الشرح
الكبير على متن المقنع باب إزالة النجاسة (لا تجوز إزالتها بغير
الماء) في المصهور من المذهب وبه قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن وزفر
(وروى عن أحمد ما يدل على أنها تزال بكل مائع طاهر مزيل للعين والأثر كالخل
وماء الورد وماء الشجر ونحوه) وهو قول أبي حنيفة لأن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً متفق عليه أطلق
الغسل فتقييده بالماء يحتاج إلى دليل ولانه مائع طاهر مزيل فجازت إزالة
النجاسة به كالماء ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لاسماء " إذا أصاب
إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ثم لتنضحه
(1/283)
بماء ثم لتصل به " متفق عليه.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذنوب من ماء فأهريق على بول
الأعرابي وهذا أمر يقتضي الوجوب ولأنها إحدى الطهارتين المشترطة للصلاة
فأشبهت طهارة الحدث ومطلق حديثهم مقيد بحديثنا والماء مختص بإحدى الطهارتين
فكذلك الاخرى فأما ما لا يزيل كالمرق واللبن والدهن ونحوه فلا خلاف في أن
النجاسة لا تزال به والله أعلم (مسألة) (ويجب غسل نجاسة الكلب والخنزير
سبعاً إحداهن بالتراب) لا يختلف المذهب في نجاسة الكلب والخنزير وما تولد
منهما أنه نجس عينه وسؤره وعرقه وكل ما خرج منه روى ذلك عن عروة وهو قول
الشافعي وأبي عبيدة وبه قال أبو حنيفة في السؤر.
وقال مالك والاوزاعي وداود سؤرهما طاهر يتوضأ منه وان ولغ في طعام لم يحرم
أكله، وقال الزهري يتوضأ منه إذا لم يجد غيره.
وقال عبدة بن أبي لبابة والثوري وابن الماجشون يتوضأ ويتيمم قال مالك ويغسل
الإناء الذي ولغ فيه الكلب تعبداً، واحتج مبعضهم على طهارته بأن الله تعالى
قال (فكلوا مما أمسكن عليكم) ولم يأمر بغسل أثر فمه وروى أبو سعيد أن النبي
صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع
والكلاب والحمر وعن الطهارة بها فقال " لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر
طهور " رواه ابن ماجه ولأنه حيوان يجوز اقتناؤه ويشق الاحتراز منه فكان
طاهراً كالهر ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا
ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً " متفق عليه ولمسلم " فليرقه ثم
لغسله سبع مرارا " ولو كان سؤره طاهراً لم تجز إراقته ولا وجب غسله فانه
قالوا إنما وجب غسله تعبداً كما تغسل أعصاء الوضوء وتغسل اليد من نوم
الليل.
قلنا الأصل وجوب الغسل عن النجاسة كما في سائر الغسل: ثم لو كان تعبداً لما
أمر بإراقة الماء ولما اختص الغسل
(1/284)
بموضع الولوغ لعموم اللفظ في الإناء كله
وأما غسل اليد من نوم الليل فإنما أمر به للإحتياط لاحتمال النجاسة والوضوء
شرع للوضاءة والنظافة ليكون العبد في حال قيامه بين يدي الله تعالى على
أحسن حال وأكملها ثم إن سلمنا ذلك فإنما عهدنا التعبد في غسل البدن أما
الآنية والثياب فإنما يجب غسلها من النجاسات وقد روي في لفظ " طهور إناء
أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعاً " أخرجه أبو داود ولا يكون الطهور
إلا في محل الطهارة، وقولهم أن الله تعالى أمر بأكل ما أمسكه الكلب قبل
غسله
قلنا الله تعالى أمر بأكله ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بغسله فيعمل
بأمرهما، وإن سلمنا أنه لا يجب غسله فلأنه يشق فعفي عنه، وحديثهم قضية في
عين يحتمل أن الماء المسئول عنه كان كثيراً ولذلك قال في موضع آخر حين سئل
عن الماء وما ينويه من السباع فقال " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث "
ولان لنا رواية أن الماء لا ينجس إلا بالتغيير فلذلك لا ينجس الماء شربها
منه وقياسهم على الهر في معارضة النص لا يصح.
والفرق بينهما أن الكلب يأكل النجاسات عادة بخلاف الهر والله أعلم.
وإذا ثبتت نجاسة الكلب ثبتت نجاسة الخنزير بطريق التنبيه لأنه شر منه وقد
نص الشارع على تحريمه فكان تنجيسه أولى، إذا ثبت هذا فإنه يجب غسلها إذا
كانت على غير الأرض سبعاً
(1/285)
إحداهن بالتراب، وممن قال يغسل سبع مرات
أبو هريرة وابن عباس وعروة وطاوس وعمرو بن دينار والاوزاعي والشافعي واسحاق
وأبو عبيد وابن المنذر وقال الزهري يغسل ثلاث مرات وقال عطاء كل قد سمعت
ثلاثاً وخمسا وسبعاً، وعن أحمد أنه يجب غسلها ثمانية إحداهن بالتراب وهو
رواية عن الحسن لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا ولغ الكلب في
الإناء فاغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب " رواه مسلم، ووجه الرواية
الأولى ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اذا ولغ الكلب
في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهن بالتراب " رواه مسلم وهذه الرواية أصح
ويحمل هذا الحديث على أنه عد التراب ثامنة لكونه جنساً آخر جمعا بين
الخبرين.
وقال أبو حنيفة لا يجب العدد في شئ من النجاسات إنما يغسل حتى يغلب على
الظن نقاؤه من النجاسة لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في
الكلب يلغ في الإناء " يغسل ثلاثا أو خمسا أو سبعاً " فلم يعين عدداً،
ولأنها نجاسة فلم يجب فيها العدد كما لو كانت على الأرض ولنا ما ذكرنا من
الحديثين وحديثهم يرويه عبد الوهاب بن الضحاك وهو ضعيف فلا يعارض حديثنا
وقد روى غيره من الثقاة " فليغسله سبعاً " وعلى أنه يحتمل الشك من الراوي
فينبغي أن يتوقف فيه والأرض سومح في غسلها للمشقة بخلاف غيرها (مسألة) (فإن
جعل مكانه أشناناً أو نحوه فعلى وجهين) يعني أن جعل مكان التراب في غسل
نجاسة الكلب غيره من الأشنان والصابون والنخالة ففيه وجهان (أحدهما) لا
يجزئه طهارة أمر فيها
(1/286)
بالتراب فلم يقم غيره مقامه كالتيمم ولأن
الأمر به تعبد فلا يقاس عليه (والثاني) يجزئه لأن هذه الأشياء أبلغ من
التراب في الإزالة فنصه على الترب تنبيه عليها ولأنه جامد أمر به في إزالة
النجاسة فألحق به ما يماثله كالحجر في الأستجمار، وقال ابن حامد إنما يجوز
العدول إلى غير التراب عند عدمه أو فساد المخل المغسول به فأما مع وجوده
وعدم الضرر فلا.
فإن جعل مكانه غسلة ثامنة فقال بعض أصحابنا فيه وجهان والصحيح أنها لا تقوم
مقام التراب لأنه إن كان القصد به تقوية الماء في الإزالة فذلك لا يحصل من
الثامنة وإن وجب تعبداً أمتنع إبداله والقياس عليه والله أعلم وهذا اختيار
شيخنا (فصل) ولا فرق بين غسل النجاسة من ولوغ الكلب أو يده أو رجله أو شعره
أو غير ذلك من أجزائه قياساً على السؤر ولأن ذلك حكم غيره من الحيوانات
فكذلك الكلب وحكم الخنزير في سؤره وسائر أجزائه حكم الكلب على ما فصلنا
لأنه شر منه وقد نص الشارع على تحريمه وأجمع المسلمون عليه ولا يباح
اقتناؤه بحال فثبت الحكم فيه بطريق الأولى (1) (فصل) وإذا ولغ في الإناء
كلاب أو أصاب المحل نجاسات متساوية في الحكم فهي كنجاسة واحدة وإن كان
بعضها أغلظ كالولوغ مع غيره فالحكم لأغلظها ويدخل فيه ما دونه، ولو غسل
الإناء دون السبع ثم ولغ فيه مرة أخرى فغسله سبعاً أجزأه لأنه إذا أجزأ عما
يماثل فعما دونه أولى (فصل) والمستحب أن يجعل التراب في الغسلة الأولى
لموافقة لفظ الخبر وليأتي الماء بعده
__________
1) الجمهور يمتنعون القياس في هذه المسائل لعدم ثبوت العلة واهل الحديث
أولى بالوقوف فيها عند النص
(1/287)
فينظفه ومتى غسل به أجزأه لأنه روي في حديث
إحداهن وفي حديث أولاهن وفي حديث في الثامنة فيدل على أن محل التراب من
الغسلات غير مقصود (فصل) وإذا غسل محل الولوغ فأصاب ماء بعض الغسلات محلاً
آخر قبل إتمام السبع ففيه وجهان (أحدهما) يجب غسله سبعاً وهو ظاهر كلام
الخرقي واختيار ابن حامد لأنها نجاسة فلا يراعي فيها حكم
المحل الذي إنفصلت عنه كنجاسة الأرض ومحل الاستنجاء (والثاني) يجب غسله من
الأولى ستاً ومن الثانية خمساً كذلك إلى آخره لأنها نجاسة تطهر في محلها
بدون السبع فطهرت به في مثله قياساً عليه وكالنجاسة على الأرض.
وتفارق المنفصل عن الأرض ومحل الاستنجاء لأن العلة في خفتها المحل وقد زالت
عنه فزال التخفيف والعلة في تخفيفها ههنا قصور حكمها بما مر عليها من الغسل
وهذا لازم لها حيثما كانت.
ثم إن كانت قد انفصلت عن محل الغسل بالتراب غسل محلها بغير تراب وإن كانت
الأولى بغير تراب غسلت هذه بالتراب وهذا اختيار القاضي وهو أصح إن شاء الله
تعالى (مسألة) (وفي سائر النجاسات ثلاث روايات (إحداهن) يجب غسلها سبعاً
وهل يشترط التراب على وجهين (والثانية) ثلاثا (والثالثة) تكاثر بالماء من
غير عدد كالنجاسات كلها إذا كانت على الأرض) وجملة ذلك أن في سائر النجاسات
غير نجاسة الكلب والخنزير إذا كانت على غير الأرض ثلاث روايات (إحداهن) يجب
غسلها سبعاً قياساً على نجاسة الكلب والخنزير لما روي عن ابن عمر أنه قال:
أمرنا بغسل الأنجاس سبعاً فينصرف إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم فعلى
هذا هل يشترط التراب؟ فيه وجهان (أحدهما) يجب قياسا على الولوغ وهذا اختيار
الخرقي (والثاني) لا يشترط لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل للدم
وغيره ولم يأمر بالتراب إلا في نجاسة الكلب فوجب أن يقتصر عليه
(1/288)
ولأن الأمر بالتراب إن كان تعبداً وجب قصره
على محله وإن كان لمعنى في نجاسة الولوغ من اللزوجة التي لا تنقلع إلا
بالتراب فلذلك لا يوجد في غيره.
وفي هذا الدليل نظر لأنه غير موجود في نجاسة الكلب غير الولوغ وقد قالوا
بوجوب التراب فيه (والرواية الثانية) يجب غسلها ثلاثا لقول النبي صلى الله
عليه وسلم " إذا قام أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها
ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده " رواه مسلم أمر بغسلها ثلاثاً ليرتفع
وهم النجاسة ولا يرفع وهم النجاسة إلا ما يرفع الحقيقة (والثالثة) تكاثر
بالماء من غير عدد حتى تزول عين النجاسة وهذا مذهب الشافعي لما روى ابن عمر
قال كان غسل الثوب من البول سبع مرات فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم
يسأل حتى جعل غسل الثوب من البول مرة رواه الإمام أحمد وأبو داود ألا إن في
رواته أيوب بن جابر وهو ضعيف ولأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء في الدم " إغسليه بالماء " ولم يذكر
عدداً ولأنها نجاسة فلم يجب فيها العدد كنجاسة الأرض وقد روي أن النجاسة في
محل الاستنجاء تطهر بثلاث وفي غيره بسبع لأن محل الاستنجاء تتكرر النجاسة
فيه فاقتضى ذلك التخفيف ولأنه قد اجتزئ فيها بثلاثة أحجار فأولى أن يجتزأ
فيها بثلاث غسلات لأن الماء أبلغ من الأحجار وفيه (رواية خامسة) (1) إن
العدد لا يجب في نجاسة البدن ويجب في غيرها لأن الأبدان تعم البلوى فيها
بملاقاة النجاسة تارة منها وتارة من غيرها فخفف أمرها لأجل المشقة ذكرها
ابن عقيل وذكر القاضي رواية إن العدد لا يعتبر في غير محل الاستنجاء من
البدن ويجب في محل الاستنجاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعدد
الأحجار فيه ويجب في سائر المحال وقال الخلال هذه الرواية وهم ولم يثبتها
(فصل) وإذا أصابت النجاسة الأجسام الصقيلة كالمرآة ونحوها وجب غسله ولم
يطهر بالمسن
__________
1) ينظر أين الرابعة
(1/289)
لأنه محل لا تنكر فيه النجاسة فلم يجز فيه
المسح كالأواني (فصل) وغسل النجاسة يختلف بإختلاف محلها فإن كان جسماً لا
يتشرب النجاسة كالآنية فغسله بإمرار الماء عليه كل مرة غسلة سواء كان بفعل
الآدمي أولاً مثل أن ينزل عليه ماء المطر أو يجري عليه الماء فكل جرية تمر
عليه غسلة لأن القصد غير معتبر أشبه مالو صبه آدمي بغير قصد وإن وقع في ماء
راكد قليل نجسه ولم يطهر وإن كان كثيراً أعتبر وضعه فيه ومرور الماء على
أجزائه غسلة وإن حركه في الماء بحيث تمر عليه أجزاء غير التي كانت ملاقية
له إحتسب بذلك غسلة ثانية كما لو مرت عليه جريات من الماء الجاري.
وإن كان المغسول إناء فطرح فيه الماء لم يحتسب به غسلة حتى يفرغه منه لانه
العادة في غسله.
فان كان الإناء يسع قلتين فصاعداً فملاه احتمل أن إدارة الماء فيه تجري
مجرى الغسلات لأن أجزاءه تمر عليها جريات من الماء غير التي كانت ملاقية
لها أشبه ما لو مرت عليه جريات من الجاري.
وقال ابن عقيل لا يكون غسلة إلا بتفريغه أيضاً، وإن كان المغسول جسما تدخل
فيه أجزاء النجاسة كالثوب لم يحتسب برفعه من الماء غسلة حتى يعصره وعصر كل
شئ بحسبه فإن كان بساطاً
ثقيلاً أو نحوه فعصره بتقليبه ودقه حتى يذهب أكثر ما فيه من الماء والله
أعلم (فصل) إذا أصاب ثوب المرأة دم حيضها استحب أن تحته بظفرها لتذهب
خشونته ثم تقرصه بريقها ليلين للغسل ثم تغسله بالماء لقول النبي صلى الله
عليه وسلم لأسماء في دم الحيض " حثيه ثم أقرصيه
(1/290)
ثم أغسليه بالماء، وإن اقتصرت على الماء
جاز وإن لم يزل لونه وكانت إزالته تشق أو تتلف الثوب أو تضره لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " ولا يضرك أثره " رواه أبو داود، وإن إستعملت في
إزالته شيئاً يزيله كالملح وغيره فحسن لما روى أبو داود عن امرأة من غفار
أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفها على حقيبة فحاضت قالت فنزلت فإذا بها
دم مني فقال " مالك لعلك نفست؟ " قالت نعم قال " فأصلحي من نفسك ثم خذي
إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم " قال
الخطابي فيه من الفقه جواز إستعمال الملح وهو مطعوم في غسل الثوب وتنقيته
من الدم فعلى هذا يجوز غسل الثياب بالعسل إذا كان الصابون يفسده وبالخل إذا
أصابه الحبر والتدلك بالنخالة وغسل الأيدي بها وبالبطيخ ودقيق الباقلاء
وغيرها من الأشياء التي لها قوة الجلاء.
(فصل) فإن كان في الإناء خمر أو شبهة من النجاسات التي يتشربها الإناء ثم
متى جعل فيها مائع سواه ظهر فيه طعما النجاسة أو لونها لم يطهر بالغسل لأن
الغسل لا يستأصل أجزاء النجاسة من جسم الإناء فلم يطهره كالسمسم الذي ابتل
بالنجاسة، قال الشيخ أبو الفرج المقدسي في المبهج آنية الخمر منها المزفت
فيطهر بالغسل لأن الزفت يمنع وصول النجاسة إلى جسم الإناء ومنها ما ليس
بمزفت فيتشرب أجزاء النجاسة فلا يطهر بالتطهير فإنه متى ترك فيه مائع ظهر
فيه طعمه أو لونه (فصل في تطهير النجاسة على الأرض) متى تنجست الأرض بنجاسة
مائعة أي نجاسة كانت كالبول والخمر ونحوهما فطهورها أن تغمر بالماء بحيث
يذهب لون النجاسة وريحها فإن لم يذهبا لم تطهر لان بقاءهما دليل بقاء
النجاسة، فإن كانت مما لا يزول لونها أو رائحتها إلا بمشقة سقط ذلك كما
قلنا
(1/291)
في الثوب، والدليل على أن الأرض تطهر بذلك
ما روى أنس قال: جاء أعرابي فبال في طائفة من المسجد فزجره
الناس فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى بوله أمر بذنوب من ماء
فأهرق عليه.
متفق عليه ولا نعلم في ذلك خلافا (فصل) إذا أصاب الأرض ماء المطر أو السيول
فغمرها وجرى عليها فهو كما لو صب عليها لأن تطهير النجاسة لا تعتبر النية
فيه فاستوى ما صبه الآدمي وغيره.
قال أحمد في البول يكون في الأرض فتمطر عليه السماء إذا أصابه من المطر
بقدر ما يكون ذنوباً كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصب على البول
فقد طهر، وقال المروذي: سئل أبو عبد الله عن ماء المطر يختلط بالبول فقال:
ماء المطر عندي لا يخالط شيئاً إلا طهره إلا العذرة فإنها تنقطع، وسئل عن
ماء المطر يصيب الثوب فلم ير به بأساً إلا أن يكون بيل فيه بعد المطر،
وقال: كل ما ينزل من السماء إلى الأرض فهو نظيف داسته الدواب أو لم تدسه،
وقال في الميزاب إذا كان في الموضع النظيف لا بأس بما قطر عليك من المطر
إذا لم تعلم قيل له فأسأل عنه؟ قال لا وما دعاك إلى السؤال؟ واحتج في طهارة
طين المطر بحديث الأعرابي وبأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين
كانوا يخوضون المطر في الطرقات فلا يغسلون أرجلهم روى ذلك عن عمر وعلي رضي
الله عنهما، قال ابن مسعود كنا لا نتوضأ من موطئ ونحوه عن ابن عباس وهذا
قول عوام أهل العلم لأن الأصل الطهارة فلا تزول بالشك (فصل) فإن كانت
النجاسة ذات أجزاء متفرقة كالرميم والدم إذا جف والروث فاختلطت بأجزاء
الأرض لم تطهر بالغسل لان عينها لا تنقلب ولا تطهر إلا بزالة أجزاء المكان
بحيث يتيقن زوال
(1/292)
أجزاء النجاسة ولو بادر البول وهو رطب فقلع
التراب الذي عليه أثره فالباقي طاهر لأن النجس كان رطباً وقد زال وإن جف
فأزال ما وجد عليه الأثر لم يطهر لأن الأثر إنما يبين على ظاهر الأرض لكن
إن قلع ما تيقن به زوال ما أصابه البول فالباقي طاهر (مسألة) (ولا تطهر
الأرض النجسة بشمس ولا ريح) وممن روي عنه ذلك أبو ثور وابن المنذر والشافعي
في أحد قوليه، وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن تطهر إذا ذهب أثر النجاسة،
وقال أبو قلابة جفاف الأرض طهورها لأن ابن عمر روى أن الكلاب كانت تبول
وتقبل وتدبر في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك رواه أبو داود
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " صبوا على بول الأعرابي ذنوبا من ماء "
والأمر يقتضي الوجوب (2) ولأنه محل نجس فلم يطهر بغير الغسل كالثياب، فأما
حديث ابن عمر فرواه البخاري وليس فيه ذكر البول ويحتمل أنه أراد أنها كانت
تبول ثم تقبل وتدبر في المسجد فيكون إقبالها وإدبارها فيه بعد بولها
(مسألة) (ولا يطهر شئ من النجاسات بالإستحالة إلا الخمرة إذا انقلبت
بنفسها) فلو أحرق السرجين فصار رماداً أو وقع كلب في ملاحة فصار ملحاً لم
يطهر كالدم إذا استحال قيحاً أو صديداً ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن أكل الجلالة وألبانها لأكلها النجاسة فلو كانت النجاسة تطهر
__________
2) يقول الحنيفة كان هذا عقب بوله والنجاسة ظاهرة.
ونظيره غسلهم المنى رطبا وفركه جافا.
والمطلوب أن لا يكون هنا لك قدر بين ولم يرد نص بغسل كل ما تنجس على سبيل
التعبد
(1/293)
بالإستحالة لم يؤثر أكلها النجاسة لأنها
تستحيل، ويتخرج أن تطهر النجاسات كلها بالإستحالة قياساً على الخمرة إذا
انقلبت، وجلود الميتة إذا دبغت والجلالة إذا حبست (فصل) ودخان النجاسة
وغبارها نجس فإن إجتمع منه شئ أو لاقى جسماً صقيلاً فصار ماء فهو نجس إلا
إذا قلنا أن النجاسة تطهر بالإستحالة وما أصاب الإنسان من دخان النجاسة
وغبارها فلم يجتمع منه شئ ولا ظهرت له صفة فهو طاهر لعدم إمكان التحرز منه،
فأما الخمرة إذا انقلبت بنفسها خلا فإنها تطهر لا نعلم في ذلك خلافاً لأن
نجاستها لشدتها المسكرة الحادثة لها وقد زال ذلك من غير نجاسة خلفتها فوجب
أن تطهر كالماء الذي يتنجس بالتغيير إذا زال تغييره بنفسه ولا يلزم عليه
سائر النجاسات لكونها لا تطهر بالاستحالة لأن نجاستها لعينها والخمر
نجاستها لأمر زال بالإنقلاب (مسألة) (فإن خللت لم تطهر في ظاهر المذهب) روى
ذلك عن عمر وهو قول مالك، وقال الشافعي إن القي فيها شئ كالملح فتخللت لم
تطهر وإن نقلت من شمس إلى ظل أو بالعكس فتخللت ففي إباحتها قولان، ويخرج
لنا أيضاً فيها إحتمالان (أحدهما) تطهر كما لو نقلها لغير قصد التخليل
فتخللت فإنه لا فرق بينهما سوى النية (والثاني) لا تطهر كما لو وضع فيها شئ
فتخللت لما روي أن أبا طلحة
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً فقال " أهرقها "
قال أفلا أخللها؟ قال " لا " من المسند رواه الترمذي ولو جاز التخليل لم
ينه عنه ولم تبح اراقته.
وقيل تطهر لأن علة التحريم زالت أشبه مالو تخللت بنفسها ولأن التطهير لا
فرق فيه بين ما حصل بفعل الله تعالى وفعل العبد كتطهير
(1/294)
الثوب والأرض وهذا قول أبي حنيفة وروي نحوه
عن عطاء وعمرو بن دينار والحارث العكلي (مسألة) (ولا تطهر الادهان النجسة
بالغسل) في ظاهر المذهب إختاره القاضي وابن عقيل قال ابن عقيل إلا الزئبق
فإنه لقوته وتماسكه يجري مجرى الجامد.
وقال أبو الخطاب يطهر بالغسل منها ما يتأتى غسله كالزيت ونحوه لأنه يمكن
غسله بالماء فطهر به كالجامد.
وطريق تطهيره أن يجعل في ماء كثير ويحرك حتى يصيب الماء جميع أجزائه ثم
يترك حتى يعلو على الماء فيؤخذ وإن تركه في جرة وصب عليه ماء وحركه فيه
وجعل له بزا لا يخرج منه الماء جاز.
ووجه القول الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن السمن إذا وقعت فيه
الفأرة فقال إن كان مائعاً فلا تقربوه رواه أبو داود ولو كان يمكن تطهيره
لم يأمر بإراقته ومن نصر قول أبي الخطاب قال الخبر ورد في السمن ولعله لا
يمكن تطهيره لأنه يجمد ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الأمر بغسله
لمشقة ذلك وقلة وقوعه (فصل) وإذا وقعت النجاسة في غير الماء وكان مائعاً
نجس، وقد ذكرنا الخلاف فيه وإن كان جامداً كالسمن الجامد أخذت النجاسة فما
حولها فألقيت والباقي طاهر لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم
سئل عن الفأرة تموت في السمن فقال " إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن
كان مائعاً فلا تقربوه " من المسند وإسناده على شرط لصحيحين - وحد الجامد
الذي لا نسري النجاسة إلى جميعه الذي يكون فيه قوة تمنع إنتقال أجزاء
النجاسة من الموضع الذي وقعت فيه النجاسة إلى ما سواه وقال ابن عقيل:
الجامد الذي إذا فتح وعاؤه لم تسل أجزاؤه والظاهر خلاف هذا لأن سمن الحجاز
لا يكاد يبلغه ولأن المقصود بالجمود أن لا تسري أجزاء النجاسة وهذا حاصل
بما ذكرناه فنقتصر عليه
(1/295)
(فصل) فإن تنجس العجين ونحوه لم يطهر لأنه
لا يمكن غسله وكذلك نقع شئ من الحبوب
في الماء النجس حتى انتفخ وابتل نص عليه أحمد أنه لا يطهر وإن غسل مراراً
إذا ثبت ذلك فقال أحمد في العجين يطعم النواضح وقال الشافعي بطعم البهائم
وقال الثوري وأبو عبيد يطعم الدجاج وقال ابن المنذر لا يطعم شيئاً لأن
النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شحوم الميتة تطلى بها السفن ويستصبح بها
الناس قال " لا هو حرام " وهذا في معناه ولنا ما روى أحمد عن ابن عمر أن
قوما اختبزوا من آبار الذين مسخوا فقال عليه السلام " أعلفوه النواضح "
وقال في كسب الحجام " أعلفه ناضحك أو رقيقك " احتج به أحمد وقال ليس هذا
بميتة والنهي إنما تناول الميتة ولأن إستعمال شحوم الميتة فيما سئل عنه
النبي صلى الله عليه وسلم يفضي إلى تعدي نجاستها وهذا لا يتعدى أكله قال
أحمد ولا يطعم لشئ يؤكل في الحال ولا يحلب لبنه لئلا يتنجس به ويصير
كالجلالة.
(مسألة) (وإذا خفيت النجاسة لزمه غسل ما يتيقن به إزالتها) متى خفيت
النجاسة في بدن أو ثوب وأراد الصلاة فيه لم يجز له حتى يتيقن زوالها وإنما
يتيقن ذلك بغسل كل محل يحتمل أن النجاسة أصابته فإن لم يعلم جهتها من ثوب
غسله وإن علمها في أحد الكمين غسلهما وإن رآها في بدنه أو ثوبه الذي عليه
غسل كل ما يدركه بصره منه وبذلك قال النخعي ومالك والشافعي وابن المنذر،
وقال
(1/296)
ابن شبرمة يتحرى مكان النجاسة فيغسله، وقال
عطاء والحكم وحماد إذا خفيت النجاسة في الثوب نضحه كله وذلك لحديث سهل بن
حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلم في المذي قال: قلت يا رسول الله فكيف بما
أصاب ثوبي منه؟ قال " يجزئك أن تأخذ كفا من ماء فتنضح به حيث ترى أنه أصاب
منه " فأمر بالتحري والنضح ولنا أنه تيقن المانع من الصلاة فلم تبح له
الصلاة إلا بيقين زواله كمن تيقن الحدث وشك في الطهارة والنضح لا يزيل
النجاسة وحديث سهل مخصوص بالمذي دون غيره لأنه يشق التحرز منه فلا يتعدى
حكمه إلى غيره لأن أحكام النجاسات تختلف.
وقوله حيث ترى أنه أصاب منه محمول على من ظن أنه أصاب ناحية من ثوبه من غير
يقين فيجزئه نضح المكان أو غسله (فصل) فإن خفيت النجاسة في موضع فضاء واسع
صلى حيث شاء ولا يجب غسل جميعه لأن
ذلك يشق فلو منع من الصلاة أفضى إلى أن لا يجد موضعاً يصلي فيه.
فإن كان الموضع صغيراً كالبيت ونحوه غسله كله كالثوب (مسألة) (ويجزئ في بول
الغلام الذي لم يأكل الطعام النضح) معنى النضح أن يغمره بالماء وإن لم ينزل
عنه ولا يحتاج إلى مرس وعصر.
فأما بول الجارية فيغسل وإن لم تأكل وهذا قول علي رضي الله عنه وبه قال
عطاء والحسن والشافعي واسحاق.
وحكي عن الحسن أن بول الجارية ينضح
(1/297)
ما لم تطعم كالصبي، قال القاضي رأيت لأبي
إسحاق بن شاقلا كلاماً يدل على طهارة بول الغلام لأنه لو كان نجسا لوجب
غسله كسائر النجاسات، وقال الثوري وأبو حنيفة يغسل بول الغلام كبول الجارية
بالقياس عليه ولأنه حكم يتعلق بالنجاسة فاستوى فيه الذكر والأنثى كسائر
أحكامها ولنا ما روت أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل
الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه رسول الله صلى الله عليه
وسلم في حجره فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله.
متفق عليه، وعن لبابة بنت الحارث قالت: كان الحسين بن علي في حجر رسول الله
صلى الله عليه وسلم فبال عليه فقلت ألبس ثوباً آخر وأعطني إزارك حتى أغسله.
قال " إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر " رواه أبو داود، وعن
علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بول الغلام ينضج
وبول الجارية يغسل " قال قتادة هذا ما لم يطعما الطعام فإذا طعما غسل
بولهما.
رواه الإمام أحمد وهذه نصوص صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم فاتباعها
أولى من القياس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على من خالفه (فصل)
قال أحمد الصبي إذا طعم الطعام وأراده واشتهاه غسل بوله.
وليس إذا طعم لأنه قد يلعق العسل ساعة يولد والنبي صلى الله عليه وسلم حنك
بالتمر فعلى هذا ما يسقاه الصبي أو يلعقه للتداوي لا يعد طعاماً يوجب الغسل
وما يطعمه لغذائه وهو يريده ويشتهيه يوجب الغسل والله أعلم (مسألة) (وإذا
تنجس أسفل الخف أو الحذاء وجب غسله، وعنه يجزئ دلكه بالأرض
(1/298)
وعنه يغسل من البول والغائط ويدلك من
غيرهما) وجملته أنه إذا تنجس أسفل الخف والحذاء ففيه
ثلاث روايات إحداهن يجب غسله قياساً على الثوب والرجل وغيرها وهو قول
الشافعي ومحمد بن الحسن (والثانية) يجزئ دلكه بالأرض حتى تزول عين النجاسة
وتباح الصلاة فيه وهذا قول الأوزاعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا
وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب " وفي لفظ " إذا وطئ بنعله أحدكم
الأذى فإن التراب له طهور " وعن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم " إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى
فليمسحه وليصل فيهما " روى هذه الأحاديث أبو داود ولأن النبي صلى الله عليه
وسلم وأصحابه كانوا يصلون في نعالهم والظاهر أن النعل لا تخلو من نجاسة
تصيبها فلو لم يجز دلكها لم تصح الصلاة فيها (والثالثة) يغسل من البول
والغائط لفحشهما وتغليظ نجاستهما ويدلك من غيرهما لما ذكرنا وهو قول إسحاق،
والأولى أنه يجزئ فيه الدلك مطلقاً لما ذكرنا من الأحاديث، فإن قيل فقول
النبي صلى الله عليه وسلم في نعليه إن فيهما قذراً يدل على أنه لا يجزئ
دلكهما ولم يزل القذر منهما.
قلنا لا دلالة في هذا لأنه لم ينقل أنه دلكهما والظاهر أنه لم يدلكهما لأنه
لم يعلم بالقذر فيهما حتى أخبره جبريل عليه السلام (فصل) إذا ثبت أنه يجزئ
الدلك فهل يحكم بطهارتها أو يحكم بطهارة محل الاستجمار بعد الإنقاء
واستيفاء العدد؟ فيه وجهان (أحدهما) يحكم بطهارته اختاره ابن حامد لظاهر
الأخبار التي ذكرناها وهذا ظاهر كلام أحمد فإنه قال في المستجمر يعرق في
سراويله لا بأس به لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم في
(1/299)
الروث والرمة أنهما لا يطهران مفهومة أن
غيرهما يطهر ولأنه معنى يزيل حكم النجاسة فطهرها كالماء وقال أصحابنا
المتأخرون لا يطهر المحل فلو قعد المستجمر في ماء يسير نجسه ولو عرق كان
عرقه نجساً لأن المسح لا يزيل أجزاء النجاسة كلها فالباقي منها نجس لأنه
عين النجاسة فأشبه مالو وجد في المحل وحده، وقال القاضي في الخفين إنما
يجزئ دلكهما بعد جفاف نجاستهما لأنه لا يبقى لها أثر ولا يجزئ قبل الجفاف
وبه قال أبو حنيفة في الروث والعذرة والدم والمني.
وقال في البول لا يجزئه حتى يغسل وإن يبس لأن رطوبة النجاسة باقية فلا يعفى
عنها.
وظاهر الأخبار لا يفرق بين رطب ولا جاف ولأنه محل اجتزئ فيه بالمسح فجاز له
مع رطوبة الممسوح كمحل الاستنجاء ولان رطوبة المحل معفو عنها إذا
جفت قبل الدلك فعفي عنها إذا جفت به كالاستجمار (مسألة) قال (ولا يعفى عن
يسير شئ من النجاسات إلا الدم وما تولد منه من القيح والصديد وأثر
الاستنجاء) أراد أثر الاستجمار ولا نعلم خلافاً في العفو عنه بعد الإنقاء
واستيفاء العدد وقد ذكرنا الخلاف في طهارته (فصل) فأما الدم والقيح فأكثر
أهل العلم يرون العفو عن يسيره وممن روي عنه ذلك ابن عباس وأبو هريرة وجابر
وابن أبي أوفى وسعيد بن المسيب وابن جبير وطاوس ومجاهد وعروة والنخعي
والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن ابن عمر أنه كان ينصرف من قليله وكثيره
ونحوه عن الحسن
(1/300)
وسليمان التيمي لأنه نجس أشبه البول ولنا
ماروي عن عائشة قالت قد يكون لإحدانا الدرع فيه تحيض وفيه تصيبها الجنابة
ثم ترى فيه قطرة من دم فتقصعه بريقها وفي رواية بلته بريقها ثم قصعته
بظفرها.
رواه أبو داود، وهذا يدل على العفو عنه لأن الريق لا يطهره ويتنجس به ظفرها
وهو أخبار عن داوام افعل ومثل هذا لا يخفى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا
يصدر إلا عن أمره، ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم يعرف لهم مخالف وما
روي عن ابن عمر فقد روي عنه خلافه فروى عنه الأثرم بإسناده أنه كان يسجد
فيخرج يديه فيضعهما بالأرض وهما يقطران دماً من شقاق كان في يديه.
وعصر بثرة فخرج منها دم فمسحه بيده وصلى ولم يتوضأ.
وانصرافه عنه في بعض الحالات لا ينافي ما رويناه عنه فقد يتورع الإنسان عن
بعض ما يرى جوازه ولأنه يشق التحرز منه فعفي عنه كأثر الاستجمار.
وحد اليسير المعفو عنه هو الذي لا ينقض الطهارة، وقد ذكرنا الخلاف فيه في
نواقض الوضوء والله أعلم (فصل) والقيح والصديد مثله إلا أن أحمد قال هو
أسهل من الدم لأنه روي عن ابن عمر والحسن أنهما لم يرياه كالدم.
قال أبو مجلز في الصديد إنما ذكر الله الدم المسفوح.
وقال أمي بن ربيعة رأيت طاوساً كأن إزاره نطع من قروح كانت برجليه ونحوه عن
مجاهد، وقال إبراهيم في الذي يكون به الحبور يصلي ولا يغسله فإذا برأ غسله
ونحوه قول عروة فعلى هذا يعفى منه عن أكثر مما يعفى عن
مثله من الدم لأن هذا لا نص فيه وإنما ثبتت نجاسته لإستحالته من الدم (فصل)
ولا فرق بين كون الدم مجتمعاً أو متفرقاً فإذا جمع بلغ هذا القدر ولو كانت
النجاسة في شئ صفيق قد نفذت من الجانبين فإتصلت فهي نجاسة واحدة وإن لم
تتصل بل كان بينهما شئ لم يصبه الدم فهما نجاستان إذا بلغا لو جمعا قدراً
لا يعفى عنه لم يعف عنهما كجاني الثوب (فصل) ودم الحيض في العفو عنه كغيره
لحديث عائشة الذي ذكرناه وكذلك سائر دماء
(1/301)
الحيوانات الطاهرات.
فأما دم الكلب والخنزير وما تولدمنهما أو من أحدهما فلا يعفى عن يسيره لأن
رطوباته الطاهرة من غيره لا يعفى عن يسيرها فدمه أولى.
فأما دم البغل والحمار وسباع البهائم والطير ان قلنا بطهارتها عفي عن يسير
دمائها كسائر الحيوانات الطاهرات وإن قلنا بنجاستها وقلنا لا يعفى عن يسير
شئ من رطوباتها كالريق والعرق فأولى أن لا يعفى عن دمها كدم الكلب
والخنزير.
ولأن دمها لابد أن يصيب جسمها فلم يعف عنه كالماء، وهكذا حكم كل دم أصاب
نجاسة غير معفو عنها لم يعف عن شئ منه لذلك، وإن قلنا يعفى عن يسير ريقها
وعرقها إحتمل أن يعفى عن يسير دمها قياساً عليه والله أعلم (فصل) ودم ما لا
نفس له سائلة كالبق والبراغيث والذباب ونحوه طاهر في ظاهر المذهب.
وممن رخص في دم البراغيث عطاء وطاوس والحسن والشعبي والحكم وحماد والشافعي
واسحاق لأنه لو كان نجساً لنجس الماء ليسير إذا مات فيه فإنه إذا مكث في
الماء لا يسلم من خروج فضلة منه، ولأنه ليس بدم مسفوح.
وإنما حرم الله سبحانه الدم المسفوح، وروى عن أحمد أنه قال في دم البراغيث
إني لا فزع منه إذا كثر.
وقال النخعي أغسل ما إستطعت، وقال مالك في دم البراغيث إذا كثر وانتشر فإني
أرى أن يغسل والأول أظهر، وقول أحمد ليس فيه تصريح بنجاسته بل هو دليل
التوقف ولأن المنسوب إلى دم البراغيث إنما هو بولها في الظاهر وبول هذه
الحشرات ليس بنجس (فصل) فأما دم السمك فقال أبو الخطاب هو طاهر وهذا قول
أبي الحسن لأن إباحته لا تقف على سفحه ولو كان نجسا لوقفت الإباحة على
إراقته بالذبح كحيوان البر ولأنه إذا ترك استحال ماء
وقال أبو ثور هو نجس لأنه مسفوح فيدخل في عموم الآية والعلقة نجسة لأنها دم
خارج من الفرج أشبه دم الحيض، وعنه أنها طاهرة لأنه بدء خلق آدمي أشبهت
المني، قال شيخنا والصحيح نجاستها
(1/302)
لأنها دم أشبهت سائر الدماء ولأن الشرع لم
يرد فيها بطهارة فتدخل في عموم النص - وما يبقى في اللحم من الدم معفو عنه.
ولو علت حمرة الدم في القدر لم يكن نجساً لأنه لا يمكن التحرز منه وإذا
أصاب الأجسام الصقيلة كالسيف والمرآة نجاسة يعفى عن يسيرها كالدم عفي عن
كثيرها بالمسح (2) لأن الباقي بعد المسح يسير وإن كثر محله فعفي عنه كيسير
غيره (فصل) (وإنما يعفى عن يسير الدم في غير المائعات) فلو وقعت قطرة من دم
في مائع يسير تنجس وصار حكمه حكم الدم في العفو عن يسيره لأنه فرع عليه
(مسألة) (وعنه في المذي والقئ وريق البغل والحمار وسباع البهائم والطير
وعرقها وبول الخفاش والنبيذ والمني أنه كالدم.
وعنه في المذي أنه يجزي فيه النضح) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في
ذلك فروي عنه في المذي أنه قال: يغسل ما أصاب الثوب منه إلا أن يكون
يسيراً، وروى الخلال بإسناده قال: سئل سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبو
سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن المذي فكلهم قال أنه بمنزلة القرحة
فما علمت منه فاغسله وما غلبك منه فدعه لأنه يخرج من الشاب كثيراً فيشق
التحرز منه فعفي عن يسيره كالدم.
وعن أحمد أنه كالمني لأنه خارج بسبب الشهوة أشبه المني، وعنه أنه يجزئ فيه
النضح لأن في حديث سهل بن حنيف قال: قلت يا رسول الله فكيف بما أصاب ثوبي
منه قال " إنما يكفيك أن تأخذ كفا من ماء فتنضح به حيث ترى أنه أصاب منه "
قال الترمذي حديث صحيح (والرواية الأخرى) يجب غسله لأن النبي صلى الله عليه
وسلم أمر بغسل الذكر منه ولأنه نجاسة خارجة من الذكر أشبه البول يروي ذلك
عن عمر وابن عباس وهو مذهب الشافعي وإسحاق وكثير من أهل العلم.
وكذلك المني إذا قلنا بنجاسته لما ذكرنا في المذي.
فأما الودي فهو نجس لا يعفى عنه في الصحيح لأنه خارج من مخرج البول فهو
كالبول وعن أحمد أنه كالمذي.
وأما القئ فروي عن أحمد أنه قال هو عندي بمنزلة الدم لأنه خارج نجس من غير
السبيل أشبه الدم.
وروى
عن أحمد في ريق البغل والحمار وعرقهما أنه يعفى عنه إذا كان يسيراً وهو
الظاهر عن أحمد قال الخلال وعليه مذهب أبي عبد الله لأنه يشق التحرز منه،
قال أحمد من يسلم من هذا ممن يركب الحمير إلا
__________
2) جملة: يعفى عن يسيرها صفه لقوله نجاسة - وقوله عفي عن كثير ها هو جواب
الشرط
(1/303)
أني أرجو أن يكون ما جف منه أسهل، قال
القاضي وكذلك ما كان في معناهما من سباع البهائم سوى الكلب والخنزير وكذلك
الحكم في أرواثها وكذلك الحكم في سباع الطير لأنها في معنى سباع البهائم
وبول الخفاش، قال الشعبي والحكم وحماد وحبيب بن أبي ثابت لا بأس ببول
الخفافيش.
وكذلك الخفاش والخطاف لأنه يشق التحرز منه فإنه في المساجد كثير فلو لم يعف
عن يسيره لم يقر في المساجد وكذلك النبيذ لوقوع الخلاف في نجاسته وكذلك بول
ما يؤكل لحمه إذا قلنا بنجاسته لأنه يشق التحرز منه لكثرته، وعن أحمد لا
يعفى عن يسير شئ من ذلك لأن الأصل أن لا يعفي عن شئ من النجاسة خولف في
الدم وما تولد منه فيبقى ما عداه على الأصل (فصل) ولا يعفى عن يسير شئ من
النجاسات غير ما ذكرنا وممن قال لا يعفى عن يسير البول مالك والشافعي وأبو
ثور، وقال أبو حنيفة يعفى عن يسير جميع النجاسات لأنها يكتفي فيها بالمسح
في محل الاستنجاء فلو لم يعف عن يسيرها لم يكف فيها المسح ولأنه يشق منه
التحرز أشبه الدم ولنا عموم قوله تعالى (وثيابك فطهر) وقول النبي صلى الله
عليه وسلم " تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه " ولأنها نجاسة لا
تشق إزالتها فوجبت كالكثير، وأما الدم فإنه يشق التحرز منه فإن الإنسان لا
يكاد يخلو من بثرة أو حكة أو دمل ويخرج من أنفه وغيره فيشق التحرز من يسيره
أكثر من كثيره ولهذا فرق في الوضوء بين قليله وكثيره (مسألة) (ولا ينجس
الآدمي بالموت ولا مالا نفس له سائلة كالذباب وغيره) ظاهر المذهب أن الآدمي
طاهر حياً وميتاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمن لا ينجس " متفق
عليه.
وعن أحمد أنه سئل عن بئر وقع فيها إنسان فمات فقال تنزح حتى تغلبهم وهو
مذهب أبي حنيفة قال: ينجس ويطهر بالغسل لأنه حيوان له نفس سائلة فنجس
بالموت كسائر الحيوانات، وللشافعي قولان كالروايتين، والصحيح الأول للخبر
ولأنه آدمي فلم ينجس بالموت كالشهيد ولأنه لو نجس بالموت لم يطهر بالغسل
كالحيوانات التي تنجس بالموت
(1/304)
(فصل) ولم يفرق أصحابنا بين المسلم والكافر
لاستوائهما في حال الحياة، قال شيخنا ويحتمل أن ينجس الكافر بموته لأن
الخبر إنما ورد في المسلم ولا يقاس الكافر عليه لأنه لا يصلى عليه ولا حرمة
له كالمسلم (1) (فصل) وحكم أجزاء الآدمي وابعاضه حكم جملته سواء إنفصلت في
حياته أو بعد موته لأنها أجزاء من جملة فكان حكمها كحكمها كسائر الحيوانات
الطاهرة والنجسة، وذكر القاضي أنها نجسة رواية واحدة لأنها لا حرمة لها
بدليل أنها لا يصلي عليها وما ذكروه ممنوع فإن لها حرمة فإن كسر عظم الميت
ككسره وهو حي ولأنه يصلي عليها إذا وجدت من الميت ثم يبطل بشهيد المعركة
فإنه لا يصلى عليه وهو طاهر.
(فصل) وما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت والمراد بالنفس الدم فإن العرب
تسمي الدم نفساً قال الشاعر: نبئت أن بني سحيم أدخلوا * أبياتهم تامور نفس
المنذر أي دمه ومنه قيل للمرأة نفساء لسيلان دمها عند الولادة ويقال نفست
المرأة إذا حاضت فكل ما ليس له دم سائل من حيوان البر والبحر من العلق
والديدان والسرطان ونحوها لا ينجس بالموت ولا ينجس الماء إذا مات فيه في
قول عامة العلماء قال إبن المنذر لا أعلم في ذلك خلافاً إلا ما كان من أحد
قولي الشافعي فإن عنده في تنجيس الماء إذا مات فيه قولان.
فأما الحيوان في نفسه فهو عنده نجس قولاً واحداً لأنه حيوان لا يؤكل لا
لحرمته فنجس باملوت كالبغل والحمار ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم "
إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله فإن في أحد جناحيه داء
__________
1) الاحتمال ضعيف لأن الكلام في النجاسة الحسية التي تدرك ببعض الحواس ولا
فرق فيها بين مؤمن وكافر قطعا
(1/305)
وفي الآخر شفاء " رواه البخاري وفي لفظ "
فليغمسه كله ثم ليطرحه " وقال الشافعي مقله ليس يقتله قلنا اللفظ عام في كل
شراب بارد أو حار أو دهن مما يموت بغمسه فيه فلو كان ينجس الشراب كان أمرا
بافساده قود روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسلمان " يا سلمان أيما
طعام أو شراب ماتت فيه دابة ليس
لها نفس سائلة فهو الحلال أكله وشربه ووضوؤه " وهذا صريح أخرجه الدارقطني
قال الترمذي يرويه بقية وهو يدلس فإذا روى عن الثقاة جود ولأنه لا نفس له
سائلة أشبه دود الخل إذا مات فيه فإنهم سلموا ان ذلك لا ينجس إلا أن يؤخذ
ويطرح فيه أو يشق الإحتراز منه اشبه ما ذكرنا.
وإذا ثبت أنه لا ينجس الماء لزم أن لا يكون نجساً وإلا لنجس الماء كسائر
النجاسات (فصل) فأما إن كان متولداً من النجاسات كدود الحش وصراصره فهو نجس
حياً وميتاً لأنه متولد من النجاسة فكان نجساً كالمتولد من الكلب والخنزير
قال المروذي قال أحمد صراصر الكنيف والبالوعة إذا وقع في الإناء صب وصراصر
البئر ليس هي بقذرة لأنها لا تأكل العذرة (فصل) وماله نفس سائلة من الحيوان
غير الآدمي ينقسم قسمين (أحدهما) ميتة طاهرة وهو السمك وسائر حيوان البحر
الذي لا يعيش إلا في الماء فهو طاهر حياً وميتاً لأنه لو كان نجساً لم يبح
أكله (القسم الثاني) مالا تباح ميتته غير الآدمي كحيوان البر المأكول وغيره
وحيوان البحر الذي يعيش في البر كالضفدع والحية والتمساح ونحوه فكل ذلك
ينجس بالموت وينجس الماء القليل إذا مات فيه والكثير إذا غيره وهذا قول ابن
المبارك والشافعي وأبي يوسف، وقال مالك وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن في
الضفدع لا تفسد الماء إذا ماتت فيه لأنها تعيش في الماء أشبهت السمك ولنا
أنها تنجس غير الماء فنجست الماء كحيوان البر ولأنه حيوان له نفس سائلة لا
تباح ميتته أشبه طير الماء وبهذا فارق السمك (فصل) وفي الوزغ وجهان
(أحدهما) لا ينجس بالموت لأنه لا نفس له سائلة أشبه العقرب (والثاني) أنه
نجس لأن علياً رضي الله عنه كان يقول: إن ماتت الوزغة أو الفأرة في الحب
يصب ما فيه وإن ماتت في بئر فانتزحها تغلبك
(1/306)
(فصل) إذا مات في الماء ما لا يعلم هل ينجس
بالموت أم لا فالماء طاهر لأن الأصل طهارته والنجاسة مشكوك فيها وكذلك إن
شرب منه حيوان يشك في نجاسة سؤره وطهارته لما ذكرناه (مسألة) (وبول ما يؤكل
لحمه وروثه ومنيه طاهر وعنه أنه نجس)
اختلفت الرواية في بول ما يؤكل لحمه وروثه فروي عن أحمد أنه طاهر وهو ظاهر
كلام الخرقي وهو قول عطاء والنخعي والثوري ومالك ورخص في أبوال الغنم
الزهري ويحيى الأنصاري، قال إبن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم
على إباحة الصلاة في مرابض الغنم إلا الشافعي فإنه اشترط أن تكون سليمة من
أبعارها وأبوالها، ورخص في ذرق الطائر الحكم وحماد وأبو حنيفة، وعن أحمد أن
ذلك نجس وهو قول الشافعي وأبي ثور ونحوه عن الحسن لعموم قوله صلى الله عليه
وسلم " تنزهوا من البول " ولأنه رجيع فأشبه رجيع الآدمي ولنا أن النبي صلى
الله عليه وسلم أمر العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل والنجس لا يباح شربه
ولو أبيح للضرورة لأمرهم بغسل أثره إذا أرادوا الصلاة وكان النبي صلى الله
عليه وسلم يصلي في مرابض الغنم وأمر بالصلاة فيها متفق عليه، وصلى أبو موسى
في موضع فيه أبعار الغنم فقيل له: لو تقدم إلى ههنا؟ فقال هذا وذاك واحد
ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما يصلون عليه من الأوطئة
والمصليات وإنما كانوا يصلون على الأرض ومرابض الغنم لا تخلو من أبعارها
وأبوالها فدل على أنهم كانوا يباشرونها في صلاتهم، ولأنه لو كان نجساً
لتنجست الحبوب التي تدوسها البقر فإنها لا تسلم من أبوالها فيتنجس بعضها
فيختلط النجس بالطاهر فيصير حكم الجميع حكم النجس وحكم قيئه ومنيه حكم بوله
لأنه في معناه (فصل) في الخارج من الحيوان الذي لا يؤكل لحمه وهو أربعة
اقسام (أحدها) الآدمي فالخارج منه ثلاثة أنواع (أحدها) ريقه وعرقه ودمعه
ومخاطه ونخامته فهو طاهر لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم
الحديبية أنه ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه، رواه
البخاري وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في
قبلة المسجد فأقبل علي الناس فقال " ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع
أمامه أيحب أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ فإذا تنخع
(1/307)
أحدكم فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه فان لم
يجد فليقل هذا " ووصف القاسم فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه ببعض رواه مسلم.
ولو كانت نجسة لما أمر بمسحها في ثوبه وهو في الصلاة ولا تحت قدمه وسواء في
ذلك البلغم الخارج من الرأس والصدر ذكره القاضي وهو مذهب أبي حنيفة.
وقال أبو الخطاب البلغم نجس لأنه إستحال في المعدة أشبه القئ ولنا عموم
الخبرين ولأنه أحد نوعي النخامة أشبه الآخر ولأنه لو كان نجساً لنجس الفم
ونقض
الوضوء ولم ينقل عن الصحابة رضي الله عنهم فيما علمنا شئ من ذلك مع عموم
البلوى به، وقولهم إنه طعام إستحال في المعدة ممنوع إنما هو منعقد من
الأبخرة فهو كالمخاط ولأنه يشق التحرز منه أشبه المخاط (النوع الثاني) قيؤه
ودمه وما تولد منه من القيح والصديد فهو نجس وقد ذكرنا حكمه فيما مضى
(النوع الثالث) الخارج من السبيلين من البول والغائط والمذي والودي والدم
وغيره فلا نعلم في نجاسته خلافاً إلا ما ذكرنا في المذي وسيأتي حكم المني
إن شاء الله تعالى (فصل) القسم الثاني البغل والحمار وسباع البهائم والطير
فإن قلنا بطهارتها فحكمها حكم الآدمي على ما بينا إلا في منيها فإن حكمه
حكم بولها وإن قلنا بنجاستها فجميع أجزائها وفضلاتها نجسه إلا السنور وما
دونها في الخلقة وسيأتي بيان حكمها إن شاء الله تعالى (القسم الثالث) الكلب
والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما فهو نجس بجميع أجزائه وفضلاته وما
ينفصل عنه (القسم الرابع) ما لان نفس له سائلة فهو طاهر بجميع أجزائه
وفضلاته المتصلة والمنفصلة إلا أن يكون متولداً من النجاسة وقد ذكرناه
(مسألة) (والمني طاهر وعنه أنه نجس ويجزئ فرك يابسه) اختلفت الرواية في
المني عن أحمد رحمه الله فروي عنه أنه طاهر وهو ظاهر المذهب وروي عنه أنه
كالدم نجس يعفى عن يسيره وروي عنه أنه كالبول ويجزئ فرك يابسه بكل حال
لحديث عائشة والرواية الأولى المشهورة في المذهب وهو قول سعد بن أبي وقاص
وابن عمر وابن عباس ونحوه قول سعيد بن المسيب وهو مذهب الشافعي وأبي ثور
وابن المنذر.
وقال أصحاب الرأي هو نجس ويجزئ فرك يابسه وقال مالك غسل الإحتلام أمر واجب
وهو مذهب الثوري والاوزاعي لما روت عائشة أنها كانت تغسل المني من ثوب
(1/308)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث
صحيح ولأنه خارج معتاد من السبيل أشبه البول ولنا ماروت عائشة قالت كنت
أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه متفق عليه
وقال ابن عباس أمسحه عنك بأذخرة أو خرقه ولا تغسله إنما هو كالبزاق ورواه
الدارقطني مرفوعاً ولأنه لا يجب غسله إذا جف فأشبه المخاط ولانه بدء خلق
آدمي أشبه الطين وبهذا فارق البول (فصل) وإن خفي موضع المني فرك الثوب كله
إن قلنا بنجاسته وإن قلنا بطهارته إستحب فركه
وإن صلى من غير فرك أجزأه وهو قول الشافعي ومن قال بالطهارة، وقال ابن عباس
وعائشة وعطاء ينضح الثوب كله وقال ابن عمر وأبو هريرة والحسن يغسله كله
ولنا أن فركه يجزئ إذا علم مكانه فكذلك إذا خفي وأما النضح فلا يفيد لأنه
لا يطهره إذا علم مكانه فكذلك إذا خفي قال أحمد إنما يفرك مني الرجل خاصة
لأن الذي للرجل ثخين والذي للمرأة رقيق والمعنى في هذا أن الفرك يراد
للتخفيف والرقيق لا يبقى له جسم بعد جفافه فلا يفيد فيه الفرك فعلى هذا إن
قلنا بنجاسته فلا بد من غسله رطباً كان أو يابساً كالبول وإن قلنا بطهارته
إستحب غسله كما يستحب فرك مني الرجل فأما الطهارة والنجاسة فلا يفترقان فيه
لأنه مني خارج من السبيل بدء خلق آدمي (فصل) ومن أمنى وعلى فرجه نجاسة نجس
منيه لإصابته النجاسة.
وذكر القاضي في المني من الجماع أنه نجس لأنه لا يسلم من المذي وهذا فاسد
فإن مني النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان من جماع لأن الأنبياء لا
يحتلمون وهو الذي وردت الأخبار بفركه والطهارة لغيره فرع عليه والله أعلم
(1/309)
(مسألة) (وفي رطوبة فرج المرأة روايتان)
(إحداهما) نجاسته لأنه بلل في الفرج لا يخلق منه الولد أشبه المذي
(والثانية) طهارته لأن المني طاهر لما بينا وإذا كان من جماع فلا بد أن
يصيب رطوبة الفرج ولأننا لو حكمنا بنجاسته لحكمنا بنجاسة منيها لأنه يتنجس
برطوبة فرجها لخروجه منه.
وقال القاضي ما أصاب منه في حال الجماع فهو نجس لأنه لا يسلم من المذي هذا
ممنوع فإن الشهوة إذا إشتدت خرج المني دون المذي كحالة الإحتلام (مسألة)
(وسباع البهائم والطير والبغل والحمار الأهلي نجسة وعنه أنها طاهرة) روي عن
أحمد رحمه الله في سباع البهائم وجوارح الطير ما خلا الكلب والخنزير
والسنور وما دونها في الخلقة روايتان (إحداهما) ان سؤرها وعرقها نجس وهو
اختيار الخرقي لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الماء وما
ينوبه من السباع فقال " إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس " ولو كانت طاهرة لم
يحد بالقلتين ولأنه حيوان حرم أكله لا لحرمته يمكن التحرز عنه غالباً أشبه
الكلب ولأن الغالب عليها أكل الميتات والنجاسات فينبغي أن يقضي بنجاستها
كالكلاب (والرواية الثانية) أنها طاهرة رواها عنه إسماعيل
ابن سعيد يروي ذلك عن الحسن وعطاء والزهري ومالك والشافعي وابن المنذر لما
روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة
والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر وعن الطهارة بها فقال " لها ما أخذت
في أفواهها ولنا ما غبر طهور " رواه ابن ماجه.
ومر عمر وعمرو بن العاص بحوض فقال عمرو يا صاحب الحوض ترد على حوضك السباع؟
فقال عمر يا صاحب الحوض
(1/310)
لا تخبرنا فإنا نرد عليها وترد علينا.
رواه مالك في الموطأ ولأنه حيوان يجوز بيعه فكان طاهراً كبهيمة الأنعام
(فصل) وفي البغل والحمار ثلاث روايات (إحداها) أنها نجسة نروى كراهتها عن
ابن عمر وهو قول الحسن وابن سيرين والشعبي والاوزاعي وإسحاق لما ذكرنا في
السباع ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " أنها رجس " (والثانية) أنه مشكوك
فيها لأن أحمد قال في البغل والحمار إذا لم يجد غير سؤرهما تيمم منه وهو
قول أبي حنيفة والثوري لأنه تردد بين أمارة تنجسه وأمارة تطهره، فأمارة
تنجيسه أنه محرم أشبه الكلب وأمارة تطهيره أنه ذو حافر يجوز بيعه أشبه
الفرس (والثالثة) أنه طاهر وهو قول مالك والشافعي وابن المنذر وهذا اختيار
شيخنا لما ذكرنا ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركبهما وتركب في زمنه.
ولو كان نجساً لبين النبي صلى الله عليه وسلم لهم ذلك ولأنهما لا يمكن
التحرز منهما لمقتنيهما فأشبها السنور، فأما قوله صلى الله عليه وسلم "
أنها رجس " أراد به التحريم كقول الله تعالى في الأنصاب والأزلام (أنها
رجس) ويحتمل أنه أراد لحمها الذي كان في قدورهم فإنه نجس لأن ذبح مالا يباح
أكله لا يطهره (فصل) وفي الجلالة روايتان (إحداهما) نجاستها لأن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عن ركوب الجلالة وألبانها، رواه أبو داود ولأنها تنجست
بالنجاسة والريق لا يطهر (والثانية أنها طاهرة لان الهر والضبع يأكلان
النجاسة وهما طاهران وحكم أجزاء الحيوان من شعره وريشه وجلده ودمعه وعرقه
(1/311)
حكم سؤره لأنه من أجزأئه فأشبه السنور في
الطهارة والنجاسة لأنه في معناه والله أعلم (مسألة) (وسؤر الهرة وما دونها
في الخلقة طاهر) سؤر الهرة وما دونها في الخلقة طاهر كابن عرس والفأرة ونحو
ذلك من حشرات الأرض طاهر لا نعلم فيه خلافاً في المذهب أنه يجوز شربه
والوضوء به
ولا يكره.
هذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلا أبا حنيفة فإنه
كره الوضوء بسؤر الهر فإن فعل أجزأه، ورويت كراهته عن ابن عمر ويحيى
الانصاري وابن أبي ليلى، وقال أبو هريرة يغسل مرة أو مرتين وهو قول ابن
المسيب ونحوه قول الحسن وابن سيرين لما روى أبو داود عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال " إذا ولغت فيه الهر يغسل مرة " وقال طاوس يغسل سبعاً كالكلب
ولنا ما روى عن كبشة بنت كعب بن مالك أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له
وضوءاً قالت فجاءت هرة فأصغى لها الإناء حتى شربت.
قالت كبشة فرآني أنظر إليه قال: أتعجبين يا إبنة أخي؟ فقلت نعم.
فقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إنها ليست بنجس إنها من
الطوافين عليكم والطوافات " أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث
حسن صحيح دل بلفظه على نفي الكراهة عن سؤر الهر وبتعليله على نفي الكراهة
عما دونها مما يطوف علينا.
وعن عائشة أنها قالت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إنها ليست بنجس
إنما هي من الطوافين عليكم " وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ
بفضلها رواه أبو داود، وحديثهم ليس فيه تصريح بنجاستها مع صحة حديثنا
واشتهاره (فصل) وإذا أكلت الهر نجاسة ثم شربت من مائع بعد الغيبة فهو طاهر
لأن النبي صلى الله عليه وسلم
(1/312)
وسلم نفى عنها النجاسة وتوضأ بفضلها مع علمه بأكلها النجاسات وإن شربت قبل
الغيبة فقال القاضي وابن عقيل ينجس لأنه مائع وردت عليه نجاسة متيقنة، وقال
أبو الحسن الآمدي ظاهر قول أصحابنا طهارته لأن الخبر دل على العفو عنها
مطلقاً وعلل بعدم إمكان التحرز عنها ولأننا حكمنا بطهارتها بعد الغيبة في
مكان لا يحتمل ورودها على ماء كثير يطهر فاها ولو إحتمل ذلك فهو شك لا يزيل
يقين النجاسة فوجب إحالة الطهارة على العفو عنها وهو شامل لما قبل الغيبة
(فصل) والخمر نجس لقوله تعالى (إنما الخمر والميسر - إلى قوله - رجس) ولأنه
يحرم تناوله من غير ضرر اشبه الدم وكذلك النبيذ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " كل مسكر خمر وكل خمر حرام " رواه مسلم ولأنه شراب فيه شدة مطربة
أشبه الخمر والله تعالى أعلم |