الشرح الكبير على متن المقنع

باب الضمان وهو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق فيثبت في ذمتهما جميعاً ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما، واستقاقه من الضم وقيل من التضمين لأن ذمة الضامن تتضمن الحق، والأصل في جوازه الكتاب والسنة والإجماع.
اما اكتاب فقوله تعالى (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم والزعيم الكفيل قاله بان عباس.
وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الزعيم غارم) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن، وأجمع المسلمون على الضمان في الجملة واختلفوا في فروع تذكر إن شاء الله تعالى، يقال ضمين وكفيل وقبيل وحميل وزعيم وصبير بمعنى واحد ولا بد في الضمان من ضامن ومضمون عنه ومضمون له.
(مسألة) (ولصاحب لحق مطالبة من شاء منهما في الحياة والموت) وجملة ذلك أن المضمون عنه لا يبرأ بنفس الضمان كما يبرأ المحيل بنفس الحوالة قبل القبض بل يثبت

(5/70)


الحق في ذمة الضامن مع بقائه في ذمة المضمون عنه فعلى هذا لصاحب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة وبعد الموت، وبهذا قال الئوري والشافعي وأصحاب الرأي وأبو عبيد وحكي عن مالك في إحدى الروايتين عنه أنه لا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه ولأنه وثيقة فلا يستوفي الحق منها إلا مع تعذر استيفائه من الأصل كالرهن ولنا قوله عليه السلام (الزعيم غارم) ولأن الحق ثابت في ذمة الضامن فملك مطالبته كالأصل ولأن الحق ثابت في ذمتهما فملك مطالبة من شاء منهما كالضامنين إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه ولا يشبه الرهن لأنه مال من عليه الحق وليس بدين ذمة يطالب إنما يطالب من عليه الدين ليقضي منه
أو من غيره، وقال أبو ثور الكفالة والحوالة سواء وكلاهما ينقل الحق عن ذمة المضمون عنه والمحيل وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود، وعن أحمد رواية أن الميت يبرأ بمجرد الضمان نص عليه في رواية يوسف بن موسى واحتجوا بما روي أبو سعيد الخدري قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فلما وضعت قال (هل علي صاحبكما من دين؟) قالوا نعم درهمان فقال (صلوا على صاحبكم) فقال علي هما علي يا رسول الله وأنا لهما ضامن فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه ثم أقبل على علي فقال (جزاك الله عن الإسلام خيراً أو فك رها نك كما فككت رهان أخيك) فقيل يا رسول

(5/71)


الله هذا لعلي خاصة أم للناس عامة؟ فقال (بل الناس عامة) رواه الدارقطني فدل على أن المضمون عنه برئ بالضامن ولذلك صلى الله عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى الإمام أحمد في المسند عن جابر قال توفي صاحب لنا فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فخطا خطوة ثم قال (أعليه دين؟) قلنا ديناران فانصرف، فتحملهما أبو قتادة فقال الديناران علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وجب حق الغريم وبرئ الميت منهما؟) قال نعم فصلى عليه ثم قال بعد ذلك (ما فعل الديناران؟) قال إنما مات أمس قال فعاد إليه من الفد فقال قد قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الآن بردت جلدته) وهذا صريح في براءة المضمون عنه لقوله (وبرئ الميت منهما؟) ولأنه دين واحد فإذا صار في ذمة نائبه برئت الاولى منه كالمحال به لأن الدين الواحد لا يحل في محلين ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) وقوله في خبر أبي قتادة (الآن بردت جلدته) حين أخره أنه قضى دينه ولأنها وثيقة فلا تنقل الحق كالشهادة، فأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على المضمون عنه فلأنه بالضمان صار له وفاء وإنما كان عليه الصلاة والسلام يمتنع من الصلاة على مدين لم يخلف وفاء، وأما قوله لعلي (فك الله رهانك كما فككت رهان أخيك) فإنه كان بحال لا يصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم فلما ضمنه فكه من ذلك أو ما في معناه، وقوله (برئ الميت منهما؟) أي صرت أنت المطالب بهما وهذا على وجه التأكيد لثبوت الحق في ذمته ووجوب الأداء عنه بدليل قوله حين أخبره بالقضاء (الآن بردت عليه جلده) وفارق الضمان الحوالة

(5/72)


فإن الضمان مشتق من الضم بين الذمتين في تعلق الحق بهما وثبوته فيهما والحوالة من التحول فيقتضي تحول الحق عن محله إلى ذمة المحال عليه وقولهم ان الدين الواحد لا يحل محلين قلنا يجوز تعلقه بمحلين على سبيل الاستيثاق كتعلق دين الرهن به وبذمة الراهن كذلك هذا (مسألة) (فإن برئت ذمة المضمون عنه برئ الضامن) متى برئت ذمة المضمون بقضاء أو إبراء برئت ذمة الضامن لا نعلم فيه خلافا لأنه بيع ولأنه وثيقة فإذا برئ الأصل زالت الوثيقة كالرهن (مسألة) (وإن برى الضامن أو أقر ببراءته لم يبرأ المضمون عنه لأنه أصل فلا يبرأ بإبراء التبع ولأنه وثيقة انحلت من غير استيفاء الدين منها فلم تبرأ ذمة الأصل كالرهن إذا انفسخ من غير استيفاء وأيهما قضى الحق برئا جميعاً من المضمون له لأنه حق واحد فإذا استوفي مرة زال تعلقه بهما كما لو استوفى الحق الذي به رهن، وإن أحال أحدهما الغريم برئا جميعاً لأن الحوالة كالقضاء (فصل) ويجوز أن يضمن الحق عن الرجل الواحد اثنان أو أكثر سواء ضمن كل واحد جميعه أو جزأ منه فإن ضمن كل واحد منهم جميعه برئ كل واحد منهم بأداء أحدهم وإن أبرأ المضمون عنه برئ الجميع لأنهم فروع له وإن ابرأ أحد الضامنين برئ واحده لأنهم غير فروع له فلم يبرؤا ببراءته كالمضمون عنه وان ضمن أحد هم صاحب لم يجز لأن الحق ثبت في ذمته بضمانه الأصلي فلا يجوز أن يثبت ثانياً ولأنه أصل فيه بالضمان فلا يجوز أن يصير فيه فرعاً، ولو تكفل بالرجل الواحد اثنان جازو يجوز أن يكفل كل واحد

(5/73)


من الكفيلين صاحبه صاحبه لأن الكفالة ببدنه لا بما في ذمته وأي الكفيلين أخضر المكفول به برئ وبرئ صاحبه من الكفالة لأنه فرعه ولم يبرأ من إحضار المكفول به لأنه أصل في ذك وإن كفل المكفول به الكفيل لم يجز لأنه أصل له في الكفالة فلم يجز أن يصير فرعاً فيما كفل به وإن كفل به في غيره جاز.
(مسألة) (ولو ضمن ذمي لذمي عن ذمي خمراً فأسلم المضمون له أو المضمون عنه برئ هو والضامن معاً)
لانه برئ من الخمر الذي ضمن عنه إذ لا يجوز وجوب خمر على مسلم وإذا برئ المضمون عنه برئ الضامن لأنه فرعه، وإن أسلم المضمون له برئ أيضاً لأنه ليس للمسلم المطالبة بثمن الخمر لكونه لاقيمة له في الاسلام فإن أسلم وحده برئ ولم يبرأ المضمون عنه لأنه أصل فلم يبرأ ببراءة فرعه كما لو أبرأه المضمون له (مسألة) (ولا يصح الامن جائز التصرف) لا يصح لا لضمان الاممن يصح تصرفه في ماله رجلا كان أو امرأة لأنه عقد يقصد به المال فصح من المرأة كالبيع.
(مسألة) (ولا يصح من صبي ولا مجنون ولاسفيه ولامن عبد بغير إذن سيده وعنه يصح ويتبع به بعد العتق وإن ضمن بإذن سيده صح وهل يتعلق برقبته أو ذمة سيده؟ على روايتين)

(5/74)


لا يصح الضمان من مجنون ولا مبرسم ولا صبي غير مميز بغير خلاف لأنه إيجاب مال فلم يصح منهم كالنذر والإقرار، ولا يصح من السفيه المحجور عليه وهو قول الشافعي وقال القاضي يصح ويتبع به بعد فك الحجر عنه لأن من أصلنا أن إقراره صحيح يتبع به بعد فلك الحجر عنه كذلك ضمانه والأول أولى لأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح منه كالبيع والشراء وأما الاقرار فلنا فيه منع وإن سلم فالفرق بينهما أن الإقرار إخبار بحق سابق وأما الصبي المميز فلا يصح ضمانه وهو قول الشافعي وخرج أصحابنا صحته على الروايتين في صحة إقراره وتصرفه بإذن وليه، ولا يصح هذا الجمع لان هذا التزام مال لا فائدة له فيه فلم يصح كالتبرع والنذر بخلاف البيع، وإن اختلفا في وقت الضمان بعد بلوغه فقال الصبي قبل بلوغي وقال المضمون له بعد البلوغ فقال القاضي قياس قول أحمد أن القول قول المضمون له لأن معه سلامة العقد فأشبه ما لو اختلفا في شرط فاسد ويحتمل أن القول قول الضامن لأن الأصل عدم البلوغ وعدم وجوب الحق عليه، وهذا قول الشافعي ولا يشبه هذا ما إذا اختلفا في شرط فاسد لأن المختلفين ثم متفقان على أهلية التصرف والظاهر إنهما لا يتصرفان إلا تصرفاً صحيحاً فكان قول مدعي الصحة وههنا في أهلية التصرف وليس مع من يدعي اهلية ظاهر يستند
إليه فلم ترجح دعواه، والحكم فيمن عرف له حال جنون كالحكم في الصبي وإن لم يعرف له حال

(5/75)


جنون فالقول قول المضمون له لأن الأصل عدمه، وأما المحجور عليه لفلس فيصح ضمانه ويتبع به بعد فك الحجر عنه لأنه من أهل التصرف والحجر عليه في ماله لا في ذمته فهو كتصرف الراهن فيما عدا الرهن، فأما العبد فلا يصح ضمانه بغير إذن سيده سواء كان مأذوناً له في التجارة أولا، وبهذا قال ابن أبي ليلى والثوري وابو حنيفة، ويحتمل أن يصح ويتبع به بعد العتق وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه من أهل التصرف فصح تصرفه بما لا ضرر فيه على السيد كالإقرار بالإتلاف ولنا أنه عقد تضمن إيجاب فلم يصح بغير إذن السيد كالنكاح وقال أبو ثور إن كان من جهة التجارة جاز وإلا لم يجز فإن ضمن بإذن سيده صح لأن سيده لو أذن في التصرف صح قال القاضي وقياس المذهب تعلق المال برقبته لأنه دين لزمه بفعله فتعلق برقبته كارش جنايته وقال ابن عقيل ظاهر المذهب وقياسه أنه يتعلق بذمة السيد.
وقد ذكر شيخنا هنا روايتين وكذلك ذكره أبو الخطاب كاستدانته بإذن سيده ونسذكر ذلك إن شاء الله تعالى، فإن أذن له سيده في الضمان ليكون القضاء من

(5/76)


المال الذي في يده صح ويكون ما في ذمته متعلقا بالمال الذي ى في يد العبد كتعلق حق الجناية برقبة الجاني كما لو قال الحر لك هذا الدين على أن تأخذ من مالي هذا صح (فصل) ولا يصح ضمان المكاتب بغير إذن سيده كالقن لأنه تبرع بالتزام مال أشبه نذر الصدقة بمال معين ويحتمل أن يصح ويتبع به بعد عتقه كقولنا في العبد وإن ضمن بإذنه ففيه وجهان (أحدهما لا يصح أيضاً لأنه ربما أدى الى تفويت الحرية (والثاني) يصح لأن الحق لهما لا يخرج عنهما فأما المريض فإن كان مرضه غير مخوف أو لم يتصل به الموت فهو كالصحيح وإن كان مرض الموت المخوف فحكم ضمانه حكم تبرعه يحسب من ثلثه لأنه تبرع بالتزام مال لا يلزمه ولم يأخذ عنه عوضاً أشبه الهبة، وإذا فهمت إشارة الأخرس صح ضمانه لا نه يصح بيعه وإقراره وتبرعه أشبه الباطن، ولا يثبت الضمان بكتابته

(5/77)


منفردة عن إشارة يفهم بها أنه قصد الضمان لأنه قد يكتب عبثاً أو تجربة قلم فلم يثبت الضمان به مع الإحتمال ومن لاتفهم إشارته لا يصح مانه لأنه لا يدرى بضمانه وكذلك سائر تصرفاته (مسألة) (ولا يصح إلا برضى الضامن ولا يعتبر رضى المضمون له ولا المضمون عنه ولا معرفة الضامن لها) لا يصح الضمان إلا برضى الضامن فإن أكره عليه لم يصح لأنه التزام مال فلم يصح بغير رضا الملتزم كالنذر ولا يعتبر رضا المضمون له وقال أبو حنيفة ومحمد يعتبر لأنه إثبات مال لآدمي فلم يثبت إلا برضاه أو رضا من ينو ب عنه كالبيع والشراء وعن أصحاب الشافعي كالمذهبين ولنا أن أبا قتادة ضمن من غير رضا المضمون له ولا المضمون عنه فأجاره النبئ صلى الله عليه وسلم

(5/78)


ولأنها وثيقة لا يعتبر فيها قبض فأشبهت الشهادة ولأنه ضمان دين فأشبه ضمان بعض الورثة دين الميت للغائب وقد سلموه، ولا يعبر رضى المضمون حديث أبي قتادة، ولا يعتبر ان يعرفهما الضامن وقال القاضي يعتبر معرفتهما لعيلم هل المضمون عنه أهل لا صطناع المعروف اليه أولاً وليعرف المضمون له فيؤدي اليه وذكر وجهاً آخر أنه يعتبر معرفة المضمون له لذلك ولا تعتبر معرفة المضمون عنه لأنه لا معاملة بينه وبينه ولا صحاب الشافعي ثلاثة أوجه نحو هذا ولنا حديث علي وأبي قتادة فإنهما ضمنا لمن لم يعرفا وعن لم يعرفا ولأنه تبرع بالتزام مال فلم تعتبر معرفة من يتبرع له به كالنذر

(5/79)


(مسألة) (ولا يعتبر كون الحق معلوماً ولا واجباً إذا كان مآله الى الوجوب فلو قال ضمنت لك ما على فلان أو ما تداينه به صح) يصح ضمان المجهول فمتى قال أنا ضامن لك ما على فلان أو ما تقوم به البينة أو ما يقر به لك أو ما يخرج في روز ما نجك صح الضمان، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وقال الثوري والليث وابن أبي ليلى والشافعي وابن المنذر لا يصح لأنه التزام مال فلم يصح مجهولا كالثمن.
ولنا قول الله تعالى (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) وحمل البعير غير معلوم لأن حمل البعير مختلف باختلافه وعموم قوله عليه السلام (الزعيم غارم) ولأنه التزام حق في الذمة من غير معاوضة فصح في المجهول كالنذر والإقرار ولأنه يصح تعليقه بغرر وخطر وهو ضمان العهدة، وإذا قال ألق متاعك

(5/80)


في البحر وعلي ضمانه أو قال إدفع ثيابك الى هذا الرقاء وعلي ضمانها فصح في المجهول كالعتق والطلاق (فصل) ويصح ضمان ما لم يجبفلو قال ما أعطيت فلاناً فهو علي صح، والخلاف في هذه المسألة كالتي قبلها ودليل القولين ما ذكرنا، قد قال في هذه المسألة الضمان ضم ذمة إلى ذمة في التزام الدين فإذا لم يكن على المضمون عنه شئ لم يوجد ضم ولا يكون ضامناً قلنا: قد ضم ذمته الى ذمة المضمون عنه في أنه يلزمه ما يلزمه وإن ما يثبت مضمونة يثبت في ذمته وهذا كاف وقد سلموا ضمان ما يلقيه في البحر قبل وجوبه بقوله إلق مناعك في البحر وعلي ضمانه وسلم أصحاب الشافعي في أحد الوجهين ضمان الجعل في الجعالة قبل العمل وما وجب شئ بعد (مسألة) (ويصح ضمان دين الضامن) نحو أن يضمن الضامن ضامن آخر لأنه دين لازم في ذمته فصح ضمانه كسائر الديون ويثبت

(5/81)


الحق في ذمم الثلاثة أيهم برئت ذممهم كلها لأنه حق واحد فإذا قضي مرة سقط فلم يجب مرة أخرى، وإن أبرأ الغريم المضمون عنه الضامنان لانهما فرغ وان أبرئ الضامن الاول برئ الضامنان لذلك ولم يبرأ المضمون عنه لما تقدم وإن ابرئ الضامن الثاني برئ وحده، ومتى حصلت براءة الذمة بالإبراء فلا رجوع فيها لأن الرجوع مع الغرء وليس في الإبراء غرم والكفالة كالضمان في هذا المعنى.
(فصل) وإن ضمن المضمون عنه الضامن أو تكلفل المكفول عنه الكفيل لم يصح لأن الضامن يقتضي الزامه الحق في ذمته والحق لازم له فلا يتصور الزامه ثابيا ولأنه أصل في الدين فلا يجوز أن يصير فرعاً فيه فإن ضمن عنه ديناً آخر أو تكفل به في حق آخر جاز لعدم ما ذكرنا
(مسألة) (ويصح ضمان دين الميت المفلس وغيره ولا تبرأ ذمته قبل القضاء في أصح الروايتين)

(5/82)


يصح الضمان عن كل غريم وجب عليه حق حياً كان أو ميتاً مليئاً أو مفلساً وبه قال أكثر العلماء وقال أبو حنيفة لا يصح ضمان دين الميت إلا أن يخلف وفاء فإن خلف بعض الوفاء صح ضمانه بقدر ما خلف لأنه دين صاقط فلم يصح ضمانه كما لو سقط بالإبراء ولأن ذمته قد خربت خراباً لا يعمر بعده فلم يبق فيه دين والضمان ضم ذمة إلى ذمة.
ولنا حديث أبي قتادة فإنهما ضمنا دين ميت لم يخلف وفاء وقد حضهم النبي صلى الله عليه وسلم على ضمانه في حديث أبي قتادة بقوله (الاقام أحدكم فضمنه) وهذا صريح في المسألة ولأنه دين ثابت فصح ضمانة كما لو خلف وفاء.
ودليل ثبوته أنه لو تبرع رجل بقضاء دينه جاز لصاحب الحق اقتضاؤه ولو ضمنه حياثم مات لم يبرأ منه الضامن ولو برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن وفي هذا انفصال عما ذكروه.
وإذا ثبت صحة ضمان دين الميت فإن ذمته لا تبرأ من الدين قبل القضاء في إحدى

(5/83)


الروايتين لقول النبي صلى الله عليه وسلم (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبا قتادة عن الدينارين الذين ضمنهما فقال قد قضيتهما فقال (الآن بردت جلدته) رواه الإمام أحمد ولأنه وثيقة بدين فلم يسقط قبل القضاء كالرهن وكالشهادة والثانية يبرأ بمرجد الضمان نص عليه أحمد في رواية يوسف بن موسى لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة (وبرئ الميت منهما) قال نعم وقد ذكر نا ذلك (فصل) ويصح الضمان في جميع الحقوق المالية الواجبة والتي تؤول إلى الوجوب كثمن المبيع في مدة الخيار وبعده والأجرة والمهر قبل الدخول وبعده ولأن هذه الحقوق لازمة وجواز سقوطها لا يمنع صحة ضمانها كالثمن في المبيع بعد انقضاء الخيار يجوز أن يسقط بالرد بالعيب وبالمقايلة وهذا مذهب الشافعي (مسألة) (ويصح ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري وعن المشتري للبائع) فضمانه على المشتري هوان يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه، وإن ظهر فيه عيب أو استحق رجع بذلك على الضامن
وضمانه عن البائع للمشتري هو أن يضمن عن البائع الثمن متى خرج المبيع متسحقا أو رد بعيب أو أرش العيب، فضمان العهدة في الموضعين هو ضمان الثمن أو جزء منه عن أحدهما للآخر، والعهدة الكتاب الذي تكتب فيه وثيقة البيع ويذكر فيه الثمن فعبر به عن الثمن الذي يضمنه، وممن أجاز ضمان العهدة في الجملة أبو حنيفة ومالك والشافعي ومنع منه بعض أصحابه لكونه ضمان ما لم يجب وضمان مجهول وضمان عين وقد ثبت جواز الضمان في ذلك كله ولأن الحاجة تدعوا إلى الوثيقة على البائع، والوثائق ثلاثة الشهادة والرهن والضمان، فأما الشهادة فلا يستوفى منها الحق وأما الرهن فلا يجوز في ذلك بالإجماع لأنه يؤدي إلى أن يبقى أبداً مرهوناً فلم يبق إلا الضمان ولأنه لا يضمن إلا ما كان واجباً حال العقد ومتى كان كذلك فقد ضمن ما وجب حين العقد والجهالة منتفية لأنه ضمن الجملة فإذا خرج بعضه مستحقاً لزمه بعض ما ضمنه، إذا ثبت هذا فإنه يصح ضمان العهدة عن البائع للمشتري قبل قبض الثمن

(5/84)


وبعده.
وقال الشافعي إنما يصح بعد القبض لأنه قبل القبض لو خرج مستحقاً لم يجب على البائع شئ وهذا ينبني على ضمان ما لم يجب إذا كان مفضياً الى الوجوب كالجعالة وسنذكرها، وألفاظ ضمان عهدة المبيع قوله ضمنت عهدته أو تمثه أو دركه أو يقول للمشتري ضمنت خلاصك منه أو متى خرج المبيع مستحقاً فقد ضمنت لك الثمن وحكي عن أبي يوسف أنه إذا قال ضمنت عهدته أو ضمنت لك العهدة لم يصح لأن العهدة الصك بالابتياع كذا فسره أهل اللغة فلا يصح ضمانه للمشتري لأنه ملكه وليس بصحيح لأن العهدة في العرف عبارة عن الدرك وضمان الثمن والمطلق يحمل على الأسماء العرفية كالرواية تحمل عند إطلاقها على المزادة لأعلى المحل وإن كان الموضوع لغة.
فأما إن ضمن له خلاص المبيع فقال أبو بكر هو باطل لأنه إذا خرج حراً أو مستحقاً لم يستطع تخليصه ولا يحل وقد قال أحمد في رجل باع عبداً أو أمة ومضن له الخلاص فقال كيف يستطيع الخلاص إذا خرج حراً فإن ضمن عهدة المبيع وخلاصه بطل في الخلاص، وتنبني صحته في العهدة على تفريق الصفقة.
إذا ثبت صحة ضمان العهدة فالكلام فيما يلزم الضامن فنقول استحقاق رجوع المشتري بالثمن إما أن يكون بسبب حادث بعد العقد أو مقارن له فأما الحادث فمثل تلف المكيل والموزون في يد البائع أو بغصب من يده أو يتقايلان
فإن المشتري يرجع على البائع دون الضامن لأن هذا لم يكن موجوداً حال العقد وإنما ضمن الاستحقاق الموجود حال العقد ويحتمل أن يرجع به على الضامن لأن ضمان ما لم يجب جائز وهذا منه، وأما إن كان بسبب مقارن نظر نا فإن كان بسبب لا تفريط من البائع فيه كأخذه بالشفعة فإن المشتري يأخذ الثمن من الشفيع ولا يرجع على البائع ولا الضامن ومتى لم يجب على المضمون عنه لم يجب على الضامن بطريق الأولى.
فأما إن كان زوال ملكه عن المبيع بسبب مقارن لتفريط من البائع باستحقاق أو حرية أورد بعيب قديم فله الرجوع لعى الضامن وهذا ضمان العهدة، وإن أراد أخذ أرش العيب رجع على الضامن أيضاً لأنه إذا لزمه كل الثمن لزمه بعضه إذا استحق ذلك على المضمون عنه وسواء ظهر

(5/85)


كل المبيع متسحقا أو بعضه لأنه إذا ظهر بعضه مستحقاً بطل العقد في الجميع في إحدى الروايتين فقد خرجت العين كلها من يده بسبب الإستحقاق، وعلى الرواية الأخرى يبطل في البعض المستحق وله رد الجميع فإن ردها فهو كما لو استحقت كلها وإن أمسك بعضها فله المطالبة بالأرش كما لو وجدها الكفالة لأنه لا يلزم البائع فلا يلزم الكفيل مالا يلزم الأصل، وإن ضمن للمشتري قيمة ما يحدث في المبيع من بناء أو غراس صح سواء ضمنه البائع أو أجنبيي فإذا بنى أو غرس فاستحق المبيع رجع المشتري على الضامن بقيمة ما تلف أو نقص وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يصح لأنه ضمان مجهول وضمان ما لم يجب وقد بيناه جوازه (مسألة) (ولا يصح ضمان دين الكتابة في أصح الروايتين) وهو قول الشافعي وأكثر أهل العلم والأخرى يصح لأنه دين على المكاتب فصح ضمانه كسائر ديونه والأولى أصح لأنه ليس بلازم ولا مآله إلى اللزوم لأن للمكاتب تعجيز نفسه والامتناع من الأداء فإذا لم يلزم الأصل فالضامن أولى (مسألة) (ولا يصح ضمان الأمانات كالوديعة ونحوها إلا أن يضمن التعدي فيها) أما الأمانات كالوديعة والعين المؤجرة والشركة والمضاربة والعين المدفوعة الى الخياط والقصار فإن ضمنها من غير تعد فيها لم يصح لأنها غير مضمونة على صاحب اليد فكذلك على ضامنه وإن ضمن
التعدي فيها فظاهر كلام أحمد رحمه الله تعالى صحة ضمانها فإنه قال في رواية الأثرم في رجل يتقبل من الناس الثياب فقال له رجل ادفع اليه ثيابك وأنا ضامن فقال هو ضامن لما دفعه إليه يعني إذا تعدى أو تلف بفعله، فعلى هذا إن تلف بغير فعله ولا تفريط منه فلا شئ على الضامن وإن تلف بفعله أو تفريط لزمه ضامنه أيضاً لأنها مضمونة على من هي في يده فهي كالغصوب والعواري وهذا في الحقيقة ضمان ما لم يجب وقد ذكرناه

(5/86)


(مسألة) (فأما الأعيان المضمونة كالغصوب والعواري والمقبوض على وجه السوم فيصح ضمانها) وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وقال في الآخر لا يصح لأن الأعيان غير ثابتة في الذمة فإنما يضمن ما يثبت في الذمة ووصفنا لما بالضمان إنما معناه أنه يلزم قيمتها عند التلف والقيمة مجهولة ولنا أنها مضمونة على من هي في يده فصح ضمانها كالحقوق الثابتة في الذمة، وقولهم أن الأعيان لا تثبت في الذمة قلنا الضمان في الحقيقة إنما هو ضمان استنقاذها وردها والتزام تحصيلها أو قيمتها عند تلفها وهذا مما يصح ضمانه كعهدة المبيع فإنه يصح وهي في الحقيقة التزام رد الثمن أو عوضه إن ظهر بالمبيع عيب أو استحق.
(فصل) ويصح ضمان الجعل في الجعالة وفي المسابقة والمناضلة وقال أصحاب الشافعي لا يصح ضمانه في أحد الوجهين لأنه لا يؤول إلى اللزوم أشبه مال الكتابة ولنا قول الله تعالى (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) ولأنه يؤول إلى اللزوم إذا عمل العمل وإنما الذي لا يلزم العمل والمال يللزم بوجوده والضمان للمال دون العمل، ويصح ضمان أرش الجناية سواء كان نقوداً كقيم المتلفات أو حيوانا كاليات وقال أصحاب الشافعي لا يصح ضمان الحيوان الواجب فيها لأنه مجهول وقد مضى الدليل على صحة ضمان المجهول ولأن الإبل الواجبة في الدية معلومة الاسنان والعدد وجهالة اللون وغيره من الصفات الباقية لا تضر لأنه إنما يلزمه أدنى لون وصفة فيحصل معلومة وكذلك غيرها من الحيوان ولأن جهل ذلك لا يمنع وجوبه بإتلاف فلم يمنع وجوبه بالإلتزام ويصح ضمان نفقة الزوجة سواء كانت نفقة يومها أو مستقبلة لأن نفقة اليوم واجبة والمستقبلة مآلها
الى اللزوم ويلزمه ما يلزم الزوج في قياس المذهب، وقال القاضي: إذا ضمن نفقة المستقبل لميلزمه إلا نفقة المعسر لأن الزيادة على ذلك تسقط بالإعسار، وهذا مذهب الشافعي على القول الذي قال فيه يصح ضمانها.
ولنا أنه يصح ضمان الجعالة والصداق قبل الدخول والمبيع في مدة الخيار.
فأما النفقة في الماضي

(5/87)


فإن كانت واجبة بحكم حاكم أو قلنا بوجوبها بدون حكمه صح ضمانها وإلا فلا وفي صحة ضمان السلم اختلاف نذكره في بابه.
(مسألة) (وإن قضى الضامن الدين متبرعا لم يرجع بشئ لأنه تطوع بذلك أشبه الصدقة وسواء ضمن بإذنه أو بغير إذنه (مسألة) (وإن نوى الرجوع وكان الضمان والقضاء بغير إذن المضمون عنه فهل يرجع؟ على روايتين وإن أذن له في أحدهما فله الرجوع باقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين) وجملة ذلك أن الضامن متى أدى الدين بينة الرجوع لم يخل من أربعة اقسام (أحدها) أن يضمن بإذن المضمون عنه ويؤدي بأمره فإنه يرجع عليه سواء قال أضمن عني وأد عني أو أطلق، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف، وقال ابو حنيفة ومحمد إن قال أضمن عني وانقد عني رجع عليه وإن قال أنقد هذا لم يرجع عليه إلا أن يكون مخالطاً له يستقرض منه ويودع عنده لأن قوله أضمن عني وانقد عني اقراره منه بالحق وإذا أطلق صار كأنه قال هب لهذا أو تطوع وإذا كان مخالطاله رجع استحسانا لانه قدر يأمر مخالطه بالنقد عنه ولنا أنه ضمن ودفع بأمره فأشبه مالو كان مخالطاً له أو قال أضمن عني وما ذكراه ليس بصحيح لأنه إذا أمره بالضمان لا يكون إلا لما هو عليه وأمره بالنقد بعد ذلك ينصرف الى ما ضمنه بدليل المخالطة له فيجب عليه أداء ما ادى عنه كما لو صحربه (الثاني) ضمن بأمره وقضى بغير أمره فله الرجوع أيضاً وبه قال مالك والشافعي في أحد الوحوه عنه، والوجه الثاني لا يرجع لأنه دفع بغير أمره أشبه مالو تبرع، الوجه الثالث أنه إن تعذر الرجوع
على المضمون عنه فدفع ما عليه رجع وإلا فلا لأنه تبرع بالدفع

(5/88)


ولنا أنه إذا أذن في الضمان تضمن ذلك إذنه في الإداء لأن الضمان يوجب عليه الإداء فرجع عليه كما لو أذن في الأداء صريحاً (الثالث) ضمن بغير أمره وقضى بأمره فله الرجوع أيضاً وظاهر مذهب الشافعي أنه لا يرجع لأن امره بالقضاء انصرف الى ما وجب بضمانه ولنا أنه أدى دينه بامرمه فرجع عليه كما لو لم يكن ضامناً أو كما لو ضمن بأمره، قولهم إن إذنه في القضاء انصرف الى ما وجب بضمانه قلنا والواجب بضمانه إنما هو إداء دينه وليس هو شيئاً آخر فمتى أداه عنه بإذنه لزمه إعطاؤه بدله (الرابع) ضمن بغير أمره وقضى بغير أمره ففيه روايتان (إحداهما) يرجع وهو قول مالك وعبيد الله بن الحسن واسحاق (والثانية) لا يرجع بشئ وهو قول أبي حنيفة والشافعي وابن المنذر بدليل حديث علي وأبي قتادة فانهما لو كان يستحقان الرجوع على الميت صار الدين لهما فكانت ذمة الميت مشغولة بدينهما كاشتغالها بدين المضمون له ولم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه تبرع بذلك أشبه مالو علف دوابه وأطعم عبيده بغير أمره.
ووجه الأولى أنه قضاء مبرئ من دين واجب فكان من ضمان من هو عليه كالحاكم إذا قضى عنه عند امتناعه، فأما علي وأبو قتادة فإنهما تبرعا بالقضاء والضمان فإنهما قضيا دينه قصداً لتبرئة ذمته ليصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع علمهما أنه لم يترك وفاءه والمتبرع لا يرجع بشئ وإنما الخلاف في المحتسب بالرجوع (فصل) ويرع الضامن على المضمون عنه باقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين لأنه إن كان الأقل الدين فالزائد لم يكن واجباً فهو متبرع به وإن كان المقضي أقل فإنما يرجع بما غرم ولهذا لو أبرأه غريمه لم يرجع بشئ فإن دفع عن الدين عرضاً رجع بأقل الأمرين من قمته أو قدر الدين لما ذكرنا (فصل) ولو كان على رجلين مائة على كل واحد منهما نصفها وكل واحد ضامن عن صاحب ما عليه فضمن آخر عن أحدهما المائة بأمره وقضاها سقط الحق عن الجميع وله الرجوع على الذي ضمن عنه ولم ين له أن يرجع على الآخر بشئ في إحدى الروايتين لأنه لم يفضي عنه ولا أذن له في القضاء

(5/89)


فإذا رجع على الذي ضمن رجع على الآخر بنضفها إن كان ضمن عنه بإذنه لأنه ضمنها عنه بإذنه وقضاها ضامنه، والرواية الثانية له الرجوع على الآخر بالمائة لأنها وجبت له على من أداها عنه فملك الرجوع بها كالاصل (فصل) وإذا ضمن عن رجل بأمره فطولب الضامن فله مطالبة المضمون عنه بتخليصه لأنه لزمه الآداء عنه بأمره فكانت له المطالبة بتبرئة ذمته وإن لم يطالب الضامن لم يملك مطالبة المضمون عنه لأنه لما لم يكن له الرجوع بالدين قبل غرامته لم تكن له المطالبة قبل طلبه منه وفيه وجه آخر أن له المطالبة لأنه شغل ذمته بإذنه فكانت له المطالبة بتفريغها كما لو استعار عبداً فرهنه كان لسيده مطالبته بفكاكه وتفريغه من الرهن والأولى أولى.
ويفارق الضمان العارية لأن السيد يتضرر بتعويق منافع عبده المستعار فملك المطالبة بما يزيل الضرر عنه والضامن لا يبطل بالضمان شئ من منافعه فأما إن ضمن عنه بغير إذنه لم يملك مطالبة المضمون عنه قبل الآداء بحال لأنه لاحق له يطالب به ولا شغل ذمته بامره فأشبه الأجنبي، وقيل أن ينبني على الروايتين في رجوعه على المضمون عنه بما أدى عنه فإن قلنا لا يرجع فلا مطالبة له بحال وإن قلنا يرجع فحكمه حكم من ضمن عنه بأمره على ما مضى تفصيله (فصل) وإن ضمن الضامن آخر فقضى أحدهما الدين برئ الجميع فإن قضاه المضمون عنه لم يرجع على أحد وإن قضاه الضامن الأول رجع على المضمون عنه دون الضامن الثاني وإن قضاه الثاني رجع على الأول ثم رجع الأول على المضمون عنه إذا كان كل واحد منهما قد أذن لصاحبه فإن لم يكن إذن له ففي الرجوع روايتان، وإن أذن الأول للثاني ولم يأذن المضمون عنه أو إذن المضمون عنه لضامنه ولم يأذن الضامن لضامنه رجع المأذون له على من أذن له ولم يرجع على الآخر على إحدى الروايتين فإن أذن المضمون عنه للضامن الثاني في الضمان ولم يأذن له الضامن الأول رجع على المضمون عنه ولم يرجع على الضامن لأنه إنما يرجع على من أذن له دون غيره

(5/90)


(فصل) إذا كان له.
ألف على رجلين على كل واحد مهما نصفه وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه فابرأ الغريم أحدهما من الالف برئ منه ويرئ صاحبه من ضمانه وبقي عليه خمسمائة وإن قضاه أحدهما
خمسمائة أو أبرأه الغريم منها وعين القضاء بلفظه أو ببينة عن الأصل أو الضمان انصرف إليه وإن أطلق احتمل أن له صرفها الى ما شاء منهما كمن أخرج زكاة نصاب وله نصابان غائب وحاضر كان له صرفها الى ما شاء منهما واحتمال أن يكون نصفها عن الأصل ونصفها عن الضمان لأن إطلاق القضاء والإبراء ينصرف الى جملة ما في ذمته فيكون بينهما، والمعتبر في القضاء لفظ القاضي ونيته وفي الابراء لفظ المبرئ ونيته ومتى اختلفوا في ذلك فالقول قول من اعتبر لفظه ونيته (فصل) ولو ادعى ألفا على حاضر وغائب وإن كل واحد منهما ضامن عن صاحبه فاعترف الحاضر بذلك فله أخذ الألف منه فإن قدم الغائب فاعترف رجع عليه صاحبه بنصفه وإن أنكر فالقول قوله مع يمينه وإن كان الحاضر أنكر فالقول قوله مع يمينه، فإن قامت عليه بينة فاستوفى الألف منه لم يرجع على الغائب بشئ لأنه بإنكاره معترف أنه لا حق له عليه وإنما المدعي ظلمه وإن اعترف الغائب وعاد الحاضر عن إنكاره فله الإستيفاء منه لأنه يدعي عليه حقاً يعترف له به فجاز له أخذه، وإن لم يقم على الحاضر بينة حلف وبرئ فإذا قدم الغائب فإن أنكر وحلف برئ فإن اعترف لزمه دفع الألف وقال بعض أصحاب الشافعي لا يلزمه إلا خمس المائة الاصيلة دون المضمونة لأنها سقطت عن المضمون عنه بيمينه فتسقط عن ضامنه ولنا أنه مقربها وغريمه يدعيها واليمين انما أسقطت المطالبة عنه في الظاهر ولم تسقط عنه الحق الذي في ذمته بدليل أنه لو قامت عليه بينة بعد يمينه لزمه ولزم الضامن (مسألة) (وإن أنكر المضمون له القضاء وحلف لم يرجع الضامن على المضمون عنه سواء صدقه أو كذبه)

(5/91)


إذا ادعى الضامن انه قضى الدين فأنكر المضمون له ولابينة له فالقول قول المضمون له لأنه ادعى تسليم المال إلى من لم يأمنه فكان القول قول المنكر، وله مطالبة الضامن والأصيل فإن رجع على المضمون عنه فهل يرجع الضامن بما قضاه عنه؟ ينظر فإن لم يعترف له بالقضاء لم يرجع عليه وإن اعترف له بالقضاء وكان قد قضى بغير بينة في غيبة المضمون عنه لم يرجع بشئ سواء صدقه المضمون عنه أو كذبه لأنه أذن في قضاء مبرئ ولم يوجد، وإن قضاه ببينة ثبت بها الحق لكن إن
كانت غائبة أو ميتة فللضامن الرجوع على المضمون عنه لأنه معترف أنه ما قصر وما فرط وإن قضاه ببينة مردودة بأمر ظاهر كالكفر والفسق الظاهر لم يرجع الضامن لتفريطه لأن هذه البينة كعدمها، وان ردت بأمر خفي كالسفق بالباطن أو كانت الشهادة مختلفا فيها مثل أن أشهد عبدين أو شاهداً واحداً فردت لذلك أو كان ميتاً أو غائباً احتمل أن يرجع لأنه قضى بينة شرعية والجرح والتعديل ليس له واحتمل أن لا يرجع لأنه أشهد من لا يثبت الحق بشهادته، وإن قضى بغير بينة بحضرة المضمون عنه ففيه وجهان أحدهما يرجع وهو مذهب الشافعي لأنه إذا كان حاضراً كان الإحتياط اليه فإذا ترك التحفظ كان التفريط منه دون الضامن والثاني لا يرجع لأنه قضى قضاء غير مبرئ فأشبه مالو قضى في غيبته (فصل) فإن رجع المضمون له على الضامن فاستوفى منه مرة ثابنة رجع على المضمون عنه بما قضاه ثانياً لأنه أبرأ به ذمته ظاهراً قال القاضي ويحتمل إن له الرجوع بالقضاء الأول دون الثاني لأن البراءة

(5/92)


حصلت به في الباطن، ولا صاحب الشافعي وجهان كهذين ووجه ثالث أنه لا يرجع بشئ بحال لأن الأول ما أبرأه ظاهراً والثاني ما أبرأه باطناً ولنا أن الضامن أدى عن المضمون عنه بإذنه إذا أبرأه ظاهراً وباطناً فرجع به كما لو قامت به بينة والوجه الاول أرحج لان القضاء المبرئ في الباطن ما أوجب الرجوع فيجب أن يجب بالباقي المبرئ في الظاهر.
(مسألة) (وإن اعترف المضمون له بالقضاء وأنكر المضمون عنه لم يسمع انكاره) لأن ما في ذمته حق للمضمون له فإذا اعترف بالقبض من الضامن فقد اعترف بأن الحق الذي له صار للضامن فيجب ان يقبل اقراره لكونه اقرارا في حق نفسه وفيه وجه آخر أنه لا يقبل لأن الضامن مدع لما يستحق به الرجوع على المضمون عنه وقول المضمون له شهادة على فعل نفسه فلا تقبل والأول أصح وشهادة الإنسان على فعل نفسه صحيحه كشهادة المرضعة بالرضاع، وقد ثبت ذلك بخبر عقبة بن الحارث.
(مسألة) (وإن قضى المؤجل قبل أجله لم يرجع حتى يحل)
لأنه لا يجب له أكثر مما كان للغريم ولأنه تبرع بالتعجيل، وإن أحاله كانت الحوالة بمنزلة تقبيضه ورجع بالأقل مما أحال به أو قدر الدين سواء قبض الغريم من المحال عليه أو أبرأه أو تعذر عليه الإستيفاء لفلس أو مطل لأن الحوالة كالإقباض

(5/93)


(مسألة) (وإن مات الضامن أو المضمون عنه فهل يحل الدين؟ على روايتين وأيهما حل عليه لم يحل على الآخر) وجملة ذلك أنه إذا ضمن ديناً مؤجلاً فمات أحدهما.
أما الضامن أو المضمون عنه فهل يحل الدين على الميت منهما؟ على روايتين يأتي ذكرهما.
فإن قلنا يحل على الميت لم يحل على الآخر لأن الدين لا يحل على شخص بموت غيره.
فان كان الميت المضمون عنه لم يستحق مطالبة الضامن قبل الأجل فإن قضاه قبل الأجل كان متبرعاً بتعجيل القضاء وهل له مطالبة المضمون عنه قبل الأجل؟ يخرج على الروايتين فيمن قضى الدين بغير إذن من هو عليه.
وإن كان الميت الضامن فاستوفى الغريم من تركته لم يكن لورثته مطالبة المضمون عنه حتى يحل الحق لأنه مؤجل عليه فلا يستحق مطالبته قبل أجله وهذا مذهب الشافعي وحكي زفران لهم مطالبته لأنه أدخله في ذلك مع علمه أنه يحل بموته ولنا أنه دين مؤجل فلا يجوز مطالبته به قبل الأجل كما لو لم يمت، وقولهم أدخله فيه قلنا إنما أدخله في المؤجل وحلوله بسبب من جهته فهو كما لو قضى قبل الأجل (مسألة) (ويصح ضمان الحال مؤجلا وإن ضمن المؤجل حالا لم يلزمه قبل أجله في أصح الوجهين)

(5/94)


إذا ضمن الدين الحال مؤجلاً صح ويكون حالا على المضمون عنه مؤجلاً على الضامن يملك مطالبة المضمون عنه دون الضامن، وبه قال الشافعي قال أحمد في رجل ضمن ما على فلان أنه يؤديه في ثلاث سنين فهو عليه ويؤديه كما ضمن، ووجه ذلك ماروى ابن عباس أن رجلاً لزم غريما له بعشرة دنانير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما عندي شئ أعطيكه فقال والله لا أفارقك حتى تعطيني أو تأتيني بحميل فجره إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (كم تستنظره؟) فقال شهراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(فأنا أحمل؟ فجاءه به في الوقت الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (من ابن أصبت هذا؟) قال من معدن قال (لا خير فيها) وقضاها عنه رواه ابن ماجه ولأنه ضمن مالاً بعقد مؤجل فكان مؤجلاً كالبيع، فإن قيل فعندكم الدين الحال لا يتأجل فكبف تأجل على الضامن؟ أم كيف يثبت في ذمة الضامن على غير الوصف الذي يتصف به في ذمة المضمون عنه؟ قلنا الحق يتأجل في ابتداء ثبوته بعقد وهذا ابتداء ثبوته في حق الضامن فإنه لم يكن ثابتاً عليه حالا ويجوز أن يخالف ما في ذمة الضامن الذي في ذمة المضمون عنه بدليل ما لو مات المضمون عنه والدين مؤجل.
إذا ثبت هذا فكان الدين حالا فضمنه الى شهرين لم يكن له مطالبة الضامن الى شهر فإن قضاه قبل الأجل فله الرجوع به في الحال على الرواية

(5/95)


التي تقول أنه إذا قضى دينه بغير إذنه رجع به لأن ما فيه ههنا أنه قضى بغير إذن وعلى الرواية الأخرى لا يرجع به قبل الأجل لأنه لم يأذن له في القضاء قبل ذلك (فصل) فإن كان الدين مؤجلاً فضمنه حالا لم يصر حالا ولم يلزمه أداؤه قبل أجله لأن الضامن فرع للمضمون عنه فلا يلزمه مالا يلزمه ولأن المضمون عنه لو ألزم نفسه تعجيل هذا الدين لم يلزمه تعجيله فبأن لا يلزم الضامن أولى ولأن الضمان التزام دين في الذمة فلا يجوز أن يلتزم ما يلزم المضمون عنه، فعلى هذا إن قضاه حالا لم يرجع به قبل أجله لأن ضمانه لم يغيره عن تأجيله، والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها ان الدين الحال ثابت في الذمة مستحق القضاء في جميع الزمان فإذا ضمنه مؤجلاً فقد التزم بعض ما يجب على المضمون عنه فصح كما لو كان الدين عشرة فضمن خمسة، وأما الدين المؤجل فلا يستحق قضاءه الاعند أجله فإذا ضمنه حالا التزم ما لم يجب على المضمون عنه أشبه مالو كان الدين عشرة فضمن عشرين، وفيه وجه آخر أنه يصح ضمان المؤجل حالا كما يضح ضمان الحال مؤجلا قياساً عليه وقد ذكرنا الفرق بينهما بما يمنع القياس إن شاء الله تعالى (فصل) ولا يدخل الضمان والكفالة خيار لأن الخيار جعل ليعرف ما فيه الحظ والضمين والكفيل

(5/96)


دخلاً على أنه لا حظ لهمما ولأنه عقد لا يفتقر إلى القبول فلم يدخله خيار كالنذر وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي ولا نعلم فيه خلافاً، فإن شرط الخيار فيها فقال القاضي عندي أن الكفالة تبطل وهو مذهب الشافعي لأنه شرط ينافي مقتضاها ففسدت كمما لو شرط أن لا يؤدي عن الكفول به وذلك لأن مقتضى الضمان والكفالة لزوم ما ضمنه أو كفل به والخيار ينافي ذلك ويحتمل أن يبطل الشرط وحده كما قلنا في الشروط الفاسدة في البيع وولو أقرانه كفل بشرط الخيار لزمته الكفالة وبطل الشرط لأنه وصل بإقراره ما يبطله فأشبه استثناء الكل (فصل) وإذا ضمن رجلان عن رجل الفاضمان اشتراك فقالا ضمنا لك الألف الذي على زيد فكل واحد منهما ضامن لنصفه وإن كانوا ثلاثة فكل واحد ضامن ثلثه، فإن قال واحد منهم أنا وهذان ضامنون لكل الألف فسكت الآخران فعليه ثلث الألف ولا شئ عليهما وإن قال كل واحد منهم كل واحد منا ضامن لك الألف فهذا ضمان اشتراك وانفراد وله مطالبة كل وحد منهم بالألف إن شاء وإن أدى أحدهم الألف كله أو حصته منه لم يرجع الاعلى المضمون عنه لأن كل واحد منهم ضامن أصلي وليس بضامن عن الضامن الآخر

(5/97)


(فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (الكفالة التزام إحضار المكفول به) وجملة ذلك أن الكفالة بالنفس صحيحة في قول أكثر أهل العلم منهم شريح ومالك والثوري والليث وأبو حنيفة، وقال الشافعي في بعض أقواله الكفالة بالبدن ضعيفة، واختلف أصحابه فمنهم من قال هي صحيحة قولاً واحداً وإنما أراد أنها ضعيفة في القياس وإن كانت ثابتة بالإجماع والأثر ومنهم من قال فيها قولان (أحدهما) أنها غير صحيحة لأنها كفالة بعين فلم تصح كالكفالة بالوجه وبدن الشاهدين ولنا قوله تعالى (قال لن أرسله معكم حتى تؤنون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بحكم) ولأن ما وجب تسليمه بعقد وجب تسليمه بعقد الكفالة كالمال (مسألة) (وتصح ببدن من عليه دين وبالأعيان المضمونة) تصح الكفالة ببدن كل من يلزه الضحور في مجلس الحكم بدين لازم سواء كان معلوماً أو كان مجهولاً، وقال بعض الشافعية لا يصح ممن عليه دين مجهول لأنه قد يتعذر إحضار المكفول فيلزمه
الدين ولا يمكنه طلبه منه لجهله ولنا أن الكفالة بالبدن لا بالدين والبدن معلوم فلا تبطل الكفالة لا حتمال عارض ولأنا قد

(5/98)


ببنا أن الضمان المجهول يصح وهو التزام المال ابتداء فالكفالة التي لا تتعلق بالمال ابتداء أولى، وتصح الكفالة بالصبي والمجنون لأنه قد يجب إحضارهما مجلس الحاكم للشهادة عليهما بالاتلاف واذن وليعما يقوم مقام إذنهما ويصح ببدن المحبوس والغائب وقال أبو حنيفة لا يصح ولنا أن كل وثيقة صحت مع الحضور صحت مع الغيبة والحبس كالرهن والضمان ولأن الحبس لا يمنع من التسليم لكون المحبوس يمكن تسليمه بأمر الحاكم وأمر من حبسه ثم يعيده الى الحبس بالحقين جميعاً والغائب يمضي اليه فيحضره إن كانت الغيبة غير منقطعة وهو أن يعلم خبره وإن لم يعلم خبره لزمه عليه قاله القاضي وقال في موضع آخر لا يلزمه عليه حتى تمضي مدة يمكنه الرد فيها ولا يفعل وتصح بالأعيان المضمونة كالغصوب والعواري لأنه يصح ضمانها وقد ذكرنا صحة ضمانها (مسألة) (ولا يصح ببدن من عليه حد ولا قصاص سواء كان حقاً لله تعالى كحد الزنا والسرقة أو لآدمي كحد القذف والقصاص) وهو قول العلماء منهم شريح والحسن واسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي والشافعي في حدود الله تعالى واختلف قوله في حدود الآدمي فقال في موضع لا كفالة في حد ولا لعان وقال

(5/99)


في موضع تجوز الكفالة بمن عليه حق أوحد لأنه حق لآدمي فصحت الكفالة به كسائر حقوق الآدميين ولنا ما روى عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا كفالة في حد) ولأنه حد فلم تصح الكفالة فيه كحدود الله تعالى، ولأن الكفالة استيثاق والحدود مبناها على الإسقاط والدرء بالشبهات فلا يدخل فيها الاستيثاق ولأنه حق لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه إحضار المكفول به فلا تصح الكفالة بمن هو عليه كحد الزنا (فصل) ولا تجوز الكفالة بالمكاتب من أجل دين الكتابة لأن الحضور لا يلزمه فلا تجوز
الكفالة به كدين الكتابة.
(مسألة) (ولا يصح بغير معين كأحد هذين) لأنه غير معلوم في الحال ولا في المآل فلا يمكن تسليمه (مسألة) (وإن كفل بجزء شائع من إنسان أو عضو أو كفل بإنسان على أنه ان جاء به وإلا فهو كفيل بآخر أو ضامن ما عليه صح في أحد الوجهين) أما إذا قال أنا كفيل بفلان أو بنفسه أو ببدنه أو بوجهه كان كفيلاً به فإن كفل برأسه أو كبده أو جزء لا تبقى الحياة بدونه أو بجزء شائع منه كثلثه أو ربعه صحت الكفالة لأنه لا يمكنه إحضار ذلك إلا بإحضاره كله، وقال القاضي تصح الكفالة ببعض البدن لان مالا يسري إذا حضر به عضو لم يصح كالبيع والإجارة، وإن تكفل بعضو تبقى الحياة بعد زواله كاليد والرجل ففيه وجهان: (أحدهما) تصح الكفالة اختاره أبو الخطاب وهو أحد الوحهين لا صحاب الشافعي لأنه لا يمكنه إحضار هذه الأعضاء على صفتها إلا بإحضار البدن كله أشبه الكفالة بوجهه ورأسه ولأنه حكم يتعلق بالجملة

(5/100)


فيثبت حكمه إذا أضيف الى البعض كالطلاق والعتاق (والثاني) لا يصح لأن تسليمه بدون تسليم الجملة ممكن مع بقائها.
(فصل) إذا تكفل بإنسان على أنه ان جاء به وإلا فهو كفيل بآخر أو ضامن ما عليه لم يصح عند القاضي فيهما لأن الأول مؤقت والثاني معلق على شرط، وقال أبو الخطاب: يصح فيهما لأنه ضمان أو كفالة فيصح تعليقه على شرط كضمان العهدة، فإن قال إن جئت به في وقت كذا وإلا فأنا كفيل ببدن فلان أو فأنا ضامن لك المال الذي على فلان أو قال إذا جاء زيد فأنا ضامن لك ما عليه أو إذا قدم الحاج فأنا كفيل بفلان أو قال أنا كفيل بفلان شهراً فقال القاضي لا تصح الكفالة، وهو مذهب الشافعي ومحمد ابن الحسن لأن ذلك خطر فلم يجز تعليق الضمان والكفالة به كمجئ المطر ولأنه إثبات حق لآدمي معين فلم يجز تعليقه على شرط ولا توقيته كالهبة.
وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب يصح، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف لأنه أضاف الضمان الى سبب الوجوب فيحب أن يصح كضمان الدرك والأول أقيس.
(فصل) وإن قال كفلت ببدن فلا على أن يبرأ فلان الكفيل أو على أن تبرئه من الكفالة لم يصح لأنه شرط شرطا لا يلزم الوفاء به فيكون فاسدا وتفسد به الكفالة ويحتمل أن يصح لأنه شرط تحويل الوثيقة التي على الكفيل إليه.
فعلى هذا لا تلزمه الكفالة إلا ان يبرئ المكفول له الكفيل الأول لأنه إنما كفل بهذا الشرط فلا تثبت كفالته بدون شرطه، وإن قال كفلت لك بهذا الغريم على أن تبرئني من الكفالة بفلان أو ضمنت لك هذا الدين بشرط أن تبرئني من ضمان الدين الآخر أو على أن تبرئني من الكفالة بفلان خرج فيه الوجهان أصحهما البطلان لأنه شرط فسخ عقد في عقد فلم يصح كالبيع بشرط فسخ سيع آخر وكذلك لو شرط في الكفالة

(5/101)


أو الضمان أن يتكفل المكفول به بآخر أو يضمن ديناً عليه أو يبيعه شيئاً عينه أو يؤجره داره صح لما ذكرنا.
(مسألة) (إلا برضا الكفيل وفي رضا المكفول به وجهان) يعتبر رضى الكفيل في صحة الكفالة لأنه لا يلزمه الحق ابتداء إلا برضاه، ولا يعتبر رضا المكفول له لأنها وثيقة له لا قبض فيها فصحت من غير رضاه كالشهادة ولأنها التزام حق له من غير عوض فلم يعتبر رضاه فيها كالنذر فأما رضا المكفول به ففيه وجهان (أحدهما) لا يعتبر كالضمان (الثاني) يعتبر وهو مذهب الشافعي لان مقصود ها إحضاره فإذا تكفل بغير ادنه لم يلزمه الحضور معه ولأنه يجعل لنفسه حقاً عليه وهو الحضور معه من غير رضاه فلم يجزكما لو ألزمه الدين وفارق الضمان فإن الضامن يقضي الحق ولايحتاج الى المضمون عنه (مسألة) ومتى أحصره وسلمه برئ إلا أن يحضره قبل الأجل وفي قبضه ضرر) وجملة ذالك أن الكفالة تصح حالة وموجلة كالضمان فإن اطلق انصرف الى الحلول لأن كل عقد يدخله الحلول إذا أطلق اقتضى تكفل حالا كان له مطالبته بإحضاره فإن أحضره وهناك يد حائله ظالمة لم يبرأ منه ولم يلزم المكفول له تسلمه لأنه لا يحصل له غرضه، وإن لم تكن يد حائلة لزمه قبوله فإن قبله برئ من الكفالة، وقال ابن أبي موسى لا يبرأ حتى يقول قد برئت اليك منه أو قد سلمته اليك أو قد أخرجت نفسي من كفالته، والصحيح الأول لأنه عقد على عمل فبرئ منه بالعمل المعقود عليه كالإجارة
فإن امتنع من تسلمه برئ لأنه أحضره ما يجب تسليمه عند غريمه وطلب منه تسلمه على وجه لا ضرر في قبضه فبرئ منه كالمسلم فيه وقال بعض أصحابنا إذا امتنع من تسلمه أشهد على امتناعه رجلين وبرئ لأنه

(5/102)


فعل ما وقع العقد على فعله فبرئ منه، وقال القاضي يرفعه الى الحاكم فيسلمه إليه فان لم يجد حاكما أشهد شاهدين على إحضاره، وامتناع المكفول له من قبوله والأول أصح فإن مع وجود صاحب الحق لا يلزمه دفعه إلى نائبه كحاكم أو غيره، وإن كانت الكفالة مؤجلة لم يلزم إحضاره قبل الأجل كالدين المؤجل فإذا حل الأجل فأحضره وسلمه برئ فإن أحضر قبل الأجل ولا ضرر في تسلمه لزمه، وإن كان فيه ضرر مثل أن تكون حجة الغريم غائبة أو لم يكن يوم مجلس الحاكم والدين مؤجل عليه لا يمكن اتقضاؤه منه أو قد وعده بالأنظار في تلك المدة لم يلزمه قبوله كمن سلم المسلم فيه قبل محله أو في غير مكانه.
(فصل) وإذا عين في الكفالة تسليمه في مكان فأحضره في غيره لم يبرأ من الكفالة، وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال القاضي إن أحضره بمكان آخر من البلد وسلمه برئ من الكفالة وقال بعض أصحابنا متى أحضره في أي مكان كان وفي ذلك الموضع سلطان برئ من الكفالة لكونه لا يمكنه الامتناع من مجلس الحاكم ويمكن إثبات الحجة فيه وقيل إن كان عليه ضرر في إحضاره بمكان آخر لم يبرأ الكفيل إذا أحضره فيه وإلا برئ كقولنا فيما إذا أحضره قبل الأجل ولأصحاب الشافعي اختلاف على نحو ما ذكرنا ولنا أنه سلم ما شرط تسليمه في مكان في غيره فلم يبرأ كما لو أحضر المسلم فيه في غير الموضع الذي شرطه ولأنه قد يسلم في موضع لا يقدر على إثبات الحجة فيه لغيبة شهوده أو غير ذلك وقد يهرب منه ولا يقدر على إمساكه ويفارق ما إذا سلمه قبل الأجل فإنه عجل الحق قبل أجله فزاده خيراً فمتى لم

(5/103)


يكن ضرر وجب قبوله فإن وقعت الكفالة مطلقة وجب تسليمه في مكان العقد كالسلم فإن سلمه في غيره فهو كتسليمه في غير المكان الذي عينه وإن كان المكفول به محبوساً لأن ذلك الحبس يمنعه استيفاء
حقه وإن كان محبوسا عندا الحاكم فسلمه اليه محبوسا لزمه تسليمه لأن حبس الحاكم لا يمنعه استيفاء حقه وإذا طالب الحاكم بإحضاره أحضره وحكم بينهما ثم يرده إلى الحبس فإن توجه عليه حق للمكفول له حبسه بالحق الأول وحق المكفول له (مسألة) (وإن مات المكفول به أو تلفت العين بفعل الله تعالى أو سلم نفسه برئ الكفيل) إذا مات المكفول به برئ الكفيل وسقطت الكفالة، وبه قال شريح والشعبي وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة والشافعي ويحتمل أن لا يسقط ويطالب بما عليه وهو قول الحكم ومالك والليث وحكي عن ابن شريح لأن الكفيل وثيقة بحق فإذا تعذرت من جهة من عليه الدين استوفي من الوثيقة كالرهن ولأنه تعذر إحضاره فلزم كفيله ما عليه كما لو غاب ولنا أن الحضور سقط عن المكفول به فبرئ الكفيل كما لو برئ من الدين ولأن ما التزمه من أجله سقط عن الاصل فبرئ الفرع كالضامن إذا قضى المضمون عنه الدين أو أبرئ ممن، وفارق ما إذا غاب فإن الحضور لم يسقط عنه وفارق الرهن فإنه غلق به المال فاستوفى منه وكذلك الحكم إن تلفت المكفول بها بفعل الله تعالى وإن سلم المكفول به نفسه برئ الكفيل لأنه أتى بما يلزم الكفيل لأجله وهو إحضار نفسه فبرئت ذمته كما لو قضى الدين (فصل) وإذا قال الكفيل قد برئ المكفول به من الدين وسقطت الكفالة أو قال لم يكن

(5/104)


عليه دين حين كفلته فأنكر المكفول له فالقول قوله لأن الأصل صحة الكفالة وبقاء الدين وعليه اليمين فإن نكل قضي عليه، ويحتمل أن لا يستحلف فيما إذا ادعى الكفيل أنه تكفل بمن لا دين عليه لأن الكفيل مكذب لنفسه فيما ادعاه فإن من كفل بشخص معترف بدينه في الظاهر والأول أولى لأن ما ادعاه محتمل (فصل) وإذا قال المكفول له للكفيل أبرأتك من الكفالة برئ لأنه حقه فسقط بإسقاطه كالدين، وإن قال قد برئت إلي منه أو قد رددته إلي برئ أيضاً لأنه معترف بوفاء الحق فهو كما لو اعترف بذلك في الضمان وكذلك إذا قال له برئت من الدين الذي كفلت به، ويبرأ الكفيل في هذه المواضع دون المكفول به ولا يكون افرارا بقبض الحق فيما إذا قال برئت من الدين الذي كفلت به والأول أصح لأنه
يمكن براءته بدون قبض الحق بإبراء المستحق أو موت المكفول به فأما إن قال للمكفول به أبر أتك عمالي قبلك من الحق أو برئت من الدين الذي قبلك فانه يبرأ من الحق وتزول الكفالة لانه لفظ يقتضي العموم في كل ما قبله وإن قال برئت من الدين الذي كفل به فلان برئ وبرئ كفيله (مسألة) (وإن تعذر إحضاره مع بقائه لزم الكفيل الدين أو عوض العين) متى تعذر إحضار المكفرل به مع حياته أو امتنع من إحضاره لزمه ما عليه وقال أكثرهم لا غرم عليه ولنا عموم قوله عليه الصلاة والسلام (الزعيم غارم) ولأنه أحد نوعي الكفالة فوجب بهما الغرم كالكفالة بالمال (مسألة) (وإن غاب أمهل الكفيل بقدر ما يمضي فيحضره فإن تعذر إحضاره ضمن ما عليه) إذا غاب المكفول به او ارتد ولحق بدار الحرب لم يؤخذ الكفيل بالحق حتى يمضي زمن يمكن المضي فيه وإعادته وقال ابن شبرمة يحبس في الحال لأن الحق قد توجه عليه.
ولنا أن الحق يعتبر في وجوب

(5/105)


أدائه إمكان التسليم وإن كان حالا كالدين فإذا مضت مدة يمكن إحضاره فيها ولم يحضره أو كانت الغيبة منقطعة لا يعلم خبره أو امتنع من إحضاره مع إمكانه أخذ بما عليه وقال أصحاب الشافعي إن كانت الغيبة منقطعة لا يعلم مكانه لم يطالب الكفيل بإحضاره ولم يلزمه شئ وإن امتنع من إحضاره مع إمكانه حبس وقد دللنا على وجوب الغرم في المسألة التي قبلها (فصل) وإن (.
كفل ألى أجل مجهول لم تصح الكفالة وهذا قول الشافعي لأنه ليس له وقت يستحق مطالبته فيه وهكذا الضمان وإن جعله إلى الحصاد والجذاذ والعطاء خرج على الوجهين كالأجل في البيع والأولى صحته ههنا لأنه تبرع من غير عوض جعل له أجلا لا يمنع من حصول المقصود منه فصح كالنذر وهكذا كل مجهول لا يمنع مقصود الكفالة، وقد روى منها عن أحمد في رجل كفل رجلا وقال إن جئت به في وقت كذا وإلا فما عليه علي فقال لا أدري ولكن إن قال ساعة كذا لزمه، فنص على تعيين الساعة وتوقف عن تعيين الوقت ولعله أراد وقتا متسعاً أو وقت شئ يحدث مثل وقت الحصاد ونحوه، فأما إن قال وقت طلوع الشمس أو نحو ذلك صح وإن قال إلى الغد أو الى شهر
كذا تعلق بأوله على ما ذكرنا في السلم.
فإن تكفل برجل الى أجل إن جاء به فيه والا لزمه ما عليه صح وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف، وقال محمد بن الحسن والشافعي لا تصح الكفالة ولا يلزمه ما عليه لأن هذا تعليق الضمان بخطر فلم يصح كما لو علقه بقدوم زيد ولنا أن هذا موجب الكفالة ومقتضاها فصح اشتراطه كما لو قال إن جئت به في وقت كذا والا فلك حبسي، وميبنى هذا الخلاف ههنا على اخلاف في أن هذا مقتضى الكفالة وقد دللنا عليه (مسألة) (وإذا طالب الكفيل المكفول به بالحضور معه لزمه ذلك إن كانت الكفالة بإذنه أو طالبه صاحب الحق بإحضاره وإلا فلا إذا كفل رجلا بإذنه إحضاره ليسلمه الى المكفول له لزمه الحضور معه لأنه شغل ذمته من

(5/106)


أجله اذنه فلزمه تخليصها كما لو استعار عبده فرهنه بإذنه فإن عليه تخليصه إذا طلبه سيده، وإن كانت بغير إذنه فإن طلبه المكفول له لزمه الحضور لأن حضوره حق للمكفول له وقد استناب الكفيل في ذلك وإن لم يطلبه المكفول له لم يلزمه الحضور لأنه لم يشغل ذمته وإنما الكفيل شغلها باختيار نفسه فلم يجز أن يثبت له بذلك حق على غيره، وإن قال له المكفول له احضر كفيلك كان توكيلاً في إحضاره ولزمه أن يحضر معه كما لو وكل غيره وإن قال أخرج من كفالتك احتمل أن يكون توكيلاً في إحضاره كاللفظ الأول واحتمل أن يكون مطالبة بالدين الذي عليه فلا يكون توكيلاً ولا يلزمه الحضور معه (فصل) وإذا قال رجل لآخر أضمن عن فلان أو أكفل بفلان ففعل كان الضمان والكفالة لازمين للمباشر دون الآمر لأنه كفل باختيار نفسه وإنما الأمر إرشاد وحث على فعل خير فلا يلزمه به شئ (فصل) ولو قال أعط فلانا ألفاً ففعل لم يرجع على ألآمر ولم يكن ذلك كفالة ولا ضمانا إلا أن يقول أعط عني وقال أبو حنيفة يرجع عليه إذا كان خليطاً له ولنا أنه لم يقل أعطه عني فلم يلزمه الضمان كما لو لم يكن خليطا ولا يلزم إذا كان له عليه مال فقال أعط فلانا حيث يلزمه لأنه لم يلزمه لا جل هذا القول بل لأن عليه حقا يلزمه أداؤه (فصل) ولو تكفل اثنان بواحد صح وأيهم قضى الدين برئ الآخر لما ذكرنا في الضمان وإن
سلم المكفول به نفسه برئ كفيلاه وإن أحضره أحد الكفيلين لم يبرأ الآخر لأن إحدى الوثيقتين انحلت من غير استيفاء فلم ننحل الأخرى كما لو أبرأ أحدهما أو انفك أحد الرهنين من غير قضاء الحق بخلاف ما إذا سلم المكفول به نفسه لأنه أصل لهما فإذا برئ الأصل مما تكفل به عنه برئ كفيلاه لأنهما فرعاه وكل واحد من الكفيلين ليس بفرع للآخر فلم يبرأ يبراءته وكذلك لو أبرأ المكفول به برئ كفيلاه ولو أبرئ أحد الكفيلين وحده لم يبرأ الآخر

(5/107)


(مسألة) (ولو تكفل واحد غريمالا ثنين فأبرأه أحدهما أو أحضره عند أحدهما لم يبرأ من الآخر) لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة عقدين فقد التزم إحضاره عن كل واحد منهما فإذا أحضره عند أحدهما برئ منه كما لو كان في عقدين وكما لو ضمن دينا لرجلين فوفا أحدهما حقه (فصل) وإذا كانت السفينة في البحر وفيها متاع فخيف غرقها فألقى بعض من فيها متاعه في البحر لتخف لم يرجع به على أحد سواء ألقاه محتسباً بالرجوع أو متبرعاً لأنه أتلف مال نفسه باختياره من غير ضمان، وإن قال له بعضهم ألق متاعك فألقاه فكذلك لأنه لم يكرهه ولا ضمن له فإن قال ألقه وعلي ضمانه فألقاه فعلى القائل الضمان ذكره أبو بكر لأن ضمان ما لم يجب صحيح، وإن قال ألقه وأنا وركبان السفينة ضمناء له ففعل فقال أبو بكر يضمنه القائل وحده إلا أن يتطوع بقيتهم، وقال القاضي إن كان ضمان إشتراك فليس عليه إلا ضمان حصته ولانه لم يضمن الجميع إنما ضمن حصته وأخير عن سائر ركبان السفينة بضمان سائره فلزمه حصته ولم يقبل قوله في حق الباقين وإن كان ضمان إشتراك انفرادبان يقول كل واحد منا ضامن لك متاعك أو قيمته لزم القائل ضمان الجميع وسواء قال هذا والباقون يسمعون فسكتوا أو قالوا لا نفعل أولم يسمعوا لأن سكوتهم لا يلزمهم به حق (فصل) قال منها سألت أحمد عن رجل له على رجل الف درهم فأقام بها كفيلين كل واحد منهما كفيل ضامن فأيهما شاء أخذه بحقه فأحال رب المال عليه رجلاً بحقه فقال يبرأ الكفيلان قال فإن مات الذي أحاله عليه بالحق ولم يترك شيئاً؟ قال لا شئ له ويذهب الألف

(5/108)