الشرح
الكبير على متن المقنع (باب ذكر دخول مكة) يستحب الاغتسال لدخول
مكة لأن عبد الله بن عمر كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت
بذى طوى ثم يصلي به الصبح ويغتسل ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يفعل ذلك رواه
(3/379)
البخاري ولأن مكة مجمع أهل النسك فإذا
قصدها استحب له الاغتسال كالخارج إلى الجمعة والمرأة
كالرجل وإن كانت حائضاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد حاضت "
افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت " ولأن الغسل يراد للتنظيف وهو
يحصل مع الحيض وهذا مذهب الشافعي وفعله عروة والأسود بن يزيد وعمرو بن
ميمون والحرث بن سويد (مسألة) (ويستحب أن يدخل مكة من أعلاها من ثنية كداء
ثم يدخل المسجد من باب بني شيبة لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه
وسلم دخل مكة من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من السفلى (1) وروت
عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء مكة دخل من أعلاها وخرج من
أسفلها متفق عليهما ولا بأس بدخولها ليلاً ونهاراً لأن النبي صلى الله عليه
وسلم دخل مكة ليلاً ونهاراً رواهما النسائي (فصل) ويستحب أن يدخل المسجد من
باب بني شيبة لما روى جابر في حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة
ارتفاع الضحى وأناخ راحلته عند باب بني شيبة ودخل المسجد رواه مسلم وغيره
(مسألة) فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام
حينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تعظيماً وتشريفا وتكريما ومهاية
وبرا، وزد من عظمه وشرفه ممن حجه واعتمره تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة
وبرا، الحمد الله رب العالمين كثيراً كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز
جلاله وعظيم شأنه، الحمد الله الذي بلغني بيته ورآني لذلك أهلاً، والحمد
الله على كل حال، اللهم
(3/380)
إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام وقد جئتك لذلك
اللهم تقبل مني واعف عني وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت يرفع بذلك صوته)
يستحب رفع اليدين عند رؤية البيت يروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس رضي الله
عنهما، وبه قال الثوري وابن المبارك والشافعي واسحاق وكان مالك لا يرى رفع
اليدين كما روي عن المهاجر المكي قال سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى
البيت أيرفع يديه؟ فقال ما كنت أظن أحداً يفعل هذا إلا اليهود حججنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نكن نفعله رواه النسائي ولنا ما روى ابن
المنذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا ترفع الأيدي إلا في سبعة
مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت وعلى الصفا والمروة وعلى الموقفين
والجمرتين " وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم وذلك
قول جابر وخبره عن ظنه وفعله وقد خالفه ابن عمر وابن عباس ولأن الدعاء
مستحب عند رؤية البيت وقد أمر برفع اليدين عند الدعاء (فصل) ويستحب أن يدعو
عند رؤية البيت بالدعاء الذي ذكرناه لما روى ابن جريج أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال " اللهم زد هذا البيت
تشريفاً وتكريماً وتعظيماً ومهابة وبرا
(3/381)
وزد من شرفه ممن حجه واعتمره تشريفاً
وتكريماً وتعظيماً وبراً " وعن سعيد بن المسيب أنه كان حين ينظر إلى البيت
يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام رواهما الشافعي
بإسناده وباقي الدعاء ذكره الأثرم وابراهيم الحربي قال بعض أصحابنا ويرفع
بذلك صوته وما زاد في الدعاء فحسن (فصل) إذا دخل المسجد فذكر صلاة مفروضة
أو فائته أو أقيمت الصلاة المكتوبة قدمهما على الطواف لأن ذلك فرض والطواف
تحية ولأنه لو أقيمت الصلاة وهو في طوافه قطعه لأجلها فلأن يبدأ بها أولى
وإن خاف فوات ركعتي الفجر أو الوتر أو حضرت جنازة قدمها لأنها تفوت بخلاف
الطواف (مسألة) ثم يبتدئ بطواف العمرة إن كان معتمراً وبطواف القدوم إن كان
مفرداً أو قارناً) يستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ بالطواف بالبيت اقتداء
برسول الله صلى الله عليه وسلم فإن جابرا قال في حديثه حتى أتينا البيت معه
استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى
الله عليه وسلم حين قدم مكة توضأ ثم طاف بالبيت متفق عليه وروى ذلك عن أبي
بكر وعمر وعثمان وعبد الله ابن عمر وغيرهم ولأن الطواف تحية المسجد الحرام
فاستحب البداية به كما استحب لداخل غيره من المساجد البداية بتحية المسجد
بصلاة ركعتين فإن كان معتمراً به أبطواف العمرة ولم يحتج إلا أن يطوف لها
طواف قدوم لأن المقصود به تحية المسجد ومن دخل المسجد وقد قامت الصلاة
اشتغل بها وأجزأت عن تحية المسجد كذلك ههنا وإن كان مفرداً أو قارناً بدأ
بطواف القدوم وهي سنة بغير خلاف (مسلئة) (ويضطبع بردائه فيجعل وسطه تحت
عاتقه الا يمن وطرفيه على عاتقه الايسر) صفة الاضطباع ما ذكره ههنا وهو
مأخوذ من الضبع وهو عضد الإنسان افتعال منه وكان أصله اضتبع فقلبوا التاء
طاء لأن التاء متى وقعت بعد صاد أو ضاد أو طاء ساكنة فلبت طاء وهو مستحب في
طواف القدوم وطواف العمرة للمتمتع ومن في معناه لما روى أبو داود وابن ماجة
عن يعلى بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعاً ورويا عن ابن
عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من
الجعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها على عواتقهم
اليسرى، وبه قال الشافعي وكثير من أهل العلم وقال مالك ليس الاضطباع بسنة
وقال لم أسمع أحداً من بلدنا يذكر أن الاضطباع سنة وقد ثبت بما روينا أن
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلوه وقد أمر الله تعالى باتباعه وقد
روى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه اضطبع ورمل وقال ففيم الرمل،
ولم نبدي مناكبنا وقد نفى الله المشركين؟ بل لن ندع شيئاً فعلناه على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود (فصل) فإذا فرغ من الطواف سوى
ردائه لأن الاضطباع غير مستحب في الصلاة وقال الاثرم
(3/382)
يزيل الاضطباع إذا فرغ من الرمل والأول
أولى لأن قوله طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعاً ينصرف إلى جميعه ولا
يضطبع في السعي وقال الشافعي يضطبع فانه أحد الطوافين فأشبه الطواف بالبيت
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضطبع فيه والسنة في الاقتداء به قال
أحمد رحمه الله ما سمعنا فيه شيئاً ولا يصح القياس إلا فيما عقل معناه وهذا
تعبد محض (مسألة) (ثم يبتدئ من الحجر الأسود فيحاذيه بجميع بدنه ثم يستلمه
ويقبله وإن شاء استلمه وقبل يده وإن شاء أشار إليه ثم يقول الله أكبر
إيمانا بك وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله
عليه وسلم كلما استلمه يبتدئ الطواف من الحجر الأسود فيحاذيه بجميع بدنه
فان حاذاء ببعضه احتمل أن يجزئه لأنه حكم يتعلق بالبدن فأجزأ فيه بعضه
كالحد ويحتمل أن لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل الحجر
واستلمه وظاهر هذا أنه استقبله بجميع بدنة ولأن ما لزمه استقباله لزمه
لجميع بدنة كالقبلة فإذا قلنا بوجوب فذلك فلم يفعله أو بدأ بالطاف من دون
الركن كالباب ونحوه لم يحتسب له بذلك الشوط ويحتسب بالشوط الثاني وما بعده
ويصير الثاني أوله لأنه قد حاذى فيه الحجر بجميع بدنه وأتى على جميعه فمتى
أكمل سبعة أشواط غير الأول صح طوافه وأجزأه وإلا فلا (فصل) ثم يستلمه
ويقبله ومعنى الاستلام المسح باليد مأخوذ من السلام وهي الحجارة فإذا
مسح الحجر قيل استلم أي مس السلام قاله ابن قتيبة وذلك لما روى أسلم قال
رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحجر وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر
ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول
(3/383)
الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
متفق عليه وروى ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنه قال استقبل رسول الله صلى
الله عليه وسلم الحجر ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلاً ثم التفت فإذا هو بعمر
بن الخطاب رضي الله عنه يبكي فقال " يا عمر ههنا تسكب العبرات " فإن لم يكن
الحجر موجوداً والعياذ بالله فإنه يقف مقابلاً مكانه ويستلم الركن فإن شق
استلامه وتقبيله استمله وقبل يده روى ذلك عن ابن عمر وجابر وأبي هريرة وأبي
سعيد وابن عباس والثوري والشافعي واسحاق وقال مالك يضع يده على فيه من غير
تقبيل ولنا ما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم استلمه وقبل يده
رواه مسلم فان شق عليه استلمه بشئ في يده وقبله رواه ابن عباس مرفوعاً
أخرجه مسلم والاقام بحذائه واستقبله بوجهه وأشار إليه وكبر وهلل وكذا إن
طاف راكباً لما روى البخاري عن ابن عباس قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم
على بعير كلما أتى الحجر أشار إليه بشئ في يده وكبر.
فإن أمكنه استلامه بشئ في يده كالعصا ونحوه فعل، فقد روى ابن عباس أن النبي
صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع يستلم الركن بمحجن.
وهذا كله مستحب ويستحب أن يقول عنده ماروى عبد الله بن السائب أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال عند استلامه " بسم الله والله أكبر إيماناً بك وتصديقاً
بكتابك ووفاء بعهدك واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم " يقول ذلك
كلما استلمه
(3/384)
(مسألة) (ثم يأخذ على يمينه ويجعل البيت
على يساره) لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف كذلك وقد قال " لتأخذوا عني
مناسككم " ولأن الله تعالى أمر بالطواف مجملاً وبينه النبي صلى الله عليه
وسلم بفعله (مسألة) (فإذا أتى على الركن اليماني استلمه وقبل يده) الركن
اليماني قبلة أهل اليمن وهو آخر ما يمر عليه من الأركان في طوافه لأنه يبدأ
بالركن الذي فيه الحجر الأسود وهو قبلة أهل خراسان ثم يأخذ على يمين نفسه
فينتهي إلى الركن الثاني وهو العراقي
ثم يمر بالثالث وهو الشامي وهذان الركنان يليان الحجر ثم يأتي على الرابع
وهو الركن اليماني واستلامه مستحب ولا يستحب تقبيله، وقال الخرقي يقبله
والصحيح عن أحمد الأول وهو قول أكثر أهل العلم وحكي عن أبي حنيفة أنه لا
يستلم الركن اليماني قال ابن عبد البر جائز عند أهل العلم أن يستلم الركن
اليماني والركن الأسود لا يختلفون في شئ من ذلك وإنما الذي فرقوا به بينهما
التقبيل فرأوا تقبيل الأسود ولم يروا تقبيل اليماني وأما استلامهما فأمر
مجتمع عليه قال وقد روي مجاهد عن ابن عباس قال رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا استلم الركن اليماني قبله ووضع خده الأيمن عليه قال وهذا لا
يصح إنما يعرف التقبيل في الحجر الأسود وحده وقد روى ابن عمر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني، وقال ابن عمر
ما تركت استلامهما منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما في شدة
ولا رخاء رواهما مسلم ولأن الركن اليماني مبني على قواعد إبراهيم عليه
السلام فسن استلامه كالركن الأسود فأما تقبيله فلم يصح عن النبي صلى الله
عليه وسلم فلا يسن
(3/385)
(فصل) وأما العراقي والشامي وهما الركنان
اللذان يليان الحجر فلا يسن استلامهما في قول الأكثرين وروي عن أنس ومعاوية
وجابر وابن الزبير والحسن والحسين رضي الله عنهم استلامهما قال معاوية ليس
شئ من البيت مهجور ولنا قول ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني وقال ما أراه يعني النبي
صلى الله عليه وسلم لم يستلم الركنين اللذين يليان الحجر إلا لأن البيت لم
يتم على قواعد إبراهيم ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك وروى ابن عباس
أن معاوية طاف فجعل يستلم الأركان كلها وقال له ابن عباس لم تستلم هذين
الركنين ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يستلمهما؟ فقال معاوية ليس شئ من
هذا البيت مهجوراً.
فقال ابن عباس: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) .
فقال معاوية: صدقت ولأنهما لم يتما على قواعد إبراهيم عليه السلام فلم بسن
استلامها كالحائط الذي يلي الحجر (مسألة) (ويطوف سبعاً يرمل في الثلاثة
الأول منها وهو إسراع المشي مع تقارب الخطى ولا يثب وثباً ويمشي أربعا)
يجب الطواف سبعاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف سبعاً ويرمل في الثلاثة
الأول منها من الحجر إلى الحجر ومعنى الرمل إسراع المشي مع مقاربة الخطو من
غير وثب وهو سنة في الأشواط الثلاثة من
(3/386)
طواف القدوم وطواف العمرة للمتمتع لا نعلم
بين أهل العلم فيه خلافاً ويمشي أربعة أشواط لأن النبي صلى الله عليه وسلم
رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً رواه جابر وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم
وأحاديثهم متفق عليها فإن قيل إنما رمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
لإظهار الجلد للمشركين ولم يبق ذلك المعنى إذ قد نفى الله المشركين فلم
قلتم إن الحكم يبقى بعد زوال علته؟ قلنا قد رمل النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه واضطبع في حجة الوداع بعد الفتح فثبت أنها سنة ثابتة وقال ابن عباس
رمل النبي صلى الله عليه وسلم في عمره كلها وفي حجه وأبو بكر وعمر وعثمان
والخلفاء من بعده رواه الإمام أحمد في المسند وقد ذكرنا حديث عمر إذا ثبت
أن الرمل سنة في الأشواط الثلاثة فإنه يرمل من الحجر إلى الحجر لا يمشي في
شئ منها روى ذلك عن عمر وابنه وابن مسعود وابن الزبير رضي الله عنهم وهو
قول مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وقال طاوس وعطاء والحسن وسعيد بن
جبير والقاسم وسالم بن عبد الله يمشي مابين الركنين لما روى ابن عباس قال
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم الحمى فقال
المشركون إنه يقدم عليكم قوم قدوهنتهم حمى يثرب ولقوامنها شراً فأطلع الله
نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا فلما قدموا قعد المشركون مما يلي
الحجر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة
ويمشوا مابين الركنين ليري المشركين جلدهم فلما رأوهم رملوا قال المشركون
هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد منا قال ابن عباس ولم
يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الابقاء عليهم متفق عليه
(3/387)
ولنا ماروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر ومن رواية مسلم عن جابر قال
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر حتى انتهى إليه وهذا يقدم
على حديث ابن عباس لوجوه منها أن هذا إثبات ومنها أن رواية ابن عباس أخبار
عن عمرة القضية وهذا إخبار عن فعله في حجة الوداع فيكون متأخراً فيجب
تقديمه ومنها أن ابن عباس كان صغيراً في تلك الحال
وجابر وابن عمر كانا رجلين يتبعان أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ويحرصان
على حفظها فهما أعلم ويحتمل أن يكون ماقاله ابن عباس اختص بالذين كانوا في
عمرة القضية لضعفهم والإبقاء عليهم وما رويناه سنة في سائر الناس (فصل) ولا
يسن الرمل في غير الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم وطواف العمرة فإن
ترك الرمل والاضطباع فيها لم يقضه في الأربعة الباقية لانها هيئة فان
موضعها فسقطت كالجهر في الركعتين الأولتين ولأن المشي هيئة في الأربعة كما
أن الرمل هيئة في الثلاثة فإذا رمل في الأربعة
(3/388)
الأخيرة كان تاركاً للهيئة في جميع طوافه
كمن ترك الجهر في الأولتين من العشاء وجهر في الآخرتين فإن ترك الرمل في
شوط من الثلاثة الاول أنى به في الاثنين الباقيين وإن تركه في اثنين أتى به
في الثالث كذلك قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأن تركه للهيئة في بعض
محلها لا يسقطها في بقية محلها كتارك الجهر في إحدى الركعتين الأولتين لا
يسقطه في الثانية (فصل) وإن نسي الرمل فليس عليه إعادة لأن الرمل هيئة فلم
تجب الإعادة بتركه كهيئات
(3/389)
الصلاة وكالاضطباع في الطواف ولو تركه
عمداً لم يلزمه شئ، وبه قال عامة العلماء، وحكي عن الحسن والثوري وابن
الماجشون أن عليه دما لانه نسك وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه
وسلم " من ترك نسكاً فعليه دم " ولنا أنها هيئة فلم يجب بتركها شئ
كالاضطباع والحديث إنما يصح عن ابن عباس وقد قال: من ترك الرمل فلا شئ
عليه.
ثم قد خص بالاضطباع (فصل) ويستحب الدنو من البيت في الطواف لأنه المقصود
فإن كان قربة زحام فظن أنه إذا وقف لم يؤذ أحداً وتمكن من الرمل وقف ليجمع
بين الرمل والدنو من البيت وإن لم يظن ذلك وظن أنه إذا كان حاشية الناس
تمكن من الرمل فعل وكان أولى من الدنو وإن كان لا يتمكن من الرمل أيضاً أو
يختلط بالنساء فالدنو أولى ويطول كيفما أمكنه فإذا وجد فرجة رمل فيها، وإن
تباعد من البيت أجزأه ما لم يخرج من المسجد سواء حال بينه وبين البيت حائل
من قبة أو غيره أو لم يحل لأن الحائل لا يضر في المسجد كما لو صلى مؤتماً
بالإمام من وراء حائل فقد روت ام سلمة رضي الله عنها
(3/390)
قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أني أشتكي فقال " طوفي من وراء الناس " قالت فطفت ورسول الله صلى الله
عليه وسلم حينئذ يصلي إلى جنب البيت متفق عليه (مسألة) (وكلما حاذى الحجر
والركن اليماني استلمهما أو أشار إليهما ويقول كلما حاذى الحجر لا إله إلا
الله والله أكبر) يستحب استلام الحجر الركن اليماني في طوافه لأن ابن عمر
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني
والحجر في كل طوفة قال نافع وكان ابن عمر يفعله رواه أبو داود فإن شق عليه
استلامهما أشار إليهما لما روى البخاري بإسناده عن ابن عباس قال طاف رسول
الله صلى الله عليه وسلم على بعير كلما أتى الركن أشار بيده وكبر (فصل)
ويكبر كلما حاذى الحجر الأسود لما رويناه ويقول لا إله إلا الله والله أكبر
قالت عاشئة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما جعل
الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عزوجل رواه
الاثرم وابن المنذر (مسألة) (ويقول بين الركنين (ربنا آتنا في الدنيا حسنة
وفي الآخرة حسنه وقنا عذاب النار) لما روى أحمد في المناسك عن عبد الله بن
السائب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين ركن بني جمح والركن
الأسود " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنه وقنا عذاب النار " وعن
أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وكل الله به - يعني الركن
اليماني - سبعين ألف ملك فمن قال اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا
والآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة قالوا آمين (مسألة)
(ويقول في سائر طوافه اللهم اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً
مغفوراً رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم وأنت الأعز الأكرم) وكان عبد الرحمن
بن عوف يقول رب قني شح نفسي وعن عروة قال كان أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقولون لا إله إلا الله أنت، وأنت تحيي بعدما أمت، ويدعو بما
أحب، ويكثر من ذكر الله تعالى، ويكثر الدعاء لأن ذلك مستحب في جميع الأحوال
ففي حال تلبسه بهذه العبادة أولى،
ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدع الحديث إلا ذكر الله تعالى أو
قراءة القرآن أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر أو ما لا بد له منه لقول
النبي صلى الله عليه وسلم " الطواف بالبيت صلاة فمن تكلم فلا يتكلم إلا
بخير " (فصل) ولا بأس بقراءة القرآن في الطواف، وبه قال مجاهد وعطاء
والثوري وابن المبارك والشافعي وأصحاب الرأي، وعن أحمد كراهته وروي ذلك عن
الحسن وعروة ومالك
(3/391)
ولنا ماروت عائشة رضي الله عنها أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يقول في طوافه (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي
الآخرة حسنه، وقنا عذاب النار) وكان عمر وعبد الرحمن بن عوف يقولان ذلك في
الطواف وهو قرآن، ولأن الطواف صلاة ولا تكره القراءة في الصلاة قال ابن
المبارك: ليس شئ أفضل من القران (فصل) والمرأة كالرجل في البداية بالطواف
وفيما ذكرنا إلا أنها إذا قدمت مكة نهاراً ولم تخش مجيئ الحيض استحب لها
تأخير الطواف إلى الليل لأنه أستر، ولايستحب لها مزاحمة الرجال لتستلم
الحجر لكن تشير إليه بيدها كالذي لا يمكنه الوصول إليه: قال عطاء كانت
عائشة تطوف حجزة من الرجال لا تخالطهم فقالت امرأة انطلقي نستلم يا أم
المؤمنين فقالت انطلقي عنك وأبت (1) فإن خشيت الحيض أو النفاس استحب لها
تعجيل الطواف كي لا يفوتها (مسألة) (وليس على النساء ولا أهل مكة رمل ولا
اضطباع وليس في غير هذا الطواف رمل والا اضطباع) قال إبن المنذر أجمع أهل
العلم على أنه لا رمل على النساء حول البيت ولا بين الصفا والمروة وليس
عليهن اضطباع وذلك لأن الأصل فيها إظهار الجلد، ولا يقصد ذلك من النساء
إنما يقصد فيهن الستر وفي الرمل والاضطباع تعرض للانكشاف (فصل) وليس على
أهل مكة رمل وهذا قول ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما وكان ابن
(3/392)
عمر إذا أحرم من مكة لم يرمل لأن الرمل
إنما شرع في الأصل لإظهار الجلد والقوة لأهل البلد، وهذا المعنى معدوم في
أهل البلد.
والحكم فيمن أحرم من مكة حكم أهل مكة لما ذكرنا عن ابن عمر، ولأنه
أحرم من مكة أشبه أهل البلد.
وليس عليهم اضطباع لأن من لا يشرع له الرمل لا يشرع له الاضطباع كالنساء
والمتمتع إذا أحرم بالحج من مكة ثم عاد وقلنا يشرع له طواف القدوم لم يرمل
فيه.
قال أحمد رحمه الله: ليس على أهل مكة رمل البيت ولا بين الصفا والمروة
(فصل) وليس في غير هذا الطواف رمل ولا اضطباع لأن النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه إنما رملوا واضطبعوا في ذلك وذكر القاضي أن من ترك الرمل والاضطباع
في طواف القدوم أتى بهما في طواف الزيارة لأنهما سنة أمكن قضاؤها فتقضى
كسنن الصلاة وليس بصحيح لما ذكرنا من أن من تركه في الثلاثة الأول لا يقضيه
في الأربعة.
وكذلك من ترك الجهر في صلاة الفجر لا يقضيه في صلاة الظهر، ولا يقتضي
القياس أن يقضي هيئة عبادة في عبادة أخرى.
قال القاضي ولو طاف فرمل واضطبع ولم يسع بين الصفا والمروة فإذا طاف بعد
ذلك رمل في طوافه لأنه يرمل في السعي بعده وهو تبع في الطواف فلو قلنا لا
يرمل في الطواف أفضى إلى كون التبع أكمل من المتبوع، وهذا قول مجاهد
والشافعي قال شيخنا: وهذا لا يثبت بمثل هذا الرأي الضعيف فإن المتبوع لا
تتغير هيئاته تبعاً كتبعة ولو كانا متلازمين كان ترك الرمل في السعي تبعاً
لعدمه في الطواف أولى من الرمل في الطواف تبعا للسعي
(3/393)
(مسألة) (ومن طاف راكباً أو محمولاً أجزأه
وعنه لا يجزئه إلا لعذر ولا يجزيء عن الحامل) يصح طواف الراكب للعذر بغير
خلاف علمناه لأن ابن عباس روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف في حجة
الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني
أشتكي فقال " طوفي من وراء الناس وأنت راكبة " متفق عليهما وقال جابر رضي
الله عنه طاف النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة
ليراه الناس وليشرف عليهم يسألوه فإن الناس غشوه، والمحمول كالراكب فيما
ذكرنا قياساً عليه (فصل) فإن فعل ذلك لغير عذر فعن أحمد فيه ثلاث روايات
(إحداهن) لا يجزئ وهو ظاهر كلام الخرقي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال "
الطواف بالبيت صلاة ولأنها عبادة تتعلق بالبيت فلم يجز فعلها راكباً لغير
عذر كالصلاة " (والثانية) يجزئه ويجبره بدم وهو قول أبي حنيفة إلا أنه قال
بعيد
ما كان بمكة فإن رجع جبره بدم لأنه ترك صفة واجبة في ركن الحج أشبه مالو
دفع من عرفة قبل الغروب (والثالثة) يجزئ ولا شئ عليه اختارها أبو بكر وهو
مذهب الشافعي وابن المنذر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكباً قال
إبن المنذر لا قول لأحد مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولأن الله تعالى
أمر بالطواف مطلقاً فكيفما أتى به أجزأه ولا يجوز تقييد المطلق بغير دليل
(فصل) والطواف راجلاً أفضل بغير خلاف لأن النبي صلى الله عليه وسلم في غير
حجة الوداع طاف ماشياً
(3/394)
وأصحابه طافوا مشاة وفي قول أم سلمة شكوت
إلى النبي صلى الله عليه وسلم إني أشتكي فقال " طوفي من وراء الناس وأنت
راكبة " دليل على أن الطواف إنما يكون مشياً وانا طاف النبي صلى الله عليه
وسلم راكباً لعذر فإن ابن عباس روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر
عليه الناس يقولون هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه فلما كثروا عليه ركب رواه
مسلم.
وكذلك في حديث جابر: فإن الناس غشوه (1) ورواه عن ابن عباس أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
طاف راكباً لشكاة به وبهذا يعتذر من منع الطواف راكباً عن طواف النبي صلى
الله عليه وسلم والحديث الأول أثبت فعلى هذا يكون كثرة الناس وشدة الزحام
عذراً، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قصد تعليم الناس فلا يتمكن
إلا بالركوب (فصل) وإذا طاف راكباً أو محمولاً فلا رمل فيه وقال القاضي يخب
به بعيره والصحيح الأول لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا أمر به
ولا يتحقق فيه معنى الرمل (فصل) فأما السعي محمولاً وراكباً فيجزئه لعذر
ولغير عذر لأن المعنى الذي منع الطواف راكباً غير موجود فيه (فصل) من طيف
به محمولاً لم يخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن ينويا جميعاً عن المحمول أو
ينوي المحمول على نفسه ولا ينوي الحامل شيئاً فيقع عنه دون الحامل بغير
خلاف (الثاني) أن يقصدا
(3/395)
عن الحامل فيقع عنه ولا شئ للمحمول وكذلك
أن نوى الحامل عن نفسه ولم ينو المحمول (الثالث)
أن يقصد كل واحد عن نفسه فيقع للمحمول دون الحامل وهذا أحد قولي الشافعي
والقول الآخر يقع للحامل لأنه الفاعل.
وقال أبو حنيفة يقع لهما لأن كل واحد منهما طائف بنية صحيحة فأجزأ الطواف
عنه كما لو لم ينو صاحبه شيئاً ولأنه لو حمله بعرفات لكان الوقوف عنهما كذا
هذا، قال (شيخنا) وهو قول حسن، ووجه الأول أنه طواف أجزأ عن المحمول فلم
يقع عن الحامل كما لو نويا جميعاً ولأنه طواف واحد فلم يقع عن شخصين
كالراكب أما إذا حمله بعرفة فما حصل الوقوف بالحمل فإن المقصود الكون
عفرفات وهما كائنان بها والمقصود ههنا الفعل وهو واحد فلا يقع عن شخصين
ووقوعه عن المحمول أولى لأنه لم ينو بطوافه إلا لنفسه، والحامل لم يخلص
قصده بالطواف لنفسه فإنه لو لم يقصد الطواف بالمحمول لما حمله فإن تمكنه من
الطواف لا يقف على حمله قصار المحمول مقصوداً لهما ولم يخلص قصد الحامل
لنفسه فلم يقع لعدم التعيين.
وقال أبو حفص العكبري لا يجزئ الطواف عن واحد منهما لأن فعلا واحدا لا يقع
عن اثنين وليس أحدهما أولى به من الآخر، وقد ذكرنا أن المحمول أولى بخلوص
نيته لنفسه وقصد الحامل له فإن عدمت النية منهما أو نوى كل واحد منهما عن
الآخر لم تصح لواحد منهما (مسألة) (وإن طاف منكساً أو على جدار الحجر أو
شاذروان الكعبة، أو ترك شيئاً من طوافه وإن قل أو لم ينوه لم يجزه) إذا نكس
الطواف فجعل البيت على يمينه لم يجزه، وبه قال مالك والشافعي وقال أبو
حنيفة يعيد ما كان بمكة فإن رجع جبره بدم لأنه ترك هيئة فلم تمنع الأجزاء
كترك الرمل والاضطباع ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البيت في
الطواف على يساره وقال عليه الصلاة والسلام " لتأخذوا
(3/396)
عني مناسككم " ولأنها عبادة متعلقة بالبيت
فكان الترتيب شرطاً لصحتها كالصلاة، وما قاسوا عليه مخالف لما ذكرنا كما
اختلف حكم هيئات الصلاة وترتيبها (فصل) ويطوف من وراء الحجر لأن الله تعالى
قال (وليطوفوا بالبيت العتيق) والحجر منه فمن لم يطف به لم يعتد بطوافه،
وبهذا قال عطاء ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر.
وقال
أصحاب الرأي إن كان بمكة قضى ما بقي، وإن رجع إلى الكوفة فعليه دم ونحوه
قول الحسن ولنا أنه من البيت لما روت عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن الحجر فقال " هو من البيت " وعنها قالت قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا
حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منها فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوا
فهلمي لأريك ما تركوا منها " فأراها قريباً من سبعة أذرع رواهما مسلم،
وعنها قالت قلت يا رسول الله إني نذرت إن أصلي في البيت " قال صلي في الحجر
فإن الحجر من البيت " رواه الترمذي وقال حسن صحيح فمن ترك الطواف بالحجر لم
يطف بالبيت جميعه فلم يصح كما لو ترك الطواف ببعض البناء، ولأن النبي صلى
الله عليه وسلم طاف من وراء الحجر وقال " لتأخذوا عني مناسككم "
(3/397)
(فصل) ولو طاف على جدار الحجر أو شاذروان
الكعبة وهو ما فضل من جدارها لم يجز لأن ذلك من البيت فإذا لم يطف به لم
يطف بكل البيت، وكذلك إن ترك شيئاً من طوافه وإن قل لم يجزه لأن لم يطف
بجميع البيت، وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم من وراء ذلك وطاف بجميع
البيت من الحجر إلى الحجر (1) (فصل) والنية شرط في الطواف إن تركها لم يصح
لأنها عبادة تتعلق بالبيت فاشترطت لها النية كالصلاة، ولأن النبي صلى الله
عليه وسلم قال " الطواف بالبيت صلاة " والصلاة لا تصح بدون النية (مسألة)
(وإن طاف محدثاً أو نجساً أو عرياناً لم يجزه وعنه يجزئه ويجبره بدم)
الطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحة الطواف في ظاهر المذهب وهو
قول مالك والشافعي، وعن أحمد أن الطهارة ليست شرطاً فمتى طاف للزيارة غير
متطهر أعاد ما كان بمكة فإن خرج إلى بلده جبره بدم، وكذلك يخرج في الطهارة
من النجس والستارة، وعنه فيمن طاف للزيارة وهو ناس للطهارة لا شئ عليه،
وقال أبو حنيفة ليس شئ من ذلك شرطاً، واختلف أصحابه فقال بعضهم هو واجب،
وقال بعضهم هو سنة لأن الطواف ركن للحج فلم تشترط له الطهارة كالوقوف
ولنا ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "
الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه " رواه الترمذي والاثرم، وعن أبي
هريرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول
الله صلى الله عليه وسلم قل حجة الوداع يوم النحر يؤذن " لا يحج بعد العام
مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان " متفق عليه، ولأنها عبادة متعلقة بالبيت
فكانت الطهارة والستارة فيها شرطاً كالصلاة وعكسه الوقوف، ولأن النبي صلى
الله عليه وسلم قال لعائشة حين حاضت " افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي
بالبيت " (فصل) وإذا شك في الطهارة وهو في الطواف لم يصح طوافه لأنه شك في
شرط العبادة قبل الفراغ منها أشبه ما لو شك في الطهارة وهو في الصلاة، وإن
شك بعد الفراغ منه لم يلزمه شئ لأن الشك في شرط العبادة بعد فراغها لا يؤثر
فيها، وإن شك في عدد الطواف بني على اليقين.
قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك لانها عبادة فمتى
شك فيها وهو فيها بني على اليقين كالصلاة، فإن أخبره ثقة عن عدد طوافه قبل
قوله إن كان عدلاً، وإن شك في عدده بعد الفراغ منه لم يلتفت إليه كمن شك في
عدد الركعات بعد فراغ الصلاة، قال أحمد إذا كان رجلان
(3/398)
يطوفان فاختلفا في الطواف بنيا على اليقين،
قال شيخنا وهو محمول على أنهما شكا، فإن كان أحدهما يتيقن حال نفسه لم
يلتفت إلى قول غيره، (فصل) إذا فرغ المتمتع ثم علم أنه كان على غير طهارة
في أحد الطوافين لا بعينه بنى الأمر على الأشد وهو أنه كان محدثاً في طواف
العمرة فلم تصح ولم يحل منها فيلزمه دم للحلق ويكون قد أدخل الحج على
العمرة فيصير قارنا ويجزئه الطواف للحج عن النسكين، ولو قدرناه من الحج
لزمه إعادة الطواف ويلزمه إعادة السعي على التقديرين لأنه وجد بعد طواف غير
معتد به، وإن كان وطئ بعد حله من العمرة حكمنا بأنه أدخل حجا على عمرة
فاسدة فلا يصح ويلغو ما فعله من أفعال الحج ويتحلل بالطواف الذي قصده للحج
من عمرته الفاسدة وعليه دم للحلق ودم للمضي في عمرته ولا يحصل له حج ولا
عمرة، ولو قدرناه من الحج لم يلزمه أكثر من إعادة الطواف والسعي ويحصل له
الحج والعمرة
(مسألة) (وإن أحدث في بعض طوافه أو قطعه بفصل طويل ابتدأه) إذا أحدث في
الطواف عمداً ابتدأ الطواف لأن الطهارة شرط له، فإذا أحدث عمداً أبطله
كالصلاة وإن سبقه الحدث ففيه روايتان (إحداهما) يبتدئ أيضاً وهو قول مالك
والحسن قياساً على الصلاة (والثانية) يتوضأ ويبني وبها قال الشافعي وإسحاق،
وقال حنبل عن أحمد فيمن طاف ثلاثة أشواط أو أكثر يتوضأ فإن شاء بنى وإن شاء
استأنف، قال أبو عبد الله يبني إذا لم يحدث حدثاً إلا الوضوء، فإن عمل
عملاً غير ذلك استقبل الطواف وذلك لان المولاة تسقط عند العذر على إحدى
الروايتين وهذا عذر، فأما إن اشتغل بغير الوضوء لزمه الابتداء لأنه ترك
الموالاة لغير عذر وهذا إذا كان الطواف فرضاً، فأما النفل فلا تجب إعادته
كالصلاة المسنونة إذا بطلت (فصل) والموالاة شرط في الطواف فمتى قطعه بفصل
طويل ابتدأه سواء كان عمداً أو سهواً مثل أن يترك شوطاً من الطواف يظن أنه
قد أتمه، وقال أصحاب الرأي فيمن طاف ثلاثة أشواط من طواف الزيارة ثم رجع
إلى بلده عليه أن يعود فيطوف ما بقي ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وإلى
بين طوافه وقال " خذوا عني مناسككم " ولأنه صلاة فاشترطت له الموالاة كسائر
الصلوات، أو نقول: عبادة متعلقة بالبيت فاشترطت لها الموالاة كالصلاة
والمرجع في طول الفصل وقصره إلى العرف، وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله
رواية أخرى إذا كان له عذر يشغله بنى، وإن قطعه لغير عذر أو لحاجة استقبل
الطواف، وقال إذا أعيا في الطواف لا بأس ان
(3/399)
يتسريح، وقال الحسن غشي عليه فحمل إلى
أهله، فلما أفاق أتمه لأنه قطعه للعذر فجاز البناء عليه كما لو قطعه للصلاة
(مسألة) (ولو كان يسيراً أو أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة صلى وبنى) ويتخرج
أن الموالاة سنة، أما إذا لم يطل الفصل فإنه يبني على طوافه لأنه يسير فعفي
عنه، وكذلك إن أقيمت الصلاة المكتوبة فإنه يقطع الطواف ويصلي جماعة في قول
كثير من أهل العلم، وقال
مالك يمضي في طوافه ولا يقطعه إلا أن يخاف أن يضر بوقت الصلاة لأنه صلاة
فلا يقطعه لصلاة أخرى ولنا قوله صلى الله عليه وسلم " إذا أقيمت الصلاة فلا
صلاة إلا المكتوبة " والطواف صلاة فيدخل في عموم النص، وإذا صلى بنى على
طوافه، قال إبن المنذر ولا نعلم احدا خالف في ذلك إلا الحسن فإنه قال:
يستأنف، وقول الجمهور أولى لأن هذا فعل مشروع في أثناء الطواف فلم يقطعه
كاليسير، وكذلك الحكم في الجنازة إذا حضرت يصلي عليها ثم يبني على طوافه
لأنها تفوت بالتشاغل عنها، قال أحمد ويكون ابتداؤه من الحجر أنه يبتدئ
بالحجر الشوط الذي قطعه من الحجر حين يشرع في البناء، وحكم السعي حكم
الطواف فيما ذكرنا لأنه إذا ثبت ذلك في الطواف مع تأكده ففي السعي بطريق
الأولى، ولأن ذلك يروي عن ابن عمر رضي الله عنهما ولا يعرف له في الصحابة
مخالف وهذا قول عطاء والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم عن غيرهم
خلافهم، ويتخرج أن الموالاة في الطواف سنة وهو قول أصحاب الرأي قياساً على
الصفا والمروة والصحيح الأول لما ذكرنا (مسألة) (ثم يصلي ركعتين) والأفضل
أن يكون خلف المقام يقرأ فيهما (قل يا أيها الكافرون) في الأولى و (قل هو
الله أحد) في الثانية فإن جابراً رضي الله عنه روى في صفة حج النبي صلى
الله عليه وسلم قال: حتى أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى
أربعاً ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فجعل
المقام بينه وبين البيت، قال محمد بن علي ولا أعلمه إلا ذكره عن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يقرأ في
(3/400)
الركعتين (قل هو الله أحد، وقل يا أيها
الكافرون) وحيث ركعهما ومهما قرأ فيهما جاز فإن عمر رضي الله عنه ركعهما
بذي طوى، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة " إذا أقيمت صلاة
الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون " ففعلت ذلك فلم تصل حتى خرجت، ولا بأس
أن يصليهما إلى غير سترة ويمر بين يديه الطائفون من الرجال والنساء فإن
النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما والطواف بين يديه ليس بينهما شئ، وكان ابن
الزبير يصلي والطواف بين يديه فتمر المرأة بين يديه ينتظرها حتى ترفع رجلها
ثم يسجد وكذلك سائر الصلوات بمكة لا يعتبر لها سترة وقد ذكرنا ذلك (فصل)
والركعتان فيه سنة مؤكذة غير واجبة، وبه قال مالك وللشافعي قولان (أحدهما)
أنهما واجبتان لأنهما تابعتان للطواف فكانا واجبتين كالسعي ولنا قول عليه
السلام للأعرابي حين سأله عن الفرائض فذكر الصلوات الخمس، فقال هل علي
غيرها؟ قال " لا إلا أن تطوع " ولأنها صلاة لم يشرع لها جماعة فلم تكن
واجبة كسائر النوافل وأما السعي فلم يجب لكونه تابعاً ولا هو مشروع مع كل
طواف بخلاف الركعتين فإنهما يشرعان عقيب كل طواف (فصل) فإن صلى المكتوبة
بعد طوافه أجزأته عن ركعتي الطواف، روي نحوه عن ابن عباس
(3/401)
وعطاء وجابر بن زيد والحسن وسعيد بن جبير
واسحاق، وعنه أنه يصلي ركعتي الطواف بعد المكتوبة، قال أبو بكر عبد العزيز
هو أقيس، وبه قال الزهري ومالك وأصحاب الرأي لأنه سنة فلم يجز عنها
المكتوبة كركعتي الفجر ولنا أنهما ركعتان شرعتا للنسك فأجزأت عنهما
المكتوبة كركعتي الإحرام (فصل) ولا بأس أن يجمع بين الأسابيع فإذا فرغ منها
ركع لكل أسبوع ركعتين فعلته عائشة والمسور ابن مخرمة، وبه قال عطاء وطاوس
وسعيد بن جبير وكرهه ابن عمر والحسن والزهري ومالك وأبو حنيفة لأن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولأن تأخير الركعتين عن طوافهما يخل
بالموالاة بينهما ولنا أن الطواف يجري مجرى الصلاة يجوز جمعها ويؤخر ما
بينها فيصليها بعدها كذلك ههنا، وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله لا
يوجب كراهته فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف أسبوعين ولا ثلاثة وذلك
غير مكروه بالاتفاق والموالاة غير معتبرة بين الطواف والركعتين بدليل أن
عمر صلاهما بذي طوى وأخرت أم سلمة ركعتي الطواف حين طافت راكبة بأمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم وإن ركع لكل أسبوع عقيبه كان أولى وفيه اقتداء
بالنبي صلى الله عليه وسلم وخروج من الخلاف (فصل) والمشترط لصحة الطواف
تسعة أشياء: الطهارة من الحدث والنجاسة، وستر العورة، والنية، والطواف
بجميع البيت، وإن يكمل سبعة أشواط، ومحاذاة الحجر بجميع بدنة، والترتيب،
وهو أن يطوف على يمينه، والموالاة، وسننه استلام الركن وتقبيله أو ما قام
مقامه من الإشارة،
(3/402)
واستلام الركن اليماني والاضطباع والرمل،
والمشي في موضعه، والدعاء والذكر، وركعتا الطواف، والطواف ماشياً، والدنو
من البيت، وفي ذلك اختلاف ذكرناه فيما مضى (مسألة) (ثم يعود إلى الركن
فيستلمه) إذا فرغ من ركعتي الطواف وأراد الخروج إلى الصفا استحب أن يعود
فيستلم الحجر نص عليه أحمد لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ذكره جابر
في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وكان ابن عمر يفعله وبه قال النخعي
ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا (مسألة)
(ثم يخرج إلى الصفا من بابه ويسعى سبعاً يبدأ بالصفا فيرقى عليه حتى يرى
البيت فيستقبله ويكبر ثلاثاً ويقول الحمد لله على ما هدانا لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير
وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر
عبده، وهرم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله لا نعبد إلا إياه مخلصين له
الدين ولو كره الكافرون، ثم يلبي ويدعو بما أحب) وجملة ذلك أنه إذا فرغ من
طوافه واستلم الركن فالمستحب أن يخرج إلى الصفا من بابه فيأتي الصفا فيرقى
عليه حتى يرى الكعبة فيستقبلها فيكبر الله عزوجل ويهلله ويدعو بدعاء النبي
صلى الله عليه وسلم وما أحب من الدنيا والآخرة قال جابر رضي الله عنه في
صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب
إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ (إن الصفا والمروة من شعائر الله) نبدأ
بما بدأ الله به " فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة
فوحد الله وكبره وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد
وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز
(3/403)
وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم
دعا بين ذلك وقال مثل هذا ثلاث مرات.
قال أحمد رحمه الله ويدعو بدعاء ابن عمر رضي الله عنهما، ورواه إسماعيل عن
أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه كان يخرج من الصفا من الباب الأعظم فيقوم عليه
فيكبر سبع مرار ثلاثاً ثلاثا يكبر ثم يقول لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لا إله
إلا الله لا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، ثم يدعو
فيقول: اللهم اعصمني بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك، اللهم جنبني حدودك،
اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين، اللهم
حببني إليك وإلى ملائكتك وإلى رسلك وإلى عبادك الصالحين، اللهم يسرني
لليسرى وجنبني للعسرى، واغفر لي في الآخرة والأولى، واجعلني من أئمة
المتقين، واجعلني من ورثة جنة النعيم، واغفر لي خطيئتي يوم الدين، اللهم
قلت وقولك الحق (ادعوني أستجب لكم) وإنك لا تخلف المعياد، اللهم إذ هديتني
للإسلام فلا تنزعني منه ولا تنزعه مني حتى توفاني على الاسلام، اللهم لا
تقدمني إلى العذاب، ولا تؤخرني لسوء الفتن.
قال ويدعو دعاء كثيراً حتى إنه ليملنا وانا لشاب وكان إذا أتى على المسعى
سعى وكبر، وكل ما دعا به فحسن (فصل) فإن لم يرق على الصفا فلا شئ عليه، قال
القاضي لكن يجب عليه أن يستوعب ما بين الصفا والمروة فيلصق عقبيه بأسفل
الصفا ثم يسعى إلى المروة فإن لم يصعد عليها ألصق أصابع رجليه
(3/404)
بأسفل المروة والصعود عليهما أولى اقتداء
بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ترك مما بينهما شيئاً ولو ذراعا لم
يجزه حتى يأتي به، وحكم المرأة في ذلك حكم الرجل إلا أنها لا ترقى لئلا
تزاحم الرجال ولأنه استر لها (مسألة) (ثم ينزل فيمشي حتى يأتي العلم فيسعى
سعياً شديداً إلى العلم الآخر، ثم يمشي حتى يأتي المروة فيفعل عليها كما
فعل علي الصفا، ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه يفعل ذلك
سبعاً) يحتسب بالذهاب سعية، وبالرجوع سعيه، يفتتح بالصفا ويختتم بالمروة،
فإن افتتح بالمروة لم يحتسب بذلك الشوط، هذا وصف السعي وهو أن ينزل من
الصفا فيمشي حتى يأتي العلم أي يحاذيه وهو الميل الأخضر في ركن المسجد،
فإذا كان منه نحواً من ستة أذرع سعى سعياً شديداً حتى ياحذي العلم الآخر
وهما الميلان الأخضران بفناء المسجد وحذاء دار العباس، ثم يترك السعي فيمشي
حتى يأتي المروة فيرقى
عليها ويستقبل القبلة ويدعو بمثل دعائه على الصفا ومهما دعا به فلا بأس
وليس في الدعاء شئ موقت ثم ينزل فيمشي في موضع مشبه ويسعى في موضع سعيه
ويكثر من الدعاء والذكر فيما بين ذلك.
قال أبو عبد الله كان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة قال: رب اغفر
وارحم، وتجاوز عما تعلم،
(3/405)
وأنت الأعز الأكرم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا
والمروة لإقامة ذكر الله عزوجل " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ولا يزال
حتى تكمل سبعة أشواط يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية وحكي عن ابن جرير
وبعض الشافعية أنهم قالوا ذهابه ورجوعه سعية وهذا غلط لأن جابرا قال في صفة
حج النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزل إلى المروة حتى إذا انفضت قدماه رمل في
بطن الوادي حتى إذا صعدنا مشى حتى إذا أتى المروة فعل على المروة كما فعل
علي الصفا فلما كان آخر طوفه على المروة قال " لو استقبلت من أمري ما
استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة " وهذا يقتضي أنه آخر طوافه، ولو كان
على ما ذكروه كان آخره عند الصفا في الموضع الذي بدأ منه، ولأنه في كل مرة
طائف بهما فاحتسب بذلك مرة كما إذا طاف بجميع البيت احتسب به مرة (فصل)
ويفتتح بالصفا ويختم بالمروة لأن الترتيب شرط في السعي كذلك، فإن بدأ
بالمروة لم يحتسب بذلك الشوط، فإذا صار إلى الصفا اعتد بما يأتي به بعد ذلك
لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالصفا وقال " نبدأ بما بدأ الله به "
وهذا قول الحسن ومالك والشافعي والاوزاعي وأصحاب الرأي، وعن ابن عباس أنه
قال: قال الله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله) فبدأ بالصفا وقال
اتبعوا القرآن فما بدأ الله به فابدؤا به
(3/406)
(فصل) والرمل في السعي سنة لأن النبي صلى
الله عليه وسلم سعى وسعى أصحابه فروت صفية بنت شيبة عن أم ولد شيبة قالت:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة ويقول " لانقطع
الأبطح إلا شداً " وليس ذلك بواجب ولا شئ على تاركه، فان ابن عمر قال: إن
أسع بين الصفا والمروة
فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى، وإن أمش فقد رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا شيخ كبير.
رواهما ابن ماجة وأبو داود، ولان ترك الرمل في الطواف بالبيت لا شئ فيه
فبين الصفا والمروة أولى (مسألة) (ويستحب أن يسعى طاهراً مستتراً متوالياً،
وعنه أن ذلك من شرائطه) المستحب لمن قدر على الطهارة أن لا يسعى إلا
متطهراً من الحدث والنجاسة وكذلك جميع المناسك، فإن سعى بين الصفا والمروة
على غير طهارة كره له ذلك وأجزأه في قول أكثر أهل العلم منهم عطاء ومالك
والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وكان الحسن يقول.
إذا ذكر قبل أن يحل فليعد الطواف، وإن ذكر بعد ماحل فلا شئ عليه ولنا قول
النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت " اقضي ما يقضي
الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت " ولأن ذلك عبادة لا تتعلق بالبيت أشبهت
الوقوف بعرفة، قال أبو داود سمعت أحمد يقول إذا طافت المرأة بالبيت ثم حاضت
سعت بين الصفا والمروة ثم نفرت، وروي عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما
أنهما قالتا إذا طافت المرأة بالبيت وصلت ركعتين ثم حاضت بين الصفا والمروة
فلتطف
(3/407)
بالصفا والمروة رواه الأثرم، ولا تشترط
الطهارة من النجاسة أيضاً ولا الستارة للسعي لأنه إذا لم تشترط الطهارة من
الحدث وهي آكد فغيرها أولى، وقد ذكر بعض أصحابنا رواية عن أحمد أنه كالطواف
في اشتراط الطهارة والستارة قياسا عليه ولا عمل عليه (فصل) والموالاة في
السعي غير مشترطه في ظاهر كلام أحمد رحمه الله فإنه قال في رجل كان بين
الصفا والمروة فلقيه قادم بعرفة يقف يسلم عليه ويسأله قال نعم أمر الصفا
سهل إنما كان يكره الوقوف في الطواف بالبيت، فأما بين الصفا والمروة فلا
بأس؟ وقال القاضي تشترط الموالاة فيه قياساً على الطواف، وحكي رواية عن
أحمد والأول أصح فإنه نسك لا يتعلق بالبيت فلم تشترط له الموالاة كالرمي
والحلاق، وقد روى الأثرم أن سودة بنت عبد الله بن عمر امرأة عروة بن الزبير
سعت بين الصفا والمروة فقضت طوافها في ثلاثة أيام وكانت ضخمة، وكان عطاء لا
يرى بأساً ان يستريح بينهم
ولا يصح قياسه على الطواف لأن الطواف يتعلق بالبيت وهو صلاة، وتشترط له
الطهارة والستارة فاشترطت له الموالاة بخلاف السعي (مسألة) (والمرأة لا
ترمل ولا ترقى) لا يسن للمرأة أن ترقى على المروة لئلا تزاحم الرجال ولأن
ذلك استر لها ولا يسن لها الرمل، قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من
أهل العلم على أنه لا رمل على النساء حول البيت ولابين الصفا والمروة، وذلك
لأن الأصل في ذلك إظهار الجلد ولا يقصد ذلك في حقهن، ولأن النساء يقصد منهن
الستر وفي ذلك تعرض للانكشاف فلم يستحب لهن (فصل) والسعي تبع للطواف لا يصح
إلا بعد الطواف فإن سعى قبله لم يصح، وبه قال مالك
(3/408)
والشافعي وأصحاب الرأي وقال عطاء يجزئه،
وعن أحمد يجزئه إن نسي وإلا فلا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن
التقدم والتأخر في حال الجهل والنسيان قال " لاحرج " ولنا أن النبي صلى
الله عليه وسلم إنما سعى بعد الطوف وقال " لتأخذوا عني مناسككم " فعلى هذا
إن سعى بعد طوافه ثم علم أنه طاف غير متطهر أعاد السعي، وإن سعى المفرد
والقارن بعد طواف القدوم لم يلزمهما سعي بعد ذلك ولا تجب الموالاة بين
الطواف والسعي، روى ذلك عن الحسن وعطاء قالا: لا بأس ان يطوف أول النهار
ويسعى آخره، وفعله القاسم وسعيد بن جبير لأن الموالاة إذا لم تجب في نفس
السعي ففيما بينه وبين الطواف أولى (مسألة) (فإذا فرغ من السعي فإذا كان
معتمراً قصر من شعره وتحلل إلا أن يكون قد ساق معه هديا فلا يحل حتى يحج)
إذا طاف المتمتع وسعى وقصر أو حلق وقد حل من عمرته إن لم يكن معه هدي لما
روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالعمرة إلى الحج فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال
للناس " من كان معه هدي فإنه لا يحل من شئ حرم منه حتى يقضي حجته ومن لم
يكن معه هدي فليطف بالبيت وبالصفا وبالمروة وليقصر وليحلل " متفق
عليه ولا نعلم فيه خلافا، ولا يستحب تأخير التحلل قال أبو داود سمعت أحمد
سئل عمن دخل مكة
(3/409)
معتمراً فلم يقصر حتى كان يوم التروية عليه
شئ؟ قال هذا لم يحل حتى يقصر ثم يهل بالحج وليس عليه شئ وبئس ما صنع (فصل)
فأما من معه الهدي فليس له أن يتحلل لكن يقيم على إحرامه ويدخل الحج على
العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً نص عليه أحمد وهو قول أبي حنيفة،
وعن أحمد رواية أخرى أنه يحل له التقصير من شعر رأسه خاصة ولا يمس من
أظفاره وشاربه شيئاً روى ذلك عن ابن عمر وهو قول عطاء لما روي عن معاوية
قال قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص عند المروة متفق عليه،
وقال مالك والشافعي في قول له التحلل ونحر هديه عند المروة ويحتمله كلام
الخرقي ولنا ما ذكرنا من حديث ابن عمر وروت عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فأهللت بعمرة ولم أكن سقت الهدي فقال
النبي صلى الله عليه وسلم " من كان معه هدي فليهل بالحج مع عمرته ثم لا يحل
حتى يحل منهما جميعا " وعن حفصة أنها قلت: يارسول الله ما شأن الناس حلوا
من العمرة ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال " إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل
حتى أنحر " متفق عليه والأحاديث فيه كثيرة، وعن أحمد رواية ثالثة فيمن قدم
متمتعاً في أشهر الحج وساق الهدي قال إن دخلها في العشر لم ينحر الهدي حتى
ينحره يوم النحر وإن قدم في العشر نحر الهدي وهذا يدل على أن المتمتع إذا
قدم قبل العشر حل وإن كان معه هدي وإن قدم
(3/410)
في العشر لم يحل وهو قول عطاء رواه حنبل في
المناسك وقال فيمن لبد أو ضفر هو بمنزلة من ساق الهدي لحديث حفصة والرواية
الأولى أولى لما فيها من الأحاديث الصحيحة الصريحة فهي أولى بالاتباع (فصل)
فأما المعتمر غير المتمتع فإنه يحل سواء كان معه هدي أو لم يكن وسواء كان
في أشهر الحج أو في غيرها لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر سوى
عمرته التي مع حجته بعضهن في ذي القعدة وقيل كلهن في ذي القعدة وكان يحل
فإن كان معه هدي نحره عند المروة وحيث نحره
من الحرم جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل فجاج مكة طريق ومنحر "
رواه أبو داود (فصل) وقول المصنف رحمه الله قصر من شعره يدل على أن المستحب
في حق المتمتع إذا حل من عمرته التقصير ليؤخر الحلق إلى الحج قال أحمد رحمه
الله في رواية أبي داود يعجبني إذا دخل متمتعاً أن يقصر ليكون الحلق للحج
ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلا بالتقصير فقال في حديث جابر
" حلوا من إحرامكم بطواف بين الصفا والمروة وقصروا " وفي حديث ابن عمر أنه
قال " من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل "
متفق عليه.
وإن حلق جاز لأنه أحد النسكين فجاز فيه كل واحد منهما وفي الحديث دليل على
أنه لا يحل إلا بالتقصير وهذا ينبني على أن التقصير هل هو نسك أو لا وسنذكر
ذلك إن شاء الله تعالى فإن أحرم بالحج قبل التقصير وقلنا هو نسك فقد أدخل
الحج على العمرة وصار قارنا
(3/411)
(فصل) فإن ترك التقصير أو الحلق وقلنا هو
نسك فعليه دم فإن وطئ قبل التقصير فعليه دم وعمرته
(3/412)
صحيحة، وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي وحكى
عن أصحاب الشافعي إن عمرته تفسد لأنه وطئ
(3/413)
قبل حله من عمرته وعن عطاء قال يستغفر الله
(3/414)
ولنا ماروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه
سئل عن امرأة معتمرة وقع عليها زوجها قبل
(3/415)
أن تقصر قال من ترك من مناسكه شيئاً أو
نسيه فليهرق دما قيل إنها موسرة قال فلتنحر ناقة ولأن
(3/416)
التقصير ليس بركن فلا يفسد النسك بتركه ولا
بالوطئ قبله كالرمي في الحج قال أحمد فيمن وقع على امرأته قبل تقصيرها من
عمرتها تذبح شاة قيل عليها أو عليه؟ قال عليها هي وهو محمول على أنها
طاوعته فإن أكرهها فالدم عليه وقد ذكر ذلك على ما فيه من الخلاف والله
تعالى أعلم
(3/417)
(مسألة) (ومن كان متمتعاً قطع التلبية إذا
وصل إلى البيت) قال أبو عبد الله يقطع المعتمر التلبية إذا استلم الركن،
وبهذا قال ابن عباس وعطاء وعمرو بن ميمون وطاوس والنخعي والثوري والشافعي
واسحاق وأصحاب الرأي وقال ابن عمر وعروة والحسن يقطعها إذا دخل الحرم، وعن
سعيد بن المسيب يقطعها حين يرى عرش مكة، وعن مالك أنه إن أحرم من الميقات
قطع التلبية إذا وصل الحرم وإن أحرم بها من أدنى الحل قطع التلبية حين يرى
البيت ولنا ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفع الحديث كان يمسك عن
التلبية في العمرة إذا استلم الحجر قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر
ولم يزل يلبي حتى استلم الحجر ولأن التلبية إجابة إلى العبادة وشعار
للإقامة عليها وإنما يتركها إذا شرع فيما ينافيها وهو التحلل منها والتحلل
يحصل بالطواف والسعي فإذا شرع في الطواف فقد أخذ في التحلل فينبغي أن يقطع
التلبية كالحاج يقطها إذا شرع في رمي جمرة العقبة لحصول التحلل بها وأما
قبل ذلك فلم يشرع فيما ينافيها فلا معنى لقطعها والله تعالى أعلم
(3/418)
|