الشرح
الكبير على متن المقنع * (باب ذكر أهل الزكاة) * وهم ثمانية أصناف
سماهم الله تعالى فقال (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها
والمؤلفة
قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله،
والله عليم حكيم) وروي أن رجلاً قال: يا رسول الله أعطني من هذه الصدقات،
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره
في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء
أعطيتك حقك " ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أنه لا يجوز دفع هذه الزكاة
إلى غير هذه الاصناف إلا ما روي عن أنس والحسن أنهما قالا: ما أعطيت في
الجسور والطرق فهي صدقة قاضية.
والصحيح الأول لأن الله تعالى قال (إنما الصدقات) وانما للحصر تثبت المذكور
وتنفي ما عداه لأنها مركبة من حرفي نفي واثبات وذلك كقوله تعالى (إنما الله
إله واحد) أي لا إله إلا الله وكقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما
الولاء لمن اعتق "
(2/689)
* (مسألة) * (الفقراء وهم الذين لا يجدون
ما يقع موقعاً من كفايتهم (الثاني) المساكين وهم الذين يجدون معظم كفايتهم)
الفقراء والمساكين صنفان في الزكاة وصنف واحد في سائر الأحكام لأن كل واحد
من الاسمين ينطلق عليهما، فأما إذا جمع بين الاسمين وميز المسميين تميزا
وكلاهما يشعر بالحاجة والفاقة وعدم الغنى إلا أن الفقير أشد حاجة من
المسكين لأن الله تعالى بدأ به وانما يبدأ بالاهم فالاهم، وبهذا قال
الشافعي والاصمعي، وذهب أبو حنيفة إلى أن المسكين أشد حاجة، وبه قال الفراء
وثعلب وابن قتيبة لقول الله تعالى (أو مسكينا ذا متربة) وهو المطروح على
التراب لشدة حاجته وأنشد أما الفقير الذي كانت حلوبته * وفق العيان فلم
يترك له سبد فأخبر أن الفقير حلوبته وفق عياله ولنا أن الله تعالى بدأ
بالفقراء فيدل على أنهم أهم، وقال تعالى (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون
في البحر) فأخبر أن المساكين لهم سفينة يعملون فيها.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً،
واحشرني في زمرة المساكين " (1) وكان يستعيذ من الفقر، ولا يجوز أن يسأل
شدة الحاجة ويستعيذ من حالة أصلح منها، ولان الفقير مشتق من فقر الظهر فعيل
بمعنى مفعول
أي مفقور وهو الذي نزعت فقره ظهره فانقطع صلبه قال الشاعر: لما رأى لبد
النسور تطايرت * رفع القوادم كالفقير الأعزل أي لم يطق الطيران كالذي انقطع
صلبه والمسكين مفعيل من السكون وهو الذي أسكنته الحاجة ومن كسر صلبه أشد
حالا من الساكن، فأما الآية فهي حجة لنا لان نعت الله سبحانه المسكين بكونه
ذا متربة يدل على أن هذا النعت لا يستحقه باطلاق اسم المسكنة كما يقال ثوب
ذو علم ويجوز التعبير عن الفقير بالمسكين بقرينة وبغير قرينة والشعر أيضاً
حجة لنا، فإنه أخبر أن الذي كانت حلوبته وفق العيال لم يترك له سبد فصار
فقيرا لا شئ له إذا تقرر ذلك فالفقير الذي لا يقدر على كسب ما يقع موقعاً
من كفايته ولا له من الأجرة أو من المال الدائم ما يقع موقعاً من كفايته
ولا له خمسون درهماً ولا قيمتها من الذهب مثل الزمني والمكافيف
__________
" 1 " رواه الحاكم من حديث أبي سعيد وصححه
(2/690)
وهم العميان لان هؤلاء في الغالب لا يقدرون
على اكتساب ما يقع موقعاً من كفايتهم، وربما لا يقدرون على شئ أصلا، قال
الله تعالى (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض
يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا)
فمعنى قوله يقع موقعاً من كفايته أنه يحصل به معظم الكفاية أو نصفها مثل من
يكفيه عشرة فيحصل له من مسكنه أو غيره خمسة فما زاد، والذي لا يجد إلا ما
لا يقع موقعاً من كفايته كالذي لا يحصل إلا ثلاثة أو دونها فهذا هو الفقير
والاول هو المسكين، فأما الذي يسأل فيحصل الكفاية أو معظمها من مسئلته فهو
من المساكين لكنه يعطى جميع كفايته ليغتني عن السؤال، فإن قيل فقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم " ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة
واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه " (1)
قلنا هذا تجوز وانما نفي المسكنة عنه مع وجودها حقيقة فيه مبالغة في
اثباتها في الذي لا يسأل الناس كما قال عليه السلام " ليس الشديد بالصرعة،
وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " وأشباه ذلك كقوله " ما تعدون
الرقوب فيكم؟ قالوا: الذي لا يعيش له ولد، قال: لا ولكن الرقوب الذي لم
يقدم من ولده شيئاً "
* (مسألة) * (ومن ملك من في الاثمان مالا يقوم بكفايته فليس يغني وان كثرت
قيمته) وجملة ذلك أنه إذا ملك مالاً تتم به كفايته من غير الاثمان، فإن كان
مما لا تجب فيه الزكاة كالعقار ونحوه لم يكن ذلك مانعاً من أخذها نص عليه
أحمد فقال في رواية محمد ابن الحكم: إذا كان له عقار يستغله أو ضيعة تساوي
عشرة آلاف أو أقل أو أكثر لا تقيمه يأخذ من الزكاة، وهذا قول الثوري
والنخعي والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه خلافاً لانه فقير محتاج فيدخل
في عموم الآية، فأما إن ملك نصابا زكويا لا تتم به الكفاية كالمواشي
والحبوب فله الأخذ من الزكاة.
قال الميموني ذاكرت أحمد فقلت: قد يكون للرجل الابل والغنم تجب فيها الزكاة
وهو فقير ويكون له أربعون شاة ويكون له الضيعة لا تكفيه يعطى من الصدقة؟
قال نعم، وذكر قول عمر: أعطوهم وإن راحت عليهم من الابل كذا وكذا، قلت
فلهذا قدر من العدد أو الوقت؟ قال لم أسمعه.
وهذا قول الشافعي.
وقال أصحاب الرأي: ليس له أن يأخذ منها لأنه تجب عليه الزكاة فلم تجب له
لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ
__________
" 1 " هذا الحديث وما بعده متفق عليهما من حديث أبي هريرة
(2/691)
" أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم
فترد في فقرائهم " فجعل الاغنياء من تجب عليهم الزكاة واذا كان غنياً لم
يكن له الأخذ من الزكاة للخبر ولنا أنه لا يملك ما يغنيه ولا يقدر على كسب
ما يكفيه فجاز له الأخذ من الزكاة كما لو كان ما يملكه لا تجب فيه الزكاة،
ولأنه فقير فجاز له الأخذ لأن الفقر عبارة عن الحاجة، قال الله تعالى (يا
أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله) وقال الشاعر: * وإني إلى معروفها لفقير
* أي محتاج وهذا محتاج فقيراً غير غني، ولأنه لو كان ما يملكه لا زكاة فيه
لكان فقيراً ولا فرق في دفع الحاجة بين المالين، فأما الخبر فيجوز أن يكون
الغنى الموجب للزكاة غير الغنى المانع منها لما ذكرنا من المعنى فيكون
المانع منها وجود الكفاية والموجب لها ملك النصاب جمعاً بين الأدلة (فصل)
فإن ملك غير الاثمان ما يقوم بكفايته كمن له مكسب يكفيه أو أجرة عقار أو
غيره فليس له الأخذ من الزكاة وهذا قول الشافعي واسحاق وأبي عبيد وابن
المنذر.
وقال أبو حنيفة واصحابه
أن كان المال مما لا تجب فيه الزكاة جاز الدفع إليه إلا أن أبا يوسف قال:
إن دفع اليه الزكاة فهو قبيح وأرجو أن يجزئه لأنه ليس بغني لما ذكرنا لهم
في المسألة قبلها ولنا ما روى الامام أحمد ثنا يحيى بن سعيد عن هشام بن
عروة عن أبيه عن عبد الله بن عدي بن الخيار عن رجلين من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه الصدقة
فصعد فيهما النظر فرآهما جلدين فقال " أن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني
ولا لقوي مكتسب " قال احمد: ما أجوده من حيث.
وقال هو أحسنها اسناداً، ولأن له ما يغنيه عن الزكاة فلم يجز الدفع اليه
كما لك النصاب * (مسألة) * (وإن كان من الاثمان فكذلك في إحدى الروايتين
والأخرى إن ملك خمسين درهماً أو قيمتها من الذهب فهو غني) لا يجوز دفع
الصدقة إلى غني لأجل الفقر والمسكنة بغير خلاف لأن الله تعالى جعلها
للفقراء والمساكين والغني غير داخل فيهم ولقول النبي صلى الله عليه وسلم "
لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب "
(2/692)
واختلف العلماء في الغنى المانع من أخذ
الزكاة فنقل عن أحمد فيها روايتان (إحداهما) أنه ملك خمسين درهماً أو
قيمتها من الذهب، أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام من مكسب أو تجارة
أو آجر أو عقار أو نحو ذلك، ولو ملك من الحبوب أو العروض أو العقار أو
السائمة مالا تحصل به الكفاية لم يكن غنياً اختاره الخرقي وهذا قول الثوري
والنخعي وابن المبارك واسحاق وروي عن علي وابن مسعود أنهما قالا لا تحل
الصدقة لمن له خمسون درهماً أو قيمتها أو عدلها من الذهب لما روى عبد الله
بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سأل وله ما يغنيه جاءت
مسئلته يوم القيمة خموشا أو خدوشا أو كدوحا في وجهه) فقيل يا رسول الله ما
الغنى؟ قال " خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب " رواه أبو داود والترمذي
وقال حديث حسن فإن قيل هذا يرويه حكيم ابن جبير وكان شعبة لا يروي عنه وليس
بقوي في الحديث قلنا قد قال عبد الله بن عثمان لسفيان حفظي أن شعبة لا يروي
عن حكيم بن جبير فقال سفيان حدثناه زبيد عن محمد بن عبد الرحمن وقد قال علي
وعبد الله مثل ذلك (الثانية) أن الغنى ما تحصل به الكفاية فإذا لم يكن
محتاجا حرمت عليه الصدقة وإن لم يملك شيئاً وإن كان محتاجا حلت له المسألة
وإن ملك نصابا والاثمان وغيرهما في هذا سواء وهذا اختيار أبي الخطاب وابن
شهاب العكبري وقول مالك والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقبيصة
بن المخارق " لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة: رجل أصابته فاقة حتى يقول
ثلاثة من ذوي الحجى من قومه قد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب
قواماً من عيش أو سداداً من عيش " رواه مسلم فمد إباحة المسألة الى وجود
اصابة القوام أو السداد ولان الحاجة هي الفقر والغنى ضدها فمن كان محتاجا
فهو فقير فيدخل في عموم النص ومن استغنى دخل في عموم النصوص المحرمة،
والحديث الاول فيه ضعف ثم يجوز أن تحرم المسألة ولا يحرم أخذ الصدقة اذا
جاءته من غير مسألة فان المذكور فيه تحريم المسألة فيقتصر عليه وقال الحسن
وأبو عبيد الغنى ملك اوقية وهي أربعون درهما لما روى أبو سعيد الخدري قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف "
وكانت الاوقية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين درهما رواه أبو
داود.
وقال أصحاب الرأي: الغنى المانع من أخذ الزكاة هو الموجب لها وهو ملك نصاب
تجب فيه الزكاة من الأثمان أو العروض المعدة للتجارة أو السائمة أو غيرها
لقول النبي
(2/693)
صلى الله عليه وسلم لمعاذ " أعلمهم أن
عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم " فجعل الاغنياء من تجب عليهم
الزكاة فدل ذلك على أن من تجب عليه غني ومن لا تجب عليه ليس بغني فيكون
فقيراً فتدفع الزكاة اليه لقوله " فترد في فقرائهم " ولان الموجب للزكاة
غنى والاصل عدم الاشتراك، ولأن من لا نصاب له لا تجب عليه الزكاة فلا يمنع
منها كمن له دون الخمسين ووجه الرواية الأولى أنه يجوز أن يكون الغنى
المانع من أحذ الزكاة غير الموجب لها بدليل حديث ابن مسعود وهو أخص من
حديثهم فيجب تقديمه، ولان فيما ذكرنا جمعاً بين الحديثين وهو أولى من
التعارض، ولأن حديث معاذ إنما يدل على أن من تجب عليه الزكاة غني، أما أنه
يدل على أن من لا تجب عليه الزكاة فقير فلا، وعلى هذا فلا يلزم من عدم
الغنى وجود الفقر فلا يدل
على جواز الدفع الى غير الغني إذا لم يثبت فقره، وقولهم الأصل عدم الاشتراك
قلنا قد قام دليله بما ذكرنا فيجب الاخذ به والله أعلم (فصل) فمن قال الغنى
هو الكفاية سوى بين الأثمان وغيرها وجوز الاخذ لكل من لا كفاية له وإن ملك
نصبا من جميع الاموال، ومن قال بالرواية الأخرى فرق بين الأثمان وغيرها
لحديث ابن مسعود، ولان الاثمان آلة الانفاق المعدة له دون غيرها فجوز الاخذ
لكل من لا يملك خمسين درهماً ولا قيمتها من الذهب ولا ما تحصل بها الكفاية
من مكسب أو أجرة عقار أو غيره، فان كان له مال معد للانفاق من غير الاثمان
فينبغي أن تعتبر الكفاية في حول كامل لأن الحول يتكرر وجوب الزكاة بتكرره
فيأخذ منها كل حول ما يكفيه الى مثله والله أعلم * (مسألة) * (الثالث:
العاملون عليها وهم الجباة لها والحافظون لها) العاملون على الزكاة هم
الصنف الثالث من أصناف الزكاة وهم السعادة الذين يبعثهم الامام لأخذها من
أربابها وجمعها وحفظها ونقلها ومن يعينهم ممن يسوقها ويرعاها ويحملها،
وكذلك الحاسب والكاتب والكيال والوزان والعداد وكل من يحتاج إليه فيها يعطى
أجرته منها لأن ذلك من مؤنتها فهو كعلفها، وقد كان النبي صلى الله عليه
وسلم يبعث على الصدقة سعاة ويعطيهم عمالتهم فبعث عمر وأبا موسى وابن
اللتبية وغيرهم وليس فيه اختلاف مع ما ورد من نص الكتاب ما يغني عن التطويل
* (مسألة) * (ويشترط أن يكون العامل مسلماً أميناً من غير ذوي القربى ولا
يشترط حريته ولا فقره.
وقال القاضي: لا يشترط إسلامه ولا كونه من غير ذوي القربى)
(2/694)
وجملة ذلك أن من شرط العامل أن يكون بالغاً
عاقلاً أميناً لان ذلك ضرب من الولاية والولاية يشترط ذلك فيها، ولأن الصبي
والمجنون لا قبض لهما والخائن يذهب بمال الزكاة ويضيعه ويشترط اسلامه،
اختاره شيخنا وأبو الخطاب، وذكر الخرقي والقاضي أنه لا يشترط اسلامه لانه
اجارة على عمل فجاز أن يتولاه الكافر كجباية الخراج وقيل عن أحمد في ذلك
روايتان ولنا أنه يشترط له الامانة فاشترط له الاسلام كالشهادة، ولأنه
ولاية على المسلمين فاشترط لها
الاسلام كسائر الولايات، ولأن الكافر ليس بأمين، ولهذا قال عمر: لا تأمنوهم
وقد خونهم الله.
وأنكر على أبي موسى تولية الكتابة نصرانياً.
فالزكاة التي هي ركن الاسلام أولى، ويشترط كونه من غير ذوي القربى إلا أن
تدفع اليه أجرته من غير الزكاة.
وقال أصحابنا: لا يشترط لانها أجرة على عمل تجوز للغني فجازت لذوي القربى
كأجرة النقال وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي ولنا أن الفضل بن عباس
والمطلب بن ربيعة بن الحارث سألا النبي صلى الله عليه وسلم إن يبعثهما على
الصدقة فأبى أن يبعثهما وقال " إنما هذه الصدقة أوساخ الناس وأنها لا تحل
لمحمد ولا لآل محمد " وهذا ظاهر في تحريم أخذهم لها عمالة فلا تجوز مخالفته
ويفارق النقال والحمال فانه يأخذ أجرة لحمله لا لعمالته، ولا يشترط حريته
لأن العبد يحصل منه المقصود فأشبه الحر، ولا كونه فقيها اذا كتب له ما
يأخذه وحد له كما كتب النبي صلى الله عليه وسلم لعماله فرائض الصدقة وكذلك
كتب أبو بكر لعماله أو بعث معه من يعرفه ذلك ولا يشترط كونه فقيراً لأن
الله تعالى جعل العامل صنفا غير الفقراء والمساكين فلا يشترط وجود معناهما
فيه كما لا يشترط معناه فيهما وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم
أو لرجل ابتاعها بماله أو لرجل كان له رجل مسكين فتصدق على المسكين فأهدى
المسكين إلى الغني " رواه أبو داود وذكر أصحاب الشافعي انه يشترط الحرية
لانه ولاية فنافاها الرق كالقضاء ويشترط الفقه ليعلم قدر الواجب وصفته ولنا
ما ذكرنا ولا نسلم منافاة الرق للولايات الدينية فإنه يجوز أن يكون اماما
في الصلاة ومفتيا وراويا للحديث وشاهدا وهذه منه الولايات الدينية وأما
الفقه فانما يحتاج إليه في معرفة ما يأخذه ويتركه ويحصل ذلك بالكتابة له
كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه (فصل) ذكر أبو بكر
في التنبيه في قدر ما يعطى العامل روايتين احداهما يعطى الثمن مما يجبيه
والثانية يعطى بقدر عمله، فعلى هذه الرواية يخير الامام بين أن يستأجر
العامل اجارة صحيحة بأجر
(2/695)
معلوم اما على عمل معلوم أو مدة معلومة بين
أن يجعل له جعلا معلوما على عمله فاذا فعله استحق الجعل وإن شاء بعثه من
غير تسمية ثم أعطاه فإن عمر رضي الله عنه قال بعثني النبي صلى الله عليه
وسلم على الصدقة
فلما رجعت عملني فقلت أعطه من هو أحوج اليه مني وذكر الحديث (فصل) ويعطى
منها أجرة الحاسب والكاتب والحاشر والخازن والحافظ والراعي ونحوهم لانهم من
العاملين ويدفع اليهم من حصة العاملين فأما الكيال والوزن ليقبض العامل
الزكاة فعلى رب المال لأنه من مؤنة دفع الزكاة * (مسألة) * (فإن تلفت
الصدقة في يده من غير تفريط أعطي أجرته من بيت المال) اذا تلفت الزكاة في
يد الساعي من غير تفريط فلا ضمان عليه لانه أمين ويعطى أجرته من بيت المال
لانه لمصالح المسلمين وهذا من مصالحهم وان لم تتلف أعطي أجر عمله منها وكان
أكثر من ثمنها لأن ذلك من مؤنتها فجرى مجرى علفها ومداواتها وان رأى الامام
أعطاه أجره من بيت المال أو يجعل له رزقاً في بيت المال ولا يعطيه منها
شيئاً فعل وان تولى الامام أو الوالي من قبله أخذ الصدقة وقسمها لم يستحق
منها شيئاً لأنه يأخذ رزقه من بيت المال (فصل) ويجوز للامام أن يولي الساعي
جبايتها وتفريقها وأن يوليه أحدهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم ولى ابن
اللتبية فقدم بصدقته على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا لكم وهذا أهدي
لي " وقال لقبيصة " أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها " وأمر
معاذاً أن يأخذ الصدقة من أغنيائهم فيردها في فقرائهم ويروى أن زياداً ولى
عمران بن حصين الصدقة فلما جاء قيل له أين المال؟ قال أو للمال بعثتني.
أخذناها كما كنا نأخذها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناها حيث
كنا نضعها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود.
وعن أبي جحيفة قال: أتانا مصدق النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة من
أغنيائنا فوضعها في فقرائنا وكنت غلاما يتيما فأعطاني منها قلوصا.
أخرجه الترمذي * (مسألة) * (الرابع: المؤلفة قلوبهم وهم السادة المطاعون في
عشائرهم ممن يرجى إسلامه أو يخشى شره أو يرجى بعطيته قوة ايمانه أو اسلام
نظيره أو جباية الزكاة ممن لا يعطيها أو الدفع عن المسلمين وعنه ان حكمهم
انقطع)
(2/696)
المؤلفة قلوبهم قسمان: كفار ومسلمون، وهم
جميعا السادة المطاعون في عشائرهم كما ذكرنا.
فالكفار ضربان (أحدهما) من يرجى إسلامه فيعطى لتقوى نيته في الاسلام وتميل
نفسه إليه فيسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة أعطى صفوان بن
أمية الأمان واستصبره صفوان أربعة أشهر لينظر في أمره وخرج معه إلى حنين،
فلما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم العطايا قال صفوان: مالي؟ فأومأ النبي
صلى الله عليه وسلم الى واد فيه إبل محملة فقال " هذا لك " فقال صفوان هذا
عطاء من لا يخشى الفقر (والضرب الثاني) من يخشى شره فيرجى بعطيته كف شره
وكف شر غيره معه.
فروى ابن عباس أن قوما كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فإن أعطاهم
مدحوا الاسلام وقالوا هذا دين حسن، وإن منعهم ذموا وعابوا.
وقال أبو حنيفة: انقطع سهم هؤلاء، وهو أحد أقوال الشافعي لما روى أن مشركا
جاء يلتمس من عمر مالا فلم يعطه وقال: من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولأنه
لم ينقل عن عثمان ولا علي أنهم أعطوهم شيئاً من ذلك، ولأن الله تعالى أظهر
الاسلام وقمع المشركين فلا حاجة بنا الى التأليف عليه ولنا قول الله تعالى
(والمؤلفة قلوبهم) وهذه الآية في سورة براءة وهي من آخر ما نزل من القرآن
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة من المشركين والمسلمين
وأعطى ابو بكر رضي الله عنه عدي بن حاتم حين قدم عليه من الصدقة بثلثمائة
حمل ثلاثين بعيراً، ومخالفة كتاب الله تعالى وسنة رسوله واطزاحها بلا حجة
لا يجوز، ولا يثبت النسخ بترك عمر وعثمان وعلي إعطاءهم، ولعلهم لم يحتاجوا
لهم فتركوا ذلك لعدم الحاجة إلى اعطائهم لا لسقوط سهمهم ومثل هذا لا يثبت
به النسخ والله أعلم وأما المسلمون فأربعة أضرب: (قوم) من سادات المسلمين
لهم نظراء من الكفار، أو من المسلمين الذين لهم نية حسنة في الاسلام، فاذا
أعطوا رجي اسلام نظرائهم وحسن نياتهم فيجوز اعطاؤهم لأن أبا بكر رضي الله
عنه أعطي عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر مع حسن نياتهما وإسلامهما (الضرب
الثاني) سادات مطاعون في قومهم يرجى بعطيتهم قوة ايمانهم ومناصحتهم في
الجهاد فيعطون لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عيينه بن حصن والاقرع بن
حابس وعلقمة بن علاثة والطلقاء من أهل مكة وقال للانصار: " يا معشر الأنصار
على ما تأسون؟ على لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما لا إيمان لهم وكلتكم إلى
إيمانكم " وروي البخاري عن عمرو بن تغلب أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى
ناساً وترك ناساً، فبلغه عن الذين ترك أنهم عتبوا فصعد المنبر فحمد الله
واثنى عليه ثم قال " إني أعطي ناساً لما في قلوبهم من الجزع
(2/697)
والهلع، وأكل ناساً إلى ما في قلوبهم من
الغنى والخير منهم عمرو بن تغلب " وعن أنس قال: حين أفاء الله على رسوله
أموال هوازن طفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالا من قريش مائة من
الإبل، فقال ناس من الأنصار: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي
قريشاً ويمنعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إني أعطي رجالا حديث عهد بكفر أتالفهم " متفق عليه (الضرب الثالث) قوم في
طرف بلاد الاسلام اذا أعطوا دفعوا عمن يليهم من المسلمين (الضرب الرابع)
قوم اذا أعطوا جبوا الزكاة ممن لا يعطيها إلا أن يخاف فكل هؤلاء يجوز الدفع
اليهم من الزكاة لأنهم من المؤلفة قلوبهم فيدخلون في عموم الآية، وحكى حنبل
عن أحمد أنه قال: المؤلفة قد انقطع حكمهم اليوم والمذهب الأول لما ذكرنا،
ولعل معنى قول أحمد انقطع حكمهم أنه لا يحتاج اليهم في الغالب، أو أن
الائمة لا يعطونهم اليوم شيئاً لعدم الحاجة اليهم، فانهم انما يجوز اعطاؤهم
عند الحاجة اليهم والله سبحانه أعلم (فصل) الخامس الرقاب وهم المكاتبون لا
نعلم خلافاً بين أهل العلم في ثبوت سهم الرقاب، ولا يختلف المذهب في أن
المكاتبين من الرقاب يجوز صرف الزكاة اليهم وهو قول الجمهور.
وقال مالك: انما يصرف سهم الرقاب في اعتاق العبيد ولا يعجبني أن يعان منها
مكاتب، وقوله مخالف لظاهر الآية لان المكاتب من الرقاب لانه عبد واللفظ عام
فيدخل في عمومه.
إذا ثبت ذلك فإنه انما يدفع اليه إذا لم يكن معه ما يقضي به كتابته ولا
يدفع إلى من معه وفاء كتابته شئ لأنه مستغن عنه في وفاء الكتابة، فإن كان
معه بعض الكتابة تمم له وفاء كتابته لان حاجته لا تندفع إلا بذلك، وإن لم
يكن معه شئ أعطي جميع ما يحتاج إليه لوفاء الكتابة لما ذكرنا، ولا يعطى
بحكم الفقر شيئاً لأنه عبد ويجوز اعطاؤه قبل حلول كتابته لئلا يحل النجم
ولا شئ معه فتفسخ الكتابة ولا يدفع إلى مكاتب كافر شئ لأنه ليس من مصارف
الزكاة * (مسألة) * (ويجوز أن يشتري بها أسيراً مسلماً نص عليه) لأنه فك
رقبة من الاسر فهو كفك رقبة العبد من الرق، ولان فيه اعزازاً للدين فهو
كصرفه الى
المؤلفة قلوبهم، ولأنه يدفعه إلى الاسير في فك رقبته أشبه ما يدفعه إلى
الغارم لفك رقبته من الدين * (مسألة) * (وهل يجوز أن يشتري بها رقبة
يعتقها؟ على روايتين)
(2/698)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في جواز
الاعتاق من الزكاة فروي عنه جواز ذلك وهو قول ابن عباس والحسن والزهري
ومالك واسحق وأبي عبيد والعنبري وأبي ثور لعموم قوله تعالى (وفي الرقاب)
وهو متناول للقن، بل هو ظاهر فيه فان الرقبة تنصرف اليه اذا أطلقت كقوله
تعالى (فتحرير رقبة) وتقدير الآية وفي اعتاق الرقاب، ولأنه اعتاق للرقبة
فجاز صرف الزكاة فيه كدفعه في الكتابة (والثانية) لا يجوز وهو قول ابراهيم
والشافعي لأن الآية تقتضي صرف الزكاة إلى الرقاب كقوله (في سبيل الله) يرد
الدفع إلى المجاهدين كذلك ههنا، والعبد القن لا يدفع إليه شئ.
قال أحمد في رواية أبي طالب قد كنت أقول: يعتق من زكاته ولكن أهابه اليوم
لانه يجر الولاء، وفي موضع آخر قبل له فما يعجبك من ذلك؟ قال يعين في ثمنها
فهو أسلم، وقد روي نحو هذا عن النخعي وسعيد بن جبير فإنهما قالا: لا يعتق
من الزكاة رقبة كاملة لكن يعطي منها في رقبة ويعين مكاتباً، وبه قال أبو
حنيفة وصاحباه: لأنه اذا أعتق من زكاته انتفع بالولاء من أعتقه فكأنه صرف
الزكاة إلى نفسه وأخذ ابن عقيل من هذه الرواية إن أحمد رجع عن القول
بالاعتاق من الزكاة، وهذا والله أعلم إنما كان على سبيل الورع من أحمد فلا
يقتضي رجوعا لان العلة التي علل بها جر الولاء ومذهبه في إحدى الروايتين
عنه انما رجع من الولاء رد في مثله فلا ينتفع اذاً باعتاقه من الزكاة (فصل)
ولا يجوز أن يشتري من زكاته من يعتق عليه بالرحم، فان فعل عتق عليه ولم
تسقط عنه الزكاة.
وقال الحسن.
لا بأس أن يعتق أباه من الزكاة لان دفع الزكاة لم يكن إلى أبيه، وانما دفع
الثمن إلى البائع ولنا ان نفع زكاته عاد إلى أبيه فلم يجز كما لو دفعها
إليه، ولان عتقه حصل بنفس الشراء مجازاة وصلة للرحم فلم يجز أن يحسب له من
الزكاة كنفقة أقاربه، ولو أعتق عبده المملوك له عن زكاته لم يجزئه لأن اداء
الزكاة عن كل مال من جنسه والعبد ليس من جنس ما تجب الزكاة فيه، وكذلك لو
أعتق عبداً من عبيد التجارة لم يجز لأن الزكاة تجب في قيمتهم لا في عينهم
* (مسألة) * (السادس الغارمون وهم المدينون وهم ضربان: (ضرب) غرم لإصلاح
ذات البين، (وضرب) غرم لاصلاح نفسه في مباح) الغارمون ضربان (أحدهما)
الغارمون لاصلاح نفوسهم ولا خلاف في استحقاقهم وثبوت سهمهم في الزكاة، وإن
المدينين العاجزين عن وفاء ديونهم منهم، لكن من غرم في معصية مثل أن يشتري
خمراً، أو يصرفه في زنا، أو قمار، أو غناء، أو نحوه لم يدفع اليه قبل
التوبة شئ لأنه اعانة له على
(2/699)
المعصية وسنذكر ذلك، ولا يدفع إلى غارم
كافر لأنه ليس من أهل الزكاة، ولذلك لم يدفع إلى فقيرهم ومكاتبهم.
وإن كان من ذوي القربى فقال أصحابنا: يجوز الدفع اليه لان علة منعه من
الاخذ منها لفقره صيانته عن أكلها لكونها أوساخ الناس، واذا أخذها للغرم
صرفه إلى الغرماء فلا يناله دناءة وسخها.
قال شيخنا: ويحتمل أن لا يجوز لعموم النصوص في منعهم من أخذها وكونها لا
تحل لهم، ولأن دناءة أخذها تحصل سواء أكلها أو لم يأكلها، ولا يدفع إلى
غارم له ما يقضي به دينه لان الدفع اليه لحاجته وهو مستغن عنها (الضرب
الثاني) من غرم لإصلاح ذات البين وهو أن يقع بين الحيين أو أهل القريتين
عداوة وضغائن يتلف بها نفس أو مال ويتوقف صلحهم عمن يتحمل ذلك فيسعى انسان
في الاصلاح بينهم ويتحمل الدماء التي بينهم والاموال فيسمى ذلك حمالة بفتح
الحاء وكانت العرب تعرف ذلك فكان الرجل منهم يتحمل الحمالة ثم يخرج في
القبائل فيسأل حتى يؤديها فورد الشرع باباحة المسألة فيها وجعل لهم نصيباً
من الصدقة، فروى مسلم بإسناده عن قبيصة ابن المخارق قال: تحملت حمالة فأتيت
النبي صلى الله عليه وسلم وسألته فيها فقال " أقم يا قبيصة حتى تأتينا
الصدقة فنأمر لك بها " ثم قال " يا قبيصة إن الصدقة لا تحل إلا لثلاثة: رجل
تحمل حمالة فيسأل فيها حتى يؤديها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله
فحلت له المسألة حتى يصيب سداداً من عيش، أو قواماً من عيش، ورجل أصابته
فاقة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الجحى من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له
المسألة حتى يصيب سداداً من عيش أو قواماً من عيش وما سوى ذلك فهو سحت
يأكلها صاحبها سحتاً يوم القيامة " وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة " ذكر منهم الغارم
* (مسألة) * (السابع في سبيل الله وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم) هذا
الصنف السابع من أصناف الزكاة ولا خلاف في استحقاقهم وبقاء حكمهم، ولا خلاف
في أنهم الغزاة لأن سبيل الله عند الاطلاق هو الغزو (1) وقال الله تعال
(وقاتلوا في سبيل الله) وقال (ويجاهدون
__________
" 1 " هذا غير صحيح بل سبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته وجنته وهو
الاسلام في جملته وآيات الانفاق في سبيل الله تشمل جميع أنواع النفقة
المشروعة.
وماذا يقول في آيات الصد والاضلال عن سبيل الله والهجرة في سبيل الله بل لا
يصح أن يفسر سبيل الله في آيات القتال نفسها بالغزو لان القتال هو الغزو
وانما يكون في سبيل الله إذا أريد به أن يكون كلمة الله هي العليا ودينه هو
المتبع، فسبيل الله في الآية يعم الغزو الشرعي وغيره من مصالح الاسلام بحسب
لفظه العربي ويحتاج التخصيص إلى دليل صحيح.
وكتبه محمد رشيد رضا
(2/700)
في سبيله) (1) وقال (إن الله يحب الذين
يقاتلون في سبيله صفا) ذكر ذلك في غير موضع من كتابه العزيز (فصل) وإنما
يستحق هذا السهم الغزاة الذين لا ديوان لهم وانما يتطوعون بالغزو اذا
نشطوا.
قال أحمد: يعطي ثمن الفرس ولا يتولى مخرج الزكاة شراء الفرس بنفسه لأن
الواجب إيتاء الزكاة، فان اشتراها بنفسه فما أعطى إلا فرساً، وكذلك الحكم
في شراء السلاح والمؤنة.
وقال في موضع آخر إن دفع ثمن الفرس وثمن السيف فهو أعجب إلي، وإن اشتراه هو
رجوت أن يجزئه.
وقال أيضاً: يشتري الرجل من زكاته الفرس ويحمل عليه والقناة ويجهز الرجل،
وذلك لأنه قد صرف الزكاة في سبيل الله فجاز كما لو دفعها إلى الغازي فاشترى
بها وقال: ولا يشتري من الزكاة فرساً يصير حبيساً في سبيل الله ولا داراً
ولا ضيعة يصيرها للرباط ولا يقفها على المجاهدين لأنه لم يؤت الزكاة لاحد
وهو مأمور بايتائها.
قال: ولا يغزو الرجل على الفرس الذي أخرجه من زكاة ماله لأنه لا يجوز أن
يجعل نفسه مصرفا لزكاته كما لا يجوز أن يقضى بها دينه، ومتى أخذ الفرس الذي
اشتريت بماله صار هو مصرفا لزكاته * (مسألة) * (ولا يعطى منها في الحج وعنه
يعطي الفقير قدر ما يحج به الفرض أو يستعين به فيه)
اختلف الرواية عن أحمد رحمه الله في ذلك، فروي عنه أنه لا يصرف منها في
الحج، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وهي
أصح لأن سبيل الله عند الاطلاق إنما ينصرف إلى الجهاد، فان كل ما في القرآن
من ذكر سبيل الله إنما أريد به الجهاد إلا اليسير فيجب أن يحمل ما في آية
الزكاة على ذلك لأن الظاهر ارادته به، ولأن الزكاة انما تصرف إلى أحد رجلين
محتاج اليها كالفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم، أو من
يحتاج إليه المسلمون كالعامل والغازي والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين،
والحج للفقير لا نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم اليه ولا حاجة به أيضاً لأن
الفقير لا فرض عليه فيسقطه، ولا مصلحة له في إيجابه عليه وتكليفه مشقة قد
رفهه الله منها وخفف عنه إيحابها، وتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة من سائر
الاصناف، أو دفعه في مصالح المسلمين أولى
__________
" 1 " هذا اللفظ لا يوجد في القرآن وانما يوجد فيه (يجاهدون في سبيل الله)
وهو في سورة المائدة الآية 57 وفيها أيضا " وجاهدوا في سبيله " وهي الآية
38
(2/701)
وروي عنه أن الفقير يعطى قدر ما يحج به
الفرض أو يستعين به فيه، يروى اعطاء الزكاة في الحج عن ابن عباس وعن ابن
عمر الحج من سبيل الله وهو قول إسحاق لما روي أن رجلا جعل ناقة له في سبيل
الله فأرادت امرأته الحج فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم " اركبيها فإن
الحج من سبيل الله " (1) رواه أبو داود بمعناه والاول أولى، وأما الخبر فلا
يمتنع أن يكون الحج من سبيل الله والمراد بالآية غيره لما ذكرنا (فصل) فإذا
قلنا يدفع في الحج منها فلا يعطى إلا بشرطين أحدهما أن يكون ممن ليس له ما
يحج به سواها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي
مرة سوي " وقال " لا تحل الصدقة إلا لخمسة " ولم يذكر الحاج فيهم ولأنه
يأخذ لحاجته لا لحاجة المسلمين اليه فاعتبرت فيه الحاجة كمن يأخذ لفقره.
الثاني أن يأخذ لحجة الفرض وكذلك ذكره أبو الخطاب لأنه يحتاج إلى اسقاط
فرضه وابراء ذمته، أما التطوع فله عنه مندوحة.
وقال القاضي ظاهر كلام أحمد جوازه في الفرض والنفل معاً وهو ظاهر قول
الخرقي لأن الكل من سبيل الله ولأن الفقير لا فرض عليه فالفرض منه كالتطوع
فعلى هذا يجوز أن يدفع ما يحج به حجة كاملة وما يعينه في حجه، ولا يجوز أن
يحج من زكاة نفسه كما لا يجوز أن يغزو بها * (مسألة) * (الثامن ابن السبيل
وهو المسافر المنقطع به دون المنشئ للسفر من بلده) ابن السبيل هو الصنف
الثامن من أصناف الزكاة ولا خلاف في استحقاقه وبقاء سهمه وهو المسافر الذي
ليس له ما يرجع به إلى بلده وإن كان يسار في بلده فيعطى ما يرجع به إلى
بلده، وهذا قول قتادة ونحوه قول مالك وأصحاب الرأي.
وقال الشافعي هو المجتاز، ومن يريد انشاء السفر إلى بلد أيضاً فيدفع اليهما
ما يحتاجان اليه لذهابهما وعودهما لانه يريد السفر لغير معصية فأشبه
المجتاز ولنا ان السبيل هو الطريق وابن السبيل الملازم للطريق الكائن فيها
كما يقال ولد الليل للذي يكثر الخروج فيه والقاطن في بلده ليس في طريق ولا
يثبت له حكم الكائن فيها ولهذا لا يثبت له حكم السفر بعزمه عليه دون فعله
ولانه لا يفهم من ابن السبيل إلا الغريب دون من هو في وطنه ومنزله وإن
انتهت به الحاجة منتهاها فوجب أن يحمل المذكور في الآية على الغريب دون
غيره وانما يعطى وله اليسار في بلده لأنه عاجز عن الوصول إليه والانتفاع به
فهو كالمعدوم في حقه، فإن كان ابن السبيل فقيراً في بلده أعطي لفقره، وكونه
ابن سبيل لوجود الأمرين فيه، ويعطي لكونه ابن سبيل قدر ما يوصله الى بلده
لأن الدفع اليه للحاجة الى ذلك فيقدر بقدرها (فصل) وإن كان ابن السبيل
مجتازاً يريد بلداً غير بلده فقال أصحابنا يدفع اليه ما يكفيه في مضيه الى
مقصده ورجوعه الى بلده لأن فيه اعانة على السفر المباح وبلوغ الغرض الصحيح،
لكن
__________
" 1 " الحج من سبيل الله قطعا ولكن المتبادر من جعل قسم من الزكاة في سبيل
الله انه ما يكون في مصالح الاسلام العامة كتأمين طريق الحج وتسهيله مثلا
وليس منه اعطاء الفقير ما يحج به فان الفقير انما يعطى لفقره ما يدفع به
حاجته وحاجة من يمونه وهو لا يدخل في عموم كلمة سبيل الله.
وكتبه محمد رشيد رضا
(2/702)
يشترط كون السفر مباحا إما قربة كالحج
والجهاد وزيارة الوالدين أو مباحا كطلب المعاش وطلب التجارات، وأما المعصية
فلا يجوز الدفع إليه فيها لانه اعانة عليها فهو كفعلها فان وسيلة الشئ
جارية مجراه، وان كان السفر للنزهة ففيه وجهان: أحدهما يدفع اليه لانه غير
معصية.
والثاني لا يدفع إليه
لأنه لا حاجة به الى هذا السفر.
قال شيخنا ويقوى عندي أنه لا يجوز الدفع للسفر الى غير بلده لأنه لو جاز
ذلك لجاز للمنشئ للسفر من بلده ولأن هذا السفر إن كان لجهاد فهو يأخذ له من
سهم سبيل الله وان كان حجاً فغيره أهم منه، وإذا لم يجز الدفع في هذين ففي
غيرهما أولى، وانما ورد الشرع بالدفع اليه لرجوعه الى بلده لأنه أمر تدعو
حاجته إليه ولا غناء به عنه فلا يجوز إلحاق غيره به لأنه ليس في معناه فلا
يصح قياسه عليه ولأنه لا نص فيه فلا يثبت جوازه لعدم النص والقياس *
(مسألة) * (ويعطى الفقير والمسكين ما يغنيهما) لأن الدفع اليهما للحاجة
فيقدر بقدرها فإن قلنا أن الغنى هو ما تحصل به الكفاية أعطي ما يكفيه في
حول كامل لأن الحول يتكرر وجوب الزكاة بتكرره فينبغي أن يأخذ ما يكفيه الى
مثله ويعتبر وجود الكفاية له ولعائلته ومن يمونه لأن كل واحد منهم مقصود
دفع حاجته فيعتبر له ما يعتبر للمنفرد.
وإن قلنا أن الغنى يحصل بخمسين درهما جاز أن يأخذ له ولعائلته حتى يصير لكل
واحد منهم خمسون قال أحمد في رواية أبي داود فيمن يعطى الزكاة وله عيال
يعطى كل واحد من عياله خمسين خمسين * (مسألة) * (ويعطى العامل قدر أجرته)
لأن الذي يأخذه بسبب العمل فوجب أن يكون بمقداره (والمؤلف ما يحصل به
التأليف لأنه المقصود) " مسألة " (والغارم والمكاتب ما يقضيان به دينهما)
لأن حاجتهما إنما تندفع بذلك " مسألة " (والغازي ما يحتاج إليه لغزوه وإن
كثر) فيدفع اليه قدر كفايته وشراء السلاح والفرس إن كان فارسا وحمولته
ودرعه وسائر ما يحتاج إليه لغزوه وإن كثر لأن الغزو إنما يحصل بذلك، ومتى
أدعى انه يريد الغزو قبل قوله لأنه لا يمكن إقامة البينة على نيته ويدفع
اليه دفعاً مراعى، فان لم يغز رده لانه أخذه لذلك، وان مضى الى الغزو فرجع
من الطريق أو لم يتم الغزو الذي دفع اليه من أجله رد ما فضل معه لان الذي
أخذ لأجله لم يفعله كله " مسألة " (ولا يزاد أحد منهم على ذلك لما ذكرنا)
ولأن الدفع لحاجة فوجب أن يتقيد بها، وان اجتمع في واحد سببان كالغارم
الفقير دفع اليه لهما لأن كل واحد منهما سبب للاخذ فوجب أن يثبت حكمه حيث
وجد
(2/703)
" مسألة " (ومن كان ذا عيال أخذ ما يكفيهم
لما ذكرنا) " مسألة " (ولا يعطى أحد منهم مع الغني إلا أربعة: العامل
والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين والغازي) يجوز للعامل الاخذ مع الغنى
بغير خلاف علمناه لانه يأخذ أجر عمله ولأن الله تعالى جعل العامل صنفا غير
الفقراء والمساكين فلا يشترط وجود معناهما فيه كما لا يشترط وجود معناه
فيهما، وكذلك المؤلف يعطى مع الغنى لظاهر الآية ولانه يأخذ لحاجتنا إليه
أشبه العامل ولانهم انما أعطوا لأجل التأليف وذلك يوجد مع الغنى.
والغارم لإصلاح ذات البين والغازي يجوز الدفع اليهم مع الغنى وبهذا قال
مالك والشافعي واسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر.
وقال أبو حنيفة وصاحباه لا يدفع إلا الى الفقير لعموم قوله عليه السلام "
أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم " فظاهر هذا أنها
كلها ترد في الفقراء.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تحل الصدقة إلا لخمسة.
لغاز في سبيل الله أو لغارم " وذكر بقيتهم، ولأن الله تعالى جعل الفقراء
والمساكين صنفين وعد بعدهما ستة أصناف لم يشترط فيهم الفقر فيجوز لهم الأخذ
مع الغنى بظاهر الآية ولأن هذا يأخذ لحاجتنا إليه أشبه العامل والمؤلف ولان
الغارم لإصلاح ذات البين انما يوثق بضمانه ويقبل اذا كان مليئاً ولا ملاءة
مع الفقر، فان أدى الغرم من ماله لم يكن له الأخذ من الزكاة لأنه لم يبق
غارما، وإن استدان وأداها جاز له الأخذ لبقاء الغرم (فصل) وخمسة لا يأخذون
إلا مع الحاجة وهم الفقراء والمساكين والمكاتب والغارم لمصلحة نفسه في مباح
وابن السبيل لانهم يأخذون لحاجتهم لا لحاجتنا اليهم إلا أن ابن السبيل انما
تعتبر حاجته في مكانه وإن كان له مال في بلده لانه الآن كالمعدوم، واذا كان
الرجل غنياً وعليه دين لمصلحة لا يطيق قضاءه جاز أن يدفع إليه ما يتم به
قضاءه مع ما زاد عن حد الغنى، فاذا قلنا الغنى يحصل بخمسين درهما وله مائة
وعليه مائة جاز أن يعطى خمسين ليتم قضاء المائة من غير أن ينقص غناؤه.
قال أحمد لا يعطى من عنده خمسون درهماً أو حسابها من الذهب إلا مديناً
فيعطى دينه، ومتى أمكنه قضاء الدين من غير نقص من الغنى لم يعط شيئاً، وإن
قلنا أن الغنى لا يحصل إلا بالكفاية
وكان عليه دين إذا قضاه لم يبق له ما يكفيه أعطي ما يتم به قضاء دينه بحيث
يبقى له قدر كفايته بعد قضاء الدين على ما ذكرنا، وان قدر على قضائه مع
بقاء الكفاية لم يدفع إليه شئ.
وقد روي عن أحمد أنه قال إذا كان له مائتان وعليه مثلها لا يعطى من الزكاة
لأن الغنى خمسون درهما وهذا يدل على انه اعتبر في الدفع إلى الغارم كونه
فقيراً، واذا أعطي للغرم وجب صرفه إلى قضاء الدين، وان أعطي للفقر جاز أن
يقضي به دينه
(2/704)
(فصل) واذا أراد الرجل دفع زكاته الى
الغارم فله أن يسلمها اليه ليدفعها الى غريمه فإن دفعها إلى الغريم قضاء
الدين ففيه عن أحمد روايتان: إحداهما يجوز ذلك نص عليه أحمد في ما نقل عنه
أبو الحرث قال قلت لأحمد رجل عليه ألف وكان على رجل زكاة ماله ألف فأداها
عن هذا الذي عليه الدين يجوز هذا من زكاته؟ قال نعم ما أرى بذلك بأساً لانه
دفع الزكاة في قضاء دين المدين أشبه ما لو دفعها اليه فقضى بها دينه.
والثانية لا يجوز، قال أحمد أحب إلي أن يدفعه اليه حتى يقضي هو عن نفسه،
قيل هو محتاج يخاف أن يدفعه اليه فيأكله ولا يقضي دينه قال فقل له يوكله
حتى يقضيه.
وظاهر هذا أنه لا يدفعها الى الغريم الا بوكالة الغارم لأن الدين إنما هو
على الغارم فلا يصح قضاؤه الا بتوكيله، ويحتمل أن يحمل هذا على الاستحباب
ويكون قضاؤه عنه جائزاً، وان كان دافع الزكاة الامام جاز أن يقضيها عنه من
غير توكيله لان للامام ولاية عليه في ايفاء الدين ولهذا يجبره عليه إذا
امتنع منه " مسألة " (وإن فضل مع المكاتب والغارم والغازي وابن السبيل شئ
بعد حاجتهم لزمهم رده والباقون يأخذون أخذا مسنقرا فلا يردون شيئاً، وظاهر
كلام الخرقي إن المكاتب يأخذ أخذاً مستقراً) أصناف الزكاة قسمان: قسم
يأخذون أخذاً مستقراً فلا يراعى حالهم بعد الدفع وهم الفقراء والمساكين
والعاملون والمؤلفة فمتى أخذوها ملكوها ملكاً مستقراً لا يجب عليهم ردها
بحال.
وقسم يأخذون أخذاً مراعى وهم أربعة المكاتبون والغارمون والغراة وابن
السبيل فان صرفوه في الجهة التي استحقوا لاخذ لاجلها والا استرجع منهم،
والفرق بين هذا القسم والذي قبله ان هؤلاء أخذوا لمعنى لم يحصل بأخذهم
للزكاة، والقسم الاول صحل المقصود بأخذهم وهو غنى الفقراء
والمساكين وتأليف المؤلفين وأداء أجر العاملين، وان قضى المذكورون في القسم
الثاني حاجتهم وفضل معهم فضل ردوا الفضل لانهم أخذوه للحاجة وقد زالت، وذكر
الخرقي في غير هذا الباب ان الغازي اذا فضل معه شئ بعد غزوه فهو له لاننا
دفعنا اليه قدر الكفاية وانما ضيق على نفسه.
وظاهر قول الخرقي في المكاتب انه يأخذ أخذاً مستقراً فلا يرد ما فضل لانه
قال وإذا عجز المكاتب ورد في الرق وكان قد تصدق عليه بشئ فهو لسيده ونص
عليه أحمد في رواية المروذي والكوسج ونقل عنه حنبل اذا عجز يرد ما في يديه
في المكاتبين.
وقال أبو بكر عبد العزيز إن كان باقيا بعينه استرجع منه لأنه إنما دفع إليه
ليعتق به ولم يقع.
وقال القاضي كلام الخرقي محمول على أن الذي بقي في يده لم يكن عين الزكاة
وانما نصرف فيها وحصل عوضها وفائدتها، ولو تلف المال الذي في يد هؤلاء بغير
تفريط لم يرجع عليهم بشئ
(2/705)
* (مسألة) * (وإن ادعى الفقر من عرف بالغنى
لم يقبل قوله إلا ببينة) لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن المسألة لا
تحل لأحد إلا لثلاثة: رجل أصحابته فاقة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجى من
قومه لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، أو
سداداً من عيش " رواه مسلم، ولان الاصل بقاء الغنى فلم يقبل قوله بمجرده
فيما يخالف الاصل، وهل يعتبر في البينة على الفقر ثلاثة أو يكتفي باثنين
فيه وجهان (أحدهما) لا يكتفي إلا بثلاثة لظاهر الخبر (والثاني) يقبل اثنين
لان قولهما يقبل في الفقر بالنسبة في حقوق الآدميين المبنية على الشح
والضيق ففي حق الله تعالى أولى والخبر إنما ورد في حل المسألة فيقتصر عليه
* (مسألة) * (وإن ادعى أنه مكاتب، أو غارم، أو ابن سبيل لم يقبل قوله إلا
ببينة) لأن الأصل عدم ما يدعيه وبراءة الذمة، فان كان يدعي الغرم من جهة
اصلاح ذات البين فالأمر فيه ظاهر لا يكاد يخفى ويكفي اشتهار ذلك فان خفي لم
يقبل إلا بينة * (مسألة) * (فإن صدق المكاتب سيده أو الغارم غريمه فعلى
وجهين) (أحدهما) يقبل لان الحق في العبد لسيده، فاذا أقر بانتقال حقه عنه
قبل، ولأن الغريم إذا
صدق الغارم قبت عليه ما أقر به (والثاني) لا يقبل لأنه متهم في أن يواطئه
ليأخذ المال به * (مسألة) * (وإن ادعى الفقر من لم يعرف بالغنى قبل قوله
لأن الأصل عدم الغنى) فان رآه جلداً وذكر أنه لا كسب له أعطاه من غير يمين
بعد أن يخبره أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب.
اذا كان الرجل صحيحاً جلداً وذكر أنه لا كسب له أعطي من الزكاة وقبل قوله
بغير يمين إذا لم يعلم كذبه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الرجلين
الذين سألاه ولم يحلفهما، وفي بعض رواياته أنه قال: أتينا النبي صلى الله
عليه وسلم فسألناه من الصدقة فصعد فينا النظر فرآنا جلدين فقال " أن شئتما
أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " رواه أبو داود (فصل) وإن رآه
متجملا قبل قوله أيضاً.
لأنه لا يلزم من ذلك الغنى بدليل قوله سبحانه (يحسبهم الجاهل أغنياء من
التعفف) لكن ينبغي أن يخبره أنها زكاة لئلا يكون ممن لا تحل له، وإن رآه
ظاهر المسكنة أعطاه منها ولم يحتج أن يبين له شرط جواز الاخذ، ولا أن ما
يدفعه اليه زكاة.
قال أحمد رحمه الله وقد سئل عن الرجل يدفع زكاته إلى رجل هل يقول له هذه
زكاة؟ فقال: يعطيه ويسكت ولا يقرعه فاكتفى بظاهر حاله عن السؤال * (مسألة)
* (وإن ادعى ان له عيالا قلد وأعطى) ذكره القاضي وأبو الخطاب كما يقلد في
دعوى حاجته، ويحتمل أن لا يقبل الا ببينة اختاره ابن
(2/706)
عقيل لان الاصل عدمهم، ولا يتعذر إقامة
البينة عليه وفارق ما إذا ادعى أنه لا كسب له لأنه يدعي ما يوافق الاصل،
ولأن الأصل عدم الكسب والمال ويتعذر إقامة البينة عليه * (مسألة) * (ومن
سافر أو غرم في معصية لم يدفع إليه شئ فإن تاب فعلى وجهين) من غرم في معصية
كالخمر والزنا والقمار والغناء ونحوه لم يدفع إليه شئ قبل التوبة لأنه
إعانة على المعصية، وكذلك اذا سافر في معصية فأراد الرجوع الى بلده لا يدفع
إليه شئ قبل التوبة لما ذكرنا، فإن تاب من المعصية فقال القاضي وابن عقيل:
يدفع اليه لان بقاء الدين في الذمة ليس من المعصية بل يجب تفريغها والاعانة
على الواجب قربة لا معصية فأشبه من أتلف ماله في المعاصي حتى افتقر فإنه
يدفع إليه من سهم الفقراء (والوجه الثاني) لا يدفع اليه لأنه استدانة
للمعصية فلم يدفع إليه كما لو لم يتب ولأنه لا يؤمن إن يعود إلى الاستدانة
للمعاصي ثقة منه بأن دينه يقضى بخلاف من أتلف في المعاصي فانه يعطى لفقره
لا لمعصيته، وكذلك من سافر إلى معصية ثم تاب أو أراد الرجوع الى بلده يجوز
الدفع إليه في أحد الوجهين لأن رجوعه ليس بمعصية أشبه غيره، بل ربما كان
رجوعه إلى بلده تركا للمعصية واقلاعاً عنها كالعاق يريد الرجوع إلى أبويه
(والوجه الثاني) لا يدفع اليه لأن سبب ذلك المعصية أشبه الغارم في المعصية
* (مسألة) * (ويستحب صرفها في الاصناف كلها فان اقتصر على انسان واحد
أجزأه، وعنه لا يجزئه إلا ثلاثة من كل صنف إلا العامل فإنه يجوز أن يكون
واحداً) يستحب صرف الزكاة إلى جميع الاصناف، أو آلى من أمكن منهم لانه يخرج
بذلك من الخلاف ويحصل الاجزاء يقيناً، فان اقتصر على انسان واحد أجزأه وهذا
قول عمر وحذيفة وابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير والحسن وعطاء، واليه ذهب
الثوري وأبو عبيد وأصحاب الرأي، وروي عن النخعي إن كان المال كثيراً يحتمل
الاصناف قسمة عليهم، وإن كان قليلاً جاز وضعه في صنف واحد وقال مالك: يتحرى
موضع الحاجة منهم ويقدم الاولى فالاولى: وقال عكرمة والشافعي: يجب أن يقسم
زكاة كل صنف من ماله على الموجودين من الاصناف الستة الذين سهمانهم ثابتة
قسمة على السواء ثم حصة كل صنف منهم لا تصرف إلى أقل من ثلاثة أو أكثر، فان
لم يجد الا واحداً صرف حصة ذلك الصنف اليه.
وروى الاثرم ذلك عن أحمد اختاره أبو بكر لأن الله تعالى جعل الصدقة لجميعهم
وشرك بينهم فيها فلم يجز الاقتصار على بعضهم كأهل الخمس ولنا قول الله
تعالى (إن تبدوا الصدقات فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير
لكم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن " أعلمهم أن
عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم " متفق
(2/707)
عليه، فلم يذكر في الآية والخبر إلا صنفاً
واحداً (1) ، وأمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر وقال لقبيصة " أقم
يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها " ولو وجب صرفها إلى جميع الاصناف
لم يجز صرفها إلى واحد، ولأنه لا يجب صرفها إلى جميع الأصناف اذا فرقها
الساعي فكذلك المالك ولأنه لا يجب عليهم تعميم أهل كل صنف بها فجاز
الإقتصار على واحد كما لو وصى لجماعة لا يمكن حصرهم ويخرج على هذين
المعنيين الخمس فإنه يجب على الإمام تفريقه على جميع مستحقيه بخلاف الزكاة،
وهذا الذي اخترناه هو اللائق بحكمة الشرع وحسنه، إذ غير جائز أن يكلف الله
سبحانه وتعالى من وجبت عليه شاة أو صاع من البر او نصف مثقال دفعه إلى
ثمانية عشر نفساً، أو أحد وعشرين نفساً، أو اربعه وعشرين من ثمانية أصناف
لكل ثلاثة منهم ثمنها، الغالب تعذر وجودهم في الاقليم العظيم، فكيف يكلف
الله تعالى كل من وجبت عليه زكاة جمعهم وإعطاؤهم وهو سبحانه القائل (وما
جعل عليكم في الدين من حرج) وقال (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)
وأظن من قال بوجوب دفعها على هذا الوجه إنما يقوله بلسانه ولا يفعله، ولا
يقدر على فعله، وما بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا في صدقة من
الصدقات، ولا أحد من خلفائه، ولا من صحابته ولا غيرهم، ولو كان هذا هو
الواجب في الشريعة المطهرة لما اغفلوه ولو فعلوه مع مشقته لنقل ولما أهمل،
إذ لا يجوز على أهل التواتر اهمال نقل ما تدعو الحاجة إلى نقله لاسيما من
كثرة من تجب عليهم الزكاة ووجود ذلك في كل زمان في كل عصر وبلد، وهذا أمر
ظاهر إن شاء الله تعالى، والآية انما سيقت لبيان من يجوز الصرف اليه لا
لايجاب الصرف إلى الجميع بدليل أنه لا يجب تعميم كل صنف بها، فأما العامل
فإنه يجوز أن يكون واحداً لأنه إنما يأخذ أجر عمله فلم تجز الزيادة عليه مع
الغناء عنه، ولأن الرجل اذا تولى اخراجها بنفسه سقط سهم العامل لعدم الحاجة
إليه، فاذا جاز تركهم بالكلية جاز الاقتصار على بعضهم بطريق الأولى (فصل)
وقد ذكرنا أنه يستحب تفريقها على من أمكن من الاصناف وتعميمهم بها، فإن كان
المتولي لتفريقها الساعي استحب احصاء أهل السهمان من عمله حتى يكون فراغه
من قبض الصدقات بعد تناهي أسمائهم وانسابهم وحاجاتهم وقدر كفاياتهم ليكون
تفريقه عقيب جمع الصدقة، ويبدأ باعطاء العامل لانه يأخذ على وجه المعاوضة
فكان استحقاقه أولى، ولذلك اذا عجزت الصدقة عن أجره تمم من بيت المال ولأن
ما يأخذه أجر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " أعطوا الأجير أجره قبل
أن يجف عرقه " ثم الأهم فالأهم، وأهمهم أشدهم حاجة، ويعطى كل صنف قدر
كفايته على ما ذكرنا، فان فضلت
عن كفايتهم نقل الفاضل إلى أقرب البلاد اليه وإن نقصت أعطى كل إنسان منهم
ما يرى * (مسألة) * (ويستحب صرفها إلى أقاربه الذين لا تلزمه مؤنتهم
وتفريقها فيهم على قدر حاجتهم
__________
" 1 " لم يقل أحد من المسلمين بجواز دفع جميع الزكاة إلى الفقراء وحدهم مع
وجود غيرهم من الاصناف معهم، ولا يتفق مع أصول أحد من أئمة الفقه ان يكون
حديث معاذ ناسخا لآية (انما الصدقات) الخ وكذا ما بعده من الاحاديث التى
يجب حملها على أحوال أو وقائع لا تنافى الآية.
ولم يقل عكرمة والشافعي ولا أحمد في الرواية الأخرى عنه أنه يجب على من
عليه صاع من زكاة الفطر ان يتكلف البحث في البلد أو القطر 24 حاصلة من ضرب
3 في 8 فيدفعه إليهم كما ذكره الشارح بعبارة كالتهكم أو التجهيل، وانما
يقولون بوجوب ما اعتمد هو انه مستحب عند امكانه
(2/708)
اذا تولى الرجل تفريق زكاته استحب أن يبدأ
بأقاربه الذين يجوز الدفع اليهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " صدقتك على
ذي القرابة صدقة وصلة " رواه الترمذي والنسائي ويخص ذوي الحاجة لأنهم أحق،
فإن استووا في الحاحة فأولاهم أقربهم نسباً * (مسألة) * (ويجوز للسيد دفع
زكاته الى مكاتبه وإلى غريمه) يجوز للسيد دفع زكاته إلى مكاتبه في الصحيح
من المذهب لأنه صار معه في باب المعاملة كالاجنبي يجري بينهما الربا فهو
كالغريم يدفع زكاته الى غريمه، ويجوز للمكاتب ردها الى سيد بحكم الوفاء
أشبه إيفاء الغريم دينه بها.
قال ابن عقيل: ويجوز دفع الزكاة إلى سيد المكاتب وفاء عن دين الكتابة وهو
الاولى لأنه أعجل لعتقه وأوصل إلى المقصود الذي كان الدفع من أجله لأنه اذا
أخذه المكاتب قد يدفعه وقد لا يدفعه: ونقل حنبل عن أحمد أنه قال: قال سفيان
لا تعط مكاتباً لك من الزكاة.
قال وسمعت أبا عبد الله يقول: وأنا أرى مثل ذلك.
قال الاثرم: وسمعت أبا عبد الله يسئل: يعطى المكاتب من الزكاة؟ قال المكاتب
بمنزلة العبد وكيف يعطى، ومعناه والله أعلم لا يعطي مكاتبه من
الزكاة لانه عبده وماله يرجع اليه إن عجز وإن عتق، وله ولاؤه، ولأنه لا
تقبل شهادته لمكاتبه ولا شهادة مكاتبه له فلم يعط من زكاته كولده، وكذلك
يجوز للرجل دفع زكاته الى غريمه لأنه من جملة الغارمين فان رده اليه الغارم
فله أخذه.
نص عليه أحمد في رواية مهنا لان الغريم قد ملكه بالاخذ أشبه ما لو وفاه من
مال آخر، وإن سقط الدين عن الغريم وحسبه زكاة لم تسقط عنه الزكاة لانه
مأمور بادائها وهذا اسقاط.
قال مهنا: سألت أبا عبد الله عن رجل له على رجل دين برهن وليس عنده قضاؤه
ولهذا الرجل زكاة مال يريد أن يفرقها على المساكين فيدفع اليه رهنه ويقول
له: الدين الذي عليك هو لك: يحسبه من زكاة ماله؟ قال لا يجزئه ذلك.
فقلت له فيدفع اليه زكاته، فان رده اليه قضاء من ماله له أخذه؟ قال نعم.
وقال في موضع آخر: وقيل له فان أعطاه ثم رده اليه؟ قال إذا كان بحيلة فلا
يعجبني، قبل له فان استقرض الذي عليه الدين دراهم فقضاه اياها ثم ردها عليه
وحسبها من الزكاة قال إذا أراد بهذا إحياء ماله فلا يجوز.
فحصل من كلامه أن دفع الزكاة إلى الغريم جائز سواء دفعها ابتداء أو استوفى
حقه ثم دفع ما استوفاه اليه، إلا أنه متى قصد بالدفع احياء ماله واستيفاء
دينه لم يجز لأن الزكاة لحق الله تعالى فلا يجوز صرفها إلى نفعه والله أعلم
(فصل) قال رحمه الله: (ولا يجوز دفعها إلى كافر ولا عبد، ولا فقيرة لها زوج
غني) قال الشيخ رحمه الله لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أن زكاة المال
لا تعطى لكافر ولا لمملوك.
قال إبن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من
زكاة الاموال شيئاً، وقد قال
(2/709)
النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ " أعلمهم
أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم " فخصهم بصرفها إلى
فقرائهم كما خصهم بوجوبها على أغنيائهم، ولان المملوك لا يملك ما يدفع
اليه، وانما يملكه سيده فكأنه دفع إلى السيد، ولأنه تجب نفقته على السيد
فهو غني بغناه (فصل) إلا أن يكون الكافر مؤلفاً قلبه فيجوز الدفع إليه،
وكذلك إن كان عاملا على إحدى الروايتين وقد ذكرنا الخلاف فيه، وكذلك العبد
إذا كان عاملا يجوز أن يعطي من الزكاة أجر عمله وقد مضى ذكر ذلك
(فصل) والفقيرة إذا كان لها زوج غني ينفق عليها لم يجز دفع الزكاة اليها
لان الكفاية حاصلة لها بما يصلها من النفقة الواجبة فأشبهت من له عقار
يستغنى بأجرته، وإن لم ينفق عليها وتعذر ذلك جاز الدفع اليها كما تعطلت
منفعة العقار وقد نص أحمد على هذا * (مسألة) * (ولا إلى الوالدين وإن علوا،
ولا إلى الولد وإن سفل) قال إبن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا
يجوز دفعها إلى الولدين في الحال التي يجبر الدافع اليهم على النفقة عليهم،
ولان دفع زكاته اليهم تغنيهم عن نفقته ويسقطها عنه فيعود نفعها اليه فكانه
دفعها الى نفسه فلم يجز كما لو قضى بها دينه، وأراد المصنف بالوالدين الاب
والام، وقوله وإن علوا يعني آباءهما وأمهاتهما وإن ارتفعت درجتهم من
الدافع، كأبوي الاب وأبوي الأم من يرث منهم ومن لا يرث، وقوله ولا إلى
الولد وإن سفل، يعني وإن نزلت درجته من أولاد البنين وأولاد البنات الوارث
وغيره.
نص عليه أحمد فقال: لا يعطى الوالدين من الزكاة، ولا الولد، ولا ولد الولد،
ولا الجد ولا الجدة، ولا ولد البنت، قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن
ابني هذا سيد " يعني الحسن فجعله ابنه لانه من عمودي نسبه فأشبه الوارث،
ولأن بينهما قرابة جزئية وبعضية بخلاف غيرهما * (مسألة) * قال (ولا إلى
الزوجة) وذلك اجماع.
قال إبن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة،
وذلك لأن نفقتها واجبة عليه فتستغنى بها عن أخذ الزكاة، فلم يجز دفعها
إليها كما لو دفعها اليها على سبيل الإنفاق عليها * (مسألة) * (ولا بني
هاشم ولا مواليهم) لا نعلم خلافاً في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة
المفروضة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد
إنما هي أوساخ الناس " أخرجه مسلم، وعن أبي هريرة قال: أخذ الحسن تمرة من
تمر الصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " كخ كخ " ليطرحها وقال " أما
شعرت أنا لا نأكل الصدقة " متفق عليه، وسواء
(2/710)
أعطوا من خمس الخمس أو لم يعطوا لعموم
النصوص، ولان منعهم من الزكاة لشرفهم وشرفهم باق
فيبقى المنع، فان أعطوا منها لغزو أو حمالة جاز ذلك ذكره شيخنا، وإن كان
الهاشمي عاملا، أو غارما لم يجزئه الاخذ في أظهر الوجهين وقد ذكرنا ذلك
(فصل) وحكم مواليهم حكمهم عند أحمد رحمه الله.
وقال أكثر أهل العلم: يجوز الدفع إليهم لأنهم ليسوا بقرابة النبي صلى الله
عليه وسلم فلم يمنعوا الصدقة كسائر الناس ولنا ما روى أبو رافع أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة فقال لأبي رافع
اصحبني كيما تصيب منها، فقال لا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأسأله، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال " إنا لا تحل لنا
الصدقة، وإن موالي القوم منهم " أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال
حديث حسن صحيح، ولأنهم ممن يرثه بنو هاشم بالتعصيب فلم يجز دفع الصدقة
اليهم كبني هاشم وقولهم انهم ليسوا بقرابة، قلنا هم بمنزلة القرابة بدليل
قول النبي صلى الله عليه وسلم " الولاء لحمة كلحمة النسب " ويثبت فيهم حكم
القرابة من الارث والعقل والنفقة فلا يمتنع ثبوت حكم تحريم الصدقة فيهم
(فصل) وروى الخلال بإسناده عن أبي مليكة أن خالد بن سعيد بن العاص بعث إلى
عائشة سفرة من صدقة فردتها وقالت: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة.
وهذا يدل على تحريمها على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم * (مسألة) *
(ويجوز لبني هاشم الأخذ من صدقة التطوع، ووصايا الفقراء، والنذور وفي
الكفارة وجهان) قال أحمد رحمه الله في رواية ابن القاسم انما لا يعطون من
الصدقة المفروضة فأما التطوع فلا، وعن أحمد رواية أخرى أنهم يمنعون من صدقة
التطوع أيضاً لعموم قوله عليه السلام " أنا لا تحل لنا الصدقة " والاول
أظهر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المعروف كله صدقة " متفق عليه،
وقال الله تعالى (فمن تصدق به فهو كفارة له) وقال تعالى (فنطرة إلى ميسرة،
وأن تصدقوا خير لكم) ولا خلاف في اباحة ايصال المعروف إلى الهاشمي والعفو
عنه وانظاره.
وقال أخوة يوسف (وتصدق علينا) والخبر أريد به صدقة الفرض لان الطلب كان لها
والالف واللام تعود إلى المعهود، وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه كان
يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، فقلت له أتشرب من الصدقة!
فقال انما حرمت علينا الصدقة المفروضة (1) ، ويجوز أن يأخذوا من الوصايا
للفقراء ومن النذور لأنهما تطوع فأشبه ما لو وصى لهم، وفي الكفارة وجهان
(أحدهما) يجوز لانها ليست بزكاة ولا هي أوساخ الناس فأشبهت صدقة التطوع
(والثاني) لا يجوز لأنها واجبة لايجابه على نفسه أشبهت الزكاة
__________
" 1 " بقي ان تعليل تحريم الصدقة عليهم بأنها من أوساخ أظهر في صدقة التطوع
لما فيها من المنة بكونها اختيارية.
وزكاة مال حق في النصاب.
وتسمية المعروف صدقة مجاز واخوة يوسف لم تكن الصدقة محرمة عليهم.
وتقدم مثل هذا في حواشي المغني
(2/711)
ولو أهدى المسكين مما تصدق به عليه الى
الهاشمي حل له لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مما تصدق به على أم عطية
وقال " انها بلغت محلها " متفق عليه (فصل) وكل من حرم صدقة الفرض من
الاغنياء وقرابة المتصدق ولكافر وغيرهم يجوز دفع صدقة التطوع اليهم ولهم
أخذها، قال الله تعالى (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيما وأسيرا) ولم
يكن الاسير يومئذ إلا كافراً، وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:
قدمت على أمي وهي مشركة فقلت يا رسول الله: إن أمي قدمت علي وهي راغبة
أفأصلها؟ قال " نعم صلي أمك " وكسا عمر أخا له مشركا حلة كان النبي صلى
الله عليه وسلم أعطاه اياها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد " إن
نفقتك على أهلك صدقة، وإن ما تأكل امرأتك صدقة " متفق عليه (1) (فصل) فأما
النبي صلى الله عليه وسلم فالظاهر أن الصدقة جميعها كانت محرمة عليه فرضها
ونقلها لأن اجتنابها كان من دلائل نبوته فلم يكن ليحل بذلك بدليل أن في
حديث سلمان الفارسي أن الذي أخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه له
قال: انه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة.
وقال أبو هريرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه، فإن
قيل صدقة قال لأصحابه " كلوا " ولم يأكل، وإن قيل هدية ضرب بيديه وأكل معهم
أخرجه البخاري.
وقال في لحم تصدق به على بريرة " هو عليها صدقة وهو لينا هدية " ولأن النبي
صلى الله عليه وسلم كان أشرف الخلق وكان له من المغانم خمس الخمس والصفي
فحرم نوعي الصدقة فرضها ونفلها، وآله دونه في الشرف ولهم خمس الخمس وحده
فحرموا أحد نوعيها وهو الفرض، وقد روي عن أحمد أن صدقة التطوع لم تكن محرمة
عليه والصحيح الأول إن شاء الله تعالى لما ذكرنا من
الادلة والله تعالى أعلم * (مسألة) * (وهل يجوز دفعها إلى سائر من تلزمه
مؤنته من أقاربه أو إلى الزوج أو بني المطلب على روايتين) الأقارب غير
الوالدين قسمان: من لا يرث منهم دفع الزكاة إليه سواء كان انتفاء الارث
لانتفاء سببه لكونه بعيد القرابة ليس من أهل الميراث في حال أو كان لمانع
مثل أن يكون محجوباً عن الميراث كالأخ المحجوب بالابن والعم المحجوب بالاخ
وابنه فيجوز دفع الزكاة إليه لأنه لا قرابة جزئية بينهما ولا ميراث فأشبها
الاجانب.
والثاني من يرث كالأخوين اللذين يرث كل واحد منهما الآخر ففيه روايتان:
إحداهما يجوز لكل واحد منهما دفع زكاته الى الآخر وهي الظاهرة عنه رواها
عنه الجماعة قال في رواية إسحق بن إبراهيم واسحق بن منصور وقد سأله يعطى
الاخ والاخت والخالة من الزكاة؟ قال يعطى كل القرابة إلا الابوين والولد
وهذا قول أكثر أهل العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الصدقة على
المسكين صدقة وهي لذي الرحم اثنتان صدقة وصلة " فلم يشترط نافلة ولا
__________
" 1 " وحديث أسماء متفق عليه أيضاً وقال سفيان بن عيينة احد رواته عند
البخاري: فأنزل الله فيها (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين)
(2/712)
فريضة ولم يفرق بين الوارث وغيره ولأنه ليس
من عمودي نسبه فأشبه الاجنبي (والرواية الثانية) لا يجوز دفعها إلى الموروث
وهو ظاهر قول الخرقي لأن على الوارث مؤنة الموروث فاذا دفع اليه الزكاة
أغناه عن مؤنته فيعود نفع زكاته اليه فلم يجز كدفعها الى والده أو قضاء
دينه بها، والحديث يحتمل صدقة التطوع فيحمل عليها.
فعلى هذا إن كان أحدهما يرث الآخر ولا يرثه الآخر كالعمة مع ابن أخيها
والعتيق مع معتقه فعلى الوارث منهما نفقة موروثه وليس له دفع زكاته إليه
على هذه الرواية وليس على الموروث منهما نفقة وارثه ولا يمنع من دفع الزكاة
إليه لانتفاء المقتضي للمنع، ولو كان أخوان لأحدهما ابن والآخر لا ولد له
فعلى أبي الابن نفقة أخيه وليس له دفع زكاته إليه وللذي لا ولد له دفع
زكاته الى أخيه ولا تلزمه نفقته لانه محجوب عن ميرائه، ونحو هذا قول
الثوري.
فأما ذوو الأرحام في الحال يرثون فيها فيجوز دفعها اليهم في ظاهر المذهب
لأن قرابتهم ضعيفة لا يرث بها مع عصبة ولا ذي فرض غير أحد الزوجين فلم يمنع
دفع الزكاة كقرابة سائر المسلمين فان ماله
بصير اليهم عند عدم الوارث (فصل) فإن كان في عائلته من لا يجب عليه الإنفاق
عليه كيتيم أجنبي، فظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز دفع زكاته إليه لانه ينتفع
بدفعها اليه لإغنائه بها عن مؤنته.
والصحيح إن شاء الله جواز دفعها اليه لأنه داخل في الاصناف المستحقين
للزكاة ولم يرد في منعه نص ولا إجماع ولا قياس صحيح فلم يجز اخراجه عن عموم
النص بغير دليل.
وقد روى البخاري أن امرأة عبد الله سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن بني
أخ لها أيتام في حجرها فتعطيهم زكاتها؟ قال " نعم " فإن قيل فهو ينتفع
بدفعها اليه قلنا قد لا ينتفع به لإمكان صرفها في مصالحه التي لا يقوم بها
الدافع، وان قدر الانتفاع به فانه نفع لا يسقط به واجباً عليه ولا يجتلب به
مالاً اليه فلم يمنع ذلك الدفع كما لو لم يكن من عائلته (فصل) ويجوز أن
يعطي الانسان ذا قرابته من الزكاة لكونه غارما أو مؤلفاً أو عاملاً أو
غارما لإصلاح ذات البين ولا يعطى لغير ذلك (فصل) وفي دفع الزكاة الى الزوج
روايتان: إحداهما لا يجوز دفعها اليه اختارها أبو بكر وهو مذهب أبو حنيفة
لأنه أحد الزوجين فلم يجز دفع الزكاة إليه كالآخر ولانها تنتفع بدفعها اليه
لأنه إن كان عاجزاً عن الإنفاق عليها تمكن بأخذ الزكاة من الانفاق فيلزمه
وإن لم يكن عاجزاً لكنه أيسر بها فلزمته نفقة الموسرين فينتفع بها في
الحالين فلم يجز لها ذلك كما لو دفعتها في أجرة دار أو نفقة رقيقها أو
بهائمها، فان قيل فيلزم على هذا الغريم فانه يجوز له دفع زكاته الى غريمه
ويلزم
(2/713)
الأخذ بذلك وفاء دينه، قلنا الفرق بينهما
من وجهين: أحدهما لن حق الزوجة في النفقة آكد من حق الغريم بدليل ان نفقة
المرأة مقدمة في مال المفلس على وفاء دينه وانها تملك أخذها من ماله بغير
علمه إذا امتنع من أدائها.
والثاني ان المرأة تنبسط في مال زوجها بحكم العادة ويعد مال كل واحد منهما
مالاً للآخر.
ولهذا قال ابن مسعود في عبد سرق مرآة امرأة سيده: عبدكم سرق مالكم، ولم
يقطعه وروي ذلك عن عمر.
والرواية الثانية يجوز للمرأة دفع زكاتها الى زوجها وهو مذهب الشافعي وابن
المنذر وطائفة من أهل العلم لأن زينب امرأة عبد الله بن مسعود
قالت يا رسول الله إنك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حلي لي فأردت أن أتصدق
به فزعم ابن مسعود أنه هو وولده أحق من تصدقت عليهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به
عليهم " رواه البخاري ولأنه لا تجب نفقته فلم يمنع دفع الزكاة إليه
كالاجنبي، وبهذا فارق الزوجة فان نفقتها واجبة عليه ولأن الأصل جواز الدفع
الى الزوج لدخوله في عموم الاصناف المسمين في الزكاة وليس في المنع نص ولا
إجماع وقياسه على من يثبت المنع في حقه لا يصح لوضوح الفرق بينهما فيبقى
جواز الدفع ثابتا والاستدلال بهذا أقوى من الاستدلال بحديث ابن مسعود لانه
في صدقة التطوع لقولها أردت أن أتصدق بحلي لي ولا تجب الصدقة بالحلي وقول
النبي صلى الله عليه وسلم " زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم " والولد لا
تدفع اليه الزكاة (فصل) وهل يجوز دفع الزكاة الى بني المطلب على روايتين:
إحداهما ليس لهم ذلك نقلها عنه عبد الله بن أحمد وغيره لقول النبي صلى الله
عليه وسلم " أنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام إنما نحن وهم شئ
واحد " وفي لفظ رواه الشافعي في مسنده " إنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد
" وشبك بين أصابعه ولانهم يستحقون من خمس الخمس فمنعوا من الزكاة كبني
هاشم.
وقد أكد ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم علل منعهم من الصدقة
باستغنائهم عنها بخمس الخمس فقال " أليس في خمس الخمس ما يغنيكم " والرواية
الثانية لهم الاخذ منها وهو قول أبي حنيفة لدخولهم في عموم الصدقات لكن خرج
بنو هاشم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد "
فوجب أن يختص المنع بهم ولا يصح قياسهم على بني هاشم لأن بني هاشم أقرب إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وأشرف وهم آل النبي صلى الله عليه وسلم ومشاركة
بني المطلب لهم في خمس الخمس ما استحقوه بمجرد القرابة بدليل ان بني عبد
شمس وبني نوفل يساوونهم في القرابة ولم يعطوا شيئاً وانما شاركوهم بالنصرة
أو بهما جميعاً والنصرة لا تقتضي منع الزكاة
(2/714)
* (مسألة) * (وإن دفعها إلى من لا يستحقها
وهو لا يعلم ثم علم لم يجزه إلا الغني اذا ظنه فقيراً في إحدى الروايتين)
اذا دفع الزكاة إلى من لا يستحقها جاهلا بحاله كالعبد والكافر والهاشمي
وقرابة المعطي ممن لا يجوز دفعها اليه لم يجزئه رواية واحدة لأنه ليس
بمستحق ولا يخفى حاله غالباً فلم يجزئه الدفع اليه كديون الآدميين.
فأما إن أعطى من يظنه فقيراً فبان غنياً ففيه روايتان: إحداهما يجزئه
اختارها أبو بكر وهو قول الحسن وأبي عبيد وأبي حنيفة لأن النبي صلى الله
عليه وسلم أعطى الرجلين الجلدين وقال " إن شئتما أعطيتكما منها ولا حظ فيها
لغني ولا لقوي مكتسب " وقال للرجل الذي سأله من الصدقة " إن كنت من تلك
الأجزاء أعطيتك حقك " ولو اعتبر حقيقة الغنى لما اكتفى بقولهم.
وروى ابو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " قال رجل لأتصدقن بصدقة،
فخرج بصدقته فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني، فأتي فقيل
له: اما صدقتك فقد تقبلت لعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله " رواه
النسائي.
والرواية الثانية لا يجزيه لانه دفع الواجب إلى غير مستحقه فلم يخرج من
عهدته كما لو دفعها إلى كافر أو ذي قرابة وكديون الآدميين.
وهذا قول الثوري وأبي يوسف وابن المنذر، وللشافعي قولان كالروايتين والأول
أولى إن شاء الله تعالى لأن الفقر والغنى يعسر الاطلاع عليه والمعرفة
بحقيقته قال الله تعالى: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم)
فاكتفى بظهور الفقر ودعواه بخلاف غيره والله أعلم.
(فصل) وصدقة التطوع مستحبة في جميع الأوقات لقول الله تعالى (من ذا الذي
يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) وأمر بالصدقة في آيات كثيرة
وحث عليها ورغب فيها، وروى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا طيب فإن الله يقبلها
بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل " متفق
عليه.
وصدقة السر أفضل من العلانية لقول الله تعالى (إن تبدو الصدقات فنعما هي،
وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) وروى ابو هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " ذكر منهم
رجلاً " تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " متفق عليه.
وروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال " صدقة السر تطفئ غضب الرب " رواه
الترمذي * (مسألة) * (وأفضل ما تكون في شهر رمضان وأوقات الحاجات)
لقول الله تعالى (أو إطعام في يوم ذي مسغبة) ولأن الحسنات تضاعف في شهر
رمضان وفيها
(2/715)
اعانة على أداء الصوم المفروض، ومن فطر
صائما كان له مثل أجره.
وتستحب الصدقة على ذي القرابة لقوله سبحانه (يتيما ذا مقربة) وقال النبي
صلى الله عليه وسلم " الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة
وصلة " وهو حديث حسن، وسألت زينب امرأة ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه
وسلم هل يسعها أن تضع صدقتها في زوجها وبني أخ لها يتامى قال " نعم لها
أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة " رواه النسائي.
ويستحب أن يخص بالصدقة من اشتدت حاجته لقول الله تعالى (أو مسكينا ذا
متربة) * (مسألة) * (وتستحب الصدقة بالفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه على
الدوام) لقول النبي صلى الله عليه وسلم " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى
وابدأ بمن تعول " متفق عليه فإن تصدق بما ينقص مؤنة من تلزمه مؤنته أثم
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت " وروى
أبو هريرة قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة فقام رجل فقال: يا
رسول الله عندي دينار، فقال " تصدق به على نفسك " فقال عندي آخر، قال "
تصدق به على ولدك " قال عندي آخر، قال " تصدق به على زوجك " قال عندي آخر،
قال " تصدق به على خادمك " قال عندي آخر، قال " أنت أبصر " رواهما أبو
داود، فان وافقه عياله على الايثار فهو أفضل لقوله بعالى (ويؤثرون على
أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أفضل الصدقة
جهد من مقل إلى فقير في السر " * (مسألة) * (ومن أراد الصدقة بماله كله وهو
يعلم من نفسه حسن التوكل والصبر عن المسألة فله ذلك وان لم يثق من نفسه
بذلك كره له) من أراد الصدقة بجميع ماله وكان وحده أو كان لمن يمونه
كفايتهم وكان مكتسباً أو واثقاً من نفسه بحسن التوكل والصبر على الفقر
والتعفف عن المسألة فله ذلك لما ذكرنا من الآية والخبر في المسألة قبلها،
ولما روى عمر رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر أن سبقته يوما فجئت
بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أبقيت لأهلك " قلت
أبقيت لهم مثله، فأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال له " ما أبقيت لأهلك " قال
أبقيت
لهم الله ورسوله، فقلت لا أسابقك إلى شئ أبداً، فكان هذا فضيلة في حق
الصديق رضي الله عنه لقوة يقينه وكمال إيمانه وكان تاجراً ذا مكسب، فانه
قال حين ولي: قد علم الناس أن مكسبي لم يكن ليعجز عن مؤنة عيالي، وإن لم
يوجد في المتصدق أحد هذين كره له لما روى أبو داود عن جابر بن عبد الله
قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إد جاء رجل بمثل بيضة من ذهب
فقال يا رسول الله: أصبت هذه من معدن خذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض
عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك
فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ثم
(2/716)
أتاه من خلفه فأخذها رسول الله صلى الله
عليه وسلم فحذفه بها فلو أصابته لعقرته أو لأوجعته، وقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم " يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يستكف الناس،
خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى " فقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على
المعنى الذي كره الصدقة بجميع ماله وهو " أن يستكف الناس " أي يتعرض للصدقة
فيأخذها ببطن كفه، يقال تكفف واستكف إذا فعل ذلك وروى النسائي أن النبي صلى
الله عليه وسلم أعطى رجلا ثوبين من الصدقة، ثم حث على الصدقة فطرح الرجل
أحد ثوبيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألم تروا إلى هذا دخل بهيئة
بذة فأعطيته ثوبين ثم قلت تصدقوا فطرح أحد ثوبيه " خذ ثوبك وانتهره، ولأن
الانسان اذا أخرج جميع ماله لا يأمن فتنة الفقر وشدة نزاع النفس إلى ما خرج
منه فيندم فيذهب ماله ويبطل أجره ويصير كلا على الناس * (مسألة) * (ويكره
لمن لا صبر له على الضيق أن ينقص نفسه من الكفاية التامة) والله أعلم * (تم
طبع الجزء الثاني) * من كتاب المغني وهو الذي في أعلى الصحائف وكتاب الشرح
الكبير للمقنع وهو الذي في أدناها وكان ذلك في أواخر شهر رجب من سنة 1345
هـ ويليه الجزء الثالث وأوله في الكتابين (كتاب الصيام)
(2/717)
|