الشرح الكبير على متن المقنع

 (كتاب المناسك) (مسألة) (يجب الحج والعمرة في العمر مرة واحدة بخمسة شروط) الحج في اللغة القصد وعن الخليل قال: الحج كثرة القصد إلى من تعظمه.
قال الشاعر: واشهد من عوف حئولا كثيرة * يحجون سب الزبرقان المزعفرا أي يقصدون، والسب العمامة، وفي الحج لغتان الحج والحج بفتح الحاء وكسرها، والحج في الشرع اسم لأفعال مخصوصة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى وهو أحد أركان الإسلام الخمسة والدليل على وجوبه الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا * ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) روي عن ابن عباس ومن كفر باعتقاده أنه غير واجب، وقال الله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم " بنى الإسلام على خمس شهادة ان لا إله إلا الله " وذكر فيها الحج (فصل) وإنما يجب مرة واحدة في العمر لما روى مسلم بإسناده عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا " فقال رجل أكل عام يارسول الله؟
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم " ثم قال " ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وإذا أمرتكم

(3/159)


فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه " في أخبار سوى هذين كثيرة وأجمعت الأمة على وجوب الحج على المستطيع في العمر مرة واحدة (فصل) وتجب العمرة على من يجب عليه الحج في إحدى الروايتين، يروي ذلك عن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي والثوري والشافعي في أحد قوليه، والرواية الثانية ليست واجبة روى ذلك عن ابن مسعود وبه قال مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أواجبة هي؟ قال " لا وإن تعتمروا فهو أفضل " أخرجه الترمذي قال حديث حسن صحيح وعن طلحة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " الحج جهاد والعمرة تطوع " رواه ابن ماجه ولأنه نسك غير مؤقت فلم يكن واجباً كالطواف المجرد ووجه الأولى قول الله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) ومقتضى الأمر الوجوب ثم إنه عطفها على الحج والأصل التساوي بين المعطوف والمعطوف عليه قال ابن عباس إنها لقرينة الحج في كتاب الله وعن الضبي بن معبد قال أتيت عمر فقلت يا أمير المؤمنين إني أسلمت وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما فقال عمر هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود والنسائي وعن ابن رزين أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله أن أبي شيخ كبير ولا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن فقال " حج عن أبيك واعتمر " رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح وذكره أحمد ثم قال وحديث يرويه سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أوصني قال " تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج وتعتمر " وروى الأثرم باسناده عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن وكان في الكتاب " أن العمرة هي الحج الأصغر " ولأنه قول من سمينا من الصحابة لم نعلم لهم مخالفاً إلا ابن مسعود وقد اختلف عنه، وأما حديث جابر فقال الترمذي قال الشافعي هو
ضعيف لا تقوم به الحجة وليس في العمرة شئ ثابت بأنها تطوع وقال ابن عبد البر روي ذلك بأسانيد لا تصح ولا تقوم بمثلها الحجة ثم نحلمه على المعهود وهو العمرة التي قضوها حين احصروا في الحديبية أو على العمرة التي اعتمروها مع حجتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فإنها لم تكن واجبة على من اعتمر أو على ما زاد على العمرة الواحدة وتفارق العمرة الطواف لأن من شرطها الإحرام بخلاف الطواف وليس على أهل مكة عمرة نص عليه أحمد وقال: كان ابن عباس يرى العمرة واجبة ويقول: يا أهل مكة ليس عليكم عمرة وإنما عمرتكم طوافكم بالبيت، وبهذا قال عطاء وطاوس، قال عطاء ليس أحد من خلق الله إلا عليه حج وعمرة واجبان لابد منهما لمن استطاع إليهما سبيلاً إلا أهل مكة

(3/160)


فإن عليهم حجة وليس عليهم عمرة من أجل طوافهم بالبيت ووجه ذلك أن ركن العمرة ومعظمها الطواف بالبيت وهم يفعلونه فأجزأ عنهم، وحمل القاضي كلام الإمام أحمد على أنه لا عمرة عليهم مع الحجة لأنه يتقدم منهم فعلها في غير وقت الحج، قال الشيخ رحمه الله والأمر على ما قلناه (مسألة) (وإنما يجب الحج والعمرة بخمس شروط: الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والاستطاعة) لا نعلم في هذا كله خلافاً، أما الصبي والمجنون فلأنهما غير مكلفين لما روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل " رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن وأما العبد فلا تجب عليه لأنها عبادة تطول مدتها وتتعلق بقطع مسافة ويشترط لها الاستطاعة بالزاد والراحلة وتضيع حقوق السيد المتعلقة به فلم تجب عليه كالجهاد، وغير المستطيع لا يجب عليه لأن الله تعالى خص المستطيع بالإيجاب عليه، وقال الله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وأما الكافر فلأنه ليس من أهل العبادات (فصل) وهذه الشروط تنقسم ثلاثة أقسام (منها) ما هو شرط للوجوب والصحة وهما الإسلام والعقل فلا يجب على كافر ولا مجنون، ولا يصح منهما لكونهما ليسا من أهل العبادات، (ومنها) ما هو
شرط للوجوب والأجزاء وهو البلوغ والحرية وليس شرطاً للصحة فلو حج الصبي والعبد صح حجهما

(3/161)


ولم يجزئهما عن حجة الإسلام إن بلغ الصبي أو عتق العبد، قال إبن المنذر: أجمع أهل العلم إلا من شذ عنهم ممن لا يعتد بخلافه على أن الصبي إذا حج في حال صغره والعبد إذا حج في حال رقه ثم بلغ الصبي وعتق العبد أن عليهما حجة الإسلام إذا وجدا إليها سبيلاً، كذلك قال ابن عباس وعطاء والحسن والنخعي والثوري ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، قال الترمذي وقد أجمع أهل العلم عليه.
وقال الإمام أحمد رحمه الله عن محمد بن كعب القرظي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين عهداً أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه، فإن أدرك فعليه الحج " رواه سعيد في سننه والشافعي في مسنده عن ابن عباس من قوله، ولأن الحج عبادة بدنية فعلها قبل وقت وجوبها فلم يمنع ذلك وجوبها عليه في وقتها كما لو صلى قبل الوقت، أو كما لو صلى ثم بلغ في الوقت (ومنها) ما هو شرط للوجوب وذلك الاستطاعة (مسألة) (إلا أن يبلغ ويعتق في الحج قبل الخروج من عرفة وفي طوافها فيجزئهما) إذا بلغ الصبي أو عتق العبد بعرفة أو قبلها غير محرمين فاحرما ووقفا بعرفة فأتما المناسك أجزأهما عن حجة الإسلام بغير خلاف علمناه لأنهما لم يفتهما شئ من أركان الحج ولا فعلا منها شيئاً قبل وجوبه، وإن كان البلوغ والعتق وهما محرمان أجزأهما أيضاً عن حجة الاسلام، كذلك قال ابن عباس وهو مذهب الشافعي واسحاق وهو قول الحسن في العبد، وقال مالك لا يجزئهما اختاره ابن المنذر.
وقال أصحاب الرأي لا يجزئ العبد، فأما الصبي فإن جدد إحراماً بعد أن أحتلم قبل الوقوف أجزأه وإلا فلا لأن إحرامهما لم ينعقد واجباً فلا يجزي عن الواجب كما لو بقيا على حالهما ولنا أنه أدرك الوقوف حراً بالغاً فأجزأه كما لو احرم تلك الساعة، قال أحمد وطاوس عن ابن عباس إذا أعتق العبد بعرفة اجزأت عنه حجته، فإن أعتق بجمع لم تجز عنه، وهؤلاء يقولون لاتجزئ ومالك يقوله أيضاً، وكيف لا يجزئه وهو لو أحرم تلك الساعة كان حجة تاماً وما أعلم أحداً قال لا يجزئه إلا هؤلاء
(فصل) والحكم فيما إذا أعتق للعبد وبلغ الصبي بعد خروجهما من عرفة فعادا إليها قبل طلوع الفجر ليلة النحر كالحكم فيما إذا كانا فيها لأنهما قد أدركا من الوقت ما يجزئ ولو كان لحظة، وإن لم يعودا أو كان ذلك بعد طلوع الفجر من يوم النحر لم يجزئهما عن حجة الاسلام ويتمان حجهما تطوعا لفوات الوقوف المفروض ولا دم عليهما لانهما حجاً تطوعاً بإحرام صحيح من الميقات فأشبها البالغ الذي يحج تطوعاً، فإن قيل فلم لا قلتم إن الوقوف فعلاه يصير فرضاً كما قلتم في الإحرام الذي أحرم به قبل

(3/162)


البلوغ إنه يصير بعد بلوغه فرضاً؟ قلنا إنما اعتددنا له بإحرامه الموجود بعد بلوغه وما قبله تطوع لم ينقلب فرضاً ولا اعتد له به الوقوف مثله، فنظير أن يبلغ وهو واقف بعرفة فإنه يعتد له بما أدرك من الوقوف ويصير فرضاً دون ما مضى (فصل) إذا بلغ الصبي أو عتق العبد قبل الوقوف أو في وقته وأمكنهما الإتيان بالحج لزمهما ذلك لأن الحج واجب على الفور فلا يجوز تأخيره مع إمكانه كالبالغ الحر وإن فاتهما الحج لزمتهما العمرة عند من أوجبهما لأنها واجبة أمكن فعلها فأشبهت الحج ومتى أمكنهما ذلك فلم يفعلا استقر الوجوب عليهما سواء كانا وسرين أو معشرين لأن ذلك وجب عليهما بإمكانه في موضعه فلم يسقط بفوات القدرة بعده (فصل) والحكم في الكافر يسلم والمجنون يفيق حكم الصبي يبلغ في جميع ما ذكرنا إلا أن هذين لا يصح منهما إحرام ولو أحرما لم ينعقد إحرامهما لانهما من غير أهل العبادات وحكمهما حكم من لم يحرم (مسألة) (ويحرم الصبي المميز بإذن وليه وغير المميز يحرم عنه وليه ويفعل ما يعجز عنه من عمله حج الصبي صحيح فإن كان مميزاً أحرم بإذن وليه وإن لم يكن مميزاً أحرم عنه وليه فيصير محرم بذلك وبه قال مالك والشافعي وروي عن عطاء والنخعي وقال أبو حنيفة لا ينعقد إحرام الصبي ولا يصير محرماً بإحرام وليه لأن الإحرام سبب يلزم به حكم فلم يصح من الصبي كالنذر ولنا ماروى ابن عباس قال رفعت امرأة صبياً فقالت يارسول الله ألهذا حج؟ قال " نعم ولك أجر " رواه مسلم وغيره من الأئمة وروي البخاري عن السائب بن يزيد قال حج بي مع النبي صلى الله عليه وسلم
وأنا ابن سبع سنين، ولأن أبا حنيفة قال يجتنب ما يجتنبه المحرم ومن اجتنب ما يجتنبه المحرم كان إحرامه صحيحاً والنذر لا يجب به شئ بخلاف مسئلتنا والكلام في حج الصبي في فصول أربعة في الإحرام عنه أو منه وفيما يفعله ينفسه أو بغيره وفي حكم جناياته على إحرامه وفيما يلزمه من القضاء والكفارة (الفصل الأول في إحرامه) فإن كان مميزاً أحرم بإذن وليه ولا يصح بغير إذنه لأنه عقد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد من الصبي بنفسه كالبيع، وإن كان غير مميز فأحرم عنه من له ولاية على ماله كالأب والوصي وأمين الحاكم صح، ومعنى إحرامه عنه انه يعقد له الاحرام فيصح للصبي دون الولي كما يعقد له النكاح فعلى هذا يصح عقد الإحرام عنه سواء كان الولي محرماً أو حلالاً ممن عليه حجة الإسلام أو غيره، فإن أحرمت عنه أمه صح لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ولك أجر " ولا يضاف الأجر إليها إلا لكونه تبعاً لها في الإحرام، قال الامام أحمد في رواية حنبل: يحرم عنه أبوه أو وليه واختاره

(3/163)


ابن عقيل وقال المال الذي يلزم بالإحرام لا يلزم الصبي وإنما يلزم من أدخله في الإحرام في أحد الوجهين، وقال القاضي ظاهر كلام أحمد أنه لا يحرم عنه إلا وليه لأنه لا ولاية للأم على ماله والإحرام يتعلق به إلزام مال فلا يصح من غير ذي ولاية كشراء شئ له، فأما غير الأم والولي من الأقارب كالأخ والعم وابنه فيخرج فيهم وجهان بناء على القول في الأم، أما الأجانب فلا يصح إحرامهم عنه وجهاً واحداً (الفصل الثاني) إن كل ما أمكنه فعله بنفسه لزمه فعله ولا ينوب عنه غيره فيه كالوقوف والمبيت بمزدلفة ونحوهما وما عجز عنه عمله الولي عنه.
قال جابر خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاجاً ومعنا النساء والصبيان فأحرمنا عن الصبيان، رواه سعيد في سننه ورواه ابن ماجة وفيه فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم، ورواه الترمذي قال فكنا نلبي عن النساء، ونرمي عن الصبيان، قال إبن المنذر كل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي كان ابن عمر يفعل ذلك، وبه قال عطاء والزهري ومالك والشافعي واسحاق، وعن ابن عمر أنه كان يحج سبيانه وهم صغار فمن استطاع منهم أن يرمي رمى ومن لم يستطع أن يرمي رمى عنه، وعن أبي إسحاق أن أبا بكر رضي الله عنه طاف بابنه في خرقة، رواهما الأثرم، قال الامام أحمد يرمي عن الصبي أبوه أو وليه، قال القاضي إن أمكنه
أن يناول النائب الحصى ناوله وإن لم يمكنه استحب أن يوضع الحصى في يده ثم يؤخذ منه فيرمى عنه وإن وضعها في يد الصغير ورمى بها فجعل يده كالآلة فحسن، ولا يجوز أن يرمي إلا من قد رمى عن نفسه لأنه لا يجوز أن ينوب عن الغير وعليه فرض نفسه كالحج، وأما الطواف فإنه إن أمكنه المشي مشى وإلا طيف به محمولاً أو راكباً لما ذكرنا من فعل أبي بكر، ولأن الطواف بالكبير محمولاً لعذر يجوز فالصغير أولى، ولا فرق بين أن يكون الحامل له حلالاً أو حراماً ممن أسقط الفرض عن نفسه أو لم يسقطه لأن الطواف للمحمول لا للحامل ولذلك صح أن يطوف راكباً على بعير وإن طيف به محمولاً أو راكباً وهو يقدر على الطواف بنفسه ففيه روايتان نذكرهما فيما بعد إن شاء الله تعالى ومتى طاف بالصبي اعتبرت النية من الطائف فإن لم ينو الطواف عن الصبي لم يجزئه لأنه لما لم يعتبر النية من الصبي اعتبرت من غيره كما في الإحرام، فإن نوى الطواف عنه وعن الصبي احتمل وقوعه عن نفسه كالحج إذا نوى عنه وعن غيره، واحتمل أن يقع عن الصبي كما لو طاف بكبير ونوى كل واحد عن نفسه لكون المحمول أولى، واحتمل أن يلغو لعدم التعيين لكون الطواف لا يقع عن غير معين وأما الإحرام فإن الصبي يجرد كما يجرد الكبير، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تجرد الصبيان إذا دنوا من الحرم قال عطاء يفعل بالصغير كما يفعل بالكبير ويشهد به المناسك كلها إلا أنه لا يصلى عنه

(3/164)


(الفصل الثالث في محظورات الإحرام) وهي قسمان ما يختلف عمده وسهوه كاللباس والطيب ومالا يختلف كالصيد وحلق الشعر (فالأول) لا فدية على الصبي فيه لأن عمده خطأ (والثاني) عليه فيه الفدية وإن وطئ أفسد حجه ويمضي في فاسده وفي وجوب القضاء عليه وجهان (أحدهما) لا يجب لئلا تجب عبادة بدنية على غير مكلف (والثاني) يجب لأنه إفساد موجب للبدنة فاوجب القضاء كوطئ البالغ فإن قضى بعد البلوغ بدأ بحجة الإسلام فإن أحرم بالقضاء قبلها انصرف إلى حجة الاسلام وهل تجرئه عن القضاء؟ ينظر فإن كانت الفاسدة قد أدرك فيها شيئاً من الوقوف بعد بلوغه أجزأ عنهما جميعاً وإلا لم يجزئه وكذلك حكم العبد والله أعلم (مسألة) (ونفقة الحج وكفارته في مال وليه وعنه في مال الصبي)
أما نفقة الحج فقال القاضي ما زاد على نفقة الحضر فهو في مال الولي لأنه كلفه ذلك عن غير حاجة بالصبي إليه اختاره أبو الخطاب وحكي عن القاضي أنه ذكر في الخلاف أن جميع النفقة على الصبي لأن الحج له فنفقته عليه كالبالغ ولأن له فيه مصلحة بتحصيل الثواب له ويتمرن عليه فصار كأجر المعلم والطبيب والصحيح الأول لأن هذا لا يجب في العمر إلا مرة فلا حاجة الى التمرن عليه ولأنه قد لا يجب فلا يجوز تكليفه بذل ماله من غير حاجة إليه (فصل) فإن أغمي على البالغ فأحرم عنه رفيقه لم يصح وهذا قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة يصير محرماً بإحرام رفيقه عنه استحساناً ولنا أنه بالغ فلم يصر محرماً بإحرام رفيقه كالنائم ولأنه لو أذن في ذلك وأجازه لم يصح فمع عدمه أولى (مسألة) (وليس للعبد الإحرام إلا بإذن سيد ولا للمرأة الإحرام نفلاً إلا بإذن زوجها فإن شرعا فيه بغير إذن فلهما تحليلهما ويكونان كالمحصر وإن كان بإذن لم يجز تحليلهما) وجملته أنه ليس للعبد الإحرام بدون إذن سيده لأنه تفوت به حقوق سيده الواجبة عليه بالتزام ما ليس بواجب فإن فعل انعقد إحرامه صحيحاً لأنها عبادة بدنية فأشبهت الصلاة والصوم ولسيده تحليله في أظهر الروايتين اختارها ابن حامد لأن في بقائه عليه تفويتاً لحقه بغير إذنه فلم يلزم ذلك لسيده كالصوم المضر ببدنه (والثانية) ليس له تحليله اختارها أبو بكر لأنه لا يمكن التحلل من تطوع نفسه فلم يملك تحليل عبده والأول أصح وإنما لم يملك تحليل نفسه لأنه التزم التطوع باختياره فنظيره أن يحرم عبده بإذنه، وفي مسئلتنا يفوت حقه الواجب بغير اختياره فأما إن أحرم بإذن سيده لم يكن له تحليله وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة له ذلك لأنه ملكه منافع نفسه فكان له

(3/165)


الرجوع فيها كالمعير يرجع في العارية ولنا أنه عقد لازم بإذن سيده فلم يكن لسيده فسخه كالنكاح ولا يلزم عليه العارية لأنها ليست لازمة ولو أعاره شيئاً ليرهنه فرهنه لم يكن له الرجوع فيه فإن باعه سيده بعد ما أحرم فحكم مشتريه في تحليله حكم بائعه لأنه اشتراه مسلوب المنفعة أشبه الأمة المزوجة والمستأجرة فإن علم المشتري بذلك
فلا خيار له كما لو اشترى معيباً يعلم عيبه وإن لم يعلم فله الفسخ لأنه يتضرر بمضي العبد في حجة لفوات منافعه إلا أن يكون إحرامه بغير إذن سيده ونقول له تحليله فلا فسخ له لأنه يمكنه دفع الضرر عنه ولو أذن له سيده في الإحرام وعلم العبد برجوعه قبل إحرامه فهو كمن لم يؤذن له وإن لم يعلم ففيه وجهان بناء على الوكيل هل ينعزل بالعزل قبل العلم على روايتين (فصل) إذا نذر العبد الحج صح نذره لأنه مكلف فصح نذره كالحر ولسيده منعه من المضي فيه لأنه يفوت حق سيده الواجب فمنع منه كما لو لم ينذر ذكره القاضي وابن حامد وروى عن أحمد أنه قال لا يعجبني منعه من الوفاء به وذلك لما فيه من أداء الواجب فيحتمل أن ذلك على الكراهة لا على التحريم لما ذكرنا، ويحتمل التحريم لأنه واجب فلا يملك منعه منه كسائر الواجبات والأول أولى فإن أعتق لزمه الوفاء به بعد حجة الإسلام فإن أحرم به أولا انصرف إلى حجة الإسلام في الصحيح من المذهب كالحر إذا نذر حجاً (فصل) في جناياته وما جنى على إحرامه لزمه حكمه وحكمه فيما يلزمه حكم الحر المعسر فرضه الصيام وإن تحلل بحصر عدو أو حلله سيده فعليه الصيام لا يتحلل قبل فعله كالحر وليس لسيده أن يحول بينه وبين الصوم نص عليه لأنه صوم واجب أشبه صوم رمضان فإن ملكه السيد هديا وأذن له في اهدائه وقلنا أنه يملكه فهو كالواجب للهدي لا يتحلل إلا به وإن قلنا لا يملكه ففرضه الصيام وإن أذن له سيده في تمتع أو قران فعليه الصيام بدلا عن الهدي الواجب بهما وذكر القاضي أن على سيده تحمل ذلك عنه لأنه بإذنه فكان على من أذن فيه كما لو فعله النائب بإذن المستنيب، قال شيخنا وليس بجيد لأن الحج للعبد وهذا من موجباته فيكون عليه كالمرأة إذا حجت بإذن زوجها ويفارق من يحج عن غيره فإن الحج للمستنيب فموجبه عليه وإن تمتع أو قارن بغير إذن سيده فالصيام عليه بغير خلاف وإن أفسد حجه فعليه أن يصوم لذلك لأنه لا مال هل فهو كالمعسر الحر (فصل) وإن وطئ قبل التحلل الأول فسد نسكه ويلزمه المضي في فاسده كالحر لكن إن كان الإحرام مأذوناً فيه فليس لسيده إخراجه منه لأنه ليس له منعه من صحيحه فلم يملك منعه من

(3/166)


فاسده وإن كان بغير إذنه فله تحليله منه لأن له تحليله من صحيحه فالفاسد أولى وعليه القضاء سواء كان الإحرام مأذوناً فيه أو غير مأذون ويصح القضاء في حال رقه لأنه وجب فيه فصح كالصلاة والصيام ثم إن كان الإحرام الذي أفسده مأذوناً فيه فليس له منعه من قضائه لأن إذنه في الحج الأول أذن في موجبه ومقتضاه ومن موجبه القضاء لما أفسده فإن كان الأول غير مأذون فيه احتمل أن لا يملك منعه من قضائه لأنه واجب وليس للسيد منعه من الواجبات واحتمل أن له منعه منه لأنه يملك منعه من الحج الذي شرع فيه بغير إذنه فكذلك هذا فإن أعتق قبل القضاء فليس له فعله قبل حجة الإسلام لأنها آكد فإن أحرم بالقضاء انصرف إلى حجة الإسلام في الصحيح من المذهب وبقي القضاء في ذمته وإن عتق في أثناء الحجة الفاسدة فأدرك من الوقوف ما يجزئه أجزأه القضاء عن حجة الإسلام لأن المقضي لو كان صحيحاً أجزأه فكذلك قضاؤه فإن أعتق بعد ذلك لم يجزئه لأن المقضي لم يجزئه فكذلك القضاء والمدبر والمعلق عتقه بصفة وأم الولد والمعتق بعضه حكمه حكم القن فيما ذكرناه (فصل) وإن أحرمت المرأة بحج أو عمرة تطوعاً فلزوجها تحليلها ومنعها منه في ظاهر المذهب وهو ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي ليس له تحليلها لأن الحج يلزم بالشروع فيه فلم يملك تحليلها منه كالمنذور قال وحكي عن أحمد في امرأة تحلف بالصوم أو بالحج لها أن تصوم بغير إذن زوجها قد ابتليت وابتلي زوجها ولنا أنه تطوع يفوت حق غيرها منه أحرمت بغير إذنه فملك تحليلها كالأمة إذا أحرمت بغير إذن سيدها والمدينة تحرم بغير إذن غريمها على وجه يمنعه إيفاء دينه الحال عليها ولأن العدة تمنع المضي في الإحرام لحق الله عزوجل فحق الآدمي أولى لأن حقه أضيق لشحه وحاجته وكرم الله وغناه وكلام أحمد لا يتناول محل النزاع بل قد خالفه من وجهين (أحدهما) أنه في الصوم وتأثير الصوم في منع حق الزوج يسير لكونه في النهار دون الليل (الثاني) أن الصوم إذا وجب صار كالمنذور والشروع ههنا على وجه غير مشروع فلم يكن له حرمة بالنسبة إلى صاحب الحق
(فصل) فإن كانت حجة الإسلام لكن لم تكمل شروطها لعدم الاستطاعة فله منعها من الخروج إليها والتلبس بها لأنها غير واجبة عليها فإن أحرمت بها بغير إذن لم يملك تحليلها لأن ما أحرمت به يقع عن حجة الإسلام الواجبة بأصل الشرع كالمريض إذا تكلف حضور الجمعة ويحتمل

(3/167)


أن له تحليلها لفقدان شرطها فأشبهت الأمة والصغيرة فإنه لما فقدت الحرية والبلوغ ملك منعها ولأنها ليست واجبة عليها أشبهت سائر التطوع فأما الخروج إلى حج التطوع والإحرام به فله منعها منه (مسألة) (وليس للرجل منع امرأته من حج الفرض ولا تحليلها إن أحرمت به بغير خلاف حكاه ابن المنذر فإن أذن لها فله الرجوع ما لم تتلبس بالإحرام ومتى قلنا له تحليلها فحللها فحكمها حكم المحصر يلزمها الهدي أو الصوم إن لم تجده كسائر المحصرين) ليس للزوج منع امرأته من المضي إلى الحج الواجب عليها إذا كملت شروطه وكان لها محرم يخرج معها لأنه واجب وليس له منعها من الواجبات كالصوم والصلاة وهذا قول النخعي واسحاق وأصحاب الرأي وهو الصحيح من قولي الشافعي وله قول آخر أن له منعها بناء على أن الحج على التراخي ووجه ذلك ما تقدم ويستحب لها استئذانه نص عليه فإن أذن لها وإلا خرجت بغير إذنه (فصل) ولا تخرج إلى الحج في عدة الوفاة نص عليه ولها الخروج إذا كانت مبتوتة لأن المبيت ولزوم منزلها واجب في عدة الوفاة دون لمبتوتة فإنه لا يجب عليها ذلك وقدم على الحج لأنه يفوت وأما الرجعية فحكمها حكم الزوجة فإن خرجت للحج فتوفي زوجها في الطريق فسنذكر ذلك في العدد إن شاء الله تعالى والله أعلم وإن تكمل شروطه فله منعها من المضي إليه والشروع فيه لأنه يفوت حقه بما ليس بواجب عليها فملك منعها منه كصوم التطوع (فصل) فإن أحرمت بالحج الواجب عليها لم يكن له منعها، وكذلك إن أحرمت بالعمرة الواجبة ولا تحليلها إذا أحرمت في قول أكثر أهل العلم منهم النخعي واسحاق وأصحاب الرأي، وبه قال الشافعي في أصح قوليه، وقال في الآخر له منعها لأن الحج عنده على التراخي فلا يتعين في هذا العام والصحيح الأول لأن الحج الواجب يتعين بالشروع فيه فصار كالصلاة إذا أحرمت بها في أول
وقتها وقضاء رمضان إذا شرعت فيه، ولأن حق الزوج مستمر على الدوام فلو ملك منعها في هذا العام ملكه في كل عام فيفضي إلى إسقاط أحد أركان الإسلام (فصل) فإن أحرمت بواجب فحلف عليها زوجها بالطلاق الثلاث أن لا تحج العام فليس لها أن تحل لأن الطلاق مباح وليس لها ترك الفضيلة لاجله، ونقل مهنا عن أحمد أنه سئل عن هذه المسألة فقال قال عطاء الطلاق هلاك وهي بمنزلة المحصر فاحتج بقول عطاء فلعله ذهب إليه لأن ضرر الطلاق عظيم لما فيه من خروجها من بيتها ومفارقة زوجها وولدها، وقد يكون ذلك أعظم من ذهاب مالها، ولذلك سماه عطاء هلاكاً، ولأنه لو منعها عدو من الحج إلا أن تدفع إليه مالها كان ذلك حصراً فهذا أولى

(3/168)


(فصل) وليس للوالد منع ولده من حج الفرض والنذر ولا تحليله من إحرامه وليس للولد طاعته في تركه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لاطاعة لمخلوق في معصية الله تعالى " فأما التطوع فله منعه من الخروج لأن له منعه من الغزو وهو من فروض الكفايات فالتطوع أولى، فإن أحرم بغير إذنه لم يملك تحليله لأنه وجب بالدخول فيه فصار كالواجب ابتداء أو كالنذر (فصل) فإن أحرمت المرأة بحجة النذر بغير إذن فهل لزوجها منعها؟ على روايتين حكاهما القاضي وأبو الحسين (إحداهما) ليس له منعها كحجة الإسلام (والثانية) له منعها لأنه وجب عليها بإيجابها أشبه حج التطوع إذا أحرمت به (فصل) الشرط الخامس الاستطاعة وهي أن يملك زادا وراحلة صالحة لمثله بآلتها لصالحة لمثله، أو ما يقدر به على تحصيل ذلك فاضلاً عما يحتاج إليه من مسكن وخادم وقضاء دينه ومؤنته ومؤنة عياله على الدوام الاستطاعة المشترطة لوجوب الحج والعمرة ملك الزاد والراحلة، وبه قال الحسن ومجاهد وسعيد ابن جبير والشافعي واسحاق، قال الترمذي والعلم عليه عند أهل العلم، وقال عكرمة هي الصحة، وقال الضحاك إن كان شاباً فليؤاجر نفسه بأكله وعقبة حتى يقضي نسكه، وعن مالك إن كان يمكنه المشي وعادته سؤال الناس لزمه الحج لأن هذه الاستطاعة في حقه فهو كواجد الزاد والراحلة
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالراد والراحلة فوجب الرجوع الى تفسيره فروى الدارقطني بإسناده عن جابر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وأنس وعائشة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما السبيل؟ قال " الزاد والراحلة " وروى ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله ما يوجب الحج؟ قال: " الزاد والراحلة " رواه الترمذي وقال حديث حسن

(3/169)


وروى الإمام أحمد قال: أنا هشيم عن يونس عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) قال رجل يارسول الله ما السبيل؟ قال " الزاد والراحلة " ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فاشترط لوجوبها الزاد والراحلة كالجهاد وما ذكروه ليس باستطاعة فإنه شاق وإن كان عادة، والاعتبار بعموم الأحوال دون خصوصها كما أن رخص السفر تعم من يشق عليه ومن لا يشق عليه، وكذلك من كان له ما يقدر به على تحصيل الزاد والراحلة بالشروط المذكورة لأنه في معنى ملك الزاد والراحلة، ولأن القدرة على ما تحصل به الرقبة في الكفارة كملك الرقبة فكذلك ههنا (فصل) ويختص اشتراط الراحلة بالبعيد الذي بينه وبين البيت مسافة القصر، فأما القريب الذي يمكنه المشي فلا يعتبر وجود الراحلة في حقه لأنها مسافة قريبة ويمكنه السعي إليها فلزمه كالسعي

(3/170)


إلى الجمعة، وإن كان ممن لا يمكنه المشي كالشيخ الكبير اعتبر وجود الحمولة في حقه لأنه عاجز عن المشي أشبه البعيد، وأما الزاد فلابد منه فان لم يجد زاداً ولا قدر على كسبه لم يلزمه الحج (فصل) والزاد الذي تشترط القدرة عليه هو ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب وكسوة فإن كان يملكه أو وجده يباع بثمن المثل في الغلاء والرخص أو بزيادة يسيرة لا تجحف بماله لزمه شراؤه وإن كانت تجحف بماله لم يلزمه كما قلنا في شراء الماء للوضوء وإذا كان يجد الزاد في كل منزل لم يلزمه حمله وإن لم يجده كذلك لزمه حمله وأما الماء وعلف البهائم فسنذكره إن شاء الله تعالى (فصل) ويشترط أن يجد راحلة تصلح لمثله إما بشراء أو كراء لذهابه ورجوعه ويجد ما يحتاج
إليه من آلتها التي تصلح لمثله فإن كان ممن يكفيه الرحل والقتب ولا يخشى السقوط اكتفى بذلك وإن كان ممن لم تجر عادته بذلك أو يخشى السقوط عنهما اعتبر وجود محمل وما أشبهه ممن لا يخشى سقوطه عنه ولا مشقة فيه لأن اعتبار الراحلة في حق القادر على المشي إنما كان لدفع المشقة فيجب أن يعتبر ههنا ما تندفع به المشقة وإن كان ممن لا يقدر على خدمة نفسه والقيام بأمره اعتبرت القدرة على من يخدمه لأنه من سبيله

(3/171)


(فصل) ويعتبر أن يكون هذا فاضلاً عما يحتاج إليه لنفقة عياله الذين تلزمه مؤنتهم في مضيه ورجوعه لأن النفقة تتعلق بها حقوق الآدميين وهم أحوج وحقهم آكد وقد روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت " رواه أبودواد وأن يكون فاضلا عما يحتاج هو وأهله إليه من مسكن وخادم ومالا بد منه وإن يكون فاضلاً عن قضاء دينه لأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية ويتعلق به حقوق الآدميين فهو آكد وكذلك منع الزكاة مع تعلق حقوق الفقراء بها وحاجتهم إليها فالحج الذي هو لخالص حق الله تعالى أولى وسواء كان الدين لآدمي معين أو من حقوق الله تعالى كزكاة في ذمته أو كفارات ونحوها وإن احتاج الى النكاح وخاف على نفسه العنت قدم التزويج لأنه واجب عليه ولا غناء به عنه فهو كنفقته وإن لم يخف قدم الحج لأن النكاح تطوع فلا يقدم على الحج الواجب وإن حج من تلزمه هذه الحقوق وضيعها صح حجه لأنها متعلقة بذمته فلا تمنه صحة حجه (فصل) ومن له دار يسكنها أو يسكنها عياله أو يحتاج إلى أجرتها لنفقة نفسه أو عياله أو بضاعة متى نقصها اختل ربحها فلم تكفهم أو سائمة يحتاجون إليها لم يلزمه الحج لما ذكرنا وإن كان له من ذلك شئ فاضل عن حاجته لزمه بيعه في الحج فإن كان له مسكن واسع يفضل عن حاجته وأمكنه بيعه وشراء ما يكفيه ويفضل قدر ما يحتاج به لزمه وإن كانت له كتب يحتاج إليها لم يلزمه بيعها في الحج

(3/172)


وإلا لزمه وإن كان له بكتاب نسختان يستغنى باحدهما باع الأخرى وإن كان له دين على ملئ
باذل له يكفيه في الحج لزمه لأنه قادر وان كان على معسر أو تعذر استيفاؤه لم يلزمه (فصل) فإن تكلف الحج من لا يلزمه وأمكنه ذلك من غير ضرر يلحق بغيره مثل من يكتسب بصناعة كالخرز أو معاونة من ينفق عليه أو يكتري لزاده ولا يسأل الناس استحب له الحج لقول الله تعالى (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر) فقدم ذكر الرجال ولأن فيه مبالغة في طاعة الله وخروجاً من الخلاف وإن كان يسأل الناس كره الحج له لأنه يضيق على الناس ويحصل كلاً عليهم في التزام مالا يلزمه وسئل الإمام أحمد عمن يدخل البادية بلا زاد ولا راحلة فقال لا أحب له ذلك هذا يتوكل على أزواد الناس.
(مسألة) (ولا يصير مستطيعاً ببذل غيره بحال) لا يلزمه الحج ببذل غيره له ولا يصير مستطيعاً بذلك سواء كان الباذل قريباً أو أجنبياً، وسواء

(3/173)


بذل له الركوب والزاد أو بذل له مالا وهو قول الأكثرين، وعن الشافعي أنه إذا بذل له ولده ما يتمكن به من الحج لزمه لأنه أمكنه الحج من غير منة تلزمه ولا ضرر يلحقه فلزمه الحج كما لو ملك الزاد والراحلة ولنا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم " يوجب الحج الزاد والراحلة " يتعين فيه تقدير ملك ذلك أو ملك ما يحصل به بدليل مالو كان الباذل أجنبياً، ولأنه ليس بمالك للزاد والراحلة ولا ثمنهما فلم يلزمه الحج كما لو بذل له والده، ولا نسلم أنه لا يلزمه منه، ولو سلمناه فيبطل ببذل الوالد وبذل من للمبذول عليه أياد كثيرة ونعم (مسألة) (فمن كملت له هذه الشروط وجب عليه الحج على الفور) من كملت فيه هذه الشروط وجب عليه الحج لما ذكرنا من الأدلة ويجب عليه على الفور إذا أمكنه فعله ولم يجز له تأخيره وبه قال مالك، وقال الشافعي يجب الحج وجوباً موسعاً وله تأخيره، وحكى ابن أبي موسى وجها مثله قوله، وحكاه ابن حامد عن الإمام أحمد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر

(3/174)


رضي الله عنه على الحج وتخلف بالمدينة غير محارب ولا مشغول بشئ وتخلف أكثر المسلمين قادرين على الحج، ولأنه إذا أخره ثم فعله في السنة الأخرى لم يكن قاضياً دل على أن وجوبه على التراخي
ولنا قول الله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) وقوله (وأتموا الحج والعمرة لله) والأمر على الفور، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أراد الحج فليعجل " رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة وفي رواية أحمد وابن ماجة " فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة " قال أحمد ورواه الثوري ووكيع عن أبي اسرائيل عن فضيل بن عمرو عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس عن أخيه الفضل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا " قال الترمذي لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي إسناده مقال، وروى سعيد بن منصور بإسناده عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض

(3/175)


حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حال شاء يهوديا أو نصرانيا " وعن عمر نحوه من قوله، وكذلك عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، ولأنه أحد أركان الإسلام فكان واجباً على الفور كالصيام، ولأن وجوبه بصفة التوسع بخروجه عن رتبة الواجبات لأنه يؤخر الى غير غاية ولا يأثم بالموت قبل فعله لكونه فعل ما يجوز له فعله وليس على الموت أمارة يقدر بعدها على فعله، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنما فتح مكة سنة ثمان وإنما أخره سنة تسع فيحتمل أنه كان له عذر من عدم الاستطاعة أو كره رؤية المشركين عراة حول البيت فأخر الحج حتى بعث أبا بكر ينادي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ويحتمل أنه أخره بأمر الله تعالى لتكون حجته حجة الوداع في السنة التي استدار فيها الزمان كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ويصادف وقفه الجمعة ويكمل الله دينه ويقال أنه اجتمع يومئذ أعياد أهل كل دين ولم يجتمع قبله ولا بعده فأما تسمية فعل الحج قضاء فإنه يسمى بذلك قال الله تعالى (ثم ليقضوا تفثهم) وعلى أنه لا يلزم من الوجوب على الفور

(3/176)


تسمية الفعل إذا أخره قضاء بدليل الزكاة فإنها تجب على الفور ولو أخرها لا تسمى قضاء والقضاء الواجب على الفور إذا أخره لا يقال قضاء القضاء ولو غلب على ظنه في الحج أنه لا يعيش إلى سنة
أخرى لم يجز له تأخيره وإذا أخره لا يسمى قضاء (مسألة) (فإن عجز عنه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر من بلده وقد أجزأ عنه وإن عوفي) وجملة ذلك أن من وجدت فيه شرائط وجوب الحج وكان عاجزاً عنه لمانع مأيوس من زواله كزمانة أو مرض لا يرجى زواله أو كان نضو الخلق لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة غير محتملة والشيخ الفاني ونحوهم متى وجد من ينوب عنه في الحج وما يستنيبه به لزمه ذلك وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك لا حج عليه إلا أن يستطيع بنفسه ولا أرى له ذلك لأن الله تعالى قال (من استطاع إليه سبيلا) وهو غير مستطيع ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة مع القدرة فلا تدخلها مع العجز كالصوم والصلاة ولنا حديث أبي رزين حيث أمره النبي صلى الله عليه وسلم إن يحج عن أبيه ويعتمر وروى ابن عباس أن امرأة من خثعم قالت: يارسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج ادركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال " نعم " وذلك في حجة الوداع متفق عليه وفي لفظ لمسلم قالت: يارسول الله أن أبي شيخ عليه فريضة الله في الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر

(3/177)


بعيره فقال النبي صلى الله عليه وسلم " فحجي عنه " وسئل علي رضي الله عنه عن شيخ يجد الاستطاعة قال يجهز عنه ولأن هذه عبادة تجب بإفسادها الكفارة فجاز أن يقوم غير فعله فيها مقام فعله كالصوم إذا عجز عنه افتدى بخلاف الصلاة ويلزمه أن يستنيب على الفور إذا أمكنه كما يلزمه ذلك بنفسه (فصل) ويستناب عنه من يحج عنه من حيث وجب عليه إما من بلده أو من الموضع الذي يسر فيه كالاستنابة عن الميت وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى (فصل) فإن لم يجد مالاً يستنيب به فلا حج عليه بغير خلاف لأن الصحيح العادم ما يحج به لا يلزمه الحج فالمريض أولى وإن وجد مالا ولم يجد نائباً فقياس المذهب أن ينبني على الروايتين في امكان السير هل هو من شرائط الوجوب أو من شرائط وجوب السعي فإن قلنا من شرائط لزوم
السعي ثبت الحج في ذمته يحج عنه بعد موته وإن قلنا من شرائط الوجوب لم يجب شئ (فصل) وإذا استناب من حج عنه ثم عوفي لم يجب عليه حج آخر وهذا قول إسحاق وقال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر يلزمه لأن هذا بدل اياس فإذا برأ تبينا أنه لم يكن مأيوساً منه فلزمه الأصل كالآيسة تعتد بالشهور ثم تحيض يلزمها العدة بالحيض ولنا أنه أتى بما أمر به فخرج عن العهدة كما لو يبرأ أو نقول أدى حجة الإسلام بأمر الشرع فلم يلزمه حج ثان كما لو حج عن نفسه ولأن هذا يفضي إلى إيجاب حجتين عليه ولم يوجب الله عليه الا حجة واحدة وقولهم لم يكن مأيوساً من برئه قلنا لو لم يكن مأيوساً من برئه لما أبيح له أن

(3/178)


يستنيب فإنه شرط لجواز الاستنابة فأما الآيسة إذا اعتدت بالشهور فلا يتصور عود حيضها فإن رأت دما فليس بحيض ولا يبطل به اعتدادها لكن من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه إذا اعتدت سنة ثم عاد حيضها لم يبطل اعتدادها (فصل) فإن عوفي قبل فراغ النائب من الحج فينبغي أن لا يجزئه الحج لأنه قدر على الأصل قبل تمام البدل فلزمه كالصغيرة ومن ارتفع حيضها قبل إتمام عدتها بالشهور وكالمتيمم إذا رأى الماء في صلاته ويحتمل أن يجزئه كالمتمتع إذا شرع في الصوم ثم قدر على الهدي والمكفر إذا قدر على الأصل بعد الشروع في البدل وإن برأ قبل إحرام النائب لم يجزئه بحال (فصل) فأما من يرجى زوال مرضه والمحبوس ونحوه فليس له أن يستنيب فإن فعل لم يجزئه وإن لم يبرأ وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة له الاستنابة ويكون ذلك مراعى فإن قدر على الحج بنفسه لزمه وإلا أجزأه ذلك كالمأيوس من برئه ولنا أنه يرجو القدرة على الحج بنفسه فلم يكن له الاستنابة ولا تجزئه إن فعل كالفقير وفارق المأيوس من برئه لأنه عاجز على الإطلاق آيس من القدرة على الأصل فأشبه الميت ولأن النص إنما ورد في الحج عن الشيخ الكبير وهو ممن لا يرجى منه الحج بنفسه فلا يصح قياس غيره عليه إلا إذا كان مثله

(3/179)


(فصل) فأما القادر على الحج بنفسه فلا يجوز أن يستنيب في الحج الواجب إجماعاً قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن من عليه حجة الإسلام وهو قادر على الحج لا يجزئ عنه أن يحج غيره عنه والحج المنذور كحجة الإسلام في إباحة الاستنابة عند العجز والمنع منها مع القدرة لأنها حجة واجبة فهي كحجة الإسلام (فصل) وهل يصح الاستئجار على الحج فيه روايتان (أشهرهما) لا يجوز وهو مذهب أبي حنيفة واسحاق (والثانية) يجوز وهو مذهب مالك والشافعي وابن المنذر لأنه يجوز أخذ النفقة عليه

(3/180)


فجاز الاستئجار عليه كبناء المساجد والقناطر ولما أنها عبادة يختص فاعلها أن يكون مسلماً فلم يجز أخذ الأجرة عليها كالصلاة، فأما بناء المساجد فيجوز أن يقع قربه وغير قربة فإذا وقع بأجرة لم يكن عبادة ولا قربة وهذا لا يصح أن يقع إلا عبادة ولا يجوز الاشتراك في العبادة فمتى فعله من أجل الأجرة خرج عن كونه عبادة فلم يصح ولا يلزم من جواز أخذ النفقة جواز أخذ الأجرة بدليل الإمامة والقضاء يجوز أخذ الرزق عليهما من بيت المال وهو نفقة في المعنى بخلاف الأجرة وفائدة الخلاف أنه متى لم يجز أخذ الأجرة عليها فلا يكون الا نائباً محضاً وما يدفع إليه من المال يكون نفقة لطريقه فلو مات وأحصر أو مرض أو ضل الطريق لم يلزمه الضمان لما أنفق نص عليه أحمد لأنه إنفاق بإذن صاحب المال فأشبه ما لو أذن له في سد بثق فانبثق ولم ينسد فإذا ناب عنه آخر فإنه يحج عنه من حيث بلغ النائب الأول من الطريق لحصول قطع هذه المسأفة بمال المنوب عنه فلم يحتج إلى الانفاق دفعة أخرى كما لو حج بنفسه فمات في الطريق فإنه يحج عنه من حيث انتهى وما فضل معه من المال رده إلا أن يؤذن له في أخذه وينفق عليه بقدر الحاجة من غير إسراف ولا تقتير وليس له التبرع بشئ منه إلا أن

(3/181)


يؤذن له في ذلك قال أحمد في الذي يأخذ دراهم للحج لا يمشي ولا يقتر في النفقة ولا يسرف وقال في
رجل أخذ حجة عن ميت ففضلت معه فضلة يردها ولا يناهد أحداً إلا بقدر مالا يكون سرفاً ولا يدعو إلى طعامه ولا يتفضل ثم قال أما إذا أعطي ألف درهم أو كذا وكذا فقيل له حج بهذه فله أن يتوسع فيها وإن فضل شئ فهو له وإذا قال الميت حجوا عني حجة بألف فدفعوها إلى رجل فله أن يتوسع فيها وما فضل فهو له وإن قلنا بجواز الاستئجار على الحج جاز أن يستنيب من غير استئجار فيكون الحكم على ما ذكرنا وإن يستأجر فإن استأجر من يحج عنه أو عن ميت اعتبر فيه شروط الإجارة وما يأخذه اجرة يملكه ويباح له التصرف فيه والتوسع في النفقة وغيرها وما فضل فهو له وإن أحصر أو ضل عن الطريق أو ضاعت النفقة منه فهو من ضمانه وعليه الحج وإن مات انفسخت الإجارة لتلف المعقود عليه كما لو ماتت البهيمة المستأجرة ويكون للحج أيضاً من الموضع الذي بلغ إليه وما لزمه من الدماء فعليه لأن الحج عليه (فصل) والنائب غير المستأجر فما لزمه من الدماء بفعل محظور فعليه في ماله لأنه لم يؤذن له في الجناية فكان موجبها عليه كما لو لم يكن نائباً ودم المتعة والقران إن لم يؤذن له فيهما عليه لأنه كجنايته وإن أذن له فيهما فالدم على المستنيب لأنه أذن في سببهما ودم الاحصار على المستنيب لأنه للتخلص من مشقة السفر فهو كنفقة الرجوع فإن أفسد حجة فالقضاء عليه ويرد ما أخذ لأن الحجة لم تجز عن

(3/182)


المستنيب لتفريطه وجنايته، وكذلك إن فاته الحج بتفريطه وإن فات بغير تفريط احتسب له بالنفقة لأنه لم يفت فلم يكن مخالفاً كما لو مات، وإن قلنا بوجوب القضاء فهو عليه في ماله كما لو دخل في حج ظن أنه عليه فلم يكن عليه وفاته (فصل) وإذا سلك النائب طريقاً يمكنه سلوك أقرب منه بغير ضرر ففاضل النفقة في ماله، وإن تعجل عجله يمكنه تركها فكذلك، وإن أقام بمكة أكثر من مدة القصر بعد إمكان السفر للرجوع أنفق من ماله لأنه غير مأذون له فيه فإن لم يمكنه الخروج قبل ذلك فله النفقة لأنه مأذون فيه وله نفقة الرجوع وإن طالت إقامته بمكة ما لم يتخذها داراً فإن اتخذها داراً ولو ساعة لم يكن له نفقة لرجوعه لأنه صار بنية الإقامة مكياً فسقطت نفقته فلم تعد، وإن مرض في الطريق فعاد فله نفقة رجوعه لانه لابد له منه وقد حصل بغير تفريطه فأشبه مالو قطع عليه الطريق أو أحصر، وإن قال خفت المرض
فرجعت فعليه الضمان لأنه متوهم، وعن الإمام أحمد رحمه الله فيمن مرض في الكوفة فرجع: يرد جميع ما أخذ، وفي جميع ذلك إذا أذن له في النفقة فله ذلك لأن المال للمستنيب فجاز ما أذن فيه، وإن شرط أحدهما أن الدماء الواجبة عليه على غيره لم يصح الشرط لأن ذلك من موجبات فعله أو الحج الواجب عليه فلم يصح شرطه على غيره كما لو شرط على أجنبي (فصل) يجوز أن ينوب الرجل عن الرجل والمرأة، والمرأة عن المرأة والرجل في الحج في قول عوام

(3/183)


اهل العلم لا نعلم فيه مخالفاً إلا الحسن بن صالح فإنه كره حج المرأة عن الرجل.
قال إبن المنذر: هذه غفلة عن ظاهر السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المرأة الخثعمية أن تحج عن أبيها، وعليه يعتمد من أجاز حج المرء عن غيره وفي الباب حديث أبي رزين وأحاديث سواه (فصل) ولا يجوز الحج والعمرة عن حي إلا بإذنه فرضاً كان أو تطوعاً لأنها عبادة تدخلها النيابة فلم تجز عن البالغ العاقل بغير إذنه كالزكاة، فأما الميت فيجوز عنه بغير إذن واجباً كان أو تطوعاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالحج عن الميت وقد علم أنه لااذن له، وما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة فعلى هذا كلما يفعله النائب عن المستنيب مما لم يؤمر به مثل أن يؤمر بحج فيعتمر، أو بعمرة فيحج يقع عن الميت لأنه يصح عنه من غير إذنه، ولا يقع عن الحي لعدم إذنه فيه، ويقع عمن فعله لأنه لما تعذر وقوعه عن المنوي عنه وقع عن نفسه كما لو استنابه رجلان فأحرم عنهما جميعا وعليه رد النفقة لأنه لم يفعل ما أمر به فأشبه ما لو لم يفعل شيئاً (فصول في مخالفة النائب) إذا أمره بحج فتمتع أو اعتمر لنفسه من الميقات ثم حج نظرت فإن خرج إلى الميقات فأحرم منه بالحج جاز ولا شئ عليه نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي وإن أحرم من مكة فعليه دم لترك

(3/184)


ميقاته ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام الحج فيما بين الميقات ومكة وقال القاضي لا يقع فعله عن الآمر ويرد جميع النفقة لأنه أتى بغير ما أمر به وهو مذهب أبي حنيفة
ولنا أنه أحرم بالحج من الميقات فقد أتى بالحج صحيحاً من ميقاته اشبه مالو لم يحرم بالعمرة وإن أحرم به من مكة فما أخل إلا بما يجبره الدم فلم تسقط نفقته كما لو تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه فإن أمره بالإفراد فقرن لم يضمن شيئاً وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة يضمن لأنه مخالف ولنا أنه أتى بما أمر به وزيادة فصح كما لو أمره بشراء شاة بدينار فاشترى به شاتين تساوي إحداهما ديناراً ثم إن كان أمره بالعمرة بعد الحج ففعلها فلا شئ عليه وإن لم يفعل رد من النفقة بقدرها (فصل) فإن أمره بالتمتع فقرن وقع عن الآمر لأنه أمر بهما وإنما خالف في أنه أمره بالإحرام بالحج من مكة فأحرم به من الميقات وظاهر كلام أحمد انه لايرد شيئاً من النفقة وهو مذهب الشافعي وقال القاضي يرد نصف النفقة لأن غرضه في عمره مفردة وتحصيل فضيلة التمتع وقد خالفه في ذلك وفوته عليه وقع عن المستنيب أيضاً ويرد نصف النفقة لأنه أخل بالإحرام بالعمرة من الميقات وقد أمر به وإحرامه بالحج من الميقات زيادة لا يستحق به شيئاً (فصل) فإن أمره بالقران فأفرد أو تمتع صح ووقع النسكان عن الآمر ويرد من النفقة بقدر ما

(3/185)


ترك من إحرام النسك الذي تركه من الميقات وفي جميع ذلك إذا أمره بالنسكين ففعل أحدهما دون الآخر رد من النفقة بقدر ما ترك ووقع المفعول عن الآمر وللنائب من النفقة بقدره (فصل) وإن استنابه رجل في الحج وآخر في العمرة واذنا له في القرآن ففعل جاز لأنه نسك مشروع وإن قرن من غير إذنهما صح ووقع عنهما ويرد من نفقة كل واحد منهما نصفهما لأنه جعل السفر عنهما بغير إذنهما وإن أذن أحدهما دون الآخر رد على غير الآمر نصف نفقته وحده، وقال القاضي إذا لم يأذنا له ضمن الجميع لأنه أمر بنسك مفرد ولم يأت به فكان مخالفاً كما لو أمر بحج فاعتمر ولنا أنه أتى بما أمر به وإنما خالف في صفته لافي أصله أشبه من أمر بالتمتع ولو أمر بأحد النسكين فقرن بينه وبين النسك الآخر لنفسه فالحكم فيه كذلك ودم القرآن على النائب إذا لم يؤذن له فيه لعدم الإذن في سببه وإن أذن أحدهما دون الآخر فعلى الآذن نصف الدم ونصفه على النائب
(فصل) وإن أمر بالحج فحج ثم اعتمر لنفسه أو أمر بالعمرة فاعتمر ثم حج عن نفسه صح ولم يرد شيئاً من النفقة لأنه أتى بما أمر به على وجهه وإن أمره بالإحرام من ميقات فأحرم من غيره جاز لانها سواء في الأجزاء وإن أمره بالإحرام من الميقات جاز لأنه الأفضل وإن أمره بالإحرام من بلده فأحرم من الميقات جاز لأنه الأفضل، وإن أمره بالإحرام من الميقات فأحرم من بلده جاز لأنه زيادة لا تضر، وإن أمره بالحج في السنة أو الاعتمار في شهر ففعله في غيره جاز لأنه مأذون فيه في الجملة

(3/186)


(مسألة) (ومن قدر على السعي لزمه ذلك إذا كان في وقت المسير ووجد طريقاً آمناً لا خفارة فيه يوجد فيه الماء والعلف على المعتاد، وعنه أن إمكان المسير وتخلية الطريق من شرائط الوجوب.
وقال ابن حامد إن كانت الخفارة لا تجحف بماله لزمه بذلها) متى كملت الشروط المذكورة وجب على الحج على الفور لما ذكرناه ولزمه السعي إليه لأن مالا يتم الواجب إلا به واجب، ولأنه سعي إلى فريضة فكان واجباً كالسعي إلى الجمعة، وإنما يجب عليه السعي إذا كان في وقت المسير وهو كون الوقت متسعاً يمكنه الخروج فيه إليه وأمكنه المسير إليه بما جرت به العادة فلو أمكنه بأن يسير سيراً يجاوز العادة لم يلزمه السعي، ويشترط أن يجد طريقا مسلوكة لامانع فيها بعيدة كانت أو قريبة، براً كان أو بحراً إذا كان الغالب فيها السلامة، فإن لم يكن الغالب منه السلامة لم يلزمه سلوكه، فان كان في الطريق عدو يطلب خفارة لم يلزمه سلوكه ويسقط عنه السعي بسيره كانت أو كثيرة، ذكره القاضي لأنها رشوة فلم يلزمه بذلها في العبادة كالكثيرة وقال ابن حامد: إن كان ذلك مما لا يجحف بماله لزمه الحج لأنها غرامة يقف إمكان الحج على بذلها فلم يمنع الوجوب مع إمكان بذلها كثمن الماء وعلف البهائم، ويشترط أن يكون الطريق آمناً، فإن كان مخوفاً لم يلزمه سلوكه لأن فيه تغريراً بنفسه وماله، ويشترط أن يوجد فيه الماء والعلف كما جرت به العادة بحيث يوجد الماء وعلف البهائم في المنازل التي ينزلها على حسب العادة ولا يلزمه حمله من بلده ولا من أقرب البلدان إلى مكة كأطراف الشام ونحوها لأن هذا يشق ولم تجر العادة به، ولا يتمكن من حمل الماء والعلف لبهائمه في جميع الطريق بخلاف زاد نفسه فإنه يمكنه حمله
(فصل) واختلفت الرواية في إمكان المسير وتخلية الطريق فروي أنهما من شرائط الوجوب لا يجب الحج بدونهما لأن الله سبحانه وتعالى إنما فرض الحج على المستطيع وهذا غير مستطيع، ولأن هذا يتعذر معه فعل الحج فكان شرطاً كالزاد والراحلة وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، وروي أنهما من شرائط لزوم الأداء فلو كملت الشروط الخمسة ثم مات قبل وجود هذين الشرطين حج عنه بعد موته، وإن اعسر بعد وجودهما بقي في ذمته وهو ظاهر كلام الخرقي، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل ما يوجب الحج؟ قال " الزاد والراحلة " حديث حسن، ولأنه عذر يمنع نفس الأداء فلم يمنع الوجوب كالعضب، ولأن إمكان الأداء ليس بشرط في وجوب العبادات بدليل مالو طهرت الحائض أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون ولم يبق من وقت الصلاة ما يمكن أداؤها فيه، والاستطاعة مفسرة بالزاد والراحلة في الحديث فيجب المصير إليه، والفرق بين هذين وبين الزاد والراحلة أنه يتعذر مع فقدهما الأداء دون القضاء وفقد الزاد والراحلة يتعذر مع الجميع

(3/187)


(مسألة) (ومن وجب عليه الحج فتوفي قبله أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة) وجملة ذلك أن من وجب عليه الحج ولم يحج وجب أن يخرج عنه من جميع ماله ما يحج به عنه ويعتمر سواء فاته بتفريطه أو بغير تفريطه وبهذا قال الحسن وطاوس والشافعي وقال أبو حنيفة ومالك يسقط بالموت فإن وصى بها فهي من الثلث لأنه عبادة بدنية فسقط بالموت كالصلاة ولنا ماروى ابن عباس أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها مات ولم يحج قال " حجي عن أبيك " وعنه أن إمرأة نذرت أن تحج فماتت فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال " ارأيت لو كان على أختك دين أكنت قاضيه؟ " قال نعم قال " فاقضوا الله فهو أحق بالقضاء " رواهما النسائي ولأنه حق استقر عليه تدخله النيابة فلم يسقط بالموت كالدين وبهذا فارق الصلاة فإنها لا تدخلها النيابة والعمرة كالحج فميا ذكرنا إذا قلنا بوجوبها ويكون ما يحج به ويعتمر من جميع ماله لأنه دين مستقر فكان من جميع المال كالدين الآدمي (فصل) ويستناب من يحج عنه من حيث وجب عليه إما من بلده أو من الموضع الذي أيسر فيه
وبهذا قال الحسن ومالك واسحاق في النذر وقال عطاء في الناذر إن لم يكن نوى مكاناً فمن ميقاته واختاره ابن المنذر وقال الشافعي فيمن عليه حجة الإسلام يستأجر من يحج عنه من الميقات لأن الإحرام لا يجب من دونه ولنا أن الحج وجب عليه من بلده فوجب أن ينوب عنه منه لأن القضاء يكون على صفة الأداء كقضاء الصلاة والصوم كذلك الحكم في حج النذر والقضاء فياسا عليه فإن كان له وطنان استنيب من أقربهما فإن وجب عليه الحج بخراسان فمات ببغداد وبالعكس فقال أحمد يحج عنه من حيث وجب عليه لا من حيث موته ويحتمل أن يحج عنه من أقرب المكانين لأنه لو كان حياً في أقرب المكانين لم يجب عليه الحج من أبعد منه فكذلك نائبه فإن حج عنه من دون ذلك فقال القاضي إن كان دون مسافة القصر اجزأه لأنه في حكم القريب وإلا لم يجزئه لأنه لم يؤد الواجب بكماله ويحتمل أن يحزئه ويكون مسيئاً كمن وجب عليه الإحرام من الميقات فأحرم من دونه والله أعلم (فصل) فإن خرج للحج فمات في الطريق حج عنه من حيث مات لأنه أسقط بعض ما وجب عليه فلم يجب ثانياً وكذلك إن مات نائبه فاستنيب من حيث مات كذلك ولو أحرم بالحج ثم مات صحت النيابة عنه فما بقي من النسك سواء كان إحرامه لنفسه أو غيره نص عليه لأنها عبادة تدخلها النيابة فإذا مات بعد فعل بعضها قضي عنه باقيها كالزكاة (مسألة) (فإن ضاق ماله عن ذلك أو كان عليه دين أخذ للحج بحصته وحج به من حيث يبلغ)

(3/188)


إذا لم يخلف الميت ما يكفي للحج من بلده حج عنه من حيث يبلغ، وان كان عليه دين لآدمي تحاصا ويؤخذ للحج بحصته فيحج بها من حيث يبلغ) قال الامام أحمد في رجل أوصى أن يحج عنه ولا يبلغ النفقة قال يحج عنه من حيث تبلغ النفقة للراكب من غير مدينته وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فأتموا منه ما استطعتم " ولأنه قدر على اداء بعض الواجب فلزمه كالزكاة، وعن أحمد ما يدل على أن الحج يسقط لأنه قال في رجل أوصى بحجة واجبة ولم يخلف ما يتم به حجة هل يحج عنه من المدينة أو من حيث تتم الحجة فقال: ما يكون
الحج عندي إلا من حيث وجب عليه وهذا تنبيه على سقوطه عمن عليه دين لا تفي تركته به وبالحج فإنه إذا أسقطه مع عدم المعارض فمع المعارضة بحق الآدمي المؤكد أولى، ويحتمل أن يسقط عمن عليه دين وجهاً واحداً لأن حق الآدمي المعين أولى بالتقديم لتأكده وخفة حق الله تعالى مع عدم إمكانه على الوجه الواجب (مسألة) (فإن وصى بحج تطوع ولم يف ثلثه بالحج من بلده حج به من حيث يبلغ، أو يعان به في الحج نص عليه) وقال التطوع ما يبالي من حيث كان ويستناب عن الميت ثقة بأقل ما يوجد إلا أن يرضي الورثة بزيادة أو يكون قد أوصى بشئ فيجوز ما أوصى به ما لم يزد على الثلث (فصل) ويستحب أن يحج الإنسان عن أبويه إذا كانا ميتين أو عاجزين لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا رزين فقال " حج عن أبيك واعتمر " وسألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيها مات ولم يحج قال " حجي عن أبيك " ويستحب البداءة بالحج عن الأم إن كان تطوعاً أو واجباً عليهما.
نص عليه أحمد في التطوع لأن الأم مقدمة في البر لما روى أبو هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال " أمك " قال ثم من؟ قال " أمك " قال ثم من؟ قال " أمك " قال ثم من؟ قال " أبوك " متفق عليه وإن كان الحج واجباً على الأب دونها بدأ به لأنه واجب فكان أولى من التطوع، وقد روى زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا حج الرجل عن والديه تقبل منه ومنهما، واستبشرت أرواحهما في السماء، وكتب عند الله براً " وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حج عن أبويه أو قضى عنهما مغرماً بعث يوم القيامة مع الأبرار " وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حج عن أبيه أو أمه فقد قضى عنه حجته وكان له فضل عشر حجج " رواهن الدارقطني

(3/189)


(فصل) قال الشيخ رحمه الله: ويشترط لوجوب الحج على المرأة وجود محرمها وهو زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح إذا كان بالغاً عاقلا، وعن أن المحرم من شرائط لزوم الأداء
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في وجود المحرم في حق المرأة فروي عنه أن الحج لا يجب على المرأة إذا لم تجد محرماً وهذا ظاهر كلام الخرقي وقال أبو داود قلت لأحمد امرأة موسرة لم يكن لها محرم هل وجب عليها الحج؟ قال لا وقال المحرم من السبيل.
وهذا قول الحسن والنخعي واسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر وروي عنه أنه من شرائط لزوم السعي دون الوجوب فعلى هذه الرواية متى كملت لها الشرائط الخمس وفاتها الحج بموت أو مرض لا يرجى برؤه أخرج عنها حجة لأن شروط الحج المختصة بها قد كملت وإنما المحرم لحفظها فهو كتخلية الطريق وإمكان المسير وعنه رواية ثالثة أن المحرم ليس بشرط في الحج الواجب قال الأثرم سمعت احمد يسئل هل يكون الرجل محرماً لأم امرأته يخرجها إلى الحج فقال أما في حجة الفريضة فأرجو لأنها تخرج إليها مع نساء ومع كل من أمنته وأما في غيرها فلا، والمذهب الأول وقال ابن سيرين ومالك والاوزاعي والشافعي ليس المحرم شرطاً في حجها بحال قال ابن سيرين تخرج مع رجل من المسلمين لا بأس به، وقال مالك تخرج مع جماعة النساء، وقال الشافعي تخرج مع حرة مسلمة ثقة، وقال الأوزاعي تخرج مع قوم عدول تتخذ سلماً تصعد عليه وتنزل ولا يقربها رجل إلا أن يأخذ برأس البعير وتضع رجله على ذراعه قال إبن

(3/190)


المنذر تركوا القول بظاهر الحديث واشترط كل واحد منهم شرطاً لا حجة معه عليه واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة، وقال لعدي بن حاتم يوشك أن تخرج الظعينة تؤم البيت لاجوار معها لا تخاف إلا الله ولأنه سفر واجب فلم يشترط له المحرم كالمسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار.
ولنا ما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم " وعن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم " فقام رجل فقال يارسول الله إني كنت في غزوة كذا وانطلقت امرأتي حاجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " انطلق فاحجج مع امرأتك " متفق عليهما وروى ابن عمر وأبو سعيد رضي الله عنه نحوا من حديث أبي هريرة قال أبو عبد الله أما أبو هريرة فيقول يوم وليلة ويروى عن أبي هريرة
لا تسافر سفراً أيضاً، وأما حديث أبي سعيد فيقول ثلاثة أيام قلت ما تقول أنت؟ قال لا تسافر سفراً قليلاً ولا كثيراً إلا مع ذي محرم.
وروى الدارقطني بإسناده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لاتحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم " وهذا نص صريح في الحكم ولأنها أنشأت سفراً في دار الإسلام فلم يجز بغير محرم كحج التطوع وحديثهم محمول على الرجل بدليل أنهم شرطوا خروج غيرها معها فجعل ذلك الغير المحرم الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثنا أولى مما اشترطوه بالتحكم من غير دليل ويحتمل

(3/191)


أنه أراد أن الزاد والراحلة توجب الحج مع كمال بقية الشروط ولذلك اشترطوا تخلية الطريق وإمكان المسير وقضاء الدين ونفقة العيال واشترط مالك إمكان الثبوت على الراحلة وهي غير مذكورة في الحديث واشترط كل واحد منهم شرطاً في محل النزاع من عند نفسه لامن كتاب ولا سنة فما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاشتراط ولو قدر التعارض فحديثنا أصح وأخص وأولى بالتقديم وحديث عدي يدل على وجود السفر لا على جوازه ولذلك لم يجزه في غير الحج المفروض ولم يذكر فيه خروج غيرها معها، وأما الأسيرة إذا تخلصت من أيدي الكفار فإن سفرها سفر ضرورة لا يقاس عليه حالة الاختيار ولذلك تخرج فيه وحدها ولأنها تدفع ضرراً متيقناً بتحمل الضرر المتوهم فلا يلزم تحمل ذلك من غير ضرر أصلاً.
(فصل) والمحرم زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح كابنها وأبيها وأخيها من نسب أو رضاع وربيبها ورابها لما روى أبو سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو ذو محرم منها " رواه مسلم وكذلك من تحرم عليه بالمصاهرة بسبب مباح لأنها محرمة عليه على التأبيد أشبه التحريم بالنسب قال أحمد ويكون زوج أم المرأة محرماً لها يحج بها ويسافر الرجل مع أم ولد جده وإذا كان أخوها من الرضاعة خرجت معه وقال في أم امرأته يكون محرماً لها في الفرض دون غيره.
قال الأثرم كأنه ذهب إلى أنها لم تذكر في قوله تعالى (ولا يبدين زينتهم) الآية فأما من تحل

(3/192)


له في حال كزوج أختها فليس بمحرم لها نص عليه لأنه ليس بحرام عليها على التأبيد ولا يباح له النظر إليها وليس العبد محرماً لسيدته نص عليه أحمد، وقال الشافعي هو محرم لها وحكاه بعض اصحابنا عن أحمد لأنه يباح له النظر إليها فكان محرماً لها كذي رحمها ولنا ما روى سعيد في سننه بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " سفر المرأة مع عبدها ضيعة " ولأنه غير مأمون عليها ولا تحرم عليه على التأبيد أشبه الأجنبي وقياسه على ذي الرحم لا يصح لأنه مأمون عليها بخلاف العبد ولا يلزم من إباحة النظر إليها أن يكون محرما فإنه يجوز النظر إلى القواعد من النساء ويجوز لغير أولي الإربة النظر إلى الأجنبية وليس محرماً لها.
(فصل) وأما الموطوءة بشبهة والمزني بها وابنتها فليس بمحرم لهما وعنه أنه محرم والأول أولى لأن تحريمها بسبب غير مباح فلم يثبت به حكم المحرمية كالتحريم الثابت باللعان وليس له الخلوة بهما والنظر إليهما لذلك، والكافر ليس بمحرم للمسلمة وإن كانت ابنته.
قال الامام أحمد في يهودي أو نصراني أسلمت ابنته لا يزوجها ولا يسافر بها ليس هو لها بمحرم، وقال أبو حنيفة والشافعي هو محرم لها لأنها محرمة عليه على التأبيد ولنا أن إثبات المحرمية يقتضي الخلوة بها فوجب أن لا يثبت لكافر على مسلمة كالحضانة للطفل ولأنه لا يؤمن عليها أن يفتنها عن دينها كالطفل وما ذكروه يبطل بالمحرمة باللعان وبالمجوسي مع ابنته، ولا ينبغي أن يكون في المجوسي خلاف لأنه لا يؤمن عليها ويعتقد حلها، نص عليه أحمد في المحرم،

(3/193)


ويشترط في المحرم أن يكون بالغاً عاقلاً قيل لأحمد فيكون الصبي محرماً؟ قال لا حتى يحتلم لأنه لا يقوم بنفسه فكيف تخرج معه امرأة وذلك لأن المقصود بالمحرم حفظ المرأة ولا يحصل ذلك من غير البالغ لأنه يحتاج إلى حفظ فلا يقدر على حفظ غيره (فصل) ونفقة المحرم في الحج عليها نص عليه أحمد لأنه من سبيلها فكان عليها نفقته كالراحلة فعلى هذا يعتبر في استطاعتها أن تملك زاداً وراحلة لها ولمحرمها، فإن امتنع محرمها من الحج معها
مع بذلها له نفقته فهي كمن لا محرم لها، وهل يلزمه إجابتها إلى ذلك على روايتين، والصحيح أنه لا يلزمه لأن في الحج مشقة شديدة وكلفة عظيمة فلا يلزم أحداً لأجل غيره كما لم يلزمه أن يحج عنها إذا كانت مريضة (مسألة) (فإن مات المحرم في الطريق مضت في حجها ولم تصر محصرة)

(3/194)


إذا مات محرم المرأة في الطريق فقال الإمام أحمد رحمه الله إذا تباعدت مضت فقضت الحج

(3/195)


خاصة فهو آكد ثم قال بدلها من أن ترجع وهذا لابد لها من السفر بغير محرم فمضيها إلى قضاء حجتها

(3/196)


أولى، لكن إن كان حجها تطوعاً وأمكنها الإقامة ببلد فهو أولى من السفر بغير محرم، وإن مات وهي قريبة رجعت لتقضي العدة في منزلها لأنها في حكم المقيم

(3/197)


(مسألة) (ولا يجوز لمن لم يحج عن نفسه أن يحج عن غيره ولا نذره ولا نافلة فإن فعل انصرف إلى حجة الإسلام، وعنه يقع ما نواه) وجملة ذلك أنه ليس لمن لم يحج حجة الإسلام إن يحج عن غيره، فإن فعل وقع إحرامه عن حجة الاسلام، وبهذا قال الأوزاعي والشافعي واسحاق، وقال أبو بكر عبد العزيز يقع الحج باطلاً ولا يصح عنه ولا عن غيره وروي ذلك عن ابن عباس، لأنه لما كان من شرط طواف الزيارة تعيين النية فمتى نواه لغيره لم يقع عن نفسه، ولهذا لو طاف حاملاً لغيره ولم ينوه لنفسه لم يقع عن نفسه، وقال الحسن وابراهيم وأيوب السختياني وجعفر بن محمد ومالك وأبو حنيفة يجوز أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه، وعن أحمد مثل ذلك، وقال الثوري إن كان يقدر على الحج عن نفسه حج عن نفسه، وإن لم يقدر حج عن غيره، واحتجوا بأن الحج مما تدخله النيابة فجاز أن يؤديه عن غيره من لم يؤد فرضه عن نفسه كالزكاة
ولنا ماروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من شبرمة؟ " قال قريب لي، قال " هل حججت قط؟ " قال لا، قال " فاجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة " وراه الامام أحمد وأبو داود وابن ماجة وهذا لفظه، ولأنه حج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه فلم يقع عن الغير كما لو كان صبياً، ويفارق الزكاة فإنه يجوز أن ينوب عن الغير وقد بقي عليه بعضها وههنا لا يجوز أن ينوب عن الغير من شرع في الحج قبل إتمامه ولا يطوف عن نفسه

(3/198)


(فصل) فإن أحرم بالمنذورة من عليه حجة الإسلام وقع عن حجة الإسلام لأنها آكد وعنه يقع عن المنذورة لقوله صلى الله عليه وسلم " وإنما لكل امرئ ما نوى " فإذا قلنا يقع عن حجة الإسلام بقيت المنذورة في ذمته ولم تسقط عنه نص عليه أحمد وهذا قول ابن عمر وأنس وعطاء لأنها حجة واحدة فلم تجزئ عن حجتين كما لو نذر حجتين فحج واحدة، وقد نقل أبو الخطاب عن أحمد فيمن نذر أن يحج وعليه حجة مفروضة فاحرم عن النذر وقعت عن المفروضة ولا يجب عليه شئ آخر وصار كمن نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم في يوم من رمضان فنواه عن فرضه ونذره فإنه يجزئه في رواية ذكره الخرقي

(3/199)


وهذا قول ابن عباس وعكرمة رواه سعيد بن منصور عنهما، وروي أن عكرمة سئل عن ذلك فقال: تقضى حجته عن نذره وعن حجة الإسلام ارأيتم لو أن رجلا نذر أن يصلي أربع ركعات فصلى العصر أليس ذلك يجزئه منهما؟ قال وذكرت ذلك لابن عباس فقال أصبت أو أحسنت (فصل) فإن أحرم يتطوع، أو نذر من عليه حجة الإسلام وقع عن حجة الاسلام، وبه قال ابن عمر وأنس والشافعي، وقال مالك والثوري وأبو حنيفة وإسحاق وابن المنذر يقع مانواه وهي رواية عن أحمد وقول ابي بكر لما تقدم

(3/200)


ولنا أنه أحرم بالحج وعليه فريضة فوقع عن فرضه كالمطلق، ولو أحرم بتطوع وعليه منذورة وقعت عن المنذورة لأنها واجبة أشبهت حجة الإسلام والعمرة كالحج فيما ذكرنا لأنها أحد النسكين
أشبهت الآخر والنائب كالمنوب عنه في هذا، فمتى أحرم النائب بتطوع أو نذر عمن لم يحج حجة الإسلام وقع عن حجة الإسلام سواء حج عن ميت أو حي لأن النائب يجري مجرى المنوب عنه، وإن استناب رجلين في حجة الإسلام ومنذور أو تطوع فأيهما سبق بالإحرام وقعت حجته عن حجة الإسلام ممن هي فكذلك من نائبه

(3/201)


(فصل) وإذا كان الرجل قد أسقط فرض أحد النسكين عنه جاز أن ينوب عن غيره فيه دون الآخر، وليس للصبي والعبد أن ينوبا في الحج عن غيرهما لأنهما لم يسقطا عن أنفسهما فهما كالحر البالغ في ذلك، ويحتمل أن لهما النيابة في حج التطوع دون الفرض لأنهما من اهل التطوع دون الفرض ولا يمكن أن تقع الحجة التي نابا فيها عن فرضهما لكونهما ليسا من أهله فبقيت لمن فعلت عنه (مسألة) (وهل يجوز لمن يقدر على الحج بنفسه أن يستنيب في حج التطوع على روايتين الاستنابة في حج التطوع تنقسم إلى ثلاثة أقسام

(3/202)


(أحدها) أن يكون ممن لم يؤد حجة الإسلام فلا يصح أن يستنيب في حج التطوع لأنه لا يصح أن يفعله بنفسه فبنائبه أولى (الثاني) أن يكون ممن قد أدى حجة الإسلام وهو عاجز عن الحج بنفسه فيجوز أن يستنيب في التطوع، فإن ما جازت الاستنابة في فرضه جازت في نفله كالصدقة

(3/203)


(الثالث) أن يكون قادراً على الحج وقد أسقط فرضه ففيه روايتان (إحداهما) يجوز وهو قول أبي حنيفة لأنها حجة لا تلزمه بنفسه فجاز أن يستنيب فيها كالمعضوب (والثانية) لا يجوز وهو مذهب الشافعي لأنه قادر على الحج بنفسه فلم يجز أن يستنيب فيه كالفرض

(3/204)


(فصل) فإن عجز عنه عجزاً مرجو الزوال كالمريض الذي يرجى برؤه والمحبوس جاز أن
يستنيب فيه لأنه حج لا يلزمه عجز عن فعله بنفسه فجاز أن يستنيب فيه كالشيخ الكبير والفرق بينه وبين

(3/205)


الفرض أن الفرض عبادة العمر فلا يفوت بتأخيره عن هذا العام والتطوع مشروع في كل عام فيفوت حج هذا العام بتأخيره، ولأن حج الفرض إذا مات قبل فعله فعل عنه بعد موته بخلاف التطوع