الشرح
الكبير على متن المقنع (باب فروض الوضوء وصفته) (وفروضه ستة -
غسل الوجه) وهو فرض بالإجماع والأصل فيه قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا
إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) الآية (مسألة) قال (والفم والأنف منه)
لدخولهما في حده على ما يأتي:
(مسألة) قال (وغسل اليدين) وهو الفرض الثاني لقوله تعالى (وأيديكم إلى
المرافق) (مسألة) قال (ومسح الرأس) وهو الفرض الثالث (وغسل الرجلين) وهو
الفرض الرابع لقوله تعالى (وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) لا نعلم
خلافاً بين العلماء في وجوب غسل الوجه واليدين لما ذكرنا من النص، وكذلك
مسح الرأس واجب بالإجماع في الجملة مع اختلاف الناس في قدر الواجب منه،
فأما غسل الرجلين فهو فرض في قول أكثر أهل العلم، قال عبد الرحمن بن أبي
ليلى اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين، وروي عن
علي أنه مسح على نعليه وقدميه ثم دخل المسجد ثم خلع نعليه ثم صلى، وحكي عن
ابن عباس أنه قال ما أجد في كتاب الله إلا غسلتين ومسحتين وحكي عن الشعبي
(1/116)
أنه قال الوضوء ممسوحان ومغسولان
فالممسوحان بسقطان في التيمم وعن أنس بن مالك أنه ذكر له قول الحجاج اغسلوا
القدمين ظاهرهما وباطنهما وخللوا بين الأصابع فانه ليس شئ من ابن آدم أقرب
إلى الخبث من قدميه فقال أنس صدق الله وكذب الحجاج وتلا هذه الآية (فاغسلوا
وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) وحكي عن
ابن جرير أنه قال هو مخير بين المسح والغسل ولم نعلم احدا من أهل العلم قال
بجواز مسح الرجلين غير من ذكرنا واحتجوا بظاهر الآية، وبما روى ابن عباس
قال توضأ النبي صلى الله عليه وسلم فأدخل يده في الإناء فتمضمض واستنشق مرة
واحدة ثم أدخل يده فصب على وجهه مرة واحدة وصب على يديه مرة مرة ومسح برأسه
وأذنيه مرة ثم أخذ كفا من ماء فرش على قدميه وهو منتعل: رواه سعيد، وروى
سعيد عن هشيم أنبأنا يعلى بن عطاء عن أبيه قال أخبرني أوس بن أوس الثقفي
أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أتي كظامة قوم بالطائف فتوضأ ومسح على
قدميه قال هشيم كان هذا في أول الإسلام ولنا أن عبد الله بن زيد وعثمان
وصفا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وقالا فغسل قدميه وفي حديث عثمان ثم
غسل كلتا رجليه ثلاثاً متفق عليه وحكي علي وضوء رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ثلاثا وعن عمر رضي الله عنه أن
رجلاً توضأ فترك موضع ظفر من قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال "
ارجع فأحسن وضوءك " فرجع ثم صلى رواه مسلم وعن عبد الله بن عمرو أن النبي
صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضؤن وأعقابهم تلوح
فقال " ويل للأعقاب من النار " رواه مسلم.
وقد ذكرنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتخليل وأنه كان يعرك أصابعه
(1/117)
بخنصره بعض العرك وهذا كله يدل على وجوب
الغسل لأن الممسوح لا يحتاج إلى الاستيعاب والعرك، وأما الآية فقد روى
عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقرأ (وأرجلكم) قال عاد إلى الغسل وروي ذلك عن
علي وابن مسعود والشعبي قراءتها كذلك وهي قراءة بن عامر فتكون معطوفة على
اليدين ومن قرأ بالجر فللمجاورة كقوله تعالى (إني أخاف عليكم عذاب يوم
أليم) جر أليما وهو صفا للعذاب على المجاورة.
وقول الشاعر: فظل طهاة اللحم من بين منضج * صفيف شواء أو قدير معجل فجر
قديرا مع العطف للمجاورة.
وإذا احتمل الأمرين وجب الرجوع إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه
مبين يبين بفعله تارة وبقوله أخرى ويدل على صحة هذا قول النبي صلى الله
عليه وسلم في حديث عمرو بن عنبسة ثم غسل رجليه كما أمره الله فثبت بهذا أن
الله تعالى إنما أمره بالغسل لا بالمسح ويحتمل أنه أراد بالمسح الغسل
الخفيف، قال أبو علي الفارسي: العرب تسمي خفيف الغسل مسحا فيقولون تمسحت
للصلاة أي توضأت، فإن قيل فعطفه على الرأس يدل على أنه أراد حقيقة المسح.
قلنا قد افترقا من وجوه (أحدها) إن الممسوح في الرأس شعر يشق غسله والرجلان
بخلاف ذلك فهما أشبه بالمغسولات (الثاني) أنهما محدودان بحد ينتهي إليه
أشبها اليدين (الثالث) إنهما معرضتان للخبث لكونهما يوطأ بهما على الأرض،
وأما حديث أوس بن أوس فيحمل على أنه أراد الغسل الخفيف وكذلك حديث ابن عباس
وكذلك قال أخذ ملء كف من ماء فرش على قدميه والمسح يكون بالبلل لا برش
الماء والله أعلم
(1/118)
(مسألة) قال (والترتيب على ما ذكر الله
تعالى) وهو الفرض الخامس وجملة ذلك أن الترتيب في الوضوء كما ذكر الله
تعالى واجب في قول أحمد، قال شيخنا لم أر عنه فيه اختلافا وهو مذهب الشافعي
وأبي ثور وأبي عبيد واسحاق وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى أنه غير
واجب وهو مذهب مالك والثوري وأصحاب الرأي واختاره ابن المنذر لأن الله
تعالى أمر بغسل الأعضاء وعطف بعضها على بعض بواو الجمع وهي لا تقتضي
الترتيب فكيفما غسل كان ممتثلا، وروي عن علي أنه
قال: ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت.
وعن ابن مسعود لا بأس ان تبدأ برجليك قبل يديك في الوضوء، ووجه الأول أن في
الآية قرينة تدل على الترتيب فإنه أدخل ممسوحا بين مغسولين وقطع النظير عن
نظيره والعرب لا تفعل ذلك إلا لفائدة والفائدة هي الترتيب.
فإن قيل فائدته استحباب الترتيب قلنا الآية ما سيقت إلا لبيان الواجب ولهذا
لم تذكر السنن فيها ولأنه متى اقتضى اللفظ الترتيب كان مأمورا به ولأن كل
من حكى وضوء رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم حكاه مرتبا وهو مفسر لما في
كتاب الله تعالى وتوضأ مرتبا وقال " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به "
أي بمثله وقولهم إن الواو لا تقتضي الترتيب ممنوع فقد اقتضت الترتيب في
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا) وما روي عن علي قال أحمد
إنما عنى به اليسرى قبل اليمنى لأن مخرجهما في الكتاب واحد ويروي الإمام
أحمد بإسناده أن عليا سئل فقيل له أحدنا يستعجل فيغسل شيئا قبل شئ فقال لا
حتى يكون كما أمر الله تعالى وروايتهم عن ابن مسعود لا نعرف لها أصلا، فأما
ترتيب اليمنى على اليسرى فلا يجب بالإجماع حكاه ابن المنذر لأن الله تعالى
ذكر مخرجه واحدا فقال (وأيديكم وأرجلكم) وكذلك الترتيب بين المضمضة
والاستنشاق والفقهاء يعدون اليدين عضوا والرجلين عضوا ولا يجب الترتيب بين
العضو الواحد والله أعلم
(1/119)
(فصل) فإن نكس وضوءه فبدأ بشئ من أعضائه
قبل وجهه لم يحتسب بما غسله، قبله وإن بدأ برجليه وختم بوجهه لم يصح إلا
غسل وجهه، وإن توضأ منكسا أربع مرات صح وضوؤه إذا كان متقاربا يحصل له من
كل مرة غسل عضو ومذهب الشافعي نحو هذا ولو غسل أعضاءه دفعة واحدة لم يصح
إلا غسل وجهه وإن انغمس في ماء جار فلم يمر على أعضائه إلا جرية واحدة
فكذلك وإن مر عليه أربع جريات وقلنا الغسل يجزئ عن المسح أجزأه كما لو توضأ
أربع مرات، وإن كان الماء راكدا فقال بعض أصحابنا إذا أخرج وجهه ثم يديه ثم
مسح رأسه ثم خرج من الماء أجزأه لان الحديث إنما يرتفع بانفصال الماء عن
العضو.
ونص أحمد في رجل أراد الوضوء فاغتمس في الماء ثم خرج من الماء فعليه مسح
رأسه وغسل رجليه وهذا يدل على أن الماء إذا كان جاريا فمرت عليه جرية واحدة
أنه يجزئه مسح
رأسه ثم يغسل رجليه.
وإن اجتمع الحدثان سقط الترتيب والموالاة على ما سنذكره إن شاة الله تعالى
(مسألة) قال (والموالاة على إحدى الروايتين) الموالاة هي الشرط السادس
وفيها روايتان (إحداهما) هي واجبة نص عليها أحمد في مواضع وهو قول الأوزاعي
وقتادة وأحد قولي الشافعي، قال القاضي وفيها رواية أخرى أنها غير واجبة وهو
قول النخعي والحسن والثوري وأصحاب الرأي والقول الثاني للشافعي واختاره ابن
المنذر لأن المأمور به غسل الأعضاء فكيفما غسل فقد أتى بالمأمور به، وقد
ثبت أن ابن عمر توضأ بالسوق فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ثم دعي لجنازة فمسح
على خفيه ثم صلى عليها ولأنها إحدى الطهارتين فلم تجب فيها الموالاة
كالكبرى.
وقال مالك إن تعمد التفريق بطل وإلا فلا.
ووجه الأولى ما روى عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي
ظهر قدمه لمعة لم يصبها الماء فأمره النبي صلى الله عليه وسلم إن يعيد
الوضوء والصلاة رواه أبو داود (1) ولو لم تجب الموالاة لأجزأه غسل اللمعة
حسب ولأنها عبادة يفسدها الحدث فاشترطت لها الموالاة كالصلاة والآية دلت
على وجوب الغسل وبين النبي صلى الله عليه وسلم كيفيته بفعله فانه لم ينقل
عنه أنه توضأ إلا متواليا وغسل الجنابة بمنزلة العضو الواحد، وحكى بعض
اصحابنا فيه منعا ذكره الشيخ أبو الفرج وفعل ابن عمر ليس فيه دليل على أنه
أخل بالموالاة المشترطة
__________
1) راجع حديث عمر عند مسلم في أول ص 123 من المغني
(1/120)
(مسألة) قال (وهو أن لا يؤخر غسل عضو حتى
ينشف الذي قبله) في الزمان المعتدل اعتبار الزمن الحار الذي يسرع فيه
النشاف ولا بالزمن البارد الذي يبطئ فيه، ولا يعتبر ذلك بين طرفي الطهارة،
وقال ابن عقيل التفريق المبطل في إحدى الروايتين ما يفحش في العادة لأنه
يحد في الشرع فرجع فيه إلى العادة كلاحراز والتفرق في البيع (فصل) فإن نشفت
أعضاؤه لاشتغاله بفرض في الطهارة أو سنة لم يبطل كما لو طول أركان الصلاة،
وإن كان لوسوسة تلحقه فكذلك ويحتمل أن يبطل الوضوء لأنه غير مفروض ولا
مسنون وإن كان ذلك لعبث أو شئ زائد على المسنون وأشباهه عد تفريقا (مسألة)
قال (والنية شرط لطهارة الحدث كله) الغسل والوضوء والتيمم، والنية هي القصد
يقال نواك الله بخير أي قصدك ومحلها القلب لأن محل القصد القلب فمتى اعتقد
بقلبه أجزأ وإن لم يلفظ بلسانه، وإن لفظ بلسانه ولم يقصد بقلبه لم يجزه،
ولو سبق لسانه إلى غير ما اعتقده لم يمنع صحة ما قصده بقلبه.
ولا خلاف في المذهب في اشتراط النية لما ذكرنا، وروي ذلك عن علي رضي الله
عنه وهو قول مالك وربيعة والليث والشافعي واسحاق وأبي عبيد وابن المنذر،
وقال الثوري وأصحاب الرأي تشترط النية في التيمم دون طهارة الماء لأن الله
تعالى قال (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) الآية ولم يذكر النية ولو
كانت شرطاً لذكرها، ولأن مقتضى الأمر حصول الإجزاء بفعل المأمور به فتقتضي
الآية حصول الإجزاء بما تضمنته ولأنها طهارة بالماء فلم تفتقر إلى النية
كغسل النجاسة ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات،
وإنما لكل امرئ ما نوى " متفق عليه فنفى أن يكون له عمل شرعي بدون النية،
ولأنها طهارة عن حدث فلم تصح بغير نية كالتيمم فأما الآية فهي حجة لنا فإن
قوله (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) أي للصلاة كما يقال إذا لقيت
الأمير فترجل أي له، وقولهم لو كانت النية شرطا لذكرها، قلنا إنما ذكر
الأركان ولم يذكر الشرائط كآية التيمم، وقولهم مقتضى الأمر حصول الإجزاء به
قلنا بل مقتضاه وجوب الفعل ولا يمنع أن
(1/121)
يشترط له شرط آخر كآية التيمم وقولهم إنها
طهارة قلنا إلا أنها عبادة والعبادة لا تكون إلا منوية كالصلاة لأنها قربة
إلى الله تعالى وطاعة وامتثال أمر ولا يحصل ذلك بغير نية (مسألة) قال (وهي
أن يقصد رفع الحدث أو الطهارة لما لا يباح إلا بها) متى قصد بطهارته رفع
الحديث وهو إزالة المانع مما يفتقر الى الطهارة أو قصد بطهارته الصلاة
والطواف ومس المصحف أو قصد الجنب بالغسل اللبث في المسجد صحت طهارته عند
القائلين باشتراط النية لا نعلم بينهم فيه اختلافا، فإن نوى التبرد وما لا
تشرع له الطهارة كالأكل والبيع ولم ينو الطهارة لم يرتفع حدثه لأنه لم ينو
الطهارة ولا ما يتضمن نيتها فأشبه من لم يقصد شيئاً، وإن نوى الطهارة مع
ذلك صحت الطهارة لأنه نوى الطهارة وضم إليها مالا ينافيه فلم يؤثر كما لو
نوى بالصلاة الطاعة والخلاص من خصمه (مسألة) قال (فإن نوى ما تسن له
الطهارة أو التجديد فهل يرتفع حدثه؟ على روايتين
وجملته إذا نوى ما تشرع له الطهارة ولا تشترط كقراءة القرآن والأذان والنوم
أو نوى التجديد ثم بان أنه كان محدثاً ففيه روايتان (إحداهما) لا تصح
طهارته لأنه لم ينو رفع الحدث ولا ما يتضمنه أشبه ما لو نوى التبرد
(والثانية) تصح طهارته وهي أصح لأنه نوى طهارة شرعية فينبغي أن تحصل له
للخبر ولأنه يشرع له فعل هذا وهو غير محدث وقد نوى ذلك فينبغي أن يحصل
ولأنه نوى شيئا من ضرورته صحة الطهارة وهو الفضيلة الحاصلة لمن فعل ذلك علي
طهارة، فإن قيل يبطل بما إذا نوى بطهارته ما لا تشرع له الطهارة قلنا إن
نوى طهارة شرعية مثل من قصد الأكل وهو على طهارة شرعية أو قصد أن لا يزال
على وضوء فهي كمسئلتنا تصح طهارته.
وإن قصد نظافة أعضائه من وسخ أو غيره لم تصح طهارته لأنه لم يقصدها، وإن
نوى وضوءا مطلقا أو طهارة مطلقة ففيه وجهان (أحدهما) يصح لأن الوضوء
والطهارة عند الإطلاق ينصرفان إلى المشروع فيكون ناويا لطهارة شرعية
(والوجه الثاني) لا يصح لأنه قصد ما يباح بدون طهارة أشبه قصد الأكل ولأن
الطهارة تنقسم إلى مشروع
(1/122)
وغيره فلم تصح مع التردد والطهارة المطلقة
منها مالا يرفع الحدث كالطهارة من النجاسة (مسألة) وإن نوى غسلا مسنونا فهل
يجزئ عن الواجب؟ على وجهين) مضى توجيههما (مسألة) (وإن اجتمعت أحداث توجب
الوضوء أو الغسل فنوى بطهارته أحدها فهل يرتفع سائرها؟ على وجهين) أحدهما
لا يرتفع الا ما نواه قاله أبو بكر لأنه لم ينوه أشبه إذا لم ينو شيئاً،
وقال القاضي يرتفع لأن الأحداث تتداخل فإذا ارتفع بعضها ارتفع جميعها كما
لو نوى رفع الحدث، وإن نوى صلاة واحدة نفلا أو فرضا لا يصلي غيرها ارتفع
حدثه ويصلي ما شاء لأن الحدث إذا ارتفع لم يعد إلا بسبب جديد ونية الصلاة
تضمنت رفع الحدث (مسألة) (ويجب تقديم النية على أول واجبات الطهارة) لأنها
شرط لها فيعتبر وجودها في جميعها وأول واجباتها المضمضة أو التسمية على ما
ذكرنا من الخلاف.
فإن وجد شئ من واجبات الطهارة قبل النية لم يعتد به فإن غسل الكفين بغير
نية فهو كمن لم يغسلهما (ويستحب تقديمها على مسنوناتها) فيقدمها على غسل
الكفين لتشمل مفروض الوضوء ومسنونه فإن غسل الكفين بغير نية فهو كمن لم
يغسلهما
(مسألة) (واستصحاب ذكرها في جميعها وإن استصحب حكمها أجزأه) وجملته أنه
يستحب استصحاب ذكر النية إلى آخر طهارته لتكون أفعاله مقترنة بالنية فإن
استصحب حكمها أجزأه، ومعنى استصحاب حكمها أن لا ينوي قطعها فإن عزبت عن
خاطره لم يؤثر في قطعها كالصلاة والصيام، ويجوز تقديم النية على الطهارة
بالزمن اليسير قياساً على الصلاة، فإن قطع النية في أثناء طهارته وفسخها
مثل أن ينوي أن لا يتم طهارته فقال ابن عقيل تبطل الطهارة من أصلها لأنها
تبطل بالمبطلات أشبهت الصلاة وقال شيخنا لا يبطل ما مضى من طهارته لأنه وقع
صحيحاً أشبه ما لو نوى قطعها بعد الفراغ من الوضوء وما غسله من أعضائه بعد
قطع النية لا يعتد به فإن أعاد غسله بنية أخرى قبل طول الفصل صحت طهارته.
وإن طال الفصل انبنى على وجوب الموالاة، فأما إن غسل بعض أعضائه بنية
(1/123)
الوضوء وبعضها بنية التبرد ثم أعاد غسل ما
نوى به التبرد بنية الوضوء قبل طول الفصل أجزأه وإلا ابتنى على وجوب
الموالاة وجهاً واحدا، فإن فسخ النية بعد الفراغ منها لم تبطل كالصلاة
ويحتمل أن تبطل لأن الطهارة تبطل بالحدث بعد فراغها بخلاف الصلاة (فصل) إذا
شك في النية أثناء الطهارة لزمه استئنافها كما لو شك في نية الصلاة وهو
فيها لأن النية هي القصد فمتى علم أنه جاء ليتوضأ أو أراد فعل الوضوء
مقارنا له أو سابقا عليه قريبا منه فقد وجدت النية.
فمتى شك في وجود ذلك في أثناء طهارته لم يصح ما مضى منها وهكذا إن شك في
غسل عضو أو مسح رأسه حكمه حكم من لم يأت به لأن الأصل عدمه إلا أن يكون
وهما كالوسواس فلا يلتفت إليه.
وإن شك في شئ من ذلك بعد فراغه من الطهارة لم يلتفت إليه لأنه شك في
العبادة بعد فراغه منها أشبه الشك في شرط الصلاة، ويحتمل أن تبطل لأن حكمها
باق بدليل أنها تبطل بمبطلاتها بخلاف الصلاة.
والأول أصح لأنها كانت محكوما بصحتها فلا يزول ذلك بالشك كما لو شك في وجود
الحدث والله أعلم (فصل) فإن وضأه غيره أو يممه اعتبرت النية من المتوضئ دون
الموضئ لأنه المخاطب بالوضوء والموضئ آلة له فهو كحامل الماء إليه، وإن
توضأ وصلى صلاة ثم أحدث وتوضأ وصلى أخرى ثم علم أنه ترك واجبا في أحد
الوضوءين لزمه إعادة الوضوء والصلاتين
(فصل) (وصفة الوضوء أن ينوي ثم يسمي ثم يغسل يديه ثلاثا) هذه صفة الوضوء
الكامل ووجهه ما ذكرنا (ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثا من غرفة وإن شاء من ثلاث
وإن شاء من ست) المضمضة إدارة الماء في الفم والاستنشاق اجتذاب الماء
بالنفس إلى باطن الأنف.
والاستنثار مستحب وهو إخراج الماء من الأنف وقد يعبر بالاسستنثار عن
الاستنشاق لكونه من لوازمه ولا تجب إدارة الماء في جميع الفم ولا إيصال
الماء إلى جميع باطن الأنف وإنما ذلك مبالغة مستحبة وقد ذكرناها، فإن جعل
الماء في فيه ينوي رفع الحدث الأصغر ثم ذكر أنه جنب فنوى رفع الحدثين
ارتفعا لأن الماء إنما يثبت
(1/124)
له حكم الاستعمال بعد الانفصال، ولو لبث
الماء في فيه حتى تغير بما يتحلل من ريقه لم يمنع لأن التغير في محل
الإزالة لا يمنع كما لو تغير الماء على عضوه بعجين عليه (فصل) ويستحب أن
يتمضمض ويستنشق بيمينه ثم يستنثر بيساره لما روي عن عثمان انه توضأ فدعا
بماء فغسل يديه ثم غرف بيمينه ثم رفعها إلى فيه فتمضمض واستنشق بكف واحدة
واستنثر بيسار فعل ذلك ثلاثا ثم ذكر سائر الوضوء ثم قال إن النبي صلى الله
عليه وسلم توضأ لنا كما توضأت لكم.
رواه سعيد، وهو مخير بين أن يتمضمض ويستنشق بغرفة أو بثلاث أو بست لما
ذكرنا من حديث عثمان، وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل أيما أحب إليك
المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة أو كل واحدة منها على حدة؟ قال بغرفة
واحدة، وفي حديث عبد الله بن أبي زيد تمضمض واستنثر ثلاثا من غرفة واحدة
رواه البخاري وعن علي رضي الله عنه أنه توضأ فتمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من
كف واحدة وقال هذا وضوء نبيكم صلى الله عليه وسلم من المسند، وفي لفظ أنه
مضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات متفق عليه وفي حديث طلحة بن مصرف
عن أبيه عن جده أنه فصل بين المضمضة والاستنشاق رواه أبو داود ولأن الكيفية
في الغسل غير واجبة ولا يجب الترتيب بين المضمضة والاستنشاق وبين الوجه
لأنهما من جملته لكن يستحب أن يبدأ بهما لأن الذين وصفوا وضوء النبي صلى
الله عليه وسلم ذكروا أنه بدأ بهما إلا شيئا نادرا، وهل يجب الترتيب بينهما
وبين سائر الأعضاء؟ على روايتين (إحداهما) يجب لأنهما من الوجه فوجب غسلهما
قبل اليدين كسائره (والثانية) لا يجب بل لو تركهما وصلى تمضمض واستنشق
وأعاد الصلاة ولم
(1/125)
يعد الوضوء لما روى المقدام بن معد يكرب أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بوضوء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا
ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم تمضمض واستنشق رواه أبو داود، قال أصحابنا وهل
يسميان فرضا إذا قلنا بوجوبهما على روايتين وهو مبني على اختلاف الروايتين
في الواجب هل يسمى فرضا أم لا والصحيح تسميته فرضا فيسميان فرضا والله أعلم
(مسألة) قال (وهما واجبان في الطهارتين وعنه أن الاستنشاق وحده واجب وعنه
أنهما واجبان في الكبرى دون الصغرى) وجملة ذلك أن المضمضة والاستنشاق
واجبان في الطهارتين الغسل والوضوء جميعا لأن غسل الوجه فيهما واجب وهما من
الوجه.
هذا المشهور في المذهب وهو قول ابن المبارك وابن أبي ليلى وإسحاق، وروى عن
أحمد أن الاستنشاق وحده واجب في الطهارتين ذكر القاضي ذلك في المجرد رواية
واحدة وبه قال أبو عبيد وأبو ثور قال إبن المنذر لأن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه (1) ثم لينثر " متفق عليه ولمسلم
" من توضأ فليستنشق " أمر والأمر يقتضي الوجوب ولأن الأنف لا يزال مفتوحا
وليس له غطاء يستره بخلاف الفم، وقال غير القاضي من أصحابنا عن أحمد رواية
أخرى أنهما واجبان في الكبرى دون الصغرى وهذا مذهب الثوري وأصحاب الرأي لأن
الكبرى يجب فيها غسل ما تحت الشعور الكثيفة ولا يمسح فيها على الخفين فوجبا
فيها بخلاف الصغرى، وقال مالك والشافعي هما مسنونان في الطهارتين وروي ذلك
عن الحسن والحكم وربيعة والليث والاوزاعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" عشر من الفطرة " وذكر منها المضمضة والاستنشاق.
والفطرة السنة وذكره لهما من الفطرة يدل على مخالفتهما لسائر الوضوء
ولأنهما عضوان باطنان فلم يجب غسلهما كباطن اللحية وداخل العينين ولأن
الوجه ما تحصل به المواجهة ولا تحصل المواجهة بهما ولنا ما روت عائشة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " المضمضة والاستنشاق من الوضوء
__________
1) أي فليجعل في أنفه ماء - حذف المفعول في اكثر روايات البخاري وثبت في
بعضها وفي رواية مسلم.
وقوله فلينثر من الثلائي وفي رواية فلينثر
(1/126)
الذي لابد منه " رواه أبو بكر في الشافي.
وعن أبي هريرة قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق
وفي حديث لقيط بن صبرة " إذا توضأت فتمضمض " رواه أبو داود وأخرجه
الدارقطني.
ولأن كل من وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقصى ذكر أنه تمضمض
واستنشق ومداومته عليهما تدل على وجوبهما لأن فعله يصلح أن يكون بيانا لأمر
الله تعالى ولأنهما عضوان من الوجه في حكم الظاهر لا يشق غسلهما فوجب لقوله
تعالى (فاغسلوا وجوهكم) والدليل على أنهما في حكم الظاهر أن الصائم لا يفطر
بوضع الطعام فيهما ويفطر بوصول القئ إليهما ولا يجب الحد بترك الخمر فيها
ويجب غسل النجاسة فيهما، فأما كونهما من الفطرة فلا ينفي وجوبهما لأنه ذكر
الختان في الفطرة وهو واجب.
فأما غسل داخل العينين فلنا فيه منع وباطن اللحية يشق غسله فلذلك لم يجب في
الوضوء ويجب في الطهارة الكبرى والله أعلم (مسألة) قال (ويغسل وجهه ثلاثا
وحده من منابت شعر الرأس الى ما انحدر من اللحيين والذقن طولا مع ما استرسل
من اللحية ومن الأذن إلى الأذن عرضا) غسل الوجه ثلاثا مستحب لما ذكرنا من
حديث علي وغيره وغسله مرة واجب بالنص والإجماع وقد ذكرناه، وقوله في حده من
منابت شعر الرأس يعني في غالب الناس ولا اعتبار بالأصلع الذي ينحسر شعره عن
مقدم رأسه ولا بالأقرع الذي ينزل شعره إلى وجهه بل بغالب الناس فالأصلع
يغسل إلى حد منابت الشعر في غالب الناس والأقرع يغسل الشعر الذي ينزل عن
الوجه في الغالب.
وقال الزهري الأذن من الوجه لقوله صلى الله عليه وسلم " سجد وجهي للذي خلقه
وصوره وشق سمعه وبصره " رواه مسلم أضاف السمع إلى الوجه كما أضاف البصر،
وقال مالك: ما بين اللحية والأذن ليس من الوجه ولا يجب غسله لأن الوجه
(1/127)
ما تحصل به المواجهة وهذا لا يواجه به.
قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال بقول مالك هذا ولنا
على الزهري قول النبي صلى الله عليه وسلم " الأذنان من الرأس " رواه ابن
ماجه (1) ولم يحك أحد أنه غسلهما مع الوجه وإنما أضافهما إلى الوجه
للمجاورة، وعلى مالك أن هذا من الوجه في حق من لا لحية له فكذلك من له لحية
كسائر الوجه وهذا تحصل به المواجهة من الغلام، ويستحب تعاهد المفصل بالغسل
وهو ما بين اللحية والاذن نص عيه الإمام أحمد، ويدخل في الوجه العذار وهو
الشعر الذي على العظم الناتي.
سمت صماخ الأذن والعارض الذي تحت العذار وهو الشعر النابت على الخد
واللحيين
قال الأصمعي: ما جاور وتد الأذن عارض، والذقن الشعر الذي على مجمع اللحيين
فهذه الشعور النلاثة من الوجه يجب غسلها معه، وكذلك الحاجبان وأهداب
العينين والشارب والعنفقة.
فأما الصدغ وهو الذي فوق العذار وهو يحاذي رأس الأذن وينزل عن رأسها قليلا
ففيه وجهان (أحدهما) هو من الوجه اختاره ابن عقيل لحصول المواجهة به
واتصاله بالعذار (والثاني) أنه من الرأس وهو الصحيح لأن في حديث الربيع أن
النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وصدغيه وأذنيه مرة واحدة.
رواه أبو داود ولم ينقل أحد أنه غسله مع الوجه.
ولأنه شعر يتصل بشعر الرأس وينبت معه في حق الصغير بخلاف العذار فأما
التحذيف وهو الشعر الداخل في الوجه ما بين انتهاء العذار والنزعة فقال ابن
حامد هو من الوجه لأنه شعر بين بياض الوجه أشبه العذار، وقال القاضي يحتمل
أنه من الرأس لأنه شعر متصل به لم يخرج عن حده أشبه الصدغ، قال شيخنا
والأول أصح لأن محله لو لم يكن عليه شعر كان من الوجه
(1/128)
فكذلك إذا كان عليه شعر كسائر الوجه.
وأما النزعتان وهما ما انحسر عنه الشعر من الرأس متصاعدا في جانبي الرأس
فقال ابن عقيل هما من الوجه لقول الشاعر: فلا تنكحي إن فرق الله بيننا *
أغم القفا والوجه ليس بأنزعا وقال القاضي وشيخنا هما من الرأس وهو الصحيح
لأنه لا تحصل بهما المواجهة ولدخولهما في حد الرأس لأنه ما ترأس وعلا، وذكر
ابن عقيل في الشعر المسامت للنزعتين هل هو من الوجه أم لا؟ على وجهين ويجب
غسل ما استرسل من اللحية في ظاهر المذهب وكذلك ما خرج عن حد الوجه عرضا
وهذا ظاهر مذهب الشافعي لأنها من الوجه بدليل ما روي أن النبي صلى الله
عليه وسلم رأى رجلاً قد غطى لحيته في الصلاة فقال " اكشف لحيتك فإن اللحية
من الوجه " ولانه نابت في محل الفرض أشبه اليد الزائدة ولأنها تحصل بها
المواجهة أشبهت سائر الوجه، وقال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه لا يجب
غسل ما نزل منها عن حد الوجه طولا ولا ما خرج عرضا لأنه شعر خارج عن محل
الفرض أشبه ما نزل من شعر الرأس، وروي عن أبي حنيفة أنه لا يجب غسل اللحية
الكثيفة وما تحتها من بشرة الوجه لأن الوجه اسم للبشرة التي تحصل بها
المواجهة ولم يوجد ذلك في واحدة منهما، وقال الخلال الذي ثبت
عن أبي عبد الله في اللحية أنه لا يغسلها وليست من الوجه، وظاهر هذا كمذهب
أبي حنيفة فيما ذكر عنه آخرا، والمشهور عن أبي حنيفة وجوب غسل ربع اللحية
كقوله في مسح الرأس والقول
(1/129)
الأول هو المشهور في المذهب.
وما روي عن أحمد يحتمل أنه أراد ما خرج عن الوجه منها كما ذكرنا عن الشافعي
وأبي حنيفة فعلى هذا يصير فيه روايتان.
ويحتمل أنه أراد غسل باطنها فيكون موافقا للقول الأول وهو الصحيح إن شاء
الله.
وقياسهم على النازل من شعر الرأس لا يصح لأنه لا يدخل في اسم الرأس وهذا
يدخل في اسم الوجه لما ذكرنا من الحديث (مسألة) (فإن كان فيه شعر خفيف يصف
البشرة وجب غسلها معه.
وإن كان يسترها أجزأه غسل ظاهره ويستحب تخليله) أما إذا كانت الشعور في
الوجه تصف البشرة وجب غسل البشرة والشعر لأن البشرة ظاهرة تحصل بها
المواجهة فوجب غسلها كالتي لا شعر عليها ويجب غسل الشعر لأنه نابت في محل
الفرض تبع له، وإن كان كثيفا يستر البشرة أجزأه غسل ظاهره لحصول المواجهة
به ولم يجب غسل ما تحته لأنه مستور أشبه باطن الأنف.
ويستحب تخليله وقد ذكرنا ذلك في سنة الوضوء، ولا يجب التخليل لا نعلم فيه
خلافاً في المذهب وهو مذهب أكثر أهل العلم لأن الله تعالى أمر بالغسل ولم
يذكر التخليل ولأن أكثر من حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحكه
ولو كان واجباً لما أخل به ولو فعله لنقله الذين نقلوا وضوءه أو أكثرهم.
وتركه لذلك يدل على أن غسل ما تحت الشعر الكثيف ليس بواجب لأن النبي صلى
الله عليه وسلم كان كثيف اللحية فلا يبلغ الماء إلى تحت شعرها إلا بالتخليل
وفعله للتخليل في بعض أحيانه يدل على استحبابه، وقال
(1/130)
إسحاق إذا ترك تخليل لحيته عامدا أعاد
الوضوء لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفا من
ماء فأدخله تحت حنكه وخلل به لحيته، وقال " هكذا أمرني ربي عزوجل " رواه
أبو داود ولما ذكرنا من حديث ابن عمر، وقال عطاء وأبو ثور يجب غسل ما تحت
الشعور الكثيفة في الوضوء قياسا على الجنابة ونحوه قول سعيد بن جبير.
وقول الجمهور أولى، والفرق بين الوضوء والغسل أن
غسل باطن الشعر الكثيف يشق في الوضوء لتكرره بخلاف الغسل، فإن كان بعض
الشعر كثيفا وبعضه خفيفا وجب غسل بشرة الخفيف معه وظاهر الكثيف.
وجميع شعور الوجه في ذلك سواء، وذكر بعض أصحابنا في الشارب والعنفقة
والحاجبين وأهداب العينين ولحية المرأة إذا كانت كثيفة وجهين (أحدهما) يجب
غسل باطنها لأنها لا تستر عادة وإن وجد ذلك فهو نادر ينبغي ان لا يتعلق به
حكم وهو مذهب الشافعي (والثاني) لا يجب قياسا على لحية الرجل ودعوى الندرة
في غير الأهداب ممنوع والله أعلم (فصل) ولا يجب غسل داخل العينين ولا يستحب
في وضوء ولا غسل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا أمر به وفيه
ضرر، وذكر القاضي في المجرد في وجوبه روايتين عن بعض الأصحاب قال ابن عقيل
إنما الروايتان في وجوبه في الغسل فأما في الوضوء فلا يجب رواية واحدة وذكر
أن أحمد نص على استحبابه في الغسل لأنه يعم جميع البدن ويجب فيه غسل ما تحت
الشعور الكثيفة وذكره القاضي وابو الخطاب من سنن الوضوء لأنه روي عن ابن
عمر أنه عمي من كثرة إدخال الماء
(1/131)
في عينيه ولأنهما من جملة الوجه، والأول
أولى وهو اختيار شيخنا وما ذكر عن ابن عمر فهو دليل على كراهته لكونه ذهب
ببصره، وفعل ما يخاف منه ذهاب البصر إذ لم يرد به الشرع ولم يكن محرما فلا
أقل من الكراهة والله أعلم (فصل) ويستحب التكثير في ماء الوجه لأن فيه
غضونا وشعورا ودواخل وخوارج ليصل الماء إلى جميعه وقد روى علي رضي الله عنه
في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم أدخل يديه في الإناء
جميعا فأخذ بهما حفنة من ماء فضرب بهما على وجهه ثم الثانية ثم الثالثة مثل
ذلك ثم أخذ بكفه اليمنى قبضة من ماء فتركها تستن على وجهه رواه أبو داود
يعني تسيل وتنصب.
قال محمد بن الحكم كره أبو عبد الله أن يأخذ الماء ثم يصبه ثم يغسل وجهه
وقال هذا مسح ولكنه يغسل غسلا والله أعلم (مسألة) (ثم يغسل يديه إلى
المرفقين ثلاثا ويدخل المرفقين في الغسل) غسل اليدين واجب بالإجماع لقول
الله تعالى (وأيديكم إلى المرافق) ويجب إدخال المرفقين في الغسل في قول
أكثر أهل العلم منهم عطاء والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي، وقال ابن داود
وبعض المالكية لا يجب، وحكي ذلك عن
زفر لأن الله تعالى أمر بالغسل إلى المرافق وجعلها غاية بحرف إلى وهو
لانتهاء الغاية فلا يدخل المذكور بعده فيه كقول الله تعالى (ثم أتموا
الصيام إلى الليل) ، ولنا ما روى جابر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم
إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه أخرجه الدارقطني وهذا بيان للغسل المأمور
به في الآية.
وقولهم إن إلى لانتهاء الغاية قلنا قد تستعمل بمعنى مع كقوله تعالى (من
أنصاري إلى الله * يزدكم قوة إلى قوتكم * ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم)
أي مع أموالكم (1) وقال المبرد إذا كان الحد من جنس المحدود دخل فيه كقولهم
بعت الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف
__________
1) الصواب ان هنا تضمينا لفعل الضم اي مضمونة إلى قوتكم والى اموالكم
(1/132)
(فصل) ويجب غسل أظفاره وإن طالت والأصبع
واليد الزائدة والسلعة لأن ذلك من يده كالثؤلول وإن كانت نابتة في غير محل
الفرض كالعضد لم يجب غسلها طويلة كانت أو قصيرة لأنها في غير محل الفرض فهي
كالقصيرة وهذا قول ابن حامد وابن عقيل، وقال القاضي يجب غسل ما حاذى محل
الفرض منها والصحيح الأول، واختلف أصحاب الشافعي في ذلك نحو ما ذكرنا، وإن
كانتا متساويتين ولم تعلم الأصلية منهما غسلهما جميعا ليخرج عن العهدة
بيقين كما لو تنجست إحدى يديه غير معينة وإن تعلقت جلدة من الذراع فتدلت من
العضد لم يجب غسلها لأنها صارت في غير محل الفرض، وإن كان بالعكس وجب غسلها
لأنها صارت في محل الفرض أشبهت الأصبع الزائدة.
وإن تعلقت من أحد المحلين فالتحم رأسها في الآخر وبقي وسطها متجافيا وجب
غسل ما حاذى محل الفرض من ظاهرها وباطنها وما تحتها (فصل) إذا كان تحت
أظفاره وسخ يمنع وصول الماء إلى ما تحته فقال ابن عقيل: لا تصح طهارته حتى
يزيله كما لو كان على يده شمع، قال شيخنا ويحتمل أن لا يجب ذلك لأن هذا
يستتر عادة فلو كان غسله واجبا لبينه صلى الله عليه وسلم لأنه لا يجوز
تأخير البيان عن وقت الحاجة وقد عاب النبي صلى الله عليه وسلم عليهم كونهم
يدخلون عليه قلحا ورفغ أحدهم بين أنملته وظفره يعني أن وسخ أرفاغهم تحت
أظفارهم يصل إليه رائحة نتنها ولم يعب بطلان طهارتهم ولو كان مبطلا للطهارة
لكان ذلك أهم من نتن الريح (فصل) ومن كان يتوضأ من ماء يسير يغترف منه فغرف
منه بيديه عند غسل يديه لم يؤثر ذلك في
الماء، وقال بعض أصحاب الشافعي يصير الماء مستعملا بغرفه منه لأنه موضع غسل
اليد وهو ناو للوضوء ولغسلها أشبه مالو غمسها في الماء ينوي غسلها فيه،
ولنا أن في حديث عثمان: ثم غرف بيده اليمنى على ذراعه اليمنى
(1/133)
فغسلها إلى المرفقين ثلاثا ثم غرف بيمينه
فغسل يده اليسرى رواه سعد.
وفي حديث عبد الله بن زيد: ثم أدخل يده في الإناء فغسل يديه إلى المرفقين
مرتين متفق عليه.
ولو كان هذا يفسد الوضوء لكان النبي صلى الله عليه وسلم أحق بمعرفته ولبينه
لكون الحاجة ماسة إليه إذ كان لا يعرف بدون البيان ولا يتوقاه إلا متحذلق،
وما ذكروه لا يصح فإن المغترف لم يقصد بغرفه إلا الاغتراف دون الغسل فأشبه
من يغوص في البئر لترقية الدلو وهو جنب لا ينوي الغسل ونية الاغتراف صرفت
نية الطهارة (1) والله أعلم (مسألة) (ثم يمسح رأسه) ومسح الرأس فرض
بالإجماع لقول الله تعالى (وامسحوا برءوسكم) وهوما ينبت عليه الشعر في حق
الصبي، وينبغي أن يعتبر غالب الناس فلا يعتبر الأقرع ولا الأجلح كما قلنا
في حد الوجه، والنزعتان من الرأس وكذلك الصدغان وقد ذكرنا ذلك في الوجه
(مسألة) (يبدأ بيديه من مقدمه ثم يمرهما إلى قفاه ثم يردهما إلى مقدمه)
وجملته أن المستحب في مسح الرأس أن يبل يديه ثم يضع طرف إحدى سبابتيه على
طرف الأخرى ويضعهما على مقدم رأسه ويضع الإبهامين على الصدغين ثم يمر يديه
إلى قفاه ثم يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه كما روى عبد الله بن زيد في
وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال: فمسح رأسه بيديه فأقبل
__________
1) هذا مذهب الشافعي الذي عليه العمل
(1/134)
بهما وأدبر، وفي لفظ بدأ بمقدم رأسه حتى
ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما الى المكان الذي بدأ منه، متفق عليه، فإن كان
ذا شعر يخاف أن ينتفش برد يديه لم يردهما نص عليه الإمام أحمد لأنه قد روي
عن الربيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ عندها فمسح الرأس كله من
فرق الشعر كل ناحية لمصب الشعر لا يحرك الشعر عن هيئته، رواه أبو داود.
وسئل أحمد كيف تمسح المرأة؟ فقال هكذا ووضع يده على وسط
رأسه ثم جرها إلى مقدمه ثم رفعها فوضعها حيث منه بدأ ثم جرها إلى مؤخره،
وكيف مسح بعد استيعاب قدر الواجب أجزأه ولا يحتاج إلى ماء جديد في رد يديه
على رأسه قال القاضي وقد روي عن أحمد أنه يأخذ للرد ماء جديد وليس بصحيح
قاله القاضي (مسألة) (ويجب مسح جميعه مع الأذنين، وعنه يجزئ مسح أكثره)
اختلفت الرواية عن أحمد في قدر الواجب.
فروي عنه مسح جميعه في حق كل أحد وهو ظاهر قول الخرقي ومذهب مالك لقوله
تعالى (فامسحو برءوسكم) الباء للإلصاق فكأنه قال وامسحوا رءوسكم وصار كقوله
سبحانه في التيمم (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) قال ابن برهان من زعم أن
الباء للتبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه ولأن الذين وصفوا وضوء
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا أنه مسح رأسه كله، وقد ذكرنا حديث عبد
الله بن زيد وحديث الربيع وهذا يصلح أن يكون بيانا للمسح المأمور به، وروى
عن أحمد أنه يجزئ مسح بعضه نقلها عنه أبو الحارث.
ونقل عن سلمة بن الاكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه وابن عمر مسح اليافوخ.
(1/135)
وممن قال بمسح البعض الحسن والثوري
والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر.
قال شيخنا إلا أن الظاهر عن أحمد رحمه الله في الرجل وجوب الاستيعاب وأن
المرأة يجزئها مسح مقدم رأسها، قال الخلال العمل في مذهب أبي عبد الله أنها
إن مسحت مقدم رأسها أجزأها لأن عائشة رضي الله عنه كانت تمسح مقدم رأسها،
واحتج من أجاز مسح البعض بما روى المغيرة بن شعبة قال رأيت النبي صلى الله
عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين رواه مسلم.
وعن أنس بن مالك قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة
قطرية فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة رواه أبو
داود، واحتجوا بأن من مسح بعض الرأس يقال مسح برأسه كما يقال مسح برأس
اليتيم وإذا قلنا بجواز مسح البعض فأي موضع مسح أجزأه إلا أنه لا يجزئ مسح
الأذنين عن الرأس لأنهما تبع ولا يجزئ مسحهما عن الأصل.
وقال ابن عقيل يحتمل أن لا يجزئ إلا مسح الناصية لأنه صلى الله عليه وسلم
مسح بناصيته فوجب الاقتداء به واختلف العلماء في قدر البعض المجزئ فقال
القاضي قدر الناصية لحديث المغيرة، وحكى أبو الخطاب
وبعض الشافعية أنه لا يجزئه إلا مسح الأكثر لأنه ينطلق عليه اسم الجميع.
وقال أبو حنيفة يجزئه مسح ربعه، وروي عنه أنه لا يجزئه أقل من ثلثه وهو قول
زفر، وقال الشافعي يجزئ ما يقع عليه الاسم حكى عنه ثلاث شعرات وحكى عنه لو
مسح شعرة أجزأه لوقوع اسم البعض عليه (فصل) ويجب مسح الأذنين معه لأنهما
منه بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " الأذنان من الرأس " وروى عن أحمد
انه لا يجب مسحهما وهو ظاهر المذهب، قال الخلال كلهم حكوا عن أبي عبد الله
فيمن
(1/136)
ترك مسح أذنيه عامداً أو ساهياً أنه يجزئه
وظاهر هذا أنه لا يجب سواء قلنا بوجوب الاستيعاب أو لا لأنهما من الرأس على
وجه التبع ولا يفهم من إطلاق اسم الرأس دخولهما فيه ولا يشبهان أجزاء
الرأس، ولذلك لا يجزي مسحهما عنه عند من اجتزأ بمسح البعض وهو اختيار شيخنا
والأولى مسحهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما
وباطنهما رواه الإمام أحمد، وروت الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ
عندها فرأيته مسح على رأسه محاذي الشعر ما أقبل منه وما أدبر ومسح صدغيه
وأذنيه ظاهرهما وباطنهما رواهما الترمذي وأبو داود ويستحب أن يدخل سبابتيه
في صماخي أذنيه ويمسح ظاهرهما بابهاميه لأن في بعض ألفاظ حديث الربيع فأدخل
أصبعيه في حجري أذنيه رواه أبو داود، ولا يجب مسح ما استتر بالغضاريف لأن
الرأس الذي هو الأصل لا يجب مسح ما استتر منه بالشعر فالأذن أولى والله
أعلم (فصل) ولا يجب مسح ما نزل عن الرأس من الشعر ولا يجزئ مسحه عن الرأس
سواء رده فعقده فوق رأسه أو لم يرده لأن الرأس ما ترأس وعلا، فإن نزل الشعر
عن منبته ولم ينزل عن محل الفرض فمسح عليه أجزأه لأنه شعر على محل الفرض
أشبه القائم على محله ولأن هذا لا يمكن الاحتراز منه، وإن خضب رأسه بما
يستره لم يجزه المسح عليه نص عليه أحمد في الخضاب لأنه لم يمسح على محل
الفرض أشبه مالو مسح على خرقة فوق رأسه، ولو أدخل يده تحت الشعر فمسح
البشرة دون الظاهر لم يجزه لأن
(1/137)
الحكم تعلق بالشعر فلم يجزه مسح غيره كما
لو أوصل الماء إلى باطن اللحية ولم يغسل ظاهرها، فأما
إن مسح رأسه ثم حلقه أو غسل عضوا ثم قطع منه جزءا أو جلدة لم يؤثر في
طهارته لأنه ليس بدلا عما تحته، وإن أحدث بعد ذلك غسل ما ظهر لأنه صار
ظاهرا فتعلق الحكم به ولو حصل في بعض أعضائه شق أو ثقب لزمه غسله لأنه صار
ظاهرا (فصل) ويمسح رأسه بماء جديد غير ما فضل عن ذراعيه، وهو قول أبي حنيفة
والشافعي والعمل عليه عند أكثر أهل العلم قاله الترمذي، وجوز الحسن وعروة
والاوزاعي وابن المنذر مسحه بفضل ذراعيه لما روي عن عثمان أنه مسح مقدم
رأسه بيده مرة واحدة ولم يستأنف له ماء جديدا حين حكى وضوء النبي صلى الله
عليه وسلم رواه سعيد.
ويتخرج لنا مثل ذلك إذا قلنا إن المستعمل طهور لا سيما الغسلة الثانية
والثالثة، ووجه الأول ما روى عبد الله بن زيد قال ومسح رأسه بماء غير فضل
يديه رواه مسلم.
وفي حديثه المتفق عليه ثم أدخل يده في الإناء فمسح برأسه وكذلك حكى علي في
رواية أبي داود ولأن البلل الباقي في يده مستعمل فلا يجزئ به المسح كما لو
فصله في إناء ثم استعمله (فصل) فإن غسل رأسه بدل مسحه فعلى وجهين (أحدهما)
لا يجزئه لأن الله تعالى أمر بالمسح والنبي صلى الله عليه وسلم مسح ولأنه
أحد نوعي الطهارة فلم يجزئ عن الآخر كالمسح عن الغسل (والثاني) يجزئ لأنه
لو كان جنبا فانغمس في ماء ينوي الطهارتين أجزأه مع أنه لم يمسح فكذلك في
الحدث الأصغر وحده
(1/138)
ولأن في صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم
أنه غسل يديه ووجهه ثم أفرغ على رأسه ولم يذكر مسحا ولأن الغسل أبلغ من
المسح فإذا أتى به ينبغي أن يجزئه وهذا فيما إذا لم يمر يده عليه فأما إن
أمر يده على رأسه مع الغسل أو بعده اجزأه لأنه قد أتى بالمسح وذلك لما روى
عن معاوية أنه توضأ للناس كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فلما بلغ
رأسه غرف غرفة من ماء فتلقاها بشماله حتى وضعها على وسط رأسه حتى قطر الماء
أو كاد يقطر ثم مسح من مقدمه إلى مؤخر ومن مؤخره إلى مقدمه رواه أبو داود
ولو حصل على رأسه ماء المطر أوصب عليه إنسان ثم مسح عليه يقصد بذلك الطهارة
أو كان قد صمد للمطر أجزأه وإن حصل الماء على رأسه من غير قصد أجزأه أيضا
لأن حصول الماء على رأسه بغير قصد لم يؤثر في الماء فمتى وضع يده على ذلك
البلل ومسح به فقد مسح بماء غير مستعمل فصحت طهارته كما لو حصل بقصده.
وقد نقل أبو داود عن أحمد إذا أصاب
برأسه ماء السماء فمسحه بيده لم يجزه وذلك لأنه لم يوجد منه نية لذلك.
ذكره القاضي في المجرد وهذا يدل على أنه يشترط أن يقصد حصول الماء على
رأسه، قال ابن عقيل في هذه المسألة: تحقيق المذهب أنه متى صمد للمطر ومسح
أجزأه ومتى أصابه المطر من غير قصد ولا نية لم يجزه وكذلك إن كان يتوضأ فصب
إنسان على رأسه ماء وهو لا يصد فمسح رأسه فإنه لا يجزئه فأما أن حصل الماء
على رأسه بغير قصد ولم يمسح بيده لم يجزه سواء قلنا إن الغسل يقوم مقام
المسح أولا وإن قصد وجرى الماء على رأسه أجزأه إذا قلنا يجزئ الغسل وإلا
فلا (فصل) فإن مسح رأسه بخرقة مبلولة أو خشبة أجزأه في أحد الوجهين لأنه
مأمور بالمسح وقد مسح أشبه مالو مسح بيده ولأن مسحه بيده غير مشترط بدليل
مالو مسح بيد غيره (والثاني) لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح
بيده وقال " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " وإن وضع على رأسه خرقة
مبلولة فابتل رأسه بها أو وضع خرقة ثم بلها حتى ابتل شعره لم يجزه لأن ذلك
ليس بمسح ولا غسل، ويحتمل أن يجزئه لأنه بل شعره قاصدا للوضوء فأجزأه كما
لو غسله، وإن مسح بإصبع أو إصبعين أجزأه إذا بهما مسح ما يجب مسحه كله وهو
قول الثوري والشافعي، ونقل بكر بن محمد عن أحمد لا يجزئه المسح بإصبع، قال
القاضي هذا محمول على الرواية التي توجب الاستيعاب لأنه لا يحصل بإصبع
واحدة.
وإن حلق بعض رأسه وقلنا بوجوب الاستيعاب مسح المحلوق والشعر، وإن قلنا
باجزاء مسح البعض أجزأه مسح أحدهما
(1/139)
(فصل) وهل يستحب مسح العنق؟ فيه روايتان
(إحداهما) يستحب لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح رأسه حتى بلغ
القذال وما يليه من مقدم العنق.
رواه أحمد في المسند من رواية ليث بن أبي سليم وهو متكلم فيه، ولما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " امسحوا أعناقكم مخافة الغل " ذكره ابن
عقيل في الفصول (والثانية) لا يستحب لأن الله تعالى لم يأمر به، وإن الذين
حكوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وعلي وعبد الله بن زيد وابن
عباس لم يذكروه ولم يثبت فيه حديث (مسألة) (ولا يستحب تكراره وعنه يستحب)
الصحيح من المذهب أنه لا يستحب التكرار في مسح الرأس وهو قول أبي حنيفة
ومالك، ويروى عن ابن عمر وابنه سالم والحسن ومجاهد قال
الترمذي والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم ومن بعدهم، وعن أحمد أنه يستحب.
يروي ذلك عن أنس وعطاء وسعيد بن جبير وهو قول الشافعي لما روى أبو داود عن
شقيق بن سلمة قال: رأيت عثمان غسل ذراعيه ثلاثا ومسح برأسه ثلاثاً ثم قال
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل هذا وروي مثل ذلك عن غير واحد
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى علي وابن عمر وأبو هريرة وأبي
بن كعب وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا وفي حديث
أبي قال " هذا وضوئي ووضوء المرسلين قبلي " ورواه ابن ماجة وقياسا على سائر
الأعضاء، ووجه الرواية الأولى أن عبد الله بن زيد وصف وضوء رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال مسح برأسه مرة واحدة، متفق عليه وكذلك
(1/140)
روى علي وقال هذا وضوء رسول الله صلى الله
عليه وسلم من أحب أن ينظر إلى طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر
إلى هذا، وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وكذلك وصف عبد الله بن أبي أوفى
وابن عباس وسلمة بن الاكوع والربيع كلهم قالوا ومسح برأسه مرة واحدة
وحكايتهم لوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم إخبار عن الدوام ولا يداوم
إلا على الأفضل، وحكاية ابن عباس وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الليل حال خلوته ولا يفعل في تلك الحال إلا الأفضل، ولأنه مسح في طهارة فلم
يسن تكراره كالمسح على الجبيرة والخفين، وأحاديثهم لا يصح منها شئ صريح،
قال أبو داود أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة فإنهم
ذكروا الوضوء ثلاثا ثلاثا وقالوا فيها ومسح رأسه ولم يذكروا عددا والحديث
الذي ذكر فيه مسح رأسه ثلاثا رواه يحيى بن آدم وخالفه وكيع فقال توضأ ثلاثا
فقط والصحيح المتفق عليه عن عثمان أنه لم يذكر في مسح الرأس عددا.
ومن روي عنه ذلك سوى عثمان لم يصح لأنهم الذين رووا أحاديثنا وهي صحيحة
فيلزم من ذلك ضعف ما خالفها والأحاديث التي ذكروا فيها أن النبي صلى الله
عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا أرادوا بها سوى المسح لأنهم حين فصلوا قالوا
ومسح برأسه مرة واحدة قالوا والتفصيل يحكم به على الإجمال ويكون تفسيرا ولا
يعارضه كالخاص مع العام
(1/141)
وقياسهم منقوض بالتيمم وإن قيل يجوز أن
يكون النبي صلى الله عليه وسلم مسح مرة ليبين الجواز ومسح
ثلاثا ليبين الأفضل كما فعل في الغسل فنقل الأمران من غير تعارض قلنا قول
الراوي هذا طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أنه كان يفعله على
الدوام لأن الصحابة رضي الله عنهم إنما وصفوا وضوء رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليعرفوا من سألهم وحضرهم صفة وضوئه في دوامه فلو شاهدوا وضوءه على صفة
أخرى لم يطلقوا هذا الإطلاق الذي يفهم منه أنهم لم يشاهدوا سواه لأنه يكون
تدليسا وإيهاما لغير الصواب فلا يظن ذلك بهم ويحمل حال الراوي لغير الصحيح
على الغلط لاغير ولأن الحفاظ إذا رووا حديثا واحدا عن شخص واحد على صفة
وخالفهم فيها واحد حكموا عليه بالغلط وإن كان ثقة حافظا فكيف إذا لم يكن
معروفا بذلك والله أعلم (مسألة) ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ويدخلهما
في الغسل) وقد ذكرنا اختلاف العلماء في غسل الرجلين ويستحب غسلهما ثلاثا
لأن في حديث عثمان: ثم غسل كلتا رجليه ثلاثاً، متفق عليه وعن علي رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا رواه الترمذي وقال هذا
أحسن شئ في الباب وأصح.
ويدخل الكعبين في الغسل قياسا على المرفقين والكعبان هما العظمان الناتئان
اللذان في أسفل الساق من جانبي القدم وحكي عن محمد بن الحسن أنه قال: هما
في مشط القدم وهو معقد الشرك من الرجل بدليل أنه قال إلى الكعبين فدل على
أن في الرجل كعبين لاغير ولو أراد ما ذكرتم كانت كعاب الرجلين أربعة.
(1/142)
ولنا أن الكعاب المشهورة هي التي ذكرنا قال
أبو عبيد: الكعب هذا الذي في أصل القدم منتهى الساق إليه بمنزلة كعاب القنا
وروي عن النعمان بن بشير قال كان أحدنا يلزق كعبه بكعب صاحبه في الصلاة
رواه الخلال.
وقوله إلى الكعبين حجة لنا فإنه أراد كل رجل تغسل إلى الكعبين ولو أراد
كعاب جميع الا رجل لذكر بلفظ الجمع كما قال إلى المرافق ويخلل أصابعهما لما
ذكرناه (مسألة) (فإن كان أقطع غسل ما بقي من محل الفرض) وسواء في ذلك
اليدين والرجلين لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما
استطعتم " (مسألة) (فإن لم يبق شئ سقط وجوب الغسل) لعدم محله ويستحب أن يمس
محل القطع بالماء
لئلا يخلو العضو من طهارة، فإن كان أقطع اليدين فوجد من يوضئه متبرعا لزمه
ذلك لأنه قادر عليه وإن لم يجد من يوضئه إلا بأجر يقدر عليه لزمه كما يلزمه
شراء الماء.
وقال ابن عقيل يحتمل أن لا يلزمه كما لو عجز عن القيام في الصلاة لا يلزمه
استئجار من يقيمه ويعتمد عليه، وإن عجز عن الأجر أو لم يجد من يستأجره صلى
على حسب حاله كعادم الماء والتراب.
وإن وجد من ييممه ولم يجد من يوضئه لزمه التيمم كعادم الماء إذا وجد التراب
وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا
(1/143)
(مسألة) ثم يرفع نظره إلى السماء ويقول
أشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله لما
روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما منكم
من أحد يتوضأ فيبلغ - أو - فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة
الثمانية يدخل من أيها شاء " رواه مسلم ورواه الترمذي وزاد فيه " اللهم
اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " ورواه الإمام أحمد وابو داود
وفي بعض رواياته " فأحسن الوضوء ثم رفع نظره إلى السماء " وعن أبي سعيد
الخدري قال: من توضأ ففرغ من وضوئه وقال " سبحانك اللهم أشهد ان لا إله إلا
أنت أستغفرك وأتوب إليك طبع عليها بطابع ثم رفعت تحت العرش فلم تكسر إلى
يوم القيامة " رواه النسائي (فصل) (والوضوء مرة مرة يجزئ والثلاث أفضل) لما
روى ابن عباس قال توضأ النبي صلى الله عليه وسلم مره مرة رواه البخاري وروي
ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماء فتوضأ مرة مرة ثم قال " هذا
وظيفة الوضوء وضوء من لا يقبل الله له الصلاة إلا به " ثم تحدث ساعة ثم دعا
بوضوء فتوضأ مرتين مرتين فقال " هذا وضوء من توضأه ضاعف الله له الأجر
مرتين " ثم تحدث ساعة ثم دعا بماء فتوضأ ثلاثا ثلاثا فقال " هذا وضوئي
ووضوء النبيين من قبلي " رواه سعيد وقد ذكر حديث أبي بن كعب بنحو هذا، وهذا
قول أكثر أهل العلم إلا أن مالكاً لم يوقت مرة ولا ثلاثا
(1/144)
قال إنما قال الله تعالى (فاغسلوا وجوهكم)
وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز الوضوء ثلاثا ثلاثا
إلا غسل الرجلين فإنه ينقيهما.
والأول أولى لما ذكرنا من الاحاديث وقد ذكرنا اختلافهم في تكرار مسح الرأس
والله أعلم وإن غسل بعض أعضائه أكثر من بعض فحسن لأن في حديث عبد الله بن
زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه ثلاثا ثم غسل يديه مرتين
إلى المرفقين ومسح برأسه مرة متفق عليه (فصل) وتكره الزيادة على الثلاث،
قال أحمد رحمه الله لا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى وذلك لما روى أن
أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء فأراه ثلاثاً ثم قال " هذا
الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة
ويكره الإسراف في الماء لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ
فقال " لا تسرف " فقال يا رسول الله في الماء إسراف؟ قال " نعم وإن كنت على
نهر جار " رواه ابن ماجه (مسألة) (وتباح معونته) لما روى المغيرة بن شعبة
أنه أفرغ على النبي صلى الله عليه وسلم في وضوئه رواه مسلم، وعن صفوان بن
عسال قال صببت على النبي صلى الله عليه وسلم الماء في الحضر
(1/145)
والسفر رواه ابن ماجه، وروى أنس قال كان
النبي صلى الله عليه وسلم ينطلق لحاجته فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء
وعنزة فيستنجي بالماء متفق عليه، ولا يستحب لما روى ابن عباس قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا يكل طهوره إلى أحد ولا صدقته التي يتصدق بها،
يكون هو الذي يتولاها بنفسه.
رواه ابن ماجه وروى عن أحمد أنه قال: ما أحب أن يعينني على وضوئي أحد لأن
عمر قال ذلك (مسألة) قال ويباح تنشيف أعضائه ولا يستحب، قال الخلال المنقول
عن أحمد أنه لا بأس بالتنشيف بعد الوضوء وممن روي عنه أخذ المنديل بعد
الوضوء عثمان والحسن بن علي وأنس وكثير من أهل العلم.
وممن رخص فيه الحسن وابن سيرين ومالك والثوري واسحاق وأصحاب الرأي وهو ظاهر
قول أحمد لما روي سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قلب جبة كانت
عليه فمسح بها وجهه.
رواه ابن ماجه والطبراني في المعجم الصغير، وذكر ابن حامد في كراهته
روايتين (إحداهما) لا يكره لما ذكرنا (والثانية) يكره روى ذلك عن جابر بن
عبد الله وابن أبي ليلى وسعيد بن المسيب
والنخعي ومجاهد وذلك لما روت ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل
قالت فأتيته بالمنديل فلم يردها وجعل ينفض الماء بيديه متفق عليه.
وروى عن ابن عباس أنه كرهه في الوضوء ولم يكرهه في الجنابة، والأول أصح لأن
الأصل الإباحة فترك النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على الكراهة فإنه قد
يترك المباح، وهذه قضية في عين يحتمل أنه ترك تلك المنديل لأمر يختص بها
ولأنه
(1/146)
إزالة للماء عن بدنه أشبه نفضه بيديه ولا
يكره نفض الماء عن بدنه بيديه لحديث ميمونة، ويكره نفض يديه ذكره أبو
الخطاب وابن عقيل (فصل) ويستحب تجديد الوضوء نص عليه أحمد في رواية موسى بن
عيسى وذلك لما روى أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة
قلت وكيف كنتم تصنعون؟ قال يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث رواه البخاري، وقد
نقل علي بن سعيد عن أحمد أنه لا فضل فيه والأول أصح، ولا بأس أن يصلي
بالوضوء الواحد ما لم يحدث لا نعلم فيه خلافا لحديث أنس ولما روى بريدة قال
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على
خفيه فقال له عمر إني رأيتك صنعت شيئا لم تكن تصنعه فقال " عمدا صنعته "
رواه مسلم (فصل) ولا بأس بالوضوء في المسجد إذا لم يؤذ أحداً بوضوئه ولم
يؤذ المسجد، قال إبن المنذر أباح ذلك كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار وذلك
لما روى أبو العالية عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال حفظت لك
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ في المسجد رواه الإمام أحمد، وروى عن
أحمد أنه كرهه صيانة للمسجد عن البصاق وما يخرج من فضلات الوضوء والله أعلم
(فصل) والمفروض من ذلك بغير خلاف في المذاهب خمسة: النية وغسل الوجه، وغسل
اليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين، وخمسة فيها روايتان: المضمضة
والاستنشاق، والتسمية والترتيب، والموالاة.
وقد ذكرنا عدد المسنون فيما مضى والله أعلم
(1/147)
|