الشرح الكبير على متن المقنع

باب الغسل (وموجباته سبعة) - غسل الجنابة بفتح الغين ذكره ابن بري والغسل بالضم الماء الذي يغتسل به قاله ابن السكيت والغسل ما غسل به الرأس (أحدها) خروج المني الدافق بلذة وهو موجب للغسل من الرجل والمرأة في اليقظة والنوم، وهذا قول عامة الفقهاء حكاه الترمذي ولا نعلم فيه خلافا وذلك لما روى أن أم سليم قالت يا رسول الله أن الله لا يستحيي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم إذا رأت الماء " متفق عليه، وماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر لأن في حديث أم سليم في بعض رواياته فقالت وهل يكون هذا؟ فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم " نعم فمن أين يكون الشبه؟ إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه " رواه مسلم (مسألة) (فإن خرج لغير ذلك لم يوجب) يعني إذا خرج شبيه المني لمرض أو برد من غير شهوة وهذا قول أبي حنيفة ومالك، وقال الشافعي يجب ويحتمله كلام الخرقي، وذلك لقوله عليه السلام " نعم إذا رأت الماء " وقوله " الماء من الماء " ولأنه مني خارج فأوجب الغسل كما لو خرج حال الإغماء.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف المني الموجب بأنه غليظ أبيض وقال لعلي " إذا فضخت المني

(1/197)


فاغتسل " رواه أبو داود - والفضخ خروجه على وجه الشدة، وقال إبراهيم الحربي بالعجلة وقوله عليه
السلام " إذا رأت الماء " يعني في الاحتلام وإنما يخرج في الاحتلام لشهوة والحديث الآخر منسوخ ويمكن منع كون هذا منيا لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف المني بصفة غير موجودة في هذا (فصل) (فإن رأى أنه قد احتلم ولم ير بللا فلا غسل عليه) قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم " نعم إذا رأت الماء " يدل على أنه لم يجب إذا لم تره، وروت عائشة قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما قال " يغتسل " وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولم يجد البلل قال " لا غسل عليه " قالت أم سليم المرأة ترى ذلك أعليها غسل؟ " نعم إنما النساء شقائق الرجال " رواه الإمام أحمد وأبو داود وذكر ابن أبي موسى فيمن احتلم ووجد لذة الإنزال ولم ير بللا رواية في وجوب الغسل عليه والأول أصح لما ذكرنا من النص والإجماع، لكن إن مشى فخرج منه المني أو خرج بعد استيقاظه فعليه الغسل نص عليه أحمد لأن الظاهر أنه كان انتقل وتخلف خروجه إلى ما بعد الاستيقاظ وإن انتبه فرأى منيا ولم يذكر احتلاما فعليه الغسل.
قال شيخنا: لا نعلم فيه خلافاً، وروي ذلك عن عمر وعثمان وبه قال ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي والحسن ومالك والشافعي واسحاق لأن الظاهر أن خروجه كان لاحتلام نسيه وذلك لما ذكرنا من حديث عائشة.

(1/198)


(فصل) فإن انتبه من النوم فوجد بللا لا يعلم هل هو مني أو غيره فقال أحمد إذا وجد بلة غتسل إلا أن يكون به أبردة أو لاعب أهله فإنه ربما خرج منه المذي فارجو أو لا يكون به بأس وكذلك إن كان انتشر من أول الليل بتذكر أو رؤية وهو قول الحسن لأن الظاهر أنه مذي لوجود سببه فلا يجب الغسل بالاحتمال.
وإن لم يكن وجد ذلك فعليه الغسل لحديث عائشة.
وقد توقف أحمد في هذه المسألة، وقال مجاهد وقتادة لا غسل عليه حتى يوقن بالماء الدافق وهذا هو القياس والأولى الاغتسال لموافقة الخبر وعملا بالاحتياط.
(فصل) فإن رأى في ثوبه منيا وكان لا ينام فيه غيره وهو ممن يمكن أن يحتلم كابن اثنتي عشرة سنة فعليه الغسل وإلا فلا لأن عمر وعثمان اغتسلا حين رأياه في ثوبهما ولأن الظاهر أنه منه ويلزمه إعادة
الصلاة من أحدث نومة نامها فيه الا إن يرى أمارة تدل على أنه قبلها فيعيد من أدنى نومة يحتمل أنه منها فأما إن كان ينام فيه هو وغيره ممن يحتلم فلا غسل على واحد منهما لأن كل واحد منهما مفرد شاك فيما يوجب الغسل والأصل عدم وجوبه، وليس لأحدهما الائتمام بالآخر لأن أحدهما جنب يقينا (فصل) فإن وطئ امرأته دون الفرج فدب ماؤه إلى فرجها ثم خرج أو وطئها في الفرج فاغتسلت ثم خرج ماؤه من فرجها فلا غسل عليها وبه قال قتادة والاوزاعي واسحاق، وقال الحسن تغتسل لأنه مني خارج فأشبه ماءها والأول أولى لأنه ليس منيها أشبه غير المني ولأنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص (مسألة) فإن أحس بانتقاله فأمسك ذكره فلم يخرج فعلى روايتين (إحداهما) يجب عليه الغسل

(1/199)


وهو المشهور عن أحمد، وأنكر أن يكون الماء يرجع اختاره ابن عقيل والقاضي ولم يذكر فيه خلافا قال لأن الجنابة تباعد الماء عن محله وقد وجد فتكون الجنابة موجودة فيجب بها الغسل.
ولأن الغسل تراعى فيه الشهوة وقد حصلت بانتقاله أشبه مالو ظهر.
والرواية (الثانية) لا غسل عليه وهو ظاهر قول الخرقي وقول أكثر الفقهاء وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الاغتسال على رؤية الماء بقوله " إذا رأت الماء " وقوله " إذا فضخت الماء فاغتسل " فلا يثبت الحكم بدونه وما ذكروه من الاشتقاق ممنوع لأنه يجوز أن يسمى جنبا لمجانبته الماء ولا يحصل إلا بخروجه أو لمجانبته الصلاة أو المسجد وإذا سمي بذلك مع الخروج لم يلزم وجود التسمية من غير خروج فإن الاشتقاق لا يلزم منه الإطراد ومراعاة الشهوة في الحكم لا يلزم منه استقلالها به فإن أحد وصفي العلة وشرط الحكم مراعى له ولا يستقل بالحكم ثم يبطل ذلك بما لو وجدت الشهوة من غير انتقال فإنها لا تستقل بالحكم وكلام أحمد إنما يدل على أن الماء إذا انتقل لزم منه الخروج وإنما يتأخر.
وكذلك يتأخر الغسل إلى حين خروجه (مسألة) فإن خرج بعد الغسل وقلنا لا يجب الغسل بالانتقال لزمه الغسل لأنه مني خرج بسبب الشهوة أوجب الغسل لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا فضخت الماء فاغتسل " ولحديث أم سليم وكما لو خرج حال انتقاله وقد قال أحمد في الرجل يجامع ولم ينزل فيغتسل ثم يخرج منه المني عليه الغسل

(1/200)


ولأنه لو لم يجب الغسل على هذه الرواية أفضى إلى نفي الوجوب عنه بالكلية مع انتقال المني بشهوة وخروجه.
وإن قلنا يجب الغسل بالانتقال لم يجب بالخروج لأنه تعلق بانتقاله وقد اغتسل له فلم يجب له غسل ثان كبقية المني إذا خرجت بعد الغسل.
وهكذا الحكم في بقية المني إذا خرج بعد الغسل هذا هو المشهور عن أحمد.
قال الخلال تواترت الروايات عن أبي عبد الله أنه ليس عليه إلا الوضوء بال أو لم يبل روى ذلك عن علي وابن عباس وعطاء والزهري ومالك والليث والثوري ولأنه مني خرج على غير وجه الدفق واللذة أشبه الخارج في المرض ولأنه جنابة واحدة فلم يجب به غسلان كما لو خرج دفعة واحدة، وفيه رواية (ثانية) أنه يجب بكل حال وهو مذهب الشافعي لأن الاعتبار بخروجه كسائر الأحداث.
قال شيخنا وهذا هو الصحيح لأن الخروج يصلح موجبا للغسل - قولهم إنه جنابة واحدة فلم يجب به غسلان يبطل بما إذا جامع فلم ينزل فاغتسل ثم أنزل فإن أحمد قد نص على وجوب الغسل عليه بالإنزال مع وجوبه بالتقاء الختانين.
واختار القاضي الرواية الأولى وحمل كلام أحمد في هذه المسألة على أن تكون قارنته شهوة حال خروجه قال فإن لم تقارنه شهوة فهو كبقية المني إذا خرجت، وفيه رواية ثالثة أنه إن خرج قبل البول اغتسل وإن خرج بعده لم يغتسل وهذا قول الأوزاعي وأبي حنيفة ونقل عن الحسن لأنه قبل البول بقية ما خرج بالدفق والشهوة فأوجب الغسل كالأول وبعد

(1/201)


البول لا يعلم أنه بقية الأول لأنه لو كان بقية الأول لما تخلف بعد البول وقد خرج بغير دفق وشهوة وذكر القاضي في هاتين المسئلتين أنه إن خرج بعد البول لم يجب الغسل رواية واحدة وان خرج قبله فعلى روايتين (مسألة) (الثاني: التقاء الختانين وهو تغييب الحشفة في الفرج قبلاً كان أو دبراً من آدمي أو بهيمة حي أو ميت) معنى التقاء الختانين تغييب الحشفة في الفرج كما ذكر سواء كانا مختتنين أو لا.
وسواء مس ختانه ختانها أو لا فهو موجب للغسل، ولو مس الختان الختان من غير إيلاج لم يجب الغسل إجماعا، واتفق العلماء على وجوب الغسل في هذه المسألة وقال داود لا يجب لقوله صلى الله عليه وسلم " الماء من الماء " روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة وروي في ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وكانت رخصة
أرخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمر بالغسل فروي عن أبي بن كعب قال إن الفتيا التي كانوا يقولون ان الماء من الماء رخصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص فيها في أول الإسلام.
ثم أمر بالاغتسال بعدها رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل متفق عليه زاد مسلم " وإن لم ينزل " وحديثهم منسوخ بحديث أبي بن كعب (فصل) ويجب الغسل على كل واطئ وموطوء إذا كان من أهل الغسل سواء كان في الفرج قبلا أو دبراً من آدمي أو بهيمة حي أو ميت طائعا أو مكرها نائما أو يقظان، وقال أبو حنيفة لا يجب الغسل بوطئ الميتة ولا البهيمة لأنه ليس بمقصود ولأنه ليس بمنصوص ولا في معناه

(1/202)


ولنا أنه ايلاج في فرج فوجب به الغسل كوطئ الآدمية في حياتها ووطئ الآدمية داخل في عموم الأحاديث وما ذكروه يبطل بالعجوز والشوهاء (فصل) فإن أولج بعض الحشفة أو وطئ دون الفرج ولم ينزل فلا غسل عليه لأنه لم يوجد التقاء الختانين ولا ما في معناه.
وإن انقطعت الحشفة فأولج الباقي من ذكره وكان بقدر الحشفة وجب الغسل وتعلقت به أحكام الوطئ من المهر وغيره وإن كان أقل من ذلك لم يجب شئ (فصل) فإن أولج في قبل خنثى مشكل أو أولج الخنثى ذكره في فرج امرأة أو وطئ أحدهما أو كل واحد منهما الآخر لم يجب الغسل على واحد منهما لاحتمال أن يكون خلقة زائدة.
فإن أنزل الواطئ أو أنزل الموطوء من قبله فعلى من أنزل الغسل.
ويثبت لمن أنزل من ذكره حكم الرجال ولمن أنزل من فرجه حكم النساء لأن الله تعالى أجرى العادة بذلك في حق الرجال والنساء، وذكر القاضي في موضع أنه لا يحكم له بالذكورية بالإنزال من ذكره ولا بالأنوثية بالحيض من فرجه ولا بالبلوغ بهذا ولنا أنه أمر خص الله تعالى به أحد الصنفين فكان دليلا عليه كالبول من ذكره أو من قبله ولأنه أنزل الماء الدافق لشهوة فوجب الغسل لقوله عليه السلام " الماء من الماء " (فصل) فإن كان الواطئ أو الموطوءة صغيرا فقال أحمد يجب عليهما الغسل.
وقال إذا أتى على
الصبية تسع سنين ومثلها يوطأ وجب عليها الغسل.
وسئل عن الغلام يجامع مثله ولم يبلغ فجامع المرأة يكون عليهما الغسل؟ قال نعم.
قيل له أنزل أو لم ينزل؟ قال نعم.
وقال ترى عائشة حيث كان يطؤها النبي

(1/203)


صلى الله عليه وسلم لم تكن تغتسل ويروى عنها " إذا التقى الختانان وجب الغسل " وحمل القاضي كلام أحمد على الاستحباب وهو قول أصحاب الرأي وأبي ثور لأن الصغيرة لا يتعلق بها المأثم ولا هو من أهل التكليف ولا تجب عليها الصلاة التي تجب لها الطهارة فأشبهت الحائض (قال شيخنا) ولا يصح حمل كلام أحمد على الاستحباب لتصريحه بالوجوب وذمه قول أصحاب الرأي بقوله هو قول سوء واحتج بفعل عائشة وروايتها للحديث العام في حق الصغير والكبير ولأنها أجابت بفعلها وفعل النبي صلى الله عليه وسلم بقولها فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا.
فكيف تكون خارجة منه وليس معنى وجوب الغسل في حق الصغير التأثيم بتركه بل معناه أنه شرط لصحة الصلاة والطواف وإباحة قراءة القرآن وإنما يأثم البالغ بتأخيره في موضع يتأخر الواجب بتركه ولذلك لو أخره في غير وقت الصلاة لم يأثم والصبي لا صلاة عليه فلم يأثم بالتأخير وبقي في حقه شرطا كما في حق الكبير فإذا بلغ كان حكم الحدث في حقه باقيا كالحدث الأصغر ينقض الطهارة في حق الصغير والكبير (مسألة) (الثالث: إسلام الكافر أصلياً كان أو مرتدا وقال أبو بكر لا غسل عليه) وجملته أن الكافر إذا أسلم وجب عليه الغسل أصلياً كان أو مرتدا سواء اغتسل قبل إسلامه أو لا وجد منه في زمن الكفر ما يوجب الغسل أو لم يوجد وهو قول مالك وأبي ثور وابن المنذر، وقال أبو بكر يستحب ولا يجب إلا أن يكون قد وجدت منه جنابة زمن كفره فعليه الغسل إذا أسلم وإن اغتسل قبل الإسلام وهو مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يجب عليه الغسل بحال لأن العدد الكثير والجم الغفير أسلموا

(1/204)


فلو أمر كل من أسلم بالغسل لنقل نقلا متواترا أو ظاهرا.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذاً إلى اليمن لم يذكر له الغسل ولو كان واجباً لأمرهم به لأنه أول واجبات الإسلام ولنا ما روى قيس بن عاصم أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم إن يغتسل بماء وسدر.
رواه الإمام أحمد
وأبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن، والأمر للوجوب وما ذكروه من قلة النقل فلا يصح ممن أوجب الغسل على من أسلم بعد الجنابة في كفره لأن الظاهر أن البالغ لا يسلم منها على أن الخبر إذا صح كان حجة من غير إعتبار شرط آخر، وقد روي أن أسيد بن حضير وسعد بن معاذ حين أرادا الإسلام سألا مصعب بن عمير كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟ قال نغتسل ونشهد شهادة الحق.
وهذا يدل على أنه كان مستفيضا ولأن الكافر لا يسلم غالبا من جنابة تلحقه ونجاسة تصيبه وهو لا يصح غسله فأقيمت المظنة مقام حقيقة الحدث كما أقيم النوم مقام الحدث (فصل) فإن أجنب الكافر ثم أسلم لم يلزمه غسل الجنابة سواء اغتسل في كفره أو لم يغتسل وهذا قول من أوجب غسل الإسلام وقول أبي حنيفة، وقال الشافعي عليه الغسل وهو قول أبي بكر لأن عدم التكليف لا يمنع وجوب الغسل كالصبي والمجنون واغتساله في كفره لا يرفع حدثه قياسا على الحدث الأصغر، وحكي عن أبي حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي أنه يرتفع حدثه لأنه أصح

(1/205)


نية من الصبي ولا يصح لأن الطهارة عبادة محضة فلم تصح من الكافر كالصلاة، ووجه الأول أنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحدا ممن أسلم بغسل الجنابة مع كثرة من أسلم من الرجال والنساء البالغين المتزوجين ولأن المظنة أقيمت مقام حقيقة الحدث فسقط حكم الحدث كالسفر مع المشقة.
ويستحب أن يغتسل بماء وسدر كما في حديث قيس.
ويستحب إزالة شعره لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل أسلم " ألق عنك شعر الكفر واختتن " رواه أبو داود (مسألة) (الرابع) الموت (الخامس) الحيض (السادس) النفاس.
وسيذكر ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى.
(مسألة) قال (وفي الولادة وجهان) يعني إذا عريت عن الدم (أحدهما) يجب الغسل لأنها مظنة النفاس الموجب فأقيمت مقامه كالتقاء الختانين ولأنه يحصل بها براءة الرحم أشبهت الحيض ولأصحاب الشافعي فيها وجهان، و (الثاني) لا يجب وهو ظاهر قول الخرقي لأن الوجوب من الشرع ولم يرد بالغسل ولا هو في منصوص.
قولهم إن ذلك مظنة (قلنا) إنما يعلم جعلها مظنة بنص أو إجماع
ولم يوجد واحد منهما والقياس الآخر مجرد طرد لا معنى تحته ثم قد اختلفا في كثير من الأحكام فليس تشبيهه في هذا الحكم أولى من مخالفته في غيره وهذا الوجه أولى (فصل) فإن كان على الحائض جنابة فليس عليها أن تغتسل حتى ينقطع حيضها في المنصوص وهو قول إسحاق لأن الغسل لا يفيد شيئاً من الأحكام وعنه عليها الغسل قبل الطهر ذكرها ابن أبي

(1/206)


موسى والصحيح الأول لما ذكرناه فإن اغتسلت للجنابة في زمن حيضها صح غسلها وزال حكم الجنابة وبقي حكم الحيض لا يزول حتى ينقطع الدم نص عليه أحمد قال ولا أعلم أحداً قال لا تغتسل الاعطاء ثم رجع عنه وهذا لأن بقاء أحد الحدثين لا يمنع ارتفاع الآخر كما لو اغتسل المحدث الحدث الأصغر (مسألة) قال (ومن لزمه الغسل حرم عليه قراءة آية فصاعدا وفي بعض آية روايتان) رويت الكراهة لذلك عن عمر وعلي والحسن والنخعي والزهري والشافعي وأصحاب الرأي وقال الأوزاعي لا يقرأ إلا آية الركوب والنزول (سبحان الذي سخر لنا هذا * وقل رب أنزلني منزلا مباركا) وقال ابن عباس يقرأ ورده وقال سعيد بن المسيب يقرأ القرآن أليس هو في جوفه؟ وحكي عن مالك جواز القراءة للحائض دون الجنب لأن أيامها تطول فلو منعناها من القرآن نسيت ولنا ما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحجبه أوقال يحجزه عن قراءة القرآن شئ ليس الجنابة.
رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي بمعناه وقال حسن صحيح.
وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يقرأ الحيض ولا النفاس شيئا من القرآن " رواه الدارقطني (فصل) ويحرم عليه قراءة آية فصاعدا لما ذكرنا، فأما بعض الآية فإن كان مما لا يتميز به القرآن عن غيره كالتسمية والحمد لله وسائر الذكر فإن لم يقصد به القرآن فهو جائز فإنه لا خلاف في أن لهم ذكر الله تعالى ولأنهم يحتاجون إلى التسمية عند اغتسالهم وقد روت عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه رواه مسلم.
وإن قصدوا به القراءة أو كان ما قرأه يتميز به القرآن عن غيره روايتان أظهرهما أنه لا يجوز لعموم النهي ولما روي أن علياً رضي الله عنه سئل

(1/207)


عن الجنب يقرأ القرآن؟ فقال لا ولا حرفا وهذا مذهب الشافعي ولأنه قرآن فمنع منه كالآية و (والثانية) لا يمنع وهو قول أبي حنيفة لأنه لا يحصل به الإعجاز ولا يجزئ في الخطبة أشبه الذكر ولأنه يجوز إذا لم يقصد به القرآن فكذلك إذا قصد (مسألة) (ويجوز له العبور في المسجد ويحرم عليه اللبث فيه الا إن يتوضأ) يحرم عليه اللبث في المسجد لقول الله تعالى (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " روه أبو داود فإن خاف على نفسه أو ماله أو لم يمكنه الخروج أو الغسل والوضوء تيمم وأقام في المسجد لأنه روي عن علي وابن عباس في قوله تعالى (ولا جنبا إلا عابري سبيل) يعني مسافرين لا يجدون ماء فيتيممون، وقال بعض أصحابنا يلبث بغير تيمم لأنه لا يرفع الحدث وهو غير صحيح لمخالفته قول الصحابة ولأنه أمر تشترط له الطهارة فوجب له التيمم عند العجز عنه كسائر ما تشترط له الطهارة ويباح له العبور في المسجد للآية وإنما يباح العبور للحاجة من أخذ شئ أو تركه في المسجد أو كون الطريق فيه فأما لغير ذلك فلا، وممن رويت عنه الرخصة في العبور ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن ومالك والشافعي، وقال الثوري واسحاق لا يمر في المسجد إلا أن لا يجد بدا فيتيمم وهو قول أصحاب الرأي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " رواه أبو داود ولنا قول الله تعالى (إلا عابري سبيل) والاستثناء من النهي إباحة.
وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ناوليني الخمرة من المسجد - قالت إني حائض قال - إن حيضتك ليست في يدك " رواه مسلم

(1/208)


وعن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشون في المسجد وهم جنب.
رواه ابن المنذر وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعا، فإن توضأ الجنب فله اللبث في المسجد عند أصحابنا وهو قول إسحاق، وقال الأكثرون لا يجوز للآية والخبر، ووجه الأول ما روى زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون في المسجد على غير وضوء وكان الرجل يكون جنبا فيتوضأ ثم يدخل فيتحدث وهذا إشارة إلى جميعهم فنخص عموم الحديث، وعن عطاء بن يسار
قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضوء وضوء الصلاة.
رواه سعيد بن منصور والأثرم، وحكم الحائض إذا انقطع حيضها حكم الجنب، فأما في حال حيضها فلا يباح لها اللبث لأن وضوءها لا يصح (فصل) فأما المستحاضة ومن به سلس البول فلهم العبور في المسجد واللبث فيه إذا أمنوا تلويثه لما روت عائشة أن امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفت معه وهي متسحاضة فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي.
رواه البخاري، فأما إن خاف تلويث المسجد أو خشيت الحائض ذلك بالعبور فيه حرم عليهما لأن المسجد يصان عن هذا كما يصان عن البول فيه (فصل) والأغسال المستحبة ثلاثة عشر غسلا (أحدها) غسل الجمعة وهو مستحب بغير خلاف وفيه آثار كثيرة صحيحة منها ماروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أتى منكم الجمعة فليغتسل "

(1/209)


متفق عليه وروى سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ويصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى " رواه البخاري وليس ذلك بواجب في قول أكثر أهل العلم وقد قيل إنه إجماع حكاه ابن عبد البر وسيذكر ذلك في موضعه بأبسط من هذا إن شاء الله تعالى (الثاني) غسل العيدين مستحب لما روى ابن عباس والفاكه بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر والأضحى رواه ابن ماجه (الثالث) الاستسقاء لأنها عبادة يجتمع لها الناس فاستحب لها الغسل كالجمعة (الرابع) الكسوف لأنه كالاستسقاء (الخامس) الغسل من غسل الميت وهو مستحب لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ " قال الترمذي هذا حديث حسن وليس بواجب، يروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وعائشة والحسن والنخعي والشافعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي، وروي عن علي وأبي هريرة أنهما قالا من غسل ميتا فليغتسل، وبه قال سعيد
ابن المسيب وابن سيرين والزهري لما ذكرنا من الحديث وذكر أصحابنا في وجوب الغسل من غسل الميت الكافر روايتين (إحداهما) لا يجب كالمسلم (والثانية) يجب لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم

(1/210)


أمر عليا أن يغتسل حين غسل أباه ولنا قول صفوان بن عسال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة حديث حسن ولأنه غسل آدمي فلم يوجب الغسل كغسل الحي وحديثهم موقوف على أبي هريرة قاله أحمد، وقال ابن المنذر: ليس في هذا حديث يثبت ولذلك لم يعمل به في وجوب الوضوء على حامله لا نعلم به قائلاً، وأما حديث علي فقال أبو إسحاق الجوزجاني ليس فيه أنه غسل أبا طالب إنما قال له النبي صلى الله عليه وسلم " اذهب فواره ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني " قال فأتيته فأخبرته فأمرني فاغتسلت، وذكر بعض أصحابنا رواية في وجوب الغسل من غسل الحي الكافر قياسا على الميت، والصحيح أنه لا يجب لأن الوجوب من الشرع ولم يرد به وقياسه على الميت لا يصح لأن المسلم الميت يجب من غسله الوضوء بخلاف الحي وهذا يدل على افتراق حال الميت والحي ولا نعلم احدا قال به من العلماء (السادس) الغسل من الإغماء والجنون إذا أفاقا من غير احتلام مستحب لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اغتسل للإغماء متفق عليه ولأنه لا يؤمن أن يكون قد احتلم ولم يشعر والجنون في معناه بل أولى لأن مدته تطول فيكون وجود الاحتلام فيه أكثر ولا يجب الغسل لذلك حكاه ابن المنذر إجماعا وذكر أبو الخطاب فيه روايتين (إحداهما) يجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله (والثانية) لا يجب وهي أصح لأن زوال العقل بنفسه ليس موجبا للغسل والإنزال مشكوك فيه فلا يزول عن

(1/211)


اليقين بالشك فإن تيقن منهما الإنزال فعليهما الغسل لأنه من جملة الواجبات (السابع) غسل المستحاضة لكل صلاة مستحب.
لما روى أبو داود أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة وقد ذهب بعض أهل
العلم إلى وجوبه لما ذكرنا من الحديث وسنذكره في موضعه إن شاء الله، وذكر ابن أبي موسى أن انقطاع دم الاستحاضة يوجب الغسل.
(الثامن) الغسل للإحرام وهو مستحب لما روى زيد بن ثابت أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل، رواه الترمذي، وقال حديث حسن (التاسع) دخول مكة (العاشر) الوقوف بعرفة (الحادي عشر) المبيت بمزدلفة (الثاني عشر) رمي الجمار (الثالث عشر) الطواف وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى، وقد روى البخاري عن ابن عمر أنه كان يغتسل ثم يدخل مكة نهارا ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله وروي الغسل للوقوف بعرفة عن علي وعبد الله بن مسعود واستحبه الشافعي، وروي عن ابن عمر أنه كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ولدخوله مكة ولوقوفه عشية عرفة رواه مالك في الموطأ ولانها انساك تجتمع لها الناس فاستحب لها الغسل كالإحرام ودخول مكة والله أعلم.
(فصل) ولا يستحب الغسل من الحجامة وذكر ابن عقيل في استحبابه روايتين (إحداهما) يستحب

(1/212)


لأنه يروي عن علي وابن عباس ومجاهد انهم كانوا يفعلون ذلك (والثانية) لا يستحب لأنه دم خارج أشبه الرعاف والله أعلم (فصل في صفة الغسل) وهو ضربان: كامل ومجزئ فالكامل يأتي فيه بعشرة أشياء: النية والتسمية وغسل يديه ثلاثا وغسل ما به من أذى وقد ذكرنا الدليل على ذلك والوضوء ويحثي على رأسه ثلاثا يروي بها أصول الشعر ويفيض الماء على سائر جسده ثلاثا ويبدأ بشقه الأيمن ويدلك بدنه بيديه وينتقل من موضع غسله فيغسل قدميه.
ويستحب أن يخلل أصول شعر رأسه ولحيته بماء قبل إفاضته عليه، ووجه ذلك ما روت عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غتسل من الجنابة غسل يديه ثلاثا وتوضأ وضوءه للصلاة ثم يخلل شعره بيده حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ثم غسل سائر جسده، متفق عليه.
وقالت ميمونة: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوء الجنابة فأفرغ على يديه
فغسلهما مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره ثم ضرب بيده الأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثا ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه ثم أفاض على رأسه ثم غسل جسده فأتيته بالمنديل فلم يردها وجعل ينفض الماء بيديه متفق عليه، وفي رواية للبخاري: ثم تنحى فغسل قدميه، ففي هذين الحديثين كثير من الخصال المسماة.
والبداية بشقه الأيمن لأنه قد روي في حديث عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشئ نحو الحلاب فأخذ بكفيه بدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه، متفق عليه، وقد اختلف عن أحمد في غسل الرجلين فقال في رواية بعد الوضوء على حديث ميمونة وقال في رواية العمل على حديث

(1/213)


عائشة وفيه أنه توضأ للصلاة قبل اغتساله وقال في موضع غسل رجليه في موضعه، وبعده وقبله سواء ولعله ذهب إلى أن اختلاف الأحاديث فيه يدل على أن موضع الغسل ليس بمقصود وإنما المقصود أصل الغسل (مسألة) قال (مجزئ) وهو أن يغسل ما به من أذى وينوي ويعم بدنه بالغسل مثل أن ينغمس في ماء راكد أو جار غامر أو يقف تحت صوب المطر أو ميزاب حتى يعم الماء جميع جسده فيجزئه لقوله تعالى (وإن كنتم جنبا فاطهروا) وقوله (حتى تغتسلوا) وقد حصل الغسل فتباح له الصلاة لأن الله تعالى جعل الغسل غاية للمنع من الصلاة فتقتضي أن لا يمنع منها بعد الاغتسال (فصل) ويستحب إمرار يده على جسده في الغسل والوضوء ولا يجب إذا تيقن أو غلب على ظنه وصول الماء إلى جميع جسده وهذا قول الحسن والنخعي والشعبي والثوري والشافعي واسحاق

(1/214)


وأصحاب الرأي.
وقال مالك إمرار يده على بدنه إلى حيث تنال واجب.
ونحوه قال أبو العالية قالوا لأن الله تعالى قال (حتى تغتسلوا) ولا يقال اغتسل إلا لمن دلك نفسه ولأنها طهارة عن حدث فوجب فيها إمرار اليد كالتيمم ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة في غسل الجنابة " إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث
حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين " رواه مسلم ولأنه غسل واجب فلم يجب فيه إمرار اليد

(1/215)


كغسل النجاسة وما ذكروه ممنوع فإنه يقال غسل الإناء وإن لم يدلكه والتيمم أمرنا فيه بالمسح لأنها طهارة بالتراب ويتعذر في الغالب إمرارا التراب إلا باليد (فصل) ولا يجب الترتيب في غسل الجنابة لأن الله تعالى قال (وإن كنتم جنبا فاطهروا) وقال (حتى تغتسلوا) فكيفما اغتسل فقد حصل التطهير ولا نعلم في هذا خلافاً ولا تجب فيه موالاة نص عليه أحمد.
قال حنبل سألت أحمد عمن اغتسل وعليه خاتم ضيق؟ قال يغسل موضع الخاتم قلت فإن جف غسله؟ قال يغسله ليس هو بمنزلة الوضوء.
قلت فإن صلى ثم ذكر؟ قال يغسل موضعه ثم يعيد الصلاة وهذا قول أكثر أهل العلم.
وقال ربيعة من تعمد ذلك أعاد الغسل وهو قول الليث واختلف فيه عن مالك، وفيه وجه لأصحاب الشافعي قياساً على الوضوء، وذكر الشيخ أبو الفرج في الإيضاح أنه شرط، والأولى قول الجمهور لأنها طهارة لا ترتيب فيها فلم تجب فيها موالاة كغسل النجاسة فعلى هذا نكون

(1/216)


واجبات الغسل شيئين.
النية وتعميم البدن بالغسل وقد ذكرنا الاختلاف في التسمية فيما مضى (فصل) وإن اجتمع شيئان يوجبان الغسل كالحيض والجنابة والتقاء الختانين والإنزال فنواهما بغسلة أجزأه عنهما وهو قول أكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن الحسن والنخعي في الحائض والجنب تغتسل غسلين ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغتسل من الجماع إلا واحدا وهو يتضمن التقاء الختانين والإنزال غالبا ولأنهما سببان يوجبان الغسل فأجزأ الغسل الواحد عنهما كالحدث والنجاسة، وهكذا الحكم إن اجتمعت أحداث توجب الطهارة الصغرى كالنوم واللمس وخروج النجاسة فنواها بطهارته وإن نوى أحدها ففيه وجهان مضى ذكرهما (فصل) إذا بقيت لمعة من جسده لم يصبها الماء فمسحها بيده أو بشعره أو عصر شعره عليها فقد اختلفت الرواية فيه عن احمد.
فروى أنه سئل عن حديث العلاء بن زياد أن النبي صلى الله عليه وسلم
اغتسل فرأى لمعة لم يصبها الماء فدلكها بشعره قال نعم أخذ به، وروي علي قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني اغتسلت من الجنابة وصليت الفجر ثم أصبحت فرأيت قدر موضع الظفر لم يصبه ماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو كنت مسحت عليه بيدك أجزأك " رواه ابن ماجه وروى عن أحمد أنه قال يأخذ لها ماءا جديدا فيه حديث لا يثبت يعصر شعره.
وذكر له حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم عصر لمته على لمعة كانت في جسده فضعفه ولم يصححه.
قال

(1/217)


شيخنا والصحيح أن ذلك يجزئه إذا كان من بلل الغسلة الثانية أو الثالثة وجرى ماؤها على اللمعة لأنه كغسلها بماء جديد على ما فيه من الأحاديث، فإن لم يجر الماء فالأولى غسلها بماء جديد.
ويمكن حمل المسح على الغسل الخفيف في الحديث فإن الغسل الخفيف يسمى مسحا وإن عصر شعره في الغسلة الأولى انبنى على المستعمل في رفع الحدث على ما مضى (فصل) ولا يجب على المرأة نقض شعرها لغسلها من الجنابة رواية واحدة إذا روت أصوله ولا نعلم في هذا خلافاً إلا أنه روي عن ابن عمرو أنه كان يأمر النساء بذلك وهو قول النخعي ولا نعلم احدا وافقهما على ذلك.
ووجه الأول ما روت ام سلمة أنها قالت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للجنابة؟ قال " لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين " رواه مسلم، وعن عبيد بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤسهن فقالت يا عجبي لابن عمرو هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤسهن أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤسهن لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات.
رواه مسلم إلا أن يكون في رأس المرأة حشو أو سدر يمنع وصول الماء إلى ما تحته فتجب إزالته، وإن كان خفيفاً لا يمنع لم تجب (فصل) فأما غسل الحيض فنص أحمد على أنها تنقض شعرها فيه، قال مهنا سألت أحمد عن

(1/218)


المرأة تنقض شعرها من الحيض قال نعم فقلت له كيف تنقضه من الحيض ولا تنقضه من الجنابة؟ فقال
حديث أسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " تنقضه " واختلف فيه أصحابنا فمنهم من أوجبه وهو قول الحسن وطاوس لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها إذ كانت حائضا " خذي ماءك وسدرك وامتشطي " ولا يكون المشط إلا في شعر غير مضفور.
وللبخاري " انقضي رأسك وامتشطي " ولأن الأصل وجوب نقض الشعر ليتيقن وصول الماء إلى ما تحته فعفي عنه في غسل الجنابة لأنه يكثر فيشق ذلك بخلاف الحيض.
وقال بعض أصحابنا هو مستحب غير واجب.
روى ذلك عن عائشة وأم سلمة وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأكثر العلماء وهو الصحيح لأن في بعض ألفاظ حديث أم سلمة أفأنقضه للحيضة والجنابة قال لا؟ رواه مسلم.
وهذه زيادة يجب قبولها وهذا صريح في نفي الوجوب فأما حديث عائشة الذي رواه البخاري فليس فيه أمر بالغسل.
ولو كان فيه أمر لم يكن فيه حجة لأن ذلك ليس هو غسل الحيض إنما أمرت بالغسل في حال الحيض للإحرام بالحج ولو ثبت الأمر بالغسل حمل على الاستحباب جمعاً بين الحديثين ولأن ما فيه يدل على الاستحباب وهو المشط والسدر وليس بواجب فما هو من ضرورته أولى (فصل) ويجب غسل بشرة الرأس كثيفا كان الشعر أو خفيفا وكذلك كل ما تحت الشعر كجلد اللحية لما روت أسماء قالت سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل الجنابة فقال " تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور.
ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى يبلغ شؤون رأسها ثم تفيض

(1/219)


عليه الماء رواه مسلم.
وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء فعل به من النار كذا وكذا " قال علي فمن ثم عاديت شعري قال وكان يجز شعره رواه أبو داود (فصل) فأما غسل ما استرسل من الشعر وبل ما على الجسد منه ففيه وجهان (أحدهما) يجب وهو ظاهر قول أصحابنا ومذهب الشافعي لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة " رواه أبو داود ولأنه شعر نابت في محل الفرض فوجب غسله كشعر الحاجبين (والثاني) لا يجب وهو قول أبي حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات " مع إخبارها إياه بشد ضفر رأسها ومثل هذا لا يبل الشعر المشدود ضفره في العادة
ولو وجب غسله لوجب نقضه ليعلم أن الماء قد وصل إليه ولأن الشعر ليس من الحيوان بدليل أنه لا ينقض مسه من المرأة.
ولا تطلق بإيقاع الطلاق عليه فلم يجب غسله كثوبها.
وأما حديث " بلوا الشعر " فيرويه الحارث بن وجيه وحده وهو ضعيف الحديث عن مالك بن دينار: والحاجبان إنما وجب غسلهما من ضرورة غسل بشرتهما وكذلك كل شعر لا يمكن غسل بشرته إلا بغسله لأنه من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به.
فإن قلنا بوجوب غسله فترك غسل شئ منه لم يتم غسله فإن قطع المتروك ثم غسله أجزأه لأنه لم يبق في بدنه شئ غير مغسول ولو غسله ثم تقطع لم يجب غسل موضع القطع كما لو قص أظفاره بعد الوضوء

(1/220)


(فصل) وغسل الحيض كغسل الجنابة إلا أنه يستحب أن يغتسل بماء وسدر وتأخذ فرصة ممسكة فتتبع بها مجرى الدم والموضع الذي يصل إليه الماء من فرجها ليزول عنها زفورة الدم فإن لم تجد مسكا فغيره من الطيب فإن لم تجد فالماء كاف لأن في حديث أسماء " تأخذ إحداكن سدرتها وماءها فتطهر فتحسن الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا حتى تبلغ شؤون رأسها ثم تصب عليه الماء ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها " قالت أسماء وكيف تطهر بها؟ فقال " سبحان الله تطهرين بها " فقالت عائشة تتبعين بها أثر الدم، رواه مسلم - الفرصة هي القطعة من كل شئ والمسك الأذفر الخالص (مسألة) قال (ويتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع فإن سبغ بدونهما أجزأه) المد رطل وثلث بالعراقي والصاع أربعة أمداد وهو خمسة أرطال وثلث وهو برطل الدمشقي الذي هو ستمائة درهم رطل وسبع والمد ربعه وهو ثلاث أواق وثلاثة أسباع أوقية، ورطل العراقي مائة درهم وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم وذلك تسعون مثقالاً والمثقال درهم وثلاثة أسباع ولا خلاف في حصول الإجزاء بالمد في الوضوء والصاع في الغسل فيما علمنا وذلك لما روى أنس قال: كان

(1/221)


رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، متفق عليه، وعن سفينة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسله الصاع من الماء من الجنابة ويوضئه المد، رواه مسلم، وفي حديث جابر أنه سئل عن غسل الجنابة فقال يكفيك صاع فقال رجل ما يكفيني فقال جابر كان يكفي من هو أوفى منك شعراً
وخيراً منك - يعني النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه، والصاع والمد ما ذكرنا وهذا قول مالك والشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي يوسف، وقال أبو حنيفة الصاع ثمانية أرطال والمد رطلان لان أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد وهو رطلان ويغتسل بالصاع ولنا ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة " اطعم ستة مساكين فرقا من طعام " متفق عليه، قال أبو عبيد: لا إختلاف بين الناس أعلمه في أن الفرق ثلاثة آصع والفرق ستة عشر رطلاً، فثبت أن الصاع خمسة أرطال وثلث، وروي أن أبا يوسف دخل المدينة فسألهم عن الصاع فقالوا خمسة أرطال وثلث فطالبهم بالحجة فقالوا غدافجاء من الغد سبعون شيخاً كل منهم أخذ صاعاً تحت ردائه فقال صاعي ورثته من أبي عن جدي حتى انتهوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرجع أبو يوسف عن قوله، وهذا تواتر يحصل به القطع، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المكيال مكيال أهل المدينة " وحديثهم تفرد به موسى بن نصر وهو ضعيف الحديث قاله الدارقطني (فصل) فإن أسبغ بدونهما أجزأه - معنى الإسباغ أن يعم جميع الأعضاء بالماء بحيث يجري عليها

(1/222)


لأن هذا هو الغسل وقد أمرنا بالغسل نص عليه أحمد.
وهذا مذهب الشافعي وأكثر أهل العلم وقد قيل لا يجزئ في الغسل دون الصاع ولا في الوضوء دون المد، وحكي ذلك عن أبي حنيفة لأن جابراً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجزئ من الوضوء مد ومن الجنابة صاع " والتقدير بهذا يدل على أنه لا يحصل الأجزاء بدونه ولنا أن الله تعالى أمر بالغسل وقد أتى به، وقد روي عن عائشة أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريباً من ذلك رواه مسلم.
وعن عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بثلثي مد وحديثهم إنما يدل بمفهومه وهم لا يقولون به وإن ذكروه على وجه الإلزام فما ذكرناه منطوق وهو راجح عليه، وقد روي عن سعيد بن المسيب قال إن لي ركوة أو قدحاً ما يسع إلا نصف المد أو نحوه ثم أبول ثم أتوضأ وأفضل منه فضلاً.
قال عبد الرحمن فذكرت هذا الحديث لسليمان بن يسار فقال سليمان وأنا يكفيني مثل ذلك فذكرت ذلك لابي عبيدة بن عمار بن ياسر فقال أبو عبيدة وهكذا سمعنا

(1/223)


من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إبراهيم النخعي أني لأتوضأ من كوز الحب مرتين (فصل) فإذا زاد على المد في الوضوء على الصاع في الغسل جاز فإن عائشة قالت كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من قدح يقال له الفرق - والفرق ثلاثة آصع وقال أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد متفق عليه.
وعن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالماء يسع رطلين رواه أبو داود.
ويكره الإسراف في الماء والزيادة الكثيرة فيه لما روينا من الآثار، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال " ما هذا السرف؟ " فقال أفي الوضوء إسراف؟ قال " نعم وإن كنت على نهر جار " رواه ابن ماجه.
وعن أبي كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن للوضوء شيطاناً يقال له ولهان فاتقوا وسواس الماء " رواه أحمد وابن ماجة (مسألة) (وإذا اغتسل ينوي الطهارتين أجزأ عنهما وعنه لا يجزئه حتى يتوضأ) ظاهر المذهب أنه يجزئه الغسل عن الطهارتين إذا نواهما نص عليه أحمد وعنه لا يجزئه حتى يتوضأ قبل الغسل أو بعده وهو أحد قولي الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ولأن الجنابة والحدث وجد منه فوجب لهما الطهارتان كما لو كانا منفردين

(1/224)


ووجه الاولى قوله تعالى (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى - إلى قوله - ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) جعل الغسل غاية للمنع من الصلاة فإذا اغتسل يجب أن لا يمنع منها ولأنهما عبادتان من جنس فدخلت الصغرى في الكبرى في الأفعال دون النية كالحج والعمرة قال ابن عبد البر المغتسل من الجنابة إذا لم يتوضأ وعم جميع بدنه فقد أدى ما عليه لأن الله تعالى إنما افترض على الجنب الغسل من الجنابة دون الوضوء بقوله (وإن كنتم جنبا فاطهروا) وهو إجماع لا خلاف فيه بين العلماء إلا أنهم أجمعوا على استحباب الوضوء قبل الغسل تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتوضأ بعد الغسل من الجنابة رواه الإمام أحمد والترمذي
(فصل) وإن لم ينو الوضوء لم يجزه إلا عن الغسل لقوله عليه السلام " وإنما لأمرئ ما نوى " فإن نواهما أحدث في أثناء غسله أتم غسله ثم يتوضأ، وقال الحسن يستأنف الغسل ولا يصح لأن الحدث الأصغر لا ينافي الغسل فل يؤثر وجوده فيه كغير الحدث

(1/225)


(فصل) ويسقط الترتيب والموالاة في أعضاء الوضوء إذا قلنا الغسل يجزئ عنهما لأنهما عبادتان دخلت إحداهما في الأخرى فسقط حكم الصغرى كالعمرة مع الحج نص عليه أحمد: فلو اغتسل إلا أعضاء الوضوء لم يجب الترتيب فيها لأن حكم الجنابة باق وقال ابن عقيل والآمدي فيمن غسل جميع بدنه إلا رجليه ثم أحدث يجب الترتيب في الأعضاء الثلاثة لانفرادها في الحدث الأصغر دون الرجلين لاجتماع الحدثين فيهما، ويعايابها فيقال طهارة يجب الترتيب في بعضها ولا يجب في البعض (مسألة) (ويستحب للجنب إذا أراد النوم أو الأكل أو الوطئ ثانياً أن يغسل فرجه ويتوضأ) وروي ذلك عن علي وعبد الله بن عمر وكان ابن عمر يتوضأ إلا غسل قدميه وقال ابن المسيب إذا أراد أن يأكل يغسل كفيه ويتمضمض.
وحكي نحوه عن امامنا واسحاق وأصحاب الرأي.
وقال مجاهد يغسل كفيه لما روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل وهو جنب غسل يديه رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة.
وقال مالك يغسل يديه إن كان أصابهما أذى.
وقال ابن المسيب وأصحاب الرأي ينام ولا يمس ماء لما روت عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام

(1/226)


وهو جنب ولا يمس ماء رواه أبو داود وابن ماجة ولنا أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال " نعم إذا توضأ فليرقد " متفق عليه، وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ " رواه مسلم.
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل أو ينام توضأ يعني وهو جنب رواه أبو داود.
فأما أحاديثهم فأحاديثنا أصح ويمكن الجمع بينها يحملها على الجواز وحمل أحاديثنا على الاستحباب (فصل) وإذا غمست الحائض أو الجنب أو الكافر أيديهم في الماء فهو طاهر ما لم يكن على
أيديهم نجاسة لأن أبدانهم طاهرة وهذه الأحداث لا تقتضي تنجيس الماء قال إبن المنذر اجمع عوام أهل العلم على أن عرق الجنب طاهر يروي ذلك عن عائشة وابن عباس وابن عمر وهو قول مالك والشافعي ولا نعلم عن غيرهم خلافاً، وقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة قال فانخنست منه فذهبت فاغتسلت ثم جئت فقال " أين كنت يا أبا هريرة " قال يا رسول الله كنت جنباً فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة فقال " سبحان الله إن المؤمن لا ينجس " متفق عليه وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمت إليه امرأة من نسائه قصعة ليتوضأ منها فقالت امرأة إني غمست يدي فيها وأنا جنب فقال " الماء لا يجنب " وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب من سؤر عائشة

(1/227)


وهي حائض وتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم من مزادة مشركة متفق عليه، وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم يهودياً أضافه يخبز وإهالة سنخة.
قال شيخنا ويتخرج التفريق بين الكتابي الذي لا يأكل الميتة والخنزير وبين غيره ممن يأكل ذلك ومن لا تحل ذبيحتهم كقولنا في آنيتهم وقد ذكرناه (فصل) فأما طهورية الماء فإن الحائض والكافر لا يؤثر غمسهما أيديهما في الماء لأن حدثهما لا يرتفع وأما الجنب فإن لم ينو بغمس يده في الماء رفع الحدث عنها فكذلك بدليل حديث المرأة التي قالت غمست يدي في الماء وأنا جنب فقال النبي صلى الله عليه وسلم " الماء لا يجنب " ولأن الحدث لا يرتفع من غير نية أشبه غمس الحائض، وإن نوت رفع حدثها فحكم الماء حكم مالو اغتسل الجنب فيه للجنابة كذا ذكره شيخنا وفي هذا نظر.
فإنهم قد قالوا إن الماء المستعمل إذا اختلط بالماء الطهور إنما يؤثر فيه إذا كان بحيث لو كان مائعاً آخر غيره.
والمنفصل عن اليد ههنا يسير فينبغي إذا كان الماء كثيراً بحيث لا يؤثر فيه المنفصل عن غسل اليد لو غسلت منفردة بماء ثم صب فيه أن لا يؤثر ههنا لأنه في معناه، وإن كان الماء يسيراً بحيث يغلب على الظن أن قدر المنفصل عن اليد يؤثر فيه لو غسلت منفردة ثم صب فيه أثر ههنا وقد روي عن أحمد ما يدل على هذا فإنه سئل عن جنب وضع له ماء فأدخل يده ينظر حره من برده؟ قال إن كان إصبعا فارجو أن لا يكون به بأس وإن كانت اليد أجمع فكأنه كرهه

(1/228)


(فصل) قال بعض أصحابنا إذا نوى رفع الحدث ثم غمس يده في الماء ليغرف بها صار الماء مستعملاً.
قال شيخنا والصحيح إن شاء الله ان ذلك لا يؤثر لأن قصد الاغتراف منع قصد غسلها على ما بيناه في المتوضئ إذا اغترف من الإناء لغسل يديه بعد وجهه، وإن انقطع حيض المرأة فهي قبل الغسل كالجنب فيما ذكرنا من التفصيل.
وقد اختلف عن أحمد في هذا فقال في موضع في الجنب والحائض يغمس يديه في الإناء إذا كانا نظيفين فلا بأس به، وقال في موضع كنت لا أرى به بأساً ثم حدثت عن شعبة عن محارب بن دثار عن ابن عمر وكأني تهيبته، وسئل عن جنب وضع له ماء فوضع يده فيه ينظر حرمه من برده فقال إن كان إصبعا فارجو أن لا يكون به بأس وإن كانت اليد أجمع فكأنه كرهه وسئل عن الرجل يدخل الحمام وليس معه ما يصب به الماء على يده ترى له أن يأخذ بفيه؟ فقال لا يده وفمه واحد وقياس المذهب ما ذكرنا وكلام أحمد محمول على الكراهة لما فيه من الخلاف، وقال أبو يوسف إن أدخل الجنب يده في الماء لم يفسد وإن أدخل رجله فسد لأن الجنب نجس فعفي عن يده لموضع الحاجة وكره النخعي الوضوء بسؤر الحائض، وأكثر أهل العلم لا يرون به بأسا منهم الحسن ومجاهد والزهري ومالك والاوزاعي والثوري والشافعي.
وقد دللنا على طهارة الجنب والحائض، والتفريق بين اليد والرجل لا يصح لاستوائهما فيما إذا أصابتهما نجاسة كذلك في الجنابة قال شيخنا ويحتمل أن نقول به لأن اليد يراد بها الاغتراف وقصده هو المانع من جعل الماء مستعملاً وهذا لا يوجد في الرجل فيؤثر غمسها في الماء والله أعلم

(1/229)


(فصول في الحمام) بناء الحمام وكراؤه وبيعه وشراؤه مكروه عند أبي عبد الله فإنه قال في الذي يبني حماماً للنساء ليس بعدل وإنما كرهه لما فيه من كشف العورة والنظر إليها ودخول النساء إليه (فصل) فأما دخول الحمام فإن دخل رجل وكان يسلم من النظر إلى عورات الناس ونظرهم إلى عورته فلا بأس به فإنه يروى أن ابن عباس دخل حماماً بالجحفة، ويروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الحسن وابن سيرين يدخلان الحمام رواه الخلال.
وإن خشي أن لا يسلم من ذلك كره له لأنه
لا يأمن وقوعه في المحظور وهو النظر إلى عورات الناس ونظرهم إلى عورته وهو محرم بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة " وقوله عليه السلام " لا تمشوا عراة " رواهما مسلم.
قال أحمد: إن علمت أن كل من في الحمام عليه إزار فأدخله وإلا فلا تدخل

(1/230)


(فصل) فأما النساء فليس لهن دخوله مع ما ذكرنا من الستر إلا لعذر من حيض أو نفاس أو مرض أو حاجة إلى الغسل ولا يمكنها أن تغتسل في بيتها لتعذر ذلك عليها أو خوفها من مرض أو ضرر فيباح لها إذا سترت عورتها وغضت بصرها ولا يجوز من غير عذر لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ستفتح أرض العجم وستجدون فيها حمامات فامنعوا نسائكم إلا حائضا أو نفساء " وروي أن عائشة دخل عليها نساء من أهل حمص فقالت لعلكن من النساء اللاتي يدخلن الحمامات سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن المرأة إذا خلعت ثيابها في غير بيت زوجها هتكت سترها بينها وبين الله تعالى " رواهما ابن ماجة (فصل) ومن اغتسل عرياناً بين الناس لم يجز لما ذكرنا وإن كان وحده جاز لأن موسى عليه السلام اغتسل عرياناً وأيوب اغتسل عرياناً رواهما البخاري، وإن ستره الإنسان بثوب فلا بأس فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستر بثوب ويغتسل متفق عليه، ويستحب التستر وإن كان خالياً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " فالله أحق أن يستحيي منه من الناس " وقد قال أحمد لا يعجبني أن يدخل الماء إلا مستتراً أن للماء سكانا لأنه يروي عن الحسن والحسين أنهما دخلا الماء وعليهما بردان

(1/231)


فقيل لهما في ذلك فقالا: إن للماء سكاناً ولأن الماء لا يستر فتبدو عورة من دخله عرياناً والله أعلم (فصل) ويجزئه الوضوء والغسل من ماء الحمام قال أحمد لا بأس بالوضوء من ماء الحمام وذلك لأن الأصل الطهارة وروى عن أحمد أنه قال لا بأس أن يأخذ من الأنبوبة وهذا على سبيل الاحتياط ولو لم يفعله جاز لأن الأصل الطهارة، وقد قال أحمد ماء لاحمام عندي طاهر وهو بمنزلة الماء الجاري، وهل يكره استعماله؟ فيه وجهان (أحدهما) يكره لأنه يباشره من يتحرى ومن لا يتحرى وحكاه ابن عقيل رواية
عن أحمد وقد روى الأثرم عن أحمد.
قال منهم من يشدد فيه ومنهم من يقول هو بمنزلة الماء الجاري (والثاني) لا يكره لكون الأصل طهارته فهو كالماء الذي شككنا في نجاسته والله أعلم (قال شيخنا) وقوله هو بمنزلة الماء الجاري فيه دليل على أن الماء الجاري لا ينجس إلا بالتغيير لأنه لو تنجس بمجرد لملاقاة لم يكن لكونه جارياً أثر وإنما جعله بمنزلة الماء الجاري إذا كان الماء يفيض من الحوض ويخرج فإن الذي يأتي أخيراً يدفع ما في الحوض ويثبت مكانه بدليل أنه لو كان ما في الحوض كدراً وتتابعت عليه دفع من الماء صافياً لزالت كدورته (فصل) ولا بأس بذكر الله في الحمام فإن ذكره سبحانه حسن في كل مكان ما لم يرد المنع منه وقد روي أن أبا هريرة دخل الحمام فقال: لا إله إلا الله وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه رواه مسلم.
فأما قراءة القرآن فيه فكرهها أبو وائل والشعبي والحسن ومكحول وحكاه ابن عقيل عن علي وابن عمر لانه كحل للتكشف ويفعل فيه ما لا يحسن في غيره فاستحب صيانة القرآن عنه ولم يكرهه النخعي ومالك لأنا لا نعلم حجة توجب الكراهة، فإما رد السلام فقال أحمد ما سمعت فيه شيئا.
وقال ابن عقيل يكره.
والأولى جوازه من غير كراهة لعموم قوله عليه السلام " أفشوا السلام بينكم " ولأنه لم يرد فيه نص والأشياء على الإباحة والله أعلم

(1/232)