الشرح الكبير على متن المقنع

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين (كتاب الصيام) الصيام في اللغة عبار عن الإمساك يقال صام النهار إذا وقف سير الشمس، وقال سبحانه وتعالى حكاية عن مريم (إني نذرت للرحمن صوما) أي إمساكاً عن الكلام وقال الشاعر خيل صيام وخيل غير صائمة * تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما يعني بالصائمة الممسكة عن الصهيل، وهو في الشرع عبارة عن الإمساك عن أشياء مخصوصة في وقت مخصوص يأتي بيانه إن شاء الله.
وصوم رمضان واجب والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) إلى قوله (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم " بنى الإسلام على خمس " وذكر منها صوم رمضان، وعن طلحة بن عبيد الله أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال يارسول الله أخبرني ماذا فرض الله علي من الصيام؟ فقال " شهر رمضان " فقال هل علي غيره؟ فقال " لا، إلا أن تتطوع شيئاً "

(3/2)


قال فأخبرني ماذا فرض علي من الزكاة؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام فقال والذي أكرمك لا أتطوع شيئاً ولا أنقص مما فرض الله علي شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفلح إن صدق
أو دخل الجنة إن صدق " متفق عليهما، وأجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان (فصل) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة " متفق عليه وروى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تقولوا جاء رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى " فيتعين حمل هذا على أنه لا يقال ذلك غير مقترن بما يدل على إرادة الشهر لئلا يخالف الأحاديث الصحيحة.
والمستحب مع ذلك أن تقول شهر رمضان كما قال تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) واختلف في المعنى الذي سمي لأجله رمضان، فروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " انما سمي رمضان لأنه يحرق الذنوب " فيحتمل أنه أراد أنه شرع صومه دون غيره ليوافق اسمه معناه، وقيل هو اسم موضوع لغير معنى كسائر الشهور وقيل غير ذلك (فصل) والصوم المشروع هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس روي معنى ذلك عن عمر وابن عباس وبه قال عطاء وعوام أهل العلم، وروى عن علي رضي الله عنه أنه لما صلى الفجر قال: الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وعن ابن مسعود نحوه وقال مسروق لم يكونوا يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق وهذا قول الأعمش

(3/3)


ولنا قول الله تعالى (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) يعني بياض النهار من سواد الليل وهذا يحصل بطلوع الفجر.
قال ابن عبد البر: قول النبي صلى الله عليه وسلم إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح وإن السحور لا يكون إلا قبل الفجر وهذا إجماع لم يخالف فيه إلا الأعمش وحده فشذ ولم يعرج أحد على قوله، والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال هذا قول جماعة من علماء المسلمين (مسألة) قال (ويجب صوم رمضان برؤية الهلال فإن لم ير مع الصحو أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً ثم صاموا، فإن حال دون منظرة غيم أو قتر ليلة الثلاثين وجب صيامه بنية رمضان في ظاهر المذهب وعنه لا يجب وعنه الناس تبع الامام فإن صام صاموا) وجملة من ذلك ان صوم رمضان يجب بأحد ثلاثة أشياء (أحدها) رؤية هلال رمضان يجب به
الصوم إجماعاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " متفق عليه (الثاني) كمال شعبان ثلاثين يوماً يجب به الصوم لأنه يتيقن به دخول شهر رمضان ولا نعلم فيه خلافاً، ويستحب للناس

(3/4)


ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ليحتاطوا لصيامهم ويسلموا من الاختلاف.
وقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أحصوا هلال شعبان لرمضان " (فصل) ويستحب لمن رأى الهلال أن يقول ماروى ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال " الله أكبر، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى، ربي وربك الله " رواه الأثرم (الثالث) أن يحول دون منظره ليلة الثلاثين من شعبان غيم أو قتر فيجب صيامه في ظاهر المذهب ويجزيه إن كان من شهر رمضان اختارها الخرقي وأكثر شيوخ أصحابنا وهو مذهب عمر وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة وأنس ومعاوية وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر وبه قال بكر بن عبد الله المزني وأبو عثمان النهدي وأبن أبي مريم ومطرف وميمون بن مهران وطاوس ومجاهد وعن أحمد رواية ثانية لا يجب صومه ولا يجزيه عن رمضان إن صامه وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وكثير من أهل العلم لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً " رواه البخاري وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم فاقدروا له ثلاثين " رواه مسلم، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الشك وهذا يوم شك ولأن الأصل بقاء شعبان فلا ينتقل بالشك وعنه رواية ثالثة أن الناس تبع للإمام فإن صام صاموا وإن أفطر أفطروا وهو قول الحسن وابن سيرين لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون " قيل معناه أن الصوم والفطر مع الجماعة ومعظم الناس قال الترمذي حديث حسن غريب ووجه الرواية الأولى ماروى نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما الشهر تسع وعشرون

(3/5)


فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له " قال نافع كان عبد الله
ابن عمر إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوماً يبعث من ينظر له الهلال فإن رؤي فذاك وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطراً، وإن حال دون منظرة سحاب أو قتر أصبح صائماً ومعنى اقدروا له أي ضيقوا له من قوله تعالى (ومن قدر عليه رزقه) أي ضيق عليه وقوله (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) والتضييق له أن يجعل شعبان تسعة وعشرون يوماً، وقد فسره ابن عمر بفعله وهو رواية وأعلم بمعناه فيجب الرجوع إلى تفسيره كما رجع إليه في تفسير التفرق في خيار المتبايعين ولأنه شك في أحد طرفي الشهر لم يظهر فيه أنه من غير رمضان فوجب الصوم كالطرف الآخر، قال علي وابو هريرة وعائشة: لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان، ولأن الصوم يحتاط له ولذلك وجب الصوم بخبر واحد ولم يفطروا إلا بشهادة اثنين.
فأما خبر أبي هريرة الذي احتجوا به فإنه يرويه محمد بن زياد وقد خالفه سعيد بن المسيب فرواه عن أبي هريرة " فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين " وروايته أولى لإمامته واشتهار ثقته وعدالته وموافقته لرأي أبي هريرة ومذهبه ولخبر ابن عمر الذي رويناه ويمكن حمله على ما إذا غم في طرفي الشهر ورواية ابن عمر " فاقدروا له ثلاثين " مخالفه للرواية الصحيحة المتفق عليها ولمذهب ابن عمر، ورواية النهي عن صوم يوم الشك محمول على حال الصحو جمعاً بينه وبين ما ذكرنا (مسألة) (وإذا رأى الهلال نهاراً قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المقبلة) المشهور عن أحمد أن الهلال إذا رؤي نهاراً قبل الزوال أو بعده وكان ذلك في آخر رمضان لم يفطروا برؤيته وهذا قول عمر وابن مسعود وابن عمر وأنس والاوزاعي ومالك والليث وأبي حنيفة والشافعي وإسحاق، وحكي عن أحمد أنه إن رؤي قبل الزوال فهو للماضية وإن كان بعده فهو لليلة المقبلة، وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه رواه سعيد وبه قال الثوري وأبو يوسف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " وقد رأوه فيجب الصوم والفطر ولأن ما قبل الزوال أقرب إلى الماضية ولنا ما روى أبو وائل قال جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين أن الأهلة بعضها أقرب من بعض فإذا رأيتم الهلال نهاراً فلا تفطروا حتى تمسوا أو يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس عشية ولأنه قول من سمينا من الصحابة، وخبرهم محمول على ما إذا رؤي عشية بدليل ما لو رؤي بعد الزوال، ثم أن
الخبر إنما يقتضي الصوم والفطر من الغد بدليل ما لو رآه عشية، فأما إن كانت الرؤية في أول رمضان فالصحيح أيضاً أنها لليلة المقبلة وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وعن أحمد رواية أخرى أنه للماضية، فعلى هذا يلزم قضاء ذلك اليوم وإمساك بقيته احتياطاً للعبادة لأن ما كان لليلة المقبلة في آخره فهو لها في أوله كما لو رؤي بعد العصر

(3/6)


(مسألة) (وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم) هذا قول الليث وبعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم إن كان بين البلدين مسافة قريبة لا تختلف المطالع لأجلها كبغداد والبصرة لزم أهلها الصوم برؤية الهلال في أحدهما، وإن كان بينهما بعد كالحجاز والعراق والشام فلكل أهل بلد رؤيتهم، وروي عن عكرمة أنه قال لكل أهل بلد رؤيتهم وهو مذهب القاسم وسالم وإسحاق لما روى كريب قال قدمت الشام واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال؟ فقلت رأيناه ليلة الجمعة، فقال أنت رأيته ليلة الجمعة؟ فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية.
فقال لكن رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه.
فقلت ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم ولنا قول الله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي لما قال له: الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال نعم.
وأجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان وقد ثبت ان هذا اليوم من شهر رمضان بشهادة الثقاة فوجب صومه على جميع المسلمين ولأن شهر رمضان ما بين الهلالين وقد ثبت انه هذا اليوم منه في سائر الأحكام من حلول الدين ووقوع الطلاق والعتاق ووجوب

(3/7)


النذر وغير ذلك من الأحكام فيجب صيامه بالنص والإجماع ولان البينة العادلة شهدت برؤية الهلال فيجب الصوم كما لو تقاربت البلدان.
فأما حديث كريب فإنما دل على أنهم لا يفطرون بقول كريب وحده ونحن نقول به وإنما محل الخلاف وجوب قضاء اليوم الأول وليس في الحديث
فإن قيل فقد قلتم أن الناس إذا صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً أفطروا في أحد الوجهين قلنا الجواب عنه من وجهين: أحدهما أننا إنما قلنا يفطرون إذا صاموا بشهادته فيكون فطرهم مبنيا على صومهم بشهادته وهاهنا لم يصوموا بقوله فلم يوجد ما يجوز بناء الفطر عليه.
الثاني أن الحديث دل على صحة الوجه الآخر (مسألة) (ويقبل في هلال رمضان قول عدل واحد ولا يقبل في سائر الشهور إلا عدلان) المشهور عن أحمد أنه يقبل في هلال رمضان قول عدل واحد ويلزم الناس الصوم بقوله وهو قول عمر وعلي وابن عمر وابن المبارك والشافعي في الصحيح عنه، وروى عن أحمد أنه قال اثنين أعجب إلي، وقال أبو بكر إن رآه وحده ثم قدم المصر صام الناس بقوله على ما روي في الحديث، وإن كان الواحد في جماعة الناس فذكر أنه رآه دونهم لم يقبل إلا قول اثنين لأنهم يعاينون ما عاين وروي عن عثمان رضي الله عنه لا يقبل إلا شهادة اثنين وهو قول مالك والليث والاوزاعي وإسحاق

(3/8)


لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين، وإن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا " رواه النسائي ولأن هذه شهادة على رؤية الهلال أشبهت الشهادة على هلال شوال، وقال أبو حنيفة في الغيم كقولنا وفي الصحو لا يقبل إلا الاستفاضة لأنه لا يجوز أن ينظر الجماعة إلى مطلع الهلال وأبصارهم والموانع منتفيه فيراه واحد دون الباقين ولنا ماروى ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رأيت الهلال قال " أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله " قال نعم.
قال يا بلال أذن في الناس فليصوموا غداً " رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وروى ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه رواه أبو داود ولأنه خبر عن وقت الفريضة فيما طريقه المشاهدة فقبل فيه قول واحد كالخبر بدخول وقت الصلاة ولأنه خبر ديني يشترك فيه المخبر والمخبر فقبل من عدل واحد كالرواية وخبرهم إنما يدل بمفهومه وخبرنا يدل بمنطوقه وهو أشهر منه فيجب
تقديمه، ويفارق الخبر عن هلال شوال فإنه خروج من العبادة وهذا دخول فيها ويتهم في هلال شوال بخلاف مسئلتنا وما ذكره أبو بكر وأبو حنيفة لا يصح لأنه يجوز انفراد الواحد به مع لطافة المرئي وبعده (1) ويجوز أن يختلف معرفتهم بالمطلع ومواضع قصدهم وحده نظرهم ولهذا لو حكم حاكم بشهادة واحد جاز ولو شهد شاهدان وجب قبول شهادتهما عند أبي بكر ولو كان ممتنعاً على ما قالوه لم يصح فيه حكم حاكم ولا ثبت بشهادة اثنين، ومن منع ثبوته بشهادة اثنين رد عليه الخبر الأول وقياسه على سائر الحقوق وسائر الشهور، ولو أن جماعة في محفل وشهد منهم اثنان على رجل أنه طلق زوجته أو أعتق عبده قبلت شهادتهما، ولو أن اثنين من أهل الجمعة شهدا على الخطيب أنه قال على المنبر في الخطبة شيئاً لم يشهد به غيرهما لقبلت شهادتهما، وكذلك لو شهدا عليه بفعل وأن غيرهما يشاركهما في سلامة السمع وصحة البصر كذا هاهنا (فصل) وإن أخبره برؤية الهلال من يثق بقوله لزمه الصوم وإن لم يثبت ذلك عند الحاكم لأنه خبر بوقت العبادة يشترك فيه المخبر والمخبر أشبه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخبر عن دخول وقت الصلاة ذكره ابن عقيل، ومقتضى هذا أنه يلزمه قبول خبره وإن رده الحاكم لأن رد الحاكم يجوز أن يكون لعدم علمه بحال المخبر، ولا يتعين ذلك في عدم العدالة وقد يجهل الحاكم عدالة من يعلم غيره عدالته

(3/9)


(فصل) فإن كان المخبر امرأة فقياس المذهب قبول قولها وهو قول أبي حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه خبر ديني أشبه الرواية والخبر عن القبلة ودخول وقت الصلاة ويحتمل أن لا يقبل فيه قول امرأة كهلال شوال (فصل) فأما هلال شوال وغيره من الشهور فلا يقبل فيه إلا شهادة عدلين في قول الجميع الا ابا ثور فإنه قال يقبل في هلال شوال قول واحد لأنه أحد طرفي شهر رمضان أشبه الأول ولأنه خبر يستوي فيه المخبر والمخبر أشبه الرواية وأخبار الديانات.
ولنا خبر عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجاز شهادة رجل
واحد على رؤية الهلال وكان لا يجيز على شهادة الافطار إلا شهادة رجلين ولأنها شهادة على هلال لا يدخل بها في العبادة أشبه سائر الشهور وهذا يفارق الخبر لان الخبر يقبل فيه قول المخبر مع وجود المخبر عنه وفلان عن فلان وهذا لا يقبل فيه ذلك فافترقا (فصل) ولا يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين ولا شهادة النساء منفردات وان كثرن وكذلك سائر الشهور لأنه مما يطلع عليه الرجال وليس بمال ولا يقصد به المال أشبه القصاص وكان القياس يقتضي مثل ذلك في رمضان لكن تركناه احتياطاً للعبادة والله أعلم.
(مسألة) (وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوماً فلم يروا الهلال أفطروا) وجهاً واحداً لأن الشهر لا يزيد على ثلاثين ولحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب (مسألة) (وإن صاموا بشهادة واحد فلم يروا الهلال فعلى وجهين) (أحدهما) لا يفطرون لقوله عليه السلام " وإن شهد اثنان فصوموا وأفطروا " ولأنه فطر فلم يجز أن يستند إلى شهادة واحد كما لو شهد بهلال شوال (والثاني) يفطرون وهو منصوص الشافعي وحكي عن ابي حنفية لأن الصوم إذا وجب وجب الفطر لاستكمال العدة لا بالشهادة وقد يثبت تبعا مالا يثبت أصلاً بدليل أن النسب لا يثبت بشهادة النساء وتثبت بها الولاد ويثبت النسب تبعاً لها كذا هاهنا (مسألة) (فإن صاموا لأجل الغيم لم يفطروا) وجهاً واحداً لأن الصوم إنما كان على وجه الاحتياط فلا يجوز الخروج منه للاحتياط أيضاً (مسألة) (ومن رأى هلال رمضان وحده وردت شهادته لزمه الصوم) هذا المشهور في المذهب وسواء كان عدلاً أو فاسقاً شهد عند الحاكم أو لم يشهد قبلت شهادته أو ردت، وهذا قول مالك والليث والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر، وقال إسحاق وعطاء لا يصوم وروى حنبل عن أحمد لا يصوم إلا في جماعة الناس، وروي نحوه عن الحسن وابن سيرين

(3/10)


لأنه يوم محكوم به من شعبان فأشبه التاسع والعشرين ولنا أنه تيقن أنه من رمضان فلزمه صومه كما لو حكم به الحاكم وكونه محكوماً به من شعبان ظاهر
في حق غيره، وأما في الباطن فهو يعلم أنه من رمضان فلزمه صيامه كالعدل (مسألة) (وإن رأى هلال شوال وحده لم يفطر) روى ذلك عن مالك والليث وقال الشافعي يحل له أن يأكل بحيث لا يراه أحد لأنه تيقنه من شوال فجاز له الأكل كما لو قامت به بينة ولنا ما روى أبو رجاء عن أبي قلابة أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال وقد أصبح الناس صياماً فأتيا عمر فذكرا ذلك له فقال لأحدهما أصائم أنت؟ قال بل مفطر قال ما حملك على هذا؟ قال لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال وقال للآخر قال إني صائم قال ما حملك على هذا؟ قال لم أكن لأفطر والناس صيام فقال للذي افطر لولا مكان هذا لأوجعت رأسك ثم نودي في الناس أن اخرجوا أخرجه سعيد عن ابن عيينة عن أيوب عن أبي رجاء وإنما أراد ضربه لإفطاره برؤيته وحده ودفع عنه الضرب لكمال الشهادة به وبصاحبه ولو جاز له الفطر لما أنكر عليه ولا توعده وقالت عائشة إنما يفطر يوم الفطر الإمام وجماعة المسلمين ولم يعرف لهما مخالف في عصرهما فكان إجماعاً ولأنه محكوم به من رمضان أشبه اليوم الذي قبله وفارق ما إذا ثبت ببينة لأنه محكوم به من شوال بخلاف هذا.
قولهم إنه يتيقن أنه من شوال ممنوع فإنه يحتمل أن يكون خيل إليه ذلك فرأى شيئاً أو شعرة من حاجبه ظنها هلالا ولم تكن (فصل) فإن رآه اثنان فلم يشهدا عند الحاكم جاز لمن سمع شهادتهما الفطر إذا عرف عدالتهما ولكل واحد منهما أن يفطر بقولهما إذا عرف عدالة الآخر لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا شهد اثنان فصوموا وافطروا " وان شهدا عند الحاكم فرد شهادتهما لجهله بحالهما فلمن علم عدالتهما الفطر لأن رد الحاكم هاهنا ليس بحكم منه وإنما هو توقف لعدم علمه فهو كالوقوف عن الحكم انتظاراً للبينة، ولهذا لو ثبتت عدالتهما بعد ذلك حكم بها وإن لم يعرف أحدهما عدالة صاحبه لم يجز له الفطر الا أن يحكم بذلك الحاكم لأنه يكون مفطراً برؤيته وحده (مسألة) (وإن اشتبهت الأشهر على الأسير تحرى وصام فإن وافق الشهر أو ما بعده أجزأه وإن وافق قبله لم يجزه)
إذا كان الأسير محبوساً أو مطموراً أو في بعض النواحي النائية عن الأمصار لا يمكنه تعرف الأشهر بالخبر فاشتبهت عليه الأشهر فإنه يتحرى ويجتهد فإذا غلب على ظنه عن إمارة تقوم في نفسه

(3/11)


دخول شهر رمضان صامه ولا يخلو من أربعة أحوال (أحدها) أن لا ينكشف له الحال فيصح صومه ويجزئه لأنه أدى فرضه باجتهاده فأجزأه كما لو صلى في يوم الغيم بالاجتهاد (الثاني) أن ينكشف أنه وافق الشهر أو ما بعده فيجزيه في قول عامة العلماء وحكي عن الحسن ابن صالح أنه لا يجزئه في الحالتين لأنه صامه على الشك فلم يجزئه كما لو صام يوم الشك فبان من رمضان والأول أولى لأنه أدى فرضه بالاجتهاد في محله فإذا أصاب أو لم يعلم الحال أجزأه كالقبلة إذا اشتبهت أو الصلاة في يوم الغيم إذا اشتبه وقتها وفارق يوم الشك فإنه ليس بمحل للاجتهاد فإن الشرع أمر بصومه عند أمارة عينها فما لم توجد لم يجز الصوم (الحال الثالث) وافق قبل الشهر فلا يجزئه في قول عامة الفقهاء، وقال بعض الشافعية يجزئه في أحد القولين كما لو اشتبه يوم عرفة فوقفوا قبله، ولنا أنه أتى بالعبادة قبل وقتها فلم يجزئه كالصلاة في يوم الغيم، وأما الحج فلا نسلمه إلا فيما أذ أخطأ الناس كلهم لعظم المشقة وإن وقع ذلك لبعضهم لم يجزهم ولأن ذلك لا يؤمن مثله في القضاء بخلاف الصوم.
(الحال الرابع) أن يوافق بعضه رمضان دون بعض فما وافق رمضان أو بعده اجزأه وما وافق قبله لم يجزئه (فصل) وإذا وافق صومه بعد الشهر اعتبر أن يكون ما صامه بعدد أيام شهره الذي فاته سواء وافق ما بين الهلالين أو لم يوافق وسواء كان الشهران تامين أو ناقصين ولا يجزئه أقل من ذلك وقال القاضي ظاهر كلام الخرقي أنه إذا وافق شهراً بين هلالين أجزأه سواء كان الشهران تامين أو ناقصين أو أحدهما تاماً والآخر ناقصاً وليس بصحيح فإن الله تعالى قال (فعدة من أيام أخر) ولأنه فاته شهر رمضان فوجب أن يكون صيامه بعدد ما فاته كالمريض والمسافر وليس في كلام الخرقي تعرض لهذا التفصيل فلا يجوز حمل كلامه على ما يخالف الكتاب والصواب، فان قيل أليس إذا نذر صوم شهر
يجزئه مابين الهلالين؟ قلنا الإطلاق يحمل على ما تناوله الاسم والاسم يتناول ما بين الهلالين وهنا يجب قضاء ما ترك فيجب أن يراعى فيه عدة المتروك كما ان من نذر صلاة أجزأه ركعتان ولو ترك صلاة وجب قضاؤها بعدد ركعاتها كذلك هاهنا الواجب بعدد ما فاته من الأيام سواء كان ما صامه بين هلالين أو بين شهرين فان دخل في صيامه يوم عيد لم يعتد به وإن وافق أيام التشريق فهل يعتد بها؟ على روايتين بناء على صحة صومها عن الفرض (فصل) فإن لم يغلب على ظن الأسير دخول رمضان فصام لم يجزه وإن وافق الشهر لأنه صامه

(3/12)


على الشك فلم يجزئه كما لو نوى ليلة الشك إن كان غدا من رمضان فهو فرضي وإن غلب على ظنه من غير أمارة فقال القاضي عليه الصيام ويقضي إذا عرف الشهر كالذي خفيت عليه دلائل القبلة فصلى على حسب حاله فإنه يعيد وذكر أبو بكر فيمن خفيت عليه دلائل القبلة هل يعيد على وجهين كذلك يخرج على قوله هاهنا وظاهر كلام الخرقي أنه يتحرى فمتى غلب على ظنه دخول الشهر صح صومه وإن لم يبن على دليل لأنه ليس في وسعه معرفة الدليل (ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (فصل) وإذا صام تطوعاً فوافق شهر رمضان لم يجزئه نص عليه أحمد وبه قال الشافعي، وقال أصحاب الرأي يجزئه وهو مبني على وجوب تعيين النية لرمضان وسنذكره إن شاء الله تعالى (مسألة) (ولا يجب الصوم إلا على المسلم البالغ العاقل القادر على الصوم ولا يجب على كافر ولا مجنون ولا صبي) يجب الصوم على من وجدت فيه هذه الشروط بغير خلاف لما ذكرنا من الأدلة ولا يجب على كافر أصلياً كان أو مرتداً في الصحيح من المذهب لأنه عبادة لا تصح منه في حال كفره ولا يجب عليه قضاؤها إذا أسلم لقوله تعالى (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) وفيه رواية أخرى أن القضاء يجب على المرتد إذا أسلم وهو مذهب الشافعي لأنه قد اعتقد وجوبها عليه بخلاف الكافر الأصلي فعلى هذا يجب عليه في حال ردته لعموم الأدلة وسنذكر ذلك في باب المرتد إن شاء الله تعالى ولا يجب على مجنون لقوله صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق "
ولا يصح منه لأنه غير عاقل أشبه بالطفل (فصل) فأما الصبي العاقل الذي يطيق الصوم فيصح منه ولا يجب عليه حتى يبلغ وكذلك الجارية نص عليه أحمد وهذا قول أكثر أهل العلم، وذهب بعض أصحابه إلى أنه يجب على الغلام الذي يطيقه إذا بلغ عشرا لما روى ابن جريج عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام شهر رمضان " ولأنها عبادة بدنية أشبهت الصلاة، والمذهب الأول قال القاضي المذهب عندي رواية واحدة أن الصلاة والصوم لا تجب حتى يبلغ، وما قاله أحمد فيمن ترك الصلاة يقضيها نحمله على الاستحباب لما ذكرنا من الحديث ولأنها عبادة فلم تجب على الصبي كالحج، وحديثهم مرسل ويمكن حمله على الاستحباب وسماه واجباً تأكيداً كقوله عليه السلام " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم " وفي ذلك جمع بين الحديثين فكان أولى، وما قاسوا عليه ممنوع

(3/13)


(مسألة) (ويؤمر به إذا أطاقه ويضرب عليه ليعتاده) يجب على الولي أمر الصبي بالصيام إذا أطاقه ويضربه عليه ليتمرن عليه ويعتاده لما ذكرنا في الصلاة، وممن ذهب إلى أنه يؤمر بالصيام إذا أطاقه عطاء والحسن وابن سيرين والزهري وقتادة والشافعي وقال الأوزاعي إذا أطاق صيام ثلاثة أيام تباعاً لا يحور فيهن ولا يضعف حمل صوم شهر رمضان، وقال الخرقي إذا كان للغلام عشر سنين وأطاق الصيام أخذ به، وقال إسحاق إذا بلغ اثنتي عشرة أحب أن يكلف الصوم للعادة، قال شيخنا رحمه الله واعتباره بالعشر أولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالضرب على الصلاة عندها، واعتبار الصوم بالصلاة أحسن لقرب إحداهما من الأخرى في كونهما عبادتين بدنيتين من أركان الاسلام الا أن الصوم أشق فاعتبرت له الطاقة لأنه قد يطيق الصلاة من لا يطيق الصيام (مسألة) (وإذا قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار لزمهم الإمساك والقضاء) وهذا قول عامة أهل العلم، وروى عن عطاء انه لا يجب عليه الإمساك.
قال ابن عبد البر لا نعلم
أحدا قاله غير عطاء، وذكر أبو الخطاب ذلك رواية عن أحمد قياساً على المسافر إذا قدم.
قال شيخنا رحمه الله ولم نعلم أحداً ذكرها غيره وأظن هذا غلطاً فإن أحمد نص على إيجاب الكفارة على من وطئ ثم كفر ثم عاد فوطئ في يومه لأن حرمه الصوم لم تذهب، فإذا أوجب الكفارة على غير الصائم لحرمة اليوم فكيف يبيح الأكل، ولا يصح قياس هذا على المسافر إذا قدم وهو مفطر وأشباهه لأنه كان له الفطر ظاهراً وباطناً وهذا لم يكن له الفطر في الباطن مباحاً أشبه من أكل يظن أن الفجر لم يطلع وكان قد طلع (فصل) وكل من أفطر والصوم يجب عليه كالمفطر لغير عذر، ومن ظن أن الفجر لم يطلع وقد طلع، أو أن الشمس قد غابت ولم تغب، والناسي للنية ونحوهم يلزمهم الإمساك بغير خلاف بينهم إلا أنه يخرج على قول عطاء في المعذور في الفطر إباحة فطر بقية يومه كالمسألة قبلها، وهو قول شاذ لم يعرج عليه العلماء (مسألة) (وإن بلغ صبي أو أسلم كافر أو أفاق مجنون فكذلك وعنه لا يلزمهم شئ) إذا بلغ الصبي في أثناء النهار وهو مفطر أو أفاق المجنون أو أسلم الكافر لزمهم الإمساك في إحدى الروايتين.
وهذا قول أبي حنيفة والثوري والاوزاعي والحسن بن صالح والعنبري لأنه معنى لو وجد قبل الفجر أوجب الصيام فإذا طرأ أوجب الإمساك كقيام البينة بالرؤية.
والثانية لا يلزمهم الإمساك وإليه ذهب مالك والشافعي، وروي عن ابن مسعود أنه قال: من أكل أول النهار أكل آخره لأنه

(3/14)


أبيح له الفطر أول النهار ظاهراً وباطناً فإذا أفطر كان له استدامة الفطر كما لو دام العذر، وهل يجب عليهم القضاء؟ فيه روايتان: إحداهما يجب لأنهم أدركوا بعض وقت العبادة فلزمهم القضاء كما لو أدركوا بعض وقت الصلاة وهذا قول إسحاق في الكافر إذا أسلم.
والثانية لا يلزمهم وهو قول مالك وأبي ثور وابن المنذر في الكافر إذا أسلم والأول ظاهر المذهب لأنهم لم يدركوا وقتاً يكنهم التلبس بالعبادة فيه أشبه ما لو زال عذرهم بعد خروج الوقت (فصل) ويجب على الكافر (1) صوم ما يستقبل من الشهر بغير خلاف ولا يجب قضاء ما مضى
في قول عامة أهل العلم، وقال عطاء عليه القضاء وعن الحسن كالمذهبين.
ولنا أنها عبادة انقضت في حال كفره فلم يجب قضاءها كالرمضان الماضي (مسألة) (وإن بلغ الصبي صائماً أتم ولا قضاء عليه عند القاضي وعند أبي الخطاب عليه القضاء) إذا نوى الصبي الصوم من الليل فبلغ في أثناء النهار بالاحتلام أو السن أتم صومه ولا قضاء عليه قاله القاضي لأنه نوى الصوم من الليل فأجزأته كالبالغ، ولا يمتنع أن يكون أول الصوم نفلاً وباقيه فرضاً كما لو شرع في صوم تطوعاً ثم نذر إتمامه، واختار أبو الخطاب وجوب القضاء عليه لأنها عبادة بدنية بلغ في أثنائها بعد مضي بعض أركانها فلزمته إعادتها كالصلاة والحج إذا بلغ بعد الوقوف يحقق ذلك أنه ببلوغه يلزمه صومه جميعه والماضي قبل بلوغه نفل فلم يجز عن الفرض، ولهذا لو نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم والناذر صائم لزمه القضاء (فصل) فأما ما مضى من الشهر قبل بلوغه فلا يجب عليه قضاؤه سواء كان صامه أو لا في قول عامة أهل العلم، وقال الأوزاعي يقضيه إن كان أفطره وهو مطيق لصيامه، ولنا أنه زمن مضى في حال صباه فلم يلزمه قضاء الصوم فيه كما لو بلغ بعد انسلاخ رمضان (مسألة) (وإن طهرت حائض أو نفساء أو قدم مسافر مفطرا فعليهم الفضاء وفي الإمساك روايتان) أما وجوب القضاء عليهم فلا خلاف فيه لقوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) والتقدير فافطر ولقول عائشة كنا نحيض على عهد رسول الله (ص) فنؤمر بقضاء الصوم متفق عليه، وكذلك الحكم في المريض إذا صح في أثناء النهار وكان مفطراً وفي وجوب الإمساك عليهم روايتان ذكرنا وجههما، والاختلاف في ذلك في مسألة الصبي والكافر إذا أسلم والمجنون إذا أفاق فكذلك الحكم في هؤلاء (مسألة) (ومن عجز عن الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً) الشيخ الكبير والعجوز إذا كان الصوم يجهدهما ويشق عليهما مشقة شديدة فلهما أن يفطرا ويطعما

(3/15)


لكل يوم مسكينا وهذا قول علي وابن عباس وأبي هريرة وأنس رضي الله عنهم وبه قال سعيد بن جبير
وطاوس وأبو حنيفة والثوري والاوزاعي، وقال مالك لا يجب عليه شئ لأنه ترك الصوم لعجزه فلم يجب فدية كما لو تركه لمرض اتصل به الموت وللشافعي قولان كالمذهبين ولنا الآية، قال ابن عباس في تفسيرها نزلت رخصة للشيخ الكبير ولأن الأداء صوم واجب فجاز أن يسقط إلى الكفارة كالقضاء، وأما المريض فإن كان لا يرجى برؤه فهو كمسئلتنا، وإن كان يرجى برؤه فإنما لم يجب عليه الإطعام لأن ذلك يؤدي الى أن يجب على الميت ابتداءا بخلاف مسئلتنا فإن وجوب الإطعام يستند إلى حال الحياة والشيخ الهم له ذمة صحيحة، فإن كان عاجزاً عن الإطعام فلا شئ عليه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، والمريض الذي لا يرجى برؤه حكمه حكم الشيخ فيما ذكرنا، وذكر السامري أنها تبقى في ذمته ولا تسقط كسائر الديون، وكذلك قال فيما يجب على الحامل والمرضع إذا أفرطتا خوفاً على ولديهما أنه لا يسقط الإطعام عنهما بالعجز عنه لأنه في معناه (فصل) قال أحمد رحمه الله فيمن به شهوة الجماع غالبة لا يملك نفسه ويخاف أن تنشق أنثياه " يطعم " أباح له الفطر لأنه يخاف على نفسه فهو كالمريض، ومن يخاف على نفسه الهلاك لعطش أو نحوه أوجب الإطعام بدلاً من الصيام، وهذا محمول من كلامة على من لا يرجو إمكان القضاء، فإن رجي ذلك فلا فديه عليه، والواجب انتظار القضاء وفعله إذا قدر عليه لقوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) وإنما يصار إلى الفدية عند اليأس من القضاء، فإن أطعم مع إياسه ثم قدر على القضاء احتمل أن لا يلزمه لأن ذمته قد برئت بأداء الفدية الواجبة عليه فلم تعد الى الشغل كالمعضوب إذا أقام من يحج عنه ثم عوفي، واحتمل أن يلزمه القضاء لان الاطعام بدل إياس، وقد بينا ذهاب الإياس فأشبه من اعتدت بالشهور عند اليأس من الحيض فيما إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه ثم حاضت (مسألة) (والمريض إذا خاف الضرر والمسافر استحب لهما الفطر، فإن صاما أجزاهما) أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة، والأصل فيه قول الله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) والمريض المبيح للفطر هو الذي يزيد بالصوم أو يخشى تباطؤ برئه.
قيل لأحمد متى يفطر المريض؟ قال إذا لم يستطع.
قيل مثل الحمى؟ قال وأي مرض أشد
من الحمى.
وحكي عن بعض السلف أنه أباح بكل مرض حتى من وجع الأصبع والضرس لعموم الآية ولأن المسافر يباح له الفطر من غير حاجة إليه فكذلك المريض ولنا أنه شاهد للشهر لا يؤذيه الصوم فلزمه كالصحيح، والآية مخصوصة في المسافر والمريض

(3/16)


جميعاً بدليل أن المسافر لا يباح له الفطر في السفر القصير، والفرق بين المسافر والمريض أن السفر اعتبرت فيه المظنة وهو السفر الطويل حيث لم يمكن اعتبار الحكمة بنفسها، فإن قليل المشقة لا يبيح وكثيرها لا ضابط له في نفسه فاعتبرت بمظنتها وهو السفر الطويل فدار الحكم مع المظنة وجوداً وعدماً والمرض لا ضابط له فإن الأمراض تختلف منها ما يضر صاحبه الصوم ومنها ما لا أثر للصوم فيه كوجع الضرس وجرح في الاصبع والدمل والجرب وأشباه ذلك فلم يصلح المرض ضابطاً وأمكن اعتبار الحكمة وهو ما يخاف منه الضرر فوجب اعتباره بذلك، إذا ثبت هذا فإن تحمل المريض وصام مع هذا فقد فعل مكروها لما يتضمنه من الأضرار بنفسه وتركه تخفيف الله وقبول رخصته، ويصح صومه ويجزئه لأنه عزيمة أبيح تركها رخصة، فإذا تحمله أجزأه كالمريض الذي يباح له ترك الجمعة إذا حضرها (فصل) والصحيح الذي يخشى المرض بالصيام كالمريض الذي يخاف زيادة المرض في إباحة الفطر لأن المريض إنما أبيح له الفطر خوفاً مما يتجدد بصيامه من زيادة المرض وتطاوله والخوف من تجدد المرض في معناه.
قال أحمد فيمن به شهوة غالبة للجماع يخاف أن تنشق أنثياه فله الفطر، وقال في الجارية تصوم إذا حاضت فإن جهدها الصوم فلتفطر ولتقض يعني إذا حاضت وهي صغيره قال القاضي هذا إذا كانت تخاف المرض بالصيام يباح لها وإلا فلا (فصل) ومن أبيح له الفطر لشدة شبقه إن أمكنه استدفاع الشهوة بغير الجماع كالاستمناء بيده أو يد امرأته أو جاريته لم يجز له الجماع لأنه أفطر للضرورة فلم يبح له الزيادة على ما تندفع به الضرورة كأكل الميتة عند الضرورة (1) فإن جامع فعليه الكفارة، وكذلك إن أمكنه دفعها بما لا يفسد صوم غيره كوطئ زوجته، أو أمته الصغيرة أو الكتابية، أو المباشرة للكبيرة المسلمة دون الفرج أو الاستمناء بيدها أو بيده لم يبح له إفساد صوم غيره لأن الضرورة إذا اندفعت لم يبح ما وراءها كالشبع
من الميتة إذا اندفعت الضرورة بسد الرمق، وإن لم تندفع الضرورة إلا بإفساد صوم غيره أبيح ذلك لأنه مما تدعو الضرورة إليه فأبيح كفطره وكالحامل والمرضع يفطران خوفاً على ولديهما، فإن كان له امرأتان حائض وطاهر صائمة ودعته الضرورة إلى وطئ إحداهما احتمل وجهين (أحدهما) وطئ الصائمة أولى لأن الله تعالى نص على النهي عن وطئ الحائض في كتابه (والثاني) يتخير لأن وطئ الصائمة يفسد صومها فتتعارض المفسدتان ويتساويان (فصل) وحكم المسافر حكم المريض في إباحة الفطر وكراهية الصوم واجزائه إذا فعل، وإباحة الفطر للمسافر ثابتة بالنص والإجماع وأكثر أهل العلم على أنه ان صام أجزأه، وروي عن أبي هريرة أنه لا يصح صوم المسافر، قال أحمد: عمر وأبو هريرة يأمرانه بالإعادة وروى الزهري عن أبي سلمة عن أبيه عبد الرحمن بن عوف أنه قال: الصائم في السفر كالمفطر

(3/17)


في الحضر وهو قول بعض أهل الظاهر لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس من البر الصوم في السفر " متفق عليه، ولأنه عليه السلام أفطر في السفر فلما بلغه أن قوماً صاموا قال " أولئك العصاة " وروى ابن ماجة بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الصائم في رمضان في السفر كالمفطر في الحضر " وعامة أهل العلم على خلاف هذا القول.
قال ابن عبد البر هذا قول يروى عن عبد الرحمن بن عوف هجره الفقهاء كلهم والسنة ترده، وحجتهم ما روى حمزة عن عمرو الأسلمي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام قال " إن شئت فصم وإن شئت فأفطر " متفق عليه، وفي لفظ رواه النسائي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أجد قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ قال " هي رخصة فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه " وقال أنس كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، متفق عليه، وأحاديثهم محمولة على تفضيل الفطر على الصيام (فصل) والفطر في السفر أفضل وهو مذهب ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي والاوزاعي، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي الصوم أفضل لمن قوي عليه، يروي ذلك عن أنس
وعثمان بن أبي العاص لما روى سلمة بن المحبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من كانت له حمولة تأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه " رواه أبو داود، ولأن من خير بين الصوم والفطر كان الصوم أفضل كالتطوع، وقال عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة أفضل الأمرين أيسرهما لقول الله تعالى " يريد الله بكم اليسر " ولما روى أبودواد عن حمزة بن عمرو قال: قلت يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه وأسافر عليه وأكريه وإنه ربما صادفني هذا الشهر يعني رمضان وأنا أجد القوة وأنا شاب وأجدني أن أصوم يا رسول الله أهون علي من أن أوخر فيكون ديناً علي أفأصوم يارسول الله أعظم لأجري أو أفطر؟ قال " أي ذلك شئت يا حمزة " ولنا ما تقدم من الأخبار في الفصل الذي قبله، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " خيركم الذي يفطر في السفر ويقصر " ولأن فيه خروجاً من الخلاف فكان أفضل كالقصر وقياسهم ينتفض بالمريض وبصوم الأيام المكروه صومها (فصل) وإنما يباح الفطر في السفر الطويل الذي يبيح القصر وقد ذكرنا ذلك فيما مضى في الصلاة ثم لا يخلو المسافر من ثلاث أحوال (أحدها) أن يدخل عليه شهر رمضان في السفر فلا خلاف في إباحة الفطر له فيما نعلم (الثاني) أن يسافر في أثناء الشهر ليلاً فله الفطر في صبيحة الليلة التي يخرج فيها وما بعدها في قول عامة أهل العلم، وقال عبيدة السلماني وأبو مجاز وسويد بن غفلة: لا يفطر من سافر بعد دخول

(3/18)


الشهر لقوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وهذا شاهد ولنا قوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) وروى ابن عباس قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في شهر رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس متفق عليه، ولأنه مسافر فأبيح له الفطر كما لو سافر قبل الشهر والآية محمولة على من شهد الشهر كله وهذا لم يشهده كله (1) (الثالث) أن يسافر في اثناء يوم من رمضان وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله
(مسألة) (ولا يجوز أن يصوما في رمضان عن غيره) لا يجوز للمريض ولا المسافر سفراً طويلاً أن يصوم في رمضان عن نذر ولا قضاء ولا غيرهما لأن الفطر أبيح رخصة وتخفيفا، فإذا لم يرد التخفيف عن نفسه لزمه أن يأتي بالأصل، فإن نوى صوماً غير رمضان لم يصح صومه عن رمضان ولا عما نواه في الصحيح من المذهب وهو قول أكثر العلماء.
وقال أبو حنيفة في المسافر: يقع ما نواه إذا كان واجباً لأنه زمن أبيح له فطره فكان له صومه عن واجب عليه كغير شهر رمضان ولنا أنه أبيح له الفطر للعذر فلم يجز أن يصومه عن غير رمضان كالمريض وبهذا ينتقض ما ذكروه وينتقض أيضاً بصوم التطوع، قال صالح قيل لأبي من صام شهر رمضان وهو ينوي به تطوعاً يجزئه؟ فقال أو يفعل هذا مسلم؟ (فصل) ومن نوى الصوم في سفره فله الفطر واختلف قول الشافعي فيه فقال مرة لا يجوز له الفطر وقال مرة إن صح حديث الكديد لم ار به بأساً، قال مالك إن أفطر فعليه القضاء والكفارة ولنا حديث ابن عباس وهو صحيح متفق عليه، وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه فقيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون فأفطر بعضهم وصام بعضهم فبلغه أن ناساً صاموا فقال " أولئك العصاة " (2) رواه مسلم وهذا نص صريح لا يعرج على ما خالفه (مسألة) (وإن نوى الحاضر صوم يوم ثم سافر في أثنائه فله الفطر وعنه لا يباح) اذا سافر في اثناء يوم من رمضان فهل له فطر ذلك اليوم فيه روايتان أصحهما جواز الفطر وهو قول عمرو بن شرحبيل والشعبي واسحاق وداود وابن المنذر (والثانية) لا يباح له فطر ذلك اليوم وهو قول مكحول والزهري ويحيى الانصاري ومالك والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي لأن الصوم عبادة تختلف بالحضر والسفر فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة

(3/19)


ولنا ماروى عبيد بن جبير قال ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع ثم قرب غداه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة ثم قال: اقترب، قلت ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ رواه أبو داود، ولأنه أحد الأمرين المنصوص عليهما في إباحة الفطر فإذا وجد في اثناء النهار أباحه كالمرض، وقياسهم على الصلاة لا يصح فإن الصوم لا يفارق الصلاة لأن الصلاة يلزم اتمامها بنيتها بخلاف الصوم.
إذا ثبت هذا فإنه لا يباح له الفطر حتى يخلف البيوت وراء ظهره ويخرج من بين بنيانها، وقال الحسن يفطر في بيته إن شاء يوم يريد الخروج، وروي نحوه عن عطاء قال ابن عبد البر قول الحسن شاذ، وقد روي عنه خلافه ووجهه ماروى محمد بن كعب قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً وقد رحلت له راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل فقلت له سنة؟ فقال سنة، ثم ركب.
رواه الترمذي وقال حديث حسن ولنا قوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وهذا شاهد ولا يوصف بكونه مسافراً حتى يخرج من البلد ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين ولذلك لا يقصر الصلاة، فأما أنس فيحتمل أنه كان برز من البلد خارجاً منه فأتاه محمد بن كعب في ذلك المنزل (مسألة) (والحامل والمرضع إذا خافتا الضرر على أنفسهما أفطرتا وقضتا وإن خافتا على ولديدهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكيناً) وجملة ذلك أن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما إذا صامتا فلهما الفطر وعليهما القضاء لا غير لا نعلم فيه خلافا لانهما يمنزلة المريض الخائف على نفسه وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء وإطعام مسكين لكل يوم، روى ذلك عن ابن عمر وهو المشهور من مذهب الشافعي وقال الليث الكفارة عن المرضع دون الحامل وهو إحدى الروايتين عن مالك لأن المرضع يمكنها أن تسترضع لولدها بخلاف الحامل ولأن الحمل متصل بالحامل والخوف عليه كالخوف عليه بعض أعضائها وقال الحسن وعطاء والزهري وسعيد بن جبير والنخعي وأبو حنيفة لا كفارة عليهما لما روى أنس بن مالك رجل من بني كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن
الحامل والمرضع الصوم أو الصيام " والله لقد قالهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما أو كليهما رواه النسائي والترمذي (1) وقال حديث حسن ولم يأمر بكفارة ولأنه فطر أبيح لعذر فلم يجب به كفارة كالفطر للمرض ولنا قول الله تعالى (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) وهما داخلتان في عموم الآية قال ابن عباس كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا أو يطعما مكان كل يوم مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا رواه أبو داود، وروي ذلك

(3/20)


عن ابن عمر ولا مخالف لهما في الصحابة ولأنه فطر بسبب نفس عاجزة من طريق الخلقة فوجبت به الكفارة كالشيخ الهم وخبرهم لم يتعرض للكفارة فكانت موقوفة على الدليل كالقضاء فإن الحديث لم يتعرض له والمريض أخف حالاً من هاتين لأنه يفطر بسبب نفسه، إذا ثبت هذا فإن الواجب في طعام المسكين مد بر أو نصف صاع شعير والخلاف فيه كالخلاف في اطعام المساكين في كفارة الجماع على ما يذكر في موضعه (فصل) ويجب عليهما القضاء مع الإطعام وقال ابن عمر وابن عباس لا قضاء عليهما لأن الآية تناولتهما وليس فيها إلا الإطعام ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله وضع عن الحامل والمرضع الصوم " ولنا أنهما يطيقان فلزمهما كالحائض والنفساء والآية أوجبت الإطعام ولم تتعرض للقضاء وأخذناه من دليل آخر والمراد بوضع الصوم وضعه في مدة عذرهما كما جاء في حديث عمرو أبن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله وضع عن المسافر الصوم " ولا يشبهان الشيخ الهم لأنه عاجز عن القضاء وهما يقدران عليه قال أحمد أذهب الى حديث أبي هريرة يعني ولا أقول بقول ابن عمر وابن عباس في منع القضاء (فصل) فإن عجزتا عن الإطعام سقط عنهما بالعجز ككفارة الوطئ بل السقوط ههنا أولى لوجود العذر ذكره شيخنا في الكافي وقيل لا يسقط وقد ذكرناه، وقال صاحب المحرر يسقط ههنا ولا يسقط عن الكبير العاجز والمريض الذي لا يرجى برؤه لأنها بدل عن نفس الصوم وتلك جبران لنقص الصوم والله أعلم (مسألة) (ومن نوى قبل الفجر ثم جن أو أغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه وإن
أفاق جزءاً منه صح صومه) متى نوى الصوم قبل الفجر ثم جن أو أغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة يصح لأن النية قد صحت وزوال الاستشعار بعد ذلك لا يمنع صحة الصوم كالنوم ولنا أن الصوم هو الإمساك مع النية قال النبي صلى الله عليه وسلم " يقول تعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه من أجلي " فأضاف ترك الطعام والشراب إليه والمجنون والمغمى عليه لا يضاف الإمساك إليه فلم يجزئه ولأن النية أحد ركني الصوم فلم تجزي وحدها كالإمساك وحده أما النوم فإنه عادة ولا يزيل الإحساس بالكلية ومتى نبه انتبه (فصل) ومتى أفاق المغمى عليه في جزء من النهار صح صومه سواء كان في أوله أو في آخره وقال الشافعي في أحد قوليه تعتبر الإفاقة في أول النهار ليحصل حكم النية في أوله ولنا أن الافاقة حصلت جزأ من النهار فأجزأ كما لو وجدت في أوله وما ذكروه لا يصح فإن النية قد حصلت من الليل فيستغني عن ذكرها في النهار كما لو نام أو غفل عن الصوم ولو كانت النية

(3/21)


إنما تحصل بالإفاقة في أول النهار لما صح منه صوم الفرض بالإفاقة لانه لا يجزي بنية من النهار وحكم المجنون حكم المغمى عليه في ذلك وقال الشافعي إذا وجد الجنون في جزء من النهار أفسد الصوم لأنه معنى يمنع وجوب الصوم فأفسده وجوده في بعضه كالحيض ولنا أنه زوال عقل في بعض النهار فلم يمنع صحة الصوم كالإغماء ويفارق الحيض فإن الحيض لا يمنع الوجوب وإنما يمنع الصحة ويحرم فعل الصوم ويتعلق به وجوب الغسل وتحريم الصلاة والقراءة واللبث في المسجد والوطئ فلا يصح القياس عليه (مسألة) (وإن نام جميع النهار صح صومه) لا نعلم فيه خلافا لأنه عادة ولا يزيل الإحساس بالكلية (مسألة) (ويلزم المغمى عليه القضاء دون الجنون) لا نعلم خلافاً في وجوب القضاء على المغمى عليه لأن مدته لا تتطاول غالباً ولا تثبت الولاية على صاحبه فلم يلزم به التكليف كالنوم فأما الجنون فلا يلزمه قضاء ما مضى وبه قال أبو ثور والشافعي في
الجديد وقال مالك يقضي وإن مضى عليه سنون وعن أحمد مثله وهو قول الشافعي في القديم لأنه معنى يزيل العقل فلم يمنع وجوب الصوم كالإغماء، وقال أبو حنيفة إن جن جميع الشهر فلا قضاء عليه وإن أفاق في أثنائه قضى ما مضى لأن الجنون لا ينافي الصوم بدليل أنه لوجن في أثناء الصوم لم يفسد فإذا وجد في بعض الشهر وجب القضاء كالإغماء ولأنه أدرك جزءاً من رمضان وهو عاقل فلزمه صيامه كما لو أفاق في جزء من اليوم ولنا أنه معنى يزيل التكليف فلم يجب القضاء في زمانه كالصغر والكفر وتخص أبا حنيفة بأنه معنى لو وجد في جميع الشهر أسقط القضاء فإذا وجد في بعضه أسقطه كالصبى والكفر فأما إذا أفاق في بعض اليوم فلنا فيه منع وإن سلمناه فلأنه قد أدرك بعض وقت العبادة فلزمته كالصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم في بعض النهار وكما لو أردك بعض وقت الصلاة (فصل) قال ولا يصح صوم واجب إلا أن ينويه من الليل معيناً وعنه لا يجب تعيين النية لرمضان لا يصح صوم إلا بنية بالإجماع فرضاً كان أو تطوعا لانه عبادة محضة فافتقر إلى النية كالصلاة فإن كان فرضاً كصيام رمضان في أدائه أو قضائه والنذر والكفارة اشترط أن ينويه من الليل وهذا مذهب مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يجزي صيام رمضان وكل صوم متعين بنيته من النهار لأن النبي صلى الله عليه وسلم

(3/22)


أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة " من كان أصبح صائماً فليتم صومه ومن كان أصبح مفطراً فليتم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم " متفق عليه وكان صوماً واجباً متعيناً ولأنه غير ثابت في الذمة فهو كالتطوع ولنا ما روى ابن جريج وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له " وفي لفظ ابن حزم من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وروى الدارقطني بإسناده عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له " وقال إسناده كلهم ثقات وقال حديث حفصة رفعه عبد الله بن أبي بكر عن الزهري
وهو من الثقات ولأنه صوم فرض فافتقر إلى النية من الليل كالقضاء فأما صوم عاشوراء فلم يثبت وجوبه فان معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر " ممتفق عليه، وإنما سمى الإمساك صياماً تجوزا كما روي البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أن أذن في الناس أن من كان أكل فليصم بقية يومه وإمساك بقية اليوم بعد الأكل ليس بصيام شرعي فسماه صياماً تجوزاً ثم لو ثبت أنه صيام فالفرق

(3/23)


بين ذلك وبين رمضان أن وجوب الصيام تجدد في أثناء النهار فأجزأته النية حين تجدد الوجوب كمن كان صائماً تطوعاً فنذر في أثناء النهار صوم بقية يومه فإنه تجزئه نيته عند نذره بخلاف ما إذا كان النذر متقدماً والفرق بين التطوع والفرض من وجهين (أحدهما) أن التطوع يمكن الاتيان به في بعض النهار بشرط عدم المفطرات في أوله بدليل قوله عليه السلام في حديث عاشوراء " فليصم بقية يومه " فإذا نوى صوم التطوع من النهار كان صائماً بقية النهار دون أوله والفرض يجب في جميع النهار ولا يكون صائماً بغير نية (والثاني) أن التطوع سومح في نيته من الليل تكثيراً له فإنه قد يبدو له الصوم في النهار فاشتراط النية في الليل يمنع ذلك فسامح الشرع فيها كمسامحته في ترك الصلاة في صلاة التطوع بخلاف الفرض إذا ثبت هذا ففي أي جزء من الليل نوى أجزأه وسواء فعل بعد النية ما ينافي الصوم من الأكل والشرب والجماع أو لم يفعل واشترط بعض أصحاب الشافعي أن لا يأتي بعد النية بما ينافي الصوم واشترط بعضهم وجود النية في النصف الأخير من الليل كأذان الصبح والدفع من مزدلفة ولنا مفهوم قوله عليه السلام " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " من غير تفصيل ولأنه نوى من الليل فصح صومه كما نوى في النصف الأخير وكما لو لم يفعل ما ينافي الصوم ولأن تخصيص النية بالنصف الأخير يفضي الى تفويت الصوم لأنه وقت النوم وكثير من الناس لا ينتبه فيه ولا يذكر الصوم والشارع انما رخص في تقديم النية على ابتدائه لحرج اعتبارها عنده فلا يخصها بمحل لا تندفع

(3/24)


المشقة بتخصيصها به ولان تخصيصها بالنصف الأخير تحكم من غير دليل واعتبار الصوم بالأذان والدفع من مزدلفة لا يصح لأنهما يجوزان بعد الفجر فلا يفضي منعهما في النصف الأول إلى فواتهما بخلاف نية الصوم ولأن اختصاصهما بالنصف الأخير بمعنى تجويزهما فيه واشتراط النية بمعنى الإيجاب والتحتم وفوات الصوم بفواتها فيه وهذا فيه مشقة ومضرة بخلاف التجويز فأما إن فسخ النية مثل إن نوى الفطر بعد نية الصيام لم تجزئه تلك النية المفسوخة لأنها زالت حكما وحقيقة (فصل) وإن نوى من النهار صوم الغد لم يجزئه إلا أن يستصحب النية إلى جزء من الليل وقد روى ابن منصور عن أحمد من نوى الصوم عن قضاء رمضان بالنهار ولم ينو من الليل فلا بأس إلا أن يكون فسخ النية بعد ذلك فظاهر هذا حصول الأجزاء بنية النهار إلا أن القاضي قال هذا محمول على أنه استصحب النية إلى الليل وهذا صحيح لظاهر قوله عليه السلام " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " ولأنه لم ينو عند ابتداء العبادة ولا قريباً منها فلا يصح كما لو نوى من الليل صوم بعد الغد (فصل) وتعتبر النية لكل يوم وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وابن المنذر وعن أحمد أنه تجزئه نية واحدة لجميع الشهر إذا نوى صوم جميعه وهو مذهب مالك وإسحاق لإنه نوى في زمن يصلح جنسه لنية الصوم فجاز كما لو نوى كل يوم في ليلته

(3/25)


ولنا أنه صوم واجب فوجب أن ينوي كل يوم من ليلته كالقضاء ولأن هذه الأيام عبادات لا يفسد بعضها بفساد بعض ويتخللها ما ينافيها أشبهت القضاء وبهذا فارقت اليوم الأول وعلى قياس رمضان إذا نذر صوم شهر بعينه خرج فيه مثل ما ذكرنا في رمضان (فصل) ومعنى النية القصد وهو اعتقاد القلب فعل شئ وعزمه عليه من غير تردد فمتى خطر بقلبه في الليل أن غدا من رمضان وأنه صائم فيه فقد نوى وإن شك في أنه من رمضان ولم يكن له أصل يبني عليه مثل ليلة الثلاثين من شعبان ولم يحل دون مطلع الهلال غيم ولا قتر فعزم أن يصوم غداً من رمضان لم تصح النية ولم يجزئه صيام ذلك اليوم لأن النية قصد يتبع العلم وما لا يعلمه ولا دليل على وجوده لا يصح قصده وبهذا قال حماد وربيعة ومالك وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المنذر
وقال الثوري والاوزاعي يصح إذا نواه من الليل كاليوم الثاني وعن الشافعي كالمذهبين ولنا أنه لم يجزم النية بصومه من رمضان فلم يصح كما لو لم يعلم إلا بعد خروجه وكذلك إن بنى على قول المنجمين وأهل الحساب فوافق الصواب لم يصح صومه وإن كثرت اصابتهم لأنه ليس بدليل شرعي يجوز البناء عليه ولا العمل به فكان وجوده كعدمه قال النبي صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " وفي رواية " لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه " فأما ليلة الثلاثين

(3/26)


من رمضان فتصح نيته وإن احتمل أن يكون من شوال لأن الأصل بقاء رمضان ولما ذكرنا من الحديث فإن قال إن كان غداً من رمضان فأنا صائم، وإن كان من شوال فأنا مفطر، فقال ابن عقيل لا يصح صومه لأنه لم يجزم بنية الصوم والنية اعتقاد جازم، ويحتمل أن يصح لأن هذا شرط واقع والأصل بقاء رمضان (فصل) ويجب تعيين النية في كل صوم واجب فيعتقد أنه يصوم غداً من رمضان أو من قضائه أو من كفارته أو نذر نص عليه في رواية الأثرم فإنه قال يا أبا عبد الله أسير صائم في أرض الروم شهر رمضان ولا يعلم أنه رمضان فنوى التطوع قال لا يجزئه إلا بعزيمة أنه من رمضان، وبهذا قال مالك والشافعي، وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يجب تعيين النية لرمضان، قال المروذي روي عن أحمد أنه قال يكون يوم الشك يوم غيم إذا أجمعنا على أننا نصبح صياماً يجزينا من رمضان، وإن لم نعتقد أنه من رمضان؟ قال: نعم.
فقلت قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنية " أليس يريد أن ينوي أنه من رمضان؟ قال لا، إذا نوى من الليل أنه صائم أجزأه وحكى أبو حفص العكبري عن بعض أصحابنا أنه قال: ولو نوى أن يصوم تطوعاً ليلة الثلاثين من رمضان فوافق رمضان أجزأه.
قال القاضي وجدت هذا الكلام اختياراً لأبي القاسم ذكره في

(3/27)


شرحه، وقال أبو حفص لا يجزئه إلا أن يعتقد من الليل بلا شك ولا تلوم، فعلى القول الثاني لو نوى في رمضان الصوم مطلقاً أو نوى نفلاً وقع عن رمضان وصح صومه، وهذا قول أبي حنيفة إذا كان
مقيماً لأنه فرض مستحق في زمن بعينه فلا يجب تعيين النية له كطواف الزيارة ولنا أنه صوم واجب فوجب تعيين النية له كالقضاء، وطواف الزيارة عندنا كهذه المسألة في افتقاره إلى التعيين، فلو نوى طواف الوداع أو طوافاً مطلقاً لم يجزه عن طواف الزيارة، ثم الحج مخالف للصوم ولهذا ينعقد مطلقاً وينصرف إلى الفرض، ولو حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه وقع عن نفسه ولو نوى الإحرام بمثل ما أحرم به فلان صح وينعقد فاسداً بخلاف الصوم (مسألة) (ولا يحتاج إلى نية الفرضية، وقال ابن حامد يجب ذلك) إذا عين النية عن صوم رمضان أو قضائه أو نذره أو كفارة لم يحتج أن ينوي أنه فرض لان التعيين يجزئ عن نية الفرضية، وقال ابن حامد يجب ذلك، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الصلاة (مسألة) (ولو نوى إن كان غدا من رمضان فهو فرضي وإلا فهو نفل لم يجزئه على الرواية المشهورة لأنه لم يعين الصوم من رمضان جزماً وعنه يجزيه لأنه قد نوى الصوم ولو كان عليه صوم من سنة خمس فنوى أنه يصوم عن سنة ست أو نوى الصوم عن يوم الأحد وكان غيره أو ظن أن غداً الأحد فنواه وكان الاثنين صح صومه لأن نية الصوم لم تختل إنما أخطأ في الوقت (مسألة) (ومن نوى الإفطار أفطر)

(3/28)


إذا نوى الإفطار في صوم الفرض أفطر وفسد صومه هذا ظاهر المذهب وقول الشافعي وأبي ثور وقال أصحاب الرأي إن عاد فنوى قبل أن ينتصف النهار أجزأه بناء على أصلهم أن الصوم المعين يجزئ بنية من النهار، وحكي عن ابن حامد أن الصوم لا يفسد بذلك لأنها عبادة يلزم المضي في فاسدها فلم تفسد بنية الخروج منها كالحج ولنا أنها عبادة من شرطها النية ففسدت بنية الخروج منها كالصلاة ولأن اعتبار النية في جيمع أجزاء العبادة، لكن لما شق اعتبار حقيقتها اعتبر بقاء حكمها وهو أن لا ينوي قطعها، فإذا نواه زالت حقيقة وحكما ففسد الصوم لزوال شرطه، وما ذكره ابن حامد لا يطرد في غير رمضان ولا يصح القياس على الحج فإنه يصح بنية مطلقة وسبهمة وبالنية عن غيره إذا لم يكن حج عن نفسه فافترقا
(فصل) فأما صوم النفل فإن نوى الفطر ثم لم ينو الصوم بعد ذلك لم يصح صومه لأن النية انقطعت ولم توجد نية غيرها أشبه من لم ينو أصلاً، وإن عاد فنوى الصوم صح كما لو أصبح غير ناو للصوم لأن نية الفطر إنما أبطلت الفرض لقطعها النية المشترطة في جميع النهار حكما وخلو بعض أجزاء النهار عنها، والنفل بخلاف ذلك فلم يمنع صحة الصوم نية الفطر في زمن لا يشترط وجود نية الصوم فيه لأن نية الفطر لا تزيد على عدم النية في ذلك الوقت وعدمها لا يمنع صحة الصوم إذا نوى بعد ذلك فكذلك إذا نوى الفطر ثم نوى الصوم بعده، وقد روي عن أحمد أنه قال: إذا أصبح صائما ثم عزم على الفطر فلم يفطر حتى بدا له ثم قال لابل أتم صومي من الواجب لم يجزئه حتى يكون عازماً على الصوم يومه كله، ولو كان تطوعاً كان أسهل وظاهر هذا موافق لما ذكرناه.
وقد دل على صحته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل أهله هل من غداء؟ فإن قالوا لا.
قال: " إني إذا صائم " (فصل) فإن نوى أنه سيفطر ساعة أخرى فقال ابن عقيل هو كنية الفطر في وقته وإن تردد في الفطر فعلى وجهين كما ذكرنا في الصلاة، وإن نوى إنني إن وجدت طعاماً أفطرت وإلا أتممت صومي خرج فيه وجهان (أحدهما) يفطر لأنه لم يبق جازماً بنية الصوم ولذلك لا يصح ابتداء النية بمثل هذا (الثاني) لا يفطر لأنه لم ينو الفطر نية صحيحة، لأن النية لا يصح تعليقها على شرط، ولذلك لا ينعقد الصوم بمثل هذه النية (فصل) ومن ارتد عن الإسلام أفطر بغير خلاف نعلمه إذا ارتد في أثناء الصوم فعليه قضاء ذلك اليوم إذا عاد إلى الإسلام سواء أسلم في أثناء اليوم أو بعد انقضائه، وسواء كانت ردته باعتقاد ما يكفر به أو شكه أو النطق بكلمة الكفر مستهزئاً أو غير مستهزئ لأنها عبادة من شرطها النية أشبهت الصلاة والحج (مسألة) (ويصح صوم النفل بنية من النهار قبل الزوال وبعده، وقال القاضي لا يجزي بعد الزوال)

(3/29)


يصح صوم التطوع بنية من النهار وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وروي ذلك عن أبي الدرداء وأبي طلحة وابن مسعود وحذيفة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والنخعي، وقال مالك وداود
لا يجوز إلا بنية من الليل لقوله عليه السلام " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " ولأن الصلاة يتفق نية نفلها وفرضها فكذلك الصوم ولنا ماروت عائشة رضي الله عنها قال: دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال " هل عندكم شي؟ " قلنا لا.
قال " فاني إذا صائم " أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي ويدل عليه أيضاً حديث عاشوراء ولأن الصلاة يخفف نفلها عن فرضها في سقوط القيام وجوازها في السفر على الراحلة إلى غير القبلة فكذلك الصيام، وحديثهم نخصه بحديثنا ولو تعارضا قدم حديثنا لأنه أصح من حديثهم فإنه من رواية ابن لهيعة ويحيى بن أيوب.
قال الميموني سألت أحمد عنه فقال أخبرك ماله عندي ذاك الإسناد إلا أنه عن ابن عمر وحفصة اسنادان جيدان، والصلاة يتفق وقتها وقت النية لنفلها وفرضها لأن اشتراط النية في أول الصلاة لا يفضي إلى تقليلها بخلاف الصوم فإنه يعين له الصوم من النهار فعفي عنه كما جوزنا التنفل قاعداً لهذه العلة إذا ثبت ذلك فأي وقت من النهار نوى أجزأه، هذا ظاهر كلام أحمد والخرقي وهو ظاهر قول ابن مسعود ويروى عن سعيد ابن المسيب، واختار القاضي في المجرد أنه

(3/30)


لا تجزئه النية بعد الزوال وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من قولي الشافعي لأن معظم النهار مضى بغير نية بخلاف الناوي قبل الزوال فإنه قد أدرك معظم العبادة ولهذا تأثير في الأصول بدليل أن من أدرك الإمام في الركوع أدرك الركعة لإدراكه معظمها، ولو أدركه بعد الرفع لم يكن مدركاً لها، وكذلك من أدرك ركعة من الجمعة يكون مدركاً لها لأنها لا تزيد بالتشهد شيئا ولا يدركها بدون الركعة لذلك ولنا أنه نوى في جزء من النهار أشبه مالو نوى في أوله ولأن جميع الليل وقت النية الفرض فكذلك جميع النهار وقت لنية النفل ولأن صوم النفل إنما جوزناه بنية من النهار طلباً لتكثيره وهذا أبلغ في التكثير (فصل) وإنما يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية في المنصوص عن أحمد فإنه قال: من نوى في التطوع من النهار كتب له بقية يومه، وأذا أجمع من الليل كان له يومه، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وقال أبو الخطاب في الهداية يحكم بذلك من أول النهار وهو قول بعض
الشافعية لأن الصوم لا يتبعض في اليوم بدليل ما لو أكل في بعضه لم يجزه صيام باقيه، فإذا وجد في بعض اليوم دل على أنه صائم من أوله، ولا يمتنع الحكم بالصوم من غير نية حقيقية كما لو نسي الصوم بعد نيته أو غفل عنه، ولأنه لو أدرك بعض الركعة أو بعض الجماعة كان مدركاً لجميعها ولنا أن ما قبل النية لم ينو صيامه فلا يحصل له صيامه لقوله عليه السلام " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " ولأن الصوم عبادة محضة فلا يوجد بغير نية كسائر العبادات المحضة، ودعوى

(3/31)


أن الصوم لا يتبعض دعوى محل النزاع وإنما يشترط لصوم البعض أن لا توجد المفطرات في شئ من اليوم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عاشوراء " فليصم بقية يومه " وأما إذا نسي النية بعد وجودها فإنه يكون مستصحباً لحكمها بخلاف ما قبلها فإنها لم توجد حكماً ولا حقيقة، ولهذا لو نوى الفرض من الليل ونسيه في النهار صح صومه، ولو لم ينو من الليل لم يصح صومه.
وأما إدراك الركعة والجماعة فإنما معناه أنه لا يحتاج إلى قضاء ركعة وينوي أنه مأموم وليس هذا مستحيلا، إما أن يكون ما صلى

(3/32)


الإمام قبله من الركعات محسوباً له بحيث يجزئه عن فعله فكلا ولأن مدرك الركوع مدرك لجميع أركان الركعة لأن القيام وجد حين كبر وفعل سائر الأركان مع الإمام، وأما الصوم فإن النية شرط له

(3/33)


أو ركن فيه فلا يتصور وجوده بدون شرطه وركنه (فصل) وإنما يصوم الصوم بنية من النهار بشرط أن يكون طعم قبل النية ولا فعل ما يفطره

(3/34)


فإن فعل شيئاً من ذلك لم يجزه الصيام بغير خلاف نعلمه والله عزوجل أعلم (باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة) ومن أكل أو شرب أو استعط أو احتقن أو داوى الجائفة بما يصل إلى جوفه او كتحل بما يصل إلى حلقه أو داوى المأمومة أو قطر في أذنه ما يصل إلى دماغه أو أدخل في جوفه شيئاً من
أي موضع كان أو استقاء أو استمنى أو قبل أو لمس فأمنى أو أمذى أو كرر النظر فانزل أو حجم أو احتجم عامداً ذاكراً لصومه فسد صومه وإن كان مكرهاً أو ناسياً لم يفسد.

(3/35)


أجمع أهل العلم على الإفطار بالأكل والشرب لما يتغذى به، وقد دل عليه قوله تعالى (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) مدة إباحة الأكل والشرب إلى تبين الفجر ثم أمر بالصيام عنهما، وفي الحديث " لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي " فأما أكل ما لا يتغذى به فيحصل به الفطر في قول عامة أهل العلم، وقال الحسن بن صالح لا يفطر بما ليس بطعام ولا شراب وحكي عن أبي طلحة الأنصاري أنه كان يأكل البرد في الصوم ويقول ليس بطعام ولا شراب ولعل من يذهب إلى ذلك يحتج بأن الكتاب والسنة إنما حرما الأكل والشرب المعتاد فما عداهما يبقى على أصل الإباحة.

(3/36)


ولنا دلالة الكتاب والسنة على تحريم الأكل والشرب على العموم فيدخل فيه محل النزاع ولم يثبت عندنا ما نقل عن أبي طلحة فلا يعد خلافاً (فصل) ويفطر بكل ما أدخله إلى جوفه او مجوف في جسده كدماغه وحلقه ونحو ذلك مما ينفد إلى معدته إذا وصل باختياره وكان مما يمكن التحرز منه سواء وصل من الفم على العادة أو غيرها كالوجور واللدود أو من الأنف كالسعوط أو ما يدخل من الاذان إلى الدماغ أو ما يدخل من العين إلى الحلق كالكحل أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة أو ما يصل من مداواة الجائفة أو من دواء المأمومة، وكذلك أن جرح نفسه أو جرحه غيره بإذنه فوصل إلى جوفه سواء استقر في جوفه أو عاد فخرج منه لأنه واصل إلى الجوف باختياره فأشبه الأكل وبهذا كله قال الشافعي إلا في الكحل وقال مالك لا يفطر بالسعوط إلا أن ينزل الى حلقه ولا يفطر إذا داوى المأمومة والجائفة واختلف عنه

(3/37)


في الحقنة واحتج بأنه لم يصل إلى الحلق منه شئ أشبه ما لم يصل إلى الدماغ ولا الجوف ولنا أنه واصل إلى جوف الصائم باختياره فيفطره كالواصل إلى الحلق ولأن الدماغ جوف والواصل إليه يغذيه فيفطر كجوف البدن (فصل) فأما الكحل فإن وجد طعمه في حلقه أو علم وصوله إليه فطره وإلا لم يفطره نص عليه أحمد وقال ابن أبي موسى ان اكتحل بما يجد طعمه كالذرور والصبر والقطور افطر وإن اكتحل باليسير من الأثمد غير المطيب لم يفطر نص عليه أحمد وقال ابن عقيل أن كان الكحل حاداً فطره وإلا فلا ونحو ما ذكرناه قال أصحاب مالك عن ابن أبي ليلى وابن شبرمة أن الكحل يفطر الصائم، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يفطر لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اكتحل في رمضان وهو صائم ولأن العين ليست منفذاً فلم يفطر بالداخل منها كما لو دهن رأسه ولنا أنه أوصل إلى حلقه ما هو ممنوع من تناوله بفيه فأفطر به كما لو أوصله من أنفه وما رووه لم يصح، قال الترمذي لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في باب الكحل للصائم شئ ثم نحمله أنه اكتحل بما لا يصل، وقولهم ليست العين منفذاً لا يصح فإنه يوجد طعمه في الحلق ويكتحل بالأثمد فيتنخعه.
قال أحمد: حدثني انسان أنه اكتحل بالليل فتنخعه بالنهار ثم لا يعتبر في الواصل أن يكون من منفذ بدليل ما لو جرح نفسه جائفة فانه يفطر (مسألة) (أو استقاء أو استمنى) معنى استقاء استدعى القئ ويفطر به في قول عامة أهل العلم، قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على

(3/38)


إبطال صوم من استقاء عامداً، وحكي عن ابن مسعود وابن عباس أن القئ لا يفطر، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثلاث لا يفطرن الصائم الحجامة والقئ والاحتلام " ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من استقاء عمداً فليقض " قال الترمذي هذا حديث حسن، ورواه أبو داود وحديثهم غير محفوظ يرويه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف قال الترمذي (فصل) وقليل القئ وكثيره سواء في ظاهر المذهب وفيه رواية ثانية لا يفطر إلا بملء الفم لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ولكن دسعة تملأ الفم ولأن اليسير لا ينقض الوضوء فلا يفطر كالبلغم، وفيه رواية
ثالثة: أنه نصف الفم لأنه ينقض الوضوء فأفطر به كالكثير، والأولى أولى لظاهر الحديث الذي رويناه، ولأن سائر المفطرات لا فرق بين قليلها وكثيرها كذلك، هذا وحديث الرواية الثانية لا نعرف له أصلا ولا فرق بين كون القئ طعاماً، أو مراراً، أو بلغماً، أو دماً، أو غيره لأن لجميع داخل في الحديث (فصل) ولو استمنى بيده فقد فعل محرما ولا يفسد صومه بمجرده، فإن أنزل فسد صومه لأنه في معنى القبلة في إثارة الشهوة، وكذلك إن مذى به في قياس المذهب قياساً على القبلة، فأما إن أنزل لغير شهوة كالذي يخرج منه المني أو المذي لمرض فلا شئ عليه لأنه خارج لغير شهوة أشبه البول، ولانه يخرج من غير اختيار منه ولا بسبب أشبه الاحتلام، ولو جامع بالليل فأنزل بعدما أصبح لم يفطر لأنه لم يتسبب إليه في النهار فأشبه مالو أكل شيئاً في الليل فذرعه القئ في النهار (مسألة) (قال أو قبل أو لمس فأمنى أو مذي) إذا قبل أو لمس لم يخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن لا ينزل ولا يمذي فلا يفسد صومه بذلك بغير خلاف علمناه لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم وكان أملككم لإربه، رواه البخاري وروي بتحريك الراء وسكونها، قال الخطابي معنى ذلك حاجة النفس ووطرها وقيل بالتسكين العضو وبالتحريك الحاجة، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: هششت فقبلت وأنا صائم فقلت يارسول الله صنعت اليوم أمراً عظيماً قبلت وأنا صائم، قال " أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم " قلت لا بأس به، قال " فمه " رواه أبو داود، شبه القبلة بالمضمضة من حيث أنها من مقدمات الشهوة فإن المضمضة إذا لم يكن معها نزول الماء لم تفطر وإن كان معها نزوله أفطر إلا أن أحمد ضعف هذا الحديث وقال: هذا ريح ليس من هذا شئ (الحال الثاني) أن يمني فيفطر بغير خلاف نعلمه لما ذكرناه من إيماء الخبرين ولانه انزل بمباشرة أشبه الإنزال بجماع دون الفرج (الحال الثالث) أن يمذي فيفطر وهو قول مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يفطر وروي ذلك عن الحسن والشعبي والاوزاعي لأنه خارج لا يوجب الغسل أشبه البول

(3/39)


ولنا أنه خارج تخلله الشهوة خرج بالمباشرة أشبه المني وبهذا فارق البول (مسألة) (أو كرر النظر فأنزل) لتكرار النظر ثلاثة أحوال أيضاً (أحدها) أن لا يقترن به إنزال فلا يفسد الصوم بغير اختلاف (الثاني) أن ينزل المني به فيفسد الصوم، وبه قال عطاء والحسن ومالك وقال جابر بن زيد والثوري وأبو حنيفة والشافعي وابن المنذر لا يفسد لأنه عن غير مباشرة أشبه الإنزال بالفكر ولنا أنه إنزال بفعل يتلذذ به يمكن التحرز منه أشبه الإنزال باللمس.
والفكر لا يمكن التحرز منه (1) بخلاف تكرار النظر (الثالث) مذى بذلك فظاهر كلام أحمد أنه لا يفطر به لأنه لا نص في الفطر به ولا يصح قياسه على إنزال المني لمخالفته إباه في الأحكام فيبقى على الأصل وفيه قول آخر إنه يفطر لأنه خارج بسبب الشهوة أشبه المني ولأن السبب الضعيف إذا تكرر تنزل بمنزلة السبب القوي فإن من أعاد الضرب بعصا صغيره فقتل وجب عليه القصاص كالضرب بالعصا الكبيرة والأول ظاهر المذهب (فصل) فأما إن صرف نظره لم يفسد صومه أنزل أو لم ينزل، وقال مالك يفسد صومه إن أنزل كما لو كرره ولنا أن النظرة الأولى لا يمكن التحرز منها فلا يفسد الصوم ما أفضت إليه كالفكرة وعليه يخرج التكرار (مسألة) (قال أو حجم أو احتجم) الحجامة يفطر بعها الحاجم والمحجوم وبه قال إسحاق وابن المنذر ومحمد بن اسحق وابن خريمة وعطاء وعبد الرحمن بن مهدي وكان مسروق والحسن وابن سيرين لا يرون للصائم أن يحتجم وكان جماعة من الصحابة يحتجمون ليلاً في الصوم منهم ابن عمر وابن عباس وأبو موسى وأنس بن مالك ورخص فيها أبو سعيد الخدري وابن مسعود وأم سلمة والحسين بن علي وعروة وسعيد بن جبير وقال مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي يجوز للصائم أن يحتجم ولا يفطر لما روى البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم ولأنه دم خارج من البدن أشبه الفصد ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أفطر الحاجم والمحجوم " رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر نفساً قال أحمد
حديث شداد بن أوس من أصح حديث يروى في هذا الباب واسناد حديث رافع إسناد جيد وقال حديث ثوبان وشداد صحيحان وقال علي بن المديني أصح شئ في هذا الباب حديث شداد وثوبان.
وحديثهم منسوخ بحديثنا بدليل ما روى ابن عباس أنه قال احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقاحة بقرن وناب وهو محرم صائم فوجد لذلك ضعفاً شديدا فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتجم الصائم رواه أبو إسحاق الجوزجاني في المترجم وعن الحكم قال احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فضعف ثم كرهت الحجامة

(3/40)


للصائم وكان ابن عباس وهو راوي حديثهم يعد الحجام والمحاجم فإذا غابت الشمس احتجم كذلك رواه الجوزجاني وهذا يدل على انه علم نسخ الحديث الذي رواه (1) ويحتمل أنه احتجم فافطر كما روي عنه عليه السلام أنه قاء فافطر فإن قيل فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الحاجم والمحتجم يغتابان فقال ذلك قلنا لم تثبت صحة هذه الرواية مع أن اللفظ أعم من السبب فيجب الأخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب على أننا قد ذكرنا الحديث الذي فيه بيان علة النهي عن الحجامة وهي الخوف من الضعف فيبطل التعليل بما سواه أو تكون كل واحدة منهما علة مستقلة على أن الغيبة لا تفطر الصائم إجماعاً فلا يصح حمل الحديث عليها قال أحمد لأن يكون الحديث على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم " أفطر الحاجم والمحجوم " أحب إلينا من أن يكون من الغيبة لأن من أراد أن يمتنع من الحجامة امتنع وهذا أشد على الناس من يسلم من الغيبة؟ فإن قيل إذا كانت علة النهي ضعف الصائم بها فلا يقتضي ذلك الفطر إنما يقتضي الكراهة ومعنى قوله " افطر الحاجم والمحجوم " أي قربا من الفطر قلنا هذا تأويل يحتاج إلى دليل مع أنه لا يصح في حق الحاجم لأنه لا يضعفه (فصل) وإنما يفطر بما ذكرنا إذا فعله عامداً ذاكراً لصومه وإن فعل شيئاً من ذلك ناسياً لم يفسد صومه روي عن علي رضي الله عنه لا شئ على من أكل ناسياً وهو قول أبي هريرة وابن عمر وعطاء وطاوس وابن أبي ذئب والاوزاعي والثوري وأبي حنيفة واسحاق وقال ربيعة ومالك يفطر لان مالا يصح الصوم مع شئ من جنسه عمداً لا يجوز مع سهوه كالجماع وترك النية ولنا ما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أكل أحدكم أو شرب ناسياً فليتم صومه
فإنما أطعمه الله وسقاه " متفق عليه وفي لفظ " من أكل أو شرب ناسياً فإنما هو رزق رزقه الله " ولأنها عبادة ذات تحليل وتحريم فكان في محظوراتها ما يختلف عمده وسهوه كالصلاة والحج فأما النية فليس تركها فعلاً ولأنها شرط والشروط لا تسقط بالسهو بخلاف المبطلات والجماع حكمه أغلظ ويمكن التحرز عنه (مسألة) (فإن فكر فأنزل لم يفسد صومه) وحكي عن أبي حفص البرمكي أنه يفسد واختاره ابن عقيل لأن الفكرة تستحضر فتدخل تحت الاختيار لأن الله تعالى مدح الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفكر في ذات الله ولو كانت غير مقدور عليها لم يتعلق بها ذلك كالاحتلام فأما أن خطر بقلبه صورة ذلك الفعل فأنزل لم يفسد صومه كالاحتلام ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به " ولأنه لا نص في الفطر به ولا إجماع، ولا يمكن قياسه على تكرار النظر لأنه دونه في استدعاء الشهوة وافضائه

(3/41)


الى الإنزال ويخالفه في التحريم إذا تعلق، إذا ثبت ذلك في الأكل والشرب ثبت في سائر ما ذكرنا قياساً عليه، ولنا في الجماع منع (فصل) وإن فعل شيئاً من ذلك وهو نائم لم يفسد صومه لأنه لا قصد له ولا علم بالصوم فهو أعذر من الناسي فإن فعله جاهلاً بتحريمه فذكر أبو الخطاب أنه لا يفطره كالناسي (قال شيخنا) ولم أره عن غيره، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " أفطر الحاجم والمحجوم " في حق الرجلين اللذين رآهما يحجم أحدهما صاحبه من جهلهما بتحريمه يدل على أن الجهل لا يعذر به، ولأنه نوع جهل فلم يمنع الفطر كالجهل بالوقت في حق من أكل يظن أن الفجر لم يطلع وتبين بخلافه (فصل) فإن فعله مكرهاً بالوعيد فقال ابن عقيل قال أصحابنا لا يفطر به لقول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " قال ويحتمل عندي أن يفطر لأنه فعل المفطر لدفع الضرر عن نفسه أشبه المريض ومن شرب لدفع العطش، فأما الملجأ فلا يفطر لأنه خرج بذلك عن حيز الفعل ولذلك لا يضاف إليه، ولذلك افترقا فيما اذا أكره على قتل آدمي فقتله أو القى عليه
(مسألة) (وإن طار إلى حلقه ذباب، أو غبار، أو قطر في إحليله، أو فكر فأنزل، أو احتلم، أو ذرعه القئ، أو أصبح وفي فيه طعام فلفظه، أو اغتسل، أو تمضمض، أو استنشق فدخل الماء حلقه لم يفسد صومه، وإن زاد على الثلاث أو بالغ فيهما فعلى وجهين) إذا دخل حلقه غبار من غير قصد كغبار الطريق ونخل الدقيق، أو الذبابة تدخل حلقه أو يرش عليه الماء فيدخل مسامعه أو حلقه، أو يلقى في ماء فيصل إلى جوفه، او يدخل حلقه بغير اختياره، أو يداوي جائفته أو مأمومته بغير اختياره، أو يحجم كرهاً، أو تقبله امرأة بغير اختياره فينزل وما أشبه ذلك لا يفسد صومه، لا نعلم فيه خلافاً لأنه لا يمكن التحرز منه أشبه مالو دخل حلقه شئ وهو نائم، وكذلك الاحتلام لأنه من غير اختيار منه فأشبه ما ذكرنا، وفي معنى ذلك إذا ذرعه القئ لأنه بغير اختياره كالاحتلام بأجنبية أو الكراهة إن كان في زوجة فبقي على الأصل (فصل) فإن قطر في إحليله دهناً لم يفطر به سواء وصل إلى المثانة أم لا، وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي يفطر لأنه أوصل الدهن إلى جوف في جسده فأفطر كما لو داوى الجائفة، ولأن المني يخرج من الذكر فيفطره وما أفطر بالخارج منه جاز أن يفطر بالداخل منه كالفم ولنا أنه ليس بين باطن الذكر والجوف منفذ، وإنما يخرج البول رشحاً فالذي يتركه فيه لا يصل إلى الجوف فلا يفطره كالذي يتركه في فيه ولا يبلعه (مسألة) (قال أو أصبح وفي فيه طعام فلفظه) إذا أصبح في فيه الطعام لم يخل من حالين (أحدهما) أن يكون يسيراً لا يمكنه لفظه فيزدرده

(3/42)


فإنه لا يفطر به لأنه لا يمكن التحرز منه أشبه الريق، قال إبن المنذر أجمع على ذلك أهل العلم (الثاني) أن يكون كثيراً يمكنه لفظه فإن لفظه فلا شئ عليه وكذلك إن دخل حلقه بغير اختياره لمشقة الاحتراز منه وإن ابتلعه عامداً فسد صومه وهو قول الأكثرين وقال أبو حنيفة لا يفسد لأنه لابد أن يبقى بين أسنانه شئ مما يأكله فلم يفطر بابتلاعه كالريق ولنا أنه بلع طعاماً يمكنه لفظه باختياره ذاكراً لصومه فأفطر به كما لو ابتلع ابتداء من خارج
ويخالف ما يجري به الريق فانه لا يمكنه لفظه فإن قيل يمكنه أن يبصق قلنا لا يخرج جميع الريق ببصاقه وإن منع من ابتلاع ريقه كله لم يمكنه

(3/43)


(مسألة) قال (أو اغتسل أو تمضمض أو استنشق فدخل الماء حلقه لم يفسد صومه) المضمضة والاستنشاق لا يفطر بغير خلاف سواء كان في طهارة أو غيرها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إن عمر سأله عن القبلة للصائم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم " قلت لا بأس قال " فمه " ولأن الفم في حكم الظاهر فلا يبطل الصوم بالواصل إليه كالأنف والعين فإن تمضمض أو استنشق في الطهارة فسبق الماء إلى حلقه من غير قصد ولا إسراف فلا شئ عليه، وهذا قول الأوزاعي وإسحاق والشافعي في أحد قوليه وروي ذلك عن ابن عباس وقال مالك وأبو حنيفة يفطر لأنه أوصل الماء إلى حلقه ذاكراً لصومه فأفطر كما لو تعمد شربه ولنا أنه وصل إلى حلقه من غير قصد ولا إسراف أشبه مالو طارت ذبابه إلى حلقه وبهذا فارق المتعمد (فصل) فأما إن زاد على الثلاث وبالغ في الاستنشاق والمضمضة فقد فعل مكروهاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة " وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً " فإن دخل الماء حلقه فقال أحمد يعجبني أن يعيد الصوم وفيه وجهان أحدهما يفطر لأنه فعل مكروهاً تعرض به إلى إيصال الماء إلى حلقه أشبه من أنزل بالمباشرة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المبالغة حفظاً للصوم فدل على أنه يفطر به ولأنه وصل بفعل منهي عنه أشبه العمد والثاني لا يفطره لأنه وصل من غير قصد أشبه غبار الدقيق إذا دخل حلقه وقت نخله فأما المضمضة لغير طهارة فإن كانت لحاجة كغسل فمه عند الحاجة إليه ونحوه فحكمه حكم المضمضة للطهارة

(3/44)


وإن كان عبثاً أو تمضمض من أجل العطش كره وسئل أحمد عن الصائم يعطش فيمضمض ثم يمجه قال يرش على صدره أحب إلي فإن فعل فوصل الماء إلى حلقه أو ترك الماء في فيه عابثاً أو للتبرد فالحكم فيه كالحكم في الزائد على الثلاث لأنه مكروه
(فصل) ولا بأس أن يصب الماء على رأسه من الحر والعطش لما روي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال " لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر " رواه أبو داود (فصل) ولا بأس أن يغتسل الصائم فان عائشة وأم سلمة قالتا: نشهد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان ليصبح جنباً من غير احتلام ثم يغتسل ثم يصوم متفق عليه وروى أبو بكر باسناده أن ابن عباس دخل الحمام وهو صائم هو وأصحاب له في شهر رمضان فأما الغوص في الماء فقال أحمد في الصائم يغتمس في الماء إذا لم يخف أن يدخل في مسامعه وكره الحسن والشعبي أن ينغمس في الماء خوفاً أن يدخل في مسامعه فإن دخل إلى مسامعه في الغسل المشروع من غير قصد ولا إسراف لم يفطر كالمضمضة في الوضوء وإن غاص في الماء أو أسرف أو كان عابثاً فحكمه حكم الداخل إلى الحلق من المبالغة والزيادة على الثلاث على ما ذكرنا من الخلاف

(3/45)


(مسألة) (وإن أكل شاكاً في طلوع الفجر فلا قضاء عليه) إذا أكل وهو يشك في طلوع الفجر ولم يتبين له الحال فلا قضاء عليه وله الأكل حتى يتيقن طلوع الفجر نص عليه أحمد وهو قول ابن عباس وعطاء والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وروي معنى ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم وقال مالك يجب القضاء كما لو أكل شاكاً في غروب الشمس ولنا قول الله تعالى (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)

(3/46)


مد الأكل إلى غاية التبين وقد يكون شاكاً قبل التبين فلو لزمه القضاء لحرم عليه الأكل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " وكان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له أصبحت أصبحت ولأن الأصل بقاء الليل فيكون زمن الشك منه ما لم يعلم يقين زواله بخلاف غروب الشمس فإن الأصل بقاء النهار فبني عليه (مسألة) (وإن أكل شاكاً في غروب الشمس فعليه القضاء)

(3/47)


إذا لم يتبين لأن الأصل بقاء النهار فإن كان حين الأكل ظاناً أن الشمس قد غربت ثم شك بعد الأكل ولم يتبين فلا قضاء عليه لأنه لم يوجد يقين أزال ذلك الظن الذي بنى عليه فأشبه مالو صلى بالاجتهاد ثم شك في الإصابة بعد صلاته (مسألة) (ومن أكل معتقداً أنه ليل فبان نهاراً فعليه القضاء) وذلك أن يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب أو أن الفجر لم يطلع وقد طلع فيجب عليه القضاء

(3/48)


هذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن عروة ومجاهد والحسن واسحاق لا قضاء عليهم لما روي زيد بن وهب قال كنت جالساً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في زمن عمر بن الخطاب فأتينا بعساس فيها شراب من بيت حفصة فشربنا ونحن نرى أنه من الليل ثم انكشف السحاب فإذا الشمس طالعة قال فجعل الناس يقولون نقضي يوماً مكانه فقال عمر والله لا نقضيه ما تجانفنا لإثم ولأنه لم يقصد الأكل في الصوم فلم يلزمه القضاء كالناسي

(3/49)


ولنا أنه أكل مختاراً ذاكراً للصوم فأفطر كما لو أكل يوم الشك ولأنه جهل وقت الصيام فلم يعذر به كالجهل بأول رمضان ولأنه يمكن التحرز منه فأشبه أكل العامد وفارق الناسي فإنه لا يمكن التحرز منه.
وأما الخبر فرواه الأثرم أن عمر قال من أكل فليقض يوماً مكانه رواه مالك في الموطأ أن عمر قال الخطب يسير يعني خفة القضاء وروى هشام بن عروة عن فاطمة امرأته عن أسماء قالت أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم غيم ثم طلعت الشمس قيل لهشام أمروا بالقضاء قال لا بد من قضاء رواه البخاري

(3/50)


(فصل) ويجوز للجنب في الليل أن يؤخر الغسل حتى يصبح ويتم صومه وهو قول علي وابن مسعود وزيد وأبي الدرداء وأبي ذر وابن عمر وابن عباس وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم وهو قول مالك والشافعي في أهل الحجاز والثوري وأبي حنيفة في أهل العراق والاوزاعي في أهل الشام
والليث في أهل مصر واسحاق وأبي عبيد وأهل الظاهر وكان أبو هريرة يقول لاصوم له ويروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع عنه قال سعيد بن المسيب رجع أبو هريرة عن فتياه وحكي عن الحسن

(3/51)


وسالم بن عبد الله يتم صومه ويقضي وعن النخعي يقضي في الفرض دون التطوع وعن عروة وطاوس أن علم بجنابته في رمضان فلم يغتسل حتى أصبح فهو مفطر وإن لم يعلم فهو صائم وحجتهم حديث أبي هريرة ولنا ماروى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال ذهبت أنا وأبي حتى دخلنا على عائشة فقالت أشهد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان ليصبح جنباً من جماع من غير احتلام ثم يصومه ثم دخلنا على أم سلمة فقال مثل ذلك ثم أتينا أبا هريرة فأخبرناه بذلك فقال هما أعلم بذلك إنما

(3/52)


حدثنيه الفضل بن العباس متفق عليه قال الخطابي أحسن ما سمعت في خبر أبي هريرة أنه منسوخ لأن الجماع كان محرماً على الصائم بعد النوم فلما أباح الله سبحانه الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم وروت عائشة أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم إني أصبح جنباً وأنا أريد الصيام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأنا أصبح جنباً وأنا أريد الصيام " فقال له الرجل يا رسول الله إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " إني لأرجو اأن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما اتقي " رواه مسلم ومالك في الموطأ (فصل) وحكم المرأة إذا انقطع حيضها من الليل وأخرت الغسل حتى أصبحت حكم الجنب يصح صومها إذا نوت من الليل بعد انقطاعه وقال الاوزاعي والحسن بن حي وعبد الملك بن الماجشون تقضي فرطت في الاغتسال أو لم تفرط لأن حدث الحيض يمنع الصوم بخلاف الجنابة

(3/53)


ولنا أنه حدث يوجب الغسل فتأخير الغسل منه إلى أن يصبح لا يمنع صحة الصوم كالجنابة وما ذكروه لا يصح فان من طهرت من الحيض غير الحائض وانما عليها حدث موجب للغسل فهي كالجنب فإن الجماع الموجب للغسل لو وجد في الصوم أفسده كالحيض وبقاء وجوب الغسل منه كبقاء وجوب
الغسل من الحيض والله أعلم (فصل) وإذا جامع في نهار رمضان في الفرج قبلا كان أو دبراً فعليه القضاء والكفارة عامداً كان أو ساهياً وعنه لا كفارة عليه مع الإكراه والنسيان هذا المسألة تشتمل على خمسة أمور (أحدها) أن من جامع في نهار رمضان في الفرج فأنزل أو لم ينزل أو دون الفرج فأنزل عامداً فسد صومه بغير خلاف علمناه وقد دلت الأخبار الصحيحة على ذلك (الثاني) أنه يجب عليه القضا في قول أكثر أهل العلم وقال الشافعي في أحد قوليه لا يجب القضاء على من لزمته الكفارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعرابي بالقضاء وحكي عن الشافعي أنه قال إن كفر بالصيام فلا قضاء عليه لأنه صام شهرين متتابعين ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمجامع " وصم يوماً مكانه " رواه أبو داود بإسناده وابن ماجة والاثرم ولأنه

(3/54)


أفسد يوما من رمضان فلزمه قضاؤه كما لو أفسده بالأكل ولأنه صوم واجب أفسده بالجماع فوجب عليه القضاء كغير رمضان (فصل) فإن جامع في غير صوم عامداً أفسده ويجب عليه القضاء إن كان واجباً بغير خلاف علمناه وإن كان نفلاً ففيه اختلاف نذكره إن شاء الله تعالى (الثالث) أن من جامع في الفرج في رمضان عامداً تجب عليه الكفارة أنزل أو لم ينزل في قول عامة أهل العلم وعن الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير انه لا كفارة عليه لأنها عبادة لا تجب الكفارة بإفساد قضائها فلم تجب في إفساد أدائها كالصلاة ولنا ما روى عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله هلكت قال " مالك؟ " قال وقعت على امرأتي وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل تجد رقبة تعتقها " قال لا قال " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " قال لا قال " فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ " قال لا قال فمكث النبي صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر والعرق المكتل فقال " أين السائل؟ " فقال أنا فقال " خذ هذا فتصدق به " فقال الرجل
على أفقر مني يارسول الله فوالله ما بين لابيتها أهل بيت أفقر من بيتي فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال " أطعمه أهلك " متفق عليه ولا يجوز اعتبار الأداء في ذلك بالقضاء لأن الأداء يتعلق بزمن مخصوص يتعين به والقضاء محله الذمة والصلاة لا يدخل في جبرانها المال بخلاف مسئلتنا

(3/55)


(الرابع) أن من جامع ناسياً فحكمه حكم العامد في ظاهر المذهب نص عليه أحمد وهو قول عطاء وابن الماجشون وروى أبو داود عن أحمد أنه توقف عن الجواب وقال أجبن أن أقول فيه شيئا وفيه رواية ثانية أنه يجب عليه القضاء دون الكفارة وهذا قول مالك والاوزاعي والليث لأن الكفارة لرفع الأثم وهو محطوط عن الناسي وفيه رواية ثالثة نقلها عنه ابن القاسم أنه قال كل أمر غلب عليه الصائم فليس عليه قضاء ولا غيره وهذا يدل على إسقاط القضاء والكفارة عن المكره والناسي وهو قول الحسن ومجاهد والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لأنه معنى حرمه الصوم فإذا وجد منه مكرهاً أو ناسياً لم يفسده كالأكل ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي قال وقعت على امرأتي بالكفارة ولم يستفصله ولو افترق الحال لسأل واستفصل لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولأنه يجب التعليل بما تناوله لفظ السائل وهو الوقوع على المرأة في الصوم ولأن السؤال كالمعاد في الجواب فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال من وقع على أهله في نهار رمضان فليعتق رقبه.
فإن قيل ففي الحديث ما يدل على العمد وهو قوله هلكت

(3/56)


وروى احترقت قلنا يجوز أن يخبر عن هلكته لما يعتقده في الجماع مع النسيان وخوفه من غير ذلك ولأن الصوم عبادة تحرم الوطئ فاستوى فيها عمده وسهوه كالحج ولأن إفساد الصوم ووجود الكفارة حكمان يتعلقان بالجماع لا تسقطهما الشبهة فاستوى فيهما العمد والسهو كسائر أحكامه (الخامس) أنه لا فرق بين كون الفرج قبلا أو دبراً من ذكر أو أنثى وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة في أشهر الروايتين لا كفارة بالوطئ في الدبر لأنه لا يحصل به الإحلال ولا الإحصان فلا يوجب الكفارة كالوطئ دون دون الفرج
ولنا أنه أفسد صوم رمضان بجماع في الفرج فأوجب الكفارة كالوطئ في القبل وأما الوطئ دون الفرج قلنا فيه منع وإن سلمنا فلان الجماع دون الفرج لا يفسد الصوم بمجرده بخلاف الوطئ في الدبر (مسألة) (ولا يلزم المرأة كفارة مع العذر وهل يلزمها مع عدمه على روايتين) حكم الوطئ في رمضان في حق المرأة كحكمه في حق الرجل في إفساد الصوم ووجوب القضاء بغير خلاف نعلمه في المذهب لأنه نوع من المفطرات فاستوى فيه الرجل والمرأة كالأكل ولا يجب على المرأة كفارة مع العذر لما نذكره وهل يجب عليها الكفارة مع عدم العذر فيه روايتان إحداهما تجب عليها اختاره أبو بكر وهو قول مالك وأبي حنيفة وأبي ثور وابن المنذر لأنها

(3/57)


هتك صوم رمضان بالجماع فوجبت عليها الكفارة كالرجل (والثانية) لا كفارة عليها قال أبو داود سئل أحمد عمن أتى أهله في رمضان أعليها كفارة قال ما سمعنا أن على المرأة كفارة وهذا قول الحسن وللشافعي قولان كالروايتين ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الواطئ في رمضان أن يعتق رقبة ولم يأمر في المرأة بشئ مع علمه بوجود ذلك منها ولأنه حق مال يتعلق بالوطئ من بين جنسه فكان على الرجل المهر (مسألة) (قال وكل أمر غلب عليه الصائم فليس عليه قضاء ولا كفارة) هذه الرواية نقلها عنه ابن القاسم وهي تدل على إسقاط القضاء والكفارة مع الإكراه والنسيان وكذلك قال أبو الخطاب وقد ذكرنا حكم الناسي فأما حكم الإكراه فإن أكرهت المرأة على الجماع فلا كفارة عليها رواية واحدة وعليها القضاء في ظاهر المذهب قال مهنا سألت أحمد عن امرأة غصبها رجل نفسها فجامعها أعليها القضاء؟ قال نعم قلت وعليها الكفارة؟ قال لا وهذا قول الحسن والثوري وأصحاب الرأي وعلى قياس ذلك النائمة وقال مالك في النائمة عليها القضاء بلا كفارة والمكرهة عليها القضاء والكفارة وقال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر إن كان الإكراه بوعيد حتى فعلت كقولنا وإن كان إلجاء أو كانت نائمة لم تفطر وهذا مقتضى قول أحمد في هذه الرواية التي رواها ابن القاسم لأنها لم يوجد منها فعل فلم تفطر كما لو صب في حلقها ماء بغير اختيارها ووجه الأول أنه جماع في الفرج

(3/58)


فأفسد كما لو أكرهت بالوعيد ولأنه عبادة يفسدها الوطئ ففسدت به على كل حال كالصلاة والحج (فصل) فإن جامعت المرأة ناسية فقال أبو الخطاب حكم النسيان حكم الإكراه يوجب القضاء دون الكفارة قياساً على الرجل في أن الجماع يفطره مع النسيان، ويحتمل أن لا يلزمها القضاء لأنه مفسد لا يوجب الكفارة أشبه الأكل (فصل) فإن أكره الرجل فجامع فسد صومه على الصحيح لأنه إذا أفسد صوم المرأة فالرجل أولى، فأما الكفارة فقال القاضي تجب عليه لأن الاكراه على الوطئ لا يمكن لأنه لا يطأ حتى ينتشر ولا ينتشر إلا عن شهوة فهو كغير المكره، وقال أبو الخطاب فيه روايتان (إحداهما) لا كفارة عليه وهو مذهب الشافعي لأن الكفارة إما عقوبة أو ماحية للذنب، والمكره غير آثم ولا مذنب، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (والرواية الثانية) عليه الكفارة لما ذكرنا، فأما إن كان نائماً فانتشر فاستدخلته امرأته أو غلبته على نفسه في حال يقظته، فقال ابن عقيل لا قضاء عليه ولا كفارة وهو ظاهر قول أحمد في رواية ابن القاسم ومذهب الشافعي لأنه معنى حرمه الصوم حصل بغير اختياره فلم يفطر به كما لو طار إلى حلقه ذبابة، وظاهر كلام أحمد أن عليه القضاء وقد ذكرناه لأن الصوم عبادة يفسدها الجماع فاستوى فيه حالة الاختيار والإكراه كالحج، ولا يصح قياس الجماع على غيره في عدم الإفساد لتأكده بإيجاب الكفارة وإفساد الحج من بين سائر محظوراته والله أعلم (فصل) فإن تساحقت امرأتان فسد صومهما إن انزلتا، فإن أنزلت إحداهما فسد صومها وحدها دون الأخرى، وهل يكون حكمهما حكم المجامع دون الفرج إذا أنزل أو لا يلزمهما كفارة بحال فيه وجهان مبنيان على أن الجماع من المرأة هل يوجب الكفارة على روايتين، والصحيح أنه لا كفارة

(3/59)


عليهما لأن ذلك ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص عليه فيبقى على الأصل، فإن أنزل المجبوب بالمساحقة فحكمه حكم المجامع دون الفرج إذا أنزل والله أعلم
(مسألة) (وإن جامع فيما دون الفرج فأنزل أو وطئ بهيمة في الفرج أفطر وفي الكفارة وجهان) إذا جامع فيما دون الفرج عامداً فأنزل فسد صومه بغير خلاف علمناه وهل تجب عليه الكفارة فيه عن احمد روايتان (إحداهما) تجب وبه قال مالك وعطاء والحسن وابن المبارك وإسحاق اختارها الخرقي والقاضي لأنه أفطر بجماع فوجبت به الكفارة كالوطئ في الفرج (والثانية) لا كفارة عليه وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه فطر بغير جماع تام أشبه القبلة ولأنه لا نص فيه ولا إجماع ولا هو في معنى المنصوص لأن الجماع في الفرج أبلغ بدليل تعلق الكفارة به من غير إنزال، ويجب به الحد ويتعلق به أثنى عشر حكما فلا يصح القياس عليه ولأن العلة في الأصل الجماع بدون الانزال والجماع هنا بدون إنزال غير موجب بالإجماع فلا يصح الاعتبار به وهذه أصح إن شاء الله تعالى (فصل) فإن قبل أو لمس فأنزل فسد صومه، وفي الكفارة روايتان أصحهما أنها لا تجب نقلها عنه الأثرم وأبو طالب واختارها الخرقي وهو قول الشافعي وأبي حنيفة لانه أنزال بغير وطئ أشبه الإنزال بتكرار النظر، ولا يصح قياسه على الوطئ دون الفرج لأن الاستمتاع بالوطئ فيما دون الفرج أقوى وأبلغ من القبلة لكونه وطأ في الجملة (والثانية) عليه الكفارة نقلها حنبل لأنه إنزال عن مباشرة أشبه الانزال بالوطئ دون الفرج، ولا فرق بين كون الموطوءة زوجة أو أجنبية صغيرة او كبيرة لأنه إذا وجب بوطئ الزوجة فبوطئ الأجنبية أولى (فصل) فأما الوطئ في فرج البهيمة فذكر القاضي أنه موجب للكفارة، وذكر أبو بكر ذلك عن أحمد نقلها عنه ابن منصور لأنه وطئ في فرج موجب للغسل مفسد للصوم أشبه وطئ الآدمية وفيه وجه آخر أنه لا يوجب الكفارة ذكره أبو الخطاب لأنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص فإنه مخالف لوطئ الآدمية في إيجاب الحد على إحدى الروايتين وفي كثير من أحكامه (مسألة) (وإن جامع في يوم رأى الهلال في ليلته وردت شهادته فعليه القضاء والكفارة وهو

(3/60)


قول الشافعي، وقال أبو حنيفة لا تجب لأنها عقوبة فلم تجب بفعل مختلف فيه كالحد) ولنا أنه أفطر يوما من رمضان بجماع فوجبت عليه الكفارة كما لو قبلت شهادته، ولا نسلم أن
الكفارة عقوبة ثم قياسهم ينتقض بوجوب الكفارة بالجماع في السفر القصير مع وقوع الخلاف فيه (مسألة) (وإن جامع في يومين ولم يكفر فهل يلزمه كفارة أو كفارتان على وجهين) إذا جامع مرتين ولم يكفر عن الأول فان كان في يوم واحد أجزأته كفارة واحدة بغير خلاف وإن كان في يومين ففيه وجهان (أحدهما) تجرئه كفارة واحدة وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار أبي بكر، وإليه ذهب الزهري والاوزاعي وأصحاب الراي لأنها جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها فيجب أن تتداخل كالحد (والثاني) يلزمه كفارتان اختاره القاضي وهو قول مالك والليث والشافعي وابن المنذر، وروي عن عطاء ومكحول لأن كل يوم عبادة مفردة، فإذا وجبت الكفارة بإفساده لم يتداخل كرمضانين وكالحجتين (مسألة) (وإن جامع ثم كفر ثم جامع في يومه فعليه كفارة ثانية نص عليه، وكذلك كل من لزمه الإمساك إذا جامع) إذا كفر ثم جامع ثانية فان كان في يومين فعليه كفارة ثانية بغير خلاف نعلمه، وإن كان في يوم واحد فكذلك نص عليه أحمد، وهكذا يخرج في كل من لزمه الإمساك وحرم عليه الجماع في نهار رمضان، وإن لم يكن صائماً كمن لم يعلم برؤية الهلال إلا بعد طلوع الفجر أو نسي النية أو أكل عامداً ثم جامع، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لا شئ عليه بذلك الجماع لأنه لم يصادف الصوم ولم يمنع صحته فلم يوجب شيئاً كالجماع في الليل ولنا أنها عبادة تجب الكفارة بالجماع فيها فتكررت بتكرر الوطئ إذا كان بعد التكفير كالحج ولأنه وطئ محرم لحرمة رمضان فأوجب الكفارة كالأول وفارق الوطئ في الليل لأنه مباح، فإن قيل الوطئ الأول تضمن هتك الصوم وهو مؤثر في الإيجاب فلا يصح قياس غيره عليه قلنا هو ملغى بمن

(3/61)


طلع عليه الفجر وهو مجامع فاستدام فإنه يلزمه الكفارة مع أنه لم يهتك الصوم (فصل) وإذا بلغ الصبي أو أسلم كافر، أو أفاق مجنون، أو طهرت حائض، أو نفساء، أو قدم
المسافر مفطراً في نهار رمضان فقد ذكرنا في وجوب الإمساك عليهم روايتين، فإن قلنا بوجوب الإمساك وجبت الكفارة على المجامع، وإن قلنا لا يجب فلا شئ عليهم لأن الفطر مباح لهم أشبه المجامع بالليل، فأما إن نوى الصوم في مرضه، أو سفره، أو صغره ثم زال عذره في أثناء النهار لم يجز له الفطر رواية واحدة وعليه الكفارة إن وطئ، وقال بعض الشافعية في المسافر خاصة وجهان (أحدهما) له الفطر لأنه أبيح له الفطر ظاهراً وباطناً في أول النهار فكانت له استدامته كما لو قدم مفطراً ولا يصح ذلك لأن سبب الرخصة زال قبل الترخص فلم يكن له ذلك كما لو قدمت به السفينة قبل قصر الصلاة وكالصبي يبلغ والمريض يبرأ وهذا ينقض ما ذكروه وما قاسوا عليه ممنوع، ولو علم الصبي أنه يبلغ في اثناء النهار بالسن، أو علم المسافر أنه يقدم لم يلزمهما الصيام قبل زوال عذرهما لأن سبب الرخصة موجود فثبت حكمها كما لو لم يعلما ذلك (مسألة) (وإن جامع وهو صحيح ثم مرض، أو جن، أو سافر لم تسقط عنه) إذا جامع في أول النهار ثم مرض، أو جن، أو كانت امرأة فحاضت أو نفست في أثناء النهار لم تسقط الكفارة، وبه قال مالك والليث وابن الماجشون واسحاق، وقال أصحاب الرأي لا كفارة عليهم، وللشافعي قولان كالمذهبين واحتجوا بأن صوم هذا اليوم خرج عن كونه مستحقاً فلم يجب بالوطئ فيه كفارة كصوم المسافر أو كما لو تبين أنه من شوال ولنا أنه معنى طرأ بعد وجوب الكفارة فلم يسقطها كالسفر، ولأنه أفسد صوماً واجباً من رمضان بجماع تام فاستقرت الكفارة عليه كما لو لم يطرأ العذر والوطئ في صوم المسافر ممنوع، وإن سلم فالوطئ

(3/62)


ثم مباح لأنه في صوم أبيح الفطر فيه بخلاف مسئلتنا، وكذا إذا تبين أنه من شوال لأنه تبين أن الوطئ لم يصادف رمضان، والموجب إنما هو الوطئ المفسد لصوم رمضان، فأما إن جامع في نهار رمضان ثم سافر في أثناء النهار لم تسقط الكفارة لأنه يفضي إلى أن كل من جامع أمكنه إسقاط الكفارة عنه بالسفر في النهار وهو غير جائز (فصل) إذا طلع الفجر وهو مجامع فاستدام الجماع فعليه القضاء والكفارة، وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: يجب القضاء دون الكفارة لأن وطأه لم يصادف صوماً صحيحاً فلم يوجب
الكفارة كما لو ترك النية وجامع ولنا أنه ترك صوم رمضان بجماع أثم به لحرمة الصوم فوجبت به الكفارة كما لو وطئ بعد طلوع الفجر وما قاسوا عليه ممنوع، فأما إن نزع في الحال مع أول طلوع الفجر فقال ابن حامد والقاضي عليه الكفارة لأن النزع جماع يلتذ به أشبه الإيلاج، وقال أبو حفص لا قضاء عليه ولا كفارة وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه ترك الجماع فلا يتعلق به ما يتعلق بالجماع كما لو حلف لا يدخل دارا وهو فيها فخرج منها وقال مالك يبطل صومه ولا كفارة عليه لأنه لا يقدر علي أكثر مما فعله من ترك الجماع أشبه المكره (قال شيخنا) وهذه المسألة تقرب من الاستحالة إذ لا يكاد يعلم أول طلوع الفجر على وجه يتعقبه النزع من غير أن يكون قبله شئ من الجماع فلا حاجة الى فرضها والكلام فيها (فصل) ومن جامع يظن أن الفجر لم يطلع فتبين أنه كان طلع فعليه القضاء والكفارة، وقال

(3/63)


بعض الشافعية لا كفارة عليه، ولو علم في أثناء الوطئ فاستدام ذلك فلا كفارة عليه أيضاً لأنه إذا لم يعلم لم يأثم أشبه الناسي، وإن علم فاستدام فقد حصل الذي أثم به في غير صوم ولنا حديث المجامع حيث أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة ولم يستفصل، ولأنه أفسد صوم رمضان بجماع تام فوجبت عليه الكفارة كما لو علم، ووطئ الناسي ممنوع ثم إنه لا يحصل به الفطر على الرواية الأخرى (مسألة) (وإن نوى الصوم في سفره ثم جامع فلا كفارة عليه وعنه عليه الكفارة) إذا نوى الصوم في سفره ثم أفطر بالجماع ففي الكفارة روايتان (إحداهما) تجب اختارها القاضي لأنه أفطر بجماع فلزمته الكفارة كالحاضر (والثانية) لا كفارة عليه اختارها شيخنا وهي الصحيحة وهو مذهب الشافعي لأنه صوم لا يجب المضي فيه فلم تجب الكفارة بالجماع فيه كالتطوع وفارق الحاضر الصحيح فانه يجب عليه المضي في الصوم، وإن كان مريضاً يباح له الفطر فهو كالمسافر قياساً عليه، ولأنه يفطر بنية الفطر فيقع الجماع بعد حصول الفطر أشبه مالو أكل ثم جامع، ومتى أفطر المسافر فله فعل جميع ما ينافي الصوم من الأكل والشرب والجماع وغيره لأن حرمتها بالصوم فيزول بزواله كمجئ الليل
(مسألة) (ولا تجب الكفارة بغير الجماع في نهار رمضان) إذا جامع من غير صوم رمضان لم تجب عليه الكفارة في قول جمهور العلماء وقال قتادة تجب على من وطئ في قضاء رمضان لأنه عبادة تجب الكفارة في آدائها فوجبت في قضائها كالحج ولنا أنه جامع في غير رمضان فلم يلزمه كفارة كما لو جامع في صيام الكفارة والقضاء يفارق الأداء لأنه متعين بزمان محترم فالجماع فيه هتك له بخلاف القضاء (فصل) ولا تجب الكفارة بإفساد الصوم بغير الجماع وعن أحمد في المحتجم إن كان عالماً بالنهي فعليه الكفارة وقال عطاء في المحتجم عليه الكفارة وقال مالك تجب الكفارة بكل ما كان هتكاً للصوم إلا الردة قياساً على الإفطار بالجماع وحكي عن عطاء والحسن والزهري والثوري والاوزاعي وإسحاق أن الفطر بالأكل والشرب يوجب ما يوجب الجماع وبه قال أبو حنيفة إلا أنه اعتبر ما يتغذى به أو يتداوى به فلو ابتلع حصاة أو نواة أو فستقة بقشرها فلا كفارة عليه واحتج بأنه أفطر بأعلى ما في الباب من جنسه فوجبت عليه الكفارة كالمجامع ولنا أنه أفطر بغير جماع فلم يوجب الكفارة كبلع الحصاة وكالردة عند مالك، ولأنه لا نص في إيجاب الكفارة بهذا ولا إجماع، ولا يصح قياسه على الجماع لأن الحاجة الى الزجر عنه أمس والحكمة

(3/64)


في التعدي به آكد، ولهذا يجب به الحد إذا كان محرماً، ويختص بإفساد الحج دون سائر محظوراته ويفسد صوم اثنين في الغالب دون غيره (مسألة) (والكفارة عتق رقبة، فان لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً) ظاهر المذهب أن كفارة الوطئ في رمضان مرتبة ككفارة الظهار يلزمه العتق، فإن عجز عنه انتقل إلى الصيام، فإن عجز انتقل إلى الإطعام المذكور وهذا قول أكثر العلماء منهم الثوري والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وعن أحمد رواية أخرى أنها علي التخيير بين هذه الثلاثة فبأيها كفر أجزأه وهي رواية مالك لما روى مالك وابن جريج عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره النبي صلى الله عليه وسلم إن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين
أو إطعام ستين مسكيناً وأو حرف تخيير، ولأنها تجب بالمخالفة فكانت على التخيير ككفارة اليمين وعن مالك رواية أخرى أنه قال: الذي نأخذ به في الذي يصيب أهله في شهر رمضان إطعام ستين مسكيناً وصيام ذلك اليوم، وليس التحرير والصيام من كفارة رمضان في شئ، وهذا القول مخالف للحديث الصحيح مع أنه ليس له أصل يعتمد عليه ولا شئ يستند إليه، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع، ووجه الرواية الأولى الحديث الصحيح روه معمر ويونس والاوزاعي والليث وموسى بن عقبة

(3/65)


وعبيد الله بن عمر وعراك بن مالك وغيرهم عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للواقع على أهله " هل تجد رقبة تعتقها " قال لا، قال " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " قال لا، قال " فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ " قال لا وذكر سائر الحديث وهذا لفظ الترتيب والأخذ به أولى من رواية مالك لأن أصحاب الزهري اتفقوا على روايته هكذا سوى مالك وابن جريج فيما علمنا، واحتمال الغلط فيهما أكثر من احتماله في سائر أصحابه ولأن الترتيب زيادة والأخذ بالزيادة متعين، ولأن حديثنا لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وحديثهم لفظ الراوي ويحتمل أنه رواه بأو لاعتقاده أن معنى اللفظين سواء ولأنها كفارة فيها صوم شهرين متتابعين فكانت مرتبة كالظهار والقتل (فصل) فعلى هذه الرواية إذا عدم الرقبة انتقل إلى الصوم المذكور ولا نعلم خلافاً في دخول الصوم في هذه الكفارة إلا قولاً شاذاً يخالف السنة الثابتة وقد ذكرناه، ولا خلاف بين من أوجبه أنه شهران متتابعان للخبر، فإن لم يشرع في الصيام حتى وجد الرقبة لزمه العتق لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل المواقع عما يقدر عليه حين أخبره بالتق ولم يسأله عما كان يقدر عليه حالة المواقعة وهي حالة الوجوب ولأنه وجد المبدل قبل التلبس بالبدل فلزمه كما لو وجده حال الوجوب، وإن شرع في الصوم قبل القدرة على الإعتاق ثم قدر عليه لم يلزمه الخروج إليه إلا أن يشاء أن يعتق فيجرئه ويكون قد فعل

(3/66)


الأولى، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة: يلزمه العتق لأنه قدر على الأصل قبل أداء فرضه بالبدل فبطل حكم البدل كالمتيمم يرى الماء
ولنا أنه شرع في الكفارة الواجبة عليه فأجزأته كما لو استمر العجز وفارق العتق التيمم لوجهين (أحدهما) أن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يستره فإذا وجد الماء ظهر حكمه، بخلاف الصوم فإنه يرفع حكم الجماع بالكلية (الثاني) أن الصيام تطول مدته فيشق إلزامه الجمع بينه وبين العتق بخلاف الوضوء والتيمم (فصل) (فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً) قال شيخنا رحمه الله ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في دخول الإطعام في كفارة الوطئ في رمضان في الجملة وهو مذكور في الخبر، ولأنه إطعام في كفارة فيه صوم شهرين متتابعين فكان ستين مسكيناً ككفارة الظهار، وقدر المطعم خمسة عشر صاعا من البر لكل مسكين مد وهو ربع الصاع أو ثلاثين صاعاً من التمر أو الشعير لكل مسكين نصف صاع، قال أبو حنيفة من البر لكل مسكين نصف صاع ومن غيره صاع لكل مسكين لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سلمة بن صخر " فأطعم وسقا من تمر " رواه أبو داود، وقال أبو هريرة يطعم مدا من أي الأنواع شاء، وبهذا قال عطاء والاوزاعي

(3/67)


والشافعي لما روى أبو هريرة في حديث المجامع أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بمكتل من تمر قدره خمسة عشر صاعا فقال " خذ هذا فأطعمه عنك " رواه أبو داود ولنا ما روى أحمد: حدثنا اسماعيل ثنا أيوب عن أبي زيد المدني قال جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مد بر " ولأن فدية الأذى

(3/68)


نصف صاع من التمر والشعير بلا خلاف فكذا هذا والمد من البر يقوم مقام نصف صاع من غيره بدليل هذا الحديث ولأنه قول ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وزيد ولا مخالف لهم من الصحابة وأما حديث سلمة بن صخر فقد اختلف فيه وحديث أصحاب الشافعي يجوز أن يكون الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم قاصراً عن الواجب فاجتزئ به لعجز المكفر عن ما سواه (مسألة) (فإن لم يجد سقطت عنه، وعنه لا نسقط وعنه أن الكفارة على التخيير فبأيها كفر أجزأه)
ظاهر المذهب أن المجامع في رمضان إذا عجز عن العتق والصيام والإطعام أن الكفارة تسقط عنه وهذا قول الأوزاعي وقال الزهري لابد من التكفير بدليل أن الأعرابي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بإعساره قبل أن يدفع إليه العرق ولم يسقطها عنه ولأنها كفارة واجبة فلم تسقط بالفجر عنها كسائر الكفارات وهذه الرواية الثانية عن أحمد وهو قياس أبي حنيفة والثوري وأبي ثور وعن الشافعي كالمذهبين ولنا أن الأعرابي لما دفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم التمر فأخبره بحاجته قال " أطعمه أهلك " ولم يأمره بكفارة أخرى قولهم إنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعجزه فلم يسقطها، قلنا قد أسقطها عنه بعد ذلك وهذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما القياس على سائر الكفارات فلا يصح لمخالفته النص والاعتبار بالعجز في حالة الوجوب وهو حالة الوطئ

(3/69)


باب ما يكره وما يستحب وحكم القضاء (مسألة) (ويكره للصائم أن يجمع ريقه فيبلعه وأن يبتلع النخامة وهل يفطر بهما على وجهين) لا يفطر ابتلاع الريق إذا لم يجمعه بغير خلاف نعلمه لأنه لا يمكن التحرز منه أشبه غبار الطريق ويكره للصائم جمع ريقه وابتلاعه لإمكان التحرز منه فإن جمعه ثم ابتلعه قصداً لم يفطره لأنه يصل إلى جوفه من معدته أشبه إذا لم يجمعه وفيه وجه آخر أنه يفطره لأنه أمكنه التحرز منه أشبه ما لو قصد ابتلاع غبار الطريق والأول أصح فإن الريق لا يفطر إذا لم يجمعه وإن قصد ابتلاعه فكذلك إذا جمعه بخلاف غبار الطريق فإن خرج ريقه إلى ثوبه أو بين أصابعه أو بين شفتيه ثم عاد فابتلعه أو بلع ريق غيره أفطر لأنه ابتلعه من غير فمه أشبه غير الريق فإن قيل فقد روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها رواه أبو داود قلنا قد روي عن أبي داود أنه قال هذا إسناد ليس بصحيح ويجوز أن يكون يقبل في الصوم ويمص لسانها في غيره ويجوز أن يمصه ثم لا يبتلعه ولأنه لم يتحقق انفصال ما على لسانها من البلل إلى فمه فأشبه ما لو ترك حصاة مبلولة في فيه أو لو تمضمض بماء ثم مجه ولو ترك في فمه حصاة أو درهماً فأخرجه وعليه بلة من الريق ثم أعاده في فيه نظرت فإن كان ما عليه من الريق

(3/70)


كثيراً فابتلعه أفطر وإن كان يسيراً لم يفطر بابتلاع ريقه وقال بعض أصحابنا يفطر لابتلاعه ذلك البلل الذي كان على الجسم ولنا أنه لا يتحقق انفصال ذلك البلل ودخوله إلى حلقه كالمضمضة والتسوك بالسواك الرطب والمبلول ويقوي ذلك حديث عائشة في مص لسانها ولو أخرج لسانه وعليه بلة ثم عاد فأدخله وابتلع ريقه لم يفطر (فصل) وإن ابتلع النخامة فقد روى حنبل قال سمعت أبا عبد الله يقول إذا تنخم ثم ازدرده فقد أفطر لأن النخامة تنزل من الرأس والريق من الفم ولو تنخع من جوفه ثم ازدرده أفطر وهذا مذهب الشافعي لأنه أمكن التحرز منها أشبه الدم ولأنها من غير الفم اشبه القئ وفيه رواية أخرى لا يفطر فإنه قال في رواية المروذي ليس عليك قضاء إذا ابتلعت النخاعة وأنت صائم لأنه معتاد في الفم أشبه الريق (فصل) فإن سأل فمه دماً أو خرج إليه قلس أو قئ فازدرده أفطر وإن كان يسيراً لأن الفم في حكم الظاهر والأصل حصول الفطر بكل واصل منه لكن عفى عن الريق لعدم إمكان التحرز منه فيبقى فيما عداه على الأصل وإن ألقاه من فيه وبقي فمه نجساً أو تنجس فمه بشئ من خارج فابتلع ريقه فإن كان معه جزء من المنجس أفطر بذلك الجزء وإلا فلا (مسألة) (ويكره ذوق الطعام وإن وجد طعمه في حلقه أفطر)

(3/71)


قال أحمد أحب إلي أن يجتنب ذوق الطعام فإن فعل لم يضره، وقال ابن عقيل يكره من غير حاجة لأنه ربما دخل حلقه فأفطر ولا بأس به مع الحاجة لقول ابن عباس لا بأس ان يذوق الطعام الخل والشئ يريد شراءه والحسن كان يمضغ الجوز لابن ابنه وهو صائم ورخص فيه إبراهيم فإن فعل فوجد طعمه في حلقه أفطر وإلا لم يفطر (فصل) ولا بأس بالسواك للصائم قبل الزوال قال أحمد لا بأس به لما روى عامر بن ربيعة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مالاً أحصي يتسوك وهو صائم حديث حسن ولكنه يكون عوداً ذاوي وهل يكره السواك للصائم بعد الزوال على روايتين ذكرناهما في باب الوضوء ويكره للصائم السواك
بالعود الرطب في إحدى الروايتين وهو قول قتادة والشعبي واسحاق ومالك في رواية لأنه مغرر بصومه لكونه ربما يتحلل منه أجزاء تصل إلى حلقه فيفطره وعنه لا يكره، وهو قول الثوري وأبي حنيفة لأنه يروي عن علي وابن عمر وعروة ومجاهد ولما روينا من الحديث والله أعلم (مسألة) (ويكره مضغ العلك الذي لا يتحلل منه أجزاء ولا يجوز مضغ ما يتحلل منه أجزاء إلا أن لا يبلع ريقه وإن وجد طعمه في حلقه أفطر)

(3/72)


المنقول عن أحمد رحمه الله كراهة مضغ العلك قال اسحاق بن منصور قلت لأحمد الصائم يمضغ العلك؟ قال لا وقال أصحابنا العلك ضربان (احدهما) ما يتحلل منه اجزاء وهو الردئ الذي يتحلل بالمضغ فلا يجوز مضغه إلا أن لا يبلع ريقه فإن فعل فنزل إلى حلقه منه شئ أفطر به كما لو تعمد أكله (والثاني) القوي الذي يصلب بالمضغ فهذا يكره مضغه ولا يحرم، وممن كرهه الشبعي والنخعي ومحمد بن علي والشافعي وأصحاب الرأي، وذلك لأنه يحلب الفم ويجمع الريق ويورث العطش، ورخصت عائشة في مضغه، وبه قال عطاء لأنه لا يصل إلى الجوف منه شئ فهو كوضع الحصاة في فيه ومتى مضغه ولم يجد طعمه في حلقه لم يفطر، وإن وجد طعمه في حلقه ففيه وجهان (أحدهما) يفطره كالكحل إذا وجد طعمه في حلقه (والثاني) لا يفطره لأنه لا يترك منه شئ، ومجرد الطعم لا يفطر بدليل أنه قد قيل أن من لطخ باطن قدمه بالحنظل وجد طعمه ولا يفطر بخلاف الكحل فإن أجزاءه تصل إلى الحلق ويشاهد إذا تنخع.
قال أحمد: من وضع في فيه درهماً أو ديناراً وهو صائم فلا بأس به ما لم يجد طعمه في حلقه وما يجد طعمه فلا يعجبني، وقال عبد الله سألت أبي عن الصائم يفتل الخيوط قال يعجبني أن يبزق

(3/73)


(مسألة) (وتكره القبلة إلا أن يكون ممن لا تحرك شهوته في إحدى الروايتين) وجملته أن المقبل لا يخلو من ثلاثة أقسام:
(أحدها) أن يكون ذا شهوة مفرطة يغلب على ظنه أنه إذا قبل أنزل أو مذى فهذا تحرم عليه القبلة لأنها مفسدة لصومه (1) أشبهت الأكل (الثاني) أن يكون ذا شهوة لكنه لا يغلب على ظنه ذلك فيكره له التقبيل لأنه يعرض صومه للفطر ولا يأمن عليه الفساد لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فأعرض عني فقلت له ما بالي؟ فقال " إنك تقبل وأنت صائم " ولأن العبادة إذا منعت الوطئ منعت دواعيه كالإحرام، ولا تحرم القبلة في هذه الحال لما روي أن رجلاً قبل وهو صائم فأرسل امرأته فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبل وهو صائم، فقال الرجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس مثلنا قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " إني لأخشاكم لله وأعلمكم بما اتقي " رواه مسلم بمعناه وروي عن عمر أنه قال: هششت فقبلت وأنا صائم فقلت يا رسول الله صنعت اليوم أمراً عظيماً

(3/74)


قبلت وأنا صائم قال " أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم " قلت لا بأس به، قال " فمه " رواه أبو داود، ولأن افضاءه إلى إفساد الصوم مشكوك فيه ولا يثبت التحريم بالشك (الثالث) أن يكون ممن لا تحرك القبلة شهوته كالشيخ الكبير ففيه روايتان (إحداهما) لا تكره له وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم لما كان مالكاً لإربه وغير ذي الشهوة في معناه، وقد روى أبو هريرة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له، فأتاه آخر فنهاه فإذا الذي رخص له شيخ والذي نهاه شاب، أخرجه أبو دواد، ولأنها مباشرة لغير شهوة أشهت لمس اليد لحاجة (والثانية) يكره لأنه لا يأمن حدوث الشهوة، ولأن الصوم عبادة تمنع الوطئ فاستوى في القبلة فيها من تحرك شهوته ومن لا تحرك كالإحرام، فأما اللمس لغير شهوة كلمس اليد ليعرف مرضها ونحوه فليس بمكروه بحال لأن ذلك لا يكره في الإحرام أشبه لمس ثوبها (مسألة) (ويجب عليه اجتناب الكذب والغيبة والشتم فإن شتم استحب أن يقول اني صائم)
يجب على الصائم أن ينزه صومه عن هذه الأشياء، قال أحمد ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من

(3/75)


لسانه، ولا يماري ويصرن صومه كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد فقالوا نحفظ صومنا ولا نغتاب أحداً، ولا يعمل عملاً يخرج به صومه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه (1) " وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله تعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني أمرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه " متفق عليهما (2) فصل (مسألة) (ويستحب تعجيل الإفطار وتأخير السحور، وأن يفطر على التمر وإن لم يجد فعلى الماء، وأن يقول عند فطره اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، سبحانك وبحمدك اللهم تقبل مني أنك أنت السميع العليم)

(3/76)


يستحب تعجيل الإفطار وهو قول أكثر أهل العلم لما روى سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " متفق عليه، وعن أبي عطية قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة فقال مسروق رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما يعجل الإفطار ويعجل المغرب والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر المغرب، قالت من الذي يعجل الإفطار ويعجل المغرب، قال عبد الله قالت هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى " أحب عبادي إلي أسرعهم فطراً " قال الترمذي هذا حديث حسن ويستحب أن يفطر قبل الصلاة لما روى أنس قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حتى يفطر ولو على شربة من ماء.
رواه ابن عبد البر
(مسألة) (ويستحب تأخير السحور) الكلام في السحور في أمور ثلاثة (أحدها في استحبابه) ولا نعلم بين العلماء خلافاً في استحبابه لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تسحروا فإن في السحور بركة) متفق عليه وعن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فضل

(3/77)


مابين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر " رواه مسلم وعن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " السحور بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين " رواه الإمام أحمد.
(الثاني في وقته) وقال أحمد يعجبني تأخير السحور لما روى زيد بن ثابت قال تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قلت كم كان قدر ذلك؟ قال خمسين آية متفق عليه وروى العرباض بن سارية قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السحور فقال " هلم إلى الغداء المبارك " رواه أبو داود سماه غداء لقرب وقته منه ولأن المقصود بالسحور التقوي على الصوم وما كان أقرب إلى الفجر كان أعون على الصوم قال أبو داود قال أبو عبد الله إذا شك في الفجر يأكل حتى يستيقن طلوعه وهذا قول ابن عباس وعطاء والاوزاعي قال أحمد يقول الله تعالى (فكلوا واشربو حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن المستطير في الأفق " حديث حسن وروي أبو قلابة قال قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو يتسحر يا غلام اخف لا يفجأنا الصبح، وقال رجل لابن عباس إني أتسحر فإذا شككت امسكت فقال ابن عباس كل ما شككت حتى لا تشك

(3/78)


فأما الجماع فلا يستحب تأخيره لأنه ليس مما يتقوى به وفيه خطر وجوب الكفارة والفطر به (الثالث فيما يتسحر به) كل ما يحصل من أكل، أو شرب حصل به فضيلة السحور لقوله عليه السلام " ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء " وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " نعم سحور المؤمن التمر " (فصل) فيما يستحب أن يفطر عليه، يستحب أن يفطر على رطبات فإن لم يكن فعلى تمرات،
فإن لم يكن فعلى الماء، لما روى أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم يكن تمرات حسا حسوات من ماء، رواه أبو داود والترمذي وقال حسن غريب، وعن سليمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمرات فان لم يجد فليفطر على الماء فإنه طهور " أخرجه أبو داود والترمذي (فصل) روى ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال " اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، فتقبل منا أنك أنت السميع العليم " وعن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال " ذهب الظمأ وابتلت العروق، ووجب الأجر إن شاء الله " وإسناده حسن ذكرهما الدارقطني (فصل) ويستحب تفطير الصائم لما روى زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من فطر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شئ " قال الترمذي حديث حسن صحيح (مسألة) (يستحب التتابع في قضاء رمضان ولا يجب)

(3/79)


لا نعلم خلافاً في استحاب التتابع في قضاء رمضان لأنه أشبه بالأداء، وفيه خروج من الخلاف ولا يجب، هذا قول ابن عباس وأنس بن مالك وأبي هريرة وأبي قلابة ومجاهد وأهل المدينة ومالك وأبي حنيفة والثوري والاوزاعي والشافعي واسحاق وغيرهما وحكي وجوب التتابع عن علي وابن عمر والنخعي والشعي وقال داود يجب ولا يشترط لما روى ابن المنذر بإسناده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من كان عليه صوم رمضان فليسرده ولا يقطعه " ولقوله تعالى (فعدة من أيام أخر) غير مقيد بالتتابع فإن قيل فقد روي عن عائشة أنها قالت نزلت (فعدة من أيام أخر متتابعات) فسقطت متتابعات قلنا هذا لم تثبت عندنا صحته ولو صح فقد سقطت اللفظة المحتج بها وأيضاً قول الصحابة قال ابن عمر أن سافر إن شاء فرق وإن شاء تابع وروي مرفوعا وقال أبو عبيدة في قضاء رمضان الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه وعن محمد بن المنكدر أنه قال بلغني أن رسول الله (ص) سئل عن تقطيع قضاء رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان على احدكم دين فقضاه من الدرهم أو الدرهمين حتى يقضي ما عليه من الدين هل كان ذلك قاضياً دينه؟ قالوا نعم يارسول الله
قال فالله أحق بالعفو والتجاوز منكم " رواه الأثرم ولأنه صوم لا يتعلق بزمان بعينه فلم يجب فيه التتابع

(3/80)


كالنذر المطلق وخبرهم لم تثبت صحته ولم يذكره أصحاب السنن ولو صح حملناه على الاستحباب جمعاً بينه وبين ما ذكرناه والله أعلم (فصل) قال رحمه الله (ولا يجوز تأخير قضاء رمضان إلى رمضان آخر من غير عذر) وجملته أن من عليه صوم من رمضان فله تأخيره ما لم يدخل رمضان آخر لما روت عائشة قالت كان يكون علي الصيام من شهر رمضان فلا أقضيه حتى يجئ شعبان متفق عليه ولا يجوز تأخيره إلى رمضان آخر من غير عذر لأن عائشة رضي الله عنها لم تؤخره إلى ذلك ولو أمكنها لأخرته ولأن الصوم عبادة متكررة فلم يجز تأخيره عن الثانية كالصلاة المفروضة (مسألة) (فان فعل فعليه القضاء وإطعام مسكين لكل يوم) إذا أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر لعذر فليس عليه إلا القضاء لعموم الآية، وإن كان لغير عذر فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم، يروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة ومجاهد وسعيد بن جبير، وبه قال مالك والثوري والاوزاعي والشافعي واسحاق، وقال الحسن والنخعي وأبو حنيفة لافدية عليه لأنه صوم واجب فلم يجب عليه في تأخيره كفارة كالأداء والنذر ولنا أنه قول من سمينا من الصحابة ولم يرو عن غيرهم خلافهم وروي مسنداً من طريق ضعيف ولأن تأخير صوم رمضان عن وقته إذا لم يوجب القضاء أوجب الفدية كالشيخ الكبير (فصل) فإن أخره لعذر حتى أدركه رمضانان أو أكثر لم يكن عليه أكثر من فدية مع القضاء لأن كثرة التأخير لا يزداد بها الواجب كما لو أخر الحج الواجب سنين لم يكن عليه أكثر من فعله (مسألة) (وإن أخره لعذر فلا شئ عليه وإن مات) من مات وعليه صيام من رمضان قبل إمكان الصيام إما لضيق الوقت أو لعذر من مرض أو سفر أو عجز عن الصوم فلا شي عليه في قول أكثر أهل العلم، وحكي عن طاوس وقتادة أنهما قالا يجب الإطعام عنه لأنه صوم واجب سقط بالعجز عنه فوجب الإطعام عنه كالشيخ الهم إذا
ترك الصيام لعجزه عنه

(3/81)


ولنا أنه حق لله تعالى وجب بالشرع مات من يجب عليه قبل إمكان فعله فسقط إلى غير بدل كالحج ويفارق الشيخ الهم فإنه يجوز ابتداء الوجوب عليه بخلاف الميت (مسألة) (وإن أخره لغير عذر فمات قبل أن أدركه رمضان آخر أطعم عنه لكل يوم مسكين ومن مات بعد أن أدركه رمضان آخر فهل يطعم عنه لكل يوم مسكين أو اثنان على وجهين) إذا أخر رمضان مع إمكان القضاء فمات أطعم عنه لكل يوم مسكين وهذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن عائشة وابن عباس، وبه قال مالك والليث والاوزاعي والثوري والشافعي وابن علية وأبو عبيد في الصحيح عنهم، وقال أبو ثور يصيام عنه وهو قول الشافعي لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من مات وعليه صيام صام عنه وليه " متفق عليه، وروى ابن عباس نحوه ولنا ماروى ابن ماجة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً " رواه الترمذي وقال الصحيح عن ابن عمر موقوف، وعن عائشة أيضاً قالت يطعم عنه في قضاء رمضان ولا يصام، وعن ابن عباس أنه سئل عن رجل مات وعليه نذر يصوم شهراً وعليه صوم رمضان؟ قال أما رمضان فيطعم عنه، وأما النذر فيصام عنه، رواه الأثرم في السنن، ولأن الصوم لا تدخله النيابة حال الحياة فكذلك بعد الوفاة كالصلاة، فأما حديثهم فهو في النذر لأنه قد جاء مصرحاً به في بعض الألفاظ كذلك رواه البخاري عن ابن عباس قال: قالت امرأة يارسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأقضيه عنها؟ قال " ارأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان

(3/82)


يؤدي ذلك عنها " قالت نعم، قال " فصومي عن أمك " وقالت عائشة وابن عباس كقولنا وهما راويا حديثهم فدل على ما ذكرنا

(3/83)


(فصل) فإن مات المفرط بعد أن أدركه رمضان آخر لم يجب عليه أكثر من إطعام مسكين
لكل يوم نص عليه أحمد فيما رواه عنه أبو داود أن رجلاً سأله عن امرأة أفطرت رمضان ثم أدركها رمضان آخر ثم ماتت قال يطعم عنها قال له السائل كم أطعم؟ قال كم أفطرت؟ قال ثلاثين يوماً، قال اجمع ثلاثين مسكيناً وأطعمهم مرة واحدة وأشبعهم، قال ما أطعمهم؟ قال خبزاً ولحماً إن قدرت من أوسط طعامكم، وذلك لأنه بإخراج كفارة واحدة زال تفريطه بالتأخير فصار كما لو مات من غير تفريط وقال أبو الخطاب يطعم عنه لكل يوم مسكينان لأن الموت بعد التفريط بدون التأخير عن رمضان آخر يوجب كفارة، والتأخير بدون الموت يوجب كفارة، فاذا اجتمعا وجب كفارتان كما لو فرط في يومين (فصل) واختلفت الرواية عن أحمد في جواز التطوع بالصوم ممن عليه صوم فرض فنقل عنه حنبل أنه لا يجوز بل يبدأ بالفرض حتى يقضيه إن كان عليه نذر صامه يعني بعد الفرض، وروى حنبل بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من صام تطوعاً وعليه من رمضان شئ لم يقضه فإنه لا يتقبل منه حتى يصومه " ولأنه عبادة يدخل في جبرانها المال فلم يصح التطوع قبل أداء فرضها كالحج، وروي عنه أنه يجوز له التطوع لأنها عبادة تتعلق بوقت موسع فجاز التطوع في وقتها قبل فعلها

(3/84)


كالصلاة يتطوع في وقتها قبل فعلها وعليه يخرج الحج، ولأن التطوع بالحج يمنع فعل واجبه المتعين فأشبه صوم التطوع في رمضان على أن لنا في الحج منعاً، والحديث يرويه ابن لهيعة وهو ضعيف وفي سياقه ما هو متروك فإنه قال في آخره " ومن أدركه رمضان وعليه من رمضان شئ لم يتقبل منه " ويخرج في التطوع بالصلاة في حق من عليه القضاء مثل ما ذكرنا في الصوم، بل عدم الصحة في الصلاة أولى لأنها تجب على الفور بخلاف الصوم (فصل) واختلفت الرواية في كراهية القضاء في عشر ذي الحجة فروي أنه لا يكره وهو قول سعيد بن المسيب والشافعي واسحاق لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستحب قضاء رمضان في العشر ولأنه أيام عبادة فلم يكره القضاء فيه كعشر المحرم (والثانية) يكره روى ذلك عن الحسن والزهري لأنه يروي عن علي رضي الله عنه أنه كرهه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من
أيام العمل الصالح فيها أحب الى الله سبحانه من هذه الأيام " يعني أيام العشر قالوا يارسول الله ولا الجهاد في سبيل الله " قال " ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشئ " فاستحب اخلاؤها للتطوع لينال فضيلتها ويجعل القضاء في غيرها وقال بعض أصحابنا هاتان الروايتان مبنيتان على الروايتين في إباحة التطوع قبل صوم الفرض وتحريمه فمن أباحه كره القضاء فيها لتوفيرها على التطوع لينال فضله فيها مع فضل القضاء ومن حرمه لم يكرهه بل استحب فعله فيها لئلا تخلو من

(3/85)


العبادة بالكلية قال شيخنا ويقوى عندي أن هاتين الروايتين فرع على إباحة التطوع قبل القضاء أما على رواية التحريم فيكون صومها تطوعاً قبل الفرض محرماً وذلك أبلغ من الكراهة والله أعلم

(3/86)


(مسألة) (ومن مات وعليه صوم منذور أو حج أو اعتكاف فعله عنه وليه وإن كانت صلاة منذورة فعلى روايتين) وجملة ذلك أن من مات وعليه صوم نذر ففعله عنه وليه اجزأ عنه وهذا قول ابن عباس والليث وأبي عبيد وأبي ثور وقال مالك والليث والاوزاعي والثوري وابن عليه يطعم عنه لما ذكرنا في صوم رمضان

(3/87)


ولنا الأحاديث الصحيحة التي رويناها من قبل هذا وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالاتباع وفيها غنى عن كل قول والفرق بين النذر وغيره أن النيابة تدخل العبادة بحسب خفتها والنذر أخف حكما لكونه لم يجب بأصل الشرع وإنما أوجبه الناذر على نفسه

(3/88)


(فصل) ولا يجب على الولي فعله لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين ولا يجب على الولي قضاء دين الميت إذا لم يخلف تركه كذلك هذا لكن يستحب له أن يصوم عنه لتفريغ ذمته وكذلك يستحب له قضاء الدين عنه ولا يختص ذلك بالولي بل كل من قضاه عنه وصام عنه أجزأ لأنه تبرع فأما الاعتكاف

(3/89)


فلا يجب إلا بالنذر فمن مات وعليه اعتكاف واجب فقضاه وليه اجزأ قياساً على الصوم ولأن الكفارة تجب بتركه في الجملة أشبه الصوم وأما الحج فتجوز النيابة فيه عند العجز عنه وأن يفعله عنه غيره في

(3/90)


حال الحياة فبعد الموت أولى ولا فرق في الحج بين النذر وحجة الإسلام لحديث الخثعمية الذي يذكر في الحج إن شاء الله تعالى وغيره من الأحاديث (فصل) وفي الصلاة المنذورة روايتان (إحداهما) حكمها حكم الصوم فيما ذكرنا قياساً عليه

(3/91)


(والثانية) لا يجزئ عنه فعل الولي لأنها عبادة بدنية محضة لا يدخل المال في جبرانها بحال فلا يصح قياسها على الصوم فعلى هذا يكفر عنه كفارة يمين لتركه النذر والله تعالى أعلم وسوف نذكره في النذر بأبسط من هذا إن شاء الله تعالى

(3/92)


(باب صوم التطوع) (مسألة) (وأفضله صيام داود عليه السلام كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " له صم يوماً وأفطر يوماً فذلك صيام داود وهو

(3/93)


أفضل الصيام " فقلت إني أطيق أفضل من ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا أفضل من ذلك " متفق عليه (مسألة) (ويستحب صيام أيام البيض من كل شهر وصوم الاثنين والخميس) صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب لا نعلم فيه خلافاً بدليل ما روى أبو هريرة قال وصاني

(3/94)


خليلي بثلاث صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام، وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له " صم ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر " متفق عليهما

(3/95)


ويستحب أن يجعل هذه الثلاثة أيام والبيض هي ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس لما روى أبو ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة فصم ثلاث عشرة وأربع

(3/96)


عشرة وخمس عشرة " قال الترمذي هذا حديث حسن وروي النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم لأعرابي كل قال إني صائم قال " صوم ماذا؟ " قال صوم ثلاثة أيام من الشهر قال " إن كنت صائماً فعليك بالغر البيض

(3/97)


ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة " وعن ملحان القيسي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، وقال هو كهيئة الدهر رواه أبو داود وسميت

(3/98)


أيام البيض لا بيضاض ليلها والتقدير أيام الليالي البيض وذكر أبو الحسن التميمي إن الله سبحانه تاب

(3/99)


على آدم فيها وبيض صحيفته وروى أسامة بن زيد أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين والخميس

(3/100)


فسئل عن ذلك فقال " إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين والخميس " رواه أبو داود وفي لفظ فأحب

(3/101)


أن يعرض عملي وانا صائم (مسألة) (ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر) صوم ستة أيام من شوال مستحب عند كثير من أهل العلم، روي عن كعب الاحبار والشعبي وميمون بن مهران والشافعي وكرهه مالك وقال: ما رأيت أحداً من أهل الفقه صومها ولم يبلغني ذلك

(3/102)


عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وإن يلحق برمضان ما ليس منه ولنا ما روى أبو أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال
فكأنما صام الدهر " رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن، قال أحمد هو من ثلاثة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجري مجرى التقديم لرمضان لأن يوم العيد فاصل وروى سعيد بإسناده عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صام رمضان شهر بعشرة أشهر وصام ستة أيام بعد الفطر وذلك تمام سنة " يعني أن الحسنة بعشر أمثالها فالشهر بعشرة والستة بستين يوماً فذلك سنة كاملة فإن قيل فالحديث لا يدل على فضيلتها لأنه شبه صيامها بصيام الدهر وهو مكروه قلنا: إنما كره صوم الدهر لما فيه من الضعف والتشبه بالتبتل لولا ذلك لكان فضلاً عظيماً لاستغراقه الزمان بالعبادة والطاعة والمراد بالخبر التشبيه به في حصول العبادة به على وجه لا مشقة فيه كما قال عليه السلام " من صام ثلاثة أيام من كل شهر كان كمن صام الدهر " مع ان ذلك لا يكره بل يستحب بغير خلاف وكذلك نهى عبد الله بن عمرو عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث وقال " من قرأ (قل هو الله أحد) فكأنما قرأ ثلث القرآن " أراد التشبيه بثلث القرآن في الفضل لا في كراهة الزيادة عليه.
إذا ثبت هذا فلا فرق بين كونها متتابعة أو متفرقة في أول الشهر أو في آخره لأن الحديث ورد مطلقاً من غير تقييد ولان فضيلتها لكونها تصير مع الشهر عشر السنة والحسنة بعشر أمثالها فيكون كأنه صام السنة كلها فإذا وجد ذلك في كل سنة صار

(3/103)


كصيام الدهر كله وهذا المعنى يحصل مع التفريق والله أعلم (مسألة) وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة ويوم عرفة كفارة سنتين ولا يستحب لمن كان بعرفة صيام هذين اليومين مستحب لما روى أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في صيام عرفة " إني احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده " وقال في صيام عاشوراء " إني احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله " أخرجه مسلم (فصل) يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم هذا قول سعيد بن المسيب والحسن لما روى ابن عباس قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء العاشر من المحرم أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح وروي عن ابن عباس أنه التاسع وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم التاسع أخرجه مسلم بمعناه وروى عنه عطاء أنه قال صوموا التاسع والعاشر ولا تشبهوا باليهود فعلى هذا يستحب صوم
التاسع والعاشر نص عليه أحمد وهو قول إسحاق وقال أحمد فإن اشتبه عليه أول الشهر صام ثلاثة أيام وإنما يفعل ذلك ليحصل له التاسع والعاشر يقيناً (فصل) واختلف في صوم عاشوراء هل كان واجباً فذهب القاضي إلى أنه لم يكن واجباً وقال هذا قياس المذهب واستدل بأمرين (أحدهما) أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من لم يأكل بالصوم والنية في الليل شرط في الواجب

(3/104)


(والثاني) أنه لم يأمر من أكل بالقضاء ويشهد لهذا ما روى معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ان هذا يوم عاشوراء لم يكتب الله عليكم صيامه فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر " وهو حديث صحيح وروى عن أحمد أنه كان مفروضاً لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه فلما افترض رمضان كان هو الفريضة وترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه حديث صحيح وحديث معاوية محمول على أنه أراد ليس هو مكتوباً عليكم الآن، وأما تصحيحه بنية من النهار وترك الأمر بقضائه فيحتمل أن يقول من لم يدرك اليوم بكماله لم يلزمه قضاؤه كما قلنا فيمن أسلم وبلغ في اثناء يوم من رمضان على أنه قد روي أبو داود أن أسلم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال " صمتم يومكم هذا؟ " قالوا لا قال " فأتموا يقية يومكم واقضوه " (فصل) فأما يوم عرفة فهو اليوم التاسع من ذي الحجة لا نعلم فيه خلافاً سمي بذلك لأن الوقوف بعرفة فيه وقيل سمي بذلك لأن ابراهيم عليه السلام أري في المنام ليلة التروية أنه يؤمر بذبح ابنه فأصبح يومه يتروى هل هذا من الله أو حلم فسمي يرم التروية فلما كانت الليلة الثانية رآه أيضاً فأصبح فعرف أنه من الله فسمي يوم عرفة وهو يوم شريف عظيم وفضله كبير

(3/105)


(فصل) ولا يستحب لمن كان بعرفة أن يصومه ليتقوى على الدعاء عند أكثر أهل العلم وكانت عائشة وابن الزبير يصومانه، وقال قتادة لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء، وقال عطاء أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف لأن كراهة صومه إنما هي معللة بالضعف عن الدعاء فإذا قوي عليه أو كان
في الشتاء لم يضعف فتزول الكراهة ولنا ما روى عن أم الفضل بنت الحارث أن ناساً تماروا بين يديها يوم عرفة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم صائم وقال بعضهم ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف على بعيره، بعرفات فشربه النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه، وقال ابن عمر حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه يعني يوم عرفة ومع أبي بكر فلم يصمه ومع عمر فلم يصمه ومع عثمان فلم يصمه وأنا لا أصومه ولا أمر به ولا أنهى عنه، قال الترمذي حديث حسن وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة رواه أبو داود لأن الصوم يضعفه ويمنعه من الدعاء في هذا اليوم المعظم الذي يستجاب فيه الدعاء في ذلك الموقف الشريف الذي يقصد من كل فج عميق رجاء فضل الله فيه واجابة دعائه فكان تركه أفضل

(3/106)


(مسألة) (ويستحب صيام عشر ذي الحجة) أيام عشر ذي الحجة كلها شريفة مفضلة يضاعف العمل الصالح فيها ويستحب صومها والاجتهاد في العبادة فيها لما روى ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا يارسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال " ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشئ " حديث حسن صحيح، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من أيام أحب إلى الله بأن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر " أخرجه الترمذي وقال غريب، وروى أبو داود عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء (مسألة) (وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم) وذلك لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن (مسألة) (ويكره إفراد رجب بالصوم) قال أحمد إن صام رجل أفطر فيه يوماً أو أياماً بقدر ما لا يصومه كله وذلك لما روى أحمد
بإسناده عن خرشة ابن الحر قال رأيت عمر يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام ويقول كلوا فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية، وبإسناده عن ابن عمر أنه كان إذا رأى الناس وما يعدونه لرجب كرهه وقال صوموا منه وأفطروا وعن ابن عباس نحوه، وبإسناده عن أبي بكرة أنه دخل على أهله وعندهم سلال جدد وكيزان فقال ما هذا؟ فقالوا رجب نصومه فقال أجعلتم رجب رمضان فاكفأ السلال وكسر الكيزان قال أحمد من كان يصوم السنة صامه وإلا فلا يصومه متوالياً بل يفطر فيه لاو يشبهه برمضان (مسألة) (ويكره إفراد يوم الجمعة ويوم السبت ويوم الشك ويوم النيروز والمهرجان إلا أن يوافق عادة) وجملته أنه يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يوافق عادة مثل من يصوم يوماً ويفطر يوماً فيوافق صومه يوم الجمعة أو من عادته صومه أول يوم الشهر أو آخره أو يوم لضعفه ونحو ذلك نص

(3/107)


عليه أحمد في رواية الأثرم قال قيل لأبي عبد الله صيام يوم الجمعة فذكر حديث النهي أن يفرد ثم قال إلا أن يكون في صيام كان يصومه، أما أن يفرد بفلا قال قلت رجل كان يصوم يوماً ويفطر يوماً فوقع فطره يوم الخميس وصومه يوم الجمعة وفطره يوم السبت فصام الجمعة مفرداً فقال هذا الآن لم يتعمد صومه خاصة إنما كره أن يتعمد الجمعة، وقال أبو حنيفة ومالك لا يكره إفراد الجمعة لأنه يوم فأشبه سائر الأيام.
ولنا ما روى أبو هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده " وقال محمد بن عباد سألت جابراً: انهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال نعم متفق عليهما وعن جويرية بنت الحرث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال " صمت أمس؟ " قالت لا قال " أتريدين أن تصومي غدا؟ " قال لا قال " فافطري " رواه البخاري وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع وهذا الحديث يدل على أن المكروه افراده لانه نهيه معلل بكونها لم تصم أمس ولا غداً
(فصل) ويكره إفراد يوم السبت بالصوم ذكره أصحابنا لما روى عبد الله بن بسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم " قال الترذي هذا حديث حسن، وروي أيضاً عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فان لم يجد أحدكم إلا لحاء من عنب أو عود شجرة فليمضغه " رواه أبو داود قال اسم أخت عبد الله بن بسر هجيمة أو جهيمة، قال الأثرم قال أبو عبد الله: أما صيام يوم السبت ينفرد به، فقد جاء فيه حديث الصماء والمكروه إفراده فإن صام معه غيره لم يكره لحديث أبي هريرة وجويرية، وإن وافق صوماً لإنسان لم يكره لما قدمناه (فصل) ويكره صيام يوم الشك وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا كانت السماء مصحية ولم يروا الهلال إلا أن يوافق صوماً كان يصومه كمن عادته صوم يوم، وفطر يوم أو صوم يوم الخميس، أو صوم آخر يوم من الشهر وشبه ذلك، أو من صام قبل ذلك بأيام فلا بأس بصومه لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يتقدمن أحدكم رمضان بصيام يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صياماً فليصمه " متفق عليه، ويحتمل أن يحرم لقول عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
حديث حسن صحيح

(3/108)


(فصل) ويكره أفراد يم النيروز والمهرجان بالصوم ذكره أصحابنا لأنهما يومان يعظمها الكفار فيكون تخصيصهما بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما فكره كيوم السبت، وعلى قياس هذا كل عيد للكفار، أو يوم يفردونه بالتعظيم يكره إفراده بالصوم لما ذكرنا إلا أن يوافق عادة فلا يكره لما ذكرنا في الفصول المتقدمة (فصل) في الوصال وهو أن لا يفطر بين اليومين أو الأيام بأكل وشرب وهو مكروه في قول أكثر أهل العلم وروى عن ابن الزبير أنه كان يواصل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولنا ما روى ابن عمر قال واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فواصل الناس فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال فقالوا إنك تواصل فقال " إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى " متفق عليه وهذا يقتضي
اختصاصه بذلك ومنع إلحاق غيره به وقوله (إني أطعم وأسقى) يحتمل أنه أراد أني أعان على الصيام ويغنيه الله تعالى عن الشراب والطعام بمنزلة من طعم وشرب ويحتمل أنه أراد إني أطعم حقيقة وأسقى حقيقة حملاً للفظ على حقيقته والأول أظهر لوجهين (أحدهما) أنه لو طعم وشرب حقيقة لم يكن مواصلاً وقد أقرهم على قولهم أنك تواصل (والثاني) أنه قد روي أنه قال " إني أظل يطعمني ربي ويسقيني " وهذا يقتضي أنه في النهار ولا يجوز الأكل في النهار له ولا لغيره.
إذا ثبت هذا فإن الوصال غير محرم وظاهر قول الشافعي أنه حرام لظاهر النهي ولنا (1) أنه ترك الأكل والشرب المباح فلم يكن محرماً كما لو تركه في حال الفطر فإن قيل فصوم يوم العيد محرم مع كونه تركاً للأكل والشرب المباح قلنا ما حرم ترك الأكل والشرب بنفسه وإنما حرم نية الصوم ولهذا لو تركه من غير نية الصوم لم يكن محرما وأما النهي فإنما أتى به رحمة لهم ورفقا بهم لما فيه من المشقة عليهم كما نهى عبد الله بن عمرو عن صيام النهار وقيام الليل وعن قراءة القرآن في أقل من ثلاث وقالت عائشة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم وهذه قرينة صارفة عن التحريم ولهذا لم يفهم منه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم التحريم بدليل أنهم واصلوا بعده ولو فهموا منه التحريم لما فعلوه قال أبو هريرة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال فلما أبوا أن ينتهوا واصل بهم يوماً ويوماً ثم رأوا الهلال فقال " لو تأخر لزدتكم " كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا متفق عليه فإن واصل إلى السحر جاز لما روى أبو سعيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر أخرجه البخاري وتجيل الفطر أفضل لما قدمناه

(3/109)


(فصل) في صوم الدهر روى أبو قتادة قال قيل يارسول الله فكيف بمن صام الدهر؟ قال " لا صام ولا أفطر أو لم يصم ولم يفطر " قال الترمذي هذا حديث حسن وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من صام الدهر ضيقت عليه جهنم " قال الأثرم قيل لأبي عبد الله وفسر مسدد حديث أبي موسى من صام الدهر ضيقت عليه جهنم فلا يدخلها فضحك وقال من قال هذا؟ وأين حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم كره ذلك وما فيه من الأحاديث؟ قال أبو الخطاب إنما يكره
إذا أدخل فيه يومي العيدين وأيام التشريق لأن أحمد قال إذا أفطر يومي العيدين وأيام التشريق رجوت أن لا يكون بذلك بأس.
وروي نحو هذا عن مالك وهو قول الشافعي لأن جماعة من الصحابة كانوا يسردون الصوم منهم أبو طلحة قيل إنه صام بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة قال شيخنا ويقوى عندي أن صوم الدهر مكروه وأن لم يصم هذه الأيام فإن صامها فقد فعل محرما وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة والضعف وشبه التبتل المنهي عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو " إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل؟ " قال نعم قال " إنك إذا فعلت ذلك هجمت له عينك (1) ونفهت له النفس، لا صام من صام الدهر، صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله " وذكر الحديث رواه البخاري.
(فصل) ويكره استقبال رمضان باليوم واليومين لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صياماً فليصمه " متفق عليه وما وافق من هذا كله عادة فلا بأس لهذا الحديث، وقد دل هذا الحديث بمفهومة على جواز التقدم بأكثر من يومين، وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " اذا كان النصف من شعبان فامسكوا عن الصيام حتى يكون رمضان " وهذا حديث حسن فيحمل الأول على الجواز، وهذا على نفي الفضيلة جمعاً بينهما (مسألة) (ولا يجوز صوم العيدين عن فرض ولا تطوع وإن قصد صيامهما كان عاصياً ولم يجزه عن الفرض) اتفق أهل العلم على أن صوم يومي العيدين محرم في التطوع والنذر المطلق والقضاء والكفارة وذلك لما روى أبو عبيد مولى إبن أزهر قال شهدت العيد مع عمر بن الخطاب فجاء فصلى ثم انصرف فخطب الناس فقال إن هذين يومين نهى رسول الله (ص) عن صيامهما يوم فطركم من

(3/110)


صيامكم والآخر يوم تأكلون من نسككم وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين يوم فطر ويوم أضحى متفق عليهما والنهي يقتضي فساد المنهي عنه وتحريمه أما
صومهما عن النذر المعين ففيه خلاف نذكره في باب النذر إن شاء الله تعالى (مسألة) (ولا يجوز صيام أيام التشريق تطوعاً وفي صيامها عن الفرض روايتان) وجملة ذلك أن أيام التشريق منهي عن صيامها لما روى نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عزوجل " رواه مسلم، وعن عمرو بن العاص أنه قال: هذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإفطارها وينهى عن صيامها، قال مالك وهي أيام التشريق رواه أبو داود، ولا يحل صيامها تطوعاً في قول أكثر أهل العلم، وعن ابن الزبير أنه كان يصومها، وروي نحو ذلك عن ابن عمر والأسود بن يزيد وعن أبي طلحة أنه كان لا يفطر إلا يومي العيدين، والظاهر أن هؤلاء لم يبلغهم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها، ولو بلغهم لم يعدوه إلى غيره، وأما صومها عن الفرض ففيه روايتان (إحداهما) لا يجوز لأنه منهي عن صيامها فأشبهت يومي العيدين (والثانية) يجوز لما روي عن ابن عمر وعائشة أنهما قالا: لم يرخص في أيام التشريق إلا لمن لم يجد الهدي أن يصوم وهو حديث صحيح ويقاس عليه سائر المفروض (مسألة) (ومن شرع في صوم أو صلاة تطوعاً استحب له إتمامه ولا يلزمه، فإن أفسده فلا قضاء عليه) لما روى عن ابن عمر وابن عباس أنهما أصبحا صائمين ثم أفطرا، وقال ابن عمر لا بأس به ما لم يكن نذراً أو قضاء رمضان، وقال ابن عباس إذا صام الرجل تطوعاً ثم شاء أن يقطعه قطعه، وإذا دخل في صلاة تطوعاً ثم شاء أن يقطعها قطعها، وقال ابن مسعود متى أصبحت تريد الصوم فأنت على خير النظرين، إن شئت صمت وإن شئت أفطرت، هذا قول أحمد والثوري والشافعي واسحاق، وفد روى حنبل عن أحمد إذا أجمع علي الصيام فأوجبه على نفسه فأفطر من غير عذر أعاد ذلك اليوم وهذا محمول على أنه استحب ذلك أو نذره ليكون موافقاً لسائر الروايات عنه، وقال النخعي وأبو حنيفة ومالك: يلزم بالشروع فيه ولا يخرج منه إلا بعذر فإن خرج قضاه، وعن مالك لا قضاء عليه، واحتج من أوجب القضاء بما روي عن عائشة أنها قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين

(3/111)


فأهدي لنا حيس فأفطرنا ثم سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " اقضيا يوما مكانه " ولأنها عبادة تلزم بالنذر فلزمت بالشروع فيها كالحج والعمرة ولنا ما روى مسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال " هل عندكم شئ " فقلت لا، قال " فإني صائم " ثم مر بي بعد ذلك اليوم وقد أهدي لنا حيس فخبأت له منه وكان يحب الحيس قلت يارسول الله: أنه أهدي لنا حيس فخبأت لك منه قال " ادنيه أما إني قد أصبحت وأنا صائم " فأكل منه ثم قال " إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها " هذا لفظ رواية النسائي وهو أتم من غيره وروت أم هانئ قالت: دخلت علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بشراب فناولنيه فشربت منه ثم قلت يا رسول الله لقد أفطرت وكنت صائمة، فقال لها " أكنت تقضين شيئاً؟ " قالت لا، قال " فلا يضرك إن كان تطوعاً " رواه سعيد وأبو داود والاثرم، وفي لفظ قالت قلت إني صائمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن المتطوع أمير نفسه، فإن شئت فصومي، وإن شئت فافطري " ولأن كل صوم لو أتمه كان تطوعاً إذا خرج منه لم يجب قضاؤه كما لو اعتقد أنه من رمضان فبان من شعبان، فأما خبرهم فقال أبو داود لا يثبت، وقال الترمذي فيه مقال وضعفه الجوزجاني وغيره، ثم هو محمول على الاستحباب، إذا ثبت هذا فإنه يستحب له إتمامه، وإن خرج منه استحب قضاؤه للخروج من الخلاف وعملا بالخبر الذي رووه (فصل) وسائر النوافل من الأعمال حكمها حكم الصيام في أنها لا تلزم بالشروع ولا يجب قضاؤها إذا أفسدها إلا الحج والعمرة فإنهما يخالفان سائر العبادات في هذا لتأكد إحرامهما ولا يخرج منهما بافسادهما ولو اعتقد أنهما واجبان ولم يكونا واجبين لم يكن له الخروج منهما، وقد روي عن احمد في الصلاة ما يدل على أنها تلزم بالشروع، قال الأثرم قلت لأبي عبد الله الرجل يصبح صائماً متطوعاً، أيكون بالخيار؟ والرجل يدخل في الصلاة له أن يقطعها، قال الصلاة أشد أما الصلاة فلا يقطعها، قيل له فإن قطعها قضاها؟ قال إن قضاها فليس فيه اختلاف ومال أبو إسحاق الجوزجاني إلى هذا
القول وقال الصلاة ذات إحرام وإحلال فلزمت بالشروع فيها كالحج، وأكثر أصحابنا على أنها لا تلزم أيضاً وهو قول ابن عباس لأن ما جاز ترك جميعه جاز ترك بعضه كالصدقة، والحج والعمرة يخالفان غيرهما بما ذكرنا

(3/112)


(فصل) فان دخل في صوم واجب كقضاء رمضان أو نذر معين، أو مطلق، أو صيام كفارة لم يجز له الخروج منه لأن المتعين وجب الدخول فيه وغير المتعين بدخوله فيه فصار بمنزلة المتعين وهذا لا خلاف فيه بحمد الله (مسألة) (وتطلب ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان وليالي الوتر آكدها) ليلة القدر ليلة شريفة مباركة معظمة مفضلة قال الله تعالى (ليلة القدر خير من ألف شهر) قيل معناه العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " متفق عليه، قيل إنما سميت ليلة القدر لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من خير ومصيبة، ورزق وبركة، يروي ذلك عن ابن عباس قال الله تعالى (يفرق فيها كل أمر حكيم) وسماها مباركة فقال تعالى (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) وهي ليلة القدر بدليل قوله تعالى (إنا أنزلناه في ليلة القدر) وقال تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) يروى أن جبريل نزل به من بيت العزة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل به على النبي صلى الله عليه وسلم نجوماً في ثلاث وعشرين سنة وهي باقية لم ترفع لما روى أبو ذر قال قلت يارسول الله ليلة القدر رفعت مع الأنبياء أو هي باقية إلى يوم القيامة؟ فقال " باقية إلى يوم القيامة " قلت في رمضان أو في غيره؟ قال " في رمضان " فقلت في العشر الأول أو الثاني أو الآخر؟ فقال " في العشر الآخر " وأكثر أهل العلم على أنها في رمضان وكان ابن مسعود يقول من يقم الحول يصيبها يشير إلى

(3/113)


أنها في السنة كلها، وفي كتاب الله تعالى ما يبين أنها في رمضان لأن الله تعالى أخبر أنه أنزل القرآن في ليلة القدر وأنه أنزله في رمضان فيجب أن يكون في رمضان لئلا يتناقض الخبران ولأن النبي صلى الله عليه وسلم
ذكر أنها في رمضان في حديث أبي ذر وقال التمسوها في العشر الأواخر في كل وتر متفق عليه وقال أبي بن كعب والله لقد علم ابن مسعود أنها في رمضان ولكنه كره أن يخبركم فتتكلوا، إذا ثبت هذا فإنه يستحب طلبها في جميع ليالي رمضان وفي العشر الأواخر آكد وفي ليالي الوتر آكد قال أحمد في العشر الأواخر في الوتر من الليالي لا تخطئ إن شاء الله كذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اطلبوها في العشر الأواخر في ثلاث بقين أو سبع بقين أو تسع بقين " وروى سالم عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر منها " متفق عليه وقالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان، وفي لفظ البخاري تحروا ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من رمضان والأحاديث في ذلك كثيرة صحيحة (مسألة) (وأرجاها ليلة سبع وعشرين) اختلف أهل العلم في أرجى هذا الليالي فقال أبي بن كعب وعبد الله بن عباس هي ليلة سبع

(3/114)


وعشرين قال زر بن بن حبيش قلت لأبي بن كعب أما علمت أبا المنذر أنها ليلة سبع وعشرين، قال اخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها ليلة صبيحتها تطلع الشمس ليس لها شعاع فعددنا وحفظنا والله لقد علم ابن مسعود أنها في رمضان وأنها ليلة سبع وعشرين ولكنه كره أن يخبركم فتتكلوا، قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى أبو ذر في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم بهم في رمضان حتى بقي سبع فقام بهم حتى مضى نحو من ثلث الليل ثم قام بهم في ليلة خمس وعشرين حتى مضى نحو من شطر الليل حتى كانت ليلة سبع وعشرين فجمع نساءه وأهله واجتمع الناس قال فقام بهم حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح يعني السحور متفق عليه وحكي عن ابن عباس أنه قال: سورة القدر ثلاثون كلمة السابعة والعشرين منها (هي) وروى أبو داود بإسناده عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر قال " ليلة سبع وعشرين " وقيل آكدها ليلة ثلاث وعشرين لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إن عبد الله بن أنيس سأله فقال يارسول الله أني أكون
ببادية يقال لها الوطأة وإني بحمد الله أصلي بهم فمرني بليلة من هذا الشهر أنزلها في المسجد فأصليها فيه فقال " انزل ليلة ثلاث وعشرين فصلها فيها وإن أحببت أن تستتم آخر هذا الشهر فافعل وإن أحببت فكف " فكان إذا صلى العصر دخل المسجد فلم يخرج إلا في حاجة حتى يصلي الصبح فإذا صلى الصبح كانت دابته بباب المسجد.
رواه أبو داود مختصراً، وقيل آكدها ليلة أربع وعشرين لأنه روي عن النبي

(3/115)


صلى الله عليه وسلم أنه قال ليلة القدر أول ليلة من السبع الأواخر، وروي عن بعض الصحابة أنه قال: لم نكن نعد عددكم هذا وإنما نعد من آخر الشهر يعني أن السابعة والعشرين هي أول ليلة من السبع الأواخر، وقيل آكدها ليلة إحدى وعشرين لما روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أريت ليلة القدر ثم أنسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر وإني رأيت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين " قال فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد وكان من جريد النخل فأقيمت الصلاة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الماء والطين في جبهته، وفي حديث " في صبيحة إحدى وعشرين " متفق عليه قال الترمذي قد روي أنها ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين وليلة خمس وعشرين وليلة سبع وعشرين وليلة تسع وعشرين وآخر ليلة، وقال أبو قلابة أنها تنتقل في ليالي العشر قال الشافعي كان هذا عندي والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب على نحو ما يسأل، فعلى هذا كانت في السنة التي رأى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين ليلة إحدى وعشرين وفي السنة التي أمر عبد الله بن أنيس ليلة ثلاث وعشرين وفي السنة التي رأى أبي بن كعب علامتها ليلة سبع وعشرين

(3/116)


وقد ترى علامتها في غير هذه الليالي قال بعض أهل العلم أبهم الله هذه الليلة على الأمة ليجتهدوا في طلبها ويجدوا في العبادة في الشهر كله طمعاً في إدراكها كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليكثروا من الدعاء في اليوم كله وأخفى اسمه الأعظم في الأسماء ورضاه في الطاعات ليجتهدوا في جميعها وأخفى الأجل وقيام الساعة ليجد الناس في العلم حذراً منها (فصل) والمشهور من علامتها ما ذكره أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس تطلع من صبيحتها
بيضاء لا شعاع لها وفي بعض الأحاديث بيضاء مثل الطست وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها " ليلة بلجة سمحة لا حارة ولا باردة تطلع الشمس من صبيحتها لا شعاع لها " (مسألة) (ويستحب أن يجتهد فيها في الدعاء ويدعو فيها بما روي عن عائشة أنها قالت يارسول الله ان وافقتها بم أدعوا قال " قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني