الشرح
الكبير على متن المقنع " (كتاب الاعتكاف) (وهو لزوم المسجد لطاعة
الله) الاعتكاف في اللغة لزوم الشئ وحبس النفس عليه براً كان أو غيره ومنه
قوله تعالى (يعكفون على أصنام لهم) قال الخليل عكف يعكف ويعكف وهو في الشرع
الإقامة في المسجد لطاعة الله تعالى على صفة نذكرها، وهو قربة وطاعة قال
الله تعالى (وطهر بيتي للطائفين والعاكفين) وقالت عائشة كان
(3/117)
النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر
الأواخر متفق عليه وروى ابن ماجة في سننه عن ابن عباس عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال في المعتكف " هو يعكف الذنوب ويجري له من الحسنات كعامل
الحسنات كلها " إلا أن الحديث ضعيف فيه فرقد السنجي قال أبو داود لأحمد
رحمه الله تعرف في فضل الاعتكاف شيئاً؟ قال لا إلا شيئا ضعيفا (مسألة) (وهو
سنة إلا أن ينذره فيجب) لا نعلم خلافاً في استحبابه وأنه إذا نذره وجب عليه
قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف لا يجب على الناس فرضا إلا
أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذراً فيجب عليه ويدل على أنه سنة أن
النبي صلى الله عليه وسلم فعله وداوم عليه تقربا إلى الله وطلباً لثوابه
واعتكف أزواجه بعده ومعه ويدل على أنه غير واجب أن أصحابه لم يعتكفوا ولا
أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم به إلا من أراده وقال عليه السلام " من
أراد أن يعتكف فليعتكف العشر الأواخر " ولو كان واجباً لم يعلقه بالإرادة،
وأما إذا نذره فيجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يطع الله
فليطعه " وعن عمر أنه قال يارسول الله إني نذرت إن أعتكف ليلة في المسجد
الحرام فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أوف بنذرك " رواهما البخاري
(فصل) فإن نوى الاعتكاف مدة لم يلزمه فإن شرع فيها فله اتمامها والخروج
منها متى شاء،
(3/118)
وبهذا قال الشافعي وقال مالك: يلزمه بالنية
مع الدخول فيه، فإن قطعه فعليه قضاؤه، قال ابن عبد البر لا يختلف في ذلك
الفقهاء ويلزمه القضاء عند جميع العلماء، قال وإن لم يدخل فيه فالقضاء
مستحب ومن العلماء من أوجبه وإن لم يدخل فيه، واحتج بما روي عن عائشة أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان فاستأذنته
عائشة فإذن لها فأمرت ببنائها فضرب وسألت حفصة أن يستأذن لها رسول الله صلى
الله عليه وسلم ففعلت فأمرت ببنائها فضرب، فلما رأت ذلك زينب بنت جحش أمرت
ببنائها فضرب قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح دخل
معتكفه، فلما صلى الصبح انصرف فبصر بالأبنية فقال " ما هذا؟ " فقالوا بناء
عائشة وحفصة وزينب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " البر أردتن ما أنا
بمعتكف " فرجع فلما أفطر اعتكف عشراً من شوال، متفق على معناه، ولأنها
عبادة تتعلق بالمسجد فلزمت بالدخول فيها كالحج وما ذكره ابن عبد البر فليس
بشئ، فإن هذا ليس بإجماع ولا يعرف هذا القول عن أحد سواه، وقال الشافعي: كل
عمل لك أن لا تدخل فيه، فإذا دخلت فيه فخرجت منه فليس عليك أن تقضي إلا
الحج والعمرة، ولم يقم الإجماع على لزوم نافلة بالشروع فيها سوى الحج
والعمرة، وإذا كانت العبادات التي لها أصل في الوجوب لا تلزم بالشروع فما
ليس له أصل في الوجوب أولى، وقد انعقد الاجماع على أن الإنسان لو نوى
الصدقة بمال قدر وشرع في الصدقة به فأخرج بعضه لم تلزمه الصدقة بباقيه وهو
نظير للاعتكاف لأنه غير مقدر بالشرع
(3/119)
فأشبه الصدقة، وما ذكره من الحديث حجة عليه
فإن النبي صلى الله عليه وسلم ترك اعتكافه ولو كان واجباً ما تركه، وأزواجه
تركن الاعتكاف بعد نيته وضرب الأبنية له ولم يوجد عذر يمنع فعل الواجب ولا
أمرن بالقضاء وقضاء النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لوجوبه عليه وإنما
فعله تطوعاً لأنه كان إذا عمل عملاً أثبته فكان فعله لقضائه على سبيل
التطوع كما قضى السنة التي فاتته بعد الظهر وقبل الفجر فتركه دليل على عدم
وجوبه وقضاؤه لا يدل على الوجوب لأن قضاء السنن مشروع، فإن قيل إنما جاز
تركه ولم يؤمر تاركه من النساء بقضائه لتركهن إياه قبل الشروع قلنا فقد سقط
الاحتجاج لاتفاقنا على أنه لا يلزم قبل شروعه فيه فلم يكن القضاء دليلاً
على الوجوب مع الاتفاق على انتفائه ولا يصح قياسه على الحج والعمرة لأن
الوصول إليهما لا يحصل في الغالب إلا بعد كلفة عظيمة، ومشقة شديدة، وانفاق
مال كثير، ففي إبطالهما تضييع لماله وإبطال لأعماله الكثيرة، وقد نهينا عن
إضاعة المال وإبطال الأعمال، وليس في ترك الاعتكاف بعد الشروع فيه مال يضيع
ولا عمل يبطل، فإن ما مضى من اعتكافه لا يبطل بترك اعتكاف المستقبل، ولأن
النسك يتعلق بالمسجد الحرام على الخصوص والاعتكاف بخلافه (مسألة) (ويصح
بغير صوم وعنه لا يصح فعلى هذا لا يصح في ليلة مفردة ولا بعض يوم) ظاهر
المذهب أن الاعتكاف يصح بغير صوم يروي ذلك عن علي وابن مسعود وسعيد بن
المسيب
(3/120)
وعمر بن عبد العزيز والحسن وعطاء وطاوس
والشافعي واسحاق، وعن أحمد رواية أخرى أن الصوم شرط فيه، قال إذا اعتكف يجب
عليه الصوم، يروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة، وبه قال الزهري وأبو
حنيفة ومالك والثوري والليث والحسن بن حي لما روي عن عائشة عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال " لا اعتكاف إلا بصوم " وعن ابن عمر جعل عليه أن
يعتكف في الجاهلية فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال " اعتكف وصم " رواه
أبو داود، ولأنه لبث في مكان مخصوص فلم يكن بمجردة قربة كالوقوف ولنا ما
روى عن عمر أنه قال يارسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في
المسجد الحرام فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أوف بنذرك " رواه البخاري
ولو كان الصوم شرطا لما صح اعتكاف الليل لأنه لا صيام فيه ولأنه عبادة تصح
في الليل فلم يشترط له الصيام كالصلاة وكسائر العبادات ولأن إيجاب الصوم
حكم لا يثبت إلا بالشرع ولم يصح فيه نص ولا إجماع فإن أحاديثهم لا تصح، أما
حديث عمر فتفرد به ابن بديل وهو ضعيف قال أبو بكر النيسابوري هذا حديث منكر
والصحيح ما رويناه
(3/121)
أخرجه البخاري والنسائي وغيرهما وحديث
عائشة موقوف عليها ومن رفعة فقد وهم، ثم لو صح فالمراد به الاستحباب فإن
الصوم فيه أفضل وقياسهم ينقلب عليهم فإنه لبث في مكان مخصوص فلم يشترط له
الصوم كالوقوف ثم نقول بموجبه فإنه لا يكون قربة بمجرده بل بالنية إذا ثبت
هذا فإنه يستحب أن يصوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف وهو صائم
ولأن المعتكف يستحب له التشاغل بالعبادات والقرب والصوم من أفضلها ويتفرغ
به مما يشغله عن العبادات ويخرج به من الخلاف (فصل) وإذا قلنا باشتراط
الصوم لم يصح اعتكاف ليلة مفردة ولا بعض يوم ولا ليلة وبعض يوم لأن الصوم
المشترط لا يصح في أقل من يوم ويحتمل أن يصح في بعض اليوم إذا صام اليوم
كله لأن الصوم المشروط وجد في زمان الاعتكاف ولا يعتبر وجود المشروط في زمن
الشرط كله (مسألة) (وليس للمرأة الاعتكاف إلا بإذن زوجها ولا للعبد إلا
بإذن سيده) وذلك لان منافعهما مملوكة لغيرهما والاعتكاف يفوتها ويمنع
استيفائها وليس بواجب عليهما بالشرع فكان لهما المنع منه وأم الولد والمدبر
كالقن في هذا لأن الملك باق فيهما لهما (مسألة) (فإن شرعا فيه بغير إذن
فلهما تحليلهما وإن كان بإذن فلهما تحليلهما إن كان تطوعاً وإلا فلا) إذا
اعتكفت الزوجة بغير إذن زوجها أو العبد بغير إذن السيد فلهما منعهما منه
وإن كان فرضا لأنه يتضمن تفويت حق غيرهما بغير إذنه فكان لصاحب الحق المنع
منه كالغصب وإذا أذن السيد أو الزوج في الاعتكاف ثم أرادا إخراجهما منه بعد
شروعهما فيه فلهما ذلك في التطوع وبه قال الشافعي وأبو حنيفة في العبد وقال
في الزوجة ليس لزوجها إخراجها لأنها تملك بالتمليك فبالإذن اسقط حقه من
منافعها وأذن لها في استيفائها فلم يكن له الرجوع فيها كما لو أذن لها في
الحج فأحرمت به بخلاف العبد فإنه لا يملك بالتمليك وقال مالك ليس له
تحليلهما لأنهما عقدا على أنفسهما تمليك منافع كانا يملكانها بحق الله
تعالى فلم يجز الرجوع فيها كما لو احرما بالحج بإذنهما ولنا أن لهما المنع
منه ابتداء فكان لهما المنع منه دواما كالعارية ويخالف الحج فإنه يلزم
بالشروع فيه ويجب المضي في فاسده بخلاف الاعتكاف على ما مضى من الاختلاف
(3/122)
(فصل) وإن كان ما أذنا فيه منذوراً لم يكن
لهما تحليلهما منه لأنه يتعين بالشروع فيه ويجب إتمامه فيصير كالحج إذا
أحرما به فأما إن نذرا الاعتكاف فأراد السيد والزوج منعهما الدخول فيه فإن
كان النذر بإذنهما وكان معيناً لم يملكا منعهما منه لأنه وجب بإذنهما وإن
كان النذر المأذون فيه غير معين فشرعا فيه باذنهما لم يملكا منعهما منه
لأنه يتعين بالدخول فيه فهو كالمعين بالنذر، وإن كان النذر بإذن وكان غير
معين والشروع بغير إذن لم يجز تحليلهما كما لو أذن في الشروع خاصة ويحتمل
أن لهما تحليلهما (مسألة) (وللمكاتب أن يحج ويعتكف بغير إذن سيده) سواء كان
فرضاً أو تطوعاً لأن السيد لا يستحق منافعه ولا يملك اجباره على الكسب
وإنما له دين في ذمته فهو كالحر المدين (مسألة) (ومن بعضه حر إن كان بينهما
مهايأة فله أن يعتكف في نوبته بغير إذن سيده) لأن منافعه غير مملوكة لسيده
في ذلك الزمن وحكمه في نوبة سيده حكم القن، فإن لم يكن بينهما مهايأة
فلسيده منعه لأن له ملكاً في منافعه في جميع الأوقات (فصل) ولا يصح بغير
نية لانه عبادة محضة أشبه الصوم، وإن كان فرضاً لزمه نية الفرضية ليتميز عن
التطوع، فإن نوى الخروج منه ففيه وجهان (أحدهما) يبطل كما لو قطع نية الصوم
(والثاني) لا يبطل لأنها قربة تتعلق بمكان فلا يخرج منها بنية الخروج كالحج
(مسألة) (ولا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه إلا المرأة لها الاعتكاف
في كل مسجد إلا مسجد بيتها) لا يجوز للرجل الاعتكاف في غير مسجد لا نعلم
فيه خلافا بين أهل العلم لقول الله تعالى (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في
المساجد) فخصها بذلك، ولو صح الاعتكاف في غيرها لم يختص بتحريم
(3/123)
المباشرة فيها، فإن المباشرة محرمة في
الاعتكاف مطلقاً، وفي حديث عائشة قالت: أن كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليدخل إلي رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة
وإذا كان معتكفاً
وقوله إلا في مسجد يجمع فيه أي تقام فيه الجماعة، وإنما اشترط ذلك لأن
الجماعة واجبة فاعتكف الرجل في مسجد لا تقام فيه يفضي الى أحد أمرين، إما
ترك الجماعة الواجبة وإما خروجه إليها فيتكرر ذلك منه كثيراً مع إمكان
التحرز منه وذلك مناف للاعتكاف إذ هو لزوم الإقامة في المسجد على طاعة الله
فعلى هذا يجوز الاعتكاف في كل مسجد تقام فيه الجماعة، وروي عن حذيفة وعائشة
والزهري ما يدل على هذا، واعتكف أبو قلابة وسعيد بن جبير في مسجد حيهما،
وروي عن عائشة والزهري أنه لا يصح إلا في مساجد الجماعات وهو قول الشافعي
إذا كانت الجمعة تتخلل اعتكافه لئلا يلتزم الخروج من معتكفه لما يمكنه
التحرز من الخروج إليه، وروي عن حذيفة وسعيد بن المسيب لا يجوز الاعتكاف
إلا في مسجد نبي، وحكي عن حذيفة أن الاعتكاف لا يصح إلا في أحد المساجد
الثلاثة.
قال سعيد ثنا مغيرة عن إبراهيم قال: دخل حذيفة مسجد الكوفة فإذا هو بأبنية
مضروبة فسأل عنها فقيل قوم معتكفون فانطلق الى ابن مسعود فقال ألا تعجب من
قوم يزعمون أنهم معتكفون بين دارك ودار الاشعري؟ فقال عبد الله لعلهم
أصابوا واخطأت، وحفظوا ونسيت، فقال حذيفة لقد علمت ما الاعتكاف إلا في
ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد الرسول صلى الله عليه
وسلم.
وقال مالك يصح الاعتكاف في كل مسجد لعموم قوله (وأنتم عاكفون
(3/124)
في المساجد) وهو قول الشافعي إذا لم تتخلل
اعتكافه جمعة ولنا ماروى الدارقطني بإسناده عن الزهري عن عروة وسعيد بن
المسيب عن عائشة أن السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الإنسان ولا اعتكاف
إلا في مسجد جماعة وهو ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى
سعيد ثنا هشيم أنا جرير عن الضحاك عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " كل مسجد له إمام ومؤذن فالاعتكاف فيه يصلح " ولأن قوله (وأنتم
عاكفون في المساجد) يقتضي إباحة الاعتكاف في كل مسجد إلا أنه يقيد بما يقام
فيه الجماعة بالأخبار، والمعنى الذي ذكرناه فيبقى على العموم فيما عداه،
واشترط الشافعي أن يكون المسجد مما تقام فيه الجمعة وهذا مخالف للأخبار
المذكورة والجمعة لا تتكرر فلا يصح قياسها على الجماعة، ولا يصر الخروج
إليها كاعتكاف
المرأة مدة يتخللها أيام حيضها، ولو كان الجامع تقام فيه الجمعة وحدها لم
يجز اعتكاف الرجل فيه عندنا، ويصح عند مالك والشافعي، ومبنى ذلك على أن
الجماعة واجبة عندنا فيلزم الخروج إليها وليست واجبة عندهم (فصل) فإن كان
اعتكافه في مدة غير وقت الصلاة كليلة أو بعض يوم جاز في كل مسجد لعدم
المانع، وإن كان تقام فيه في بعض الزمان جاز الاعتكاف فيه في ذلك الزمن دون
غيره، وإن كان المعتكف ممن لا تلزمه الجماعة كالمريض والمعذور ومن هو في
قرية لا يصلي فيها غيره جاز اعتكافه في
(3/125)
كل مسجد لأن الجماعة ساقطة عنه أشبه
المرأة، ويحتمل أن لا يجوز ذلك للمريض والمعذور لأنه من أهل الجماعة فأشبه
من تجب عليه، ولأنه إذا التزم الاعتكاف وكلفه نفسه فينبغي أن يجعله في مكان
تصلى فيه الجماعة، ولأن من التزم مالا يلزمه لا يصح بدون شرطه كالمتطوع
بالصلاة والأول أولى لأن من لا تجب عليه الجماعة لا يجب عليه الخروج إليها
فلا يفوت شرط الاعتكاف، ولو اعتكف اثنان أو أكثر في مسجد لا تقام فيه
الجماعة فأقاما الجماعة صح اعتكافهم لأنهما أقاما الجماعة أشبه ما لو
أقامها غيرهما (فصل) فأما المرأة فيجوز اعتكافها في كل مسجد لأن الجماعة لا
تجب عليها، وبهذا قال الشافعي وليس لها الاعتكاف في بيتها، وقال أبو حنيفة
والثوري لها الاعتكاف في مسجد بيتها وهو المكان الذي جعلته للصلاة منه
واعتكافها فيها أفضل كصلاتها فيه، وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يصح اعتكافها
في مسجد الجماعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الاعتكاف في المسجد لما
رأى أبنية أزواجه فيه وقال " البر أردتن؟ " ولأن مسجد بيتها موضع فضيلة
صلاتها فكان موضع اعتكافها كالمسجد في حق الرجل ولنا قوله تعالى (وأنتم
عاكفون في المساجد) والمراد بها المواضع التي بنيت للصلاة فيها وموضع
صلاتها في بيتها ليس بمسجد لأنه لم يبن للصلاة فيه وتسميته مسجداً مجاز فلا
يثبت له أحكام المساجد الحقيقية بدليل جواز لبث الجنب فيه وصار كقوله عليه
السلام " جعلت لي الأرض مسجداً " ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حين
استأذنه أزواجه في الاعتكاف في المسجد أذن لهن ولو لم يكن موضعاً لاعتكافهن
لما أذن فيه ولو كان الاعتكاف في غيره أفضل لنبههن عليه ولأن الاعتكاف قربة
يشترط لها المسجد في
(3/126)
حق الرجل فيشترط في حق المرأة كالطواف
وحديث عائشة قد بينا أنه حجة لنا وإنما كره اعتكافهن في تلك الحال حيث كثرت
ابنيتهن لما رأى من منافستهن فكرهه لهن خشية عليهن من فساد نيتهن ولذلك قال
" البر أردتن؟ " منكراً لذلك أي لم تفعلن ذلك تبرراً ولو كان للمعنى الذي
ذكروه لأمرهن بالاعتكاف في بيوتهن ولم يأذن لهن في المسجد، وأما الصلاة فلا
يصح اعتبار الاعتكاف بها فان صلاة النافلة للرجل في بيته أفضل ولا يصح
اعتكافه فيه بالاتفاق (فصل) وإذا اعتكفت المرأة في المسجد استحب لها أن
تستتر بشئ لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما أردن الاعتكاف أمرن
بأبنيتهن فضربت في المسجد ولأن المسجد يحضره الرجال وخير لهم وللنساء أن لا
يرى بعضهم بعضاً وإذا ضربت بناء جعلته في مكان لا يصلي فيه الرجال لئلا
تقطع صفوفهم ويضيق عليهم ولا بأس أن يستتر الرجل أيضاً فإن النبي صلى الله
عليه وسلم أمر ببنائه فضرب ولانه أسترله وأخفى لعمله وروى ابن ماجة عن أبي
سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف في قبة تركية على سدتها قطعة
حصير قال فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة ثم أطلع رأسه فكلم الناس
(مسألة) (والأفضل الاعتكاف في الجامع إذا كانت الجمعة تتخلله) إذا كانت
الجمعة تتخلل الاعتكاف فالأفضل أن يكون في المسجد الذي تقام فيه الجمعة
لئلا يحتاج إلى الخروج إليها فيترك الاعتكاف مع إمكان التحرز من ذلك ولأن
فيه خروجاً من الخلاف على ما ذكرناه ولأن ثواب الجماعة فيه أكثر (مسألة)
(وإذا نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد فله فعله في غيره، ولا كفارة عليه
إلا المساجد الثلاثة) وجملة ذلك أنه لا يتعين شئ من المساجد بنذره الاعتكاف
أو الصلاة فيه إلا المساجد الثلاثة
(3/127)
وهي المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله
عليه وسلم، والمسجد الأقصى لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تشد
الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا "
متفق عليه ولو تعين غيرها
بتعيينه لزمه المضي إليه واحتاج لشد الرحل لقضاء نذره فيه ولأن الله تعالى
لم يعين لعبادته مكاناً فلم يتعين بتعيين غيره وإنما تعينت هذه المساجد
للخبر الوارد فيها ولأن العبادة فيها أفضل فإذا عين ما فيه فضيلة لزمته
كأنواع العبادة ولهذا قال الشافعي في صحيح قوليه وقال في الآخر لا يتعين
المسجد الأقصى لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صلاة في مسجدي هذا أفضل
من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " رواه مسلم، وهذا يدل على
التسوية فيما عدا هذين المسجدين لأن المسجد الأقصى لو فضلت الصلاة فيه على
غيره يلزم أحد أمرين إما خروجه من عموم هذا الحديث وإما كون فضيلته بألف
مختصاً بالمسجد الأقصى ولنا أنه من المساجد التي تشد الرحال إليها فتعين
بالتعيين في النذر كالآخرين وما ذكره لا يلزم فإنه إذا فضل الفاضل بألف فقد
فضل المفضول بها أيضاً (مسألة) (وأفضلها المسجد الحرام ثم مسجد المدينة ثم
المسجد الأقصى) وقال قوم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من المسجد
الحرام لأن النبي (ص) إنما دفن في خير البقاع وقد نقله الله تعالى من مكة
إلى المدينة فدل على أنها أفضل ولنا قوله عليه السلام (صلاة في مسجدي هذا
أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " وروى ابن ماجة بإسناده عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف
صلاة فيما سواه فيدخل في عمومه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم (مسألة) (فإن
نذره في الأفضل لم يكن له فعله في غيره وإن نذره في غيره فله فعله فيه) إذا
نذر الاعتكاف في المسجد الحرام لزمه ولم يكن له الاعتكاف فيما سواه لان عمر
نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال
(أوف بنذرك) متفق عليه وإن نذر أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
جاز أن يعتكف في المسجد الحرام لأنه أفضل ولم يجز له أن يعتكف في المسجد
الأقصى لأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل منه فلم يجز له تفويت
فضيلته وإن نذر الاعتكاف في المسجد الأقصى جاز له أن يعتكف في المسجدين
الآخرين لأنهما أفضل منه وروى الإمام أحمد في مسنده عن رجال من الأنصار من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا جاء إلى
النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح والنبي صلى الله عليه وسلم في مجلس
قريباً من المقام فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال يا نبي الله:
إني نذرت إن فتح الله للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين مكة لأصلين في
بيت المقدس وإني وجدت رجلا من أهل الشام ههنا في قريش مقبلاً معي ومدبراً،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ههنا فصل "
(3/128)
فقال الرجل قوله هذا ثلاث مرات كل ذلك يقول
النبي صلى الله عليه وسلم " ههنا فصل " ثم قال الرابعة مقالته هذه، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم " اذهب فصل فيه، فو الذي بعث محمدا بالحق لو صليت
ههنا لقضي عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس " (فصل) وإن نذر الاعتكاف في غير
هذه المساجد فدخل فيه ثم انهدم معتكفه ولم يمكن المقام فيه لزم إتمام
الاعتكاف في غيره ولم يبطل اعتكافه (مسألة) (وإن نذر اعتكاف شهر بعينه لزمه
الشروع فيه قبل دخول ليلته إلى انقضائه) إذا عين بنذره زمناً تعين لأن الله
تعالى عين للعبادة زمناً فتعين بتعيين العبد ويلزمه الشروع فيه قبل دخول
ليلته إلى انقضائه وهذا قول مالك والشافعي، وحكى ابن أبي موسى عن أحمد
رواية أخرى انه يدخل في معتكفه قبل طلوع الفجر من أوله وهو قول الليث وزفر
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح ثم دخل
معتكفه، متفق عليه، ولأن الله تعالى قال (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) ولا
يلزم الصوم إلا من قبل طلوع الفجر، ولأن الصوم شرط في الاعتكاف فلم يجب
ابتداؤه قبل شرطه ولنا أنه نذر الشهر وأوله غروب الشمس بدليل حل الديون
المعلقة به ووقوع الطلاق والعتاق المعلقين به فوجب أن يدخل قبل الغروب
ليستوفي جميع الشهر فإنه لا يمكن إلا بذلك وما لا يتم الواجب إلا به فهو
واجب كامساك جزء من الليل في الصوم، وأما الصوم فمحله النهار فلا يدخل فيه
شئ من الليل في أثنائه ولا ابتدائه الا ما حصل ضرورة بخلاف الاعتكاف وأما
الحديث فقال ابن عبد البر لا أعلم أحداً من الفقهاء قال به على أن الخبر
إنما هو في التطوع فمتى شاء دخل، وفي مسألتنا نذر شهراً فيلزمه اعتكاف شهر
كامل، ولا يحصل إلا أن يدخل فيه
قبل غروب الشمس من أوله ويخرج بعد غروبها من آخره فأشبه ما لو نذر اعتكاف
يوم فإنه يلزمه الدخول فيه قبل طلوع فجره ويخرج بعد غروب شمسه وقوله: إن
الاعتكاف لا يصح بغير صوم قد أجبنا عنه فيما مضى (فصل) وإن أحب اعتكاف
العشر الأواخر تطوعاً ففيه روايتان (إحداهما) يدخل قبل غروب الشمس من ليلة
إحدى وعشرين لما روي عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يعتكف العشر الأوسط من رمضان حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي
يخرج من صبيحتها من اعتكافه قال " من كان معي فليعتكف العشر الأواخر " متفق
عليه ولأن العشر بغير هاء عدد الليالي فإنها عدد المؤنث قال الله تعالى
(وليال عشر) وأول الليالي العشر ليلة إحدى وعشرين
(3/129)
(والرواية الثانية) يدخل بعد صلاة الصبح
قال حنبل قال أحمد أحب إلي أن يدخل قبل الليل ولكن حديث عائشة أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يصلي الفجر ثم يدخل معتكفه وبهذا قال الأوزاعي واسحاق
ووجهه ماروت عمرة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الصبح
دخل معتكفه متفق عليه وإن نذر اعتكاف العشر ففي وقت دخوله الروايتان (فصل)
ومن اعتكف العشر الأواخر من رمضان استحب أن يبيت ليلة العيد في معتكفه نص
عليه أحمد وروي عن النخعي وأبي مجاز وأبي بكر بن عبد الرحمن والمطلب بن
حنطب وأبي قلابة أنهم كانو يستحبون ذلك وروى الأثرم باسناده عن أيوب عن أبي
قلابة أنه كان يبيت في المسجد ليلة الفطر ثم يغدو كما هو إلى العيد وكان
يعني في اعتكافه لا يلقى له حصير ولا مصلى يجلس عليه كان يجلس كأنه بعض
القوم قال فأتيته في يوم الفطر فإذا في حجره جويرية مزينة ما ظننتها إلا
بعض بناته فإذا هي أمة له فأعتقها وغدا كما هو إلى العيد وقال إبراهيم
كانوا يحبون لمن اعتكف العشر الأواخر من رمضان أن يبيت ليلة الفطر في
المسجد ثم يغدو إلى المصلى من المسجد (مسألة) (وإن نذر شهراً مطلقاً لزمه
شهر متتابع)
إذا نذر اعتكاف شهر مطلق فهل يلزمه التتابع فيه وجهان بناء على الروايتين
في نذر الصوم (أحدهما) لا يلزمه وهو مذهب الشافعي لأنه معنى يصح فيه
التفريق فلا يجب فيه التتابع بمطلق النذر كالصيام (والثاني) يلزمه التتابع
وهو قول أبي حنيفة ومالك وقال القاضي يلزمه التتابع وجهاً واحداً لأنه معنى
يحصل في الليل والنهار فإذا أطلقه اقتضى التتابع كما لو حلف لا يكلم زيداً
شهراً وكمدة الإيلاء والعدة وبهذا فارق الصيام فإن أتى بشهر بين هلالين
أجزأه ذلك وإن كان ناقصاً وإن اعتكف ثلاثين يوما من شهرين جاز فتدخل فيه
الليالي لأن الشهر عبارة عنهما ولا يجزئه أقل من ذلك وإن قال الله تعالى أن
اعتكف أيام هذا الشهر أو ليالي هذا الشهر لزمه ما نذر ولم يدخل فيه غيره
وكذلك إن قال شهراً في النهار أو في الليل (مسألة) (وإن نذر أياماً معدودة
فله تفريقها إلا عند القاضي) إذا قال لله علي أن اعتكف ثلاثين يوماً يلزمه
التتابع كما لو نذر شهراً مطلقاً وقال أبو الخطاب لا يلزمه لأن اللفظ يقتضي
تناوله والأيام المطلقة توجد بدون التتابع فلا يلزمه كما لو نذر صوم ثلاثين
يوماً فعلى قول القاضي تدخل فيه الليالي الداخلة في الأيام المنذورة كما لو
نذر شهراً ومن لم يوجب التتابع لا يدخل في الليل فيه إلا أن ينويه فإن نوى
التتابع أو شرطه وجب (مسألة) (وإن نذر أياماً أو ليالي متتابعة ما يتخللها
من ليل أو نهار)
(3/130)
متى شرط التتابع في نذره أو نواه دخل
الليالي فيه ويلزمه ما بين الأيام من الليالي وإن نذر الليالي لزمه ما
بينها من الأيام حسب وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يلزمه من
الليالي بعدد الأيام إذا كان على وجه الجمع أو التثنية يدخل فيه مثله من
الليالي والليالي تدخل معها الأيام بدليل قوله تعالى (آيتك أن لا تكلم
الناس ثلاث ليال سويا) وقال في موضع آخر (ثلاثة أيام إلا رمزا) ولنا أن
اليوم اسم لبياض النهار والليلة اسم لسواد الليل والتثنية والجمع تكرار
الواحد وإنما تدخل الليالي تبعاً لوجوب التتابع ضمناً وهذا يحصل مابين
الأيام خاصة فاكتفى به وأما الآية فإن الله تعالى نص على الليل في موضع
والنهار في موضع فصار منصوصاً عليهما فعلى هذا إن نذر اعتكاف يومين
متتابعين لزمه يومان وليلة بينهما وإن نذر اعتكاف يومين مطلقاً فكذلك عند
القاضي وكذلك لو نذر اعتكاف ليلتين لزمه اليوم الذي بينهما عند القاضي وعند
أبي الخطاب لا يلزمه ما بينهما إلا بلفظ أو بنية ويتخرج أنه إذا نذر اعتكاف
يومين متتابعين أن لا تلزمه الليلة التي بينهما كالليلة التي قبلهما وكذلك
إذا نذر اعتكاف ليلتين لا يلزمه اليوم الذي بينهما كاليوم الذي قبلهما
اختاره الشيخ أبو حكيم (فصل) وإن نذر اعتكاف يوم لزمه أن يدخل معتكفه قبل
طلوع الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس، وقال مالك يدخل معتكفه قبل طلوع
الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم كقولنا في الشهر لأن
الليل يتبع النهار بدليل ما لو كان متتابعاً ولنا أن الليلة ليست من اليوم
وهي من الشهر قال الخليل اليوم اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس وإنما
دخل الليل في المتتابع ضمنا ولهذا خصصناه بما بين الأيام وإن نذر اعتكاف
ليلة لزمه دخول معتكفه قبل غروب الشمس ويخرج منه بعد طلوع الفجر وليس له
تفريق الاعتكاف وظاهر كلام الشافعي جواز التفريق قياساً على الشهر ولنا أن
إطلاق اليوم يفهم منه التتابع فلزمه كما لو قال متتابعان وفارق الشهر فإنه
اسم لما بين هلالين واسم لثلاثين يوماً واليوم لا يقع في الظاهر إلا على ما
ذكرنا وإن قال في وسط النهار لله علي أن اعتكف يوما من وقتي هذا، لزمه
الاعتكاف من ذلك الوقت إلى مثله ويدخل فيه الليل لأنه في خلل نذره فصار كما
لو نذر يومين متتابعين وإنما لزمه بعض يومين لتعيينه ذلك بنذره فعلمنا أنه
أراد ذلك ولم يرد يوماً صحيحاً (فصل) وإن نذر اعتكافاً مطلقاً لزمه ما يسمى
به معتكفاً ولو ساعة من ليل أو نهار إلا على قولنا بوجوب الصوم في الاعتكاف
فيلزمه يوم كامل فأما اللحظة ومالا يسمى به معتكفاً فلا يجزئه على
الروايتين جميعاً (فصل) إذا نذر اعتكاف يوم يقدم فلان صح نذره فإن ذلك ممكن
فإن قدم في بعض النهار
(3/131)
لزمه اعتكاف الباقي منه ولم يلزمه قضاء ما
فات لأنه فات قبل شرط الوجوب فلم يجب كما لو نذر اعتكاف
زمن ماض لكن إن قلنا شرط صحة الاعتكاف الصوم لزمه قضاء يوم كامل لأنه لا
يمكنه أن يأتي بالاعتكاف في الصوم فيما بقي من النهار ولا قضاؤه مميزاً مما
قبله فلزمه يوم كامل ضرورة كما لو نذر صوم يوم يقدم فلان ويحتمل أن يجزئه
اعتكاف ما بقي منه إذا كان صائماً لأنه قد وجد اعتكاف مع الصوم وإن قدم
ليلاً لم يلزمه شئ لأن ما التزمه بالنذر لم يوجد فإن كان للناذر عذر يمنعه
الاعتكاف عند قدوم فلان من حبس أو مرض قضى أو كفر لفوات النذر في وقته
ويقضي بقية اليوم فقط لأنه الذي كان يلزم في الأداء على الرواية المنصورة
وفي الأخرى يقضي يوماً كاملاً بناء على اشتراط الصوم في الاعتكاف (فصل) قال
الشيخ رحمه الله ولا يجوز للمعتكف الخروج إلا لما لابد له منه كحاجة
الإنسان والطهارة والجمعة والنفير المتعين والشهادة الواجبة والخوف من فتنة
أو مرض والحيض والنفاس وعدة الوفاة ونحوه.
وجملته أنه ليس للمعتكف الخروج من معتكفه الا لما لابد منه قالت عائشة رضي
الله عنها وعن أبيها: السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لما لابد منه.
رواه أبو داود وقالت أيضاً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف
يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان.
متفق عليه ولا خلاف في أن له الخروج لما لابد منه قال إبن المنذر أجمع أهل
العلم على أن للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول ولأن هذا لا يمكن
فعله في المسجد ولو بطل الاعتكاف بالخروج إليه لم يصح لأحد اعتكاف ولأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف وقد علمنا أنه كان يخرج لقضاء حاجته
والمراد بحاجة الإنسان البول والغائط كني بذلك عنهما لأن كل إنسان يحتاج
إلى فعلهما وفي معناه الحاجة إلى المأكول
(3/132)
والمشروب إذا لم يكن له من يأتيه به فله
الخروج إليه عند الحاجة إليه وان بغته القئ فله أن يخرج ليتقيأ خارج المسجد
وكل مالا بد له منه ولا يمكن فعله في المسجد فله الخروج إليه ولا يفسد
اعتكافه وهو عليه ما لم يطل وكذلك له الخروج إلى ما أوجبه الله تعالى عليه
مثل من يعتكف في مسجد لا جمعة فيه فيحتاج إلى الخروج لصلاة الجمعة ولا يبطل
اعتكافه به، وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي فيمن
نذر اعتكافاً متتابعاً فخرج منه لصلاة الجمعة بطل اعتكافه وعليه الاستئناف
لأنه أمكنه فرضه بحيث لا يخرج منه فبطل بالخروج كالمكفر إذا ابتدأ صوم
الشهرين المتتابعين في شعبان أو ذي الحجة ولنا أنه خرج لواجب فلم يبطل
اعتكافه كالمعتدة تخرج لقضاء العدة، وكالخارج لانقاذ غريق وإطفاء حريق
وأداء شهادة تعينت عليه، ولأنه إذا نذر أياماً فيها جمعة فكأنه استثنى
الجمعة بلفظه ثم يبطل بما إذا نذرت المرأة أياما فيها عادة حيضها فإنه يصح
مع إمكان فرضها في غيرها والأصل ممنوع.
إذا ثبت هذا فإنه إذا خرج لواجب فهو على اعتكافه ما لم يطل لأنه خروج لابد
منه أشبه الخروج لحاجة الإنسان، فإن كان خروجه لصلاة الجمعة فله أن يتعجل.
قال الامام أحمد: أرجو أن يكون له لأنه خروج جائز فجاز تعجيله كالخروج
لحاجة الإنسان، فإذا صلى الجمعة فأحب أن يعتكف في الجامع فله ذلك لأنه محل
للاعتكاف والمكان لا يتعين للاعتكاف بتعيينه فمع عدم ذلك أولى.
وإن
(3/133)
أحب الرجوع إلى معتكفه فله ذلك كما لو خرج
إلى غير الجمعة.
قال بعض أصحابنا: يستحب له الإسراع إلى معتكفه، وقال أبو داود قلت لأحمد
يركع يعني المعتكف يوم الجمعة بعد الصلاة في المسجد؟ قال نعم بقدر ما كان
يركع (قال شيخنا) رحمه الله ويحتمل أن تكون الخيرة إليه في تعجيل الرجوع
وتأخيره لأنه في مكان يصلح للاعتكاف فأشبه مالو نوى الاعتكاف فيه، فأما إن
خرج ابتداء إلى مسجد آخر أو إلى الجامع من غير حاجة، أو كان المسجد أبعد من
موضع حاجته فمضى إليه لم يجز له ذلك لأنه خروج لغير حاجة أشبه مالو خرج
لغير المسجد، فإن كان المسجدان متصلاقين يخرج من أحدهما فيصير في الآخر فله
الانتقال من أحدهما إلى الآخر لأنهما كمسجد واحد ينتقل من إحدى زاويتيه إلى
الأخرى، وإن كان يمشي بينهما في غيرهما لم يجز له الخروج: وإن قرب لأنه
خروج من المسجد لغير حاجة (فصل) وإذا خرج لما لابد منه فليس عليه أن يتعجل
في مشيه لكن يمشي على حسب عادته لأن عليه مشقة في إلزامه غير ذلك فليس له
الإقامة بعد قضاء حاجته لأكل ولا لغيره، وقال ابن حامد يجوز أن يأكل اليسير
في بيته كاللقمة والثنتين ولا يأكل جميع أكله، وقال القاضي: يتوجه أن له
الاكل
في بيته والخروج إليه ابتداء لأن الأكل في المسجد دناءة وقد يخفي جنس قوته
عن الناس، وقد يكون في المسجد غيره فيستحي منه أن يأكل دونه وإن أطعمه لم
يكفهما
(3/134)
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
لايدخل البيت إلا لحاجة الإنسان وهذا كناية عن الحدث، ولأنه خروج لما له
منه بد، ولبث في غير معتكفه لما له منه بد فأبطل الاعتكاف كمحادثة أهله وما
ذكره القاضي ليس بعذر يبيح الخروج ولا الإقامة، ولو ساغ ذلك لساغ الخروج
للنوم وأشباهه (فصل) وإن خرج لحاجة الإنسان وبقرب المسجد سقاية أقرب من
منزله لا يحتشم من دخولها ويمكنه التنظف فيها لم يكن له المضي إلى منزله
لأن له من ذلك بدا، وإن كان يحتشم من دخولها أو فيه نقيصة عليه أو مخالفة
لعادته أو لا يمكنه التنظف فيها فله المضي إلى منزله لما عليه من المشقة في
ترك المروءة، وكذلك إن كان له منزلان أحدهما أقرب من الآخر يمكنه الوضوء في
الأقرب بلا ضرر فليس له قصد الأبعد، وإن بذل له صديقه أو غيره الوضوء في
منزله القريب لم يلزمه لما عليه من المشقة بترك المروءة والاحتشام من
صاحبه، قال المروذي سألت أبا عبد الله عن الاعتكاف في المسجد الكبير أعجب
إليك أو مسجد الحي؟ قال: المسجد الكبير وأرخص لي أن أعتكف في غيره، قلت
فأين ترى أن أعتكف في هذا الجانب، أو في ذلك الجانب؟ قال في ذاك الجانب هو
أصلح من أجل السقاية، قلت فمن اعتكف في هذا الجانب ترى أن يخرج الى الشط
يتهيأ؟ قال إذا كان له حاجة لابد له من ذلك قلت يتوضأ الرجل في المسجد؟ قال
لا يعجبني أن يتوضأ في المسجد (فصل) وإذا احتيج إليه في النفير إذا عم أو
حضر عدو يخافون كلبه واحتيج إلى خروج
(3/135)
المعتكف لزمه الخروج لأنه واجب متعين فكان
عليه الخروج إليه كالخروج إلى الجمعة، وكذلك الشهادة الواجبة عليه لما
ذكرنا، وإن وقعت فتنة خاف منها على نفسه إذا قام في المسجد أو على ماله، أو
خاف نهباً أو حريقاً فله ترك الاعتكاف والخروج لأن هذا مما أباح الله تعالى
لأجله ترك الواجب بأصل الشرع وهو الجمعة فأولى أن يباح لأجله ترك ما اوجبه
على نفسه، وكذلك إن تعذر عليه المقام في المسجد
لمرض لا يمكنه المقام معه كالقيام المتدارك أو سلس البول، أو الإغماء، أو
لا يمكنه المقام إلا بمشقة شديدة مثل أن يحتاج إلى خدمة وفراش فله الخروج،
وإن كان المرض خفيفاً كالصداع، ووجع الضرس ونحوه فليس له الخروج، فإن خرج
بطل اعتكافه لأنه خروج لما له منه بد (فصل) وإن حاضت المعتكفة أو نفست وجب
عليها الخروج من المسجد بغير خلاف لأنه حدث يمنع اللبث في المسجد، وعن
عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا أحل المسجد لحائض
ولا جنب " رواه أبو داود، والنفاس في معنى الحيض فثبت فيه حكمه، قال الخرقي
تخرج من المسجد وتضرب خباء في الرحبة هذا إن كان للمسجد رحبة فإن لم يكن
رجعت إلى بيتها، فإذا طهرت عادت فأتمت اعتكافها وقضت ما فاتها ولا كفارة
عليها لأنه خروج معتاد أشبه الخروج للجمعة، وإن كان للمسجد رحبة خارجة من
المسجد يمكن ضرب خبائها فيه ضربت خباءها فيه مدة حيضها وهو قول أبي قلابة،
وقال النخعي تضرب فسطاطها في دارها، فإذا طهرت قضت تلك الأيام، وإن دخلت
بيتاً أو سقفاً استأنفت، وقال الزهري وعمرو بن دينار وربيعة ومالك ترجع إلى
منزلها لأنه وجب عليها الخروج من المسجد فلم تلزمها الإقامة في رحبته
كالخارجة لعدة أو خوف فتنة ووجه قول الخرقي ماروى المقدام بن شريح عن عائشة
رضي الله عنها قالت: كن معتكفات إذا حضن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بإخراجهن من المسجد وإن يشربن الأخبية في رحبة المسجد.
رواه أبو حفص بإسناده وفارق المعتدة فإن خروجها لتعتد في بيتها وتقيم فيه
ولا يحصل ذلك مع الكون في الرحبة، وكذلك الخائفة من الفتنة خروجها لتسلم
منها فلا تقيم في موضع لا تحصل السلامة بالإقامة فيه، قال والظاهر أن
إقامتها في الرحبة مستحبة وليس بواجب، وإن لم تقم في الرحبة رجعت إلى
منزلها أو غيره ولا شئ عليها إلا القضاء لأيام حيضها لا نعلم فيه خلافا إلا
قول إبراهيم وهو تحكم لا دليل عليه (فصل) فأما الاستحاضة فلا تمنع الاعتكاف
لكونها لا تمنع الصلاة، وقد قالت عائشة رضي
(3/136)
الله عنها اعتكفت مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم امرأة من أزواجه مستحاضة فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما وضعت
الطست تحتها وهي تصلي.
أخرجه البخاري ويجب عليها أن تتحفظ وتتلجم لئلا
تلوث المسجد فإن لم يكن صيانته منها خرجت من المسجد لأنه عذر وخروج لحفظ
المسجد من نجاستها أشبه الخروج لقضاء الحاجة (فصل) والمتوفى عنها يجب عليها
أن تخرج لقضاء العدة، وبهذا قال الشافعي وقال ربيعة ومالك وابن المنذر تمضي
في اعتكافها حتى تفرغ منه ثم ترجع إلى بيت زوجها فتعتد فيه لأن الاعتكاف
المنذور واجب والاعتداد في البيت واجب فقد تعارض واجبان فيقدم أسبقهما ولنا
أن الاعتداد في بيت زوجها واجب فلزمها الخروج إليه كالجمعة في حق الرجل
ودليلهم ينتقض بالخروج إلى الجمعة وسائر الواجبات (مسألة) (ولا يعود مريضاً
ولا يشهد جنازة إلا أن يشترطه فيجوز وعنه له ذلك من غير شرط) اختلفت
الرواية عن الامام أحمد في الخروج لعيادة المريض وشهود الجنازة مع عدم
الشرط فروي عنه ليس له فعله ذكره الخرقي وهو قول عطاء وعروة ومجاهد والزهري
ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وعنه أن له عيادة المريض وشهود الجنازة ثم
يعود إلى معتكفه، نقلها عنه الأثرم ومحمد ابن الحكم وهو قول علي، وبه قال
سعيد بن جبير والنخعي والحسن لما روى عاصم بن ضمرة عن علي قال: إذا اعتكف
الرجل فليشهد الجمعة، وليعد المريض، وليحضر الجنازة، وليأت أهله وليأمرهم
بالحاجة وهو قائم، رواه الإمام أحمد والاثرم، قال أحمد عاصم بن ضمرة عندي
حجة ووجه الأولى ماروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا اعتكف لا يدخل البيت إلا لحاجة
(3/137)
الإنسان.
متفق عليه وعنها أنها قالت: السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً! ولا يشهد
جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد منه، عنها
قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو ولا
يعرج يسأل عنه.
رواهما أبو داود، ولأن هذا ليس بواجب فلا يجوز ترك الاعتكاف الواجب له
كالمشي في حاجة أخيه ليقضيها فإن تعينت عليه صلاة الجنازة فأمكنه فعلها في
المسجد لم يجز الخروج اليها، وإن لم يمكنه ذلك فله الخروج إليها، وإن تعين
عليه دفن الميت أو تغسيله فله الخروج لأن هذا واجب متعين فيقدم على
الاعتكاف كصلاة الجمعة
(فصل) فأما إن كان تطوعاً فأحب الخروج منه لعيادة مريض أو شهود جنازة جاز
لأن كل واحد منهما تطوع فلا يتحتم واحد منهما لكن الأفضل المقام على
اعتكافه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرج على المريض ولم يكن
الاعتكاف واجباً عليه (فصل) فإن شرط فعل ذلك في الاعتكاف فله فعله اوجبا
كان الاعتكاف أو تطوعاً وكذلك ما كان قربة كزيارة أهله أو رجل صالح أو عالم
وكذلك ماكان مباحاً مما يحتاج إليه كالعشاء في منزله والمبيت فيه فله فعله
قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن المعتكف يشترط أن يأكل في أهله قال
فإن اشترط فنعم قلت له فيبيت في أهله؟ قال إذا كان تطوعاً جاز وممن أجاز أن
يشترط العشاء في أهله الحسن والعلاء
(3/138)
ابن زياد والنخعي وقتادة ومنع منه أبو مجاز
ومالك والاوزاعي قال مالك لا يكون في الاعتكاف شرط ولنا أنه يجب بعقده فكان
الشرط إليه فيه كالوقف ولأن الاعتكاف لا يختص بقدر وإذا شرط الخروج فكأنه
نذر القدر الذي أقامه وإن قال متى مرضت أو عرض لي عارض خرجت جاز شرطه (فصل)
وإن شرط الوطئ في اعتكافه أو الفرجة أو النزهة أو البيع للتجارة أو التكسب
بالصناعة في المسجد لم يجز لأن هذا ينافي الاعتكاف أشبه إذا شرط ترك
الإقامة في المسجد ولأن الله تعالى قال (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في
المساجد) فاشتراط ذلك كاشتراط المعصية والصناعة في المسجد منهي عنها في غير
الاعتكاف ففي الاعتكاف أولى وسائر ما ذكرنا يشبه ذلك ولا حاجة إليه وإن
احتاج إليه فلا يعتكف لأن ترك الاعتكاف أولى من فعل المنهي عنه قال أبو
طالب سألت أحمد عن المعتكف يعمل عمله من الخياط وغيره قال ما يعجبني أن
يعمل قلت أن كان يحتاج قال إن كان يحتاج لا يعتكف (فصل) وللمعتكف صعود سطح
المسجد لأنه من جملته ولهذا يمنع الجنب من اللبث فيه وهذا قول
(3/139)
أبي حنيفة ومالك والشافعي لا نعلم فيه
مخالفاً ويجوز أن يبيت فيه
(فصل) ورحبة المسجد ليست منه في ظاهر كلام الخرقي هذا ليس للمعتكف الخروج
إليها وعن أحمد ما يدل على هذا وروى المروذي أن المعتكف يخرج إلى رحبة
المسجد هي من المسجد وجمع القاضي بين الروايتين فقال إن كان عليها حائط
وباب فهي كالمسجد لأنها معه وتابعة له وإن لم تكن محوطة لم يثبت لها حكم
المسجد فإن خرج إلى منارة خارج المسجد فسد اعتكافه قال أبو الخطاب ويحتمل
أن لا يبطل لأن منارة المسجد كالمتصلة به (مسألة) (وله السؤال عن المريض في
طريقه ما لم يعرج لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله) وروت عائشة رضي
الله عنها قالت: أن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا
وأنا مارة متفق عليه وليس له الوقوف لأن فيه ترك الاعتكاف وله الدخول إلى
مسجد يتم اعتكافه فيه لأنه محل للاعتكاف والمكان لا يتعين للاعتكاف بنذره
وتعيينه فمع عدم ذلك أولى وقد ذكرنا تفصيل ذلك (مسألة) (فإن خرج لما لا بد
منه خروجاً معتاداً لحاجة الإنسان فلا شئ عليه لانه لابد له منه) فلو بطل
اعتكافه بخروجه إليه لم يصح لأحد الاعتكاف وقد كان النبي صلى الله عليه
وسلم يخرج لحاجته وهو معتكف وكذلك خروج المرأة لحيضها لأنها خرجت بإذن
الشرع ولا يجب عليها كفارة لأنه خروج لعذر معتاد أشبه الخروج لقضاء الحاجة
وحكم النفاس حكم الحيض لأنه في معناه (مسألة) (وإن خرج لغير المعتاد في
المتتابع وتطاول خير بين استئنافه وإتمامه مع كفارة يمين وإن فعله في معين
قضى وفي الكفارة وجهان) إذا خرج المعتكف لغير المعتاد كالخروج إلى النفير
المتعين والشهادة الواجبة والخوف من الفتنة والمرض وعدة الوفاة ونحو ذلك
ولم يتطاول فهو على اعتكافه لأنه خروج يسير مباح أو واجب فلم يبطل به
الاعتكاف كحاجة الإنسان وإن تطاول ثم زال عذره وكان الاعتكاف تطوعاً فهو
مخير إن شاء رجع إلى معتكفه وان شاء لم يرجع لأنه لا يلزم بالشروع وإن كان
واجباً رجع إلى معتكفه فبنى على ما مضى من اعتكافه ثم لا يخلو من ثلاثة
أحوال (أحدها) أن يكون نذر اعتكافاً في أيام غير متتابعة ولا معينة فهذا
يلزمه أن يتم ما بقي عليه لكن يبتدئ اليوم الذي خرج فيه من أوله ليكون
متتابعاً
(3/140)
ولا كفارة عليه لأنه أتى بالمنذور على وجهه
فلم تلزمه كفارة كما لو لم يخرج (الثاني) أن يكون معيناً كشهر رمضان فعليه
قضاء ما ترك وكفارة يمين لتركه النذر في وقته وفيه وجه آخر لا كفارة عليه
وقد روي ذلك عن أحمد (الثالث) نذر أياماً متتابعة فهو مخير بين البناء
والقضاء مع التكفير وبين الاستئناف ولا كفارة عليه لأنه أتى بالمنذور على
وجهه فلم تلزمه كفارة كما لو أتى به من غير أن يسبقه الاعتكاف الذي خرج منه
وذكر الخرقي مثل هذا قال من نذر أن يصوم شهراً متتابعاً فلم يسمه فمرض في
بعضه فإذا عوفي بنى على ما مضى من صيامه وقضى ما تركه وكفر كفارة يمين وإن
أحب أتى بشهر متتابع ولا كفارة عليه.
وقال أبو الخطاب فيمن ترك الصيام المنذور لعذر فعن أحمد فيه رواية أخرى لا
كفارة عليه وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد لأن المنذور كالمشروع ابتداء
ولو أفطر في رمضان لعذر لم يلزمه شئ فكذلك المنذور وقال القاضي إن خرج
لواجب كجهاد تعين أو شهادة واجبة أو عدة الوفاة فلا كفارة عليه لأنه خروج
واجب لحق الله تعالى فلم يجب فيه شئ كالمرأة تخرج لحيضها ونفاسها فيقتضي
قوله أن الخروج إذا لم يكن واجباً بل كان مباحاً كخروج من خوف الفتنة ونحوه
يوجب الكفارة لأنه خرج لحاجة نفسه خروجاً غير معتاد وظاهر كلام الخرقي وجوب
الكفارة لأن النذر كاليمين ومن حلف على فعل شئ فحنث لزمته الكفارة سواء كان
لعذر أو لغيره وسواء كانت المخالفة واجبة أو لم يكن وفارق صوم رمضان من حيث
إن الفطر لا يوجب كفارة سواء كان لعذر أو لغيره وفارق الحيض فإنه يتكرر
ويظن وجوده في زمن النذر فيصير كالخروج لحاجة الانسان (مسألة) (وإن خرج لما
له منه بد في المتتابع لزمه استئنافه وإن فعله في معين فعليه الكفارة وفي
الاستئناف وجهان) إذا خرج لما له منه بد عامداً بطل اعتكافه إلا أن يشترطه
على ما ذكرناه.
وإن خرج ناسياً فقال القاضي لا يفسد اعتكافه لأنه فعل المنهي عنه ناسياً
فلم تفسد العبادة كالأكل في الصوم وقال ابن عقيل يفسد لأنه ترك الاعتكاف
وهو لزوم المسجد والترك يستوي عمده وسهوه كترك النية في الصوم فإن أخرج بعض
جسده لم يفسد اعتكافه وإن كان عمدا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج
رأسه من المسجد وهو معتكف الى عائشة فتغسله وهي حائض متفق عليه (فصل) ويبطل
اعتكافه بالخروج وإن قل وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وقال أبو يوسف
ومحمد لا يبطل حتى يكون اكثر من نصف يوم لأن اليسير معفوعنه لأن صفية أتت
النبي صلى الله عليه وسلم تزوره في معتكفه فلما خرجت لتنقلب خرج معها
ليقلبها (1) ولأن اليسير معفو عنه بدليل مالو تأنى في مشيه ولنا أنه خروج
من معتكفه لغير حاجة فأبطله كما لو أقام اكثر من نصف يوم وأما خروج النبي
صلى الله عليه وسلم فيحتمل أنه لم يكن له منه بد لأنه كان ليلاً فلم يأمن
عليها ويحتمل أنه فعل ذلك لكو
(3/141)
اعتكافه تطوعاً له ترك جميعه فكان له ترك
بعضه ولذلك تركه لما أراد نساؤه الاعتكاف معه وأما المشي فيختلف فيه طباع
الناس وعليه في تغيير مشيه مشقه ولا كذلك هاهنا فإنه لا حاجة به إلى الخروج
إذا ثبت ذلك فإنه إن فعله في متتابع لزمه الاستئناف لأنه أمكنه الاتيان
بالمنذور على صفته أشبه حالة الابتداء وإن فعله في معين لزمه الكفارة لتركه
النذر لغير عذر وفي الاستئناف وجهان (أحدهما) يلزمه كالمتتابع ولأنه كان
يلزمه التتابع مع التعين فإن تعذر التعين لزمه التتابع لإمكانه ومن ضرورته
الاستئناف (والوجه الثاني) لا يلزمه الاستئناف لأن ما مضى منه قد أدى
العبادة فيه أداء صحيحاً فلم تبطل بتركها في غيره كما لو أفطر في أثناء شهر
رمضان ولأن التتابع هاهنا حصل ضرورة التعيين مصرح به فإذا لم يكن بد من
الإخلال بأحدهما ففيما حصل ضرورة أولى ولان وجوب التتابع من حيث الوقت لامن
حيث النذر فالخروج في بعضه لا يبطل ما مضى منه كصوم رمضان إذا أفطر لغير
عذر فعلى هذا يقضي ما أفسد فيه حسب ويكفر على كلا الوجهين لأصل الوجهين
فيمن نذر صوماً معيناً فأفطرفي بعضه فإن فيه روايتين كالوجهين اللذين
ذكرناهما وكذلك الحكم في كل من أفسد اعتكافه بجماع أو غيره فان كان
الاعتكاف تطوعاً فلا قضاء عليه لأن التطوع لا يلزم بالشروع فيه في غير الحج
والعمرة وقد ذكرنا ذلك (فصل) فإن نذر اعتكاف أيام متتابعة بصوم فأفطر يوما
فسد تتابعه ووجب الاستئناف لإخلاله
بالإتيان بما نذره على صفته والله أعلم (مسألة) (وإن وطئ المعتكف في الفرج
فسد اعتكافه ولا كفارة عليه إلا لترك نذره وقال أبو بكر عليه كفارة يمين
وقال القاضي عليه كفارة الظهار) الوطئ في الاعتكاف محرم بالإجماع والأصل
فيه قول الله تعالى (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله
فلا تقربوها) فإن وطئ في الفرج متعمداً أفسد اعتكافه بإجماع أهل العلم حكاه
ابن المنذر ولان الوطئ إذا حرم في العبادة أفسدها كالحج والصوم وإن كان
ناسياً أفسده أيضاً وهذا قول أبي حنيفة ومالك وقال الشافعي لا يفسد لأنها
مباشرة لا تفسد الصوم فلا تفسد الاعتكاف
(3/142)
كالمباشرة فيما دون الفرج ولنا أن ما حرم
في الاعتكاف استوى عمده وسهوه في إفساده كالخروج من المسجد ولا نعلم أنها
لا تفسد الصوم ولأن المباشرة دون الفرج لا تفسد الاعتكاف إلا إذا اقترن بها
الإنزال إذا ثبت هذا فلا تجب الكفارة بالوطئ في ظاهر المذهب وهو ظاهر كلام
الخرقي وقول عطاء والنخعي وأهل المدينة ومالك وأهل العراق والثوري وأهل
الشام والاوزاعي ونقل حنبل عن الإمام أحمد أن عليه كفارة وهو قول الحسن
والزهري واختيار القاضي لأنها عبادة يفسدها الوطئ بعينه فوجبت الكفارة
بالوطئ فيها كالحج وصوم رمضان ولنا أنها عبادة لا تجب بأصل الشرع فلم تجب
بإفسادها كفارة كالنوافل، ولأنها عبادة لا يدخل المال في جبرانها فلم تجب
الكفارة بافسادها كالصلاة، ولأن وجوب الكفارة إنما يثبت بالشرع ولم يرد
الشرع بإيجابها فيبقى على الأصل، وما ذكروه ينتقض بالصلاة وبالصوم في غير
رمضان والقياس على الحج لا يصح لأنه مباين لسائر العبادات، ولهذا يمضي في
فاسده ويلزم بالشروع فيه، ويجب بالوطئ فيه بدنة بخلاف غيره، ولأنه لو وجبت
الكفارة ههنا بالقياس عليه لزم أن تكون بدنة لأن الحكم في الفرع يثبت على
صفة الحكم في الاصل إذ كان القياس إنما هو توسعه مجرى الحكم فيصير النص
الوارد في الأصل واردا في الفرع فيثبت فيه الحكم الثابت في الأصل بعينه،
وأما القياس على الصوم فهو دال على
(3/143)
نفي الكفارة لأن الصوم كله لا يجب بالوطئ
فيه كفارة سوى رمضان، والاعتكاف أشبه بغير رمضان لأنه نافلة لا يجب إلا
بالنذر ثم لا يصح قياسه على رمضان أيضاً لان الوطئ فيه إنما أوجب الكفارة
لحرمة رمضان، ولذلك تجب على كل من لزمه الإمساك وإن لم يفسد به صوماً
واختلف موجبو الكفارة فيها، فقال القاضي تجب كفارة الظهار وهو قول الحسن
والزهري، وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل قال أبو عبد الله إذا كان نهاراً
وجبت عليه الكفارة، قال الشيخ رحمه الله: ويحتمل أن أبا عبد الله إنما أوجب
عليه الكفارة إذا فعل ذلك في رمضان لأنه اعتبر ذلك في النهار لأجل الصوم،
ولو كان بمجرد الاعتكاف لما اختص الوجوب بالنهار كما لم يختص الفساد به
وحكي عن أبي بكر أن عليه كفارة يمين (قال شيخنا) ولم أر هذا عن أبي بكر في
كتاب الشافي ولعل أبا بكر إنما أوجب عليه الكفارة في موضع تضمن لافساد
الإخلال بالنذر فوجب لتركه نذره وهي كفارة يمين، وأما في غير ذلك فلا لأن
الكفارة إنما تجب بنص أو إجماع أو قياس، وليس ههنا نص ولا إجماع ولا قياس
فإن نظير الاعتكاف الصوم، ولا تجب بإفساده كفارة إذا كان تطوعاً ولا
منذوراً ما لم يتضمن الإخلال بنذره فتجب به كفارة يمين كذلك ههنا، فأما إن
كان منذوراً فأفسده بالوطئ فالحكم فيه كالحكم فيما إذا أفسده بالخروج لما
له منه بد لأنه في معناه، وقد ذكرنا ما فيه التفصيل (مسألة) (وإن باشر فيما
دون الفرج فأنزل فسد اعتكافه وإلا فلا) إذا كانت المباشرة دون الفرج لغير
شهوة فلا بأس بها مثل أن تغسل رأسه أو تفليه لما ذكرنا
(3/144)
من حديث عائشة، وإن كانت لشهوة فهي محرمة
لقوله تعالى (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) ولقول عائشة رضي الله
عنها: السنة للمعتكف أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا
يباشرها، رواه أبو داود، ولأنه لا يأمن افضاءها إلى إفساد الاعتكاف وما
أفضى إلى الحرام حرام، فإن فعل فأنزل فسد اعتكافه وإن لم ينزل لم يفسد،
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وقال في الآخر يفسد في الحالين
وهو قول مالك لأنها مباشرة محرمة فأفسدت
الاعتكاف كما لو أنزل ولنا أنها مباشرة لا يفسد صوماً ولا حجاً فلم تفسد
الاعتكاف كالمباشرة لغير شهوة وفارق التي أنزل بها لأنها تفسد الصوم ولا
كفارة عليه إلا على رواية حنبل (فصل) وإن ارتد فسد اعتكافه لقول الله تعالى
(لئن أشركت ليحبطن عملك) ولأنه خرج
(3/145)
بالردة عن كونه من أهل الاعتكاف، وإن شرب
ما أسكره فسد اعتكافه بخروجه عن كونه من أهل
(3/146)
المسجد، ومتى أفسد اعتكافه فلا كفارة عليه
إلا أن يكون واجباً وقد ذكرناه (مسألة) (ويستحب للمعتكف التشاغل بفعل
القربة واجتناب ما لا يعنيه) يستحب للمعتكف التشاغل بالصلاة وقراءة القرآن
وذكر الله تعالى ونحو ذلك من الطاعات المحضة ويجتنب مالا يعنيه من الأقوال
والأفعال لأن من كثر كلامه كثر سقطه، وفي الحديث " من حسن إسلام المرء تركه
مالا يعنيه " ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش فإن ذلك مكروه في غير
الاعتكاف ففيه أولى ولا يبطل الاعتكاف بشئ من ذلك لأنه لما لم يبطل بمباح
الكلام لم يبطل بمحظوراته وعكسه الوطئ ولا بأس بالكلام بمحادثته ومحادثة
غيره فان صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم معتكفاً فأتيته لأزوره ليلاً فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معي
ليقلبني (1) وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما
رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم " على
رسلكهما إنها صفية بنت حيي " فقالا سبحان الله يارسول الله قال " إن
الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً " أو
قال " شيئاً " متفق عليه وقال علي رضي الله عنه أيما رجل معتكف فلا يساب
ولا يرفث في الحديث ويأمر أهله بالحاجة أي وهو يمشي ولا يجلس عندهم رواه
الإمام أحمد (فصل) ويجتنب المعتكف البيع والشراء الا مالا بد له منه قال
حنبل سمعت أبا عبد الله يقول المعتكف لا يبيع ولا يشتري الا مالا بد له منه
طعام أو نحو ذلك فأما التجارة والأخذ والعطاء فلا يجوز
وقال الشافعي لا بأس أن يبيع ويشتري ويخيط ويتحدث ما لم يكن مأثماً
(3/147)
ولنا ماروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البيع والشراء في المسجد رواه الترمذي
وقال حديث حسن ورأي عمر أن القصير رجلاً يبيع في المسجد فقال يا هذا إن هذا
سوق الآخرة فإن أردت البيع فأخرج إلى سوق الدنيا وإذا منع من البيع والشراء
في غير حال الاعتكاف ففيه أولى فأما الصنعة فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز
منها ما يتكسب به ولانه بمنزلة البيع والشراء ويجوز ما يعمله لنفسه كخياطة
قميصه ونحوه وقد روى المروذي قال سألت أبا عبد الله عن المعتكف ترى له أن
يخيط قال لا ينبغي له أن يعتكف إذا كان يريد أن يفعل، وقال القاضي لا تجوز
الخياطة في المسجد سواء كان محتاجاً إليها أو لم يكن لأن ذلك معيشة وتشغل
عن الاعتكاف فأشبه البيع والشراء فيه قال شيخنا: والأولى أن يباح له ما
يحتاج إليه من ذلك إذا كان يسيراً مثل أن ينشق قميصه فيخيطه أو ينحل شئ
يحتاج إلى ربطه فيربطه لأن هذا يسير تدعو الحاجة إليه فجرى مجرى لبس قميصه
وعمامته
(3/148)
(فصل) وليس الصمت من شريعة الإسلام وظاهر
الأخبار تحريمه، قال قيس بن مسلم دخل ابو بكر رضي الله عنه على امرأة من
أحمس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال مالها لا تتكلم؟ قالوا حجب مصمتة،
فقال لها تكلمي هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية فتكلمت.
رواه البخاري، وروى أبو داود باسناده عن علي رضي الله عنه قال: حفظت عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا صمات يوم إلى الليل " وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صوم الصمت، فإن نذر ذلك لم يلزمه
الوفاء به، وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر ولا نعلم فيه مخالفاً
لما روى ابن عباس قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم
فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ولا
(3/149)
يستظل، ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم " مره فليتكلم، وليستظل وليقعد وليتم صيامه "
رواه البخاري، ولأنه نذر فعل منهي عنه فلم يلزمه كنذر المباشرة في المسجد،
وأن أراد فعله لم يكن له ذلك سواء نذره أو لم ينذره، وقال أبو ثور وابن
المنذر له فعله إذا كان أسلم ولنا النهي عنه وظاهره التحريم والأمر بالكلام
ومقتضاه الوجوب، وقول ابي بكر الصديق رضي الله عنه أن هذا لا يحل، هذا من
عمل الجاهلية، وهذا صريح لم يخالفه أحد من الصحابة فيما علمناه واتباع ذلك
أولى (فصل) ولا يجوز أن يجعل القرآن بدلا من الكلام لأنه استعمال له في غير
ما هو له أشبه استعمال المصحف في التوسد ونحوه وقد جاء " لا تناظروا بكتاب
الله " قيل معناه لا تتكلم به عند الشئ تراه كأن ترى رجلاً قد جاء في وقته
فيقول (وجئت على قدر يا موسى) ونحوه ذكر أبو عبيد نحو هذا المعنى (مسألة)
(ولا يستحب له اقراء القرآن والعلم والمناظرة فيه إلا عند الخطاب إذا قصد
به الطاعة) أكثر أصحابنا لا يستحبون للمعتكف إقراء القرآن وتدريس العلم
ومناظرة الفقهاء ومجالستهم وكتابة الحديث ونحو ذلك مما يتعدى نفعه وهو ظاهر
كلام أحمد وقال أبو الحسن الآمدي في استحباب ذلك روايتان.
واختار أبو الخطاب أنه مستحب إذا قصد به طاعة الله تعالى لا المباهاة وهذا
مذهب الشافعي لأن ذلك أفضل العبادات ونفعه يتعدى فكان أولى من تركه كالصلاة
واحتج أصحابنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف فلم ينقل عنه
الاشتغال بغير العبادات المختصة به، ولأن الاعتكاف عبادة من شرطها المسجد
فلم يستحب فيها ذلك كالطواف وما ذكروه يبطل بعيادة المرضى وشهود الجنازة
فعلى هذا القول فعله لهذه الأفعال أفضل من الاعتكاف قال المروذي قلت لأبي
عبد الله أن رجلاً يقرئ في المسجد وهو يريد أن يعتكف ولعله أن يختم في كل
يوم فقال إذا فعل هذا كان لنفسه وإذا قعد في المسجد كان له ولغيره يقرئ أحب
إلي وسئل أيما أحب إليك الاعتكاف أو الخروج إلى عبادان فقال ليس يعدل
الجهاد عندي شئ يعني أن الخروج إلى عبادان أفضل من الاعتكاف
(3/150)
(فصل) ولا بأس أن يتزوج المعتكف ويشهد
النكاح في المسجد لأنه عبادة لا تحرم الطيب فلا تحرم النكاح كالصوم ولان
النكاح طاعة وحضوره قربة ومدته لا تتطاول فلم يكره كتشميت العاطس ورد
السلام
(فصل) ولا بأس أن يتنظف بأنواع التنظف لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يرجل رأسه وهو معتكف وله أن يتطيب ويلبس الرفيع من الثياب وليس ذلك بمستحب
قال الامام أحمد لا يعجبني أن يتطيب وذلك لأن الاعتكاف عبادة تختص مكاناً
فكان ترك الطيب فيها مشروعاً كالحج وليس ذلك بمحرم لأنه لا يحرم اللباس ولا
النكاح أشبه الصوم (فصل) ولا بأس أن يأكل المعتكف في المسجد ويضع سفرة يسقط
عليها ما يقع منه كيلا يتلوث المسجد ويغسل يده في الطست ليفرغ خارج المسجد
ولا يجوز أن يخرج ليغسل يده لأن من ذلك بدا وهل يكره تجديد الطهارة في
المسجد؟ فيه روايتان (إحداهما) لا يكره لأن أبا العالية قال حدثني من كان
يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أما ما حفظت لكم منه أنه كان يتوضأ
في المسجد وعن ابن عمر أنه كان يتوضأ في المسجد الحرام على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم الرجال والنساء وعن ابن سيرين قال كان أبو بكر وعمر
والخلفاء رضي الله عنهم يتوضئون في المسجد وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس
وعطاء وطاوس وابن جريج (والثانية) يكره لأنه لا يسلم من أن يبصق في المسجد
أو يتمخط والبصاق في المسجد خطيئة ولأنه
(3/151)
يبل من المسجد مكاناً يمنع المصلين من
الصلاة فيه وإن خرج من المسجد للوضوء وكان تجديداً بطل لأنه خروج لما له
منه بد وإن كان وضوأ عن حدث لم يبطل لأن الحاجة داعية إليه سواء كان في وقت
الصلاة أو قبلها لأنه لا بد من الوضوء للحدث وإنما يتقدم عن وقت الحاجة
إليه لمصلحة وهو كونه على وضوء ربما يحتاج إلى صلاة النافلة (فصل) إذا أراد
أن يبول في المسجد في طست لم يبح له ذلك لأن المساجد لم تبن لهذا وهو
(3/152)
مما يقبح ويفحش ويستخف به فوجب صيانة
المسجد عنه كما لو أراد أن يبول في أرضه لم يغسله، وإن
(3/153)
أراد الفصد والحجامة فيه فكذلك ذكره القاضي
لأنه أراقة نجاسة في المسجد فأشبه البول فيه، وإن
(3/154)
دعت إليه حاجة كبيرة خرج من المسجد ففعله،
وإن استغنى له الخروج إليه كالمرض الذي يمكن احتماله وقال
(3/155)
ابن عقيل يحتمل أن يجوز الفصد في المسجد في
طست بدليل أن المستحاضة يجوز لها الاعتكاف ويكون
(3/156)
تحتها شئ يقع فيه الدم، قالت عائشة رضي
الله عنها: اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه
(3/157)
مستحاضة فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما
وضعنا الطست تحتها وهي تصلي.
رواه البخاري والأول أولى والفرق بينهما أن المستحاضة لا يمكنها التحرز من
ذلك إلا بترك الاعتكاف بخلاف الفصد والله أعلم
(3/158)
|