الشرح
الكبير على متن المقنع * (باب صلاة أهل الاعذار) * * (مسألة) *
(ويصلي المريض كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين " صل
قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب " رواه البخاري أجمع
أهل العلم على أن من لا يطبق القيام له أن يصلي جالساً لهذا الحديث، ولما
روى أنس قال:
(2/85)
سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرس
فجحش أو خدش شقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده فحضرت الصلاة فصلى قاعداً وصلينا
قعوداً.
متفق عليه (فصل) فإن أمكنه القيام إلا أنه يخشى تباطؤ برئه أو زيادة مرضه،
أو يشق عليه مشقة شديدة فله أن يصلي قاعداً ونحوه قال مالك واسحاق، وقال
ميمون بن مهران: إذا لم يستطع أن يقوم لدنياه فليصل جالساً وحكي بجواز ذلك
عن أحمد ولنا قول الله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وهذا حرج،
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى جالساً لما جحش شقه، والظاهر أن من جحش
شقه لا يعجز عن القيام بالكلية ومتى صلى قاعداً فانه يكون على صفة صلاة
المتطوع جالساً على ما ذكرنا (فصل) فإن قدر على القيام بأن يتكئ على عصى،
أو يستند على حائط،، أو يعتمد على أحد جانبيه لزمه لأنه قادر على القيام من
غير ضرر فلزمه كما لو قدر بغير هذه الاشياء، وان قدر على
القيام إلا أنه يكون على هيئة الراكع كالأحدب والكبير لزمه ذلك لأنه قيام
مثله، وإن كان لقصر سقف لا يمكنه الخروج، أو سفينة، أو خائف لا يعلم به الا
اذا رفع رأسه ففيه احتمالان: أحدهما يلزمه القيام كالأحدب، والثاني لا
يلزمه.
فإن أحمد قال: الذي في السفينة لا يقدر أن يستتم قائماً لقصر سماء السفينة
يصلي قاعداً إلا أن يكون شيئاً يسيراً فيقاس عليه ما في معناه لحديث عمران
المذكور (فصل) فإن قدر المريض على الصلاة وحده قائماً ولا يقدر مع الامام
لتطويله احتمل أن يلزمه القياس ويصلي وحده لأن القيام ركن لا تتم صلاته الا
به، والجماعة تصح الصلاة بدونها واحتمل أنه مخير بين الأمرين لأنا أبحنا له
ترك القيام المقدور عليه مع إمام الحي العاجز عنه مراعاة للجماعة فهاهنا
أولى، ولأن الأجر يتضاعف بالجماعة أكثر من تضاعفه بالقيام لأن صلاة القاعد
على النصف من صلاة القائم، فصلاة الجماعة تفضل على صلاته وحده سبعاً وعشرين
درجة وهذا أحسن، وهو مذهب الشافعي * (فصل) * فإن عجز عن القعود صلى على جنب
لما ذكرنا من الحديث، ويستقبل القبلة بوجهه وهذا قول مالك والشافعي وابن
المنذر، وقال سعيد بن المسيب وأبو ثور وأصحاب الرأي يصلي مستلقياً ورجلاه
الى القبلة ليكون إيماؤه اليها فانه إذا صلى على جنبه كان وجهه في الايماء
إلى غير القبلة ولنا قوله عليه السلام فإن لم يستطع فعلى جنب ولأنه يستقبل
القبلة إذا كان على جنبه.
واذا كان على ظهره إنما يستقبل السماء ولذلك يوضع الميت على جنبه ليكون
مستقبلاً للقبلة، قولهم إن وجهه في الايماء الى القبلة قلنا استقبال القبلة
إنما يكون في غير حال الركوع والسجود فان
(2/86)
وجهه فيهما إنما يكون الى الأرض، فكذلك
المريض ينبغي ان لا يعتبر استقباله فيهما، والمستحب أن يصلي على جنبه
الأيمن لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيمن في شأنه كله، وإن صلى
على الأيسر جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين في الحديث جنباً ولأن
المقصود استقبال القبلة، وهو حاصل على كلا الجنبين * (مسألة) * (فان صلى
على ظهره ورجلاه إلى القبلة صحت صلاته)
في أحد الوجهين متى صلى على ظهره مستلقياً مع القدرة على الصلاة على جنبه
ففيه وجهان: أحدهما يصح وهو ظاهر كلام أحمد لأنه نوع إستقبال، ولهذا يوجه
الميت كذلك عند الموت، والثاني لا يصح وهو أظهر لأنه مخالف للحديث المذكور
فإنه قال عليه السلام " فإن لم يستطع فعلى جنب " ولأن في حديث عمران؟ ن
رواية إلا وسعها، وهذا صريح فإن نقله إلى الاستلقاء عند العجز عن الصلاة
على جنب فدل على أنه لا يجوز مع القدرة عليه، فإن عجز عن الصلاة على جنبه
صلى مستلقياً وجهاً واحداً للحديث المذكور * (مسألة) * (ويومئ بالركوع
والسجود ويجعل سجوده أخفض من ركوعه) متى عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما،
ويجعل سجوده أخفض من ركوعه اعتباراً بالأصل كما قلنا في حالة الخوف، فإن
عجز عن السجود وحده ركع وأومأ بالسجود، وإن لم يمكنه أن يحني ظهره فصار
كالراكع زاد في الانحناء قليلاً اذا ركع ويقرب وجهه الى الأرض في السجود
حسب الامكان، فإن قدر على السجود على صدغه لم يفعل لأنه ليس من أعضاء
السجود، وان وضع بين يديه وسادة أو شيئاً عالياً أو سجد على ربوة أو حجر
جاز إذا لم يكن يمكنه تنكيس وجهه أكثر من ذلك.
وحكي عن أحمد أنه قال اختار السجود على المرفقة وقال هو أحب إلي من الايماء
واختاره إسحق وجوزه الشافعي وأصحاب الرأي ورخص فيه ابن عباس وسجدت أم سلمة
على مرفقة، وكره ابن مسعود السجود على عود وقال الايماء أحب إلي، ووجه
الجواز أنه أتى بما يمكنه من الانحطاط أشبه الايماء.
فأما إن رفع الى وجهه شيئاً فسجد عليه فقال بعض أصحابنا لا يجزيه، وروي نحو
ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وجابر وأنس وهو قول مالك والثوري لأنه سجد على
ما هو حامل له أشبه ما لو سجد على يديه، وروى الأثرم عن أحمد أنه قال أي
ذلك فعل فلا بأس يومئ أو يرفع المرفقة فيسجد عليها، قيل له فالمروحة؟ قال
أما المروحة فلا.
وروي عنه أنه قال الايماء أحب إلي وإن رفع الى وجهه شيئاً أجزأه، ولا بد أن
يكون بحيث لا يمكنه الانحطاط أكثر منه ووجه ذلك أنه أتى بما يمكنه من
الانحطاط أشبه ما لو أومأ
(2/87)
* (مسألة) * (فإن عجز عنه أومأ بطرفه ولا
تسقط الصلاة) متى عجز عن الايماء برأسه أومأ بطرفه ونوى بقلبه ولا تسقط عنه
الصلاة متى دام عقله ثابتاً.
وحكي عن أبي حنيفة ان الصلاة تسقط عنه، وذكر القاضي أنه ظاهر كلام أحمد
رواه محمد بن يزيد لما روي عن أبي سعيد أنه قيل له في مرضه الصلاة قال قد
كفاني إنما العمل في الصحة ولأنه عجز عن أفعال الصلاة بالكلية فسقطت عنه.
ولنا أنه مسلم بالغ عاقل فلزمته الصلاة كالقادر على الايماء برأسه *
(مسألة) * (فإن قدر على القيام أو القعود في أثنائها انتقل اليه وأتمها)
ومتى قدر المريض في أثناء الصلاة على ما كان عاجزاً عنه من قيام أو قعود أو
ركوع أو سجود أو ايماء انتقل إليه وبنى على ما مضى من صلاته، وهكذا لو
ابتدأها قادراً ثم عجز في أثناء الصلاة لحديث عمران ولأن ما مضى من صلاته
كان صحيحاً فبنى عليه كما لو لم تتغير حاله * (مسألة) * (وإن قدر على
القيام وعجز عن الركوع والسجود أومأ بالركوع قائماً وبالسجود قاعداً) وهذا
قول الشافعي، وقال أبو حنيفة يسقط القيام لأنها صلاة لا ركوع فيها ولا سجود
فسقط فيها القيام كالنافلة على الراحلة ولنا قوله تعالى (وقوموا لله
قانتين) وحديث عمران الذي ذكرناه ولأن القيام ركن قدر عليه فلم يسقط بالعجز
عن غيره كالقراءة وقياسهم فاسد لوجوه: أحدها أن الصلاة على الراحلة لا يسقط
فيها الركوع (الثاني) ان النافلة لا يجب القيام فيها فما سقط فيها تبعاً
لسقوط الركوع والسجود (الثالث) منقوض بصلاة الجنازة * (مسألة) * (وإذا قال
ثقات من العلماء بالطب للمريض إن صليت مستلقياً أمكن مداواتك فله ذلك) وهذا
قول جابر بن زيد والثوري وأبي حنيفة، قال القاضي وهو قياس المذهب، وكرهه
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبو وائل.
وقال مالك والاوزاعي لا يجوز لما روي عن ابن عباس أنه لما كف بصره اتاه رجل
فقال لو صبرت على سبعة أيام لم تصل إلا مستلقياً داويت عينك ورجوت أن تبرأ
فأرسل في ذلك إلى عائشة وأبي هريرة وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم فكلهم قال له أن مت في هذه الأيام ما الذي تصنع بالصلاة فنرك
معالجة عينه
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى جالساً لما جحش شقه، والظاهر أنه لم
يكن يعجز عن القيام لكن كان عليه فيه مشقة أو خوف ضرر وأيهما قدر فهو حجة
على الجواز ها هنا ولأنا أبحنا له ترك الوضوء إذا لم يجد الماء إلا بزيادة
على ثمن المثل صونا لجز من ماله، وترك الصوم لأجل المرض والرمد ودلت
الأخبار على جواز ترك القيام في صلاة الفرض على الراحلة خوفاً من ضرر الطين
في ثيابه وبدنه
(2/88)
وجاز ترك القيام اتباعاً لامام الحي
والصلاة على جنبه ومستلقياً في حالة الخوف من العدو، ولا ينقص الضرر بفوات
البصر عن الضرر في هذه الأحوال.
وحديث ابن عباس أن صح فيحتمل أن المخبر لم يخبر عن يقين وإنما قال أرجو أو
لأنه لم يقبل خبره لكونه واحداً أو مجهول الحال بخلاف مسئلتنا * (مسألة) *
(ولا تصح الصلاة في السفينة قاعداً لقادر على القيام) اختلف قوله في الصلاة
في السفينة مع القدرة عل الخروج، على روايتين.
إحداهما لا يجوز لأنها ليست حال استقرار أشبه الصلاة على الراحلة، والثانية
يصح لأنه يتمكن من القيام والقعود والركوع والسجود أشبه الصلاة على الارض
وسواء في ذلك الجارية والواقفة والمسافر والحاضر وهي أصح، ومتى قدر فيها
على القيام لم يجز له تركه لحديث عمران بن حصين فإن عجز عنه صحت للحديث *
(فصل) * وتجوز صلاة الفرض على الراحلة خشية التأذي بالوحل إذا كان يسيراً
متى تضرر بالسجود على الأرض لأجل الوحل وخاف من تلويث بدنه وثيابه بالطين
والبلل جاز له الايماء بالسجود ان كان راجلاً والصلاة على دابته، وقد روي
عن أنس أنه صلى على دابته في ماء وطين وفعله جابر بن زيد.
قال الترمذي والعمل على هذا عند أهل العلم وبه يقول إسحق وقال أصحاب
الشافعي لا يجوز أن يصلي الفرض عل الراحلة لأجل المطر.
وحكى ابن أبي موسى رواية مثل ذلك لما روى أبو سعيد قال فأبصرت عيناي رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد انصرف وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين متفق
عليه ولأن السجود والقيام من أركان الصلاة فلم تسقط بالمطر كبقية أركانها.
ولنا ما روى يعلى بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه انتهى إلى مضيق
ومعه أصحابه والسماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم، فصل النبي صلى الله
عليه وسلم على راحلته وأصحابه على ظهور دوابهم
يومؤن إيما يجعلون السجود أخفض من الركوع رواه الاثرم والترمذي وفعله أنس
ذكره الإمام أحمد ولم ينقل عن غيره خلافه ولأن المطر عذر يبيح الجمع فأثر
في أفعال الصلاة كالسفر والمرض.
وحديث أبي سعيد بالمدينة والنبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، والظاهر أن
الطين كان يسيراً لم يؤثر في غير الجبهة والأنف وإنما يبيح ما كان كثيراً
يلوث الثياب والبدن ويلحق المضرة بالسجود فيه * (فصل) * ومتى أمكن النزول
والصلاة قائماً من غير مضرة لزمه ولم يصل على دابته لأنه قدر على القيام من
غير ضرر فلزمه كغير حالة المطر ولا يسقط عنه الركوع لقدرته عليه، ويومئ
بالسجود لما فيه من الضرر، وان تضرر بالنزول عن دابته وتلوث صلى عليها
للخبر المذكور.
ولا يجوز له ترك الاستقبال في المطر لأنه قادر عليه * (مسألة) * (وهل يجوز
ذلك لأجل المرض على روايتين)
(2/89)
وجملة ذلك أن الصلاة على الراحلة لأجل
المرض لا تخلو من ثلاثة أحوال: أحدها أن يخاف الانقطاع عن الرفقة أو العجز
عن الركوب أو زيادة المرض ونحوه فيجوز له ذلك كما ذكرنا في صلاة الخوف،
الثاني أن لا يتضرر بالنزول ولا يشق عليه فيلزمه النزول كالصحيح، الثالث أن
يشق عليه النزول مشقة يمكن تحملها من غير خوف ولا زيادة مرض ففيه الروايتان
احداهما لا تجوز له الصلاة على الراحلة لأن ابن عمر كان ينزل مرضاه احتج به
أحمد ولأنه قادر على أفعال الصلاة من غير ضرر كثير فلزمه كغير الراكب،
والثانية يجوز اختارها أبو بكر لأن المشقة في النزول أكثر من المشقة عليه
في المطر فكان إباحتها ها هنا أولى، ومن نظر الرواية الأولى قال إن نزول
المريض يؤثر في حصوله على الأرض وهو أسكن له وأمكن للصلاة، والممطور يتلوث
بنزوله ويتضرر بحصوله على الأرض فالمريض يتضرر بنفس النزول لا في الحصول
على الأرض والممطور يتضرر بحصوله على الأرض دون نفس النزول فقد اختلفت جهة
الضرر فلا يصح الإلحاق * (فصل) * في قصر الصلاة، قصر الصلاة في السفر جائز
والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله سبحانه وتعالى (وإذا
ضربتم في الأرض فليس عليكم جناج أن تقصروا من الصلاة
إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) وقال يعلى بن أمية الضمري قلت لعمر بن
الخطاب (ليس عليكم جناج أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين
كفروا) وقد أمن الناس.
فقال عجبت مما عجبت منه.
فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " صدقة تصدق الله بها عليكم
فاقبلوا صدقته " أخرجه مسلم.
وتواترت الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في أسفاره حاجاً
ومعتمراً وغازياً، قال أنس خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى مكة
فصلى ركعتين حتى رجع وأقمنا بمكة عشراً نقصر الصلاة، وقال ابن عمر صحبت
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض - يعني في السفر - فكان لا يزيد على
ركعتين، وأبا بكر حتى قبض فكان لا يزيد على ركعتين،، وعمر وعثمان كذلك متفق
عليه.
وأجمعت الأمة على أن من سافر سفراً تقصر في مثله الصلاة في حج أو عمرة أو
جهاد ان له قصر الصلاة الرباعية الى ركعتين * (مسألة) * (ومن سافر سفراً
مباحاً يبلغ ستة عشر فرسخاً فله قصر الصلاة الرباعية خاصة إلى ركعتين)
(2/90)
يشترط لجواز القصر للمسافر شروط أحدها أن
يكون سفره مباحاً لا حرج عليه فيه كسفر التجارة وهذا حكم سائر الرخص
المختصة بالسفر كالجمع والمسح ثلثاً والفطر والنافلة على الراحلة وهذا قول
أكثر أهل العلم.
روي نحوه عن علي وابن عباس وابن عمر وبه قال الأوزاعي والشافعي واسحق وأهل
المدينة وأصحاب الرأي، وعن ابن مسعود لا تقصر إلا في حج أو جهاد لأن الواجب
لا يترك إلا لواجب، وعن عطاء لا تقصر الا في سبيل من سبل الخير لأن النبي
صلى الله عليه وسلم إنما قصر في سفر واجب أو مندوب ولنا قوله تعالى (فليس
عليكم جناج أن تقصروا من الصلاة) وقالت عائشة أن الصلاة أول ما فرضت ركعتين
فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر متفق عليه.
وعن ابن عباس قال فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً وفي
السفر ركعتين وفي الخوف ركعة رواه مسلم.
وفي حديث صفوان بن عسال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا
مسافرين سفراً أن لا ننزع خفا قبل ثلاثة أيام ولياليهن رواه الترمذي، وهذه
نصوص تدل على إباحة الترخص في كل سفر، وقد
كان النبي صلى الله عليه وسلم يترخص في العود من السفر وهو مباح * (فصل) *
فأما سفر المعصية فلا تباح فيه هذه الرخص كالاباق وقطع الطريق والتجارة في
الخمر ونحوه نص عليه أحمد وهذا قول الشافعي، وقال الثوري والاوزاعي له ذلك
لما ذكرنا من النصوص ولأنه مسافر أشبه المطيع ولنا قوله تعالى (فمن اضطر
غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) خص إباحة الأكل بغير الباغي والعادي فدل على
أنه لا يباح للباغي والعادي وهذا في معناه ولأن الترخص شرع للإعانة على
المقصود المباح توصلاً الى المصلحة فلو شرع ها هنا لشرع إعانته على المحرم
تحصيلاً للمفسدة والشرع منزه عن هذا والنصوص وردت في حق الصحابة وكانت
أسفارهم مباحة فلا يثبت الحكم فيما خالفهما ويتعين حمله على ذلك جمعاً بين
النصوص وقياس سفر المعصية على الطاعة لا يصح
(2/91)
* (فصل) * إذا غرب في الحد إلى مسافة القصر
جاز له القصر وسائر الرخص، وكذلك اذا نفي قاطع الطريق لأنه سفر لزمه بالشرع
أشبه سفر الغزو، وقال ابن عقيل ويحتمل أن لا يقصر لأنه سفر سببه المعصية
أشبه سفر المعصية ولأنه ليس بأحسن حالا من سفر النزهة وفيه روايتان فيخرج
ها هنا مثله والأولى أولى ويمكن التفريق بين هذا وبين سفر المعصية لأن ذلك
تصح التوبة منه بخلاف هذا، وإن هرب المدين من غرمائه وهو معسر قصر وإن لم
يكن معسراً والدين حال أو مؤجل يحل قبل مدة السفر احتمل وجهان ذكر هذا ابن
عقيل أحدهما لا يقصر لأنه سفر يمنع حقاً واجباً عليه والثاني يقصر لأنه نوع
حبس فلا يتوجه عليه قبل المطالبة * (فصل) * فإن عدم الماء في سفر المعصية
لزمه التيمم لأنه عزيمة وهل تلزمه الإعادة على وجهين (أحدهما) لا تلزمه لأن
التيمم عزيمة بدليل وجوبه والرخصة لا تجب (والثاني) عليه الإعادة لأنه حكم
يتعلق بالسفر أشبه بقية الرخص والأولى أولى لأنه أتى بما أمر به فلم تلزمه
الإعادة وفارق بقية الرخص لأنه ممنوع منهما وهذا مأمور به فلا يمكنه تعدية
حكمها الى التيمم وقولهم إن ذلك مختص بالسفر ممنوع ويباح له المسح يوماً
وليلة لأن ذلك يختص بالسفر أشبه الاستجمار وقيل لا يجوز لأنه رخصة
فلم يبح كرخص السفر والأول أولى لما بينا * (فصل) * وإذا كان السفر مباحاً
فغير نيته الى المعصية انقطع الترخص لزوال سببه ولو كان لمعصية فغير نيته
الى المباح في السفر، وتعتبر مسافة القصر من حين غير النية لان وجود ما مضى
من سفره لا يؤثر في الإباحة فهو كعدمه فأما إن كان السفر مباحاً لكنه يعصي
فيه أبيح له الترخص لأن السبب السفر وهو مباح وقد وجد فيثبت حكمه ولم تمنعه
المعصية كما ان لمعصية في الحضر لا تمنع الترخص فيه * (فصل) * وفي سفر
التنزه والتفرج روايتان (إحداهما) يبيح الترخص وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه
مباح فيدخل في عموم النصوص وقياس على سفر التجارة (والثانية) لا يترخص فيه
لأنه إنما شرع إعانته على تحصيل المصلحة ولا مصلحة في هذا والأولى أولى
(2/92)
* (فصل) * فان سافر لزيارة القبور والمشاهد
فقال ابن عقيل لا يباح له الترخص لأنه منهي عن السفر إليها لقوله عليه
السلام " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " متفق عليه قال شيحنا والصحيح
إباحته وجوز الترخص فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء راكباً
وماشياً، وكان يزور القبور وقال " زورها تذكركم الآخرة " والحديث المذكور
محمول على نفي الفضيلة لا على التحريم، وليست الفضيلة شرطاً في إباحة القصر
فلا يضر انتفاؤها * (فصل) * الشرط الثاني: أن تكون مسافة سفره ستة عشر
فرسخاً فما زاد، قال الأثرم قيل لأبي عبد الله في حكم القصر للصلاة؟ قال في
أربعة برد.
قيل له مسيرة يوم تام؟ قال لا أربعة برد ستة عشر فرسخاً مسيرة يومين
والفرسخ ثلاثة أميال، قال القاضي والميل أثنا عشر ألف قدم وذلك مسيرة يومين
قاصدين، وقد قدره ابن عباس من عسفان إلى مكة ومن الطائف إلى مكة ومن جدة
الى مكة وذكر صاحب المسالك أن من دمشق إلى القطيفة أربعة وعشرين ميلاً ومن
دمشق الى الكسوة اثنا عشر ميلاً ومن الكسوة الى جاسم أربعة وعشرون ميلاً
فعلى هذا تكون مسافة القصر يومين قاصدين، وهذا قول ابن عباس وابن عمر وهو
مذهب مالك والليث والشافعي وإسحق.
وروي عن ابن عمر أنه يقصر في مسيرة عشرة فراسخ حكاه ابن المنذر، وروي نحوه
عن ابن عباس أنه
قال يقصر في يوم ولا يقصر فيما دونه واليه ذهب الأوزاعي، قال إبن المنذر
عامة العلماء يقولون مسيرة يوم تام وبه نأخذ.
وروي عن ابن مسعود أنه يقصر في مسيرة ثلاثة أيام وبه قال الثوري وأبو حنيفة
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن " وهذا
يقتضي أن كل مسافر له ذلك ولأن الثلاثة متفق عليها وليس في ما دونها توقيف
ولا اتفاق.
وروي عن جماعة من السلف ما يدل على جواز القصر في أقل من يوم.
فقال الأوزاعي كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ وكان قبيصة بن ذؤيب
وهانئ بن كلثوم وابن محيريز يقصرون فيما بين الرملة وبيت المقدس، وروي عن
علي رضي الله عنه أنه خرج من قصره بالكوفة حتى أتى النخيلة فصلى بها الظهر
والعصر ركعتين ثم رجع من يومه فقال أردت أن أعلمكم سننكم.
وروي أن دحية الكلبي خرج
(2/93)
من قرية من دمشق مرة الى قدر ثلاثة أميال
في رمضان ثم أنه أفطر وأفطر معه أناس كثير، وكره آخرون أن يفطروا فلما رجع
الى قريته قال والله لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن أني أراه، إن قوماً
رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك للذين صاموا، رواه أبو
داود.
وعن أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخاً
قصر الصلاة رواه سعيد واحتج اصحابنا بقول ابن عباس وابن عمر يا أهل مكة لا
تقصروا في أدنى من أربعة برد ما بين عسفان إلى مكة قال الخطابي وهو أصح
الروايتين عن ابن عمر ولأنها مسافة تجمع مشقة السفر من الحل والعقد فجاز
القصر فيها كالثلاث ولم يجز فيما دونها لأنه لم يثبت دليل بوجوب القصر فيه،
وحديث أبي سعيد يحمل على أنه عليه السلام كان إذا سافر سفراً طويلاً قصر
واذا بلغ فرسخاً قال شيخنا ولا أدري لما صار إليه الائمة حجة لأن أقوال
الصحابة مختلفة متعارضة ولا حجة فيها مع الاختلاف، ثم لو لم يوجد ذلك لم
يكن قولهم حجة مع قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، واذا لم تثبت
أقوالهم امتنع المصير الى التقدير الذي ذكروه لوجهين: أحدهما أنه مخالف
للسنة التي رويناها ولظاهر القرآن، فان ظاهر القرآن إباحة القصر لمن ضرب في
الأرض.
فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم " يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن "
فإنما جاء لبيان أكثر مدة المسح فلا يصح الاحتجاج به
(2/94)
ها هنا، على أنه يمكنه قطع المسافة القصيرة
في ثلاثة أيام وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم سفراً فقال " لا يحل
لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم "
والثاني أن التقدير بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد لاسيما
وليس له أصل يرد اليه ولا نظير يقاس عليه والحجة مع من أباح القصر لكل
مسافر إلا أن ينعقد الاجماع على خلافه * (فصل) * وحكم سفر البر حكم سفر
البحر إن بلغت مسافة القصر، وان شك في كون السفر مبيحاً أو لا لم يبح لأن
الأصل عدمه ووجوب الاتمام، فان قصر لم تصح صلاته وإن تبين له بعدها أنه
طويل لأنه صلى مع الشك فلم تصح صلاته كما لو صلى شاكاً في دخول الوقت *
(فصل) * والاعتبار بالنية لا بالفعل فيعتبر أن ينوي مسافة القصر فلو خرج
يقصد سفراً بعيداً فقصر الصلاة ثم بدا له فرجع كان ما صلاه صحيحاً ولا يقصر
في رجوعه إلا أن تكون مسافة الرجوع مبيحة بنفسها نص عليه أحمد، على هذا ولو
خرج طالباً عبدا آبقاً لا يعلم أين هو أو منتجعاً غيثاً أو كلأ متى وجده
أقام أو سائحاً في الأرض لا يقصد مكاناً لم يبح له القصر وان سار أياماً،
وقال ابن عقيل يباح له القصر اذا بلغ مسافة القصر لأنه سافر سفراً طويلاً
(2/95)
ولنا أنه لم يقصد مسافة القصر فلم يبح له
كابتداء سفره ولأنه سفر لم يبح القصر في ابتدائه فلم يبح في أثنائه اذا لم
يغير نيته كالسفر القصير وسفر المعصية ومتى رجع هذا يقصد بلاد أو نوى مسافة
القصر فله القصر لوجود النية المبيحة، ولو قصد بلداً بعيداً وفي عزمه أنه
متى وجد طلبته دونه رجع أو أقام لم يبح له القصر لأنه لم يجزم بسفر طويل،
وإن كان لا يرجع ولا يقيم بوجوده فله القصر * (فصل) * ومن خرج الى سفر
مكرهاً كالأسير فله القصر إذا كان سفره بعيداً نص عليه أحمد وقال الشافعي
لا يقصر لانه غيرنا وللسفر ولا جازم به، فان نيته متى أقلت رجع ولنا أنه
مسافر سفراً بعيداً غير محرم فأبيح له القصر كالمرأة مع زوجها والعبد مع
سيده اذا كان عزمهما أنه لو مات أو زال ملكهما رجعا، قياسهم منتقض بهذا إذا
ثبت هذا فانه يتم إذا صار
في حصونهم نص عليه أيضاً لأنه قد انتقضى سفره، ويحتمل أن لا يلزمه الاتمام
لأن في عزمه أنه متى أفلت رجع فهو كالمحبوس ظلماً (الشرط الثالث) ان القصر
يختص ابرباعية، فأما المغرب والصبح فلا قصر فيهما.
قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن لا يقصر في صلاة المغرب والصبح وان
القصر إنما هو في الرباعية ولأن الصبح ركعتان فلو قصرت صارت ركعة وليس في
الصلاة ركعة إلا الوتر والمغرب وتر النهار فان قصر منها ركعة لم يبق وتراً،
وإن قصر ركعتان كان اجحافاً بها واسقاطاً لأكثرها * (مسألة) * (إذا جاوز
بيوت قريته أو خيام قومه) وجملة ذلك أنه ليس لمن نوى السفر القصر حتى يشرع
في السفر بخروجه من بيوت قريته وهذا
(2/96)
قول الشافعي والاوزاعي واسحق.
وحكي ذلك عن جماعة من التابعين، وحكي عن عطاء وسليمان بن موسى أنهما أباحا
القصر في البلد لمن نوى السفر، وعن الحرث بن أبي ربيعة أنه أراد سفراً فصلى
بهم في منزله ركعتين وفيهم الأسود بن يزيد وغيره من أصحاب عبد الله، وروي
عبيد بن جبير قال ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في شهر
رمضان فدفع ثم قرب غداه فلم تجاوز البيوت حتى دعاه بالسفرة ثم قال اقترب،
قلت ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأكل، رواه أبو داود ولنا قوله تعالى (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم
جناح أن تقصروا من الصلاة) ولا يكون ضارباً حتى يخرج.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما كان يبتدئ القصر إذا خرج من
المدينة، فروى أنس قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعاً
وبذي الحليفة ركعتين متفق عليه.
فأما أبو بصرة فانه لم يأكل حتى دفع بدليل قول عبيد له ألست ترى البيوت
وقوله لم يجاوز البيوت معناه لم يتعد منها إذا ثبت هذا فانه يجوز القصر،
وان كان قريباً قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن للذي
يريد السفر أن يقصر الصلاة إذا خرج من بيوت القرية التي يخرج منها.
وروي عن مجاهد أنه قال إذا خرجت مسافراً فلا تقصر الصلاة يومك
(2/97)
ذلك الى الليل واذا رجعت فلا تقصر ليلتك
حتى تصبح، والآية تدل على خلاف قوله.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من المدينة لا يزيد على
ركعتين حتى يرجع اليها وقد ذكرنا حديث أبي بصرة، وقال البخاري خرج علي فقصر
الصلاة وهو يرى البيوت فلما رجع قيل له هذه الكوفة.
قال لا حتى ندخلها * (فصل) * فاذا خرج من البلد وصار بين حيطان بساتينه فله
القصر لأنه قد ترك البيوت وراء ظهره، وان كان حول البلد خراب قد تهدم وصار
فضاء أبيح القصر فيه كذلك وإن كان حيطانه قائمة فكذلك قاله الآمدي، وقال
القاضي لا يباح وهو مذهب الشافعي لأن السكنى فيه ممكنة أشبه العامر ولنا
أنها غير معدة للسكنى أشبهت حيطان البساتين، وإن كان في وسط البلد نهر
فاجتازه فليس له القصر لأنه لم يخرج من البلد ولم يفارق البنيان فأشبه
الرحبة والميدان في وسط البلد، وإن كان للبلد محال كل محلة منفردة عن
الأخرى كبغداد فمتى خرج من محلة أبيح له القصر اذا فارق محلته، وإن كان
بعضها متصلاً ببعض لم يقصر حتى يفارق جميعاً، ولو كانت قريتان متدانيتين
واتصل بناء إحداهما بالأخرى فهما كالواحدة، وان لم يتصل فلكل قرية حكم
نفسها * (فصل) * وحكم السفر من الخيام والحلل حكم السفر من القرى فيما
ذكرنا متى فارق حلته قصر وان كانت حللاً فلكل حلة حكم نفسها كالقرى، وإن
كان بيته منفرداً فحتى يفارق منزله ورحله
(2/98)
ويجعله وراء ظهره كالحضري.
وقال القاضي إن كان نازلاً في واد وسافر في طوله فكذلك، وان سافر في عرضه
فكذلك إن كن واسعاً، وان كان ضيقاً لم يقصر حتى يقطع عرض الوادي ويفارقه
وقال ابن عقيل متى كانت حلته في واد لم يقصر حتى يفارقه، والأولى جواز
القصر اذا فارق البنيان مطلقاً لما ذكرنا من الأدلة كما لو كان نازلاً في
الصحراء ولأن المعنى المجوز للترخص وجود المشقة وذلك موجود في الوادي
كوجوده في غيره * (مسألة) * (وهو أفضل من الاتمام وإن أتم جاز)
القصر أفضل من الاتمام في قول جمهور العلماء ولا نعلم احدا خالف فيه الا
الشافعي في أحد قوليه قال الاتمام أفضل لأنه أكثر عملاً وعدداً وهو الأصل
فكان أفضل كغسل الرجلين.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم على القصر، قال ابن عمر صحبت
رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله،
وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على
ركعتين حتى قبضه الله متفق عليه.
ولما بلغ ابن مسعود أن عثمان صلى أربعاً استرجع وقال صليت مع النبي صلى
الله عليه وسلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ثم تفرقت بكم
الطرق ولوددت أن حظي من أربع ركعتان متقبلتان.
وقد كره طائفة من الصحابة الاتمام فقال ابن عباس للذي قال له كنت أنم
الصلاة وصاحبي يقصر: أنت الذي كنت تقصر وصاحبك يتم.
وروي ان رجلاً سأل ابن عمر عن صلاة السفر فقال ركعتان فمن خالف السنة كفر
ولأنه اذا قصر أدى الفرض بالإجماع بخلاف الاتمام، وأما الغسل فلا نسلم أنه
أفضل من المسح * (فصل) * والاتمام جائز في المشهور عن أحمد وقد روي عنه أنه
توقف وقال أنا أحب العافية من هذا المسألة وقال مرة أخرى ما يعجبني، وممن
روي عنه الاتمام في السفر عمر وابن مسعود وابن عمر وعائشة وبه قال الأوزاعي
والشافعي وهو المشهور عن مالك، وقال حماد بن أبي سليمان ليس له
(2/99)
الاتمام في السفر وهو قول الثوري وأبي
حنيفة، وأوجب حماد على من أتم الاعادة، وقال أصحاب الرأي إن كان جلس بعد
الركعتين قدر التشهد فصلاته صحيحة وإلا فلا، وقال عمر بن عبد العزيز الصلاة
في السفر ركعتان حتى لا يصلح غيرهما، واحتجوا بأن صلاة السفر ركعتان بدليل
قول عائشة إن الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر
متفق عليه.
وقال عمر رضي الله عنه صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة العيد
ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى
رواه ابن ماجه، وسئل ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال ركعتان فمن خالف
السنة كفر ولأن الركعتين الآخرتين يجوز تركهما إلى غير بدل فلم يجز
زيادتهما على الركعتين المفروضتين كالزيادة على صلاة الفجر
ولنا قوله تعالى (فليس عليكم جناج أن تقصروا من الصلاة) وهذا يدل على أن
القصر رخصة يتخير بين فعله وتركه كسائر الرخص وقول النبي صلى الله عليه
وسلم في حديث يعلى بن أمية " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " يدل
على أنه رخصة وليس بعزيمة، وقالت عائشة خرجت مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم في عمره في رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت فقلت يا رسول الله بأبي أنت
وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتمت قال " أحبسنت " رواه أبو داود الطيالسي ولأنه
لو ائتم بمقيم صلى أربعاً والصلاة لا تزيد بالائتمام، وعن أنس قال - كنا
أصحاب رسول الله - نسافر فيتم بعضنا ويقصر بعضنا ويصوم بعضنا ويفطر بعضنا
فلا يعيب أحد على أحد وهذا إجماع منهم على جواز الامرين، فأما قول عائشة
فرضت الصلاة ركعتين فإنما أرادت أن ابتداء فرضها كان ركعتين ثم أتمت بعد
الهجرة فصارت أربعاً وكذلك كانت تتم الصلاة ولو اعتقدت ما أراده هؤلاء لم
تتم.
وقول عمر تمام غير قصر أراد تمام فضلها ولم يرد أنها غير مقصورة الركعتان
لأنه خلاف ما دلت عليه الآية والاجماع إذ الخلاف إنما هو في القصر
والاتمام، وقد ثبت برواية عن النبي صلى الله عليه
(2/100)
وسلم في حديث يعلى بن أمية أنها مقصورة، ثم
لو ثبت أن أصل الفرض ركعتان لم تمتنع الزيادة عليها كما لو ائتم بمقيم
ويخالف زيادة ركعتين على صلاة الفجر فإنه لا تجوز زيادتهما بحال * (مسألة)
* (وإن أحرم في الحضر ثم سافر أو في السفر ثم أقام أو ذكر صلاة حضر في سفر
أو صلاة سفر في حضر أو ائتم بمقيم أو بمن يشك فيه أو أحرم بصلاة يلزمه
اتمامها ففسدت وأعادها أو لم القصر لزمه أن يتم، وقال أبو بكر لا يحتاج
الجمع والقصر الى نية) اذا أحرم بالصلاة في سفينة في الحضر فخرجت به في
أثناء الصلاة أو أحرم في السفر فدخلت في أثناء الصلاة البلد لم يقصر لأنها
عبادة تختلف بالسفر والحضر فاذا أوجد أحد طرفها في الحضر غلب حكمه كالمسح *
(فصل) * فأما إن سافر بعد دخول الوقت فقال أصحابنا يتم، وذكر ابن عقيل فيه
روايتين إحداهما يتم لأنها وجبت في الحضر فلزمه إتمامها كما لو سافر بعد
خروج وقتها، والثانية له قصرها وهو قول
مالك والشافعي وأصحاب الرأي وحكاه ابن المنذر إجماعا لأنه سافر قبل خروج
وقتها أشبها ما لو سافر قبل وجوبها وكلابس الخف اذا أحدث ثم سافر قبل المسح
* (فصل) * وإن نسي صلاة حضر فذكرها في السفر وجبت عليه أربعاً بالإجماع
حكاه الإمام أحمد وابن المنذر قال لأنه قد اختلف فيه عن الحسن فروي عنه أنه
قال يصليها ركعتين وروي عنه كقول الجماعة لأن الصلاة يتعين فعلها فلم يجز
له النقصان من عددها كما لو لم يسافر، وأما إذا نسي صلاة سفر فذكرها في
الحضر فقال أحمد في رواية الأثرم عليه الاتمام احتياطا وبه قال الأوزاعي
وداود والشافعي في أحد قوليه وقال مالك والثوري وأصحاب الرأي يصليها صلاة
سفر لأنه إنما يقضي ما فاته وهو ركعتان.
ولنا أن القصر رخصة من رخص السفر فبطلت بزواله كالمسح ثلاثا ولأنها وجبت
عليه في الحضر بدليل قوله عليه السلام " فليصلها إذا ذكرها " ولانها عبادة
تختلف بالحضر والسفر
(2/101)
فإذا وجد أحد طرفيها في الحضر غلب حكمه
كالسفينة اذا دخلت به البلد في أثناء الصلاة، وقياسهم ينتقض بالجمعة اذا
فاتت وبالمتيمم اذا فاتته الصلاة فقضاها عند وجود الماء * (فصل) * وإذا
ائتم المسافر بمقيم لزمه الائتمام سواء أدرك جميع الصلاة أو بعضها، وقال
ابن أبي موسى فيه رواية أنه اذا أحرم في آخر صلاته لا يلزمه أن يتم، قال
الأثرم سألت أبا عبد الله عن المسافر يدخل في تشهد المقيمين قال يصلي
أربعاً، روى ذلك عن ابن عمر وابن عباس وجماعة من التابعين وبه قال الثوري
والاوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وقال إسحق للمسافر القصر لأنها
صلاة يجوز فعلها ركعتين فلم تزد بالائتمام كالفجر، وقال طاوس والشعبي في
المسافر يدرك من صلاة المقيمين ركعتين تجزيان، وقال الحسن والنخعي والزهري
وقتادة ومالك إن أدرك أتم وإن أدرك دونها قصر لقول النبي صلى الله عليه
وسلم " من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة " ولأن من أدرك من الجمعة
ركعة أتمها جمعة ومن أدرك أقل من ذلك لا يلزمه فرضها ولنا ما روى أنه قيل
لابن عباس ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد وأربعاً اذا ائتم
بمقيم؟ فقال تلك السنة رواه الإمام أحمد وهذا ينصرف إلى سنة النبي صلى الله
عليه وسلم ولأنه فعل
من سمينا من الصحابة ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعاً ولأنها صلاة
مردودة من أربع الى ركعتين فلا يصليها خلف من يصلي الأربع كالجمعة وما
ذكروه لا يصح عندنا فانه لا تصح له صلاة الفجر خلف من يصلي رباعية، وإدراك
الجمعة يخالف ما نحن فيه فانه لو أدرك ركعة من الجمعة رجع الى الركعتين
وهذا بخلافه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنما جعل الإمام ليؤتم به
فلا تختلفوا عليه " ومفارقة إمامه مع إمكان متابعته اختلاف عليه * (فصل) *
وإذا أحرم المسافرون خلف مسافر وأحدث واستخلف مسافراً فلهم القصر وإن
استخلف مقيماً لزمهم الاتمام لأنهم ائتموا بمقيم، وللامام المحدث القصر
لأنه لم يأتم بمقيم ولو صلى
(2/102)
المسافرون خلف مقيم فأحدث واستخلف مسافراً
أو مقيماً لزمهم الاتمام لأنهم ائتموا بمقيم فان استخلف مسافراً لم يكن
معهم في الصلاة فله أن يصلي صلاة السفر لأنه لم يأتم بمقيم * (فصل) * وإذا
أحرم المسافر خلف من يشك فيه أو من يغلب على ظنه أنه مقيم لزمه الإتمام وإن
قصر إمامه لأن الأصل وجوب الائتمام فليس له نية قصرها مع الشك في وجوب
إتمامها فلزمه الإتمام اعتباراً بالنية وهذا مذهب الشافعي، وإن غلب على ظنه
ان الامام مسافر بإمارة آثار السفر فله أن ينوي القصر فان قصر إمامه قصر
معه وإن أتم تابعه فيه وان نوى الاتمام لزمه الاتمام سواء قصر إمامه أو أتم
اعتباراً بالنية، وان نوى القصر فأحدث امامه قبل علمه بحاله فله القصر لأن
الظاهر أن امامه مسافر لوجود دليله وقد أتيحت له نية القصر بناء على هذا
الظاهر ويحتمل أن يلزمه الإتمام إحتياطاً (فصل) واذا صلى المسافر صلاة
الخوف بمسافرين ففرقهم فرقتين فأحدث قبل مفارقة الطائفة الاولى واستخلف
مقيماً لزم الطائفتين الإتمام لأنهم ائتموا بمقيم وإن كان ذلك بعد مفارقة
الاولى أتمت الثانية وحدها لأنها اختصت بموجبه، وإن كان الإمام مقيماً
فاستخلف مسافراً ممن كان معه في الصلاة فعلى الجميع الاتمام لأن المستخلف
قد لزمه الاتمام باقتدائه بالمقيم فصار كالمقيم، وإن لم يكن دخل معه في
الصلاة وكان استخلافه قبل مفارقة الاولى فعليها الاتمام لائتمامها بمقيم
وكقصر الامام والطائفة الثانية وإن استخلف بعد دخول الثانية فعلى الجميع
الاتمام وللمستخلف
القصر وحده لأنه لم يأتم بمقيم (فصل) وإذا صلى مقيم ومسافر خلف مسافر أتم
المقيم إذا سلم إمامه وذلك إجماع، وقد روى عمران بن حصين قال: شهدت الفتح
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام ثماني عشرة ليلة لا يصلي
(2/103)
إلا ركعتين ثم يقول لأهل البلد " صلوا
أربعاً فإنا سفر " رواه أبو داود، ولأن الصلاة واجبة عليه أربعاً فلم يسقط
شئ منها كما لو لم يأتم بالمسافر ويستحب أن يقول الإمام للمقيمين أتموا
فإنا سفر كما في الحديث، ولئلا يلتبس على الجاهل عدد ركعات الصلاة، وقد روى
الأثرم عن الزهري ان عثمان إنما أتم لأن الاعراب حجوا فأراد أن يعرفهم أن
الصلاة أربع (فصل) واذا أم المسافر المقيمين فأتم بهم الصلاة فصلاتهم تامة،
وبهذا قال الشافعي واسحاق وقال الثوري وأبو حنيفة: تفسد صلاة المقيمين وتصح
صلاة الامام والمسافرين معه، وعن أحمد نحوه قال القاضي: لأن الركعتين
الآخرتين نفل من الامام ولا يؤم بها مفترضين ولنا أن المسافر يلزمه الإتمام
بنيته فيكون الجميع واجباً، ثم لو كانت نفلاً فائتمام المفترض بالمتنفل
صحيح على ما مضى (فصل) وإن أم مسافر مسافرين فنسي فصلاها تامة صحت صلاة
الجميع ولا يلزمه سجود سهو لأنها زيادة لا يبطل عمدها الصلاة فلا يجب
السجود لسهوها كزيادات الاقوال، وهل يشرع السجود يخرج على روايتين فيما إذا
قرأ في الركوع والسجود، وقال ابن عقيل لا يحتاج إلى سجود لأنه أتى بالأصل
ولنا أن هذا زيادة نقضت الفضيلة وأخلت بالكمال أشبهت القراءة في غير محلها
كقراءة السورة في الأخيرتين، فاذا ذكر الامام بعد قيامه إلى الثالثة لم
يلزمه الاتمام وله أن يجلس، فان الموجب للإتمام نيته أو الائتمام بمقيم ولم
يوجد واحد منهما، وإن علم المأموم أن قيامه لسهو لم يلزمه متابعته
(2/104)
ويسبحون له لأنه سهو فلا يجب إتباعه فيه
ولهم مفارقته إن لم يرجع كما لو قام إلى ثالثة في الفجر وإن
تابعوه لم تبطل صلاتهم لأنها زيادة لا تبطل صلاة الامام فلا تبطل صلاة
المأموم بمتابعته فيها كزيادات الأقوال.
وقال القاضي: تفسد صلاتهم لأنهم زادوا ركعتين عمداً، وإن لم يعلموا هل
قاموا سهواً أو عمداً لزمهم متابعته لأن وجوب المتابعة ثابتة فلا تزول
بالشك (فصل) وإذا أحرم بصلاة يلزمه إتمامها مثل إن نوى الاتمام أو ائتم
بمقيم فسدت الصلاة وأراد اعادتها لزمه الاتمام لأنها وجبت عليه تامة بتلبسه
بها خلف المقيم ونية الاتمام وهذا قول الشافعي، وقال الثوري وأبو حنيفة اذا
فسدت صلاة الامام عاد المسافر إلى القصر ولنا أنها وجبت بالشروع فيها تامة
فلم يجز له قصرها كما لو لم تفسد (فصل) ومن لم ينو القصر لزمه الاتمام لأن
نية القصر شرط في جوازه ويعتبر وجودها عند أول الصلاة كنيتها كذلك ذكره
الخرقي والقاضي، وقال أبو بكر لا يحتاج الجمع والقصر الى نية لأن من خير في
العبادة قبل الدخول فيها خير بعد الدخول فيها كالصوم، ولأن القصر هو الأصل
بدليل خبر عائشة وعمر وابن عباس فلا يحتاج إلى نية كالاتمام في الحضر، ووجه
الأول أن الاتمام هو الأصل على ما ذكرنا، وقد أجبنا عن الأخبار المذكورة
وإطلاق النية ينصرف إلى الأصل ولا ينصرف
(2/105)
عنه إلا بتعيين ما يصرف إليه كما لو نوى
الصلاة مطلقاً ولم ينو أماماً ولا مأموماً فانه ينصرف إلى الانفراد إذ هو
الأصل والتفريع على هذا القول، فلو شك في أثناء صلاته هل نوى القصر في
ابتدائها أو لا ألزمه الاتمام؟ احتياطاً لأن الأصل عدم النية، فان ذكر بعد
ذلك انه قد نوى القصر لم يجز له القصر لأنه قد لزمه الاتمام فلم يزل (فصل)
ومن نوى القصر ثم نوى الاتمام أو نوى ما يلزمه به الاتمام من الاقامة وسفر
المعصية أو نوى الرجوع ومسافة رجوعه لا يباح فيها القصر ونحو هذا لزمه
الاتمام ولزم من خلفه متابعته وبهذا قال الشافعي وقال مالك: لا يجوز له
الاتمام لأنه نوى عدداً واذا زاد عليه حصلت الزيادة بغير نية ولنا أن نية
صلاة الوقت قد وجدت وهي أربع، وإنما أبيح ترك ركعتين رخصة، فاذا أسقط نية
الترخص صحت الصلاة بنيتها ولزمه الاتمام ولأن الاتمام الأصل، وإنما أبيح
تركه يشرط
فاذا زال الشرط عاد الأصل إلى حاله (فصل) واذا قصر المسافر معتقداً تحريم
القصر لم تصح صلاته لأنه فعل ما يعتقد تحريمه فلم يقع مجزئاً كمن صلى
ويعتقد أنه محدث ولأن نية التقرب بالصلاة شرط وهذا يعتقد أنه عاص فلم تصح
نية التقرب * (مسألة) * (ومن له طريقان بعيد وقريب فسلك البعيد أو ذكر صلاة
سفر في آخر فله القصر) اذا كان لسفره طريقان يباح القصر في أحدهما لبعده
دون الآخر فسلك البعيد ليقصر الصلاة
(2/106)
فيه أو لغير ذلك أبيح له القصر لأنه مسافر
سفراً بعيداً مباحاً فأبيح له القصر كما لو لم يجد سواه وكما لو كان الآخر
مخوفاً أو شاقاً.
وقال ابن عقيل أن سلك الأبعد لرفع أذية واختلاف نفع قصر قولاً واحداً وإن
كان لا لغرض صحيح خرج على الروايتين في سفر التنزه وقد ذكرنا توجيههما
(فصل) وإن نسي الصلاة في سفر وذكرها فيه قضاها مقصورة لأنها وجبت في السفر
وفعلت فيه أشبه ما لو صلاها في وقتها، وإن ذكرها في سفر آخر فكذلك لما
ذكرنا وسواء ذكرها في الحضر أو لم يذكرها ويحتمل أنه إذا ذكرها في الحضر
لزمته تامة لأنه وجب عليه فعلها تامة بذكره إياها فبقيت في ذمته ويحتمل أن
يلزمه إتمامها اذا ذكرها في سفر آخر سواء ذكرها في الحضر أو لا لأن الوجوب
كان ثابتاً في ذمته في الحضر، والأولى أولى لأن وجوبها وفعلها في السفر
فكانت صلاة سفر كما لو لم يذكرها في الحضر.
وذكر بعض أصحابنا أن من شرط القصر كون الصلاة مؤداة لأنها صلاة مقصورة
فاشترط لها الوقت كالجمعة وهذا فاسد لأنه اشترط بالرأي والتحكم ولم يرد
الشرع به والقياس على الجمعة لا يصح فإن الجمعة لا تقضي ويشترط لها
الخطبتان والعدد والاستيطان فجاز أن يشرط لها الوقت بخلاف هذه * (مسألة) *
(واذا نوى الاقامة ببلد أكثر من احدى وعشرين صلاة أتم وإلا قصر) المشهور عن
أحمد رحمه الله أن المدة التي يلزم المسافر الإتمام اذا نوى الإقامة فيها
ما كان أكثر
(2/107)
من احدى وعشرين صلاة رواه الأثرم وغيره وهو
الذي ذكره الخرقي، وعنه إن نوى الإقامة أكثر
من أربعة أيام أتم حكى هذه الرواية أبو الخطاب وابن عقيل.
وعنه اذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإلا قصر، وهذا قولل مالك والشافعي وأبي
ثور وروي عن عثمان رضي الله عنه وعن سعيد ابن المسيب أنه قال: إذا أقمت
أربعاً فصل أربعاً لأن الثلاث حد القلة لقوله عليه السلام " يقيم المسافر
بعد قضاء نسكه ثلاثا " فدل أن الثلاث في حكم السفر وما زاد في حكم الإقامة.
وقال الثوري وأصحاب الرأي ان أقام خمسة عشر يوماً مع اليوم الذي يخرج فيه
أتم، فان نوى دونه قصر، ويروى ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير والليث بن سعد
لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: اذا قدمت وفي نفسك أن تقيم بها
خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة ولا يعرف لهما مخالف، وروي عن علي رضي الله عنه
قال يتم الصلاة الذي يقيم عشرا ويقصر الذي يقول أخرج اليوم أخرج غداً
شهراً، وعن ابن عباس أنه قال يقصر اذا أقام تسعة عشر يوماً ويتم اذا زاد
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في بعض أسفاره تسعة عشر يصلي ركعتين،
قال ابن عباس فنحن اذا أقمنا تسعة عشر نصلي ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا
رواه البخاري، وقال الحسن صل ركعتين ركعتين إلا أن تقدم مصراً فأتم الصلاة
وصم، وقالت عائشة اذا وضعت الزاد والمزاد فأتم الصلاة وكان طاوس إذا قدم
مكة صلى أربعاً ولنا ما روى أنس قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى مكة فصلى ركعتين حتى
(2/108)
رجع وأقام بمكة عشراً يقصر الصلاة متفق
عليه.
وذكر أحمد حديث جابر وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة لصبح
رابعة فأقام النبي صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع والخامس والسادس
والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام وقد
أجمع على إقامتها قال فاذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم
قصر واذا أجمع على أكثر من ذلك أتم، قال الاثرم وسمعت أبا عبد الله يذكر
حديث أنس في الإجماع على الإقامة للمسافر فقال هو كلام ليس يفقهه كل أحد،
فقوله أقام النبي صلى الله عليه وسلم عشراً يقصر الصلاة وقال قدم النبي صلى
الله عليه وسلم لصبح رابعة وخامسة وسابعة ثم قال ثامنة يوم التروية وتاسعة
وعاشرة فإنما وجه حديث أنس أنه حسب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة
ومنى وإلا فلا وجه له عندي غير هذا، فهذه
أربعة أيام وصلاة الصبح بها يوم التروية تمام احدى وعشرين صلاة يقصر وهي
تزيد على أربعة أيام وهو صريح في خلاف قول من حده بأربعة أيام، وقول أصحاب
الرأي: لا يعرف لهما مخالف في الصحابه لا يصح، لأنا قد ذكرنا الخلاف فيه
عنهم، وحديث ابن عباس في إقامة النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر، وجهه أن
النبي صلى الله عليه لم يجمع الإقامة.
قال أحمد قام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح ثماني عشرة لأنه
أراد حنيناً ولم يكن تم إجماع المقام، وهذه إقامته التي رواها ابن عباس وهو
دليل على خلاف قول عائشة والحسن والله أعلم
(2/109)
* (فصل) * ومن قصد بلداً بعينه فوصله غير
عازم على إقامة به مدة تقطع حكم سفره فله القصر فيه لأن النبي صلى الله
عليه وسلم كان في أسفاره يقصر حتى يرجع وحين قدم مكة كان يقصر فيها، ولا
فرق بين أن يقصد الرجوع إلى بلده كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة
الوداع على ما في حديث أنس وبين أن يريد بلداً آخر كما فعل عليه السلام في
غزوة الفتح كما في حديث ابن عباس * (فصل) * وإذا مر في طريقه على بلداً له
فيه أهل أو مال فقال أحمد في موضع يتم وقال في موضع لا يتم إلا أن يكون
ماراً وهذا قول ابن عباس، وقال مالك يتم إذا أراد أن يقيم بها يوماً وليلة،
وقال الشافعي وابن المنذر يقصر ما لم يجمع على إقامة أربع لأنه مسافر ولنا
ما روى عن عثمان أنه صلى بمنى أربع ركعات فأنكر الناس عليه، فقال يا أيها
الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم "
يقول من تأهل ببلد فليصل صلاة المقيم " رواه أحمد في المسند، وقال ابن عباس
إذا قدمت على أهل لك أو مال فصل صلاة المقيم، ولأنه مقيم ببلد له فيه أهل
ومال أشبه البلد الذي سافر منه * (فصل) * قال أحمد من كان مقيماً بمكة ثم
خرج إلى الحج وهو يريد أن يرجع إلى مكة فلا يقيم بها فهذا يصلي ركعتين
بعرفة لأنه حين خرج من مكة أنشأ السفر الى بلده ليس على أن عرفة سفره فهو
في سفر من حين خرج من مكة، ولو أن رجلاً كان مقيماً ببغداد فأراد الخروج
الى الكوفة
(2/110)
فعرضت له حاجة بالنهروان ثم رجع فمر ببغداد
ذاهباً الى الكوفة صلى ركعتين اذا كان يمر ببغداد مجتازاً لا يريد الاقامة
بها، وإن كان الذي خرج الى عرفة في نيته الإقامة بمكة إذا رجع لم يقصر
بعرفة وكذلك أهل مكة لا يقصرون، وإن صلى خلف رجل مكي يقصر الصلاة بعرفة ثم
قام بعد صلاة الامام فأضاف اليها ركعتين آخرتين صحت صلاته لانه المكي يقصر
بتأويل فصحت صلاة من يأتم به * (فصل) * وإذا خرج المسافر فذكر حاجة فرجع
اليها فله القصر في رجوعه إلا أن يكون نوى أن يقيم اذا رجع مدة يقطع القصر
ويكون في البلد أهله وماله لما ذكرنا وقول أحمد في الرواية الأخرى أتم إلا
أن يكون ماراً يقتضي أنه إذا قصد أخذ حاجته والرجوع من غير إقامة أنه يقصر،
وقال الشافعي يقصر ما لم ينو الاقامة أربعاً، وقال الثوري ومالك يتم حتى
يخرج فاصلاً الثانية.
ولنا أنه ثبت له حكم السفر بخروجه ولم يوجد إقامة نقطع حكمه فأشبه ما لو
أنى قرية غير التي خرج منها * (مسألة) * (وإن أقام لقضاء حاجة أو حبس ولم
ينو لاقامة قصر أبداً) وجملة ذلك أن من لم يجمع على إقامة تقطع حكم السفر
على ما ذكرنا من الخلاف فله القصر ولو أقام سنين كمن يقيم لقضاء الحاجة
يرجو إنجاحها أو جهاد عدو أو حبسه سلطان أو مرض وسواء غلب على ظنه انقضاء
حاجته في مدة يسيرة أو كثيرة وبعد أن يحتمل انقضاؤها في مدة لا ينقطع حكم
(2/111)
السفر بها.
قال إبن المنذر أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع على إقامة
ولو أتى عليه سنون والأصل فيه ما روى ابن عباس قال أقام النبي صلى الله
عليه وسلم في بعض أسفاره تسعة عشر يصلي ركعتين رواه البخاري، وقال جابر
أقام النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة رواه
الإمام أحمد في المسند، وروى سعيد بإسناده عن المسور بن مخرمة قال أقمنا
سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة يقصرها سعد ونتمها، وقال نافع أقام ابن عمر
بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين حبسه الثلج.
وقال أنس أقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم برامهز سبعة أشهر يقصرون
الصلاة، وعن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة قال أقمت معه بكابل سنتين نقصر
الصلاة ولا نجمغ * (فصل) * وإن عزم على إقامة طويلة في رستاق ينتقل فيه من
قرية إلى قرية لا يجمع على إقامة
بواحدة منها مدة تبطل حكم السفر قصر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام
بمكة ومنى وعرفة عشراً فكان يقصر الأيام كلها.
وروى الأثرم باسناده عن مورق قال سألت ابن عمر قلت إني رجل آتي الاهواز
فأنتقل في قراها قرية قرية فأقيم الشهر أو أكثر.
قال تنوي الاقامة؟ قلت لا.
قال ما أراك إلا مسافرا صلى صلاة المسافرين، ولأنه لم ينوي الإقامة في مكان
بعينه أشبه المتنقل في سفره من منزل الى منزل، واذا دخل بلداً فنال إن لقيت
فلاناً أقمت وإلا لم أقم لم يبطل حكم سفره لأنه لم يجزم بالإقامة، ولأن
المبطل للسفر هو العزم على الإقامة ولم يوجد، وانما علقه على شرط لم يوجد
وذلك ليس بجزم * (فصل) * ولا بأس بالتطوع في السفر نازلاً وسائراً على
الراحلة لما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر
راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه، وروي نحو ذلك جابر
(2/112)
وأنس متفق عليه.
وعن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتطوع في السفر رواه
سعيد.
وفي حديث أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر على بعيره ولما
فأتت النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح صلى ركعتي الفجر قبلها متفق
عليه.
فأما سائر التطوعات والسنن قبل الفرائض وبعدها فقال أحمد أرجو أن لا يكون
بالتطوع بالسفر بأس روى ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وجابر وابن عباس وأبي
ذر وجماعة من التابعين وهو قول مالك والشافعي وإسحق وابن المنذر، وكان ابن
عمر لا يتطوع مع الفريضة قبلها ولا بعدها إلا من جوف الليل.
وروي ذلك عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين لما روي أن ابن
عمر رأى قوما يسبحون بعد الصلاة فقال لو كنت مسبحاً لأتممت فرضي يا ابن
أخي، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله،
وصحبت عمر وعثمان وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة متفق عليه ولنا
ما روى عن ابن عباس قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الحضر فكنا
نصلي قبلها وبعدها وكنا نصلي في السفر قبلها وبعدها رواه ابن ماجه، وقال
الحسن كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون فيتطوعون قبل
المكتوبة وبعدها، وعن البراء بن عازب قال صحبت رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثمانية عشر سفراً فما رأيته ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر
رواه أبو داود فهذا يدل على أنه لا بأس بفعلها، وحديث ابن عمر يدل على أنه
لا بأس بتركه فيجمع بين الأحاديث والله أعلم * (مسألة) * (والملاح الذي معه
أهله وليس له نية الاقامة ببلد ليس له الترخص)
(2/113)
قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن
الملاح أيقصر أو يفطر في السفينة، قال أما إذا كانت السفينة ببته فانه يتم
ويصوم، قيل له وكيف تكون بيته.
قال لا يكون له بيت غيرها معه فيها أهله وهو فيها مقيم وهذا قول عطاء.
وقال الشافعي يقصر ويفطر لعموم النصوص ولان كون أهله معه لا يمنع الترخص
كالجمال.
ولنا أنه غير ظاعن عن منزله فلم يبح له الترخص كالمقيم في المدن، فأما في
عام النصوص فالمراد بها الظاعن عن منزله وليس هذا كذلك.
وأما الجمال والمكاري فلهم الترخص وإن سافروا بأهلهم قال أبو داود سمعت
أحمد يقول في المكاري الذي هو دهره في السفر لابد أن يقيم اذا قدم اليومين
والثلاثة قال هذا يقصر، وذكر القاضي وابو الخطاب أنه بمنزلة الملاح وليس
بصحيح لأنه مسافر مشقوش عليه فكان له القصر كغيره، ولا يصح قياسهم على
الملاح فان الملاح في منزله سفراً وحضراً معه مصالحه وتنوره وأهله لا يتكلف
لحمله وهذا لا يوجد في غيره، وإن سافر هذا بأهله كان أشق عليه وأبلغ في
استحقاق الترخص فأبيح له لعموم النصوص وليس هو في معنى المخصوص فوجب القول
بثبوت حكم النص فيه * (فصل في الجمع) * * (مسألة) * يجوز الجمع بين الظهر
والعصر والعشائين في وقت إحداهما لثلاثة أمور: السفر الطويل الجمع بين
الصلاتين في السفر في وقت إحداهما جائز في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن
سعد وسعيد بن زيد وأسامة ومعاذ بن جبل وأبي موسى وابن عباس وابن عمر وبه
قال عكرمة والثوري
(2/114)
ومالك والشافعي وإسحق وابن المنذر وجماعة
غيرهم، وقال الحسن وابن سيرين وأصحاب الرأي
لا يجوز الجمع إلا في يوم عرفة وليلة مزدلفة بها وهو رواية عن ابن القاسم
عن مالك واختياره واحتجوا بأن المواقيت ثبتت بالتواتر فلا يجوز تركها بخبر
الواحد ولنا ما روى عن ابن عمر أنه كان إذا جد به السير جمع بين المغرب
والعشاء ويقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع
بينهما، وعن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن
تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، وإن زاغت الشمس
قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب متفق عليهما.
ولمسلم كان اذا عجل عليه السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما
ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق، وروى الجمع معاذ
وابن عباس وقولهم لا تترك الأخبار المتواترة لأخبار الآحاد.
قلنا لا يتركها وإنما يخصها وتخصيص المتواتر بالخبر الصحيح جائز بالإجماع
وهذا ظاهر جداً، فان قيل معنى الجمع في الأخبار أن يصلي الاولى في آخر
وقتها والأخرى في أول وقتها.
قلنا هذا فاسد لوجهين أحدهما النه قد جاء الخبر صريحاً في أنه كان يجمعها
في وقت الثانية على ما ذكرنا في خبر أنس، الثاني إن الجمع رخصة فلو كان على
ما ذكروه لكان أشد ضيقاً وأعظم حرجاً من الاتيان بكل صلاة في وقتها لأن ذلك
أوسع من مراعاة طرفي الوقتين بحيث لا يبقى من وقت الأولى إلا قدر فعلها،
ومن تدبر هذا وجده كما وصفنا ولو جاز الجمع هذا لجاز الجمع من العصر
والمغرب والعشاء والصبح وهو محرم بالإجماع، فاذا
(2/115)
حمل خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على
الأمر السابق إلى الفهم منه كان أولى من هذا التكلف الذي يصان عنه كلام
رسول الله صلى الله عليه وسلم (فصل) وإنما يجوز الجمع في السفر الذي يبيح
القصر.
وقال مالك والشافعي في أحد قوليه يجوز في السفر القصير لأن أهل مكة يجمعون
بعرفة ومزدلفة وهو سفر قصير ولنا أنه رخصة ثبتت لدفع المشقة في السفر
فاختصت بالطويل كالقصر والمسح ثلاثا ولأن دليل الجمع فعل النبي صلى الله
عليه وسلم والفعل لا صيغة له وإنما هو قضية في عين فلا يثبت حكمها إلا في
مثلها ولم ينقل أنه جمع إلا في سفر طويل
* (مسألة) * (والمرض الذي يلحقه بترك الجمع فيه مشقة وضعف) نص أحمد على
جواز الجمع للمريض وروي عنه التوقف فيه وقال: أهاب ذلك والصحيح الأول وهذا
قول عطاء ومالك.
وقال أصحاب الرأي والشافعي: لا يجوز لأن أخبار التوقيف ثابتة فلا يترك بأمر
محتمل ولنا ما روى ابن عباس قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين
الظهر والعصر، والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر، وفي رواية من غير خوف
ولا سفر رواهما مسلم.
وقد أجمعنا على أن الجمع لا يجوز لغير عذر ثبت أنه كان لمرض، وقد روي عن
أبي عبد الله أنه قال في هذا الحديث هذا عندي رخصة للمريض والمرضع، وقد ثبت
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سهلة بنت سهيل وحمنة بنت جحش لما كانتا
مستحاضتين بتأخير الظهر وتعجيل العصر والجمع بينهما فأباح الجمع لأجل
الاستحاضة وأخبار المواقيت مخصوصة بالصور المجمع على جواز الجمع فيها فتخص
محل النزاع بما ذكرنا (فصل) والمرض المبيح للجمع هو ما يلحقه بتركه مشقة
وضعف.
قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله المريض يجمع بين الصلاتين، قال إني لا ارجو
ذلك اذا ضعف وكذلك الجمع للمستحاضة ولمن به سلس البول ومن في معناها لما
ذكرنا من الحديث
(2/116)
* (مسألة) * (والمطر الذي يبل الثياب) إلا
أن جمع المطر يختص بالعشائين في أصح الوجهين لجواز الجمع في المطر بين
العشائين يروي عن ابن عمر وفعله أبان بن عثمان في أهل المدينة وهو قول
الفقهاء السبعة ومالك والاوزاعي والشافعي واسحاق، ويروى عن مروان وعمر بن
العزيز ولم يجوزه أصحاب الرأي والدليل على جوازه أن أبا سلمة بن عبد الرحمن
قال: إن من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء رواه الأثرم
وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال نافع: أن عبد الله
بن عمر كان يجمع اذا جمع الامراء بين المغرب والعشاء وفعله أبان بن عثمان
في أهل المدينة وفيهم عروة بن الزبير وأبو سلمة وأبو بكر بن عبد الرحمن ولا
يعرف لهم مخالف فكان إجماعا رواه الأثرم
(فصل) فأما الجمع لأجل المطر بين الظهر والعصر فالصحيح أنه لا يجوز.
قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله الجمع بين الظهر والعصر في المطر قال: لا ما
سمعته وهذا اختيار أبي بكر وابن حامد وقول مالك.
وقال أبو الحسن التميمي فيه قولان: أحدهما يجوز اختاره القاضي وابو الخطاب
وهو مذهب الشافعي لما روى يحيى بن واضح عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر
أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في المدينة بين الظهر والعصر في المطر
ولأنه معنى أباح الجمع فأباحه بين الظهر والعصر كالسفر ولنا أن مستند الجمع
ما ذكرنا من قول أبي سلمة والإجماع ولم يرد إلا في المغرب والعشاء وحديثهم
لا يصح فإنه غير مذكور في الصحاح والسنن وقول أحمد ما سمعت يدل على أنه ليس
بشئ ولا يصح القياس على المغرب والعشاء لما بينهما من المشقة لأجل الظلمة،
ولا القياس على السفر لأن مشقته لأجل
(2/117)
السير وفوات الرفقة وهو غير موجود ها هنا
كذا (فصل) والمطر المبيح للجمع هو ما يبل الثياب وتلحق المشقة بالخروج فيه
فأما الطل والمطر الخفيف فلا يبيح لعدم المشقة والثلج والبرد في ذلك كالمطر
لأنه في معناه * (مسألة) * (وهل يجوز ذلك لأجل الوحل والريح الشديدة
الباردة أو لمن يصلي في بيته أو في مسجد طريقه تحت ساباط على وجهين) اختلف
أصحابنا في الوحل بمجرده، فقال القاضي: قال أصحابنا هو عذر يبيح الجمع لأن
المشقة تلحق بذلك في الثياب والنعال كما تلحق بالمطر وهو قول مالك، وذكر
أبو الخطاب فيه وجهاً ثانياً أنه لا يبيح وهو قول الشافعي لأن المشقة دون
مشقة المطر فلا يصح قياسه عليه.
قال شيخنا: الاولى أصح لأن الوحل يلوث الثياب والنعال ويعرض الانسان للزلق
فيتأذى نفسه وثيابه وذلك أعظم ضرراً من البلل، وقد ساوى المطر في العذر في
ترك الجمعة والجماعة فدل على تساويهما في المشقة المرعية في الحكم (فصل)
فأما الريح الشديدة في الليلة الباردة ففيها وجهان: أحدهما يبيح الجمع قال
الآمدي: وهو أصح يروى عن عمر بن عبد العزيز لأن ذلك عذر في ترك الجمعة
والجماعة بدليل ما روى محمد بن الصباح
حدثنا سفيان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم ينادي مناديه
(2/118)
في الليلة المطيرة والليلة الباردة ذات
الريح صلوا في رحالكم رواه ابن ماجه.
والثاني لا يبيحه لأن مشقته دون مشقة المطر فلا يصح القياس ولأن مشقتها من
غير جنس مشقة المطر ولا ضابط لذلك يجتمعان فيه فلم يصح الإلحاق (فصل) وهل
بجوز الجمع لمنفرد أو لمن طريقه تحت ساباط يمنع وصول المطر إليه، أو من كان
مقامه في المسجد، أو لمن يصلي في بيته على وجهين: أحدهما الجواز.
قال القاضي: وهو ظاهر كلام أحمد لأن الرخصة العامة يستوي فيها حال وجود
المشقة وعدمها كالسفر وكإباحة السلم في حق من ليس له اليه حاجة كاقتناء
الكلب للصيد والماشية لمن لا يحتاج إليها، وقد روي أنه عليه السلام جمع في
مطر وليس بين حجرته ومسجده شئ، والثاني المنع.
اختاره ابن عقيل لأن الجمع لأجل المشقة فاختص بمن تلحقه المشقة كالرخصة في
التخلف عن الجمعة، والجماعة تختص بمن تلحقه المشقة دون من لا تلحقه كمن في
الجامع والقريب منه * (مسألة) * (ويفعل الأرفق به من تأخير الاولى إلى وقت
الثانية أو تقديم الثانية إليها) هذا هو الصحيح من المذهب وعليه أكثر
الأصحاب وهو أن المسافر مخير في الجمع بين التقديم والتأخير وظاهر كلام
الخرقي أنه لا يجوز الجمع إلا إذا كان سائراً في وقت الاولى فيؤخرها إلى
وقت الثانية وهي رواية عن أحمد، ويروى ذلك عن سعد وابن عمر وعكرمة آخذاً
بحديث ابن عمر وأنس الصحيحين.
وقال القاضي.
هذه الرواية هي الفضيلة والاستحباب وإن جمع بينهما في وقت الأولى جاز
نازلاً كان أو سائراً أو مقيماً في بلد إقامة لا يمنع القصر وهذا قول عطاء
وأكثر علماء المدينة والشافعي وإسحاق وابن المنذر لما روى معاذ قال: خرجنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في
(2/119)
غزوة تبوك فكان إذا ارتحل قبل زيغ الشمس
أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعاً، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس
صلى الظهر والعصر جميعاً ثم سار، وإذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب
حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب،
واه أبو داود والترمذي وقال هذا حديث حسن.
وروى مالك في الموطأ عن أبي الزبير عن أبي الطفيل أن معاذاً أخبره أنهم
خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء قال: فأخر الصلاة
يوماً ثم خرج فصلى الظهر والعصر جمعاً ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء
جمعاً.
قال ابن عبد البر: هذا حديث صحيح ثابت الاسناد، وفي هذا الدليل أوضح الدليل
في الرد على من قال: لا يجمع بين الصلاتين إلا إذا جدبه السير لأنه كان
يجمع وهو نازل غير سائر ماكث في خبائه يخرج فيصلي الصلاتين جمعاً فتعين
الأخذ بهذا الحديث لثبوته وكونه صريحاً في الحكم من غير معارض له، ولأن
الجمع رخصة من رخص السفر فلم يختص بحالة السير كالقصر والمسح ثلاثاً لكن
الأفضل التأخير لأنه أحوط وفيه خروج من الخلاف عند القائلين بالجمع وعملاً
بالأحاديث كلها * (فصل) * والمريض مخير في التقديم والتأخير كالمسافر فان
استوى عنده الامران فالتأخير أفضل لما ذكرنا في المسافر، فأما الجمع للمطر
فإنما يفعل في وقت الأولى لأن السلف إنما كانوا يجمعون في وقت الأولى ولأن
تأخير الأولى إلى وقت الثانية يفضي الى المشقة بالانتظار والخروج في الظلمة
(2/120)
ولأن العادة اجتماع الناس للمغرب، فإذا
حبسهم في المسجد ليجمع بين الصلاتين في وقت الثانية كان أشق من أن يصلي كل
صلاة في وقتها، وإن اختار تأخير الجمع جاز والمستحب أن يؤخر الأولى عن أول
وقتها شيئاً، قال أحمد يجمع بينهما اذا اختلط الظلام قبل أن يغيب الشفق
الذي فعل ابن عمر قيل لأبي عبد الله فكان سنة الجمع بين الصلاتين في المطر
عندك أن تجمع قبل أن يغيب الشفق، وفي الشفق تؤخر حتى يغيب الشفق قال نعم *
(فصل) * ولا يجوز الجمع لغير من ذكرنا، وقال ابن شبرمة يجوز اذا كانت حاجة
أو شئ ما لم يتخذه عادة لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع
بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر، فقيل لابن عباس لم
فعل ذلك؟ قال اراد أن لا يحرج أمته
ولنا عموم أخبار المواقيت، وحديث ابن عباس محمول على حالة المرض ويجوز أن
يكون صلى
(2/121)
الاولى في آخر وقتها والثانية في أول وقتها
فإن عمرو بن دينار روى هذا الحديث عن جابر بن زيد عن ابن عباس، قال عمرو
قلت يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء،
قال وأنا أظن ذلك * (مسألة) * (وللجمع في وقت الأولى ثلاثة شروط: نية الجمع
عند إحرامها ويحتمل أن تجزئه النية قبل سلامها، وأن لا يفرق بينهما إلا
بقدر الإقامة والوضوء فإن صلى السنة بينهما بطل الجمع في إحدى الروايتين،
وأن يكون العذر موجوداً عند افتتاح الصلاتين وسلام الأولى) نية الجمع شرط
لجوازه في المشهور من المذهب، وقال أبو بكر لا يشترط نية الجمع كقوله في
القصر وقد ذكرناه.
والتفريع على الأول وموضع النية اذا جمع في وقت الأولى عند الاحرام بها
لأنها نية تفتقر إليها الصلاة فاعتبرت عند الاحرام كنية القصر، وفيه وجه
ثان أن موضعها أول الصلاة من الأولى الى سلامها فمتى نوى قبل سلام الاولى
أجزاه لأن موضع الجمع عند الفراغ من الأولى الى الشروع في الثانية، فاذا لم
تتأخر النية عنه أجزأه ذلك ويعتبر أن لا يفرق بينهما إلا تفريقاً يسيراً،
والمرجع في اليسير إلى العرف والعادة وقدره بعض أصحابنا بقدر الوضوء
والاقامة، والصحيح أنه لا حد له لأن التقدير بابه التوقيف فما لم يرد فيه
توقيف فيرجع فيه إلى العادة كالقبض والإحراز،
(2/122)
فإن فرق بينهما تفريقاً كثيراً بطل الجمع
سواء فعله عمداً أو لنوم أو شغل أو سهو أو غير ذلك لأن الشرط لا يثبت
المشروط بدونه والمرجع في الكثير إلى العرف والعادة كما قلنا في اليسير،
ومتى احتاج الى الوضوء والتيمم فعله إذا لم يطل وان تكلم بكلام يسير لم
يبطل الجمع وإن صلى بينهما السنة بطل الجمع في الظاهر لأنه فرق بينهما
بصلاة فبطل الجمع كما لو صلى بينهما غيرها وعنه لا تبطل لأنه تفريق يسير
أشبه الوضوء * (فصل) * ويعتبر للجمع في وقت الأولى وجود العذر حال افتتاح
الصلاتين والفراغ من الاولى
لأن افتتاح الاولى موضع النية وبافتتاح الثانية يحصل الجمع فاعتبر العذر في
هذين الوقتين فمتى زال العذر في أحد هذه الثلاثة لم يبح الجمع، وإن زال
المطر في أثنا الأولى ثم عاد قبل تمامها أو انقطع بعد الاحرام بالثانية جاز
الجمع ولم يؤثر انقطاعه لأن العذر وجد في وقت اشتراطه فلم يضر عدمه في
غيره.
فأما المسافر اذا نوى الاقامة في أثناء الصلاة الأولى انقطع الجمع والقصر
ولزمه الاتمام، فلو عاد فنوى السفر لم يبح له الترخص حتى يفارق البلد الذي
هو فيه، وإن نوى الإقامة بعد الاحرام بالثانية أو دخلت به السفينة البلد في
أثنائها احتمل أن يتمها ويصح قياساً على انقطاع المطر، قال بعض أصحاب
الشافعي هذا الذي يقتضيه مذهب الشافعي واحتمل أن تنقلب نفلاً، ويبطل الجمع
(2/123)
لأنه أحد رخص السفر فبطل بذلك كالقصر
والمسح ولأنه زال شرطها في أثنائها أشبه سائر شروطها ويفارق انقطاع المطر
من وجهين أحدهما أنه لا يتحقق انقطاعه لاحتمال عوده في أثناء الصلاة،
والثاني أنه يخلفه عذر مبيح وهو الوحل بخلاف مسألتنا وهكذا الحكم في المريض
يزول عذره في أثناء الصلاة الثانية.
فأما إن لم يزل العذر إلا بعد الفراغ من الثانية قبل دخول وقتها صح الجمع
ولم يلزمه اعادة الثانية في وقتها لأن الصلاة وقعت صحيحة مجزئة مبرئة للذمة
فلم تشتغل الذمة بها بعد ذلك كالمتيمم إذا وجد الماء في الوقت بعد فراغه من
الصلاة * (فصل) * وإذا جمع في وقت الأولى فله أن يصلي سنة الثانية منهما
ويوتر قبل دخول الثانية لأن سنتها تابعة لها فتتبعها في فعلها ووقتها ولأن
الوتر وقته ما بين صلاة العشاء والصبح وقد صلى العشاء فدخل وقته * (مسألة)
* (وإن جمع في وقت الثانية كفاه نية الجمع في وقت الأولى ما لم يضق عن
فعلها واستمرار العذر الى دخول وقت الثانية منهما) ولا يشترط غير ذلك متى
جمع في وقت الثانية فلا بد من نية الجمع في وقت الاولى، فموضع النية في وقت
الأولى من أوله الى أن يبقى منه قدر ما يصليها هكذا ذكره أصحابنا لأنه متى
أخرها عن ذلك بغير نية صارت قضاء لا جمعاً ولأن تأخيرها عن القدر الذي يضيق
عن فعلها حرام.
قال شيخنا ويحتمل أن يكون وقت النية أن يبقى منه قدر ما يدركها به وهو ركعة
أو تكبيرة على
ما ذكرنا متقدماً، ويعتبر بقاء العذر الى حين دخول وقت الثانية فان زال في
وقت الاولى كالمريض يبرأ والمسافر يقدم والمطر ينقطع لم يبح الجمع لزوال
سببه، وان استمر الى وقت الثانية جمع وإن زال العذر لأنهما صارتا واجبتين
في ذمته فلا بد له من فعلها * (فصل) * ولا يشترط المواصلة بينهما إذا جمع
في وقت الثانية لأنه متى صلى الاولى فالثانية في وقتها لا يخرج بتأخيرها عن
كونها مؤداة.
وفيه وجه إن المواصلة مشترطة لأن حقيقة الجمع ضم الشئ إلى الشئ ولا يحصل مع
التفريق، والصحيح الأول لأن الاولى بعد وقوعها صحيحة لا تبطل بشئ يوجد
بعدها، والثانية لا تقع إلا في وقتها
(2/124)
* (فصل) * إذا صلى إحدى صلاتي الجمع مع
الإمام والثانية مع امام آخر أو صلى معه مأموم في إحدى الصلاتين وصلى معه
في الثانية مأموم آخر صح، وقال ابن عقيل لا يصح لأن كل واحد من الامام
والمأموم أحد من يتم به الجمع فاشترط وجود دوامه كالعذر ولنا أن لكل صلاة
حكم نفسها وهي منفردة بنيتها فلم يشترط اتحاد الامام والمأموم كغير
المجموعتين وقوله أن الامام والمأموم أحد من يتم به الجمع لا يصح في
المسافر والمريض لجواز الجمع لكل واحد منهما منفرداً.
وفي المطر في أحد الوجهين، وإن قلنا أن الجمع في المطر لا يجوز للمنفرد
فالذي يتم به الجمع الجماعة لا عين الامام والمأموم ولم تختل الجماعة، وعلى
ما قلنا لو ائتم المأموم بالامام لا ينوي الجمع ونواه الامام فلما سلم
الامام صلى المأموم الثانية جاز لأنا أبحنا له مفارقة الامام في الصلاة
الواحدة للعذر ففي الصلاتين أولى وإنما نوى أن يفعل في غيرها فلم يؤثر كما
لو نوى المسافر في الاولى اتمام الثانية فلم تختلف نيتهما في الصلاة
الأولى، وهكذا لو صلى المسافر بمقيمين ونوى الجمع فلما صلى بهم الأولى قام
فصلى الثانية جاز، وهكذا لو صلى إحدى صلاتي الجمع منفرداً ثم حضرت جماعة
يصلون الثانية فأمهم فيها أو فصلى معهم مأموماً جاز، وقول ابن عقيل يقتضي
أن لا يجوز شئ من ذلك والله أعلم * (قال المصنف رحمه الله) * * (فصل في
صلاة الخوف) * وهي جائزة بالكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى (وإذا كنت
(2/125)
فيهم فأقمت لهم الصلاة) الآية.
وأما السنة فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة الخوف وحكمها
باق في قول جمهور أهل العلم، وقال أبو يوسف إنما كانت مختصة بالنبي صلى
الله عليه وسلم بدليل قوله سبحانه (وإذا كنت فيهم) وما قاله غير صحيح لأن
ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في حقنا ما لم يقم على اختصاصه
به دليل لأن الله تعالى أمرنا باتباعه، ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن
القبلة للصائم؟ أجاب بأني أفعل ذلك.
فقال السائل لست مثلنا، فغضب وقال إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم
بما أتقي، ولو اختص بفعله لما حصل جواب السائل بالأخبار بفعله ولا غضب من
قول السائل مثلنا لأن قوله إذا كان صواباً، وقد كان أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم يحتجون بأفعاله ويرونها معارضة لقوله وناسخة له، وذلك لما أخبرت
عائشة وأم سلمة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من غير احتلام
ثم يغتسل ويصوم ذلك اليوم تركوا به خبر أبي هريرة من أصبح جنباً فلا صوم له
لما ذكروا ذلك لأبي هريرة قال هن أعلم، إنما حدثني به الفضل ابن عباس ورجع
عن قوله.
وأيضاً فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على صلاة الخوف فصلاها علي ليلة
الهرير بصفين وصلاها أبو موسى الاشعري بأصحابه، وروي أن سعد بن العاص كان
أميرا على الحيش بطبرستان فقال أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
صلاة الخوف؟ فقال حذيفة أنا.
فقدمه فصل بهم، فأما نخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب فلا يوجب
تخصيصه بالحكم لما ذكرنا ولأن الصحابة أنكروا على مانع الزكاة وقولهم أن
الله تعالى خص نبيه بأخذ الزكاة بقوله
(2/126)
(خذ من أموالهم صدقة (فإن قيل فالنبي صلى
الله عليه وسلم أخر الصلاة يوم الخندق ولم يصل.
قلنا الاعتراض باطل في نفسه إذ لا خلاف في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
له أن يصلي صلاة الخوف وقد أمره الله بها في كتابه فلا يجوز الاحتجاج بما
يخالف الكتاب والإجماع وإنما كان ذلك قبل نزول صلاة الخوف، وإنما يؤخذ
بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن النبي صلى
الله عليه وسلم أخر الصلاة نسياناً فإنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
سألهم عن صلاتهم.
قالوا
ما صلينا.
وروي ان عمر قال ما صليت العصر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " والله ما
صليتها " أو كما جاء، ومما يدل على ذلك أنه لم يكن ثم قتال يمنعه من الصلاة
إذا ثبت ذلك فإنما تجوز صلاة الخوف إذا كان العدو مباح القتال، ويشترط أن
لا يؤمن هجومه على المسلمين وتجوز على كل صفة صلاها رسول الله صلى الله
عليه وسلم * (مسألة) * (قال الإمام أبو عبد الله: صح عن النبي صلى الله
عليه وسلم صلاة الخوف من خمسة أوجه أو ستة، وقال ستة أو سبعة كل ذلك جائز
لمن فعله) قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله تقول بالأحاديث كلها أو تختار
واحداً منها، قال: أنا أقول من ذهب اليها كلها فحسن، وأما حديث سهل فأنا
اختاره فنذكر الوجوه التي بلغتنا فاولها إذا كان العدو في جهة القبلة بحيث
لا يخفى بعضهم على المسلمين ولم يخافوا كميناً فيصلي بهم كما روى جابر قال:
(2/127)
شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة
الخوف فصففنا خلفه صفين والعدو بيننا وبين القبلة فكبر رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكبرنا جميعاً، ثم ركع وركعنا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا
جميعاً، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو،
فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه وانحدر الصف
المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع
رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعاً، ورفع رأسه من الركوع ورفعنا
جميعا، ثم انحذر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى
وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم
السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود، ثم سلم النبي صلى
الله عليه وسلم وسلمنا جميعاً أخرجه مسلم.
وروى أبو عياش الزرقي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعسفان نحو هذه
الصلاة وصلاها يوم بني سليم رواه أبو داود قلت وأخرجه مسلم عن جابر.
قال البيهقي وهو صحيح وإن حرس الصف الاول في الاولى والثاني في الثانية أو
لم يتقدم الثاني الى مقام الاول، أو حرس بعض الصف وسجد الباقون جاز لأن
المقصود يحصل لكن الاولى أن تفعل مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم
* (والوجه الثاني) * إذا كان العدو في غير جهة القبلة فيصلي بهم كما روى
صالح بن خوات عن من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة
الخوف أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه
(2/128)
العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً
وائتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى
بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم
رواه مسلم.
وروى سهل بن أبي حثمة نحو ذلك، واشترط القاضي لهذه الصلاة كون العدو في غير
جهة القبلة، ونص أحمد على خلاف ذلك في رواية الأثرم فإنه قال: قلت له حديث
سهل تستعمله مستقبلين القبلة كانوا ومستدبرين؟ قال نعم هو أنكى ولأن العدو
قد يكون في جهة القبلة على وجه لا يمكن أن يصلي بهم صلاة عسفان لانتشارهم
أو لخوف من كمين، فالمنع من هذه الصلاة يفضي إلى تفويتها قال أبو الخطاب:
ومن شرطها أن يكون المصلون يمكن تفريقهم طائفتين كل طائفة ثلاثة فأكثر.
وقال القاضي: إن كانت كل فرقة أقل من ثلاثة كرهناه، ووجه قولهما إن الله
سبحانه ذكر الطائفة بلفظ الجمع بقوله (فإذا سجدوا) وأقل الجمع ثلاثة، ولأن
أحمد ذهب إلى ظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال شيخنا: والأولى أن لا يشترط هذا لأن ما دون الثلاثة تصح به الجماعة
فجاز أن يكونوا طائفة كالثلاثة، فأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فانه لا
يشترط في صلاة الخوف أن يكون المصلون مثل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
في العدد وجهاً واحداً ويستحب أن يخفف بهم الصلاة لأن موضوع صلاة الخوف على
التخفيف وكذلك الطائفة التي تفارقه تخفف الصلاة ولا تفارقه حتى يستقل
قائماً لأن النهوض يشتركون فيه جميعاً فلا حاجة الى
(2/129)
مفارقتهم إياه قبله لأن المفارقة إنما جازت
للعذر ويقرأ في حال الانتظار ويطيل التشهد حتى يدركوه وقال الشافعي في أحد
قوليه: لا يقرأ في الانتظار، بل يؤخر القراءة ليقرأ بالطائفة الثانية فتحصل
التسوية بين الطائفتين ولنا أن الصلاة ليس فيها حال سكوت والقيام محل
للقراءة فينبغي أن يأتي بها فيه كما في التشهد
اذا انتظرهم فانه لا يسكت والتسوية بينهم تحصل بانتظاره إياهم في موضعين
والاولى في موضع واحد إذا ثبت هذا فقال القاضي: إن قرأ في انتظارهم فقرأ
بعد مجيئهم بقدر فاتحة الكتاب وسورة خفيفة وان لم يقرأ في انتظارهم قرأ اذا
جاءوا بفاتحة الكتاب وسورة وهذا على سبيل الاستحباب، فلو قرأ قبل مجيئهم ثم
ركع عند مجيئهم أو قبله فأدركوه راكعاً ركعوا معه وصحت لهم الركعة مع تركه
للسنة، واذا جلس للتشهد قاموا فصلوا ركعة أخرى وأطال التشهد والدعاء حتى
يدركوه ويتشهدوا ثم يسلم بهم.
وقال مالك: يتشهدون معه فاذا سلم الامام قاموا فقضوا ما فاتهم كالمسبوق
والأولى ما ذكرناه لموافقته الحديث ولأن قوله تعالى (ولتأت طائفة أخرى لم
يصلوا فليصلوا معك) يدل على أن صلاتهم كلها معه ولأن الاولى أدركت معه
فضيلة الاحرام فينبغي أن يسلم بالثانية ليسوي بينهم، بهذا قال مالك
والشافعي على ما ذكرنا من الاختلاف، واختار أبو حنيفة إن يصلي على ما في
حديث ابن عمر وسوف نذكره إن شاء الله تعالى في الوجه الثالث، والاولى
والمختار عند أحمد رحمه الله هذا الوجه
(2/130)
الثاني لأنه أشبه بكتاب الله تعالى وأحوط
للصلاة والحرب، أما موافقة الكتاب فان قوله تعالى (ولتأت طائفة أخرى لم
يصلوا فليصلوا معك) يقتضي أن جميع صلاتها معه، وعلى ما اختاره أبو حنيفة لا
تصلي معه الا ركعة على ما يأتي وعلى ما اخترنا تصلي جميع صلاتها معه في
إحدى الركعتين موافقة في أفعاله، والثانية تأتي بها قبل سلامه ثم تسلم معه.
وأما الاحتياط للصلاة فان كل طائفة تأتي بصلاتها متوالية بغضها موافق
للامام فيها فعلاً وبعضها يفارقه وتأتي به وحدها كالمسبوق، وعلى ما اختاره
ينصرف إلى جهة العدو وهي في الصلاة ماشية أو راكبة ويستدبر القبلة وهذا
ينافي الصلاة وأما الاحتياط للحرب فإنه يتمكن من الضرب والطعن والتحريض
وإعلام غيره بما يراه مما خفي عليه وتحذيره وإعلام الذين مع الامام بما
يحدث ولا يمكن هذا على اختياره (فصل) ولا تجب التسوية بين الطائفتين لأنه
لم يرد بذلك نص ولا قياس، ويجب أن تكون الطائفة التي بازاء العدو ممن يحصل
الثقة بكفايتها وحراستها ومتى خشي اختلال حالهم واحتيج إلى معونتهم
بالطائفة الأخرى فللإمام أن ينهد إليهم من معه ويبينوا على ما مضى من
صلاتهم
(فصل) وإن صلوا الجمعة صلاة الخوف جاز إذا كانت كل طائفة أربعين، فان قيل
فالعدد شرط في الجمعة كلها ومتى ذهبت الطائفة الاولى بقي الامام منفرداً
فبطلت الجمعة كما لو نقص العدد فالجواب أن هذا جاز لأجل العذر ولأنه يترقب
مجئ الطائفة الأخرى بخلاف الانفضاض
(2/131)
ولنا أيضاً في الأصل منع ولا يجوز أن يخطب
بإحدى الطائفتين ويصلي بالأخرى حتى يصلي معه من حضر الخطبة وبهذا قال
الشافعي (فصل) والطائفة الاولى في حكم الائتمام قبل مفارقة الامام فان سها
لحقهم حكم سهوه فيما قبل مفارقته، وان سهوا لم يلزمهم حكم سهوهم لأنهم
مأمومون، وأما بعد مفارقته فلا يلحقهم حكم سهوه ويلحقهم حكم سهوهم لأنهم
منفردون، وأما الطائفة الثانية فيلحقها حكم سهو امامها في جميع صلاته ما
أدركت منها وما فاتها كالمسبوق يلحقه حكم سهو امامه فيما لم يدركه ولا
يلحقها حكم سهوها في شئ من صلاتها لأنها أن فارقتها فعلاً لقضاء ما فاتها
فهي في حكم المؤتم لأنهم يسلمون بسلامه، فاذا فرغت من قضاء ما فاتها سجد
وسجدت معه، فان سجد قبل إتمامها تابعته لأنها مؤتمة به ولا يقيد السجود بعد
فراغها من التشهد لأنها لم تنفرد عن الامام بخلاف المسبوق.
وقال القاضي ينبني هذا على الروايتين في المسبوق اذا سجد مع امامه هل يسجد
بعد القضاء أم لا وقد ذكر الفرق بينهما * (مسألة) * (وإن كانت الصلاة
مغرباً صلى بالطائفة الاولى ركعتين وبالثانية ركعة) وبهذا قال مالك
والاوزاعي وسفيان والشافعي في أحد قوليه، وقال في الآخر يصلي بالاولى ركعة
وبالثانية ركعتين لأنه روي عن علي رضي الله عنه أنه صلى ذلك ليلة الهرير،
ولأن الاولى أدركت معه فضيلة الاحرام والتقدم فينبغي أن يزيد الثانية في
الركعات ليجبر نقصهم به
(2/132)
ولنا أنه إذا لم يكن بد من التفضيل فالاولى
أحق به وما فات الثانية يتخير بادراكها السلام مع الامام ولأنها تصلي جميع
صلاتها في حكم الائتمام، والاولى تفضل بعض صلاتها في حكم الانفراد وأيا ما
فعل فهو جائز، واذا صلى بالثانية الركعة الثانية وجلس للتشهد فان الطائفة
تقوم ولا تتشهد
معه ذكره القاضي لأنه ليس بموضع لتشهدها بخلاف الرباعية ويحتمل أن تتشهد
معه إذا قلنا إنها تقضي ركعتين متواليين لئلا يفضي إلى أن يصلي ثلاث ركعات
بتشهد واحد ولا نظير لهذا في الصلوات هذا حكم صلاة المغرب على حديث سهل *
(مسألة) * (وإن كانت رباعية غير مقصورة صلى بكل طائفة ركعتين وأتمت الاولى
بالحمد لله في كل ركعة والأخرى تتم بالحمد لله وسورة) تجوز صلاة الخوف في
الحضر عند الحاجة إليها وبه قال الأوزاعي والشافعي، وحكي عن مالك لا يجوز
في الحضر لأن الآية إنما دلت على صلاة ركعتين وصلاة الحضر أربع، ولأن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يفعلها في الحضر ولنا قوله تعالى (وإذا كنت فيهم
فأقمت لهم الصلاة) وهذا عام وترك النبي صلى الله عليه وسلم لها في الحضر
إنما كان لغناه عنها فيه، وقولهم إنما دلت الآية على ركعتين ممنوع، وإن سلم
فقد تكون صلاة الحضر ركعتين الصبح والجمعة والمغرب ثلاث ويجوز فعلها في
الخوف في السفر فعلى هذا إذا
(2/133)
صلى بهم الرباعية فرقهم فرقتين وصلى بكل
طائفة ركعتين وتقرأ الاولى بعد مفارقة امامها بالحمد لله وحدها في كل ركعة
لأنها آخر صلاتها، وأما الطائفة الثانية فاذا جلس الامام للتشهد الأخير
تشهدت معه التشهد الاول كالمسبوق ثم قامت وهو جالس فأتمت صلاتها وتقرأ في
كل ركعة الحمد لله وسورة في ظاهر المذهب لأنه أول صلاتها على ما ذكرنا في
المسبوق وتستفتح اذا قامت للقضاء كالمسبوق ولأنها لم تحصل لها مع الامام
قراءة السورة ويطول الامام التشهد والدعاء حتى تصلي الركعتين، ثم يتشهد
ويسلم بهم، وإذا قلنا إن الذي يقضيه المسبوق آخر صلانه فيقتضي أن لا يستفتح
ولا يقرأ السورة ها هنا قياساً عليه * (مسألة) * (وهل تفارقه الاولى في
التشهد الأول وفي الثالثة؟ على وجهين) أحدهما حين قيامه إلى الثالثة وهو
قول مالك والاوزاعي لأنه يحتاج إلى التطويل من أجل الانتظار والتشهد يستحب
تخفيفه، ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس للتشهد
كأنه على الرضف حتى يقوم لأن ثواب القائم اكثر ولأنه اذا انتطرهم جالساً
وجاءت الطائفة فانه يقوم قبل احرامهم فلا يحصل اتباعهم إياه في القيام،
والثاني في التشهد ليدرك الطائفة الثانية جميع الركعة الثالثة ولأن الجلوس
أخف على الامام ولأنه متى انتظرهم فإنما احتاج إلى قراءة السورة في الركعة
الثالة وهو خلاف السنة وكلا الامرين جائز
(2/134)
* (مسألة) * (وإن فرقهم أربعاً فصلى بكل
طائفة ركعة صحت صلاة الاوليين وبطلت صلاة الامام والاخريين ان علمنا بطلان
صلاته) وجملة ذلك أنه متى فرقهم الإمام في صلاة الخوف أكثر من فرقتين مثل
أن فرقهم أربع فرق فصلى بكل طائفة ركعة أو ثلاث فرق فصلى بالاولى ركعتين
وبالباقيتين ركعة صحت صلاة الاوليين لأنهما إنما ائتما بمن صلاته صحيحة ولم
يوجد منهما ما يبطل صلاتهما وتبطل صلاة الامام بانتظار الثالث لأنه لم يرد
الشرع به فأبطل الصلاة كما لو فعله من غير خوف، وسواء فعل ذلك لحاجة أو
غيرها لأن الترخص انما يصار اليه فيما ورد به الشرع وتبطل صلاة الثالثة
والرابعة لائتمامها بمن صلاته باطلة فأشبه ما لو كانت باطلة في أولها، فإن
لم يعلما بطلان صلاة الامام فقال ابن حامد: لا تبطل صلاتهما لأن ذلك مما
يخفى فلم تبطل صلاة المأموم كما لو ائتم بمحدث لا يعلم حدثه وينبغي على هذا
أن يخفى على الامام والمأموم كما اعتبرنا ذلك في المحدث.
قال شيخنا: ويحتمل أن لا تصح صلاتهما لأن الامام والمأموم يعلمان وجود
المبطل، وإنما خفي عليهم حكمه فلم يمنع ذلك البطلان كما لو علم حدث الامام
ولم يعلم كونه مبطلاً، وقال بعض الشافعية كقول ابن حامد.
وقال بعضهم: تصح صلاة الجميع لأن الحاجة تدعو اليه أشبه الفرقتين ولنا أن
الرخص إنما تتلقى من الشرع وهذا لم يرد به الشرع فلم يجزئه كغير الخوف
والله أعلم (الوجه الثالث) يصلي كما روى ابن عمر قال: صلى النبي صلى الله
عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة وسجدتين والطائفة الأخرى مواجهة
العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو وجاء أولئك ثم
صلى لهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم، ثم قضى
هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة متفق عليه
(2/135)
(الوجه الرابع) أن يصلي بكل طائفة صلاة
ويسلم بها كما روى أبو بكرة قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خوف
الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو فصلى ركعتين ثم سلم فانطلق الذين
صلوا فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم
فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ولأصحابه ركعتان رواه أبو داود
والاثرم.
وهذه صفة حسنة قليلة الكلفة لا يحتاج فيها إلى مفارقة امامه ولا الى تفريق
كيفية الصلاة وهو مذهب الحسن وليس فيها أكثر من أن الامام في الثانية متنفل
يؤم مفترضين (الوجه الخامس) أن يصلي كما روى جابر قال: أقبلنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع قال فنودي بالصلاة فصلى بطائفة
ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين قال: كانت لرسول الله صلى
الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتين ركعتين متفق عليه وتأول القاضي
هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم كصلاة الحضر، وأن كل طائفة
قضت ركعتين، وأن التأويل فاسد لمخالفة صفة الرواية وقول أحمد: أما مخالفة
الرواية فانه ذكر أنه صلى بكل طائفة ركعتين ولم يذكر قضاء، ثم قال في آخره
للقوم ركعتين ركعتين.
وأما مخالفة قول أحمد فإنه قال ستة أوجه أو سبعة يروى فيها كأنها جائز،
وعلى هذا لا تكون ستة ولا خمسة، ثم أنه حمل الحديث على محمل بعيد لأن الخوف
يقتضي قصر الصلاة وتخفيفها، وعلى هذا التأويل تجعل مكان الركعتين أربعاً
ويتم الصلاة المقصورة ولم ينقل عنه عليه السلام إتمام صلاة السفر في غير
الخوف فكيف يتمها في موضع يقتضي التخفيف (فصل) وقد ذكر شيخنا رحمه الله
(الوجه السادس) أن يصلي بكل طائفة ركعة ركعة ولا تقضي شيئاً لما روى ابن
عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد صلاة الخوف والمشركون
بينه وبين القبلة فصف صفاً
(2/136)
خلفه وصفاً موازي العدو فصلى بهم ركعة ثم
ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ورجع هؤلاء إلى مصاف هؤلاء فصلى بهم ركعة ثم سلم
عليهم فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان وكانت لهم ركعة ركعة
رواه الأثرم، وعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بهؤلاء
ركعة وهؤلاء ركعة ولم يقضوا شيئاً رواه أبو داود وهذا قول ابن عباس وجابر.
قال جابر: إنما القصر ركعة عند القتال.
وقال طاوس ومجاهد والحسن وقتادة والحكم يقولون ركعة في شدة الخوف يومئ
ايماء، وبه قال إسحاق يجزئك عند الشدة ركعة تومئ ايماء، فإن لم تقدر فسجدة
واحدة، فإن لم تقدر فتكبيرة، فهذه الصلاة يقتضي عموم كلام أحمد جوازها لأنه
ذكر ستة أوجه ولا نعلم وجها سادساً سواها.
وقال القاضي: لا تأثير للخوف في عدد الركعات وهذا قول أصحابنا وأكثر أهل
العلم منهم ابن عمر والنخعي والثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم من
علماء الأمصار لا يجيزون ركعة والذي قال منهم وكعة إنما جعلها عند شدة
القتال، والذين روينا عنهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرهم لم
ينقصوا من ركعتين وابن عباس لم يكن ممن يحضر النبي صلى الله عليه وسلم في
غزواته ولم يعلم ذلك ألا بالرواية فالأخذ برواية من حضر الصلاة وصلاها مع
النبي صلى الله عليه وسلم أولى (فصل) ومتى صلى بهم صلاة الخوف من غير خوف
فصلاة الجميع فاسدة لأنها لا تخلو من مفارقة إمامه لغير عذر أو تارك متابعة
امامه في ثلاثة أركان، أو قاصر الصلاة مع إتمام امام وكل ذلك يفسد الصلاة
إلا مفارقة الامام في قول: واذا فسدت صلاة الامام لأنه صلى اماماً بمن
صلاته فاسدة إلا أن يصلي بهم صلاتين كاملتين فتصح صلاته وصلاة الطائفة
الاولى وصلاة الثانية تنبني على امامة المتنفل بالمفترض وقد ذكرناه
(2/137)
* (مسألة) * (ويستحب أن يحمل معه في الصلاة
من السلاح ما يدفع به عن نفسه ولا يثقله كالسيف والسكين ويحتمل أن يجب ذلك)
حمل السلاح في صلاة الخوف مستحب لقوله تعالى (وليأخذوا أسلحتهم) ولأنهم لا
يأمنون
أن يفجأهم العدو كما قال الله تعالى (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم
وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) والمستحب من ذلك ما يدفع به عن نفسه
ولا يثقله كالسيف والسكين، ولا يستحب حمل ما يثقله كالجوشرة، ولا ما يمنع
إكمال السجود كالمغفر ولا ما يؤذي غيره كالرمح اذا كان متوسطاً، ولا يجوز
حمل نجس ولا ما يخل ببعض أركان الصلاة إلا عند الضرورة كمن يخاف وقوع
الحجارة والسهام، وليس ذلك بواجب ذكره أصحابنا وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي
الشافعي وأكثر أهل العلم لأنه لو وجب لكان شرطاً كالسترة ولأن الأمر به
للرفق بهم والصيانة لهم فلم يكن للايجاب كما أن نهى النبي صلى الله عليه
وسلم عن الوصال لما كان للرفق لم يكن للتحريم، ويحتمل أن يجب ذلك وهو قول
داود وأحد قولي الشافعي وهذا أظهر لأن ظاهر الأمر الوجوب، وقد اقترن به ما
يدل على الوجوب وهو قوله سبحانه (ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو
كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم) ونفي الحرج مشروطاً بالأذى دليل على لزومه عند
عدمه، فأما إن كان بهم أذى من مطر أو مرض فلا يجب بغير خلاف لصريح النص
بنفي الحرج * (فصل) * فاذا اشتد الخوف صلوا رجالاً وركباناً الى القبلة
وغيرها يومئون ايماء على قدر الطاقة.
وجملة ذلك أنه متى اشتد الخوف والتحم القتال فلهم الصلاة كيف ما أمكنهم
رجالاً أو ركباناً إن أمكنهم الى القبلة أو الى غيرها أن لم يمكنهم يومئون
بالركوع والسجود ويجعلون سجودهم أخفض من ركوعهم على قدر الطاقة، ولهم
التقدم والتأخر والطعن والضرب والكر والفر ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها
(2/138)
في قول أكثر أهل العلم.
وحكي ابن أبي موسى أنه يجوز تأخير الصلاة حال التحام القتال في رواية، وقال
أبو حنيفة وابن أبي ليل لا يصلي مع المسايفة ولا مع المشي لأن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يصل يوم الخندق وأخر الصلاة، ولأن ما يمنع الصلاة في غير
شدة الخوف يمنعها معه كالحدث والصياح، وقال الشافعي يصلي لكن إن تابع الطعن
والضرب أو المشي أو فعل ما يطول بطلت صلاته لأن ذلك من مبطلات الصلاة أشبه
الحدث
ولنا قوله عزوجل (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) وقال ابن عمر فإن كان خوف أشد
من ذلك صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم وركباناً مستقبلي القبلة وغير
مستقبليها متفق عليه.
وروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى
بأصحابه في غير شدة الخوف فأمرهم بالمشي الى وجاه العدو وهم في الصلاة ثم
يعودن لقضاء ما بقي من صلاتهم، وهذا مشي كثير وعمل طويل واستدبار للقبلة
فاذا جاز ذلك مع أن الخوف ليس بشديد فمع شدته أولى، ومن العجب اختيار أبي
حنيفة هذا الوجه دون سائر الوجوه التي لا تشتمل على العمل في أثناء الصلاة
وتسويغه إياه مع الغناء عنه ثم منعه في حال الحاجة اليه بحيث لا يقدر على
غيره فكان العكس أولى ولأنه مكلف تصح طهارته فلم يجز له اخلاء وقت الصلاة
عن فعلها كالمريض، ويخص الشافعي بأنه عمل أبيح للخوف فلم يبطل الصلاة
كاستدبار القبلة والركوب والايماء وبهذا ينتقض ما ذكره.
فأما تأخير الصلاة يوم الخندق فروى أبو سعيد أنه كان قبل نزول صلاة الخوف
ويحتمل أنه شغله المشركون فنسي الصلاة، فقد نقل ما يدل على ذلك ويؤكد ما
ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا في مسايفة توجب قطع
الصلاة، وأما الصياح الحدث فلا حاجة بهم اليه ولا يلزم من كون الشئ مبطلاً
مع عدم العذر أن تبطل معه كخروج النجاسة من المستحاضة ومن في معناها
(2/139)
* (فصل) * فان أمكنهم إفتتاح الصلاة إلى
القبلة فهل يلزمهم ذلك، على روايتين: إحداهما لا تجب اختاره أبو بكر لأنه
جزء من الصلاة فلم يجب الاستقبال فيه كبقية أجزائها، والثانية يجب لأنه
أمكنه ابتداء الصلاة مستقبلاً فلم يجز بدونه كما لو أمكنه ذلك في ركعة
كاملة * (مسألة) * (ومن هرب من عدو هرباً مباحاً أو سيل أو سبع أو نحوه فله
الصلاة كذلك سواء خاف على نفسه أو ماله أو أهله) وكذلك الأسير إذا خافهم
على نفسه أن صلى والمختفي في موضع يصليان كيف ما أمكنهما نص عليه أحمد في
الاسير، فلو كان المختفي قاعداً لا يمكنه القيام أو مضطجعا لا يمكنه القعود
صلى على حسب حاله وهذا قول ابن الحسن وقال الشافعي يصلي ويعيد.
ولنا أنه خائف صلى على حسب ما أمكنه
فلم يلزمه الاعادة كالهارب، ولا فرق في هذا بين الحضر والسفر لأن المبيح
خوف الهلاك وقد تساويا فيه فان أمكن التخلص بدون ذلك كالهارب من السيل يصعد
الى ربوة والخائف من العدو يمكنه دخول حصن يأمن فيه صولة العدو فيصلي فيه
ثم يخرج لم يكن له أن يصلي صلاة الخوف لأنه لا حاجة إليها ولا ضرورة *
(فصل) * فأما العاصي بهربه كالذي يهرب مما يجب عليه وقاطع الطريق واللص
والسارق فليس لهم أن يصلوا الخوف لانها رخصة ثبتت للدفع عن نفسه في محل
مباح فلا يثبت بالمعصية كرخص السفر * (فصل) * قال أصحابنا يجوز أن يصلوا في
حال شدة الخوف جماعة.
قال شيخنا ويحتمل أن لا يجوز وهو قول أبي حنيفة لأنهم يحتاجون الى التقدم
والتأخر وربما تقدموا على الامام وتعذر عليهم الائتمام، وحجة الأصحاب أنها
حالة تجوز فيها الصلاة على الانفراد فجاز فيها صلاة الجماعة كالركوب في
السفينة ويعفى عن تقدم الامام للحاجة اليه كالعفو عن العمل الكئير ولمن نصر
القول الأول أن
(2/140)
يفرق بينهما بأن العفو عن العمل الكثير لا
يختص الامامة بل هو في حال الانفراد أيضاً فلم يؤثر الانفراد في نفسه بخلاف
تقدم الامام * (مسألة) * (وهل لطالب العدو الخائف فواته الصلاة كذلك) على
روايتين: إحداهما له ذلك كالمطلوب سواء، روى ذلك عن شر حبيل بن حسنة وهو
قول الأوزاعي لما روى عبد الله بن أنيس قال بعثني رسول الله صلى الله عليه
إلى خالد بن سفين الهذلي فقال اذهب فاقتله.
فرأيته وحضرت صلاة العصر، فقلت إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر
الصلاة فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومأ إيماء نحوه.
وذكر الحديث رواه أبو داود وظاهر حاله أنه أخبر بذلك النبي صلى الله عليه
وسلم أو كان قد علم جواز ذلك فإنه لا يظن به أن يفعل ذلك مخطئاً وهو رسول
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يخبره بذلك ولا يسأل عن حكمه.
وقال شر حبيل بن حسنة لا تصلوا الصبح إلا على ظهر، فنزل الأشتر فصلى على
الأرض فمر به شر حبيل فقال مخالف خالف الله به.
قال فخرج الاشتر في الفتنة ولأنها إحدى حالتي الحرب أشبهت حالة الهرب ولأن
فوات الكفار
ضرر عظيم فأبيحت صلاة الخوف عند فواته كالحالة الأخرى والثانية ليس له أن
يصلي الا صلاة آمن وهذا قول أكثر أهل العلم لأن الله تعالى قال: (فإن خفتم
فرجالا أو ركبانا) فشرط الخوف وهذا غير خائف ولأنه آمن فلزمته صلاة الآمن
كما لو لم يخش فواتهم، وهذا الخلاف فيمن يأمن رجوعهم عليه إن تشاغل بالصلاة
ويأمن على أصحابه.
فأما الخائف من ذلك فحكمه حكم المطلوب على ما بينا * (مسألة) * (ومن أمن في
الصلاة أتم صلاة آمن، وان ابتدأها آمنا ثم خاف أتم صلاة خائف) متى صلى بعض
الصلاة في حال شدة الخوف مع الاخلال بشئ من واجباتها كالاستقبال وغيره فأمن
في أثنائها أتمها آتياً بواجباتها، فاذا كان راكباً إلى غير القبلة نزل
مستقبل القبلة، وإن كان ماشياً وقف واستقبل القبلة وبنى على ما مضى لأن ما
مضى من صلاته كان صحيحاً قبل الأمن فجاز
(2/141)
البناء عليه كما لو لم يخل بشئ من الواجبات، وكان المريض يبتدئ الصلاة
قاعداً إذا قدر على القيام في أثنائها فان ترك الاستقبال حال نزوله أو أخل
بشئ من واجباتها بعد أمنه فسدت صلاته، وإن ابتدأ الصلاة آمناً بشروطها
وواجباتها ثم حدث له شدة خوف أتمها على حسب ما يحتاج إليه مثل من يكون
قائماً على الأرض مستقبلاً فيحتاج أن يركب ويستدبر القبلة ويطعن ويضرب نحو
ذلك، فإنه يصير اليه ويبني على الماضي من صلاته.
وحكي عن الشافعي أنه اذا أمن نزل فبنى واذا خاف فركب ابتدأ، ولا يصح لأن
الركوب قد يكون يسيراً لا يبطل مثله في حق الآمن ففي حق الخائف أولى
كالنزول ولأنه عمل أبيح للحاجة فلم يمنع صحة الصلاة كالهرب، ومن صلى صلاة
الخوف لسواد ظنه عدواً فبان أنه ليس بعدو وبينه وبينه ما يمنعه منه فعليه
الاعادة سواء صلى صلاة شدة الخوف أو غيرها، وسواء كان ظنهم مستنداً الى خبر
ثقة أو غيره، أو رؤية سواد أو نحوه لأنه ترك بعض واجبات الصلاة ظنا منه أنه
قد سقط فلزمته الإعادة كما لو ترك غسل رجليه ومسح على خفيه ظنا منه أن ذلك
بجزي فبانا مخرقين، وكما لو ظن المحدث انه متطهرا فصلى، ويحتمل أن لا يلزم
الاعادة اذا كان بينه وبين العدو ما يمنع العبور لأن سبب الخوف متحقق وإنما
خفي المانع والله أعلم |