الشرح الكبير على متن المقنع

* (باب صلاة الجمعة) * والأصل في فرض الجمعة الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) فأمر بالسعي ومقتضى الأمر الوجوب، ولا يجب السعي إلا الى واجب.
والمراد بالسعي هنا الذهاب إليها لا الإسراع، فان

(2/142)


السعي في كتاب الله لا يراد به العدو قال الله تعالى (وأما من جاءك يسعى) وقال (وسعى لها سعيها) وقال (ويسعون في الأرض فسادا) وقال (سعى في الأرض ليفسد فيها) وأشباه هذا لم يرد بشئ منه العدو، وقد روي عن عمر أنه كان يقرأ (فامضوا إلى ذكر الله) وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين " متفق عليه، وعن أبي الجعد الضميري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه " وقال عليه السلام " الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض " رواهما أبو داود.
وعن جابر قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " واعلموا أن الله تعالى قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا من عامي هذا فمن تركها في حياتي أو بعد موتي وله إمام عادل أو جائر استخفافاً

(2/143)


بها أو جحوداً بها فلا جمع الله له شمله ولا بارك الله أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حج له، ألا ولا صوم له، ولا بر له حتى يتوب، فإن تاب تاب الله عليه " رواه ابن ماجه، وأجمع المسلمون على وجوب الجمعة * (مسألة) * (وهي واجبة على كل مسلم مكلف ذكر حر مستوطن ببناء ليس بينه وبين موضع الجمعة.
أكثر من فرسخ إذا لم يكن له عذر) يشترط لوجوب الجمعة ثمانية شروط: الإسلام والعقل والذكورية فهذه الثلاثة لا خلاف في اشتراطها لوجوب الجمعة وانعقادها لأن الاسلام والعقل شرطان للتكليف وصحة العبادة المحضة،
والذكورية شرط لوجوب الجمعة وانعقادها لما ذكرنا من الحديث ولأن الجمعة يجتمع لها الرجال والمرأة ليست من أهل الحضور في مجامع الرجال ولكن الجمعة تصح منها فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان النساء يصلين معه في الجماعة

(2/144)


الرابع البلوغ وهو شرط لوجوب الجمعة وانعقادها في الصحيح من المذهب للحديث المذكور وهذا قول أكثر أهل العلم ولأن البلوغ من شرائط التكليف لقوله صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ " وذكر بعض أصحابنا في الصبي المميز رواية في وجوبها عليه بناء على تكليفه ولا معول عليه (والخامس) الحرية (السادس) الاستيطان بقرية وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى (السابع) أن لا يكون بينه وبين موضع الجمعة أكثر من فرسخ، وهذا الشرط في حق غير أهل المصر، أما أهل المصر فيلزمهم كلهم الجمعة بعدوا أو قربوا، نص عليه أحمد، فقال أما أهل المصر فلابد لهم من شهودها سمعوا النداء أو لم يسمعوا، وذلك لأن البلد الواحد يبنى للجمعة فلا فرق فيه

(2/145)


بين القريب والبعيد، ولأن المصر لا يكاد يكون أكثر من فرسخ فهو في مظنة القرب فاعتبر ذلك وهو قول أصحاب الرأي ونحوه قول الشافعي.
فأما غير أهل المصر فمن كان بينه وبين الجامع فرسخ فما دون فعليه الجمعة وإلا فلا جمعة عليه.
وروي نحو هذا عن سعيد بن المسيب وهو قول مالك والليث، وروى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الجمعة على من سمع النداء " رواه أبو داود والأشبه أنه من كلام بن عمرو ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعمى الذي قال ليس لي قائد يقودني " أتسمع النداء؟ " قال نعم.
" قال فأجب " ولأنه داخل في قوله تعالى (فاسعوا إلى ذكر الله) وروي عن ابن عمر وأبي هريرة وأنس والحسن ونافع وعكرمة وعطاء والاوزاعي أنهم قالوا الجمعة على من أواه الليل إلى أهله لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الجمعة على من أواه الليل إلى أهله " وقال أصحاب الرأي لا جمعة على من كان خارج المصر لأن
عثمان رضي الله عنه صلى العيد في يوم جمعة ثم قال لأهل العوالي من أراد منكم أن ينصرف فلينصرف ومن أراد أن يقيم حتى يصلي الجمعة ولأنهم خارج المصر فأشبهوا أهل الحلل

(2/146)


ولنا قول الله تعالى (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) وهذا يتناول أهل المصر اذا سمعوا النداء، وحديث عبد الله بن عمرو، ولأنهم من أهل الجمعة يسمعون النداء فأشبهوا أهل المصر، وترخيص عثمان لأهل العوالي إنما كان لأنه اذا اجتمع عيدان اجتزئ بالعيد وسقطت الجمعة عمن حضر العيد غير الامام، وقياس أهل القرى على أهل الحلل لا يصح لأن الحلل لا تعد للاستيطان ولا هم ساكنين بقرية ولا في موضع جعل لاستيطان.
وقد ذكر القاضي أن الجمعة تجب عليهم إذا كانوا بموضع يسمعون النداء كأهل القرية، وأما ما احتج به الآخرون من حديث أبي هريرة فهو غير صحيح يرويه عبد الله بن سعيد المقبري وهو ضعيف، قال أحمد بن الحسن ذكرت هذا الحديث لأحمد بن حنبل فغضب وقال استغفر ربك استغفر ربك، وإنما فعل هذا لأنه لم ير الحديث شيئاً بحال اسناده قاله الترمذي.
وأما اعتبار حقيقة النداء فغير ممكن لأنه قد يكون في الناس الأصم

(2/147)


وثقيل السمع، وقد يكون النداء بين يدي المنبر فلا يسمعه إلا أهل المسجد، وقد يكون المؤذن خفي الصوت، أو في يوم ريح، أو يكون المستمع نائماً أو مشغولاً بما يمنع السماع ويسمع من هو أبعد منه فيفضي الى وجوبها على البعيد دون القريب، وما هذا سبيله ينبغي أن يقدر بمقدار لا يختلف والموضع الذي يسمع منه النداء في الغالب اذا كانت الأصوات هادئة والموانع منتفية والريح ساكنة والمؤذن صيت على موضع عال والمستمع غير ساه فرسخ أو ما قاربه فحد به والله أعلم * (فصل) * وأهل القرية لا يخلون من حالين: إما أن يكون بينهم وبين المصر أكثر من فرسخ لم يجب عليهم السعي الى الجمعة وحالهم معتبر بأنفسهم، فان كانوا أربعين واجتمعت فيهم الشرائط فعليهم إقامة الجمعة ولهم السعي الى المصر، والأفضل إقامتها في قريتهم لأنه متى سعى بعضهم إختل على الباقين إقامة الجمعة، واذا أقاموا حضروها جميعهم ولأن في إقامتها في موضعهم تكثير جماعات

(2/148)


المسلمين، وإن كانوا ممن لا تجب عليهم الجمعة بأنفسهم فهم مخيرون بين السعي الى المصر وبين الاقامة ويصلون ظهراً، والسعي أفضل ليحصل لهم فضل الساعي الى الجمعة ويخرجوا من الخلاف (الحال الثاني) أن يكون بينهم وبين المصر فرسخ فما دون، فان كانوا أقل من أربعين فعليهم السعي الى الجمعة لما بينا، وإن كانوا ممن تجب عليهم الجمعة بأنفسهم وكان موضع الجمعة القريب قرية أخرى لم يلزمهم السعي إليها وصلوا في مكانهم إذ ليس إحدى القريتين أولى من الأخرى، ولهم السعي إليها وإقامتها في مكانهم أفضل كما ذكرنا، فإن سى بعضهم فنقص عدد الباقين لزمهم السعي لئلا يؤدي الى ترك الجمعة الواجبة وإن كان موضع الجمعة القريب مصراً فهم مخيرون أيضاً بين السعي اليه وإقامتها في مكانهم كالتي قبلها ذكره ابن عقيل، وعن أحمد أن السعي يلزمهم إلا أن يكون لهم عذر فيصلون جمعة والأول أصح، لأن أهل القرية لا ينعقد بهم جمعة أهل المصر فكان لهم إقامة الجمعة في مكانهم

(2/149)


كالتي قبلها ولأن أهل القرى يقيمون الجمع في بلاد الإسلام في مثل ذلك من غير نكير فكان إجماعاً (الشرط الثامن) من انتفاء الاعذار وقد ذكرناها في آخر صلاة الجماعة بما يغني عن اعادتها، والمطر الذي يبل الثياب والوحل الذي يشق المشي فيه من جملة الاعذار.
وحكي عن مالك أنه كان لا يجعل المطر عذراً في التخلف عنها.
ولنا أن ابن عباس أمر مؤذنه في يوم جمعة في يوم مطر فقال اذا قلت أشهد أن محمداً رسول الله فلا تقل حي على الصلاة قل صلوا في بيوتكم.
قال فكأن الناس استنكروا ذلك، فقال أتعجبون من ذا فعل هذا من هو خير مني.
إن الجمعة عزمة وإني كرهت أن أخرجكم اليها فتمشون في الطين والدحض أخرجه مسلم ولأنه عذر في ترك الجماعة، وقال أبو حنيفة لا تجب فكان عذراً في ترك الجمعة كالمرض * (فصل) * والعمى ليس بعذر في ترك الجمعة، وقال أبو حنيفة لا تجب على الاعمى.
ولنا عموم الآية والاخبار وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعمى الذي استأذنه في ترك الخروج الى الصلاة " أتسمع النداء؟ قال نعم.
قال أجب " والله أعلم

(2/150)


* (مسألة) * (ولا تجب على مسافر ولا عبد ولا امرأة ولا خنثى) أما المرأة فلا خلاف في أنها لا تجب عليها الجمعة حكاه ابن المنذر إجماعاً، وحكم الخنثى حكم المرأة لأنه لا يعلم كونه رجلاً، وأما المسافر فلا جمعة عليه في قول أكثر أهل العلم منهم مالك في أهل المدينة والثوري في أهل العراق والشافعي وإسحق وأبو ثور.
وحكي عن الزهري والنخعي أنها تجب عليه لأن الجماعة تجب عليه فالجمعة أولى ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر فلا يصلي الجمعة في سفره، وكان في حجة الوداع يوم عرفة يوم جمعة فصل الظهر والعصر جمعاً بينهما ولم يصل جمعة، والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم كانوا يسافرون في الحج وغيره فلم يصل أحد منهم الجمعة في سفره، وكذلك غيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم.
قال ابراهيم كانوا يقيمون بالقرى السنة وأكثر من ذلك

(2/151)


وبسجستان السنتين لا يجمعون ولا يشرقون رواه سعيد، وهذا اجماع مع السنة الثابتة لا يسوغ مخالفته * (فصل) * واذا أجمع المسافر إقامة تمنع القصر ولم ينو الاستيطان كطالب العلم أو الرباط أو التاجر ونحوه ففيه وجهان: أحدهما تلزمه الجمعة لعموم الآية والأخبار، والثاني لا تجب عليه لأنه غير مستوطن والاستيطان من شرائط الوجوب ولأنه لم ينو الاقامة في هذا البلد على الدوام أشبه أهل القرية الذين يسكنونها صيفاً ويظعنون عنها شتاء، ولانهم كانوا يقيمون السنة والسنتين لا يجمعون ولا يشرقون أي يصلون جمعة ولا عيداً، فان قلنا تجب عليهم الجمعة فالظاهر أنها لا تنعقد به لعدم الاستيطان الذي هو من شروط الانعقاد * (فصل) * فأما العبد فالمشهور في المذهب أنها لا تجب عليه وهو من سمينا في حق المسافر وفيه رواية أخرى أنها تجب عليه نقلها عنه المروذي وهي اختيار أبي بكر إلا أنه لا يذهب من غير إذن

(2/152)


سيده وهو قول طائفة من أهل العلم واحتجوا بعموم الآية ولأن الجماعة تجب عليه والجمعة آكد
منها.
وحكي عن الحسن وقتادة أنها تجب على العبد الذي يؤدي الضريبة لأن حق السيد عليه فلا تحول الى المال أشبه المدين ولنا ما روى طارق بن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض " رواه أبو داود، وقال طارق رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه وهو من أصحابه، وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريضاً أو مسافراً أو امرأة أو صبياً أو مملوكاً " رواه الدارقطني، ولأن الجمعة يجب السعي إليها من مكان بعيد فلم تجب عليه الجمع كالحج والجهاد ولأنه محبوس على السيد أشبه المحبوس بالدين، ولأنها لو وجبت عليه لجاز له السعي إليها من غير إذن السيد كسائر الفرائض، والآية مخصوصة بذوي الاعذار وهذا منهم

(2/153)


* (فصل) * وحكم المكاتب والمدبر في ذلك حكم القن لبقاء الرق فيهما، وكذلك من بعضه حر فان حق السيد متعلق به، وكذلك لا يجب عليه شئ مما ذكرنا عن العبيد * (مسألة) * (ومن حضرها منهم أجزأته ولم تنعقد به ولم يجز له أن يؤم فيها وعنه في العبد أنها تجب عليه) من حضر الجمعة من هؤلاء أجزأته عن الظهر لا نعلم فيه خلافا لأن إسقاط الجمعة عنهم تخفيفاً عنهم فاذا حضروها أجزأتهم كالمريض، والأفضل للمسافر حضور الجمعة لأنها أكمل وفيه خروج من الخلاف.
فأما العبد فإن أذن سيده في حضورها فهو أفضل لينال فضل الجمعة ويخرج من الخلاف، وإن منعه سيده فليس له حضورها إلا أن نقول بوجوبها عليه.
واما المرأة فان كانت مسنة فلا بأس بحضورها، وإن كانت شابة جاز لها ذلك وصلاتها في بيتها أفضل.
قال أبو عمرو الشيباني رأيت ابن مسعود يخرج النساء من الجامع يوم الجمعة ويقول أخرجن الى بيوتكن خير لكن

(2/154)


* (فصل) * ولا تنعقد الجمعة بأحد من هؤلاء ولا يصح إن يكون إماماً فيها، وقال أبو حنيفة والشافعي يجوز أن يكون العبد والمسافر إماماً فيها ووافقهم مالك في المسافر.
وحكي عن أبي حنيفة
ان الجمعة تصح بالعبيد والمسافرين لأنهم رجال تصح منهم الجمعة ولنا أنهم من غير أهل فرض الجمعة فلم تنعقد بهم ولم يؤموا فيها كالنساء والصبيان ولأن الجمعة إنما تصح منهم تبعاً لمن انعقدت به، فلو انعقدت بهم أو كانوا أئمة صار التبع متبوعاً، وعليه يخرج الحر المقيم ولأن الجمعة لو انعقدت بهم لانعقدت بهم منفردين كالأحرار المقيمين وقياسهم ينقض بالنساء والصبيان، وفي العبد رواية أنها تجب عليه لعموم الآية وقد ذكرناه * (فصل) * وكلما كان شرطاً لوجوب الجمعة فهو شرط لانعقادها فمتى صلوا جمعة مع اختلال بعض شروطها لم تصح ولزمهم أن يصلوا ظهراً ولا يعد في الأربعين الذين تنعقد بهم من لا تجب

(2/155)


عليه ولا يعتبر إجتماع الشروط للصحة بل تصح ممن لا تجب عليه تبعاً لمن وجبت عليه، ولا يعتبر للوجوب كونه ممن تنعقد به فإنها تجب على من يسمع النداء من غير أهل المصر ولا تنعقد به * (مسألة) * (ومن سقطت عنه لعذر إذا حضرها وجبت عليه وانعقدت به) ويصح أن يكون اماما فيها كالمريض ومن حبسه العذر والخوف لأن سقوطها عنه إنما كان لمشقة السعي، فاذا تكلفوا وحصلوا في الجامع زالت المشقة فصار حكمهم حكم أهل الأعذار * (مسألة) * (ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الامام لم تصح صلاته والأفضل لمن لا تجب عليه أن لا يصلي الظهر حتى يصلي الإمام) يعني إذا صلى الظهر يوم الجمعة ممن تجب عليه الجمعة قبل صلاة الامام لم يصح صلاته ويلزمه السعي إلى الجمعة ان ظن أنه يدركها لأنها المفروضة عليه، فان أدركها صلاها مع الامام وان فاتته فعليه صلاة الظهر، وإن ظن أنه لا يدركها انتظر حتى يتيقن أن الامام قد صلى ثم يصلي الظهر وهذا قول مالك

(2/156)


والثوري والشافعي في الجديد.
وقال أبو حنيفة والشافعي في القديم: يصح ظهره قبل صلاة الامام لأن الظهر فرض الوقت بدليل سائر الأيام، وإنما الجمعة بدل عنها وقائمة مقامها، وكذلك اذا تعذرت صلى ظهراً، فمن صلى الظهر فقد أتى بالأصل فأجزأه كسائر الايام.
قال أبو حنيفة: ويلزمه
السعي إلى الجمعة، فان سعى بطلت ظهره وإن لم يسع أجزأته ولنا أنه صلى ما لم يخاطب به وترك ما خوطب به فلم يصح كما لو صلى العصر مكان الظهر ولا نزاع أنه مخاطب بالجمعة وقد دل عليه النص والإجماع، ولا خلاف في أنه يأثم بتركها وترك السعي إليها ويلزم من ذلك أن لا يخاطب بالسعي بالظهر لأنه لا يخاطب بصلاتين في الوقت، ولأنه يأثم بترك الجمعة وإن صلى الظهر، ولا يأثم بترك الظهر وفعل الجمعة بالإجماع، والواجب ما يأثم بتركه دون ما لم يأثم به، وقولهم أن الظهر فرض الوقت لا يصح لأنها لو كانت الأصل لوجب عليه فعلها وأثم

(2/157)


بتركها ولم يجزئه صلاة الجمعة مكانها لأن البدل انما يصار اليه عند تعذر المبدل بدليل سائر الإبدال ولأن الظهر لو صحت لم تبطل بالسعي إلى غيرها كسائر الصلوات الصحيحة ولأن الصلاة اذا فرغ منها لم تبطل بمبطلاتها فكيف تبطل بما ليس من مبطلاتها ولا ورد به الشرع.
وأما اذا فاتته الجمعة فانه يصير إلى الظهر لتعذر قضاء الجمعة لكونها لا تصح إلا بشروطها، ولا يوجد ذلك في قضائها فتعين المصير إلى الظهر عند عدمها وهذا حال البدل (فصل) فإن صلى الظهر ثم شك هل صلى قبل صلاة الامام أو بعدها لزمته الاعادة لأن الأصل بقاء الصلاة في ذمته ولأنه صلاها مع الشك في شرطها فلم تصح كما لو صلاها مع الشك في طهارتها، وإن صلاها مع صلاة الامام لم تصح لأنه صلاها قبل فراغ الامام أشبه ما لو صلاها قبله في وقت لا يعلم أنه لا يدركها

(2/158)


(فصل) فإن اتفق أهل بلد أو قرية ممن تجب عليهم الجمعة على تركها وصلوا ظهراً لم تصح صلاتهم لما ذكرنا، فاذا خرج وقت الجمعة لزمه إعادة الظهر لتعذر فعل الجمعة بعد الوقت (فصل) فأما من لا تجب عليه الجمعة كالعبد والمرأة والمسافر والمريض وسائر المعذورين فله أن يصلي الظهر قبل صلاة الامام في قول عامة أهل العلم.
وقال أبو بكر عبد العزيز: لا تصح صلاته قبل الامام لأنه لا يتيقن بقاء العذر فلم تصح صلاته كغير المعذور
ولنا أنه لم يخاطب بالجمعة فصحت منه الظهر كالبعيد من موضع الجمعة، وقوله لا يتيقن بقاء العذر، قلنا أما المرأة فيتيقن بقاء عذرها، وأما غيرها فالظاهر بقاء عذره والأصل استمراره فأشبه المتيمم إذا صلى في أول الوقت، والمريض اذا صلى جالساً إذا ثبت هذا فانه اذا سعى الى الجمعة بعد أن صلاها لم تبطل ظهره وكانت الجمعة نفلاً في حقه وسواء زال عذره أو لم يزل.
وقال أبو حنيفة: يبطل ظهره بالسعي إليها كالتي قبلها

(2/159)


ولنا ما روى أبو العالية قال: سألت عبد الله بن الصامت فقلت نصلي يوم الجمعة خلف أمراء فيؤخرون الصلاة فقال: سألت أبا ذر عن ذلك فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة " وفي لفظ " فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة " ولأنها صلاة صحيحة أسقطت فرضه وأبرأت ذمته أشبه ما لو صلى الظهر منفرداً، ثم سعى الى الجماعة والأفضل لهم أن لا يصلوا حتى يصلي الامام لأن فيه خروجاً من الخلاف ولأن غير المرأة يحتمل زوال أعذارهم فيدركون الجمعة (فصل) ولا يكره لمن فاتته الجمعة أو لم يكن من أهل فرضها أن يصلي الظهر في جماعة إذا أمن أن ينسب الى مخالفة الامام والرغبة عن الصلاة معه أو أن يرى الاعادة اذا صلى معه فعل ذلك ابن مسعود وأبو ذر والحسن بن عبيد الله وأياس بن معاوية وهو قول الأعمش والشافعي وأسحق وكره

(2/160)


الحسن وأبو قلابة ومالك وأبو حنيفة لأن زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخل من معذورين فلم ينقل أنهم صلوا جماعة ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة " وروي عن ابن مسعود أنه فاتته الجمعة فصلى بعلقمة والأسود احتج به أحمد وفعله من ذكرنا من قبل ومطرف وابراهيم.
قال أبو عبد الله: ما أعجب الناس ينكرون هذا، فأما زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينقل إلينا أنه اجتمع جماعة معذورون يحتاجون الى اقامة الجماعة، إذا ثبت هذا فإنه لا يستحب
اعادتها جماعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في مسجد تكره إعادة الجماعة فيه ولا في المسجد الذي أقيمت فيه الجمعة لأنه يفضي إلى أن ينسب الى الرغبة عن الجمعة، وأنه لا يرى الصلاة خلف الامام أو يرى الاعادة معه وفيه إفتيات على الامام وربما أفضى إلى فتنة أو لحوق ضرر به، وإنما يصليها في منزلة أو في موضع لا يحصل هذه المفسدة بالصلاة فيه

(2/161)


* (مسألة) * (ولا يجوز لمن تلزمه الجمعة السفر في يومها بعد الزوال) وبه قال الشافعي واسحق وابن المنذر، وقال أبو حنيفة يجوز.
وسئل الأوزاعي عن مسافر سمع أذان الجمعة وقد أسرج دابته فقال ليمض في سفره ولأن عمر رضي الله عنه قال: الجمعة لا تحبس عن سفر ولنا ما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من سافر من دار إقامة الجمعة دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره ولا يعان على حاجته " روه الدارقطني في الأفراد ولأن الجمعة قد وجبت عليه فلم يجز له الاشتغال بما يمنع منها كما لو تركها لتجارة وما روي عن عمر فقد روي عن ابنه وعائشة ما يدل على كراهية السفر يوم الجمعة فتعارض قوله ويمكن حمله على السفر قبل الوقت * (مسألة) * (ويجوز قبله وعنه لا يجوز، وعنه يجوز للجهاد خاصة السفر بعد الزوال فيجوز للجهاد خاصة وكذلك ذكره القاضي لما روى ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة فقدم أصحابه وقال: لعلي أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم ألحقهم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه فقال " ما منعك أن تغدوا مع أصحابك " فقال: أردت

(2/162)


أن أصلي معك ثم ألحقهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم " رواه الإمام أحمد وفيه رواية ثانية أن ذلك لا يجوز لما ذكرنا من حديث ابن عمر وفيه رواية ثالثة أنه يجوز مطلقاً اختاره شيخنا لحديث عمر وكما لو سافر من الليل، فأما ان خاف المسافر فوات رفقته جاز له ترك الجمعة لأنه من الاعذار المسقطة للجمعة والجماعة، وسواء كان في بلده وأراد انشاء السفر أو في غيره
(فصل) ويشترط لصحة الجمعة أربعة شروط أحدها الوقت وأول وقتها أول وقت صلاة العيد.
وقال الخرقي: يجوز فعلها في الساعة السادسة، وفي بعض النسخ في الخامسة، والصحيح في السادسة وآخره آخر وقت صلاة الظهر لا تصح الجمعة قبل وقتها ولا بعده إجماعاً، ولا خلاف فيما علمنا أن آخر وقتها آخر وقت صلاة

(2/163)


الظهر.
فأما أوله فقد ذكرنا قول الخرقي أنه لا يجوز قبل الساعة السادسة أو الخامسة على ما نقل عنه وقال القاضي وأصحابه أوله أول وقت صلاة العيد، ورواه عبد الله بن أحمد عن أبيه قال نذهب الى أنها كصلاة العيد.
قال مجاهد ما كان للناس عيد إلا في أول النهار، وقال عطاء كل عيد حين يمتد الضحى الجمعة والأضحى والفطر لما روي أن ابن مسعود قال ما كان عيد إلا في أول النهار، وروي عنه وعن معاوية أنهما صليا الجمعة ضحى وقالا إنما عجلنا خشية الحر عليكم.
وعن ابن مسعود قال لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا الجمعة في ظل الخيم رواه ابن البحتري في أماليه بإسناده، والدليل على أنها عيد قول النبي صلى الله عليه وسلم حين اجتمع العيد والجمعة " قد اجتمع

(2/164)


لكم في يومكم هذا عيدان " وقال أكثر أهل العلم وقتها وقت الظهر إلا أنه يستحب تعجيلها في أول وقتها لقول سلمة بن الاكوع كنا نجمع مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتبع الفئ متفق عليه.
قال أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس رواه البخاري ولأنهما صلاتا وقت فكان وقتهما واحدا كالمقصورة والتامة ولأن آخر وقتها واحد فكان أوله واحداً كصلاة الحضر والسفر ولنا على جوازها في السادسة السنة والإجماع، أما السنة فما روى جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يعني الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس أخرجه مسلم.
وعن سهل بن سعد قال ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه، قال ابن قتيبة لا يسمى غداء ولا قائلة بعد الزوال.
وعن سلمة قال كنا نصلي مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان فئ، رواه أبو داود: وأما الاجماع فروى

(2/165)


الإمام أحمد عن وكيع عن جعفر بن برقان عن ثابت بن عبد الله بن سيدان قال شهدت الخطبة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، وشهدتها مع عمر بن الخطاب فكانت صلاته وخطبته الى أن أقول قد انتصف النهار، ثم صليتها مع عثمان بن عفان فكانت صلاته وخطبته الى أن أقول زال النهار فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره.
وروي عن ابن مسعود وجابر وسعيد ومعاوية أنهم صلوا قبل الزوال وأحاديثهم تدل أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها بعد الزوال في كثير من أوقاته، ولا خلاف في جوازه وأنه الأولى، وأحاديثنا تدل على جواز فعلها قبل الزوال فلا تعارض بينهما.
قال شيخنا وأما فعلها في أول النهار فالصحيح أنه لا يجوز لما ذكره أكثر العلماء ولأن التوقيت لا يثبت إلا بدليل من نص أو ما يقوم مقامه، وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفائه أنهم صلوها في أول النهار ولأن مقتضى الدليل كون وقتها وقت الظهر وإنما جاز تقديمها

(2/166)


عليه بما ذكرنا من الدليل وهو مختص بالساعة السادسة فلم يجز تقديمها عليها ولأنها لو صليت في وقت الضحى لفاتت أكثر المصلين إذا ثبت ذلك، فالأولى فعلها بعد الزوال لأن فيه خروجاً من الخلاف ولأنه الوقت الذي كان يفعلها فيه رسول الله صلى الله عليه في أكثر أوقاته.
وتعجيلها في أول وقتها في الشتاء والصيف لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعجلها لما روينا من الأخبار، ولأن الناس يجتمعون اليها في أول وقتها ويبكرون أليها قبل وقتها فلو أبرد لشق على الحاضرين، وإنما جعل الابراد بالظهر في شدة الحر دفعاً للمشقة والمشقة في الابراد بها في الجمعة أكثر * (مسألة) * (فإن خرج وقتها قبل فعلها صلوا ظهراً لفوات الشرط لا نعلم في ذلك خلافاً) * (مسألة) * (وإن خرج وقد صلوا ركعة أتموها جمعة، وإن خرج قبل ركعة فهل يتمونها ظهراً أو يستأنفونها على وجهين)

(2/167)


متى خرج وقت الجمعة قبل تمامها فإن كان بعد أن صلوا ركعة أتموها جمعة وهذا اختيار شيخنا وظاهر قول الخرقي، وقال القاضي متى أحرموا بها في الوقت قبل خروجه أتموها جمعة ونحوه، قال أبو الخطاب لأنه أحرم بها في وقتها ما لو أتمها فيه.
والمنصوص عن أحمد أنه إن دخل وقت العصر بعد تشهده وقبل سلامة سلم وأجزأته وهذا قول أبي يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة متى خرج الوقت قبل الفراغ منها بطلت ولا ينى عليها ظهراً لأنهما صلاتان مختلفتان فلا تنبني إحداهما على الأخرى كالظهر والعصر.
والظاهر أن مذهب أبي حنيفة في هذا كمذهب صاحبيه لأن السلام عنده ليس بواجب في الصلاة، وقال الشافعي لا يتمها جمعة ويبني عليها ظهراً لأنهما صلاتا وقت فجاز بناء إحداهما على الأخرى كصلاة السفر والحضر، واحتجوا على أنه لا يتمها جمعة بأن ما كان شرطا في بعضها كان شرطا في جميعها كالطهارة ولنا قوله عليه السلام " من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة " ولأنه أدرك ركعة من

(2/168)


الجمعة فكان مدركاً لها كالمسبوق ولأن الوقت شرط يختص الجمعة فاكتفي به في ركعة كالجماعة، وما ذكروه ينتقض بالجماعة * (فصل) * فإن دخل وقت العصر قبل ركعة لم تحصل لهم جمعة لأن قوله عليه السلام " من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة " يدل بمفهومه على أنه إذا أدرك أقل من ذلك لا يكون مدركاً ويلزمه الظهر، وهل يبني أو يستأنف، فعلى قياس قول الخرقي تفسد صلاته ويستأنفها ظهراً كمذهب أبي حنيفة، وعلى قياس قول أبي إسحق بن شاقلا يتمها ظهراً لقول الشافعي وقد ذكرنا وجه القولين * (فصل) * إذا أدرك من الوقت ما يمكنه أن يخطب ثم يصلي ركعة فله التلبس بها على قياس قول الخرقي لأنه أدرك من الوقت ما يدركها فيه، فان شك هل أدرك من الوقت ما يدركها أو لا صحت لأن الأصل بقاء الوقت وصحتها

(2/169)


* (مسألة) * (الثاني أن تكون بقرية يستوطنها أربعون من أهل وجوبها فلا تجوز اقامتها في غير ذلك)
الاستيطان شرط لصحة الجمعة في قول أكثر أهل العلم وهو الاقامة في قرية مبنية بما جرت به العادة بالبناء به من حجر أو طين أو لبن أو قصب أو شجر أو نحوه فلا يظعنون عنها صيفاً ولا شتاء لأن ذلك هو الاستيطان غالباً.
فأما أهل الخيام والحركات وبيوت الشعر فلا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم لأن ذلك لا ينصب للإستيطان غالباً، وكذلك كانت قبائل العرب حول المدينة فلا يقيموا جمعة ولا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لو كان ذلك لم يخف ولم يترك نقله مع كثرته وعموم البلوى به، لكن إن كانوا مقيمين بموضع يسمعون النداء لزمهم السعي اليها كاهل القرية الصغيرة الى جانب المصر ذكره القاضي، فان كان أهل القرية يظعنون عنها في بعض السنة لم تجب

(2/170)


عليهم الجمعة، فان خرجت القرية أو بعضها وأهلها مقيمون بها عازمون على إصلاحها فحكمها باق في اقامة الجمعة بها، وإن عزموا على النقلة عنها لم تجب عليهم لعدم الاستيطان، ومتى كانت القرية لا يجب على أهلها بأنفسهم وكانوا بحيث يسمعون النداء من المصر أو من قرية تقام فيها الجمعة لزمهم السعي اليها لعموم الآية، وكذلك إن كان بناؤها متفرقاً تفرقاً لم تجر العادة به

(2/171)


* (مسألة) * (ويجوز إقامتها في الأبنية المتفرقة إذا شملها اسم واحد) وفيما قارب البنيان من الصحراء تجوز إقامة الجمعة المتفرقة البنيان اذا كان تفرقاً جرت العادة به في القرية الواحدة، فان كانت متفرقة في قرية تفرقاً لم تجر به العادة لم تجب عليهم الجمعة إلا أن يجتمع منها ما يسكنه أربعون فتجب بهم الجمعة ويتبعهم الباقون، ولا يشترط اتصال البنيان بعضه ببعض.
وحكي عن الشافعي اشتراطه ولنا أن القرية المتقاربة البنيان قرية مبنية بما جرت به عادة القرى أشبهت المتصلة

(2/172)


* (فصل) * ولا يشترط لصحة الجمعة البنيان بل يجوز اقامتها فيما قاربه من الصحراء وبهذا قال الإمام أبو حنيفة، وقال الإمام الشافعي لا يجوز لأنه موضع يجوز لأهل المصر قصر الصلاة فيه أشبه البعيد
ولنا ما روى كعب بن مالك أنه قال أسعد بن ذرارة أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات رواه أبو داود.
وقال ابن جريج قلت لعطاء يعني أكان

(2/173)


بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم.
والبقيع بطن من الأرض يستنقع فيه المأمدة، فاذا نضب الماء نبت الكلأ.
قال الخطابي حرة بني بياضة قرية على ميل من المدينة ولأنه موضع لصلاة العيد فجازت فيه الجمعة كالجامع ولأن الاصل إشتراط ذلك ولا نص في اشتراطه ولا معنى نص * (فصل) * ولا يشترط لصحة الجمعة المصر.
روي نحو ذلك عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز والاوزاعي والليث ومكحول وعكرمة والشافعي، وروي عن علي رضي الله عنه أنه لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع.
وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وبه قال الحسن وابن سيرين وابراهيم وأبو حنيفة.
ولنا ما ذكرنا من حديث أسعد بن ذرارة رواه البخاري بإسناده عن ابن عباس أن أول جمعة بعد جمعة بالمدينة لجمعة جمعت بجوارنا من البحرين من قرى عبد القيس، وروى ابو هريرة أنه كتب إلى عمر يسأله عن الجمعة بالبحرين وكان عاملاً عليها، فكتب اليه عمر جمعوا حيث كنتم رواه الأثرم

(2/174)


قال الامام أحمد رحمه الله تعالى اسناده جيد فأما خبرهم فلم يصح، قال الامام أحمد ليس هذا بحديث إنما هو عن علي وقد خالفه عمر * (فصل) * وإذا كان أهل المصر دون الاربعين فجاءهم أهل قرية فأقاموا الجمعة في المصر لم تصح لأن أهل القرية غير مستوطنين في المصر وأهل المصر لا تنعقد بهم الجمعة لقلتهم، وإن كان أهل القرية ممن تجب عليهم الجمعة بأنفسهم لزم أهل المصر السعي إليهم إذا كان بينهما أقل من فرسخ فلزمهم السعي إليها كما يلزم أهل القرية السعي الى المصر اذا أقيمت به وكان أهل القرية دون الأربعين وإن كان في كل واحد دون الاربعين لم تجز إقامة الجمعة في واحد منهما * (مسألة) * الثالث (حضور أربعين من أهل القرية في ظاهر المذهب وعنه تنعقد بثلاثة)
حضور أربعين شرط لوجوب الجمعة وصحتها في ظاهر المذهب، روى ذلك عن عمر بن عبد العزيز وعبيد الله بن عبد الله وهو قول مالك والشافعي، وروي عن الإمام أحمد أنها لا تنعقد إلا بخمسين لما روى أبو بكر النجاد عن عبد الملك الرقاشي ثنا رجا بن سلمة ثنا عباد بن عباد المهبي عن جعفر ابن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تجب الجمعة على خمسين رجلاً ولا تجب على من دون ذلك " وبإسناده عن الزهري عن أبي سلمة قال قلت لأبي هريرة على كم

(2/175)


تجب الجمعة من رجل؟ قال لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين جمع بهم رسول الله صلى الله عليه، وعنه رواية ثالثة أنها تنعقد بثلاثة وهو قول الأوزاعي لأن اسم الجمع يتناوله فانعقدت به الجمعة كالاربعين ولأن الله تعالى قال (فاسعوا إلى ذكر الله) بصيغة الجمع فيدخل فيه الثلاثة.
وحكى أبو الحرث عن الإمام أحمد إذا كانوا ثلاثة من أهل القرى جمعوا فيحتمل أن يختص ذلك أهل القرى لقلتهم، وقال أبو حنيفة تنعقد بأربعة لأنه عدد زيد على أقل الجمع المطلق أشبه الأربعين وقال ربيعة تنعقد باثني عشر لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير بالمدينة فأمره أن يصلي عند الزوال ركعتين وأن يخطب فيهما، فجمع مصعب بن عمير في بيت سعد بن خيثمة باثني عشر رجلا، وعن جابر قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقدمت سويقة فخرج الناس إليها فلم يبق إلا اثني عشر رجلاً أنا فيهم فأنزل الله (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) الآية.
رواه مسلم، وما يشترط للابتداء يشترط للاستدامة ولنا حديث كعب الذي رويناه وفي الحديث قلت له كم كنتم يومئذ؟ قال أربعون.
رواه الدارقطني، وقول الصحابي مضت السنة تنصرف الى سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فأما حديث مصعب بن عمير أنهم كانوا اثنا عشر فلا يصح فإن حديث كعب أصح منه، رواه أصحاب السنن والخبر الآخر يحتمل أنهم عادوا فحضروا القدر الواجب، ويحتمل أنهم عادوا قبل طول الفصل.
وأما الثلاثة والأربعة فتحكم بالرأي فيما لا مدخل للرأي فيه لأن التقدير بابه التوقيف ولا معنى لاشتراط كونه جمعاً ولا للزيادة على الجمع إذ لا نص فيه ولا معنى نص، ولو كان الجمع كافيا لاكتفى باثنين
لأن الجماعة تنعقد بهما.

(2/176)


* (مسألة) * (فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا ظهراً ويحتمل أنهم إن نقصوا بعد ركعة أتموها جمعة وإن نقصوا قبل ركعة أتموها ظهراً) المشهور في المذهب أنه يشترط كمال العدد في جميع الصلاة وقال أبو بكر: لا أعلم خلافاً عن الإمام أحمد إن لم يتم العدد في الصلاة والخطبة أنهم يعيدون الصلاة وهذا أحد قولي الامام الشافعي لأنه شرط للصلاة فاعتبر في جميعها كالطهارة ويحتمل أنهم إن نقصوا بعد ركعة أتموها جمعة وهذا قياس قول الخرقي، وبه قال الامام مالك وقال المزني: هو أشبه عندي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك من الجمعة ركعة أضاف إليها أخرى " ولأنهم أدركوا ركعة فصحت لهم الجمعة كالمسبوق بركعة وهذا اختيار شيخنا.
وقال أبو حنيفة: ان نقصوا بعدما صلوا ركعة بسجدة واحدة أتموها جمعة لأنهم أدركوا معظم الركعة فأشبه ما لو أدركوها بسجدتيها.
وقال إسحاق: أن بقي معه اثنا عشر أتمها جمعة لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انفضوا عنه فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً فأتمها جمعة.
وقال الإمام الشافعي في أحد أقواله: ان بقي معه اثنان أتمها جمعة وهو قول الثوري لأنه أقل الجمع وحكى عنه أبو ثور إن بقي معه واحد أتمها جمعة لأن الاثنين جماعة ولنا أنهم لم يدركوا ركعة كاملة بشروط الجمعة فأشبه ما لو نقص الجمع قبل ركوع الاولى.
وقولهم أدرك معظم الركعة يبطل بمن لم يفته من الركعة الاولى إلا السجدتان فإنه قد أدرك معظمها وقول الامام الشافعي: بقي معه من تنعقد به الجماعة لا يصح لأن هذا لا يكتفي في الابتدا فلا يكتفي في الدوام إذا ثبت هذا فكل موضع قلنا لا يتمها جمعة فقياس قول الخرقي أنها تبطل ويستأنفها ظهراً إلا أن يمكنهم فعل الجمعة مرة أخرى فيعيدونها وحكاه أبو بكر عن الامام أحمد، وقياس قول ابي إسحاق بن شاقلا أنهم يتمونها ظهراً وهذا قول القاضي وقال: قد نص الامام أحمد في الذي زحم عن أفعال الجمعة حتى سلم الامام يتمها ظهراً ووجه القولين قد تقدم * (مسألة) * (ومن أدرك مع الإمام منها ركعة أتمها جمعة)
وهذا قول أكثر أهل العلم منهم ابن مسعود وابن عمر وأنس وسعيد بن المسيب والحسن وعلقمة والاسود والزهري ومالك، والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وقال عطاء وطاوس ومجاهد من لم يدرك الخطبة صلى أربعاً لأن الخطبة شرط للجمعة فلا تكون جمعة في حق من لم يوجد في حقه شرطها ولنا ما روى أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أدرك من

(2/177)


الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة " رواه الأثرم ورواه ابن ماجة " فليصل إليها أخرى " وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " متفق عليه، ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم * (مسألة) * (ومن أدرك أقل من ركعة أتمها ظهراً إذا كان قد نوى الظهر في قول الخرقي.
وقال أبو اسحق بن شاقلا: ينوي جمعة ويتمها ظهراً) أما من أدرك أقل من ركعة فلا يكون مدركاً للجمعة ويصلي الظهر أربعاً وهذا قول جميع من ذكرنا في المسألة المتقدمة إلا أن الامام أبا حنيفة فإنه قال: يكون مدركاً للجمعة بأي قدر أدرك من الصلاة مع الإمام وهو قول الحكم وحماد لأن من لزمه أن يبني على صلاة الامام بادراك ركعة لزمه بادراك أقل منها كالمسافر يدرك المقيم ولأنه أدرك جزأ من الصلاة فكان مدركاً لها كالظهر ولنا قوله عليه السلام " من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة " فمفهومه أنه إذا أدرك أقل من ركعة لم يدركها، ولأنه قول من سمينا من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ولا مخالف لهم في عصرهم فيكون إجماعاً، وقد روى بشر بن معاذ الزيات عن الزهري عن أبي سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أدرك يوم الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى " ومن أدرك دونها صلى أربعاً ومن لم يدرك ركعة فلا تصح له جمعة كالامام اذا نقصوا قبل السجود وأما المسافر فادراكه ادراك الزام، وهذا ادراكه ادراك اسقاط للعدد فافترقا وكذلك يتم المسافر خلف المقيم، ولا يقصر المقيم خلف المسافر، وأما الظهر فليس من شرطها الجماعة بخلاف مسئلتنا
(فصل) وكل من أدرك مع الامام ما لا يتم له به جمعة، فانه في قول الخرقي ينوي ظهراً، فان نوى جمعة لم تصح في ظاهر كلامه وكلام أحمد في رواية صالح وابن منصور يحتمل هذا القول فيمن أحرم ثم زحم عن الركوع والسجود حتى سلم إمامه، قال يستقبل ظهراً أربعاً وذلك لأن الظهر لا يتأدى بنية الجمعة ابتداء فكذلك استدامته كالظهر مع العصر.
وقال أبو إسحق بن شاقلا ينوي جمعة لئلا يخالف نية إمامه ثم يبني عليها ظهراً وهذا ظاهر قول قتادة وأيوب ويونس والشافعي لأنه لا يجوز أن يأتم بمن يصلي جمعة فجاز أن يبني صلاته على نيتها كصلاة المقيم مع المسافر، وكما ينوي أنه مأموم ويتم صلاته بعد مفارقة إمامه منفرداً ولأنه يصح أن ينوي الظهر خلف من يصلي الجمعة في ابتدائها فكذلك في انتهائها (فصل) إذا صلى الإمام الجمعة قبل الزوال فأدرك المأموم معه دون الركعة لم يكن له الدخول معه لأنها في حقه ظهر فلا تجوز قبل الزوال كغير يوم الجمعة فإن دخل معه كانت نفلاً في حقه ولم

(2/178)


تجزه عن الظهر، ولو أدرك معه ركعة ثم زحم عن سجودها وقلنا تصير ظهراً، فانها تنقلب نفلاً لئلا تكون ظهراً قبل وقتها (فصل) ومن أحرم مع الامام ثم زحم عن السجود سجد على ظهر إنسان ورجله اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيمن أحرم مع الامام ثم زحم فلم يقدر على الركوع حتى سلم الامام فروي أنه يكون مدركاً للجمعة اختارها الخلال وهو قول الحسن وأصحاب الرأي لأنه أحرم بالصلاة مع إمامه في أولها فأشبه ما لو ركع وسجد معه ونقل عنه أنه يستقبل الصلاة أربعاً اختاره أبو بكر وابن أبي موسى وهو قول الشافعي وابن المنذر لأنه لم يدرك ركعة كاملة فلم يكن مدركاً للجمعة كالمسبوق وهذا ظاهر كلام الخرقي، وجملة ذلك أن من زحم عن السجود في الجمعة سجد على ظهر إنسان أو رجله إذا أمكنه ذلك وأجزأه.
قال أحمد في رواية أحمد بن هشام: يسجد على ظهر الرجل والقدم ويمكن الجبهة والأنف في العيدين والجمعة وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر.
وقال عطاء والزهري ومالك: لا يفعل، فان فعل، فقال مالك: تبطل الصلاة لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومكن جبهتك الأرض " ولنا ما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: اذا اشتد الزحام فليسجد على ظهر أخيه.
رواه سعيد في سننه، وهذا قاله بمحضر من الصحابة وغيرهم في يوم جمعة ولم يظهر له مخالف فكان إجماعاً ولأنه أتى بما يمكنه حال العجز فصح كالمريض يسجد على المرفقة والخبر لم يتناول العاجز لأن الله تعالى قال (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (مسألة) * (فإن لم يمكنه سجد إذا زال الزحام إلا أن يخاف فوات الثانية فيتابع الامام فيها وتصير أولاه ويتمها جمعة) وجملة ذلك أن من زحم في إحدى الركعتين فأما أن يزحم في الأولى أو الثانية، فان كان في الاولى ولم يتمكن من السجود على ظهر ولا قدم انتظر حتى يزول الزحام ثم يسجد ويتبع إمامه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بذلك في صلاة الخوف بعسفان للعذر والعذر موجود، فاذا قضى ما عليه وأدرك إمامه قبل رفع رأسه من الركوع اتبعه وصحت له الركعة، وهكذا لو تعذر عليه السجود مع إمامه لمرض أو نوم أو نسيان لأن ذلك عذر أشبه المزحوم، فإن خاف أنه ان تشاغل بالسجود فاته الركوع مع الإمام في الثانية لزمه متابعته وتصير الثانية أولاه وهذا قول مالك.
وقال أبو حنيفة يشتغل بالسجود لأنه قد ركع مع الامام فيجب عليه السجود بعده كما لو زال الزحام والامام قائم وللشافعي كالمذهبين

(2/179)


ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا " فإن قيل فقد قال " فإذا سجد فاسجدوا " قلنا قد سقط الأمر بالمتابعة في السجود عن هذا للعذر وبقي الأمر بالمتابعة في الركوع لإمكانه ولأنه خائف فوات الركوع فلزمته متابعة امامه كالمسبوق، أما إذا كان الامام قائماً فليس هذا اختلافاً كثيراً إذا ثبت أنه يتابع الإمام في الركوع، فان أدركه راكعاً صحت له الثانية وتصير الثانية اولاه وتبطل الاولى في قياس المذهب لكونه ترك منها ركناً وشرع في الثانية فبطلت الأولى على ما ذكرنا في سجود السهو ويتمها جمعة لأنه أدرك منها ركعة مع الإمام فإن لم يقم
ولكن يسجد السجدتين من غير قيام تمت ركعته، وإن فاته الركوع وسجد معه فان سجد السجدتين معه فقال القاضي يتم بها الركعة الاولى وهذا مذهب الامام الشافعي رحمه الله تعالى.
وقال أبو الخطاب إذا سجد معتقداً جواز ذلك اعتد له به وتصح له الركعة كما لو سجد وإمامه قائم، ثم إن أدرك الإمام في ركوع الثانية صحت له الركعتان وإن أدركه بعد رفع رأسه من ركوعها فينبغي أن يركع ويتبعه لأن هذا سبق يسير ويحتمل أن تفوته الثانية بفوات الركوع كالمسبوق * (مسألة) * (فإن لم يتابع الامام عالما بتحريم ذلك بطلت صلاته، وإن جهل تحريمه فسجد ثم أدرك الإمام في التشهد أتى بركعة أخرى بعد سلام الامام وصحت جمعته وعنه يتمها ظهراً) وجملته أن من زحم عن السجود في الركعة الأولى وخاف فوات الركعة الثانية مع الامام أن اشتغل بالسجود لزمه متابعته في ركوع الثانية لما ذكرنا، فإن ترك متابعة إمامه عالماً بتحريم ذلك بطلت صلاته لأنه ترك الواجب فيها عمداً وفعل ما لا يجوز فعله، وإن اعتقد جواز ذلك فسجد لم يعتد بسجوده لأنه سجد في موضع الركوع جهلاً أشبه الساهي.
وقال أبو الخطاب يعتد له به فإن أدرك الإمام في التشهد تابعه وقضى ركعة بعد سلامه كالمسبوق ويسجد للسهو.
قال شيخنا ولا وجه للسجود هنا لأن الامام ليس عليه سجود سهو، وإن زحم عن سجدة واحدة أو عن الاعتدال بين السجدتين أو بين الركوع والسجود فالحكم فيه كالحكم في ازدحام عن السجود * (فصل) * فأما إن زحم عن السجود في الثانية فزال الزحام قبل سلام الامام سجد وتبعه وصحت له الركعة، وإن لم يزل حتى سلم فإن كان أدرك الركعة الأولى فقد أدرك الجمعة ويسجد للثانية بعد سلام الامام ويتشهد ويسلم فقد تمت جمعته، وإن لم يكن أدرك الاولى فانه يسجد بعد سلام إمامه وتصح له ركعة وهل يكون مدركاً للجمعة بذلك على روايتين * (فصل) * واذا أدرك مع الامام ركعة فلما قام ليقضي الأخرى ذكر أنه لم يسجد مع إمامه إلا سجدة واحدة وشك في ذلك فإن لم يكن شرع في قراءة الثانية رجع فسجد للأولى فأتمها وقضى

(2/180)


الثانية وأتم الجمعة نص عليه الامام أحمد في رواية الأثرم، وإن كان شرع في قراءة الثانية بطلت الأولى
وصارت الثانية أولاه ويتمها جمعة على ما نقله الأثرم.
وقياس الرواية الأخرى في المزحوم أنه يتمها ها هنا ظهراً لأنه لم يدرك ركعة كاملة، ولو قضى الركعة الثانية ثم علم أنه ترك سجدة من إحداهما لا يدري من أيهما تركها فالحكم واحد ويجعلها من الاولى ويأتي بركعة مكانها وفي كونه مدركاً للجمعة وجهان: فأما إن شك في ادراك الركوع مع الامام مثل أن كبر والامام راكع فرفع إمامه رأسه فشك هل أدرك المجزئ من الركوع مع الإمام أو لا لم يعتد بتلك الركعة ويصلي ظهراً قولا واحدا لأن الأصل أنه ما أتى بها معه وفي كل موضع لا يكون مدركاً للجمعة فعلى قول الخرقي ينوي ظهراً، فان نوى جمعة لزمه استئناف الظهر، ويحتمله كلام الامام أحمد في رواية صالح وابن منصور وعلى قول إسحق بن شاقلا ينوي جمعة لئلا يخالف إمامه ويتمها ظهراً وقد ذكرنا وجه القولين * (فصل) * ولو صلى مع الإمام ركعة ثم زحم في الثانية فأخرج من الصف فصار فذاً فنوى الانفراد عن الامام قياس المذهب أنه يتمها جمعة لأنه أدرك منها ركعة مع الامام أشبه ما لو أدرك الثانية، وإن لم ينو الانفراد وأتمها مع الإمام ففيه روايتان: إحداهما لا يصح لأنه قد فذ في ركعة كاملة أشبه ما لو فعل ذلك عمداً، والثانية يصح لأنه قد يعفى في البناء عن تكميل الشروط كما لو خرج الوقت وقد صلوا ركعة وكالمسبوق * (مسألة) * الرابع (أن يتقدمها خطبتان من شرط صحتهما حمد الله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم وقراءة أية والوصية بتقوى الله تعالى) وحضور العدد المشترط للخطبة، وبه قال عطاء والنخعي وقتادة والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وقال الحسن تجزيهم الجمعة من غير خطبة لأنها صلاة عيد فلم يشترط لها الخطبة كصلاة الأضحى ولنا قول الله سبحانه وتعالى (فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) والذكر هو الخطبة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الخطبة وقد قال " صلوا كما رأيتموني أصلي " وعن عمر رضي الله عنه أنه قصر في الصلاة لأجل الخطبة، وعن عائشة رضي الله عنها نحو هذا * (فصل) * ويشترط لها خطبتان وهذا مذهب الامام الشافعي.
وقال مالك والاوزاعي وإسحق وابن المنذر وأصحاب الرأي تجزيه خطبة واحدة، وعن الإمام أحمد ما يدل عليه فإنه قال لا تكون
الخطبة الا كما خطب النبي صلى الله عليه وسلم أو خطبة تامة ووجه الأول ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين وهو قائم يفصل بينهما بجلوس متفق عليه وقد قال " صلوا كما

(2/181)


رأيتموني أصلي " ولأن الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين فكل خطبة مكان ركعة، فالاخلال بإحداهما اخلال باحدى الركعتين * (فصل) * ويشترط لكل واحدة منهما حمد الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل كلام ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر " وقال جابر رضي الله عنه كان رسول الله عليه وسلم يخطب الناس يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول " من بهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له " وإذا وجب ذكر الله وجب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كالأذان ولأنه قد روي في تفسير قوله تعالى (ورفعنا لك ذكرك) قال لا أنكر إلا ذكرت معي، ويحتمل أن لا تجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر ذلك في خطبته * (فصل) * والقراءة في كل واحدة من الخطبتين شرط وهو ظاهر كلام الخرقي لأن الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين فكانت القراءة فيهما شرطاً كالركعتين، ولأن ما وجب في إحداهما وجب في الأخرى كسائر الفروض، ويحتمل أن يشترط القراءة في إحداهما لما روى الشعبي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس وقال " السلام عليكم " ويحمد الله ويثني عليه ويقرأ سورة ثم يجلس ثم يقوم فيخطب ثم ينزل، وكان أبو بكر وعمر يفعلانه رواه الأثرم.
والظاهر أنه إنما قرأ في الخطبة الأولى * (فصل) * وتجب الموعظة لأنها المقصودة من الخطبة فلم يجز الإخلال بها ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعظ، وفي حديث جابر بن سمرة أنه كان يذكر الناس وتجب في الخطبتين جميعاً لأن ما وجب في إحداهما وجب في الأخرى كسائر الشروط وهذا قول القاضي.
وظاهر كلام الخرقي أن الموعظة إنما تكون في الخطبة الثانية لما ذكرنا من حديث الشعبي، وقال أبو حنيفة لو أتى بتسبيحة
أجزأ لأن الله تعالى قال (فاسعوا إلى ذكر الله) فأجزأ ما يقع عليه الذكر، ولأن اسم الخطبة يقع على دون ما ذكرتم بدليل أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال علمني عملا أدخل به الجنة؟ فقال " أقصرت من الخطبة لقد أعرضت في المسألة " وعن مالك كالمذهبين ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الذكر بفعله.
قال جابر بن سمرة كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قصداً وخطبته قصداً يقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس رواه أبو داود والترمذي وقد ذكرنا حديث جابر بن سمرة.
وأما التسبيح فلا يسمى خطبة، والمراد بالذكر الخطبة، وما

(2/182)


روره مجاز فان السؤال لا يسمى خطبة بدليل أنه لو ألقى مسألة على الحاضرين لم يكف ذلك اتفاقاً * (فصل) * ولا يكفي في القراءة أقل من آية هكذا ذكره الأصحاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على أقل من ذلك ولأن الحكم لا يتعين بدونها بدليل منع الجنب من قراءتها.
فظاهر كلام أحمد أنه لا يشترط ذلك فإنه قال في القراءة في الخطبة ليس فيه شئ موقت ما شاء قرأ وهذا ظاهر كلام الخرقي.
قال شيخنا ويحتمل أن لا يجب سوى حمد الله والموعظة لأن ذلك يسمى خطبة ويحصل به المقصود وما عداهما ليس على اشتراطه دليل لأنه لا يجب أن يخطب على صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق لأنه روي أنه كان يقرأ آيات ولا يجب قراءة آيات بالاتفاق، لكن يستحب ذلك لما ذكرنا من حديث الشعبي.
وقالت أم هشام بنت حارثة بن النعمان ما أخذت (ق والقرآن المجيد) إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب بها كل جمعة رواه مسلم * (فصل) * ويشترط للخطبة حضور العدد المشترط في القدر الواجب من الخطبتين، وقال أبو حنيفة في رواية عنه لا يشترط لأنه ذكر يتقدم الصلاة فلم يشترط له العدد كالأذان ولنا أنه ذكر من شرائط الجمعة فكان من شرطه العدد وكتكبيرة الاحرام، وتفارق الأذان فانه ليس بشرط وإنما مقصوده الاعلام والاعلا للغائبين والخطبة مقصودها الموعظة فهي للحاضرين.
فعلى هذا إن انفضوا في أثناء الخطبة ثم عادوا فحضروا القدر الواجب أجزأهم وإلا لم يجزهم إلا أن يحضرووا القدر الواجب ثم ينفضوا ويعودوا قبل شروعه في الصلاة من غير طول الفصل فإن طال
الفصل لزمه اعادة الخطبة إن كان الوقت متسعاً، وان ضاق الوقت صلوا ظهراً، والمرجع في طول الفصل وقصره إلى العادة * (فصل) * ويشترط لها الوقت فلو خطب قبل الوقت لم تصح خطبته قياساً على الصلاة.
ويشترط لها الموالاة فان فرق بين الخطبتين أو بين آخر الخطبة الواحدة بكلام طويل أو سكوت طويل مما يقطع الموالاة استأنفها، وكذلك يشترط الموالاة بين الخطبة والصلاة أيضاً فإن فرق بينهما تفريقاً كثيراً بطلت ولا تبطل باليسير لأن الخطبتين مع الصلاة كالمجموعتين، ويحتمل أن الموالاة لا تشترط لأنه ذكر يتقدم الصلاة فلم تشترط الموالاة بينهما كالآذان والاقامة، والمرجع في طول الفصل وقصره إلى العرف وإن احتاج الى الطهارة تطهر ويبني على خطبته، وكذلك تعتبر سائر شروط الجمعة للقدر الواجب من الخطبتين * (مسألة) * (وهل يشترط لهما الطهارة وأن يتولاهما من يتولى الصلاة على روايتين)

(2/183)


اختلفت الرواية في اشتراط الطهارة للخطبة وللشافعي قولان كالروايتين، وقد قال أحمد فيمن خطب وهو جنب ثم اغتسل وصلى بهم تجزيه.
قال شيخنا والأشبه بأصول المذهب اشتراط الطهارة الكبرى لكون قراءة آية شرطاً للخطبة، ولا يجوز ذلك للجنب.
فأما الطهارة الصغرى فالصحيح أنها لا تشترط لأنه ذكر يتقدم الصلاة فلم تكن الطهارة فيه شرط كالأذان ولأنه لو اشترطت لهما الطهارة لاشترط الاستقبال كالصلاة، وعنه أنها تشترط لهما كتكبيرة الاحرام ولكن يستحب أن يكون متطهراً من الحدث والنجس لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عقيب الخطبة لا يفصل بينهما بطهارة فيدل على أنه كان متطهراً والاقتداء به إن لم يكن واجبا فهو سنة * (فصل) * ويشترط أن يتولاهما من يتولى الصلاة في إحدى الروايتين لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله وقد قال " صلوا كما رأيتموني أصلي " ولأن الخطبة أقيمت مقام ركعتين لكن يجوز الاستخلاف للعذر ففي الخطبة والصلاة أولى، وعنه يجوز الاستخلاف لغير عذر فإنه قال في الامام يخطب يوم الجمعة ويصلي الأمير بالناس، لا بأس إذا حضر الامير الخطبة لأن الخطبة منفصلة عن
الصلاة فأشبها الصلاتين، وهل يشترط أن يكون المصلي ممن حضر الخطبة فيه روايتان: إحداهما يشترط وهو قول الثوري وأصحاب الرأي لأنه إمام في الجمعة فاشترط حضور الخطبة كما لو لم يستخلف والثانية لا يشترط وهو قول الأوزاعي والشافعي لأنه ممن تنعقد به الجمعة فجاز أن يؤم فيها كما لو حضر الخطبة.
وقد روى الإمام أحمد رحمه الله أنه لا يجوز الاستخلاف مع العذر أيضاً فإنه قال في الامام إذا أحدث بعدما خطب يقدم رجلاً يصلي بهم لم يصل إلا أربعاً إلا أن يعيد الخطبة ثم يصلي بهم ركعتين، وذلك لأن هذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه والمذهب الاول وهل يجوز أن يتولى الخطبتين اثنان يخطب كل واحد خطبة.
فيه احتمالان إحداهما يجوز كالأذان والاقامة، والثاني لا يجوز لما ذكرنا فيما تقدم * (مسألة) * (ومن سننهما أن يخطب على منبر أو موضع عال لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب الناس على منبر) قال سهل بن سعد: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة أن مري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أجلس عليهن إذا كلمت الناس.
متفق عليه، ولأنه أبلغ في الاعلام وليس ذلك واجباً، فلو خطب على الأرض أو ربوة أو راحلة أو غير ذلك جاز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم على الأرض قبل أن يصنع له المنبر ويستحب أن يكون المنبر عن يمين القبلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا صنع

(2/184)


* (مسألة) * (ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم) ويستحب للامام إذا خرج أن يسلم على الناس، ثم اذا صعد المنبر فاستقبل الحاضرين سلم عليهم يروي ذلك عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز، وبه قال الأوزاعي والشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة لا يسن السلام عقيب الاستقبال لأنه سلم حال خروجه ولنا ما روى جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر سلم عليهم.
رواه ابن ماجه وعن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد يوم الجمعة سلم على من عند المنبر
جالساً، فإذا صعد المنبر سلم عليهم.
رواه أبو بكر باسناده، ومتى سلم رد عليه الناس لأن رد السلام آكد من ابتدائه * (مسألة) * (ثم يجلس إلى فراغ الاذان ويجلس بين الخطبتين) لما روى ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إذا صعد حتى يفرغ الاذان ثم يقوم فيخطب.
رواه أبو داود، وتكون الجلسة بين الخطبتين خفيفة وليست واجبة في قول أكثر أهل العلم.
وقال الشافعي: واجبة ولنا أنها جلسة ليس فيها ذكر مشروع فلم تكن واجبة كالاولى، وقد سرد الخطبة جماعة منهم المغيرة بن شعبة وأبي بن كعب قاله الإمام أحمد، وروي عن أبي إسحق قال: رأيت علياً يخطب على المنبر فلم يجلس حتى فرغ، فان خطب جالساً لعذر استحب أن يفصل بين الخطبتين بسكتة وكذلك إن خطب قائماً فلم يجلس * (مسألة) * (ويخطب قائماً) روي عن الإمام أحمد ما يدل على أن القيام في الخطبة واجب وهو مذهب الامام الشافعي.
فروى الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الخطبة قاعداً أو يقعد في إحدى الخطبتين فلم يعجبه وقال.
قال الله تعالى (وتركوك قائماً) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، فقال له الهيثم ابن خارجة كان عمر بن عبد العزيز يجلس في خطبته فظهر منه إنكار، ووجه ذلك ما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبته وهو قائم يفصل بينهما بجلوس.
متفق عليه، وروى جابر ابن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب، فو الله صليت معه أكثر من ألفي صلاة، رواه مسلم.
وقال القاضي: تجزئه الخطبة قاعداً وقد نص عليه الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة لأنه ذكر ليس من

(2/185)


شرطه الاستقبال فلم يجب له القيام كالأذان ولأن المقصود يحصل بدونه وهذا اختيار أكثر أصحابنا * (مسألة) * (ويعتمد على سيف، أو قوس، أو عصا)
لما روى الحكم بن حزن قال.
وفدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدنا معه الجمعة فقام متوكئاً على عصا أو قوس فحمد الله واثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات.
رواه أبو داود، فان لم يفعل استحب أن يسكن أطرافه، إما أن يضع يمينه على شماله أو يرسلهما ساكنتين إلى جنبيه * (مسألة) * (ويقصد تلقاء وجهه) لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ولأن المقصود في التفاته إلى أحد جانبيه الاعراض عن الجانب الآخر، فان خالف فاستدبر الناس واستقبل القبلة صحت الخطبة لحصول المقصود به كما لو أذن غير مستقبل القبلة.
قال ابن عقيل: ويحتمل أن لا يصح لأنه ترك الجهة المشروعة أشبه ما لو استدبر القبلة في الصلاة، ولأن مقصود الخطبة الموعظة وذلك لا يتم باستدبار الناس (فصل) ويستحب للناس أن يستقبلوا الخطيب اذا خطب.
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله يكون الامام عن يميني متباعداً، فإذا أردت أن أنحرف اليه حولت وجهي عن القبلة، فقال نعم تنحرف اليه، وممن كان يستقبل الامام ابن عمر وأنس وهو قول أكثر العلماء منهم مالك والثوري والشافعي واسحق وأصحاب الرأي.
قال ابن المنذر: هذا كالاجماع.
وروي عن الحسن أنه استقبل القبلة ولم ينحرف إلى الامام، وعن سعيد بن المسيب أنه كان لا يستقبل هشام بن اسماعيل اذا خطب فوكل به هشام شرطياً يعطفه اليه، والأول أولى لما روى عدي بن ثابت عن أبيه عن جده قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم.
رواه ابن ماجه، ولأن ذلك أبلغ في اسماعهم فاستحب كاستقباله إياهم (فصل) ويستحب أن يرفع صوته ليسمع الناس.
قال جابر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب أحمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول " صبحكم مساكم " ويقول " أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة " رواه مسلم ويستحب ترتيب الخطبة وهو أن يبدأ بالحمد قبل الموعظة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ثم يثني على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يعظ، فان عكس ذلك صح لحصول المقصود
قال ابن عقيل: ويحتمل أن لا يجزئه لأنهما فصلان من الذكر يتقدمان الصلاة فلم يصحا منكسين كالأذان والاقامة

(2/186)


ويستحب أن يكون في خطبته مترسلاً مبيناً معرباً لا يعجل فيها ولا يقطعها، وأن يكون متخشعاً متعظاً بما يعظ الناس به لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " عرض علي قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقيل لي هؤلاء خطباء من أمتك يقولون ما لا يفعلون * (مسألة) * (ويستحب تقصير الخطبة) لما روى عمار قال: أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة " رواه مسلم، وعن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هي كلمات يسيرات.
رواه أبو داود * (مسألة) * ويستحب أن يدعو لنفسه والمسلمين والمسلمات والحاضرين، وإن دعا لسلطان المسلمين بالصلاح فحسن وقد روى ضبة بن محصن أن أبا موسى كان اذا خطب فحمد الله واثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لمعر.
وقال القاضي لا يستحب ذلك لأن عطاء قال: هو محدث وفعل الصحابة أولى من قول عطاء لأن سلطان المسلمين اذا صلح كان فيه صلاح لهم، ففي الدعاء له دعاء لهم وذلك مستحب غير مكروه * (فصل) * وسئل الإمام أحمد رحمه الله عمن قرأ سورة الحج على المنبر أيجزيه؟ قال لا لم يزل الناس يخطبون بالثناء على الله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم.
فقال لا تكون الخطبة الا كما خطب النبي صلى الله عليه وسلم أو خطبة تامة، ولأن هذا لا يسمى خطبة ولا يجمع الشروط، فان قرأ آيات فيها حمد الله تعالى والموعظة وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم صح لاجتماع الشروط * (فصل) * وإن قرأ سجدة في أثناء الخطبة فان شاء نزل فسجد وإن أمكنه السجود على المنبر سجد عليه وان ترك السجود فلا حرج فعله عمر وترك، بهذا قال الامام الشافعي ونزل عثمان وأبو موسى
وعمار والنعمان وعقبة بن عامر وبه قال أصحاب الرأي، وقال الامام مالك لا ينزل لأنه تطوع بصلاة فلم يشتغل به في أثناء الخطبة كصلاة ركعتين ولنا فعل عمر وفعل من سمينا من الصحابة رضي الله عنهم ولانه؟؟؟ وجد سببها في أثناء الخطبة لا يطول الفعل بها فاستحب فعلها كحمد الله اذا عطس، ولا يجب ذلك لما قدمنا من أن سجود التلاوة غير واجب ويفارق صلاة ركعتين لأن سببها لم يوخد في الخطبة ويطول بها الفصل * (فصل) * ويستحب الأذان إذا صعد الإمام على المنبر بغير خلاف لأنه قد كان يؤذن للنبي

(2/187)


صلى الله عليه وسلم.
قال السائب بن يزيد كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان زمن عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء رواه البخاري، فهذا النداء الأوسط هو الذي يتعلق به وجوب السعي وتحريم البيع لقوله سبحانه (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) وهذا النداء الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزول الآية فتعلقت الاحكام به، والنداء الاول مستحب في أول الوقت، سنة عثمان رضي الله عنه وعملت به الأمة بعده وهو للإعلام بالوقت، والثاني للاعلام بالخطبة، والثالث للاعلام بقيام الصلاة.
وذكر ابن عقيل أن الآذان الذي يوجب السعي ويحرم البيع هو الآذان الاول على المنارة والصحيح الأول * (فصل) * فأما من يكون منزله بعيداً لا يدرك الجمعة بالسعي وقت النداء فعليه السعي في الوقت الذي يكون مدركاً للجمعة لكونه من ضرورة ادراكها وما لا يتم الواجب إلا به واجب كاستسقاء الماء من البئر للوضوء إذا احتاج إليه * (مسألة) * (ولا يشترط إذن الإمام وعنه يشترط) الصحيح أن اذن الامام الأعظم ليس بشرط في صحة الجمعة وبه قال الامام مالك رحمه الله تعالى والامام الشافعي، والثانية هو شرط روى ذلك عن الحسن والاوزاعي وحبيب بن أبي ثابت والامام أبي حنيفة لأنه لا يقيمها إلا الأئمة في كل عصر فكان في ذلك إجماعاً
ولنا أن علياً رضي الله عنه صلى الجمعة بالناس وعثمان محصور فلم ينكره أحد، وصوب ذلك عثمان رضي الله عنه، فروى حميد بن عبد الرحمن عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه دخل على عثمان وهو محصور فقال انه قد نزل بك ما ترى وأنت إمام العامة.
فقال الصلاة من أحسن ما يعمل الناس فاذا أحسنوا فأحسن معهم وإذا أساؤا فاجتنب اساءتهم أخرجه البخاري والاثرم وهذا لفظه.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى وقعت الفتنة بالشام تسع سنين فكانوا يجمعون ولأنها من فرائض الأعيان فلم يشترط لها اذن الامام، وما ذكروه إجماعاً لا يصح فإن الناس يقيمون الجماعات في القرى من غير استئذان أحد، ثم لو صح أنه لم يقع إلا ذلك لكان إجماعاً على جواز ما وقع لا على تحريم غيره كالحج يتولاه الأئمة وليس شرطاً فيه، فإن قلنا هو شرط فلم يأذن الإمام لم تجز إقامتها وصلوا ظهراً، وإن أذن في إقامتها ثم عادت بطل اذنه، فان صلوا ثم بان أنه مات قبل صلاتهم فهل تجزيهم صلاتهم على روايتين: أصحهما أنها تجزيهم لأن المسلمين في الامصار النائية عن بلد الامام لا يعيدون ما صلوا من الجمعات بعد؟ وته، ولا نعلم احدا أنكر ذلك عليهم فكان أجماعاً، ولأن وجوب الاعادة يشق لعمومه في

(2/188)


أكثر البلدان، وإن تعذر اذن الامام لفتنة فقال القاضي ظاهر كلامه صحتها بغير اذن على كلتا الروايتين.
فعلى هذا إنما يكون الاذن معتبراً عند إمكانه ويسقط بتعذره * (فصل) * قال (وصلاة الجمعة ركعتان يجهر فيهما بالقراءة بغير خلاف) .
قال إبن المنذر أجمع المسلمون على أن صلاة الجمعة ركعتان، وجاء الحديث عن عمر أنه قال صلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى رواه الإمام أحمد وابن ماجة * (مسألة) * (ويستحب أن يقرأ في الاولى بسورة الجمعة وفي الثانية بالمنافقين) يستحب أن يقرأ في الجمعة الفاتحة بهاتين السورتين وهذا مذهب الشافعي وأبي ثور لما روي عن عبد الله بن رافع قال صلى بنا أبو هريرة الجمعة فقرأ سورة الجمعة في الركعة الأولى وفي الركعة الأخرى إذا جاءك المنافقون.
فلما قضى أبو هريرة الصلاة أدركته فقلت يا أبا هريرة قرأت سورتين كان علي يقرأ بهما في الكوفة.
فقال أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في الجمعة رواه مسلم.
وإن قرأ في الثانية بالغاشية فحسن، فإن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير ماذا يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة؟ قال كان يقرأ (هل أتاك حديث الغاشية) أخرجه مسلم.
وإن قرأ في الأولى بسبح وفي الثانية بالغاشية فحسن، فان النعمان بن بشير قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة (بسبح اسم ربك الأعلى.
وهل أتاك حديث الغاشية) فإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد قرأ بهما في الصلاتين أخرجه مسلم.
وقال مالك أما الذي جاء به الحديث هل أتاك حديث الغاشية مع سورة الجمعة والذي أدركت عليه الناس سبح اسم ربك الأعلى وحكي عن أبي بكر عبد العزيز أنه يستحب أن يقرأ في الثانية سبح ولعله صار الى ما حكاه مالك أنه أدرك عليه الناس! واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى، ومهما قرأ به فجائز حسن إلا أن الاقتداء به عليه الصلاة والسلام أحسن، ولأن سورة الجمعة تليق بالجمعة لما فيها من ذكرها والأمر بها والحث عليها * (فصل) * ويستحب أن يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة (الم السجدة.
وهل أتى على الإنسان) نص عليه لما روى ابن عباس وأبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر يوم الجمعة (الم تنزيل وهل أتى على الإنسان حين من الدهر) رواه مسلم.
قال أحمد لا أحب المداومة عليها لئلا يظن الناس أنها مفضلة بسجدة، ويحتمل أن يستحب لأن لفظ الخبر يدل عليه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عمل عملاً أثبته

(2/189)


* (مسألة) * (وتجوز إقامة الجمعة في موضعين من البلد للحاجة ولا يجوز مع عدمها) وجملة ذلك أن البلد اذا كان كبيراً يشق على أهله الاجتماع في مسجد واحد ويتعذر ذلك لتباعد أقطاره أو ضيق مسجده على أهله كبغداد ونحوها جازت إقامة الجمعة في أكثر من موضع على قدر ما يحتاجون إليه وهذا قول عطاء وأجازه أبو يوسف في بغداد دون غيرها، قال لأن الحدود تقام فيها في موضعين والجمعة حيث تقام الحدود، ومقتضى قوله أنه لو وجد بلد آخر تقام فيه الحدود في موضعين كان مثل بغداد لأن الجمعة حيث تقام الحدود وهذا قول ابن المبارك.
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي
لا تجوز الجمعة في بلد واحد في أكثر من موضع واحد، وروي أيضاً عن أحمد مثل ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجمع إلا في مسجد واحد وكذلك الخلفاء بعده، ولو جاز لم يعطلوا الساجد حتى قال ابن عمر لا تقام الجمعة إلا في المسجد الأكبر الذي يصلي فيه الامام ولنا أنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة فجازت فيما يحتاج إليه من المواضع كصلاة العيد.
وقد ثبت أن علياً رضي الله عنه كان يخرج يوم العيد الى المصلى ويستخلف على ضعفة الناس أبا مسعود البدري فيصلي بهم.
فأما ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة جمعتين فلغناهم عن إحداهما ولأن الصحابة كانوا يؤثرون سماع خطبته وشهود جمعته وإن بعدت منازلهم لأنه المبلغ عن الله تعالى وشارع الأحكام ولما دعت الحاجة الى ذلك في الأمصار صليت في أماكن ولم ينكر فصار إجماعاً وقول ابن عمر معناه أنها لا تترك في المساجد الكبار وتقام في الصغار، وأما اعتبار ذلك باقامة الحدود فلا وجه له، قال أبو داود سمعت أحمد يقول أي حد كان يقام بالمدينة قدمها مصعب بن عمير وهم يختبئون في دار فجمع بهم وهم أربعون * (فصل) * فأما مع عدم الحاجة فلا يجوز أكثر من واحدة، وان حصل الغنى باثنتين لم تجز الثالثة، وكذلك ما زاد لا نعلم في هذا مخالفاً إلا أن عطاء قيل له إن أهل البصرة يسعهم المسجد الأكبر قال لكل قوم مسجد يجمعون فيه ويجزي ذلك من التجميع في المسجد الأكبر وما عليه الجمهور أولى إذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه أنهم جمعوا أكثر من جمعة إذ لم تدع الحاجة إلى ذلك، ولا يجوز إثبات الأحكام بالتحكم بغير دليل

(2/190)


* (مسألة) * (فإن فعلوا فجمعة الامام هي الصحيحة) متى صلوا جمعتين في بلد لغير حاجة وإحداهما جمعة الامام فهي الصحيحة تقدمت أو تأخرت لأن في الحكم ببطلان جمعة الامام افتئاتاً عليه وتفويتاً له الجمعة ولمن يصلي معه ويفضي إلى أنه متى شاء أربعون أن يفسدوا صلاة أهل البلد أمكنهم ذلك بأن يسبقوا أهل البلد بصلاة الجمعة، وقيل السابقة هي الصحيحة لأنها لم يتقدمها ما يفسدها ولا تفسد بعد صحتها بما بعدها والاول أصح، وكذلك إن كانت إحداهما في المسجد الجامع والأخرى في مكان صغير لا يسع المصلين أو لا يمكنهم
الصلاة فيه لاختصاص السلطان وجنده به أو غير ذلك أو كانت إحداهما في قصبة والأخرى أقصى المدينة فما وجدت فيه هذه المعاني الصلاة فيه صحيحة دون الأخرى وهذا قول مالك فإنه قال لا أرى الجمعة إلا لأهل القصبة وذلك لأن لهذه المعاني مزية تقتضي التقديم فيقدم بها كجمعة الامام، ويحتمل أن تصح السابقة لأن إذن الامام شرط في إحدى الروايتين فكانت آكد من غيرها * (مسألة) * (فإن استويا فالثانية باطلة وإن لم يكن لاحداهما مزية على الأخرى لكونهما جميعاً مأذونا فيهما أو غير مأذون) ولو تساوى المكانان فالسابقة هي الصحيحة لأنها وقعت بشروطها ولم يزاحمها ما يبطلها ولا سبقها ما يغني عنها، والثانية باطلة لكونها واقعة في مصر أقيمت فيه جمعة صحيحة تغني عمن سواها، ويعتبر السبق بالأحرام لأنه متى أحرم بإحداهما حرم الاحرام بالأخرى للغنى عنها

(2/191)


* (مسألة) * (فإن وقعتا معاً أو جهلت الأولى بطلتا معاً) متى وقع الاحرام بهما معاً مع تساويهما فهما باطلتان لأنه لم يمكن صحتهما معاً وليست إحداهما أولى بالفساد من الأخرى كالمتزوج أختين، وإن لم تعلم الاولى منهما أو لم يعلم كيفية وقوعهما بطلت أيضاً لأن إحداهما باطلة ولم يعلم عينها، وليست إحداهما بالابطال أولى من الأخرى فهي كالتي قبلها ثم ننظر فإن علمنا فساد الجمعتين لوقوعهما معاً وجبت إعادة الجمعة إن أمكن ذلك لأنه مصر ما أقيمت فيه جمعة صحيحة والوقت متسع لإقامتها أشبه ما لو لم يصلوا شيئاً، وان علمنا صحة إحداهما لا بعينها فليس لهم أن يصلوا إلا ظهراً لأن هذا مصر تيقناً سقوط الجمعة فيه بالأولى فلم تجز اقامة الجمعة فيه كما لو علمت، وقال القاضي يحتمل أن لهم إقامة الجمعة لأنا حكمنا بفسادهما معاً فكأن المصر ما صليت فيه جمعة صحيحة، والصحيح الأول لأن الاولى لم تفسد وإنما لم يمكن إثبات حكم الصحة لها بعينها للجهل فيصير هذا كما لو زوج الوليان وجهل السابق منهما فإنه لا يثبت حكم الصحة بالنسبة الى واحد بعينه، ويثبت حكم النكاح في حق المرأة بحيث لا يحل لها أن تنكح زوجاً آخر، فان جهلنا كيفية وقوعهما فالأولى أن لا يجوز إقامة الجمعة أيضاً لأن وقوعهما معاً بحيث لا تسبق إحداهما
الأخرى بعيد جداً وما كان في غاية الندور فحكمه حكم المعدوم، ويحتمل أن لهم إقامتها لأننا لم نتيقن المانع من صحتها والأول أولى

(2/192)


* (فصل) * فان أحرم بالجمعة فتبين في أثناء الصلاة أن الجمعة قد أقيمت في المصر بطلت الجمعة ولزمهم استئناف الظهر لأننا تبينا أنه أحرم بها في وقت لا يجوز الإحرام بها ولا يصح أشبه ما لو أحرم بها وفي وقت العصر.
وقال القاضي يستحب أن يستأنف ظهراً وهذا من قوله يدل على أن له إتمامها ظهراً كالمسبوق بأكثر من ركعة وكما لو أحرم بالجمعة فنقص العدد قبل الركعة والفرق ظاهر فان هذا أحرم بها في وقت لا تصح فيه الجمعة ولا يجوز الإحرام بها بخلاف الأصل المقيس عليه * (فصل) * وإذا كانت قرية الى جانب مصر يسمعون النداء منه أو كان مصران متقاربان يسمع كل منهم نداء المصر الآخر لم تبطل جمعة أحدهما بجمعة الآخر، وكذلك القريتان المتقاربتان لأن لكل قوم منهم حكم أنفسهم بدليل أن جمعة أحد القريتين لا يتم عددها بالفريق الآخر ولا تلزمهم الجمعة بكمال العدد بهم وإنما يلزمهم السعي إذا لم يكن لهم جمعة فهم كأهل المحلة القريبة من المصر * (مسألة) * (وإذا وقع العيد يوم الجمعة فاجتزئ بالعيد عن الجمعة وصلوا ظهراً جاز إلا للإمام)

(2/193)


وقد قيل في وجوبها على الامام روايتان وممن قال بسقوطها الشعبي والنخعي والاوزاعي وقد قيل إنه مذهب عمر وعثمان وعلي وسعيد وابن عمر وابن عباس وابن الزبير، وقال أكثر الفقهاء لا تسقط الجمعة لعموم الآية والأخبار الدالة على وجوبها ولأنهما صلاتان واجبتان فلم تسقط إحداهما بالأخرى كالظهر مع العيد ولنا ما روى أن معاوية سأل زيد بن أرقم هل شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يوم؟ قال نعم.
قال فكيف صنع؟ قال صلى العيد ثم رخص في الجمعة فقال " من شاء أن يصلي فليصل " رواه أبو داود، وفي لفظ للإمام أحمد من شاء أن يجمع فليجمع.
وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة
وإنا مجمعون " رواه ابن ماجه ولأن الجمعة إنما زادت على الظهر بالخطبة وقد حصل سماعها في العيد

(2/194)


فأجزأ عن سماعها ثانياً ونصوصهم مخصوصة بما رويناه وقياسهم منقوض بالظهر مع الجمعة.
فأما الامام فلا تسقط عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " وإنا مجمعون " ولأنه لو تركها لامتنع فعل الجمعة في حق من تجب عليه ومن يريدها ممن سقطت عنه ولا كذلك غير الامام * (فصل) * فان قدم الجمعة فصلاها في وقت العيد فقد روي عن أحمد قال تجزي الاولى منهما فعلى هذا تجزيه عن العيد والظهر ولا يلزمه شئ الا العصر عند من يجوز فعل الجمعة في وقت العيد لما روى أبو داود بإسناده عن عطاء قال اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير فقال: عيدان قد اجتمعا في يوم واحد فجمعهما وصلاهما ركعتين بكرة.
ولم يزد عليهما حتى صلى العصر.
فيروى أن فعله بلغ ابن عباس فقال أصاب السنة.
قال الخطابي وهذا لا يجوز أن يحمل إلا على قول من يذهب إلى تقديم الجمعة قبل الزوال، فعلى هذا يكون ابن الزبير قد صلى الجمعة فسقط

(2/195)


العيد والظهر ولأن الجمعة اذا سقطت بالعيد مع تأكدها فالعيد أولى أن يسقط بها، أما إذا قدم العيد فلابد من صلاة الظهر في وقتها اذا لم يصل الجمعة والله أعلم * (مسألة) * (وأقل السنة بعد الجمعة ركعتان وأكثرها ست ركعات) روي عن أحمد أنه قال إن شاء صلى ركعتين وان شاء صلى أربعا، وفي رواية فان شاء صلى ستاً فأيما فعل من ذلك فهو حسن وكان ابن مسعود والنخعي وأصحاب الرأي يرون أن يصلي بعدها أربعا لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل بعدها أربعا " رواه مسلم، وعن علي رضي الله عنه وأبي موسى وعطاء والثوري أنه يصلي ستاً لما روي عن ابن عمر أنه كان إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعاً

(2/196)


ووجه قولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك كله بما روينا من الأخبار، وروي عن
ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين متفق عليه، وفي لفظ وكان لا يصلي في المسجد حتى ينصرف فيصلي ركعتين في بيته، وهذا يدل على أنه مهما فعل من ذلك كان حسناً.
وقد قال أحمد في رواية عبد الله ولو صلى مع الإمام ثم لم يصل شيئاً حتى صلى العصر كان جائزاً فقد فعله عمران بن حصين * (فصل) * فأما الصلاة قبل الجمعة فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركع قبل الجمعة أربعاً أخرجه ابن ماجة (1) وروي عن عمرو بن سعيد بن العاص عن أبيه قال كنت أبقي.
(2) أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا زالت الشمس قاموا فصلوا أربعاً، وعن عبد الله بن مسعود أنه كان يصلي قبل الجمعة أربع ركعات رواه سعيد
__________
" 1 " لكن قال في الزوائد ان حديثه هذا مسلسل بالضعفاء، وذكر منهم بشر ابن عبيد وقال انه كذاب والآثار الواردة في ذلك صريحة في أنها قبل الزوال فلا تعد سنة قبلية للجمعة " 2 " أي أنتظر يقال فيه أبقي مثل أرمي، وأبقى مثل أعطى، لان ماضيه يستعمل ثلاثيا ورباعيا، ذكره الجوهري اه.
من هامش المغنى المخطوط

(2/197)


* (فصل) * ويستحب لمن أراد الركوع بعد الجمعة أن يفعل بينها وبينه بكلام أو انتقال من مكانه أو خروج لما روى السائب عن يزيد قال صليت مع معاوية الجمعة في المقصورة فلما سلم الامام قمت في مقامي فصليت فلما دخل أرسل إلي فقال لا تعد لما فعلت إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك أن لا نوصل صلاة حتى نتكلم أو نخرج.
أخرجه مسلم * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (ويستحب أن يغتسل للجمعة في يومها والأفضل فعله عند مضيه إليها) لا خلاف في استحباب غسل الجمعة وفيه أحاديث صحيحة منها ما روى سلمان الفارسي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم

(2/198)


الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى " رواه البخاري.
ومنها قوله عليه السلام " غسل يوم
الجمعة واجب على كل محتلم " وقوله " من أتى منكم الجمعة فليغتسل " متفق عليهما، وليس الغسل واجباً في قول أكثر أهل العلم.
قال الترمذي العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم منهم مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وحكاه ابن عبد البر إجماعاً، وعن أحمد أنه واجب روى ذلك عن أبي هريرة وعمرو بن سليم.
وقاول عمار بن ياسر رحلا فقال: أنا اذاً أشر ممن لا يغتسل يوم الجمعة، ووجهه ما ذكرنا من النصوص ولنا ما روى سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل " رواه النسائي والترمذي وقال حديث حسن، وعن أبي هريرة قال

(2/199)


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا " متفق عليه وحديثهم محمول على تأكيد الندب، وكذلك ذكر في سياقه " وسواك وأن يمس طيباً " كذلك رواه مسلم، والسواك ومس الطيب لا يجب، وقالت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: كان الناس مهنة أنفسهم وكانوا يروحون الى الجمعة بهيئتهم فتظهر لهم رائحة فقيل لهم " لو اغتسلتم " رواه مسلم بنحو هذا المعنى، والأفضل أن يفعله عند مضيه إليها لأنه أبلغ في المقصود وفيه خروج من الخلاف * (فصل) * ومتى اغتسل بعد طلوع الفجر أجزأ وإن اغتسل قبله لم يجزئه وهذا قول مجاهد

(2/200)


والحسن والنخعي والثوري والشافعي وإسحق.
وحكي عن الأوزاعي أنه يجزيه الغسل قبل الفجر، وعن مالك لا يجزيه الغسل إلا أن يتعقبه الرواح ولنا قوله صلى الله عليه وسلم " من اغتسل يوم الجمعة " واليوم من طلوع الفجر وإن اغتسل ثم أحدث أجزأه الغسل وكفاه الوضوء وهذا قول الحسن ومالك والشافعي، واستحب طاوس والزهري وقتادة ويحيى بن أبي كثير اعادة الغسل.
ولنا أنه اغتسل في يوم الجمعة أشبه من لم يحدث والحدث انما يؤثر في الطهارة الصغرى ولأن المقصود من الغسل التنظف وإزالة الرائحة وذلك لا يؤثر
فيه الحدث ولانه غسل فلم يؤثر فيه الحدث الأصغر كغسل الجنابة * (فصل) * ويفتقر الغسل الى النية لأنه عبادة فافتقر إلى النية كتجديد الوضوء، وإن اغتسل للجمعة والجنابة غسلاً واحداً ونواهما أجزأه بغير خلاف علمناه لأنهما غسلان اجتمعا فأشبها غسل الحيض والجنابة، وإن اغتسل للجنابة ولم ينو غسل الجمعة ففيه وجهان أحدهما لا يحزيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " وإنما لأمرئ ما نوى " وروي عن ابن لابي قتادة أنه دخل عليه يوم الجمعة مغتسلاً فقال للجمعة اغتسلت؟ قال لا ولكن للجنابة.
قال فأعد غسل الجمعة.
والثاني يجزيه لانه مغتسل

(2/201)


فيدخل في عموم الحديث ولأن المقصود التنظيف وقد حصل ولأنه قد روي في الحديث " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة " * (فصل) * ومن لا يأتي الجمعة لا غسل عليه، قال أحمد ليس على النساء غسل يوم الجمعة وعلى قياسهن الصبيان والمسافرون، وكان ابن عمر لا يغتسل في السفر وكان طلحة يغتسل.
وروي عن مجاهد وطاوس استدلالا بعموم الأحاديث المذكورة ولنا قوله عليه السلام " من أتى الجمعة فليغتسل " ولأن المقصود التنظيف وقطع الرائحة لئلا يتأذى غيره به وذلك مختص بحضور الجمعة والأخبار العامة تحمل على هذا، ولذلك يسمى غسل الجمعة، ومن لا يأتيها فليس غسله غسل الجمعة، فإن أتاها من لا تجب عليه استحب له الغسل لعموم الخبر ووجود المعنى فيه * (مسألة) * (ويتنظف ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه)

(2/202)


التنظف والتطيب والسواك مندوب اليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وسواك وأن يمس طيباً " ويستحب أن يدهن ويتنظف ما استطاع بأخذ الشعر وقطع الرائحة لحديث سلمان الذي ذكرناه، ويستحب أن يلبس ثوبين نظيفين لما روى عبد الله بن سلام أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة يقول " ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم جمعته
سوى ثوبي مهنته " رواه مسلم.
وعن أبي أيوب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان له، ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج وعليه السكينة حتى أتى المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحداً، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت كفارة ما بينها وبين الجمعة الأخرى " رواه الإمام أحمد.
وأفضلها البياض لقوله عليه الصلاة والسلام " خير ثيابكم البياض ألبسوها أحياءكم، وكفنوا فيها موتاكم " والامام في هذا ونحوه آكد لأنه المنظور إليه من بين الناس * (مسألة) * (ويبكر إليها ماشيا ويدنوا من الإمام) للسعي الى الجمعة وقتان: وقت وجوب ووقت فضيلة وقد ذكرنا وقت الوجوب.
وأما وقت الفضيلة فمن أول النهار فكلما كان أبكر كان أولى وأفضل.
وهذا مذهب الأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر، وقال مالك لا يستحب التبكير قبل الزوال لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من راح إلى الجمعة " والرواح بعد الزوال والغد قبله، قال النبي صلى الله عليه وسلم " غدوة في سبيل الله، أو روحة خير من الدنيا وما فيها " قال امرؤ القيس (تروح من الحي أم تبتكر) ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن

(2/203)


راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر " متفق عليه.
وقال علقمة خرجت مع عبد الله إلى الجمعة فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد، أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الناس يجلسون من الله عزوجل يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعة " رواه ابن ماجه.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة صيامها وقيامها " أخرجه الترمذي وقال حديث حسن ورواه ابن ماجة والنسائي وفيه " ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ " وقوله " بكر " أي خرج في بكرة النهار وهو أوله.
وقوله " وابتكر "
أي بالغ في التبكير أي جاء في أول البكرة على ما قال امرؤ القيس (تروح من الحي أم تبتكر) وقيل معناه ابتكر العبادة مع بكورة وقيل " ابتكر الخطبة " أي حضر الخطبة مأخوذ من باكورة الثمرة وهي أولها وغير هذا أجود لأن من جاء في بكرة النهار لزم أن يحضر أول الخطبة وقوله " غسل " أي جامع ثم اغتسل يدل على هذا قوله في الحديث الآخر " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة " قال الامام أحمد قوله " غسل واغتسل " مشددة يريد يغسل أهله.
وغير واحد من التابعين عبد الرحمن بن الأسود وهلال بن يساف يستحبون أن يغسل الرجل أهله يوم الجمعة يريدون أن يطأ لأن ذلك أمكن لنفسه وأغض لطرفه في طريقه.
وقال الخطابي المراد به غسل رأسه واغتسل في بدنه.
وحكي ذلك عن ابن المبارك فعلى هذا يكون معنى قوله " غسل الجنابة " أي كغسل الجنابة.
فأما قول مالك فمخالف

(2/204)


للآثار لأن الجمعة مستحب فعلها عند الزوال وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبكر بها، ومتى خرج الامام طويت الصحف فلم يكتب من أتى الجمعة بعد ذلك، فأي فضيلة لهذا؟ فان آخر بعد ذلك شيئاً دخل في النهي والذم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي جاء يتخطى رقاب الناس " أرأيتك؟ أنيت وآذيت " أي أخرت المجئ، وقال عمر لعثمان حين جاء والامام يخطب أية ساعة هذه؟ على وجه الانكار فكيف يكون لهذا بدنة أو بقرة أو فضل؟ فعلى هذا معنى قوله راح الى الجمعة أي ذهب اليها لا يحتمل غير هذا * (فصل) * ويستحب أن يمشي ولا يركب في طريقها لقوله عليه الصلاة والسلام " ومشى ولم يركب " لأن الثواب على الخطوات بدليل ما ذكرناه من الحديث ويكون عليه السكينة والوقار في مشيه، ولا يسرع لأن الماشي الى الصلاة في صلاة ولا يشبك بين أصابعه، ويقارب بين خطاه لتكثر حسناته.
وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج مع زيد بن ثابت إلى الصلاة فقارب بين خطاه ثم قال " إنما فعلت ذلك لكثرة خطانا في طلب الصلاة " وروي عن عبد الرحمن بن رواحة أنه كان يمشي الى الجمعة حافياً ويبكر ويقصر في مشيه رواهما الأثرم، ويكثر ذكر الله ويغض طرفه ويقول ما ذكرنا في أدب المشي إلى الصلاة ويقول اللهم اجعلني من أوجه من توجه إليك، وأقرب من
توسل اليك وأفضل من سألك ورغب اليك، وروينا عن بعض الصحابة أنه مشى الى الجمعة حافياً

(2/205)


فسئل عن ذلك.
فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار " * (فصل) * ويجب السعي الى الجمعة سواء كان من يقيمها عدلاً أو فاسقاً سنياً أو مبتدعا نص عليه الامام أحمد في رواية عباس بن عبد العظيم، وقد سئل عن الصلاة خلف المعتزلة فقال أما الجمعة فينبغي شهودها قال شيخنا ولا أعلم في هذا خلافا وذلك لعموم قوله تعالى (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي وله إمام جائر أو عادل استخفافاً بها فلا جمع الله له شمله " ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم.
فإن عبد الله بن عمر وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يشهدونها مع الحجاج ونظرائه ولم يسمع عن أحد منهم التخلف عنها ولأن الجمعة من اعلام الدين الظاهرة ويتولاها الأئمة أو من ولوه، فتركها خلف من هذه صفته يفضي الى سقوطها.
إذا ثبت هذا فإنها تعاد خلف من تعاد خلفه بقية الصلوات نص عليه الامام أحمد في رواية عباس بن عبد العظيم، وعنه رواية أخرى أنها لا تعاد لأن الظاهر من حال الصحابة رضي الله عنهم أنهم لم يكونوا يعيدونها لأنهم لم ينقل ذلك عنهم، وقد ذكرنا ذلك في باب الامامة

(2/206)


* (فصل) * ويستحب الدنو من الإمام لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ " وعن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " احضروا الذكر وادنوا من الإمام فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة " رواه أبو داود ولأنه أمكن له من السماع * (مسألة) * (ويشتغل بالصلاة والذكر ويقرأ سورة الكهف في يومها ويكثر الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) إذا حضر قبل الخطبة اشتغل بالصلاة وذكر الله تعالى لقول النبي صلى الله عليه وسلم " واعلموا
أن من خير أعمالكم الصلاة " ويقرأ سورة الكهف في يوم الجمعة لما روي عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة وإن خرج الدجال عصم منه " رواه زيد بن علي في كتابه بإسناده، وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه

(2/207)


إلى عنان السماء يضئ به إلى يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين " ويستحب أن يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لما روي عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة " رواه ابن ماجه، وعن أوس بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي " قالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ (أي بليت) قال " إن الله عزوجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء عليهم السلام " رواه أبو داود * (فصل) * ويستحب الإكثار من الدعاء يوم الجمعة لعله يوافق ساعة الإجابة لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال " فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه " وأشار بيده يقللها وفي لفظ " وهو قائم يصلي " متفق عليه.
واختلف في تلك الساعة فقال عبد الله ابن سلام وطاوس هي آخر ساعة في يوم الجمعة وفسر عبد الله بن سلام الصلاة بانتظارها بقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة " رواه ابن ماجه، وروي هذا القول مرفوعاً، فعلى هذا يكون القيام بمعنى الملازمة والاقامة كقوله تعالى

(2/208)


إلا مادمت عليه قائما) وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " التمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد العصر إلى غيبوبة الشمس " أخرجه الترمذي، وقيل هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة لما روى أبو موسى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " هي ما بين
أن يجلس الإمام إلى أن يقضي الإمام الصلاة " رواه مسلم، وعن عمرو بن عوف المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن في الجمعة ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئاً إلا آتاه الله إياه " قالوا يا رسول الله أية ساعة هي؟ قال " حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها " رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن غريب.
فعلى هذا تكون الصلاة مختلفة فتكون في حق كل قوم في وقت صلاتهم وقيل هي ما بين الفجر إلى طلوع الشمس، ومن العصر الى غروبها وقيل هي الساعة الثالثة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لأي شئ سمي يوم الجمعة؟ قال " لأن فيها طبعت طينة أبيك آدم، وفيها الصعقة والبعثة وفيها البطشة، وفي آخر ثلاث ساعات منها من دعا الله

(2/209)


فيها استجيب له " رواه الإمام أحمد.
وقال كعب لو قسم الانسان جمعه في جمع أتى على تلك الساعة وقيل هي متنقلة في اليوم، وقال ابن عمر أن طلب حاجة في يوم ليسير، وقيل أخفى الله تعالى هذه الساعة ليجتهد العباد في طلبها وفي الدعاء في جميع اليوم، كما أخفي ليلة القدر في رمضان وأولياءه في الناس ليحسن الظن بجميع الصالحين * (مسألة) * (ولا يتخطى رقاب الناس إلا أن يكون إماماً أو يرى فرجة فيتخطى إليها وعنه يكره) يكره تخطي رقاب الناس لغير الإمام لقول النبي صلى الله عليه وسلم " فلا يفرق بين اثنين " وقوله صلى الله عليه وسلم " ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحداً " وقوله صلى الله عليه وسلم للذي جاء يتخطى رقاب الناس " اجلس فقد أنيت وآذيت " رواه ابن ماجه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسراً الى جهنم " رواه أبو داود والترمذي وقال لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد وقد ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه.
فأما الإمام فإذا لم يجد طريقاً فلا يكره له التخطي لأنه موضع حاجة * (فصل) * إذا رأى فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي ففيه روايتان: إحداهما له التخطي قال أحمد يدخل الرجل ما استطاع ولا يدع بين يديه موضعاً فارغا، وذلك لأن الذي جلس دون الفرجة ضيع حقه بتأخره عنها وأسقط حرمته فلا بأس بتخطيه وبه قال الأوزاعي، وقال قتادة يتخطاهم الى مصلاه

(2/210)


وقال الحسن يخطو رقاب الذين يجلسون عى أبواب المسجد فانه لا حرمة لهم وعنه يكره لما ذكرنا من الأحاديث، وعنه إن كان يتخطى الواحد والاثنين فلا بأس فإن كثر كرهناه وكذلك قال الشافعي إلا أن لا يجد سبيلاً الى مصلاه الا بالتخطي فيسعه التخطي إن شاء الله.
قال شيخنا ولعل قول أحمد ومن وافقه في الرواية الأولى فيما إذا تركوا مكاناً واسعاً مثل الذين يصفون في آخر المسجد ويتركون بين أيديهم صفوفاً خالية فهؤلاء لا حرمة لهم كما قال الحسن لأنهم خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ورغبوا عن الفضيلة وخير الصفوف وجلسوا في شرها فتخطيهم مما لابد منه.
وقوله الثاني في حق من لم يفرط وإنما جلسوا في مكانهم لامتلاء ما بين أيديهم، فأما إن لم تمكن الصلاة الا بالتخطي جاز لأنه موضع حاجة * (مسألة) * (ولا يقيم غيره فيجلس في مكانه إلا من قدم صاحباً له فجلس في موضع يحفظه له) ليس له أن يقيم إنساناً ويجلس في موضعه سواء كان المكان لشخص يجلس فيه أو موضع حلقة لمن يحدث فيها أو حلقة يتذاكر فيها الفقهاء أو لم يكن لما روى ابن عمر قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل (يعني أخاه) من مقعده ويجلس فيه متفق عليه ولأن المسجد بيت الله تعالى والناس فيه سواء العاكف فيه والبادي فمن سبق الى مكان منه فهو أحق به لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به " فإن قدم صاحباً له فجلس حتى إذا جاء قام صاحبه

(2/211)


وأجلسه فلا بأس لأن النائب يقوم باختياره.
وقد روي عن محمد بن سيرين أنه كان يرسل غلاماً له يوم الجمعة فيجلس في مكان فاذا جاء قام الغلام وجلس فيه محمد فإن لم يكن نائباً فقام باختياره ليجلس آخر مكانه فلا بأس لأنه قوم باختيار نفسه أشبه النائب.
وأما القائم فان انتقل الى مثل مكانه الذي آثر به في القرب وسماع الخطبة فلا بأس وإلا كره له ذلك لأنه يؤثر على نفسه في الدين، ويحتمل أن لا يكره إذا كان الذي آثره من أهل الفضل لأن تقديمهم مشروع لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ليلني منكم أولو الأحلام والنهى " ولو آثر شخصاً بمكانه فليس لغيره أن يسبقه اليه لأنه قام مقام
الجالس في استحقاق مكانه أشبه ما لو تحجر مواتاً ثم أثر به غيره، وقال ابن عقيل يجوز لأن القائم أسقط حقه بالقيام فبقي على الأصل فكان السابق اليه أحق به كمن وسع لرجل في طريق فمر غيره والصحيح الاول، ويفارق التوسعة في الطريق لأنها جعلت للمرور فيها فمن انتقل من مكان فيها لم يبق له حق يؤثر به، والمسجد جعل للإقامة فيه وكذلك لا يسقط حق المنتقل منه اذا انتقل منه لحاجة، وهذا إنما انتقل مؤثراً لغيره فأشبه النائب الذي يعينه إنسان ليجلس في موضع يحفظه له، ولو كان الجالس مملوكاً لم يكن لسيده أن يقيمه لعموم الخبر ولأن هذا ليس بمال وإنما هو حق ديني فاستوى فيه العبد وسيده كالحقوق الدينية

(2/212)


* (مسألة) * (وإن وجد مصلى مفروشة فهل له رفعها؟ على روايتين) إحداهما ليس له ذلك لأن فيه افتئاتاً على صاحبها وربما أفضى إلى الخصومة ولأنه سبق إليه أشبه السابق إلى رحبة المسجد ومقاعد الأسواق.
والثاني يجوز رفعه والجلوس موضعه لأنه لا حرمة له ولأن السبق بالابدان هو الذي يحصل به الفضل لا بالأوطئة، ولأن تركها يفضي إلى أن يتأخر صاحبها ثم يتخطى رقاب الناس ورفعها ينفي ذلك * (مسألة) * (ومن قام من موضعه لعارض لحقه ثم عاد إليه فهو أحق به) اذا جلس في مكان ثم بدت له حاجة أو احتاج الى الوضوء فله الخروج لما روى عقبة قال صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر فسلم ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى حجر بعض نسائه فقال " ذكرت شيئاً من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته " رواه البخاري.
واذا قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به رواه مسلم، وحكمه في التخطي الى موضعه حكم من رأى بين يديه فرجة * (فصل) * ويستحب لمن نعس يوم الجمعة أن يتحول من موضعه لما روى ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا نعس أحدكم يوم الجمعة في مجلسه فليتحول إلى غيره " رواه الإمام أحمد ولأن ذلك يصرف عنه النوم * (فصل) * وتكره الصلاة في المقصورة التي تحمى نص عليه أحمد، وروي عن ابن عمر أنه كان
إذا حضرت الصلاة في المقصورة خرج وكرهه الاحنف وابن محير؟ والشعبي وإسحق ورخص فيه

(2/213)


أنس والحسن والحسين رضي الله عنهم والقاسم وسالم لأنه من الجامع كسائر المسجد، ووجه الأول أنه يمنع الناس من الصلاة فيه فصار كالمغصوب فكره لذلك، فإن كانت لا تحمى احتمل أن لا تكره الصلاة فيها لعدم شبه الغصب واحتمل أن تكره لأنها تقطع الصفوف فأشبه الصلاة بين السواري، فعلى هذا إنما تكره الصلاة فيها اذا قطعت الصفوف * (فصل) * واختلفت الرواية عن أحمد في الصف الأول فقال في موضع هو الذي يلي المقصورة لأنها تحمى.
وقال ما أدري هل الصف الاول الذي يقطعه المنبر أو الذي يليه؟ قال شيخنا والصحيح أنه الذي يقطعه المنبر لأنه الصف الاول حقيقة، ولو كان الأول ما دونه أفضى الى خلو ما يلي الامام ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يليه فضلاؤهم، ولو كان الصف الاول وراء المنبر لوقفوا فيه * (مسألة) * (ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين يوجز فيهما) وبه قال الحسن وابن عيبنة والشافعي وإسحق وأبو ثور وابن المنذر، وقال شريح وابن سيرين والنخعي وقتادة والثوري ومالك والليث وأبو حنيفة يكره له أن يركع لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي جاء يتخطى رقاب الناس " اجلس فقد أنيت وآذيت " رواه ابن ماجه، ولأن الركوع يشغله عن استماع الخطبة فكره كغير الداخل ولنا ما روى جابر قال جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب قال صليت يا فلان؟ قال لا.

(2/214)


قال قم فصل ركعتين " متفق عليه.
وفي لفظ لمسلم " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما " فان جلس قبل أن يركع استحب له أن يقوم فيركع لما روى جابر أن سليكا الغطفاني جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر فقعد سليك قبل أن يصلي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " اركعت ركعتين؟ قال لا.
قال قم فاركعهما " رواه مسلم، وفي لفظ جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس فقال " يا سليك قم فاركع ركعتين
وتجوز فيهما " وحديثهم قضية في عين يحتمل أنه أمره بالجلوس لضيق المكان أو لكونه في آخر الخطبة بحيث لو تشاغل بالصلاة فاتته تكبيرة الاحرام.
والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالجلوس ليكف أذاه عن الناس فان خشي أن يفوته أول الصلاة اذا تشاغل بهما لم يستحب له التشاغل بهما لذلك * (فصل) * وينقطع التطوع بجلوس الإمام على المنبر فلا يصلي أحد غير الداخل يصلي تحية المسجد روي عن ابن عباس وابن عمر لما روى ثعلبة بن مالك أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله يوم الجمعة يصلون حتى يخرج عمر ولأنه يشتغل عن سماع الخطبة المندوب اليه * (فصل) * ويكره التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي * (مسألة) * (ولا يجوز الكلام والإمام يخطب إلا له أو لمن كلمه) يجب الانصات من حين يأخذ الامام في الخطبة فلا يجوز الكلام لمن حضرها، نهى عن ذلك

(2/215)


عثمان وابن عمر وقال أبو مسعود: اذا رأيته يتكلم والامام يخطب فأقرع رأسه بالعصا، وكره ذلك عامة أهل العلم منهم مالك وأبو حنيفة والاوزاعي.
وعن أحمد لا يحرم الكلام، وكان سعيد بن جبير والنخعي والشعبي وأبو بردة يتكلمون والحجاج يخطب، وقال بعضهم إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا، وللشافعي قولان كالروايتين.
واحتج من أجازه بما روى أنس قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قام رجل فقال يا رسول الله هلك الكراع هلك الشاء فأدع الله أن يسقينا.
وذكر الحديث متفق عليه.
وروى أن رجلاً قام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقال يا رسول الله متى الساعة؟ فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم وأومأ الناس إليه بالسكوت فلم يقبل وأعاد الكلام.
فلما كان الثالثة قال له النبي صلى الله عليه وسلم " ويحك ماذا أعددت لها؟ قال حب الله ورسوله.
قال إنك مع من أحببت " فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم كلامه ولو حرم لا نكره ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت " متفق عليه، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من
تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له أنصت ليس له جمعة " رواه الإمام أحمد.
وعن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ يوم الجمعة تبارك وهو قائم فذكرنا بأيام الله - وأبو الدرداء وأبو ذر يغمزني - فقال متى أنزلت هذه السورة إني لم أسمعها إلا الآن

(2/216)


فأشار إليه (1) أن أسكت فلما انصرفوا قال سألتك متى أنزلت هذه السورة فلم تخبرني فقال أبي ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت.
فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك وأخبره بالذي قال أبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صدق أبي " رواه عبد الله بن أحمد وابن ماجة (2) وما احتجوا به فالظاهر أنه مختص بمن كلم الامام أو كلمه الامام لأنه لا يشتغل بذلك عن سماع خطبته وكذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم الذي دخل " هل صليت " فأجابه.
وسأل عمر عثمان فأجابه فتعين حمله على ذلك جمعاً بين الأخبار، ولا يصح قياس غيره عليه لأن كلام الامام لا يكون في حال خطبته بخلاف غيره، ولو قدر التعارض ترجحت أحاديثنا لأنها قول النبي صلى الله عليه وسلم ونصه وذلك سكوته والنص أقوى * (فصل) * ولا فرق بين القريب والبعيد لعموم ما ذكرناه، وقد روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال من كان قريباً يسمع وينصت ومن كان بعيداً ينصت فان للمنصت الذي لا يسمع من الحظ ما للسامع، وقد روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يحضر الجمعة ثلاثة نفر
__________
" 1 " أي أبي " 2 " وهو صحيح السند

(2/217)


رجل حضرها بلغو فهو حظه منها، وجل حضرها بدعاء فهو رجل دعا الله عزوجل إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحداً فهو كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام وذلك بأن الله عزوجل يقول (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) رواه الإمام أحمد وأبو داود.
وقال القاضي يجب الانصات على السامع ويستحب لمن لا يسمع لأن الانصات إنما وجب لأجل الاستماع والأول أولى لعموم النصوص، وللبعيد أن يذكر الله تعالى
ويقرأ القرآن ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرفع صوته.
قال أحمد لا بأس أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبين نفسه ورخص له في القراءة والذكر عطاء وسعيد بن جبير والشافعي وليس له رفع صوته ولا المذاكرة في الفقه ولا الصلاة ولا أن يجلس في حلقة، قال ابن عقيل له صلاة النافلة والمذاكرة في الفقه ولنا عموم الأحاديث المذكورة وأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة ولأنه اذا رفع صوته منع من هو أقرب منه من السماع وآذاه بذلك فيكون عليه إثم من يؤذي المسلمين وصد عن ذكر الله تعالى، وهل ذكر الله سراً أفضل أو الانصاف؟ فيه وجهان: أحدهما الانصات أفضل لحديث عبد الله بن عمرو وقول عثمان.
والثاني الذكر أفضل لأنه لا يحصل ثواب الذكر من غير ضرر فكان أفضل كقبل الخطبة

(2/218)


* (فصل) * فأما الكلام على الخطيب أو من كلمه فلا يحرم لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل سليكاً الداخل وهو يخطب أصليت؟ قال لا، وسأل عمر عثمان حين دخل وهو يخطب فأجابه عثمان ولأن تحريم الكلام عليه لاشتغاله بالأنصات الواجب وسماع الخطبة ولا يحصل ها هنا، وسواء سأله الخطيب فأجابه أو كلم بعض الناس الخطيب لحاجة ابتداء لما ذكرنا من الحديثين قبل * (فصل) * واذا سمع متكلماً لم ينهه بالكلام لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت " ولكن يشير إليه ويضع اصبعه على فيه كما روينا عن أبي.
وهذا قول زيد بن صوخان وعبد الرحمن بن أبي ليلي والثوري والاوزاعي وكره الاشارة طاوس.
ولنا أن الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة أومأ اليه الناس بالسكوت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليهم ولأن الاشارة تجوز في الصلاة للحاجة التي يبطلها الكلام فجوازها في الخطبة أولى * (فصل) * فأما الكلام الواجب كتحذير الضرير من البئر ومن يخاف عليه ناراً أو حية ونحو ذلك فلا يحرم لأن هذا يجوز في نفس الصلاة مع فسادها به فهنا أولى.
فأما تشميت العاطس ورد السلام ففيه روايتان: إحداهما يجوز.
قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل يرد الرجل السلام يوم
الجمعة ويشمت العاطس؟ فقال نعم والامام يخطب.
وقال أبو عبد الله قد فعله غير واحد، قال ذلك غير مرة.
وممن يرخص فيه الحسن والشعبي والنخعي وقتادة والثوري وإسحق لأن هذا واجب فوجب الإتيان به في الخطبة لحق الآدمي فهو كتحذير الضرير.
والرواية الثانية أن كان لا يسمع در

(2/219)


السلام وشمت العاطس، وإن كان يسمع فليس له ذلك نص عليه أحمد في رواية أبي داود.
قلت لأحمد يرد السلام والامام يخطب ويشمت العاطس؟ قال إذا كان لا يسمع الخطبة فيرد وإذا كان يسمع فلا.
قال الله تعالى (فاستمعوا له وأنصتوا) قيل له الرجل يسمع نغمة الامام بالخطبة ولا يدري ما يقول أيرد السلام؟ قال لا.
وروي نحو ذلك عن عطاء وذلك لأن الانصات واجب فلم يجز الكلام المانع منه من غير ضرورة كالأمر بالانصات بخلاف من لا يسمع، وقال القاضي لا يرد ولا يشمت، وروي نحو ذلك عن ابن عمر وهو قول مالك والاوزاعي وأصحاب الرأي واختلف فيه عن الشافعي فيحتمل قول القاضي أن يكون مختصاً بمن يسمع فيكون مثل الرواية الثانية، ويحتمل أن يكون عاماً في الجميع لأن وجوب الانصات شامل لهم فأشبهوا السامعين، ويجوز أن يرد على المسلم بالإشارة ذكره القاضي في المجرد لأنه يجوز في الصلاة فها هنا أولى * (مسألة) * (ويجوز الكلام قبل الخطبة وبعدها وعنه يجوز فيها) يجوز الكلام قبل الخطبة وبعد فراغه منها من غير كراهة وبهذا قال عطاء وطاوس والزهرى النخعي ومالك والشافعي وإسحق ويعقوب ومحمد وروي عن ابن عمر وكرهه الحكم، وقال أبو حنيفة إذا خرج الإمام حرم الكلام، قال ابن عبد البر: ابن عمر وابن عباس كانا يكرهان الكلام والصلاة بعد خروج الامام ولا مخالف لهم في الصحابة ولنا ما روى ثعلبة بن مالك أنهم كانوا يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر فاذا سكت المؤذن وقام عمر لم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبة فاذا قامت الصلاة ونزل عمر تكلموا.
وهذا يدل

(2/220)


على شهرة الأمر بينهم ولأن قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام
يخطب فقد لغوت " يدل على تخصيصه بوقت الخطبة ولأن الكلام؟ إنما حرم لأجل الانصات للخطبة ولا وجه لتحريمه مع عدمها، وقولهم لا مخالف لهما في الصحابة قد ذكرنا عن عمومهم خلاف ذلك * (فصل) * فأما الكلام في الجلسة بين الخطبتين فيحتمل جوازه لما ذكرنا وهذا قول الحسن ويحتمل المنع وهو قول مالك والشافعي والاوزاعي وإسحق لأنه سكوت يسير في أثناء الخطبتين أشبه السكوت للتنفس.
واذا بلغ الخطيب الى الدعاء فهل يجوز الكلام؟ فيه وجهان: أحدهما الجواز لأنه فرغ من الخطبة أشبه ما لو نزل.
والثاني لا يجوز لأنه تابع للخطبة فيثبت له ما ثبت لها كالتطويل في الموعظة ويحتمل أنه إن كان دعاء مشروعاً كالدعاء للمؤمنين والمؤمنات، والامام العادل أنصت وإن كان لغيره لم يلزم الانصات لأنه لا حرمة له * (فصل) * ويكره العبث والامام يخطب لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ومن مس الحصى فقد لغا " قال الترمذي هذا حديث صحيح.
واللغو الاثم قال الله تعالى (والذين هم عن اللغو معرضون) ولأن العبث يمنع الخشوع ويكست الاثم ويكره أن يشرب والامام يخطب اذا كان يسمع وبه قال مالك والاوزاعي ورخص فيه مجاهد وطاوس والشافعي لأنه لا يشتغل عن السماع، ووجه الأول أنه فعل يشتغل به أشبه مس الحصى فإن كان لا يسمع لم يكره نص عليه لأنه لم يسمع فلا يشتغل به * (فصل) * قال الامام أحمد لا يتصدق على السؤال والامام يحطب لانهم فعلوا مالا يجوز فلا يعينهم عليه، قال الامام أحمد وإن حصبه كان أعجب إلي لأن ابن عمر رأى سائلاً يسأل والامام يحطب يوم الجمعة فحصبه قيل للامام أحمد فإن تصدق عليه إنسان فناولته والامام يحطب؟ قال لا.
قيل فان سأل

(2/221)


قبل خطبة الامام ثم جلس فأعطاني رجل صدقة أناوله إياها قال نعم.
هذا لم يسأل والامام يخطب * (فصل) * ولا بأس بالاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب روى ذلك عن ابن عمر وجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإليه ذهب عامة أهل العلم منهم مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وقال أبو داود لم يبلغني ان أحداً كرهه إلا عبادة بن سنى لان سهل بن معاذ روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب رواه أبو داود
ولنا ما روى يعلى بن شداد بن أوس قال شهدت مع معاوية ببيت المقدس فجمع بنا فنطرت فاذا جل من في المسجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيتهم محتبين والامام يحطب، وفعله ابن عمر وأنس ولا نعرف لهما مخالفا فكان إجماعا والحديث في إسناده مقال قاله ابن المنذر والأولى تركه لأجل الحديث وإن كان ضعيفاً لأنه يصير به متهيئاً للنوم والسقوط واسقاط الوضوء، ويحمل النهي في الخبر على الكراهة وأحوال الصحابة الذين فعلوه على أنه لم يبلغهم الخبر * (فصل) * قال الامام أحمد إذا كان يقرؤن الكتاب يوم الجمعة على الناس بعد الصلاة أعجب الي أن يسمع اذا كان فتحاً من فتوح المسلمين أو كان فيه شئ من أمور المسلمين، وان كان شئ إنما فيه ذكرهم فلا يستمع، وقال في الذين يصلون في الطرقات إذا لم يكن بينهم باب مغلق فلا بأس وسئل عمن صلى خارج المسجد يوم الجمعة والأبواب مغلقة قال أرجو أن لا يكون به بأس، وسئل عن الرجل يصلي يوم الجمعة وبينه وبين الامام سترة قال إذا لم يقدر على غير ذلك يعني يجزيه

(2/222)