظ الخمسة" الباقية من الصريح والكناية كتصدقت بكذا صدقة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو محرمة أو مؤبدة لأن اللفظ يترجح بذلك لإرادة الوقف "أو" اقترانها بـ " حكم الوقف" كقوله: تصدقت بكذا صدقة لا تباع ولا تورث.
"ويشترط فيه" أربعة شروط:
الأول - "المنفعة" أي أن تكون العين ينتفع بها "دائما من عين" فلا يصح وقف شيء في الذمة كعبد ودار ولو وصفه كالهبة ي"نتفع به مع بقاء عينه" كعقار وحيوان ونحوهما من أثاث وسلاح. ولا يصح وقف المنفعة كخدمة عبد موصى بها ولا عين لا يصح بيعها كحر وأم ولد ولا ما لا ينتفع به مع بقائه كطعام لأكل ويصح وقف المصحف والماء والمشاع.
"و" الشرط الثاني - "أن يكون على بر" إذا كان على جهة عامة لأن المقصود منه

(1/293)


التقرب إلى الله تعالى وإذا لم يكن على بر لم يحصل المقصود "كالمساجد والقناطر والمساكن" والسقايات وكتب العلم "والأقارب من مسلم وذمي" لأن القريب الذمي موضع القربة بدليل جواز الصدقة عليه ووقفت صفية رضي الله عنها على أخ لها يهودي فيصح الوقف على كافر معين "غير حربي" ومرتد لانتفاء الدوام لأنهما مقتولان عن قرب "و" غير "كنيسة" وبيعة وبيت نار وصومعة فلا يصح الوقف عليها لأنها بنيت للكفر والمسلم والذمي في ذلك سواء و غير "نسخ التوراة والإنجيل وكتب زندقة" وبدع مضلة فلا يصح الوقف على ذلك لأنه إعانة على معصية وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر شيئا استكتبه من التوراة وقال: "أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ ألم آت بها بيضاء نقية ولو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي" . ولا يصح أيضا على قطاع الطريق أو المغاني أو فقراء الذمة أو التنوير على قبر أو تبخيره أو على من يقيم عنده أو يخدمه ولا وقف ستور لغير الكعبة "وكذا الوصية" فلا تصح على من لا يصح الوقف عليه
"و" كذا "الوقف على نفسه" قال الإمام: لا أعرف الوقف إلا ما أخرج الله تعالى أو في سبيله فإن وقفه عليه حتى يموت فلا أعرفه لأن الوقف إما تمليك للرقبة أو المنفعة ولا يجوز له أن يملك نفسه من نفسه ويصرف في الحال لمن بعده كمنقطع الابتداء وإن وقف على غيره واستثنى كل الغلة أو بعضها أو الأكل منه مدة حياته أو مدة معلومة صح الوقف والشرط لشرط عمر رضي الله عنه أكل الوالي منها كان هو الوالي عليها وفعله جماعة من الصحابة.
والشرط الثالث – ما أشار إليه بقوله: "ويشترط في غير" الوقف على " المسجد ونحوه" كالرباط والقنطرة "أن يكون على معين يملك" ملكا ثابتا لأن الوقف تمليك فلا يصح على مجهول كرجل ومسجد ولا على أحد هذين ولا على عبد ومكاتب و لا على "ملك" وجني وميت و " حيوان وحمل" أصالة ولا على من سيولد ويصح على ولده ومن يولد له ويدخل الحمل والمعدوم تبعا.
الشرط الرابع - أن يقف ناجزا فلا يصح مؤقتا ولا معلقا إلا بموت وإذا شرط أن يبيعه متى شاء أو يهبه أو يرجع فيه بطل الوقف والشرط قاله في الشرح "لا قبوله" أي قبول الوقف فلا يشترط ولو كان على معين "ولا إخراجه عن يده" لأنه إزالة ملك يمنع البيع فلا يعتبر فيه ذلك كالعتق وإن وقف على عبده ثم المساكين صرف في الحال لهم وإن وقف على جهة تنقطع كأولاده ولم يذكر مآلا أو قال: هذا وقف ولم يعين جهة صح وصرف بعد أولاده لورثة الواقف نسبا على قدر إرثهم وقفا عليهم لأن الوقف مصرفه البر أقاربه أولى الناس ببره فإن لم يكونوا فعلى المساكين.

(1/294)


فصل
"ويجب العمل بشرط الواقف" لأن عمر رضي الله عنه وقف وقفا وشرط فيه شروطا ولو لم يجب إتباع شرطه لم يكن في اشتراطه فائدة "في جمع" بأن يقف على أولاده وأولاد أولاده ونسله وعقبه "وتقديم" بأن يقف على أولاده مثلا يقدم الأفقه أو الأدين1 أو المريض ونحوه "وضد ذلك" فضد الجمع الإفراد بأن يقف على ولده زيد ثم أولاده فضد التقديم التأخير بأن يقف على ولد فلان بعد بني فلان "واعتبار وصف أو عدمه" بأن يقول: على أولادي الفقهاء فيختص بهم أو يطلق فيعمهم وغيرهم والترتيب بأن يقول: على أولادي ثم أولادهم ثم أولاد أولادهم "ونظر" بأن يقول: الناظر فلان فإن مات ففلان لأن عمر رضي الله عنه جعل وقفه إلى حفصة تليه ما عاشت ثم يليه ذو الرأي من أهلها "وغير ذلك" كشرط أن لا يؤجر أو قدر مدة الإجارة أو أن لا ينزل فيه فاسق أو شرير أو متجوه ونحوه وإن نزل مستحق تنزيلا شرعيا لم يجز صرفه بلا موجب شرعي " فإن أطلق" في الموقوف عليه "ولم يشترط" وصفا "استوى الغني والذكر وضدهما" أي الفقير والأنثى لعدم ما يقتضي التخصيص والنظر فيما إذا لم يشرط النظر لأحد أو شرط لإنسان ومات فالنظر "للموقوف عليه" المعين لأن ملكه وغلته له فإن كان واحدا استقل به مطلقا وإن كانوا جماعة فهو بينهم على قدر حصصهم وإن كان صغيرا أو نحوه قام وليه مقامه وإن كان الوقف على مسجد أو من لا يمكن حصرهم كالمساكين فللحاكم وله أن يستنيب فيه.
"و إن وقف على ولده" أو أولاده "أو ولد غيره ثم على المسكين فهو لولده" الموجود حين "الوقف الذكور والإناث" والخناثى لأن اللفظ يشملهم "بالسوية" لأنه شرك بينهم وإطلاقها يقتضي التسوية كما لو أقر لهم بشئ ولا يدخل فيهم الولد المنفي بلعان لأنه لا يسمي ولده "ثم" بعد أولاده لـ " ولد بنيه" وإن سفلوا لأنه ولده ويستحقونه مرتبا وجدوا حين الوقف أو لا " دون" ولد "بناته" فلا يدخل ولد البنات في الوقف على الأولاد إلا بنص أو قرينة لعدم دخولهم في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 2 " كما لو قال: على ولد ولده وذريته لصلبه" أو عقبه أو نسله فيدخل ولد البنين وجدوا حالة الوقف أو لا دون ولد البنات إلا بنص أو قرينة والعطف بـ ثم للترتيب فلا يستحق البطن الثاني شيئا حتى ينقرض الأول إلا أن يقول: من مات عن ولد فنصيبه لولده والعطف بالواو
ـــــــ
1 الأدين: الأكثر تدينا وصلاحا.
2 سورة النساء من الآية "11".

(1/295)


للتشريك " ولو قال: على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم" لأن لفظ البنين وضع لذلك حقيقة قال تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} "إلا أن يكونوا قبيلة" كبني هاشم وتميم وقضاعة "فيدخل فيه النساء" لأن اسم القبيلة يشمل ذكرها وأنثاها دون أولادهن من غيرهم لأنهم لا ينتسبون إلى القبيلة الموقوف عليها والقرابة إذا وقف على قرابته أو قرابة زيد وأهل بيته وقومه ونسائه "يشمل الذكر والأنثى من أولاده و" أولاد " أبيه و" أولاد "جده و" أولاد " جد أبيه" فقط لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجاوز بني هاشم بسهم ذوي القربى ولم يعط قرابة أمه وهم بنو زهرة شيئا ويستوي فيه الذكر والأنثى والكبير والصغير والقريب والبعيد والغني والفقير لشمول اللفظ لهم ولا يدخل فيهم من يخالف دينه وإن وقف على ذوي رحمه شمل كل قرابة له من جهة الآباء والأمهات والأولاد لأن الرحم يشملهم والموالي يتناول المولى من فوق وأسفل.
"وإن وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو" تقتضي "حرمانهن عمل بها" أي بالقرينة لأن دلالتها كدلالة اللفظ.
"و إذا وقف على جماعة يمكن حصرهم" كأولاده أو أولاد زيد وليسوا قبيلة "وجب تعميمهم والتساوي" بينهم لأن اللفظ يقتضي ذلك وقد أمكن الوفاء به فوجب العمل بمقتضاه فإن كان الوقف في ابتدائه على من يمكن استيعابه فصار مما لا يمكن استيعابه كوقف علي رضي الله عنه وجب تعميم من أمكن منهم والتسوية بينهم
"وإلا" يمكن حصرهم واستيعابهم كبني هاشم وتميم لم يجب تعميمهم لأنه غير ممكن "وجاز التفضيل" لبعضهم على بعض لأنه إذا جاز حرمانه جاز تفضيل غيره عليه "والاقتصار على أحدهم" لأن مقصود الواقف بر بذلك الجنس وذلك يحصل بالدفع إلى واحد منهم وإن وقف مدرسة أو رباطا أو نحوهما على طائفة اختصت بهم وإن عين إماما أو نحوه تعين والوصية في ذلك كالوقف.
فصل
"والوقف عقد لازم" بمجرد القول وإن لم يحكم به حاكم العتق لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث" قال الترمذي: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم فـ "لا يجوز نسخه" بإقالة ولا غيرها لأنه مؤبد "ولا يباع" ولا ينقل به "إلا أن تعطل منافعه" بالكلية كدار انهدمت أو أرض خربت وعادت مواتا ولم تمكن عمارتها فيباع لما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد - لما بلغه أن بيت المال الذي بالكوفة نقب - أن انقل المسجد

(1/296)


الذي بالتمارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد فإنه لن يزال بالمسجد مصل وكان هذا بمشهد من الصحابة ولم يظهر خلافه فكان كالإجماع.
ولو شرط الواقف أن لا يباع إذن ففاسد "ويصرف ثمنه في مثله" لأنه أقرب إلى غرض الواقف فإن تعذر مثله ففي بعض مثله ويصير وقفا بمجرد الشراء وكذا فرس حبيس لا يصلح لغزو "ولو أنه" أي الوقف "مسجد" ولم ينتفع به في موضعه فيباع إذا خربت محلته "وآلته" أي ويجوز بيع بعض آلته وصرفها في عمارته "وما فضل عن حاجته" من حصره وزيته ونفقته ونحوها "جاز صرفه إلى مسجد آخر" لأنه انتفاع به في جنس ما وقف له "والصدقة به على فقراء المسلمين" لأن شيبة بن عثمان الحجبي كان يتصدق بخلقان الكعبة1 وروى الخلال بإسناده أن عائشة رضي الله عنها أمرته بذلك ولأنه مال الله تعالى لم يبق له مصرف فصرف إلى المساكين.
وفضل موقوف على معين استحقاقه مقدر يتعين إرصاده ونص فيمن وقف على قنطرة فانحرف الماء يرصد لعله يرجع وإن وقف على ثغر فاحتل صرف في ثغر مثله وعلى قياسه مسجد ورباط ونحوهما ولا يجوز غرس شجرة ولا حفر بئر بالمسجد وإذا غرس الناظر أو بنى في الوقف من مال الوقف أو من ماله ونواه للوقف فللوقف قال في الفروع: ويتوجه في غرس أجنبي أنه للوقف بنيته.
ـــــــ
1 خلقان الكعبة: الستائر القديمة التي لم تعد تصلح لها.

(1/297)


باب الهبة والعطية
مدخل
...
1- باب الهبة والعطية2
الهبة: من هبوب الريح أي مروره يقال: وهب له شيئا وهبا - بإسكان الهاء - وفتحها - وهبة والاتهاب: قبول الهبة والاستيهاب: سؤال الهبة والعطية هنا: الهبة في مرض الموت "وهي التبرع" من جائز التصرف "بتمليك ماله المعلوم الموجود في حياته غيره" - مفعول تمليك - بما يعد هبة عرفا فخرج بالتبرع عقود المعاوضات كالبيع والإجارة وبالتمليك الإباحة كالعارية وبالمال نحو الكلب وبالمعلوم المجهول وبالموجود المعدوم - فلا تصح الهبة فيها - وبالحياة الوصية. "وإن شرط" العاقد "فيها عوضا معلوما
ـــــــ
2 والهبة نوعان الهبة بمقابل وهي الهبة بغير مقابل وعي على ثلاث أحوال.
أ- هبة الدين وهو إبراء الدائن لذمة المدين من الدين الذي لا يقدر على سداده سواه أو بحجز عن ذلك لسبب ما.
ب- العطية وهو ما يعطيه المريض مرض الموت لغير ذوي الميراث من أقاربه الفقراء.
ج- الصدقة وهي هبة في سبيل الله يطلب بها ثواب رب العالمين في الآخره.

(1/297)


فـ" هي "بيع" لأنه تمليك بعوض معلوم ويثبت الخيار والشفعة فإن كان العوض مجهولا لم تصح وحكمها كالبيع الفاسد فيردها بزيادتها مطلقا وإن تلفت رد قيمتها والهبة المطلقة لا تقتضي عوضا سواء كانت لمثله أو دونه أو أعلى منه وإن اختلفا في شرط عوض فقول منكر بيمينه.
"ولا يصح" أن يهب "مجهولا" كالحمل في البطن واللبن في الضرع "إلا ما تعذر علمه" كما لو اختلط مال اثنين على وجه لا يتميز فوهب أحدهما لرفيقه نصيبه منه فيصح للحاجة كالصلح ولا يصح أيضا هبة ما لا يقدر على تسليمه كالآبق والشارد1.
"وتنعقد" الهبة "بالإيجاب" والقبول بأن يقول: وهبتك أو أهديتك أو أعطيتك فيقول: قبلت أو رضيت ونحوه أو بـ "المعاطات الدالة عليها" أي على الهبة لأنه صلى الله عليه وسلم كان يهدي ويهدى إليه ويعطي ويعطى ويفرق الصدقات ويأمر سعاته بأخذها وتفريقها وكان أصحابه يفعلون ذلك ولم ينقل عنهم إيجاب ولا قبول ولو كان شرطا لنقل عنهم نقلا متواترا أو مشتهرا.
"وتلزم بالقبض بإذن واهب" لما روى مالك عن عائشة أن أبا بكر رضي الله عنه نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية فلما مرض قال: يا بنية كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا ولو كنت حزتيه أو قبضتيه كان لك فإنما هو اليوم مال وارث فاقتسموه على كتاب الله تعالى وروى ابن عيينة عن عمر نحوه ولم يعرف لهما في الصحابة مخالف "إلا ما كان في يد متهب" وديعة أو غصبا ونحوهما لأن قبضه مستدام فأغنى عن الابتداء.
"ووارث الواهب" إذا مات قبل القبض "يقوم مقامه" في الإذن والرجوع لأنه عقد يؤول إلى اللزوم فلم ينفسخ بالموت كالبيع في مدة الخيار وتبطل بموت المتهب ويقبل ويقبض للصغير ونحوه وليه وما اتهبه عبد غير مكاتب وقبله فهو لسيده ويصح قبوله بلا إذن سيده.
ومن أبرأ غريمه من دينه ولو قبل وجوبه ب"لفظ الإحلال أو الصدقة أو الهبة ونحوها" كالإسقاط أو الترك أو التمليك أو العفو " برئت ذمته ولو" رده و "لم يقبل" لأنه إسقاط حق فلم يفتقر إلى القبول كالعتق ولو كان المبرأ منه مجهولا لكن لو جهله ربه وكتمه المدين خوفا من أنه لو علمه لم يبرئه لم تصح البراءة ولو أبرأ أحد غريميه أو من أحد دينيه لم تصح لإبهام المحل " وتجوز هبة كل عين تباع" وهبة جزء مشاع منها إذا كان معلوما "و" هبة "كلب يقتنى" ونجاسة يباح نفعها كالوصية ولا تصح معلقة ولا مؤقتة إلا نحو: جعلتها لك
ـــــــ
1 الشارد: أي الجمل الشارد.

(1/298)


عمرك أو حياتك أو عمري أو ما بقيت1 فتصح وتكون لموهوب له ولورثته بعده وإن قال: سكناه لك عمرك أو غلته أو خدمته لك أو منحتكه فعارية لأنها هبة المنافع2. ومن باع أو وهب فاسدا ثم تصرف في العين بعقد صحيح صح الثاني لأنه تصرف في ملكه.
ـــــــ
1 وهذه تسمى العمرى.
2 وهذه تسمى المنيحة.

(1/299)


فصل في الرجوع في الهبة
"يجب التعديل في عطية أولاده بقدر إرثهم" 3 للذكر مثل حظ الأنثيين اقتداء بقسمة الله تعالى وقياسا لحال الحياة على حال الموت قال عطاء: ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله تعالى وسائر الأقارب في ذلك كالأولاد "فإن فضل لبعضهم" بان أعطاه فوق إرثه أو حصته "سوى" وجوبا "برجوع" حيث أمكن "أو زيادة" المفضول ليساوي الفاضل أو إعطاء ليستووا لقوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" متفق عليه مختصرا وتحرم الشهادة على التخصيص أو التفضيل تحملا وأداء إن علم وكذا كل عقد فاسد عنده مختلف فيه "فإن مات" الواهب "قبله" أي قبل الرجوع أو الزيادة "ثبتت" للمعطى فليس لبقية الورثة الرجوع إلا أن يكون بمرض الموت فيقف على إجازة الباقين.
"ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته اللازمة" لحديث ابن عباس مرفوعا: "العائد في هبته كالكلب يقئ ثم يعود في قيئه" متفق عليه "إلا الأب" فله الرجوع قصد التسوية أو لا مسلما كان أو كافرا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده" رواه الخمسة وصححه الترمذي من حديث عمر وابن عباس ولا يمنع الرجوع نقص العين أو تلف بعضها أو زيادة منفصلة ويمنعه زيادة متصلة وبيعه وهبته ورهنه ما لم ينفك "وله" أي لأب حر " أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه" لحديث عائشة مرفوعا: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم" رواه سعيد والترمذي وحسنه وسواء كان الوالد محتاجا أو لا
ـــــــ
3 فلا يصح أن يختص بعض أولاده بعطية أ, هبة دون الآخرين لقوله صلى الله عليه وسلم "أكل ولدك نحلته مثل هذا" الحديث وفيه النهي عن ذلك.

(1/299)


وسواء كان الولد كبيرا أو صغيرا ذكرا أو أنثى وليس له أن يتملك ما يضر بالولد أو تعلقت به حاجته ولا ما يعطيه ولدا آخر ولا في مرض موت أحدهما المخوف فإن تصرف والده في "ماله" قبل تملكه وقبضه "ولو فيما وهبه له" أي لولده وأقبضه إياه "ببيع" أو هبة "أو عتيق أو إبراء" غريم ولده من دينه لم يصح تصرفه لأن ملك الولد على مال نفسه تام فيصح تصرفه فيه ولو كان للغير أو مشتركا لم يجز "أو أراد أخذه" أي أراد الوالد أخذ ما وهبه لولده "قبل رجوعه" في هبته بالقول كرجعت فيها أو أراد أخذ مال ولده قبل "تملكه بقول أو نية وقبض معتبر لم يصح" تصرفه لأنه لا يملكه إلا بالقبض مع القول أو النية فلا ينفذ تصرفه فيه قبل ذلك بل بعده أي بعد لقبض المعتبر مع القول أو النية لصيرورته ملكا له بذلك وإن وطئ جارية ابنه فأحبلها صارت أم ولد له وولده حر ولا حد ولا مهر عليه إن لم يكن الابن وطئها.
"وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه" كقيمة متلف وأرش جناية لما روى الخلال أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأبيه يقتضيه دينا عليه فقال: "أنت ومالك لأبيك" "إلا بنفقته الواجبة عليه فإن له مطالبته بها وحبسه عليها" لضرورة حفظ النفس وله لطلب بعين مال له بيد أبيه فإن مات الابن فليس لورثته مطالبة الأب بدين ونحوه كمورثهم وإن مات الأب رجع الابن بدينه في تركته والصدقة: وهي ما قصد به ثواب الآخرة والهدية: وهي ما قصد به إكراما وتوددا ونحوه نوعان من الهبة حكمهما حكمها فيما تقدم ووعاء هدية كهي1 مع عرف.
ـــــــ
1 كهي: أي كالهدية.

(1/300)


فصل في تصرفات المريض بعطية أو نحوها
"من مرضه غير مخوف كوجع ضرس وعين وصداع" أي وجع رأس يسير "فتصرفه لازم ك" تصرف "الصحيح ولو" صار مخوفا و "مات منه اعتبارا بحال العطية لأنه إذ ذاك في حكم الصحيح".
"وإن كان" المرض الذي اتصل به الموت "مخوفا كبرسام" 2 وهو
ـــــــ
2 مرض عصبي يسبب اختلالا في الدماغ.

(1/300)


بخار يرتقي إلى الرأس ويؤثر في الدماغ فيختل عقل صاحبه "وذات الجنب" قرحة بباطن الجنب1 "ووجع قلب" ورئة لا تسكن حركتها "ودوام قيام" وهو المبطون الذي أصابه الإسهال ولا يمكنه إمساكه2 " و" دوام "رعاف" لأنه يصفي الدم فتذهب القوة3 "وأول فالج" وهو داء معروف يرخي بعض البدن وآخر سل بكسر السين والحمى المطبقة "و" حمى "الربع وما قال طبيبان مسلمان عدلان أنه مخوف" فعطاياه كوصية لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم" رواه ابن ماجة.
"ومن وقع الطاعون ببلده" أو كان بين الصفين عند التحام حرب وكل من الطائفتين مكافئة للأخرى أو كان من المقهورة أو كان في لجة البحر عند هيجانه أو قدم أو حبس لقتل ومن أخذها الطلق حتى تنجو "لا يلزم تبرعه لوارث بشئ ولا بما فوق الثلث" ولو لأجنبي "إلا بإجازة الورثة لها إن مات منه" كوصية لما تقدم لأن توقع التلف من أولئك كتوقع المريض "وإن عوفي" من ذلك "فكصحيح" في نفوذ عطاياه كلها لعدم المانع "ومن امتد مرضه بجذام أو سل" في ابتدائه "أو فالج" في انتهائه "ولم يقطعه فراش ف" عطاياه "من كل ماله" لأنه لا يخاف تعجيل الموت منه كالهرم والعكس بأن لزم الفراش بالعكس فعطاياه كوصية لأنه مريض صاحب فراش يخشى منه التلف "ويعتبر الثلث عند موته" لأنه وقت لزوم الوصايا واستحقاقها وثبوت ولاية قبولها وردها فإن ضاق ثلثه عن العطية والوصية قدمت العطية لأنها لازمة ونماء لعطية من القبول إلى الموت تبع لها ومعاوضة المريض بثمن لمثل من رأس المال والمحاباة كعطية.
"و" تفارق العطية الوصية في أربعة أشياء.
أحدها: أنه "يسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية" لأنها تبرع بعد الموت يوجد دفعة واحدة "ويبدأ بالأول فالأول في العطية" لوقوعها لازمة.
و الثاني: أنه "لا يملك الرجوع فيها" أي في العطية بعد قبضها كلها لأنها تقع لازمة في حق المعطي وتنتقل إلى المعطي في الحياة ولو كثرت وإنما منع من التبرع بالزائد على الثلث لحق الورثة بخلاف الوصية فإنه يملك الرجوع فيها.
و الثالث: أن العطية "يعتبر القبول لها عند وجودها" لأنها تمليك في الحال بخلاف الوصية فإنها تمليك بعد الموت فاعتبر عند وجوده.
ـــــــ
1 هي داء السل أو تشمع الكبد.
2 هو الهواء الأصفر المعروف بداء الكوليرا.
3 هو الهيموفيليا: أي نقص عوامل التجلط في الدم.

(1/301)


"و" الرابع: أن العطية "يثبت الملك" فيها "إذن" أي عند قبولها كالهبة لكن يكون مراعى لأنا لا نعلم هل هو مرض الموت أو لا ولا نعلم هل يستفيد مالا أو يتلف شيء من ماله فتوفقنا لنعلم عاقبة أمره فإذا خرجت من الثلث تبينا أن الملك كان ثابتا من حينه وإلا فبقدره "والوصية بخلاف ذلك" فلا تملك قبل الموت لأنها تمليك بعده فلا تتقدمه واذا ملك المريض من يعتق عليه بهبة أو وصية أو أقر أنه أعتق ابن عمه في صحته عتقا من رأس المال وورثا لأنه حر حين موت مورثه لا مانع به ولا يكون عتقهم وصية ولو دبر ابن عمه عتق ولم يرث وإن قال: أنت حر آخر حياتي عتق وورث.

(1/302)