الشرح
الكبير على متن المقنع باب محظورات الإحرام وهي تسعة (مسألة) (حلق
الشعر)
أجمع أهل العلم على أنه لا يجوز للمحرم أخذ شئ من شعره إلا من عذر لقول
الله تعالى (ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله) وروى كعب بن عجرة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لعلك يؤذيك هوام رأسك " قال نعم
يارسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو اطعم ستة
مساكين أو انسك شاة " متفق عليه ففيه دليل على أن الحلق كان محرماً قبل ذلك
(فصل) فإن كان له عذر من مرض أو قمل أو غيره مما يتضرر بابقاء الشعر فله
إزالته لقوله سبحانه (فمن كان مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو
صدقة أو نسك) وللحديث المذكور قال ابن عباس رضي الله عنه: فمن كان منكم
مريضاً أي برأسه قروح أو به أذى من رأسه أي قمل (مسألة) (وتقليم الأظفار)
أجمع العلماء على أن المحرم ممنوع من تقليم أظفاره إلا من عذر لأنه إزالة
جزء من بدنه يترفه به أشبه الشعر فإن انكسر فله إزالته قال إبن المنذر:
أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن للمحرم أن يزيل ظفره بنفسه إذا
انكسر لأن بقاءه يؤلمه أشبه الشعر النابت في عينه (مسألة) (فمن حلق أو قلم
ثلاثة فعليه دم وعنه لا يجب إلا في أربع فصاعداً) الكلام في هذه المسألة في
فصلين
(3/262)
(أحدهما) في وجوب الفدية بحلق شعر رأسه ولا
خلاف في ذلك إذا كان لغير عذر، وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على وجوب
الفدية على من حلق وهو محرم لغير علة والأصل في وجوبها ما ذكرنا من الآية
والخبر، وظاهر كلام شيخنا ههنا يدل على أنه لا فرق بين أن يقطع شعره لعذر
أو غيره أو كان عامداً أو مخطئاً أنه يجب به الفدية وقد دل عليه ظاهر الآية
والخبر وهو ظاهر المذهب، وبه قال الشافعي ونحوه عن الثوري وفيه وجه آخر أنه
لافدية على الناسي وهو قول إسحاق وابن المنذر لقوله عليه السلام " عفي
لأمتي عن الخطأ والنسيان " ولنا أنه إتلاف فاستوى عمده وسهوه كإتلاف مال
الآدمي، ولأن الآية قد دلت على وجوب الفدية على من حلق رأسه للأذى وهو
معذور فكان تنيها على وجوبها على غير المعذور وفيها دليل على
وجوبها على المعذور بغير الأذى مثل المحتجم الذي يحلق موضع محاجمه، أو
شعراً عن شجته وفي معنى الناسي والنائم الذي يقلع شعره أو يصوب رأسه من نار
فيحرق لهبها شعره ونحو ذلك (الفصل الثاني) في القدر الذي تجب به الفدية
وذلك ثلاث شعرات فما زاد قال القاضي: هذا المذهب، وهو قول الحسن وعطاء وابن
عيينة والشافعي وأبي ثور لأنه شعر آدمي يقع ليه الجمع المطلق أشبه ربع
الرأس (1) وفيه رواية أخرى ذكرها الخرقي أنه لا يجب إلا في أربع فصاعداً
لأن الأربع كثير أشبهت ربع الرأس.
أما الثلاث فهي آخر القلة وآخر الشئ منه فأشبهت ما كان دونها وذكر ابن أبي
موسى رواية انه لا يجب فيما دون الخمس ولا نعلم وجها لذلك، وقال أبو حنيفة
لا يجب الدم
(3/263)
بدون ربع الرأس لأنه يقوم مقام الكل ولهذا
إذا رأى رجلاً يقول رأيت فلاناً وإنما أري إحدى جهاته، وقال مالك إذا حلق
من رأسه ما أماط به الأذى وجب الدم، وقد ذكرنا ما يدل على ما ذهبنا إليه،
وقول أبي حنيفة أن الربع يقع عليه اسم الكل ممنوع وما ذكره من المثال غير
مقيد بالربع بل هو مجاز يتناول القليل والكثير.
وهل يجب الدم بقص ثلاثة أظفار او لا يجب إلا في أربع يخرج على الروايتين في
الشعر لأنه في معناه وعلى ما حكاه ابن أبي موسى لا يجب إلا في خمسة أظفار
قياساً على الشعر والله أعلم.
(مسألة) (وفيما دون ذلك في كل واحد مد من طعام وعنه قبضة وعنه درهم) يعني
إذا حلق أقل من ثلاث شعرات أو أقل من أربع على الرواية الأخرى فعليه مد من
طعام في ظاهر المذهب، وهو الذي ذكره الخرقي، وهو قول الحسن وابن عيينة
والشافعي وعن أحمد في الشعرة درهم وفي الشعرتين درهمان وعنه في كل شعرة
قبضة من طعام روى ذلك عن عطاء ونحوه عن مالك وأصحاب الرأي قال أصحاب الرأي
يتصدق بشئ قليل، وقال مالك فيما قل من الشعر إطعام طعام.
ووجهه انه لا تقدير فيه فيجب فيه أقل ما يقع عليه اسم الصدقة.
وعن مالك فيمن أزال شعراً يسيراً لا ضمان عليه لأن النص إنما أوجب الفدية
في حلق جميع الرأس والحقنا به ما يقع عليه اسم الرأس
ولنا أن ما ضمنت جملته ضمنت أبعاضه كالصيد والأولى وجوب الإطعام لأن الشارع
إنما عدل
(3/264)
عن الحيوان إلى الإطعام في جزاء الصيد
وههنا أوجب الإطعام مع الحيوان على وجه التخيير فيجب أن يرجع إليه فيما لا
يجب فيه الدم والأولى مد لأنه أقل ما وجب باشرع فدية فكان واجباً في أقل
الشعر والطعام الذي يجزئ إخراجه في الفطرة من البر والشعير والتمر والزبيب
كالذي يجزئ في الأربع من الشعر (فصل) وحكم الأظفار حكم الشعر فيما ذكرنا،
قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره وعليه
الفدية بأخذها في قول أكثرهم منهم حماد ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب
الرأي وفيه رواية أخرى لافدية عليه لأن الشرع لم يرد فيه بفدية ولنا أنه
أزال ما منع إزالته لأجل الترفه فوجبت عليه الفدية كحلق الشعر، وعدم النص
لايمنع قياسه على المنصوص كشعر البدن مع شعر الرأس والحكم في فدية الأظفار،
وفيما يجب فيما دون الثلاث منها أو الأربع على الرواية الأخرى، وفيما يجب
في الأربع والثلاث كالحكم في الشعر على ما ذكرنا من التفصيل والاختلاف فيه
وهذا قول الشافعي وأبي ثور، وقال أبو حنيفة لا يجب الدم إلا بتقليم أظفار
يد كاملة، فلم قلم من كل يد أربعة لم يجب عليه دم عنده لأنه لم يستكمل
منفعة اليد أشبه ما دون الثلاث ولنا أنه قلم ما يقع عليه اسم الجمع أشبه
مالو قلم خمساً من يد واحدة، وقولهم يبطل بما إذا حلق ربع رأسه فإنه لم
يستوف منفعة العضو ويجب به الدم، وقولهم يفضي إلى وجوب الدم في القليل دون
الكثير (فصل) وفي قص بعض الظفر ما في جميعه وكذلك في قطع بعض الشعرة ما في
قطع جميعها لأن
(3/265)
الفدية تجب في الشعر والظفر سواء طال أو
قصر وليس يقدر بمساحة فيتقدر الضمان عليه، بل هو كالموضحة يجب في الصغيرة
منها ما يجب في الكبيرة، وخرج ابن عقيل وجهاً أنه يجب بحساب المتلف كالاصبع
يجب في أنملتها ثلث ديتها (مسألة) (وإن حلق رأسه بأذنه فالفدية عليه، وإن
كان مكرها أو نائما فالفدية على الحالق)
إذا حلق محرم رأس محرم بإذنه أو حلقه حلال بإذنه فالفدية على المحلوق رأسه
لأن الله تعالى قال (ولا تحلقوا رؤوسكم) الآية، وقد علم أن غيره هو الذي
يحلقه فأضاف الفعل إليه وجعل الفدية عليه ويحتمل أن يجب الضمان على الحالق
لأنه شعر محترم أشبه شعرالصيد، ذكره ابن عقيل في الفصول وإن حلق رأسه وهو
ساكت لم ينهه ففيه وجهان (أحدهما) يجب على الحالق كما لو اتلف ماله وهو
ساكت (والثاني) على المحرم لأنه أمانة عنده فهو كما لو أتلف إنسان الوديعة
فلم ينهه وإن حلقه مكرهاً أو نائماً فلا فدية على المحلوق رأسه، وبه قال
إسحاق وأبو ثور وابن القاسم وابن المنذر، وقال أبو حنيفة عليه الفدية وعن
الشافعي كالمذهبين ولنا أنه لم يحلق رأسه ولم يحلق بإذنه فأشبه ما لو انقطع
الشعر بنفسه، إذا ثبت ذلك فإن الفدية تجب على الحالق محرماً كان أو حلالاً،
وقال أصحاب الرأي على الحلال صدقة، وقال عطاء عليهما الفدية ولنا أنه أزال
ما منع من إزالته لأجل الإحرام فكانت الفدية عليه كالمحرم يحلق رأس نفسه
(مسألة) (وإن حلق محرم رأس حلال فلا فدية عليه) وكذلك إن قلم أظفاره، وبه
قال عطاء ومجاهد وعمرو بن دينار والشافعي واسحاق وأبو ثور
(3/266)
وقال سعيد بن جبير في محرم قص شارب حلال
يتصدق بدرهم، وقال أبو حنيفة يلزمه صدقة لأنه محرم أتلف شعراً أشبه شعر
المحرم ولنا أنه شعر مباح الإتلاف فلم يجب باتلافه شئ كشعر بهيمة الأنعام
(مسألة) (وقطع الشعر ونتفه كحلقة وشعر الرأس والبدن واحد وعنه لكل واحد حكم
مفرد) لا فرق بين حلق الشعر وإزالته بالنورة، أو قصه، أو غير ذلك لا نعلم
فيه خلافا وكذلك القول في الأظفار، وشعر الرأس والبدن واحد سواء في وجوب
الفدية في ظاهر المذهب وهو قول الأكثرين خلافاً لداود لأنه شعر يحصل به
الترفه والتنظيف أشبه الرأس، فإن حلق شعر رأسه وبدنه ففي الجميع فدية
واحدة، وإن حلق من رأسه شعرتين ومن بدنة كذلك فعليه دم هذا اختيار أبي
الخطاب وهو
ظاهر كلام الخرقي ومذهب أكثر الفقهاء، وفيه رواية أخرى أنه إذا قلع من رأسه
وبدنه ما يجب الدم بكل واحد منهما منفرداً فعليه دمان، وهذا الذي ذكره
القاضي وابن عقيل، وعلى هذه الرواية لو قطع من رأسه شعرتين ومن بدنة كذلك
لم يجب عليه دم لأن الرأس يخالف البدن بحصول التحلل بحلقه دون شعر البدن
ولنا أن الشعر كله جنس واحد في البدن فلم تتعدد الفدية بتعدده فيه بخلاف
مواضعه كسائر البدن وكما لو لبس قميصاً وسراويل (مسألة) (وإن خرج في عينيه
شعر فقلعه أو نزل شعرة فغطى عينيه فقصه أو انكسر ظفره فقصه أو قلع جلداً
عليه شعر فلا فديه عليه) إذا خرج في عينيه شعر أو استرسل شعر حاجبيه على
عينيه فغطاهما فله إزالته وكذلك إن انكسر
(3/267)
ظفره فله قص ما انكسر منه ولا شئ عليه لانه
إزالة لاذاه فلم يكن عليه فدية كقتل الصيد الصائل وكذلك إن قطع جلده عليها
شعر لم يكن عليه فدية لأنه زال تبعاً لغيره والتابع لا يضمن كما لو قلع
أشعار عيني إنسان فإنه لا يضمن اهدابهما فأما إن كان الأذى من غير الشعر
كالقمل والقروح والصداع وشدة الحر عليه لكثرة الشعر فله إزالته وعليه
الفدية كما لو احتاج إلى أكل الصيد في حال المخمصة وكذلك إن احتاج إلى
مداواة قرحة لا يمكنه مداواتها إلا بقص ظفره فله قصه وعليه الفدية لما
ذكرنا وقال ابن القاسم صاحب مالك لا فديه عليه ولنا أنه ما منع إزالته لضرر
في غيره أشبه حلق رأسه دفعاً لضرر القمل وإن وقع في أظفاره مرض فأزالها
لذلك المرض فلا شئ عليه لأنه أزالها لإزالة مرضها أشبه قص الظفر لكسره
والله تعالى أعلم، وإن انكسر ظفره فأزال أكثر مما انكسر فعليه الفدية لأنه
لا حاجة إلى إزالته.
(فصل) وإن خلل شعره فسقطت شعرة فإن كانت ميتة فلا شئ عليه وإن كانت من
الشعر النابت ففيها الفدية لان أزالها بفعله فإن شك فيها فلا فدية لأن
الأصل نفي الضمان وبراءة الذمة فلا يجب بالشك وان قطع اصبعاً عليها ظفر فلا
شئ عليه لأنه تبع والله أعلم
(فصل) قال رحمه الله (الثالث) تغطيه رأسه فمتى غطاه بعمامة أو خرقة أو
قرطاس فيه دواء أو غيره أو عصبة أو طينه بطين أو حناء أو غيره فعليه الفدية
أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من تغطيه رأسه حكاه ابن المنذر، وقد دل
عليه نهى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم عن لبس العمائم والبرانس وقوله
عليه السلام في المحرم الذي وقصته راحلته " لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم
القيامة ملبياً " فعلل منع تخمير رأسه ببقائه على إحرامه فعلم أن المحرم
ممنوع منه وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول إحرام الرجل في رأسه، وذكر
القاضي أن النبي صلى الله عليه وسلم
(3/268)
قال " إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة
في وجهها " وإنه عليه السلام نهى أن يشد المحرم باليسير.
(فصل) والاذنان مع الرأس تحرم تغطيتهما كسائر الرأس وأباح ذلك الشافعي ولنا
قوله صلى الله عليه وسلم " الأذنان من الرأس " وقد ذكرناه في الطهارة إذا
ثبت ذلك فإنه يمنع من تغطية بعض رأسه كما يمنع تغطيه جميعه لأن المنهي عنه
يحرم بعضه كما يحرم جميعه ولذلك لما قال الله تعالى (ولا تحلقوا رؤوسكم حرم
حلق بعضه) وسواء غطاه بالملبوس المعتاد أو بغيره مثل أن عصبه بعصابة أو شدة
بسير أو جعل عليه قرطاسا فيه دواء أو لا دواء فيه أو خضبه بحناء أو طلاه
بطين أو نورة أو جعل عليه دواء فإن جميع ذلك ستر له وتغطيه وهو ممنوع منه
وسواء كان ذلك لعذر أو غيره تجب به الفدية لقوله تعالى (فمن كان منكم مريضا
أو به أذى من رأسه ففدية) الآية ولحديث كعب ابن عجرة وبهذا كله قال الشافعي
وكان عطاء يرخص في العصابة من المصرورة، والصحيح الأول كما لو لبس قلنسوة
للبرد.
(مسألة) (وإن استظل بالمحمل ففيه روايتان) كره أحمد رحمه الله للمحرم
الاستظلال بالمحمل وما كان في معناه كالهودج والعمارية ونحو ذلك على البعير
رواية واحدة ويروى كراهته عن ابن عمر ومالك وعبد الرحمن بن مهدي وأهل
المدينة وكان سفيان بن عيينة يقول لا يستظل البتة ورخص فيه ربيعة والثوري
والشافعي، وروي ذلك عن عثمان وعطاء لما روت ام الحصين قالت حججت مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة
وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه
يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة رواه مسلم ولأنه يباح له التظلل في
البيت والخباء فجاز في حال الركوب كالحلال واحتج أحمد بأن عطاء روي أن ابن
عمر رضي الله عنه رأى على رحل عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة عوداً يستره من
الشمس فنهاه وعن نافع عن ابن عمر أنه رأى رجلاً محرماً على رحل وقد رفع
عليه ثوباً على عود يستره من الشمس فقال أضح لمن أحرمت له أي ابرز للشمس.
رواهما الأثرم، ولأنه يستره بما يقصد به الترفه
(3/269)
أشبه مالو غطاه، والحديث الذي استدلوا به
قد ذهب إليه أحمد ولم يكره الاستتار بالثوب، فإن ذلك لا يقصد الاستدامة
والهودج بخلافه والخيمة والبيت يرادان الجمع الرحل وحفظه لا للترفه.
إذا ثبت ذلك فإن أحمد رحمه الله إنما كره ذلك كراهة تنزيه في الظاهر عنه
لوقوع الخلاف فيه وقول ابن عمر، ولم ير ذلك حراماً ولا موجباً للفدية، قال
الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن المحرم يستظل على محمل قال لا وذكر حديث
ابن عمر، قيل له فإن فعل يهريق دماً؟ قال أما الدم فلا وعنه أنه تجب عليه
الفدية اختاره الخرقي وهو وقل أهل المدينة لأنه ستر رأسه بما يستدام
ويلازمه غالباً أشبه مالو ستره بشئ يلاقيه، ويروى عن الرياشي قال: رأيت
أحمد بن المعذل في الموقف في يوم شديد الحر وقد ضحى للشمس، فقلت له يا أبا
الفضل هذا أمر قد اختلف فيه فلو أخذت بالتوسعة فأنشأ يقول: ضحيت له كي
استظل بظله * إذا الظل أضحى في القيامة قالصا فوا أسفا إن كان سعيك باطلاً
* وواحسرتا إن كان حجك ناقصا (مسألة) (وإن حمل على رأسه شيئاً، أو نصب
حياله ثوباً، أو ستظل بخيمة، أو شجرة، أو بيت فلا شئ عليه) إذا حمل على
رأسه طبقاً، أو مكيلاً أو نحوه فلا فديه عليه، وبه قال عطاء ومالك وقال
الشافعي عليه الفدية لأنه ستره ولنا أن هذ لا يقصد به الستر غالباً فلم تجب
به الفدية كما لو وضع يديه على رأسه وسواء قصد به الستر أو لم يقصد لأن ما
تجب به الفدية لا يختلف بالقصد وعدمه فكذلك مالا يجب به، واختار ابن
عقيل وجوب الفدية إذا قصد به الستر لان الحيل لاتحيل الحقوق، ولأنه لو جلس
عند العطار لقصد شم الطيب وجبت عليه الفدية، وإن لم يقصد لم تجب كذلك هذا،
وإن ستر رأسه ببدنه فلا شئ عليه لما ذكرنا، ولأن الستر ببعض بدنه لا يثبت
له حكم الستر، وكذلك لو وضع يده على فرجه لم تجزه في الستر، ولأن المحرم
مأمور بمسح رأسه وذلك يكون بوضع يده عليه، وإن طلا رأسه بغسل أو صمغ ليجتمع
الشعر ويتلبد فلا يدخله الغبار ولا يصيبه الشعث، ولا يقع فيه الدبيب جاز،
وهذا
(3/270)
التلبيد الذي جاء في حديث ابن عمر رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبدا.
متفق عليه.
وإن كان في رأسه طيب مما جعله فيه قبل الإحرام فلا بأس لأن ابن عباس رضي
الله عنه قال: كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو محرم (فصل) ولا بأس أن يستظل بالسقف والحائط والشجرة والخباء وإن
نزل تحت شجرة وطرح عليها شيئاً يستظل به فلا بأس به عند جميع أهل العلم وقد
صح به النقل قال جابر رضي الله عنه في حديث حجة النبي صلى الله عليه وسلم
وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس رواه مسلم
ولا بأس أن ينصب حياله ثوباً يقيه الحر والبرد.
إما أن يمسكه إنسان أو يرفعه على عود على نحو ما روي في حديث أم الحصين أن
بلالاً وأسامة كان رافعاً ثوبه يستر به النبي صلى الله عليه وسلم ولأن ذلك
لا يقصد به الاستدامة فلم يكن به بأس كالاستظلال بحائط (مسألة) (وفي تغطية
الوجه روايتان) (إحداهما) يباح روى ذلك عن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن
عوف وزيد بن ثابت وابن الزبير وسعد بن أبي وقاص وجابر والقسم وطاوس والثوري
والشافعي (والثانية) لا يباح وهو مذهب أبي حنيفة ومالك لما روي عن ابن عامر
أن رجلاً وقع عن راحلته فأقعصته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "
اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم
القيامة ملبياً " ولأنه محرم على المرأة فحرم على الرجل كالطيب ولنا قول من
ذكرنا من الصحابة ولا نعرف لهم مخالفاً في عصرهم فكان إجماعاً، ولما روي
عنه
عليه السلام أنه قال " إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها "
وحديث ابن عباس المشهور فيه " ولا تخمروا رأسه " هذا المتفق عليه، وقوله "
ولا تخمروا وجهه " فقال شعبة حدثنيه أبو بشر ثم سألته عنه بعد عشر سنين
فجاء بالحديث كما كان يحدث إلا أنه قال " ولا تخمروا وجهه ورأسه " ففي قوله
دليل على أنه ضعف هذه الزيادة، وقد روي في بعض ألفاظه " خمروا وجهه ولا
تخمروا رأسه " فتعارض الروايتان وما ذكروه يبطل بلبس القفازين
(3/271)
(مسألة) (الرابع لبس المخيط والخفين) قال
إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من لبس القميص والعمائم
والسراويلات والبرانس والخفاف والأصل في هذا ماروى ابن عمر رضي الله عنهما
أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات
ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحداً لا يجد النعلين فيلبس الخفين وليقطعهما
أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس " متفق
عليه.
نص النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأشياء وألحق بها أهل العلم ما في
معناه مثل الجبة والدراعة والتبان وأشباه ذلك، فلا يجوز للمحرم ستر بدنه
بما عمل على قدره ولا ستر عضو من أعضائه بما عمل على قدره كالقميص للبدن
والسراويل لبعض البدن والقفازين لليدين والخفين للرجلين ونحو ذلك، وليس في
هذا اختلاف، قال ابن عبد البر: لا يجوز لبس شئ من المخيط عند جميع أهل
العلم، وأجمعوا على ان المراد بهذا الذكور دون الاناث (مسألة) (إلا أن لا
يجد إزارا فيلبس سراويل أو لا يجد نعلين فيلبس خفين ولا يقطعهما ولا فدية
عليه) إذا لم يجد المحرم إزاراً فله أن يلبس سراويل وإذا لم يجد النعلين
فله لبس الخفين لا نعلم فيه خلافا
(3/272)
والاصل فيه ماروى ابن عباس قال: سمعت النبي
صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات يقول " من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن
لم يجد إزاراً فليلبس سراويل للمحرم " متفق عليه.
ولا فدية عليه في لبسهما عند ذلك في قول عطاء وعكرمة والثوري والشافعي
واسحاق وأصحاب الرأي إلا مالكا وأبا حنيفة
قالا على من لبس السراويل الفدية لحديث ابن عمر الذي قدمناه ولأن ما وجبت
الفدية بلبسه مع وجود الازار وجبت مع عدمه كالقميص ولنا ما ذكرنا من حديث
ابن عباس وهو صريح في الإباحة ظاهر في إسقاط الفدية لأنه أمر بلبسه ولم
يذكر فدية ولأنه يختص لبسه بحالة عدم غيره فلم تجب به فدية كالخفين
المقطوعين وحديث ابن عمر مخصوص بحديث ابن عباس.
وأما القميص فيمكنه أن يأتزر به من غير لبس ويحصل به الستر بخلاف السراويل
(فصل) وإذا لبس الخفين مع عدم النعلين لم يلزمه قطعهما في أشهر الروايتين
عن أحمد يروي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبه قال عطاء وعكرمة
(والرواية الثانية) أنه يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين فعلى هذه
الرواية إن لبسهما من غير قطع افتدى، وبه قال عروة بن الزبير ومالك والثوري
والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر لما روى ابن عمر رضي الله عنهما
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " فمن لم يجد النعلين فليلبس الخفين
وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين " متفق عليه وهو متضمن لزيادة على
حديث ابن عباس وجابر والزيادة من الثقة مقبولة.
قال الخطابي: العجب من أحمد
(3/273)
في هذا فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه وقلت
سنة لم تبلغه.
ووجه الأولى حديث ابن عباس وجابر " من لم يجد النعلين فليلبس الخفين " مع
قول علي رضي الله عنه وقطع الخفين فساد يلبسهما كما هما مع موافقة القياس
فإنه ملبوس أبيح مع عدم غيره أشبه السراويل ولأن قطعه لا يخرجه عن حالة
الحظر فإن لبس المقطوع محرم مع القدرة على النعلين كلبس الصحيح وفيه إتلاف
ماله وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته فأما حديث ابن عمر فقد
قيل ان قوله فليقطعهما من كلام نافع كذلك روي في أمالي أبي القاسم بن بشران
بإسناد صحيح أن نافعاً قال بعد روايته للحديث وليقطع الخفين أسفل من
الكعبين وروى ابن أبي موسى عن صفية بنت أبي عبيد عن عائشة رضي الله عنها أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما، وكان
ابن عمر يفتي بقطعهما قالت صفية فلما أخبرته بهذا رجع، وروي أبو حفص
بإسناده في شرحه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه طاف وعليه خفان
فقال له عمر رضي الله عنه والخفان مع القباء فقال قد لبستهما مع من هو خير
منك يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويحتمل أن يكون الأمر بقطعهما منسوخاً فإن عمرو بن دينار روى الحديثين
جميعاً وقال انظروا أيهما كان قبل، قال الدارقطني قال أبو بكر النيسابوري
حديث ابن عمر قبل لأنه جاء في بعض رواياته قال نادى رجل رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو في المسجد يعني بالمدينة فكأنه كان قبل الإحرام وفي حديث ابن
عباس يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات يقول " من لم يجد
نعلين فليلبس خفين "
(3/274)
فيدل على تأخره عن حديث ابن عمر فيكون
ناسخاً له لأنه لو كان القطع واجباً لبينه للناس فإنه لا يجوز تأخير البيان
عن وقت الحاجة إليه والمفهوم من إطلاق لبسهما لبسهما على حالهما من غير قطع
قال شيخنا والأولى قطعهما عملا بالحديث الصحيح وخروجاً من الخلاف وأخذا
بالاحتياط والذي قاله صحيح (فصل) فإن وجد المقطوع مع وجود النعل لم يجز له
وعليه الفدية نص عليه، وبه قال مالك وقال أبو حنيفة لا فدية عليه لأنه لو
كان لبسه محرماً وفيه فدية لما أمر بقطعه لعدم الفائدة فيه وعن الشافعي
كالمذهبين ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شرط لإباحة لبسهما عدم النعلين
فدل على أنه لا يجوز مع وجودهما ولأنه مخيط لعضو على قدره فوجب على المحرم
الفدية بلبسه كالقفازين (فصل) وقياس قول أحمد في اللالكة والجمجم ونحوهما
أنه لا يلبسهما فإنه قال لا يلبس النعل التي لها قيد وهذا أشد منها وقد قال
في رأس الخف الصغير لا يلبسه وذلك لأنه يستر القدم وقد عمل لها على قدرها
فأشبه الخف فإن عدم النعلين فله لبس ذلك ولا فدية عليه لأن النبي صلى الله
عليه وسلم أباح لبس الخف عند ذلك فما دون الخف أولى (فصل) فأما النعل فيباح
لبسها كيفما كانت ولا يجب قطع شئ منها لأن إباحتها وردت مطلقاً وروى عن
أحمد في القيد في النعل يفتدي لأننا لا نعرف النعال هكذا وقال إذا أحرمت
فأقطع المحمل الذي على النعال والعقب الذي يجعل للنعل فقد كان عطاء يقول
فيه دم وقال ابن أبي موسى في
(3/275)
الإرشاد في القيد والعقب الفدية والقيد هو
السير المعترض على الزمام قال القاضي: إنما كرههما إذا كانا عريضين وهذا هو
الصحيح فإنه لم يجب قطع الخفين الساترين للقدمين والساقين فقطع سير النعل
أولى أن لا يجب، ولأن ذلك معتاد في النعل فلم يجب إزالته كسائر سيورها ولأن
قطع القيد والعقب
ربما تعذر معه المشي في النعلين لسقوطهما بزوال ذلك فلم يجب كقطع القبال
(فصل) فإن وجد نعلا لم يمكنه لبسها فله لبس الخف ولا فدية عليه لان مالا
يمكن استعماله كالمعدوم فاشبه مالو كانت النعل لغيره وكالماء في التيمم
والرقبة التي لا يمكنه عتقها ولأن العجز عن لبسها قال مقام العدم في إباحة
لبس الخف فكذلك في إسقاط الفدية ونص أحمد على وجوب الفدية لقوله عليه
السلام " من لم يجد نعلين فيلبس الخفين " وهذا واجد (مسألة) (ولا يعقد عليه
منطقة ولا رداء ولا غيره إلا إزاره وهميانه فيه نفقته إذا لم يثبت إلا
بالعقد) ليس للمحرم أن يعقد عليه الرداء ولا غيره إلا الإزار والهميان وليس
له أن يجعل لذلك زرا وعروة ولا يخلله بشوكة ولا إبرة ولا خيط ولا يغرزه في
إزاره لأنه في حكم المخيط وروى الأثرم عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً
سأله أخالف بين طرفي من ورائي ثم أعقده؟ وهو محرم فقال ابن عمر: لا تعقد
عليك شيئاً.
وعن أبي معبد مولى ابن عباس أن ابن عباس قال له يا أبا معبد زر علي طيلساني
وهو محرم فقال له كنت تكره هذا فقال إني أريد أن أفتدي ولا بأس أن يتشح
بالقميص
(3/276)
ويرتدي به وبرداء موصل ولا يعقده لأن
المنهي عنه المخيط على قدر العضو (فصل) فأما الإزار فيجوز عقده، لأنه يحتاج
إليه لستر العورة فأبيح كاللباس وإن شد وسطه بالنديل أو نحوه كالحبل جاز
إذا لم يعقده قال أحمد في محرم حزم عمامة على وسطه: لا يقدها ويدخل بعضها
في بعض، قال طاوس رأيت ابن عمر يطوف بالبيت وعليه عمامة قد شدها على وسطه
فأدخلها هكذا.
ولا يجوز أن يشق أسفل إزاره نصفين ويعقد كل نصف على ساق لأنه يشبه السراويل
ولا يلبس الران لأنه في معنى الخف (فصل) فأما الهميان فهو مباح للمحرم في
قول أكثر أهل العلم منهم ابن عباس وابن عمر وسعيد أبن المسيب وعطاء ومجاهد
وطاوس والقاسم والنخعي والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي قال ابن عبد
البر أجاز ذلك جماعة فقهاء الأمصار متقدموهم ومتأخروهم ومتى ثبت بغير العقد
مثل
أن يدخل السيور بعضها في بعض لم يعقده لأنه لا حاجة إليه فإن لم يثبت إلا
بالعقد جاز نص عليه أحمد وهو قول إسحاق.
قال ابراهيم كانوا يرخصون في عقد الهميان للمحرم ولا يرخصون في عقد غيره
وقالت عائشة: أوثق عليك نفقتك.
وقال ابن عباس: أوثقوا عليكم نفقاتكم.
وذكر القاضي في الشرح أن ابن عباس قال رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم
للمحرم في الهميان أن يربطه إذا كانت فيه نفقته
(3/277)
وقال مجاهد سئل ابن عمر عن المحرم يشد
الهميان عليه فقال لا بأس به إذا كانت فيه نفقته يستوثق من نفقته ولأنه مما
تدعو الحاجة إليه فجاز كعقد الإزار (فصل) فإن لم يكن في الهميان نفقة لم
يجز عقده لعدم الحاجة إليه وكذلك المنطقة وقد روى ابن عمر أنه كره المنطقة
والهميان للمحرم وهو محمول على ما ليس فيه نفقة على ما تقدم من الرخصة فيما
فيه النفقة، وسئل أحمد عن المحرم يلبس المنطقة من وجع الظهر أو لحاجة
إليها.
فقال يفتدي.
فقيل له أفلا يكون مثل الهميان؟ قال لا: وعن ابن عمر أنه كره المنطقة
للمحرم وأباح شد الهميان إذا كانت فيه نفقة والفرق بينهما أن الهميان يكون
فيه النفقة والمنطقة لا نفقة فيها فأبيح شد ما فيه النفقة للحاجة إلى حفظها
ولم يبح شد غيرها فان كان في المنطقة نفقة أو لم يكن في الهميان نفقة فهما
سواء وقد ذكرنا أن أحمد لم يبح شد المنطقة لوجع الظهر إلا أن يفتدي لأن
المنطقة ليست بعدة لذلك ولأنه فعل المحظور في الإحرام لدفع الضرر عن نفسه
أشبه من لبس المخيط لدفع البرد أو تطيب للمرض فإن فعل مالا يباح له فعله من
عقد غير الهميان والإزار ونحوه فعليه الفدية لأنه فعل محظوراً في الإحرام
(3/278)
(مسألة) (وإن طرح على كتفيه قباء فعليه
الفدية وقال الخرقي لا فدية عليه إلا أن يدخل يديه في كميه) إذا طرح على
كتفيه قباء أو نحوه وأدخل كتفيه فيه فعليه الفديه وإن لم تدخل يداه في
الكمين هذا مذهب مالك والشافعي لأنه مخيط لبسه المحرم على العادة في لبسه
فأشبه القميص وقد روى ابن المنذر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس
الأقبية وقال الخرقي لا فديه عليه إذا لم يدخل يديه في كميه وهو قول الحسن
وعطاء وابراهيم وأبي حنيفة لما ذكرنا من حديث عبد الرحمن بن عوف في مسألة
الخفين
إذا لم يجد نعلين ولان القباء لا يحيط بالبدن فلم تلزمه الفديه بوضعه على
كتفيه إذا لم يدخل يديه في كميه كالقميص يتشح به وقياسهم منقوض بالرداء
الموصل والخبر محمول على لبسه مع إدخال يديه في الكمين (مسألة) (ويتقلد
بالسيف عن الضرورة) إذا احتاج المحرم إلى أن يتقلد بالسيف فله ذلك وبه قال
عطاء والشافعي ومالك وكرهه الحسن ولنا ما روى أبو داود بإسناده عن البراء
قال: لا صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية صالحهم على أن لا
يدخلوها إلا بجلبان السلاح (القراب بما فيه) وهذا ظاهر في إباحة حمله عند
الحاجة لانهم لم يكونوا يأمنون أهل مكة أن ينقضوا العهد فاشترطوا حمل
السلاح في قرابة فأما من غير خوف فقد قال أحمد لا الامن ضرورة وإنما منع
منه لأن ابن عمر قال لا يحمل المحرم السلاح في الحرم.
قال شيخنا والقياس إباحته لأن ذلك ليس هو في المعنى الملبوس المنصوص على
تحريمه ولذلك لو حمل قربة في عنقه لم يحرم ذلك ولم تجب به الفدية.
وقد سئل أحمد عن المحرم يلقي جرابه في عنقه كهيئة القربة فقال أرجوا أن لا
يكون به بأس (فصل) قال الشيخ رحمه الله (الخامس الطيب فيحرم عليه تطيب بدنه
وثيابه وشم الادهان المطيبة والادهان بها) أجمع أهل العلم على أن المحرم
ممنوع من الطيب وقد دل قول النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته
راحلته " لا تمسوه بطيب " رواه مسلم، وفي لفظ ولا تخيطوه.
متفق عليه فلما منع الميت من الطيب
(3/279)
لإحرامه فالحي أولى ومتى تطيب فعليه الفدية
لأنه فعل ما حرمه الإحرام فلزمته الفدية كاللباس فيحرم عليه تطيب بدنه لما
ذكرنا من الحديث وتطيب ثيابه فلا يجوز له لبس ثوب مطيب وهذا قول جابر وابن
عمر ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافاً لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " لا يلبس من الثياب شئ مسه الزعفران ولا الورس " متفق
عليه فكلما صبغ بزعفران أو ورس أو غمس في ماء ورد أو بخر بعود فليس للمحرم
لبسه ولا الجلوس عليه ولا النوم عليه نص عليه أحمد لأنه استعمال له فأشبه
لبسه ومتى لبسه أو استعمله فعليه الفديه، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة
إن كان رطباً يلي
يدنه أو يابساً ينفض فعليه الفدية وإلا فلا لأنه ليس بمطيب ولنا أنه منهي
عنه لأجل الإحرام فلزمته الفدية به كاستعمال الطيب في بدنه وقياساً على
الثوب المطيب فإن غسله حتى ذهب ما فيه من ذلك فلا بأس به عند جميع العلماء
وإن فرش فوق المطيب ثوباً صفيقاً يمنع الرائحة والمباشرة فلا فدية بالنوم
عليه لأنه لم يستعمل الطيب ولم يباشره (فصل) وليس له شم الأدهان المطيبة
كدهن الورد والبنفسج والخيري والزنبق ونحوها ولا الادهان بها وليس في تحريم
ذلك خلاف في المذهب وكره مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي الادهان بدهن البنفسج
وقال الشافعي ليس بطيب ولنا أنه يقصد رائحته ويتخذ للطيب أشبه ماء الورد
(مسألة) (وشم المسك والكافور والعنبر والزعفران والورس والمبخر بالعود وأكل
ما فيه الطيب يظهر طعمه أو ريحه يحرم عليه شم كل ما تطيب رائحته ويتخذ للشم
كالمسك والعنبر والكافور والغالية والزعفران والورس وماء الورد لأنه
استعمال للطيب وكذلك التبخر بالعود لأنه طيب (فصل) ومتى جعل شئ من الطيب في
مأكول أو مشروب كالمسك والزعفران فلم تذهب رائحته لم يبح للمحرم تناوله نيا
كان أو قد مسته النار وبهذا قال الشافعي وكان مالك وأصحاب الرأي
(3/280)
لا يرون بما مست النار من طعام بأساً وإن
بقيت رائحته وطعمه ولونه لأنه بالطبخ استحال عن كونه طيباً وروي عن ابن عمر
وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير أنهم لم يكونوا يرون بأكل الخشكنانج الأصفر
بأساً وكرهه القاسم بن محمد ولنا أن الاستمتاع والترفه به حاصل أشبه النئ
ولأن المقصود من الطيب رائحته وهي باقيه وقول من أباح الخشكنانج الأصفر
محمول على ما ذهبت رائحته فإن ما ذهبت رائحته.
وطعمه ولم يبق فيه إلا اللون مما مسته النار لا بأس بأكله لا نعلم فيه
خلافاً إلا ما روي عن القاسم وجعفر بن محمد أنهما كرها الخشكنانج الأصفر
ويمكن حمله على ما بقيت رائحته ليزول الخلاف فإن لم تمسه النار لكن ذهبت
رائحته وطعمه فلا بأس به وهو قول الشافعي وكره مالك والحميدي واسحاق وأصحاب
الرأي الملح الاصفر
وفرقوا بين ما مسته النار وما لم تمسه ولنا أن المقصود الرائحة دون اللون
فإن الطيب إنما كان طيباً لرائحته لا للونه فوجب دوران الحكم معها دونه
(فصل) فإن ذهبت رائتحه وبقي طعمه فظاهر كلام أحمد في رواية صالح تحريمه وهو
مذهب الشافعي لأن الطعم لا يكاد ينفك عن الرائحة فمتى وجد الطعم دل على
وجود بقاء الرائحة وظاهر كلام الخرقي إباحته لأن المقصود الرائحة فيزول
المنع بزوالها (فصل) ولا يجوز أن يأكل طيباً ولا يكتحل به ولا يستعط به ولا
يحتقن به لأنه استعمال للطيب أشبه شمه (مسألة) (وإن مس من الطيب ما لا يعلق
بيده فلا فديه عليه) إذا مس من الطيب مالا يعلق بيده كالمسك غير المسحوق
وقطع الكافور والعنبر فلا فدية عليه لأنه غير مستعمل للطيب فإن شمه فعليه
الفدية لأنه هكذا يستعمل وإن شم العود فلا فدية عليه لأنه لا يتطيب به هكذا
وإن كان الطيب يعلق بيده كالغالية وماء الورد والمسك المسحوق الذي يعلق
بأصابعه فعليه الفدية لأنه مستعمل للطيب
(3/281)
(مسألة) (وله شم العود والفواكه والشيح
والخزامى) للمحرم شم العود ولا فدية عليه لأنه لا يتطيب به هكذا إنما يقصد
منه التبخير وكذلك الفواكه كلها من الأترج والتفاح والسفرجل وغيرها وكذلك
نبات الصحراء كالشيح والقيصوم والخزامى الذي تستطاب رائحته وما يشمه
الآدميون لغير قصد الطيب كالحناء والعصفر فمباح شمه ولا فدية في شئ من ذلك
لا نعلم فيه خلافاً إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان يكره للمحرم أن يشم
شيئاً من نبت الأرض من الشيح والقيصوم وغيرهما ولا نعلم احدا أوجب في ذلك
شيئاً لأنه لا يقصد للطيب ولا يتخذ منه الطيب أشبه سائر نبت الأرض وقد روي
أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يحرمن في المعصفرات (مسألة) (وفي شم
الريحان والنرجس والورد والبنفسج والبرم ونحوها والادهان بدهن غير مطيب في
رأسه روايتان) المذكور في هذه المسألة ينقسم قسمين (أحدها) ما ينبته
الآدميون للطيب ولا يتخذ منه طيب
كالريحان الفارسي والمرشوش والنرجس والبرم ففيه روايتان (إحداهما) يباح
بغير فدية وهو قول عثمان وابن عباس والحسن ومجاهد واسحاق لأنه إذا يبس ذهبت
رائحته أشبه نبت البرية ولأنه لا يتخذ منه طيب أشبه العصفر (والثانية) يحرم
شمه فإن فعل فعليه الفدية وهو قول جابر وابن عمر والشافعي وأبي ثور لأنه
يتخذ للطيب أشبه الورد وكرهه مالك وأصحاب الرأي ولم يوجبوا فيه شيئاً وكلام
أحمد محتمل لهذا فإنه قال في الريحان ليس من آلة المحرم ولم يذكر فيه فدية
(الثاني) ما ينبت للطيب ويتخذ منه طيب كالورد والبنفسج والياسمين والخيري
فهذا إذا استعمله وشمه ففيه الفدية لأن الفدية تجب فيما يتخذ منه كماء
الورد فكذلك أصله، وعن أحمد رواية أخرى في الورد لا شئ في شمه لأنه زهر
أشبه سائر الشجر، وقد ذكر شيخنا فيه ههنا روايتين وكذلك ذكر أبو الخطاب
والأولى تحريمه ووجوب الفدية فيه لأنه ينبت للطيب ويتخذ منه أشبه الزعفران
والعنبر.
قال القاضي: يقال أن العنبر ثمر شجرة وكذلك الكافور
(3/282)
(فصل) فأما الادهان بدهن لا طيب فيه كالزيت
والشيرج والسمن والشحم ودهن البان الساذج فنقل الأثرم قال سمعت أبا عبد
الله يسأل عن المحرم يدهن بالزيت والشيرج فقال نعم يدهن به إذا احتاج إليه
ويتداوى المحرم بما يأكل قال إبن المنذر اجمع عوام أهل العلم على أن للمحرم
أن يدهن بدنه بالشحم والزيت والسمن ونقل جواز ذلك عن ابن عباس وأبي ذر
والأسود بن يزيد وعطاء والضحاك نقله الأثرم ونقل أبو داود عن أحمد أنه قال
الزيت الذي يؤكل لا يدهن المحرم به رأسه فظاهر هذا أنه لا يدهن رأسه بشئ من
الادهان وهو قول عطاء ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي لأنه يزيل
الشعث ويسكن الشعر (فصل) فأما دهن سائر البدن فلا نعلم عن أحمد فيه منعاً
وقد أجمع أهل العلم على إباحته في اليدين وإنما الكراهة في الرأس خاصة فإنه
محل الشعر وقال القاضي في إباحته في جميع البدن روايتان فإن فعله فلا فديه
فيه في ظاهر كلام أحمد سواء دهن رأسه وغيره إلا أن يكون مطيباً وقد روي عن
ابن عمر رضي الله عنه انه صدع وهو محرم.
فقالوا ألا ندهنك بالسمن؟ قال لا.
قالوا أليس تأكله؟
قال ليس أكله كالادهان به.
وعن مجاهد أنه إن تداوى به فعليه الكفارة وقال من منع من دهن الرأس فيه
الفدية لأنه مزيل للشعث أشبه ما لو كان مطيباً ولنا أن وجوب الفدية يحتاج
إلى دليل ولا دليل فيه من نص ولا إجماع، ولا يصح قياسه على الطيب فإن الطيب
يوجب الفدية وإن لم يزل شعثا ويستوي فيه الرأس وغيره والدهن بخلافه ولأنه
مانع لا تجب الفدية باستعماله في البدن فلم تجب باستعماله في الرأس كالماء
(مسألة) (وإن جلس عند العطار أو في موضع ليشم الطيب فشمه فعليه الفدية وإلا
فلا) متى قصد شم الطيب من غيره بفعل منه نحو أن يجلس عند العطارين لذلك أو
يدخل الكعبة حال تجميرها ليشم طيبها أو يحمل معه عقدة فيها مسك ليجد ريحها
قال أحمد: سبحان الله كيف
(3/283)
يجوز هذا؟ وأباح الشافعي ذلك إلا العقدة
تكون معه يشمها فإن أصحابه اختلفوا فيها قال: لأنه شم الطيب من غيره أشبه
ما لو لم يقصده ولنا أنه قصد شم الطييب مبتدئاً به وهو محرم فحرم كما لو
باشره يحقق ذلك أن القصد شم الطيب لا مباشرته بدليل أنه لو مس اليابس الذي
لا يعلق بيده لم يكن عليه شئ ولو رفعه بخرقة وشمه وجبت عليه الفدية وإن لم
يباشره فأما إن لم يقصد شمه كالجالس عند العطار لحاجته وداخل السوق أو داخل
الكعبة للتبرك بها ومن يشتري طيباً لنفسه أو للتجارة ولا يمسه فغير ممنوع
منه لأنه لا يمكن التحرز منه فعفي عنه فإن حمل الطيب فقال ابن عقيل: أن كان
ريحه ظاهراً لم يجز وإن لم يكن ظاهراً جاز (فصل) قال الشيخ رحمه الله
(السادس) قتل صيد البر واصطياده وهو ما كان وحشياً مأكولاً أو متولداً منه
ومن غيره لا خلاف بين أهل العلم في تحريم قتل صيد البر واصطياده على
المحرم، والأصل فيه قول الله سبحانه (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد
وأنتم حرم) وقوله تعالى (حرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) والصيد المحرم
على المحرم ما جمع ثلاثة أشياء (أحدها) أن يكون وحشياً وما ليس بوحشي لا
يحرم على المحرم أكله ولا ذبحه كبهيمة الأنعام والخيل والدجاج ونحوها لا
نعلم بين أهل العلم فيه خلافاً
والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال فلو استأنس الوحشي وجب فيه الجزاء
كالحمام يجب الجزاء في أهليه ووحشيه اعتبار بالأصل ولو توحش الأهلي لم يجب
فيه شئ قال أحمد في بقرة صارت وحشية لا شئ فيها لأن الأصل فيها الانسية فإن
تولد بين الوحشي والأهلي ولد ففيه الجزاء تغليباً للتحريم، واختلفت الرواية
في الدجاج السندي هل فيه جزاء على روايتين وروى مهنا عن أحمد في البط يذبحه
المحرم إذا لم يكن صيداً والصحيح أنه يحرم عليه ذبحه وفيه الجزاء لأن الأصل
فيه الوحشي فهو كالحمام (الثاني) أن يكون مأكولاً فأما ما ليس بمأكول كسباع
البهائم والمستخبث من الحشرات والطير وسائر المحرمات فلا جزاء فيه قال أحمد
رحمه الله إنما جعلت الكفارة في الصيد المحلل أكله وهذا قول أكثر أهل العلم
إلا أنهم أوجبوا الجزاء في المتولد بين المأكول وغيره كالسمع المتولد بين
الضبع والذئب تغليباً للتحريم قبله كما غلبوا التحريم في أكله، وقال بعض
أصحابنا في أم حبين جدي وهي دابة منتفخة البطن وهذا خلاف القياس فإن أم
حبين مستخبثة عند العرب لا تؤكل، وقد حكي
(3/284)
أن رجلا من البدو سئل: ما تأكلون؟ فقال
مادب ودرج إلا أم حبين.
فقال السائل: ليهن أم حبين العافية وإنما تبعوا فيها قضية عثمان فانه قضى
فيها بحملان وهو الجدي والصحيح أنه لا شئ فيها، واختلفت الرواية في الثعلب
فعنه فيه الجزاء وهو المشهور، وبه قال طاوس وقتادة ومالك والشافعي وعن أحمد
لا شئ فيه وهو قول الزهري وعمرو بن دينار وابن المنذر لأنه سبع، وقد نهى
النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، واختلفت الرواية في
السنور الوحشي والأهلي والصحيح أنه لا جزاء في الأهلي لأنه ليس وحشياً ولا
مأكولاً وأما الوحشي فاختار القاضي أنه لا شئ فيه لأنه سبع.
وقال الثوري واسحاق في الوحشي حكومه والاختلاف فيه مبني على الاختلاف في
إباحته، واختلفت الرواية في الهدهد والصرد لاختلاف الروايتين في إباحتهما
وكلما اختلفت في إباحته اختلف في جزائه فأما ما يحرم فالصحيح أنه لا جزاء
فيه لعدم النص فيه وهو مخالف للقياس الثالث أن يكون من صيد البر فأما صيد
البحر فلا يحرم على المحرم بغير خلاف لقوله سبحانه (أحل لكم صيد البحر
وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر مادمتم حرما) قال ابن عباس
رضي الله عنهما طعامه ما لفظه
(مسألة) (فمن أتلفه أو تلف في يده أو أتلف جزأ منه فعليه جزاؤه) من أتلف
صيدا وهو محرم فعليه جزاؤه بإجماع أهل العلم، وقد دل عليه قوله سبحانه (من
قتله منكم متعمدا فجزاء، مثل ما قتل من النعم) قال شيخنا رضي الله عنه ولا
نعلم احدا خالف في قتل الصيد متعمداً أن فيه الجزاء إلا الحسن ومجاهدا قالا
يجب في الخطأ والنسيان ولا يجب في العمد، وهذا خلاف النص فلا يلتفت إليه
وقتل الصيد نوعان مباح ومحرم، فالمحرم أن يقتله ابتداء من غير سبب يبيح
قتله ففيه الجزاء لما ذكرنا، والباح ثلاثة أنواع (أحدها) أن يضطر إليه
(والثاني) أن يصول عليه الصيد (والثالث) إذا أراد تخليصه من سبع أو شبكة أو
نحوه وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى (فصل) ويضمن ما تلف في يده وإن صاده لم
يملكه لأن ما حرم لحق غيره لا يملك بالأخذ من غير إذنه كمل غيره وعليه
إرساله في موضع يمتنع فيه فإن لم يفعل فتلف ضمنه كما الآدمي إذا أخذه بغير
حق فتلف في يده، وإن كان مملوكاً لآدمي فعليه رده إليه لكونه غصبه منه
(3/285)
(فصل) وإن أتلف جزءاً من الصيد فعليه ضمانه
لأن جملته مضمونة فكان بعضه مضموناً كالآدمي والاموال (مسألة) (ويضمن ما دل
عليه أو أشار إليه أو أعان على ذبحه أو كان له أثر في ذبحه مثل أن يعيره
سكيناً إلا أن يكون القاتل محرماً فيكون جزاؤه بينهما) يحرم على المحرم
الدلالة على الصيد والإشارة إليه فإن في حديث أبي قتادة لما صاد الحمار
الوحشي وأصحابه محرمون قال النبي صلى الله عليه وسلم " هل منكم أحدا أمره
أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ " وفي لفظ فأبصروا حماراً وحشياً وأنا مشغول
أخصف نعلي فلم يؤذنوني وأحبوا لو أني أبصرته وهذا يدل على تعليق التحريم
بذلك لو وجد منهم ولأنه سبب إلى إتلاف صيد محرم فحرم كنصب الشرك (فصل) وليس
له الإعانة على الصيد بشئ فإن في حديث أبي قتادة المتفق عليه ثم ركبت ونسيت
السوط والرمح فقلت لهم ناولوني السوط والرمح قالوا والله لا نعينك عليه،
وفي رواية فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني.
وهذا يدل على أنهم اعتقدوا تحريم الأعانة والنبي صلى الله عليه وسلم أقرهم
على ذلك ولأنه أعانه على محرم فحرم كالإعانة على قتل الآدمي، وبضمنه
بالدلالة عليه فإذا دل المحرم حلالاً
على الصيد فأتلفه فالجزاء على المحرم روى ذلك عن علي وابن عباس وعطاء
ومجاهد وبكر المزني واسحاق
(3/286)
وأصحاب الرأي، وقال مالك والشافعي لا شئ
على الدال لأنه يضمن بالجناية فلا يضمن بالدلالة كالآدمي ولنا حديث أبي
قتادة ولأنه سبب يتوصل به إلى إتلاف الصيد فتعلق به الضمان كما لو نصب
أحبولة ولأنه قول علي وابن عباس رضي الله عنهما ولا مخالف لها في الصحابة،
وإن اشار إليه فهو كما لو دل عليه لأنه في معناه (فصل) فإن دل محرماً على
الصيد فقتله فالجزاء بينهما، وبه قال عطاء وحماد بن أبي سليمان، وقال
الشعبي وسعيد بن جبير وأصحاب الرأي على كل واحد جزاء لأن كل واحد من
الفعلين يستقل بالجزاء إذا انفرد فكذلك إذا لم يضمنه غيره، وقال مالك
والشافعي لا شئ على الدال ولنا أن الواجب جزاء المتلف وهو واحد فيكون
الجزاء واحداً وعلى مالك والشافعي ما سبق ولا فرق بين جميع الصورتين كون
المدلول عليه ظاهراً أو خفياً لا يراه إلا بالدلالة عليه ولو دل محرم
محرماً على الصيد ثم دل الآخر آخر ثم كذلك إلى عشرة فقتل العاشر كان الجزاء
على جميعهم، وإن قتله الأول فلا شئ على غيره لأنه لم يدله عليه أحد فلا
يشاركه في ضمانه أحد ولو كان المدلول رأى الصيد قبل الدلالة والإشارة فلا
شئ على الدال والمشير لأن ذلك لم يكن سبباً في تلفه ولأن هذه ليست دلالة
على الحقيقة وكذلك إن وجد من المحرم حدث عند رؤية الصيد من ضحك أو استشراف
(3/287)
ففطن له غيره فصاده فلا شئ على المحرم، فإن
في حديث أبي قتادة قال.
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالقاحة ومنا المحرم
ومنا غير المحرم إذ بصرت بأصحابي يتراءون شيئاً فنظرت فإذا حمار وحش، وفي
لفظ فبينا أنا مع أصحابي فضحك بعضهم إذ نظرت إذا أنا بحمار وحش، وفي لفظ
فلما كنا بالصفاح إذا هم يتراءون فقلت أي شئ تنظرون؟ فلم يخبروني متفق عليه
(فصل) فإن أعار قاتل الصيد سلاحاً فقتله به فهو كما لو دله عليه سواء كان
المستعار مما لا يتم قلته إلا به أو أعاره شيئاً هو مستغن عنه مثل أن يعيره
رمحاً ومعه رمح وكذلك لو أعانه عليه
بمناولته سلاحه أو سوطه أو أمره باصطياده لما ذكرنا من حديث أبي قتادة وقول
أصحابه والله لا نعينك عليه بشئ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " هل منكم
أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ " وكذلك إن أعاره سكيناً فذبحه بها
فأما إن أعاره آلة ليستعملها في غير الصيد فاستعملها في الصيد لم يضمن لأن
ذلك غير محرم عليه أشبه مالو ضحك عند رؤية الصيد ففطن له إنسان فصاده (فصل)
فإن دل الحلال محرماً على صيد فقتله فلا شئ على الحلال لأنه لا يضمن الصيد
بالإتلاف فبالدلالة أولى إلا أن يكون ذلك في الحرم فيشتركان في الجزاء
كالمحرمين لأن صيد الحرم حرام على الحلال والمحرم فإن اشترك في قتل الصيد
حلال ومحرم في الحل فعلى المحرم الجزاء جميعه على ظاهر قول أحمد رحمه الله
وقال أصحاب الشافعي عليه نصف الجزاء كما لو كانا محرمين
(3/288)
ولنا أنه اشترك في قتله من يجب عليه الضمان
ومن لا يجب فاختص الجزاء بمن يجب عليه كما لو دل الحلال محرماً على صيد
فعليه ولأنه اجتمع موجب ومسقط فغلب الإيجاب كما لو قتل صيداً بعضه في الحرم
وبعضه في الحل ذكر هذه المسألة القاضي أبو الحسين (فصل) وكذلك إن كان شريكه
سبعاً ثم إن كان جرح أحدهما قبل صاحبه والسابق الحلال أو السبع فعلى المحرم
جزاؤه مجروحاً وإن كان السابق المحرم فعليه أرش جرحه على ما ذكرنا وإن كان
جرحهما في حال واحدة أو جرحاه ومات منهما فالجزاء كله على المحرم، وفيه وجه
لنا كقول أصحاب الشافعي إن على المحرم نصفه كالمحرمين (مسألة) (ويحرم عليه
الأكل من ذلك كله واكل ماصيد لأجله ولا يحرم عليه الأكل من غير ذلك) لا
خلاف في تحريم الصيد على المحرم إذا صاده أو ذبحه لقوله تعالى (وحرم عليكم
صيد البر ما دمتم حرما) وإن صاده حلال أو ذبحه وكان من المحرم إعانة فيه أو
دلالة أو إشارة إليه لم يبح أيضا لان أعان عليه أشبه ما لو ذبحه، وإن صيد
من أجله حرم عليه اكله يروي ذلك عن عثمان ابن عفان رضي الله عنه، وبه قال
مالك والشافعي وقال أبوحينفة له أكل ما صيد لاجله للقول النبي صلى الله
عليه وسلم في حديث أبي قتادة " هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشئ؟ " قالوا
لا.
قال " كلوا ما
بقي من لحمها " متفق عليه فدل على أن التحريم إنما يتعلق بالإشارة والأمر
والإعانة ولأنه صيد مذكى لم يحصل فيه ولا في سببه منع منه فلم يحرم عليه
أكله كما لو لم يصد له
(3/289)
ولنا ماروى ابن عباس رضي الله عنهما أن
الصعب بن جثامة الليثي أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشيا وهو
بالابواء أو بودان فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى ما في
وجهه قال: " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم " متفق عليه، وروى جابر رضي الله
عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " صيد البر لكم حلال ما
لم تصيدوه أو يصد لكم) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال هو أحسن حديث
في الباب وهذا فيه تحريم ماصيد للمحرم وفيه إباحة ما لم يصده ولم يصد له
(فصل) ولا يحرم عليه الأكل من غير ذلك، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة
ومالك، ويروى ذلك عن طلحة بن عبيد الله وحكي عن عطاء وابن عمر وعائشة وابن
عباس رضي الله عنهم أن لحكم الصيد يحرم على المحرم بكل حال، وبه قال طاوس
وكرهه الثوري واسحاق لعموم قوله سبحانه (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما)
ولما ذكرنا من حديث الصعب بن جثامة، وروى أبو داود باسناده عن عبد الله بن
الحارث عن أبيه قال: كان الحارث خليفة عثمان على الطائف فصنع له طعاماً
وصنع فيه الحجل واليعاقيب ولحم الوحش فبعث إلى علي بن أبي طالب فجاءه فقال
أطعموه قوما حلالاً أنا حرم ثم قال علي أنشد الله من كان ههنا من أشجع
أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى إليه رجل حمار وحش فأبى أن
يأكله؟ قالوا نعم، ولأنه لحم صيد فحرم على المحرم كما لو دل عليه ولنا ما
ذكرنا من حديث أبي قتادة وجابر فإنهما صريحان في الحكم وفي ذلك جمع بين
الأحاديث وبيان المختلف منها بأن يحمل ترك النبي صلى الله عليه وسلم الأكل
في حديث الصعب بن جثامة لعلمه أو ظنه أنه
(3/290)
صيد من أجله ويتعين حمله على ذلك لما ذكرنا
من الحديثين فإن الجمع بين الأحاديث أولى من التعارض والتناقض، وروى مالك
في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يريد مكة وهو محرم حتى إذا
كان بالروحاء إذا حمار وحشي عقير فجاء البهزي وهو صاحبه فقال يارسول الله
شأنكم بهذا الحمار فأمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه بين الرفاق (فصل) وما حرم على
المحرم لكونه دل عليه أو أعان عليه أو صيد من أجله لا يحرم على الحلال أكله
لقول علي رضي الله عنه أطعموه حلالا وقد بينا حمله على أنه صيد من أجلهم
وحديث الصعب ابن جثامة حين رد النبي صلى الله عليه وسلم الصيد عليه لم ينهه
عن أكله ولأنه صيد حلال فأبيح للحلال أكله كما لو صيد لهم وهل يباح أكله
لمحرم آخر فيه احتمالان (أحدهما) يباح فإن ظاهر حديث جابر إباحته وهو قول
عثمان رضي الله عنه لأنه يروى أنه أهدي له صيد فقال لأصحابه كلوا ولم يأكل
وقال إنما صيد من أجلي ولأنه لم يصد من أجله فحل له كما لو صاده الحلال
لنفسه ويحتمل أن يحرم وهو قول علي رضي الله عنه لقول النبي صلى الله عليه
وسلم في حديث أبي قتادة " هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها "
قالوا لا قال " فكلوه " فمفهومه إن إشارة واحد منهم تحرمه عليهم والأول
أولى
(3/291)
(فصل) وإذا قتل المحرم الصيد ثم أكله ضمنه
للقتل دون الأكل، وبه قال مالك والشافعي، وقال عطاء وأبو حنيفة يضمنه للأكل
أيضاً لأنه أكل من صيد محرم عليه فضمنه كما لو صيد لأجله ولنا أنه مضمون
بالجزاء فلم يضمن ثانياً كما لو أتلفه بغير الأكل وكصيد المحرم إذا قتله
الحلال وأكله وكذلك إن قتله محرم آخر ثم أكل منه لم يجب عليه الجزاء لما
ذكرنا ولأن تحريمه لكونه ميتة والميتة لا تضمن بالجزاء، وكذلك إن حرم عليه
أكله بالدلالة عليه والإعانة عليه فأكل منه لم يضمن لأنه صيد مضمون بالجزاء
مرة فلم يجب به جزاء ثان كما لو أتلفه فإن أكل مما صيد لأجله ضمنه وهو قول
مالك والشافعي في القديم وقال في الجديد لا جزاء عليه لأنه أكل للصيد فلم
يجب به الجزاء كما لو قتله ثم أكله ولنا أنه إتلاف ممنوع منه لحرمة الإحرام
فتعلق به الضمان كالقتل.
أما إذا قتله ثم أكله يحرم للإتلاف إنما حرم لكونه ميتة، إذا ثبت هذا فإنه
يضمنه بمثله من اللحم لأن أصله مضمون بمثله من النعم فكذلك أبعاضه تضمن
بمثلها بخلاف حيوان الآدمي فإنه يضمن جميعه بالقيمة فكذلك ابعاضه (فصل)
وإذا ذبح المحرم الصيد صار ميتة يحرم أكله على جميع الناس، وهذا قول الحسن
والقاسم وسالم ومالك والاوزاعي واسحاق وأصحاب الرأي، وقال الحكم والثوري
وأبو ثور لا بأس بأكله.
قال إبن المنذر هو بمنزلة ذبيحة السارق وقال عمرو بن دينار وأيوب السختياني
(3/292)
يأكله الحلال، وحكي عن الشافعي قول قديم
أنه يحل لغيره الأكل منه لأن من أباحت زكاته غير الصيد أباحت الصيد كالحلال
ولنا أنه حيوان حرم عليه ذبحة لحق الله تعالى فلم يحل بذبحه كالمجوسي،
وبهذا فارق سائر الحيوانات وفارق غير الصيد فإنه لا يحرم ذبحه وكذلك الحكم
في صيد المحرم إذا ذبحه محرم أو حلال وبعض الحنفية يقول هو مباح، ولنا ما
ذكرناه (مسألة) (وإن اتلف بيض صيد أو نقله إلى موضع آخر ففسد فعليه ضمانه
بقيمته) إذا أتلف بيض صيد ضمنه بقيمته أي صيد كان قال ابن عباس في بيض
النعام قيمته، وروي ذلك عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، وبه قال النخعي
والزهري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأنه روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " في بيض النعام يصيبه المحرم ثمنه " رواه ابن ماجه، وإذا وجب في
بيض النعام قيمته مع أنه من ذوات الأمثال فغيره أولى، ولأن البيض لا مثل له
فيجب فيه قيمته كصغار الطير فإن لم يكن له قيمة لكونه مدراً أو لان فرخه
ميت فلا شئ فيه، قال أصحابنا
(3/293)
إلا بيض النعام فإن لقشرة قيمة والصحيح أنه
لا شئ فيه لأنه إذا لم يكن فيه حيوان ولا مآله إلى أن يصير فيه حيوان صار
كالأحجار والخشب وسائر ماله قيمة من غير الصيد ألا ترى أنه لو نقب بيضة
فأخرج ما فيها لزمه جزاء جميعها ثم لو كسرها هو أو غيره لم يلزمه لذلك شئ،
ومن كسر بيضه فخرج منها فرخ حي فعاش فلا شئ فيه، وقال ابن عقيل يحتمل أن
يضمنه إلا أن يحفظه من الجارح إلى أن ينهض فيطير لأنه صار في يده مضموناً
وتخليته غير ممتنع ليس برد تام، ويحتمل أن لا يضمنه لأنه لم يجعله غير
ممتنع بعد أن كان ممتنعاً بل تركه على صفته فهو كما لو أمسك طائراً أعرج ثم
تركه وإن مات ففيه ما في صغار أولاد المتلف بيضه ففي فرخ الحمام صغير أولاد
الغنم، وفي فرخ
النعامة حوار وفيما عداهما قيمة إلا ما كان أكبر من الحمام ففيه ما نذكره
من الخلاف في أمهاته إن شاء الله تعالى، ولا يحل لمحرم أكل بيض الصيد إذا
كسره هو أو محرم سواه، وإن كسره حلال فهو كلحم الصيد إن كان أخذه لاجل
المحرم لم يبح أكله وإلا أبيح، وإن كسر المحرم بيض صيد لم يحرم على الحلال
لأن حله لا يقف على كسره ولا يعتبر له أهليته بل لو كسره مجوسي أو وثني أو
بغير تسمية لم يحرم فأشبه قطع اللحم وطبخه، وقال القاضي: يحرم على الحلال
أكله كالصيد لأن
(3/294)
كسره جرى مجرى الذبح بدليل حله للمحرم بكسر
الحلال له وتحريمه عليه بكسر المحرم (فصل) وإن نقل بيض صيد فجعله تحت آخر
أو ترك مع بيض الصيد بيضاً آخر أو شيئاً فنفر عن بيضه حتى فسد فعليه ضمانه
لأنه تلف بسببه، وإن صح وفرخ فلا ضمان عليه، وإن باض الصيد على فراشه فنقله
برفق ففسد ففيه وجهان بناء على الجراد إذا انفرش في طريقه وحكم بيض الجراد
حكم الجراد وكذلك بيض كل حيوان حكمه حكمه لأنه جزء منه أشبه الأصل، وإن
احتلب لبن صيد ففيه قيمته كما لو حلب لبن حيوان مغصوب (مسألة) (ولا يملك
الصيد بغير الإرث وقيل لا يملكه به أيضا) لا يملك المحرم الصيد ابتداء
بالبيع ولا بالهبة ونحوهما من الاسباب فان الصعب بن جثامة
(3/295)
أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حماراً
وحشياً فرده عليه وقال " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم " فإن أخذه بأحد هذه
الأسباب ثم تلف فعليه جزاؤه، وإن كان مبيعاً فعليه القيمة لمالكه مع الجزاء
لأن ملكه لم يزل عنه، وإن أخذه رهناً فلا شئ عليه سوى الجزاء لأنه أمانة
فإن لم يتلف فعليه رده إلى مالكه فإن أرسله فعليه ضمانه لمالكه وليس عليه
جزاء وعليه رد المبيع أيضاً، ويحتمل أن يلزمه إرساله كما لو كان مملوكاً،
ولأنه لا يجوز له إثبات يده المشاهدة على الصيد، وهذا قول الشافعي وأصحاب
الرأي ولا يسترد المحرم الصيد الذي باعه وهو حلال بخيار ولا عيب في ثمنه
ولا غير ذلك لأنه ابتداء ملك على الصيد وهو ممنوع منه، وإن رده المشتري
عليه بعيب أو خيار فله ذلك لأن سبب الرد محقق
ثم لا يدخل في ملك المحرم ويلزمه إرساله (فصل) وإن ورثه المحرم ورثه لأن
الملك بالإرث ليس بفعل من جهته، وإنما يدخل في ملكه حكماً اختار ذلك أو
كرهه، ولهذا يدخل في ملك الصبي والمجنون ويدخل به المسلم في ملك الكافر
فجرى مجرى الاستدامة وقيل لا يملك به أيضاً لأنه جهة من جهات التمليك أشبه
البيع وغيره فعلى هذا يكون أحق به من غير ثبوت ملكه عليه فإذا حل ملكه
(3/296)
(مسألة) (وإن أمسك صيدا حتى تحلل ثم تلف أو
ذبحه ضمنه وكان ميتة وقال أبو الخطاب له أكله) إذا صاد المحرم صيداً لم
يملكه، فإن أمسكه حتى حل لزمه إرساله وليس له ذبحه فإن تلف فعليه ضمانه
لأنه لا يحل له إمساكه أشبه الغاصب، وإن ذبحه ضمنه لذلك وحرم أكله لأنه صيد
ضمنه بحرمة الإحرام فلم يبح أكله كما لو ذبحه حال إحرامه، ولأنها زكاة منع
منها بسبب الإحرام فأشبه ما لو كان الإحرام باقياً، واختار أبو الخطاب أن
له أكله وعليه ضمانه لأنه ذبحه وهو من أهل ذبح الصيد فأشبه ما لو صاده الحل
والفرق ظاهر لأن هذا يلزمه ضمانه بخلاف الذي صاده بعد الحل ورى ابن أبي
موسى عن أحمد إذا استأجر بيتاً في الحرم فوجد فيه صيداً ميتاً فداه
احتياطاً والقياس أنه لا يجب عليه فداؤه ولأن الأصل براءة الذمة (مسألة)
(وإن أحرم وفي يده صيد أو دخل الحرم بصيد لزمه إزالة يده المشاهدة دون
الحكمية عنه فان لم يفعل فتلف ضمنه وإن أرسله إنسان من يده قهراً فلا ضمان
على المرسل) إذا أحرم وفي ملكه صيد لم يزل ملكه عنه ولا يده الحكمية مثل أن
يكون في بلده أو في يد ثابت له في غير مكانه ولا شئ عليه إن مات وله التصرف
فيه بالبيع والهبة وغيرهما وإن غصبه
(3/297)
غاصب لزمه رده ويلزمه إزالة يده المشاهدة
عنه، ومعناه إذا كان في قبضته أو خيمته أو رحله أو قفص معه أو مربوط بحبل
معه لزمه إرساله، وبه قال مالك وأصحاب الرأي وقال الثوري هو ضامن لما في
بيته أيضاً، وحكي نحو ذلك عن الشافعي، وقال أبو ثور ليس على إرسال ما في
يده وهو أحد قولي
الشافعي لأنه في يده ولم يجب إرساله كما لو كان في يده الحكمية ولأنه لا
يلزم من منع ابتداء الصيد المنع من استدامته بدليل الصيد في الحرم ولنا على
أنه لا يلزمه إزالة يده الحكمية أنه لم يفعل في الصيد فعلا فلم يلزمه شئ
كما لو كان في ملك غيره وعكس هذا إذا كان في يده المشاهدة لأنه فعل الإمساك
في الصيد فكان ممنوعاً منه وكحالة الابتداء فإن استدامة الإمساك إمساك
بدليل أنه لو حلف لا يملك شيئاً فاستدام إمساكه حنث، والأصل المقيس عليه
ممنوع والحكم فيه ما ذكرنا قياساً عليه.
إذا ثبت هذا فانه متى أرسله لم يزل ملكه عنه، ومن أخذه رده عليه إذا حل ومن
قتله ضمنه له لأن ملكه كان عليه، وإزالة يده لا تزيل الملك بدليل الغصب
والعارية فإن تلف في يده قبل إرساله مع إمكانه ضمنه لأنه تلف تحت اليد
العادية فلزمه ضمانه كمال الآدمي ولا يلزمه ضمانه قبل إمكان الإرسال لعدم
التفريط والتعدي فإن
(3/298)
أرسله إنسان من يده قهر فلا ضمان عليه لأنه
فعل ما له فعله ولأن اليد قد زال حكمها وحرمتها فإن أمسكه حتى حل فملكه باق
عليه لأن ملكه لم يزل بالإحرام إنما زال حكم المشاهدة فصار كالعصير يتخمر
ثم يتخلل قبل إراقته (فصل) ومن ملك صيدا في الحل فأدخله الحرم لزمه رفع يده
وإرساله فإن تلف في يده أو أتلفه فعليه ضمانه كصيد الحل في حق المحرم.
وقال عطاء: إن ذبحه فعليه الجزاء.
وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما وممن كره الصيد الحرم ابن عمر وابن
عباس وعائشة وعطاء وطاوس وأصحاب الرأي، ورخص فيه جابر بن عبد الله ورويت
عنه الكراهة قال هشام بن عروة: كان ابن الزبير تسع سنين براها في الأقفاص،
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون به بأساً ورخص فيه سعيد بن جبير
ومجاهد ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر لأنه ملكه خارجاً وحل له
التصرف فيه فجاز له ذلك في الحرم كصيد المدينة ولنا أن الحرم سبب محرم
للصيد يوجب ضمانه فحرم استدامة إمساكه كالإحرام ولأنه صيد ذبحه في الحرم
فلزمه جزاؤه كما لو صاده منه، وصيد المدينة لا جزاء فيه بخلاف صيد الحرم
(3/299)
(فصل) فإن أمسك صيدا في الحرم فأخرجه لزمه
إرساله من يده كالمحرم إذا أمسك الصيد حتى حل فإن تركه فتلف فعليه ضمانه
كالمحرم إذا أمسكه حتى تحلل (مسألة) (وان قتل صيداً صائلا عليه دفعاً عن
نفسه أو بتخليصه من سبع أو شبكة ليطلقه فتلف لم يضمنه وقيل يضمنه فيهما)
إذا صال عليه صيد فلم يقدر على دفعه إلا بقتله فله قتله ولا ضمان عليه،
وبهذا قال الشافعي وقال أبو بكر عليه الجزاء وهو قول أبي حنيفة لأنه قتله
لحاجة نفسه أشبه قتله لحاجته إلى أكله ولنا إنه حيوان قتله لدفع شره فلم
يضمنه كالآدمي الصائل ولأنه التحق بالمؤذيات طبعا فصار كالكلب العقور ولا
فرق بين أن يخشى منه التلف أو مضرة لجرحه أو إتلاف ماله أو بعض حيواناته
(فصل) فإن خلص صيداً من سبع أو شبكة أو أخذه ليخلص من رجله خيطاً ونحوه
فتلف بذلك فلا ضمان عليه، وبه قال عطاء وقيل عليه الضمان وهو قول قتادة
لعموم الآية، ولأن غاية ما فيه أنه عدم القصد إلى قتله فأشبه قتل الخطأ
ولنا أنه فعل أبيح لحاجة الحيوان فلم يضمن ما تلف به كما لو داوى ولي الصبي
الصبي فمات بذلك وهذا ليس بمتعمد ولا تناوله الآية
(3/300)
(مسألة) (ولا تأثير للحرم ولا للإحرام في
تحريم حيوان انسي ولا محرم الاكل ولا القمل على المحرم في رواية وأي شئ
تصدق به كان خيراً منه) لا تأثير للحرم ولا للإحرام في تحريم شئ من الحيوان
الأهلي كبهيمة الانعام والخيول والدجاج ونحوها لأنه ليس بصيد، وإنما حرم
الله سبحانه الصيد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح البدن في إحرامه
في الحرم يتقرب الى الله سبحانه بذلك، وقال عليه السلام " أفضل الحج العج
والثج " يعني إسالة الدماء بالذبح والنحر وهذا لا خلاف فيه، فإن كان
متولداً بين وحشي وأهلي غلب جانب التحريم (فصل) فأما المحرم أكله فهو ثلاثة
أقسام
(أحدها) الخمس الفواسق التي أباح الشارع قتلها في الحل والحرم وهي الحدأة
والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور، وفي بعض ألفاظ الحديث الحية مكان
العقرب فيباح قتلهن في الإحرام والحرم وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الثوري
والشافعي وأصحاب الرأي واسحاق، وحكي عن النخعي أنه منه قتل الفأرة والحديث
صريح في حل قتلها فلا تعويل على ما خالفه، والمراد بالغراب الأبقع وغراب
البين، وقال قوم لا يباح قتل غراب البين لأنه روي " خمس فواسق يقتلن في
الحل والحرم الحية
(3/301)
والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور
والحديا " رواه مسلم وهذا يقيد مطلق ذكر الغراب في الحديث الآخر ولا يمكن
حمله على العموم بدليل أن المباح من الغربان لا يحل قتله ولنا ما روت عائشة
رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في
الحرم الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " خمس من
الدواب ليس على المحرم جناح في قتلهن " وذكر مثل حديث عائشة متفق عليهما
وهذا عام في الغراب وهو أصح من الحديث الآخر، ولأن غراب البين محرم الاكل
يعدوا على أموال الناس ولا وجه لإخراجه من العموم وفارق ما أبيح أكله فانه
ليس في معنى ما أبيح قتله فلا يلزم من تخصيصه تخصيص ما ليس في معناه (القسم
الثاني) من المحرم أكله ماكان طبعه الأذى وإن لم يوجد منه أذى كالأسد
والنمر والفهد والذئب وما في معناه فيباح قتله أيضاً ولا جزاء فيه قال
مالك: الكلب العقور ما عقر الناس وعدا عليهم مثل الأسد والذئب والنمر
والفهد.
فعلى هذا يباح قتل كل ما فيه أذى للناس في أنفسهم وأموالهم مثل سباع
البهائم كلها، الحرام أكلها وجوارح الطير كالبازي والصقر والشاهين والعقاب
ونحوها والحشرات
(3/302)
المؤذية والزنبور والبق والبعوض والبراغيث
والذباب وبه قال الشافعي، وقال أصحاب الرأي: يقتل ما جاء في الحديث والذئب
قياساً عليه ولنا أن الخبر نص من كل جنس على صورة من أدناه تنبيها على ما
هو أعلى منها، ودلالة على ماكان
في معناها فنصه على الغراب والحدأة تنبيه على البازي ونحوه وعلى الفأرة
تنبيه على الحشرات وعلى العقرب تنبيه على الحية وقد ذكرت في بعض الأحاديث،
وعلى الكلب العقور تنبيه على السباع التي هي أعلا منه ولان مالا يضمن
بقيمته ولا مثله لا يضمن بشئ كالحشرات (القسم الثالث) من المحرم الاكل مالا
يؤذي بطبعه كالرخم والديدان فلا أثر للحرم ولا للإحرام فيه ولا جزاء فيه إن
قتله، وبه قال الشافعي وقال مالك يحرم قتلها فإن قتلها فداها وكذلك كل سبع
لا يعدو على الناس فإذا وطئ الذباب أو النمل أو الذر أو قتل الزنبور تصدق
بشئ من الطعام، وقال ابن عقيل في النملة لقمة، أو تمرة إذا لم تؤذه، ويتخرج
في النحلة مثل ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النملة
والنحلة.
وحكى ابن أبي موسى في الضفدع حكومة
(3/303)
ولنا أن الله سبحانه إنما أوجب الجزاء في
الصيد وليس هذا بصيد.
قال بعض أهل العلم الصيد ما جمع ثلاثة أشياء إن يكون مباحاً ممتنعاً، ولأنه
لا مثل له ولا قيمة والضمان إنما يكون بأحد هذين الشيئين (فصل) ولا بأس أن
يقرد المحرم بعيره روى ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قرد بعيره باسقيا
أي نزع القراد عنه فرماه وهذا قول ابن عباس وجابر بن زيد وعطاء وقال مالك
لا يجوز وكرهه عكرمة ولنا أنه قول من سمينا من الصحابة ولأنه مؤذ فأبيح
قتله كالحية والعقرب (فصل) فأما القمل ففيه روايتان (إحداهما) إباحة قتله
لأنه من أكثر الهوام أذى فأبيح قتله كالبراغيث وسائر ما يؤذي (والثانية) إن
قتله محرم وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه يترفه بازالته فحرم كقطع الشعر ولأن
النبي صلى الله عليه وسلم رأى كعب بن عجرة والقمل يتناثر على وجهه فقال له
احلق رأسك فلو كان قتل القمل وإزالته مباح لم يكن كعب ليتركه حتى يصير كذلك
ولكان النبي صلى الله عليه وسلم أمره بإزالته خاصة والصئبان كالقمل لأنه
بيضه ولافرق بين قتل القمل ورميه أو قتله بالزئبق لحصول الترفه به قال
القاضي إنما الروايتان فيما أزاله من شعره أما ما ألقاه من ظاهر بدنه وثوبه
فلا شئ فيه رواية واحدة وظاهر كلام شيخنا ههنا يقتضي العموم ويجوز له حك
رأسه برفع كيلا يقطع شعراً أو يقتل قملاً فإن حك فرآى في يده
شعراً استحب له أن يعيده احتياطاً ولا يجب حتى يستيقن
(3/304)
(فصل) فإن تفلى المحرم أو قتل قملاً فلا
فدية فيه فإن كعب بن عجرة حين حلق رأسه قد أذهب قملاً كثيراً ولم يجب عليه
لذلك شئ إنما أوجب الفدية بحلق الشعر ولأن القمل لا قيمة له فأشبه البعوض
والبراغيث ولأنه ليس بصيد ولاهو مأكولا حكي عن ابن عمر قال هي أهون مقتول
وسئل ابن عباس في محرم ألقى قملة ثم طلبها فلم يجدها قال مالك ضالة لا
تبتغى، وهذا قول طاوس وسعيد بن جبير وعطاء وأبي ثور وابن المنذر وعن أحمد
فيمن قتل قملة قال يطعم شيئاً.
فعلى هذا أي شئ تصدق به أجزأه سواء قتل قليلاً أو كثيراً وهذا قول أصحاب
الرأي وقال إسحاق تمرة فما فوقها، وقال مالك حفنة من طعام وروي ذلك عن ابن
عمر وهذه الأقوال كلها قريب من قولنا فانهم لم يريدوا بذلك التقدير وإنما
هو على التقريب لأقل ما يتصدق به (فصل) والخلاف إنما هو في قتله للمحرم أما
في الحرم فيباح قتل القمل بغير خلاف لأنه إنما حرم في حق المحرم لما فيه من
الترفه فهو كقطع الشعر ومن كان في الحرم غير محرم فمباح له قطع الشعر
وتقليم الأظفار والطيب وسائر ما يترفه به (فصل) ولا بأس بغسل المحرم رأسه
وبدنه برفق.
فعل ذلك عمر وابنه وأرخص فيه علي وجابر
(3/305)
وسعيد بن جبير والشافعي وأبو ثور وأصحاب
الرأي وكره مالك للمحرم أن يغطس في الماء ويغيب فيه رأسه ولعله ذهب إلى أن
ذلك ستر له، والصحيح أنه لا بأس بذلك لأن ذلك ليس بستر ولهذا لا يقوم مقام
السترة في الصلاة، وقد روي عن ابن عباس قال ربما قال لي عمر ونحن محرمون
بالجحفة تعال أباقيك أينا أطول نفساً في الماء؟ رواه سعيد ولأنه ليس بستر
معتاد وأشبه صب الماء عليه ووضع يده عليه، وقد روي عبد الله بن جبير قال
أرسلني ابن عباس الى أبي أيوب الأنصاري فأتيته وهو يغتسل فسلمت عليه فقال
من هذا؟ فقلت أنا عبد الله بن جبير أرسلني إليك عبد الله بن عباس يسألك كيف
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم فوضع أبو أيوب يده
على الثوب فطاطاه
حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه الماء: صب، فصب على رأسه ثم حرك
رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يفعل متفق عليه (فصل) ويكره له غسل رأسه بالسدر والخطمى ونحوهما لما
فيه من إزالة الشعث والتعرض لقطع الشعر وكرهه جابر بن عبد الله ومالك
والشافعي وأصحاب الرأي فإن فعل فلا فدية عليه، وبه قال الشافعي وأبو ثور
وابن المنذر، وعن أحمد رحمه الله عليه الفديه، وبه قال مالك وأبو حنيفة
وقال صاحباه عليه
(3/306)
صدقة لأن الخطمي يستلذ برائحته ويزيل الشعث
ويقتل الهوام فوجبت به الفدية كالورس ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
في المحرم الذي وقصه بعيره " اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه
ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً " متفق عليه فأمر بغسله
بالسدر مع إثبات حكم الإحرام في حقه والخطمى كالسدر، ولأنه ليس بطيب فلم
تجب الفدية باستعماله كالتراب، وقولهم يستلذ رائحته ممنوع ثم يبطل بالفاكهة
وبعض التراب وإزالة الشعث يحصل بذلك أيضاً، وقتل الهوام لا يعلم حصوله ولا
يصح قياسه على الورس لأنه طيب، ولذلك لو استعمله في غير الغسل أو في ثوبه
منع منه بخلاف مسئلتنا (مسألة) (ولا يحرم صيد البحر على المحرم وفي إباحته
في الحرم روايتان) لا يحرم صيد البحر على المحرم بغير خلاف لقوله تعالى
(أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة) قال ابن عباس وابن عمر
طعامه ما ألقاه، وعن ابن عباس طعامه ملحه ولا خلاف بين أهل العلم في جواز
أكله وبيعه وشرائه، ولا فرق بين حيوان البحر الملح وبين ما في الأنهار
والعيون فإن اسم البحر يتناول الكل قال الله سبحانه (وما يستوي البحران هذا
عذب فرات سائغ شرابه وهذا
(3/307)
ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا) ولأن
الله تعالى قابله بصيد البر بقوله (وحرم عليكم صيد البر) فدل على أن ما ليس
من صيد البر فهو من صيد البحر، وحيوان البحر ماكان يعيش في الماء ويفرخ فيه
ويبيض فيه، فإن كان مما لا يعيش إلا في الماء كالسمك ونحوه فهذا لا خلاف
فيه، وإن
كان مما يعيش في البر كالسلحفاة والسرطان فهو كالسمك لاجزاء فيه، وقال عطاء
فيه الجزاء وفي الضفدع وكل ما يعيش في البر ولنا أنه يفرخ في الماء ويبيض
فيه فكان من حيوانه كالسمك فأما طير الماء ففيه الجزاء في قول عامة أهل
العلم منهم الاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفاً غير ما
حكي عن عطاء أنه قال: حيثما يكون أكثر فهو من صيده ولنا أنه إنما يفرخ في
البر ويبيض فيه وإنما يدخل الماء ليتعيش فيه ويكتسب منه فهو كصياد
الآدميين، فإن كان جنس من الحيوان نوع منه في البر ونوع منه في البحر
كالسلحفاة فلكل نوع حكم نفسه كالبقر منها الوحشي محرم والأهلي مباح
(3/308)
(فصل) وهل يباح صيد البحر في الحرم فيه
روايتان أصحهما أنه لا يباح فلا يحل الصيد من آبار الحرم وعيونه كرهه جابر
بن عبد الله رضي الله عنه لقوله عليه السلام " لا ينفر صيدها " ولأن الحرمة
تثبت للصيد بحرمة المكان وهو شامل لكل صيد (والثانية) أنه مباح لأن الإحرام
لا يحرمه الحرم كالسباع والحيوان الأهلي (مسألة) (ويضمن الجراد بقيمته فإن
انفرش في طريقه فقتله بالمشي عليه ففي الجزاء وجهان وعنه لا ضمان في
الجراد) اختلفت الرواية في الجراد فعنه هو صيد البحر لا جزاء فيه وهو مذهب
أبي سعيد، قال إبن المنذر قال ابن عباس وكعب هو من صيد البحر، قال عروة هو
من نثرة حوت، وروي عن أبي هريرة قال أصابنا ضرب من جراد فكان الرجل منا
يضرب بسوطه وهو محرم فقيل له أن هذا لا يصلح فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه
وسلم فقال " إن هذا من صيد البحر " وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال " الجراد من صيد البحر " رواهما أبو داود (والرواية الثانية) أنه من
صيد البر وفيه الجزاء وهو قول الأكثرين لما روي أن عمر رضي الله عنه قال
لكعب في جرادتين: ما جعلت في نفسك؟ قال درهمان، قال بخ درهمان خير من مائة
جرادة، رواه
(3/309)
الشافعي في مسنده، ولأنه طير يشاهد طيرانه
في البر ويهلكه الماء إذا وقع فيه أشبه العصافير، فأما الحديثان اللذان
ذكرناهما للرواية الأولى فوهم قاله أبو داود، فعلى هذا يضمنه بقيمته لأنه
لا مثل له وهذا قول الشافعي، وعن أحمد يتصدق بتمرة عن الجرادة وهذا يروى عن
عمر وعبد الله بن عمر، وقال ابن عباس قبضة من طعام، قال القاضي كلام أحمد
وغيره محمول على أنه أوجب ذلك على طريق القيمة، والظاهر أنهم لم يريدوا
بذلك التقدير وإنما أرادوا فيه أقل شئ (فصل) فإن افترش الجراد في طريقه
فقتله بالمشي عليه بحيث لا يمكنه التحرز منه ففيه وجهان (أحدهما) يجب جزاؤه
لانه أتلقه لنفع نفسه فضمنه كالمضطر يقتل صيداً يأكله (والثاني) لا يضمنه
لأنه اضطره إلى إتلافه أشبه الصائل عليه (مسألة) (ومن اضطر إلى أكل الصيد
واحتاج إلى شئ من هذه المحظورات فله فعله وعليه الفداء) إذا اضطر إلى أكل
الصيد أبيح له ذلك بغير خلاف علمناه لقوله سبحانه (ولا تلقوا بأيديكم إلى
(3/310)
التهلكة) وترك الأكل مع القدرة عند الضرورة
القاء بيده إلى التهلكة ومتى قتله لزمه ضمانه سواء وجد غيره أو لم يجد،
وقال الأوزاعي لا يضمنه لأنه مباح أشبه صيد البحر ولنا عموم الآية ولأنه
قتله من غير معنى حدث من الصيد يقتضي قتله فضمنه كغيره ولأنه أتلفه لدفع
الأذى عن نفسه لا لمعنى منه أشبه حلق الشعر لأذى برأسه وكذلك إن احتاج إلى
حلق شعره للمرض أو القمل وقطع شعره لمداواة جرح أو نحوه أو تغطية رأسه أو
لبس المخيط أو شئ من المحظورات فله فعله كما جاز حلق رأسه للحاجة فإن فعله
فعليه الفدية لأن الفدية تثبت في حلق الرأس للعذر للآية وحديث كعب بن عجرة
وقسنا عليه سائر المحظورات (فصل) قال الشيخ رحمه الله (السابع) عقد النكاح
لا يصح منه، وفي الرجعة روايتان ولا فدية عليه في شئ منهما.
لا يجوز للمحرم أن يتزوج لنفسه ولا يكون ولياً في النكاح ولا وكيلاً فيه
ولا يجوز تزويج المحرمة
روى ذلك عن عمر وابنه وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب
وسليمان بن يسار
(3/311)
والزهري والاوزاعي ومالك والشافعي وأجازه
ابن عباس وهو قول أبي حنيفة لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم
تزوج ميمونة وهو محرم متفق عليه ولأنه عقد يملك به الاستمتاع فلم يحرمه
الإحرام كشراء الاماء.
ولنا ماروى عثمان بن عفان رض قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا
ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب " رواه مسلم ولان الإحرام يحرم الطيب فيحرم
النكاح كالعدة فأما حديث ابن عباس فقد روى يزيد بن الأصم عن ميمونة رضي
الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالا وبنى بها حلالا وماتت
بسرف في الظلة التي بنى بها فيها رواه أبو داود والاثرم وعن أبي رافع قال
تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت
أنا الرسول بينهما قال الترمذي هذا حديث حسن وميمونة أعلم بحال نفسها وأبو
رافع صاحب القصة وهو السفير فيها فهما أعلم بذلك من ابن عباس وأولى
بالتقديم لو كان ابن عباس كبيرا وقد كان صغيراً لا يعرف حقائق الأمور وقد
أنكر عليه هذا القول فقال سعيد بن المسيب وهم من ابن عباس ما تزوجها رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلا حلالا فكيف يعمل بحديث هذا حاله ويمكن حمل
قوله وهو محرم أي في الشهر الحرام أو في البلد الحرام كما قيل * قتلوا ابن
عفان الخليفة محرماً * وقيل تزوجها حلالا وأظهر أمر تزويجها وهو محرم ثم لو
تعارض الحديثان كان تقديم حديثنا أولى لأنه
(3/312)
قول النبي صلى الله عليه وسلم وذلك فعله
والقول آكد لأنه يحتمل أن يكون مختصاً بما فعله وعقد النكاح يخالف شراء
الأمة لأنه يحرم بالعدة والردة واختلاف الدين وكون المنكوحة اختاله من
الرضاع ولأن النكاح إنما يراد للوطئ غالباً بخلاف الشراء فإنه يراد للخدمة
والتجارة وغير ذلك فافترقا.
(فصل) وإذا وكل المحرم حلالا في النكاح فعقد له النكاح بعد تحلل الموكل صح
العقد لأن الاعتبار بحالة العقد وإن وكله وهو حلال فلم يعقد له العقد حتى
أحرم لم يصح لما ذكرنا فإن أحرم
الامام الاعظم منع من التزويج لنفسه وتزويج أقاربه وهل يمنع من أن يزوج
بالولاية العامة فيه احتمالان (أحدهما) يمنع كما لو باشر العقد (والثاني)
لا يمنع لأن فيه حرجاً على الناس وتضييقاً عليهم في سائر البلاد ولان من
يزوج من الحكام إنما يزوجوه بإذنه وولايته ذكر ذلك ابن عقيل واختار الجواز
لأنه حال ولايته كان حلالا والاستدامة أقوى من الابتداء لأن الإمامة العظمى
من شرطها العدالة ولا تبطل بالفسق الطارئ (فصل) وإذا وكل الحلال محلاً في
النكاح فعقد النكاح وأحرم الموكل فقالت الزوجة وقع العقد بعد الإحرام فلم
يصح وقال الزوج بل قبله فالقول قوله وإن كان الاختلاف بالعكس فالقول قوله
أيضاً لأنه يملك فسخ العقد فملك الإقرار به لكن يجب عليه نصف الصداق (فصل)
فإن تزوج أو زوج أو زوجت المحرمة لم يصح النكاح سواء كان الكل محرمين أو
بعضهم لأنه منهي عنه فلم يصح كنكاح المرأة على عمتها وخالتها، وقال ابن أبي
موسى إذا زوج المحرم غيره صح في إحدى الروايتين، وروى عن أحمد رحمه الله
أنه قال: إن زوج المحرم لم ينفسخ النكاح قال بعض أصحابنا هذا يدل على أنه
إذا كان الولي بمفرده أو الوكيل محرماً لم يفسد النكاح لأنه سبب يبيح
محظوراً للحلال فلم يمنع منه الإحرام كما لو حلق المحرم رأس حلال والمذهب
الأول للحديث،
(3/313)
وكلام أحمد يحمل على أنه لم يفسخه لكونه
مختلفاً فيه، قال القاضي ويفرق بينهما بطلقة وكذلك كل نكاح مختلف فيه
كالنكاح بلا ولي ليباح تزويجها بيقين وفي الرجعة روايتان (إحداهما) لا تصح
لأنه عقد وضع لإباحة البضع أشبه النكاح (والثانية) يصح ويباح وهو قول أكثر
أهل العلم واختيار الخرقي لأنها إمساك للزوجة لقوله تعالى (فأمسكوهن
بمعروف) ولأنها تجوز بلا ولي ولا شهود ولا اذنها فلم تحرم كامساكها بترك
الطلاق، ولأن الصحيح من المذهب إن الرجعية مباحة قبل الرجعة فلا يحصل بها
إحلال ولو قلنا إنها محرمة لم يكن ذلك مانعاً من رجعتها كالتكفير للمظاهر،
وهذه الرواية هي الصحيحة إن شاء الله تعالى ويباح شراء الإماء للتسري
وغيره، ولا نعلم في ذلك خلافاً والله أعلم (فصل) ويكره للمحرم الخطبة،
وخطبة المحرمة، ويكره للمحرم أن يخطب للمحلين لقوله عليه السلام في حديث
عثمان (ولا يخطب) ولأنه تسبب إلى الحرام أشبه الإشارة إلى الصيد والإحرام
الفاسد كالصحيح في منع النكاح وسائر المحظورات لأن حكمه باق في وجوب ما يجب
بالإحرام فكذلك ما يحرم به (فصل) ويكره أن يشهد في النكاح لأنه معونة على
النكاح أشبه الخطبة، وإن شهد أو خطب لم يفسد النكاح، وقال بعض أصحاب
الشافعي لا ينعقد النكاح بشهادة محرمين لأن في بعض الروايات لا يشهد ولنا
أنه لا مدخل للشاهد في العقد فأشبه الخطيب وهذه الزيادة غير معروفة فلا
يثبت بها حكم ومتى تزوج المحرم أو المحرمة أو زوج لم يجب عليه فدية لأنه
فسد لأجل الاحرام فلم يجب به فدية كشراء الصيد ولا فرق بين الإحرام الفاسد
والصحيح فيما ذكرنا لأنه يمنع ما يمنعه في الصحيح كحلق الشعر وتقليم
الأظفار وغير ذلك كذلك التزويج
(3/314)
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (الثامن الجماع
في الفرج قبلاً كان أو دبراً من آدمي أو غيره فمتى فعل ذلك قبل التحلل فسد
نسكه عامداً كان أو ساهياً) يفسد الحج بالوطئ في الجملة بغير خلاف.
قال إبن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد باتيان شئ في حال
الإحرام إلا بالجماع والأصل فيه ماروي عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً
سأله فقال: إني وقعت بامرأتي ونحن محرمان، فقال إفسدت حجك انطلق أنت وأهلك
مع الناس فاقضوا ما يقضون، وحل إذا أحلوا، فإذا كان العام المقبل فاحجج أنت
وامرأتك واهديا هدياً، فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا
رجعتم، وكذلك قال ابن عباس وابن عمر ولم نعرف لهم مخالفاً في عصرهم فكان
إجماعاً رواه الأثرم في سننه وفي حديث ابن عباس " ويتفرقان من حيث يحرمان
حتى يقضيا حجهما " قال إبن المنذر قول ابن عباس أعلى شئ روي فيمن وطئ في
حجه، وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والنخعي
والثوري والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي (فصل) ومتى كان قبل التحلل
الأول فسد الحج سواء كان قبل الوقوف أو بعده في قول الأكثرين، وقال أبو
حنيفة وأصحاب الرأي: إن جامع قبل الوقوف فسد حجه، وإن جامع بعده لم يفسد
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة " ولأنه معنى يأمن به الفوات
فأمن به الإفساد كالتحلل
(3/315)
ولنا قول من سمينا من الصحابة فإن قولهم
مطلق جامع وهو محرم، ولأنه جماع صادف إحراما تاما فأفسده كما قبل الوقوف،
وقوله عليه السلام " الحج عرفة " يعني معظمة، أو أنه ركن متأكد فيه ولا
يلزم من أمن الفوات أمن الفساد بدليل العمرة (فصل) ولا فرق بين الوطئ في
القبل والدبر من آدمي أو بهيمة، وبه قال الشافعي وأبو ثور ويتخرج من وطئ
البهيمة أنه لا يفسد الحج إذا قلنا لا يجب به الحد وهو قول مالك وأبي حنيفة
لأنه لا يوجب الحد أشبه الوطئ دون الفرج.
وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة إن اللواط والوطئ في دبر
(3/316)
المرأة لا يفسد الحج لأنه لا يثبت به
الإحصان أشبه الوطئ دون الفرج ولنا أنه وطئ في فرج يوجب الغسل فافسد الحج
كالوطئ في قبل الآدمية ويفارق الوطئ دون الفرج فإنه ليس من الكبائر في
الأجنبية ولا يوجب مهراً ولا عدة ولا حداً ولا غسلاً وإن أنزل به فهو
كمسئلتنا في رواية (فصل) والعمد والنسيان فيما ذكرنا سواء نص عليه أحمد
فقال: إذا جامع أهله بطل حجه لأنه شئ لا يقدر على رده والشعر إذا حلقه فقد
ذهب لا يقدر على رده والصيد إذا قتله فقد ذهب لا يقدر على رده فهذه الثلاثة
العمد والنسيان فيها سواء، والجاهل بالتحريم والمكره في حكم الناسي لأنه
معذور وممن قال أن عمد الوطئ ونسيانه سواء أبو حنيفة ومالك والشافعي في
القديم وقال في الجديد لا يفسد الحج ولا يجب عليه مع النسيان شئ.
وحكى ابن عقيل في الفصول رواية لا يفسد لقوله عليه السلام " عفي لأمتي عن
الخطأ والنسيان " والجهل في معناه لأنها عبادة تجب بإفسادها الكفارة فافترق
فيها وطئ العامد والساهي كالصوم ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يستفصلوا
السائل عن العمد والنسيان حين سألهم عن حكم الوطئ ولأنه سبب يتعلق به وجوب
القضاء في الحج فاستوى عمده وسهوه كالفوات والصوم ممنوع (فصل) ويجب به بدنة
روى ذلك عن ابن عباس وطاوس ومجاهد ومالك والشافعي
وقال الثوري واسحاق عليه بدنة فان لم يجد فشاة، وقال أصحاب الرأي إن كان
قبل الوقوف فسد حجه وعليه شاة وإن كان بعده فحجه صحيح لأنه قبل الوقوف معنى
يوجب القضاء فلم يجب به بدنة كالفوات ولنا أنه جماع صادف إحراما تاما فوجبت
به البدنة كبعد الوقوف ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم يفرقوا بين ما
قبل الوقوف وبعده.
أما الفوات فهو مفارق للجماع وأما فساد الحج فلا فرق فيه بين حال الإكراه
والمطاوعة لا نعلم فيه خلافا لأنهم لا يوجبون فيه الشاة بخلاف الجماع (فصل)
وحكم المرأة حكم الرجل في فساد الحج لأن الجماع وجد منهما فاستويا فيه وحكم
المكرهة والنائمة حكم المطاوعة ولا فرق فيما بعد يوم النحر وقبله لأنه وطئ
قبل التحلل الأول أشبه قبل يوم النحر (مسألة) (وعليهما المضي في فاسده
والقضاء على الفور من حيث أحرما أولا ونفقة المرأة في القضاء عليها إن
طاعوت وإن أكرهت فعلى الزوج) لا يفسد الحج بغير الجماع فإذا فسد فعليه،
إتمامه وليس له الخروج منه روى ذلك عن عمر وعلي وأبي
(3/317)
هريرة وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال
أبو حنيفة والشافعي، وقال الحسن ومالك يجعل الحجة عمرة ولا يقيم على حجة
فاسدة، وقال داود يخرج بالإفساد من الحج والعمرة لقول النبي صلى الله عليه
وسلم " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " ولنا عموم قوله تعالى "
(وأتموا الحج والعمرة لله) ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم
مخالفاً ولأنه معنى يجب به القضاء فلم يخرج منه كالفوات والخبر لا يلزمنا
لأن المعنى فيه بأمر الله وإنما وجب القضاء لأنه لم يأت به على الوجه الذي
يلزم بالإحرام ونخص مالكاً بأنها حجة لا يمكنه الخروج منها بالإحرام فلا
يخرج منها إلى عمرة كالصحيحة.
إذا ثبت هذا فانه يجب عليه أن يفعل بعد الإفساد كما يفعل قبله من الوقوف
والمبيت بمزدلفة والرمي ويجتنب بعد الفساد ما يجتنبه قبله من الوطئ ثانياً
وقتل الصيد والطيب واللباس ونحوه وعليه الفدية بالجناية على الإحرام الفاسد
كالإحرام الصحيح ويلزمه القضاء من قابل بكل حال لأنه قول ابن عمر وابن عباس
وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم فإن كانت الحجة التي أفسدها واجبة بأصل
الشرع أو بالنذر أو قضاء كانت الحجة من قابل مجزئة
لأن الفاسد إذا انضم إليه القضاء أجزأ عما يجزئ عنه الأول لو لم يفسده وإن
كانت تطوعاً وجب قضاؤها أيضاً لأنه بالدخول في الإحرام صار الإحرام عليه
واجباً فإذا أفسده وجب قضاؤه كالمنذور ويكون القضاء على الفور ولا نعلم فيه
مخالفاً لأن الحج الأصل يجب على الفور فهذا أولى لأنه قد تعين بالدخول فيه
والواجب بأصل الشرع لم يتعين بذلك (فصل) ويحرم بالقضاء من أبعد الموضعين
الميقات أو موضع إحرامه الأول لأنه إن كان الميقات أبعد فلا يجوز تجاوز
الميقات بغير إحرام وإن كان موضع إحرامه أبعد فعليه الإحرام بالقضاء منه نص
عليه أحمد رحمه الله ليكون القضاء على صفة الأداء، ولأنه قول ابن عباس، وبه
يقول سعيد بن المسيب والشافعي وإسحاق وابن المنذر وقال النخعي يحرم من موضع
الجماع لأنه موضع الإفساد ولنا أنها عبادة فكان قضاؤها على حسب أدائها
كالصلاة (فصل) ونفقة المرأة في القضاء عليها إن طاوعت لأنها أفسدت حجتها
متعمدة فكانت نفقة القضاء عليها كالرجل، وإن كانت مكرهة فعلى الزوج لأنه
الذي أفسد حجتها فكانت النفقة عليه كنفقة حجته (مسألة) (ويتفرقان في القضاء
من الموضع الذي أصابها فيه إلى أن يحلا وهو واجب أو مستحب على وجهين) إذا
قضيا يفرقان من موضع الجماع حتى يقضيا حجهما روي هذا عن عمر وابن عباس رضي
(3/318)
الله عنهما فروى سعيد والاثرم بإسنادهما أن
عمر سئل عن رجل وقع بامرأته وهما محرمان فقال: انما حجكما فإذا كان قابل
فحجا وأهديا حتى إذا بلغتما المكان الذي أصبتما فتفرقا حتى تحلا.
وروي عن ابن عباس مثل ذلك، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والنخعي والثوري
والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن أحمد رضي الله عنه أنهما يتفرقان من حيث
يحرمان إلى أن يحلا رواه مالك في الموطأ عن علي رضي الله عنه وروى عن ابن
عباس وهو قول مالك لأن التفريق بينهما خوفاً من معاودة المحظور وهو يوجد في
جميع إحرامها، ووجه الأول أن ما قبل موضع الإفساد كان إحرامهما فيه صحيحاً
فلم يوجب التفريق فيه كالذي لم يفسد وإنما اختص التفريق بموضع الجماع لأنه
ربما يذكره
برؤية مكانه فيدعوه ذلك إلى فعله ومعنى التفريق أن لا يركب معها في محمل
ولا ينزل معها في فسطاط ونحوه قال أحمد: يفترقان في النزول وفي المحمل
والبساط ولكن يكون بقربهما، وهل يجب التفريق أو يستحب؟ فيه وجهان (أحدهما)
لا يجب وهو قول أبي حنيفة لأنه لا يجب التفريق في قضاء رمضان إذا أفسده
كذلك الحج (والثاني) يجب لأنه قول من سمينا من الصحابة وقد أمروا به ولأن
الاجتماع في ذلك الموضع يذكر الجماع فيكون من دواعيه والأول أولى لأن حكمه
التفريق للصيانة عما يتوهم من معاودة الوقاع عند تذكره برؤية مكانه وهذا
وهم بعيد لا يقتضي الإيجاب والعمرة فيما ذكرناه كالحج لأنها أحد النسكين
فأشبه الآخر فإن كان المعتر مكياً قد أحرم بها من الحل أحرم للقضاء من
الحل، وإن كان أحرم بها من الحرم أحرم للقضاء من الحل لأنه ميقاتها ولا فرق
بين المكي ومن حصل بها من المجاورين، وإن أفسد المتمتع عمرته ومضى في
فسادها فأتمها فقال أحمد: يخرج من الميقات فيحرم منه للحج فإن خشي الفوات
أحرم من مكة وعليه دم فإذا فرغ من حجه خرج إلى الميقات فأحرم منه بعمرة
مكان التي أفسدها وعليه هدي يذبحه إذا قدم مكة لما أفسد من عمرته، ولو أفسد
المفرد حجته وأتم فله الإحرام بالعمرة من أدنى الحل كالمكيين (فصل) وإذا
أفسد القارن نسكه فعليه فداء واحد وبه قال عطاء وابن جريج ومالك والشافعي
واسحاق وأبو ثور، وقال الحكم عليه هديان ويتخرج لنا أن يلزمه بدنة للحج
وشاة للعمرة إذا قلنا يلزمه طوافان وسعيان وقال أصحاب الرأي إن وطئ قبل
الوقوف فسد نسكه وعليه شاتان للحج والعمرة ولنا أن الصحابة الذين سئلوا عمن
أفسد نسكه لم يأمروه إلا بفداء واحد ولم يفرقوا ولأنه أحد الانساك الثلاثة
فلم يجب في افساده أكثر من فدية واحدة كالآخرين وسائر محظورات الإحرام
واللبس والطيب وغيرهما لا يجب في كل واحد منهما أكثر من فدية واحدة كما لو
كان مفرداً
(3/319)
(فصل) وحكم العمرة حكم الحج في فسادها
بالوطئ قبل الفراغ من السعي ووجوب المضي في فاسدها ووجوب القضاء قياساً على
الحج إلا أنه لا يجب بإفسادها إلا شاة، وقال الشافعي عليه القضاء وبدنة
كالحج،
وقال أبو حنيفة إن وطئ قبل أن يطوف أربعة أشواط كقولنا وإن وطئ بعد ذلك لم
تفسد عمرته وعليه شاة ولنا على الشافعي أنها عبادة لا وقوف فيها فلم تجب
فيها بدنة كما لو قرنها بالحج ولأن العمرة دون الحج فيجب ان يكون حكمها دون
حكمه ولنا على أبي حنيفة أن الجماع من محظورات الإحرام فاستوى فيه ما قبل
الطواف وبعده كسائر المحظورات ولانه وطئ صادف إحراما تاما فأفسده كما قبل
الطواف (فصل) إذا أفسد القارن والمتمع نسكهما لم يسقط الدم عنهما، وبه قال
مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يسقط، وعن أحمد رحمه الله مثله لأنه لم يحصل
الترفه بسقوط أحد السفرين.
وقال القاضي في القارن إذا قلنا إن عليه للإفساد دمين فسد دم القران ولنا
أن ما وجب في النسك الصحيح وجب في الفاسد كالأفعال ولأنه دم وجب عليه فلم
يسقط بالإفساد كالدم الواجب لترك الميقات فإن أفسد القارن نسكه ثم قضى
مفرداً لم يلزمه في القضاء دم، وقال الشافعي يلزمه لأنه يجب في القضاء ما
يجب في الأداء ولنا أن الأفراد أفضل من القران مع الدم فإذا أتى به فقد أتى
بما هو أولى فلم يلزمه شئ كمن لزمته الصلاة بتيمم فقضاه بوضوء (مسألة) (وإن
جامع بعد التحلل الأول لم يفسد نسكه ويمضي إلى التنعيم فيحرم ليطوف وهو
محرم وهل يلزمه بدنة أو شاة على روايتين) وفي هذه المسألة ثلاثة فصول
(أحدها) أن الوطئ بعد التحلل الأول لا يفسد الحج وهو قول ابن عباس وعكرمة
وعطاء والشعبي وربيعة ومالك والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي، وقال النخعي
والزهري وحماد عليه حج من قابل لان الوطئ صادف إحراما تاما بالحج فافسده
كالوطئ قبل الرمي ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من شهد صلاتنا هذه
ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى
تفثه " ولأن ابن عباس قال في رجل أصاب أهله قبل أن يفيض يوم النحر: ينحران
جزوراً بينهما وليس عليه الحج من قابل ولا نعرف له في الصحابة مخالفاً،
ولأنها عبادة لها تحللان
فوجود المفسد بعد تحللها الأول لا يفسدها كما بعد التسليمة الأولى في
الصلاة وبهذا فارق ما قبل التحلل الأول (الفصل الثاني) إن يفسد الاحرام
بالوطئ بعد جمرة العقبة فليزمه أن يحرم من الحل وبذلك قال
(3/320)
عكرمه وربيعة واسحاق.
وقال ابن عباس والشعبي والشافعي حجه صحيح ولا يلزمه إحرام لأنه إحرام لم
يفسد جميعه فلم يفسد بعضه كما بعد التحلل الثاني ولنا انه وطئ صادف إحراماً
فأفسده كالإحرام التام، وإذا فسد إحرامه فعليه أن يحرم ليأتي بالطواف في
إحرام صحيح لأن الطواف ركن فيجب أن يأتي به في إحرام صحيح كالوقوف.
ويلزمه الإحرام من الحل لأن الإحرام ينبغي أن يجمع فيه بين الحل والحرم فلو
أبحنا له الإحرام من الحرم لم يجمع بينهما لأن أفعاله كلها تقع في الحرم
أشبه المعتمر.
وإذا أحرم طاف للزيارة وسعى إن لم يكن سعى وتحلل لأن الذي بقي عليه يقية
أفعال الحج وإنما وجب عليه الإحرام ليأتي بها في إحرام صحيح هذا ظاهر كلام
الخرقي.
والمنصوص عن أحمد رحمه الله ومن وافقه من الأئمة أنه يعتمر فيحتمل أنهم
أرادوا هذا أيضاً وسموه عمرة لأن هذه أفعال العمرة.
ويحتمل أنهم أرادوا عمرة حقيقة فلزمه سعي وتقصير، والأول أصح، وقوله يحرم
من التنعيم لم يذكره لوجوب الإحرام منه بل لأنه حل فمن أتى الحل وأحرم جاز
كالمعتمر (فصل) ومتى وطئ بعد رمي الجمرة لم يفسد حجة حلق أو لم يحلق، هذا
ظاهر كلام أحمد والخرقي ومن سمينا من الأئمة لترتيبهم هذا الحكم على الوطئ
بعد مجرد الرمي من غير إعتبار أمر زائد (فصل) فإن طاف للزيارة ولم يرم ثم
وطئ لم يفسد حجة بحال لأن الحج قد تمت أركانه كلها ولا يلزمه إحرام من الحل
فإن الرمي ليس بركن ولا يلزمه دم لما ذكرنا ويحتمل أن يلزمه لأنه وطئ قبل
وجود ما يتم به التحلل أشبه من وطئ بعد الرمي قبل الطواف (فصل) والقارن
كالمفرد في أنه إذا وطئ بعد الرمي لم يفسد حجة ولا عمرته لأن الحكم للحج
ألا ترى أنه لا يحل من عمرته قبل الطواف ويفعل ذلك إذا كان قارنا ولأن
الترتيب للحج دونها والحج لا يفسد قبل الطواف كذلك العمرة وقال أحمد فيمن
وطئ بعد الطواف يوم النحر قبل أن يركع: ما عليه شئ.
قال أبو طالب: سألت أحمد عن الرجل يقبل بعد رمي جمرة العقبة قبل أن يزور
البيت قال ليس عليه شئ قد قضى المناسك.
فعلى هذا ليس في غير الوطئ في الفرج شئ
(الفصل الثالث فيما يجب عليه فدية للوطئ وهو شاة) نص عليه أحمد وهو ظاهر
كلام الخرقي، وهو قول عكرمة وربيعة ومالك واسحاق وفيه رواية أخرى أن عليه
بدنة وهو قول ابن عباس وعطاء والشعبي والشافعي وأصحاب الرأي لأنه وطئ في
الحج فوجبت به بدنة كما قبل رمي جمرة العقبة.
ووجه الأولى أنه وطئ لم يفسد الحج فلم يوجب بدنة كالوطئ دون الفرج إذا لم
ينزل ولأن حكم الإحرام
(3/321)
خف بالتحلل الأول فينبغي أن ينقص موجبه عن
الإحرام التام (فصل) وإذا أفسد القضاء لم يجب عليه قضاؤه وإنما يقضي عن
الحج الأول كما لو أفسد قضاء الصلاة والصيام وجب القضاء للأصل دون القضاء
كذا ههنا.
وذلك لأن الواجب لا يزداد بفواته وإنما يبقى ما كان واجباً في الذمة على
ماكان عليه فيعود به القضاء (فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (التاسع)
(المباشرة في ما دون الفرج لشهوة فإن فعل فأنزل فعليه بدنة وهل يفسد نسكه؟
على روايتين وإن لم ينزل لم يفسد) إذا وطئ فميا دون الفرج أو قبل أو لمس
بشهوة فأنزل فعليه بدنة، وبذلك قال الحسن وسعيد ابن جبير وأبو ثور، وقال
الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر عليه شاة لأنه مباشرة دون الفرج أشبه
مالو لم ينزل.
ولنا أنها مباشرة أوجبت الغسل فاوجبت بدنة كالوطئ في الفرج (فصل) وفي فساد
النسك به روايتان (إحداهما) يفسد اختارها أبو بكر والخرقي فيما إذا وطئ دون
الفرج فأنزل وهو قول الحسن وعطاء والقاسم بن محمد ومالك واسحاق لأنها عبادة
يفسدها الوطئ فأفسدها الإنزال عن مباشرة كالصيام (والثانية) لا يفسد وهو
قول الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأنه
استمتاع لا يجب بنوعه الحد فلم يفسد الحج
(3/322)
كما لو لم ينزل ولأنه لا نص فيه ولا إجماع
ولا يصح قياسه على المنصوص عليه لأن الوطئ في الفرج يجب بنوعه الحد ولا
يفترق الحال فيه بين الإنزال وعدمه بخلاف المباشرة، والصيام بخلاف الحج في
المفسدات ولذلك يفسد إذا أنزل بتكرار النظر وسائر محظوراته والحج لا يفسد
بشئ من محظوراته غير الجماع فافترقا والمرأة كالرجل في هذا إذا كانت ذات
شهوة وإلا فلا شئ عليها كالرجل إذا لم يكن له شهوة وإن لم ينزل لم يفسد حجة
بذلك لا نعلم فيه خلافا لأنها مباشرة دون الفرج عريت عن الإنزال فلم يفسد
بها الحج قياساً عليه، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لرجل
قبل زوجته أفسدت حجك، وروي ذلك عن سعيد بن جبير وهو محمول على ما إذا أنزل
(فصل) فإن كرر النظر فانزل أو لم ينزل لم يفسد حجة روى ذلك عن ابن عباس،
وهو قول أبي حنيفة والشافعي وروي عن الحسن وعطاء ومالك فيمن ردد النظر حتى
أمنى عليه حج قابل لأنه أنزل بفعل محظور أشبه الإنزال بالمباشرة ولنا أنه
إنزال من غر مباشرة أشبه الإنزال بالفكر والإحتلام والأصل الذي قاموا عليه
ممنوع ثم إن المباشرة أبلغ في اللذة وآكد في استدعاء الشهوة فلا يصح القياس
عليها، وإن لم ينزل لم يفسد حجة لا نعلم أحدا قال بخلاف ذلك لأنه لا يمكن
التحرز منه أشبه الفكر والله أعلم (فصل) قال رضي الله عنه (والمرأة إحرامها
في وجهها ويحرم عليها ما يحرم على الرجل إلا في اللباس وتظليل المحمل) يحرم
على المرأة تغطية وجهها في إحرامها لا نعلم في هذا خلافاً إلا ماروي عن
أسماء رضي الله عنها أنها كانت تغطي وجهها فيحتمل أنها كانت تغطيه بالسدل
عند الحاجة ولا يكون اختلافاً قال إبن المنذر كراهية البرقع ثابتة عن سعد
وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم ولا نعلم احدا خالف فيه والأصل
فيه ماروى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ولا تنتقب
المرأة ولا تلبس القفازين " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "
إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها " (فصل) فإن احتاجت الى ستر
وجهها لمرور الرجال قريباً منها فانها تسدل القثوب فوق رأسها على وجهها روى
ذلك عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما، وبه قال عطاء ومالك والثوري والشافعي
(3/323)
واسحاق ومحمد بن الحسن ولا نعلم فيه خلافا
لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على
وجهها فإذا جاوزونا كشفناه.
رواه أبو داود والاثرم ولأن بالمرأة حاجة الى ستر وجهها فلم يحرم عليها
ستره على الإطلاق كالعورة.
وذكر القاضي أن الثوب يكون متجافياً عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة فإن
أصابها ثم زال أو أزالته بسرعة فلا شئ عليها كما لو أطارت الربح الثوب عن
عورة المصلي ثم عاد بسرعة لا تبطل الصلاد، وإن لم ترفعه مع القدرة فدت
لأنها استدامت الستر قال شيخنا ولم أر هذا الشرط عن أحمد ولا هو في الخبر
مع أن الظاهر خلافه فإن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من اصابة البشرة فلو
كان هذا شرطاً لبين، وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوه مما يعد
لستر الوجه قال أحمد إنما لها أن تسدل على وجهها من فوق وليس لها أن ترفع
الثوب من أسفل كأنه يقول إن النقاب من أسفل على وجهها (فصل) ويجتمع في حق
المحرمة وجوب تغطية الرأس وتحريم تغطيه الوجه ولا يمكن تغطيه جميع الرأس
إلا بجزء من الوجه ولا كشف جميع الوجه لا بكشف جزء من الرأس فعند ذلك ستر
الرأس كله أولى لأنه آكد إذ هو عورة ولا يختص بحالة الإحرام وكشف الوجه
بخلافه وقد أبحنا ستر جملته للحاجة العارضة فستر جزء منه لستر العورة أولى
(فصل) ولا بأس للمرأة أن تطوف منتقبة إن لم تكن محرمة فعلته عائشة رضي الله
عنها وكره ذلك عطاء ثم رجع عنه وذكر أبو عبد الله حديث ابن جريج أن عطاء
كان يكره لغير المحرمة أن تطوف منتقبة حتى حدثته عن الحسن بن مسلم عن صفية
بنت شيبة أن عائشة طافت وهي منقبة فأخذ به (فصل) ويحرم عليها ما يحرم على
الرجل من قطع الشعر وتقليم الأظفار والطيب وقتل الصيد وسائر المحظورات إلا
لبس المخيط وتظليل المحمل قال إبن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل
العلم على أن المرأة ممنوعة مما منع منه الرجال إلا بعض اللباس، وأجمع أهل
العلم على أن للمحرمة لبس القمص والدروع والسراويلات والخمر والخفات وإنما
كان كذلك لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم المحرم بأمر وحكمه عليه يدخل
فيه الرجال والنساء إنما استثنى منه اللباس للحاجة إلى ستر المرأة لكونها
عورة إلا وجهها فتجردها
يفضي إلى انكشافها فأبيح لها اللباس للستر كما أبيح للرجل عقد الإزار كيلا
يسقط فتنكشف عورته ولم يبح عقد الرداء، وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى النساء في
(3/324)
إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الورس
والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر أو
خز أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف وهذا صريح والمراد باللباس ههنا المخيط
من القمص والدروع والسراويلات والخفاف وما يستر الرأس ونحوه (فصل) ويستحب
للمرأة عند الإحرام ما يستحب للرجل من الغسل والطيب قالت عائشة رضي الله
عنها كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنضمد جباهنا بالمسك والطيب
عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي صلى الله عليه
وسلم فلا ينكر عليها والشابة والكبيرة سواء في هذا فإن عائشة كانت شابة فان
قيل أليس قد كره ذلك في الجمة قلنا لأنها في الجمة تقرب من الرجال فيخاف
الافتتان بها بخلاف مسألتنا ولهذا يلزم الحج النساء ولا يلزمهن الجمعة،
وكذلك يستحب لها قلة الكلام إلا فيما ينفع والاشتغال بالتلبية وذكر الله
تعالى (مسألة) (ولا تلبس القفازين ولا الخلخال ولا تكتحل بالاثمد) القفازان
شئ يعمل لليدين يدخلهما فيهما من خرق يسترهما من الحر مثل ما يعمل للبزاة
يحرم على المرأة لبسه في حال إحرامها، وهذا قول ابن عمر وبه قال عطاء وطاوس
ومجاهد والنخعي ومالك واسحاق وكان سعد بن أبي وقاص يلبس بناته القفازين وهن
محرمات ورخص فيه علي وعائشة وعطاء، وبه قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي
كالمذهبين واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إحرام
المرأة في وجهها " ولأنه عضو يجوز ستره بغير المخيط فجاز ستره به كالرجلين
ولنا ماروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا
تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين " رواه البخاري وحديثهم المراد به الكشف
فأما الستر بغير المخيط فيجوز للرجل ولا يجوز بالمخيط (فصل) فأما الخلخال
وما أشبهه من الحلي كالسوار فظاهر كلام شيخنا ههنا أنه لا يجوز لبسه وهو
ظاهر كلام الخرقي وقد قال أحمد المحرمة والمتوفى عنها زوجها يتركان الطيب
والزينة ولهما ما سوى
ذلك، وروي عن عطاء أنه كان يكره للمحرمة الحرير والحلي وكرهه الثوري وروي
عن قتادة أنه كان لا يرى بأساً أن تلبس المرأة الخاتم والقرط وهي محرمة
وكره السوارين والخلخالين والدملحين وظاهر المذهب الرخصة فيه وهو قول ابن
عمر وعائشة وأصحاب الراي وهو الصحيح.
قال أحمد في رواية حنبل تلبس المحرمة الحلي والمعصفر وقال عن نافع كان نساء
ابن عمر وبناته يلبسن الحلي والمعصفر وهن محرمات لا ينكر عبد الله ذلك، وقد
ذكرنا حديث ابن عمر وفيه ولتلبس بعد ذلك ما أحبت
(3/325)
من ألوان الثياب من معصفر أوخز أو حلي قال
إبن المنذر لا يجوز المنع منه بغير حجة ويحمل كلام أحمد في المنع على
الكراهة لما فيه من الزينة وشبهه بالكحل بالأثمد ولا فدية فيه كما لا فدية
في الكحل فاما ليس القفازين ففيه الفدية لأنها لبست ما نهيت عن لبسه في
الإحرام فلزمتها الفدية بالنقاب، وقال القاضي يحرم عليها شد يديها بخرقة
لأنه ستر ليديها بما يختص بها أشبه القفازين، وكما لو شد الرجل على جسده
شيئاً وإن لفت يديها من غير شد فلا فدية لأن المحرم هو اللبس لا تغطيتهما
كبدن الرجل (فصل) والكحل بالأثمد في الإحرام مكروه للمرأة والرجل، وإنما
خصت المرأة بالذكر لانها محل الزينة والكراهة في حقها أكثر من الرجل يروى
هذا عن عطاء والحسن ومجاهد، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: يكتحل
المحرم بكل كحل ليس فيه طيب ورخص فيه مالك في الحر يجده المحرم، وروى عن
أحمد أنه قال: يكتحل المحرم بما لم يرد به الزينة، قيل له الرجال والنساء؟
قال نعم ووجه كراهته ماروي عن جابر أن علياً رضي الله عنه قدم من اليمن
فوجد فاطمة ممن حل فلبست ثياباً صبيغاً واكتحلت فأنكر ذلك عليها فقالت: أبي
أمرني بهذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم " صدقت صدقت " رواه مسلم وغيره،
وهذا يدل على أنها كانت ممنوعة من ذلك، وروي عن عائشة أنها قالت لامرأة
اكتحلي بأي كحل شئت غير الأثمد أو الأسود، إذا ثبت هذا فإن الكحل بالأثمد
مكروه ولا فدية فيه لا نعم فيه خلافاً، وروت شميسة عن عائشة قالت: اشتكيت
عيني وأنا محرمة فسألت عائشة فقالت اكتحلي بأي كحل شئت غير الأثمد، أما إنه
ليس بحرام ولكنه زينة فيجب تركه، قال الشافعي إن فعلا فلا أعلم عليهما فيه
فدية بشئ
(فصل) فأما الكحل بغير الأثمد والأسود فلا كراهة فيه إذا لم يكن مطيباً لما
ذكرنا من حديث عائشة وقول ابن عمر، وقد روى مسلم عن نبيه بن وهب قال: خرجنا
مع أبان بن عثمان حتى إذا كنا بملل اشتكى عمر بن عبيد الله عينيه فأرسل إلى
أبان بن عثمان ليسأله فقال اضمدهما بالصبر فإن عثمان حدث عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم في الرجل إذا اشتكلى عينيه وهو محرم يضمدهما بالصبر ففيه
دليل على إباحة ما أشبهه مما ليس فيه زينة ولا طيب وكان إبراهيم لا يرى
بالذرور الأحمر بأساً (فصل) وإذا أحرم الخنثى المشكل لم يلزمه اجتناب
المخيط لانا لا نتيقن كونه رجلاً، وقال ابن المبارك يغطي رأسه ويكفر (قال
شيحنا) والصحيح أنه لا شئ عليه لأن الأصل عدم الوجوب فلا يجب بالشك، فإن
غطى وجهه وجسده لم يلزمه فدية لذلك، وإن جمع بين تغطية وجهه بنقاب أو برقع
(3/326)
وغطى رأسه أو لبس المخيط لزمته الفدية لأنه
لا يخلو أن يكون رجلاً أو امرأة والله أعلم (مسألة) (ويجوز لبس المعصفر
والكحلي والخضاب بالحناء والنظر في المرآة لهما جميعاً) لا بأس بما صبغ
بالعصفر لأنه ليس بطيب ولا بأس باستعماله وشمه هذا قول جابر وابن عمر وعبد
الله بن جعفر وعقيل بن أبي طالب رضي الله عنهم وهو مذهب الشافعي، وكرهه
مالك اذا كان ينتفض في جسده ولم يوجب فيه فدية ومنع منه الثوري وأبو حنيفة
ومحمد وشبهوه بالمورس والمزعفر لأنه صبغ طيب الرائحة ولنا أن في حديث ابن
عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المحرمة "
وللبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر، أو خز، أو حلي " رواه أبو
داود، وعن عائشة وأسماء وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنهن كن يحرمن في
المعصفرات، ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفاً، ولأنه ليس
بطيب فلم يكره المصبوغ به كالسواد، وأما الورس والزعفران فإنه طيب ولا بأس
بالممشق وهو المصبوغ بالمغرة لأنه مصبوغ بطين وكذلك سائر الأصباغ سوى ما
ذكرنا لأن الأصل الإباحة إلا ما ورد الشرع بتحريمه أو ماكان في معناه، وليس
هذا كذلك فأما المصبوغ بالرياحين فهو مبني على الرياحين في نفسها فما منع
المحرم من استعماله منع لبس المصبوغ به إذا ظهرت رائحته وإلا فلا
إلا أنه يكره للرجل لبس المعصفر في غير الإحرام فكذلك فيه وقد ذكرنا ذلك في
الصلاة (فصل) ويستحب للمرأة أن تختضب بالحناء عند الإحرام لما روي عن ابن
عمر أنه قال: من السنة أن تدلك المرأة يديها في حناء، ولأنه من الزينة
فاستحب عند الإحرام كالطيب ولا بأس بالخضاب في حال إحرامها، وقال القاضي
يكره لكونه من الزينة فأشبه الكحل بالأثمد، فإن فعلت ولم تشد يديها بالخرق
فلا فدية عليها، وبه قال الشافعي وابن المنذر.
وكان مالك ومحمد بن الحسن يكرهان الخضاب للمحرمة وألزماها الفدية ولنا ما
روى عكرمة أنه قال: كانت عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يختضبن
بالحناء وهن حرم ولا بأس بذلك للرجل فيما لا تشبه فيه بالنساء لأن الأصل
الإباحة، وليس ههنا دليل يمنع من نص ولا إجماع ولاهو في معنى المنصوص (فصل)
ولا بأس بالنظر في المرآة للحاجة كمداواة جرح أو إزالة شعره نبتت في عينه
ونحو ذلك مما أباح الشرع له فعله، وقد روي عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز
أنهما كانا ينظران في
(3/327)
المرآة وهما محرمان ويكره أن ينظر فيها
لإزالة شعث أو تسوية شعر أو شئ من الزينة ذكره الخرقي قال أحمد رحمه الله:
لا بأس أن ينظر في المرآة ولا يصلح شعراً، ولا ينفض عنه غباراً، وقال أيضاً
إذا كان يريد زينة فلا، قيل فكيف يريد زينة؟ قال يرى شعرة فيسويها، روي نحو
ذلك عن عطاء لأنه قد روي في حديث " إن المحرم الاشعث الاغبر " وفي الآخر "
إن الله يباهي بأهل عرفة ملائكته فيقول يا ملائكتي انظروا إلى عبادي قد
أتوني شعثاً غبراً ضاحين " أو كما جاء ولا فدية بالنظر في المرآة بحال
وإنما ذلك أدب لا شئ على فاعله لا نعلم أحدا أوجب في ذلك شيئاً (فصل)
وللمحرم أن يحتجم ولا فدية عليه إذا لم يقطع شعراً في قول الجمهور لأنه
تداو بإخراج دم أشبه الفصد وبط الجرح، وقال مالك لا يحتجم إلا من ضرورة
وكان الحسن يرى في الحجامة دماً ولنا أن ابن عباس روي أن النبي صلى الله
عليه وسلم احتجم وهو محرم: متفق عليه ولم يذكر فدية، ولأنه لا يترفه بذلك
أشبه شرب الأدوية، وكذلك الحكم في قطع العضو عند الحاجة والختان كل ذلك
مباح من غير فدية، فإن احتاج في الحجامة إلى قطع شعر فله قطعه لما روى عبيد
الله بحينه أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم بلحي جمل في طريق مكة وهو
محرم وسط رأسه.
متفق عليه، ومن ضرورة ذلك قطع الشعر، لانه يباح حلق الشعر لإزالة أذى القمل
فكذلك هذا وعليه الفديه، وبه قال مالك والشافعي وابو حنيفة وابو ثور وابن
المنذر، وقال أبو يوسف ومحمد يتصدق بشئ ولنا قوله تعالى (فمن كان منكم
مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة) الآية ولأنه حلق شعرا
لإزالة ضرر غيره فلزمته الفدية كما لو حلقه لإزالة قمله (فصل) ويجتنب
المحرم مانهاه الله تعالى عنه بقوله (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج
فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) وهذا صيغته صيغة النفي والمراد به
النهي كقوله تعالى (لاتضار والدة بولدها) والرفث الجماع روى ذلك عن ابن
عباس وابن عمر، وروي عن ابن عباس أنه قال الرفث غشيان النساء والتقبيل
والغمز وأن يعرض لها بالفحش من الكلام، وقال أو عبيدة الرفت لغا الكلام
وأنشد قول العجاج: * عن اللغا ورفث التكلم * وقيل الرفث هو ما يكنى عنه من
ذكر الجماع، وروي عن ابن عباس أنه أنشد بيتاً فيه التصريح بما يكنى عنه من
الجماع وهو محرم فقيل له في ذلك فقال إنما الرفث ماروجع به النساء، وفي لفظ
ما قيل من ذلك عند النساء، وفي الجملة كل ما فسر به الرفث ينبغي للمحرم أن
يجتنبه إلا أنه في الجماع
(3/328)
أظهر لما ذكرنا من تفسير الأئمة ولأنه قد
جاء في موضع آخر وأريد به الجماع وهو قوله (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى
نسائكم) (1) أما الفسوق فهو السباب لقول الني صلى الله عليه وسلم " سباب
المسلم فسوق " متفق عليه (2) وقيل الفسوق المعاصي روى ذلك عن ابن عباس وإن
عمر وعطاء وابراهيم وقالوا أيضاً الجدال المراء قال ابن عباس رضي الله عنه
هو أن تماري صاحبك حتى تغضبه والمحرم ممنوع من ذلك كله قال النبي صلى الله
عليه وسلم " من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " متفق
عليه وقال مجاهد في قوله (ولا جدال في الحج) أي لا مجادلة وقول الجمهور
أولى.
(فصل) ويستحب له قلة الكلام إلا فيما ينفع صيانة لنفسه عن اللغو والوقوع في
الكذب ومالا يحل فإن من كثر كلامه كثر سقطه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فليقل خيراً أو ليصمت متفق عليه وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه " قال أبو داود أصول السنن أربعة
أحاديث هذا أحدها وهذا في حال الإحرام أشد استحباباً لأنه حال عبادة
واستشعار بطاعة فهو يشبه الاعتكاف، وقد احتج أحمد رحمه الله على ذلك بأن
شريحاً رحمه الله كان إذا أحرم كأنه حية صماء فيستحب للمحرم أن يشتغل
بالتلبية وذكر الله تعالى وقراءة القرآن وأمر بمعروف أو نهي عن منكر أو
تعليم جاهل أو يأمر بحاجته أو يسكت فإن تكلم بما لا إثم فيه أو أنشد شعراً
لا يقبح فهو مباح ولا يكثر فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان على ناقة
وهو محرم فجعل يقول: كان راكبها غصن بمروحة * إذا تدلت به أو شارب ثمل الله
اكبر الله أكبر.
وهذا يدل على الإباحة، والفضيلة ما ذكرناه أولاً والله أعلم (فصل) ويجوز
للمحرم أن يتجر ويصنع الصنائع بغير خلاف علمناه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية
فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا
من ربكم) يعني في مواسم الحج
(3/329)
|