الشرح
الكبير على متن المقنع باب الحوالة
الحوالة ثابتة بالسنة والإجماع أما السنة فما روى أبو هريرة أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال (مطل الغني ظلم وإذا اتبع أحدكم على ملئ فليتبع) متفق
عليه وفي لفظ من (أحيل بحقه على ملئ فليحتل) وأجمع أهل العلم على جواز
الحوالة في الجملة، واشتقاقها من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة، وقد قيل إنها
بيع فإن المحيل يشتري ما في ذمته بماله في ذمة المحال عليه وجاز تأخير
القبض رخصة لأنه موضوع على الرفق فيدخلها خيار المجلس لذلك والصحيح أنها
عقد ارفاق منفد بنفسه ليس بمحمول على غيره لأنها لو كانت بيعاً لما جازت
لأنه بيع دين بدين ولما جاز التفرق قبل القبض لأنه بيع مال الربا بجنسه
ولجازت بلفظ البيع ولجازت بين جنسين كالبيع ولأن لفظها يشعر بالتحول لا
بالبيع فعلى هذا لا يدخلها خيار وتلزم بمجرد العقد وهذا أشبه بكلام أحمد
وأصوله، ولابدء فيها من محيل ومحتال ومحال عليه (مسألة) (والحوالة تنقل احق
من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه فلا يملك المحتال الرجوع عليه بحال
(5/54)
إذا صحت الحوالة برئت ذمة المحيل وانتقل
الحق إلى ذمة المحال عليه في قول عامة أهل العلم وروى عن الحسن أنه كان لا
يرى الحوالة براءة إلا أن يبرئه وعن زفر أنه قال لا تنقل الحق وأجراها مجرى
الضمان ولنا أن الحوالة مشتقة من تحويل الحق بخلاف الضمان فإنه مشتق من ضم
ذمة إلى ذمة فعلق على كل واحد مقتضاه وما دل عليه لفظه.
إذا ثبت ذلك فمتى رضي بها المحتال ولم يشترط اليسار لم يعد الحق إلى المحيل
أبداً سواء أمكن استيفاء الحق أو تعذر لمطل أو فلس أو موت أو غيره وبه قال
الليث والشافعي وأبو عبيد وابن المنذر وهو ظاهر كلام الخرقي، وقال شريح
والشعبي والنخعي متى أفلس أو مات رجع على صاحبه وقال أبو حنيفة يرجع عليه
في حالين إذا مات المحال عليه مفلساً وإذا جحده وحلف عليه عند الحاكم وقال
أبو يوسف ومحمد يرجع عليه في هاتين الحالتين وإذا
حجر عليه لفلس لأنه روي عن عثمان أنه سئل عن رجل أحيل بحقه فمات المحال
عليه مفلساً فقال يرجع بحقه لأنه لا توى على مال امرئ مسلم ولأنه عقد
معاوضة لم يسلم العوض فيه لأحد المتعاوضين فكان له الفسخ كما لو اعتاض بثوب
فلم يسلم إليه ولنا أن حزنا حد سعيد بن المسيب كان له على علي رضي الله عنه
دين فأحاله به فمات المحال
(5/55)
عليه فأخبره فقال اخترت علينا أبعدك الله
فأبعده بمجرد احتياله ولم يخبره إن له الرجوع ولأنها براءة من دين ليس فيها
قبض ممن هي عليه ولا ممن يدفع عنه فلم يكن فيها رجوع كما لو أبرأه من الدين
وحديث عثمان لم يصح يرويه خلد بن جعفر عن معاوية بن قرة عن عثمان ولم يصح
سماعه وقد روي أنه قال في حوالة أو كفالة وهذا يوجب التوقف ولو صح كان قول
علي مخالفاً له، وقولهم هو معاوضة لا يصح لأنه يفضي إلى بيع الدين بالدين
وهو منهي عنه ويقارق المعاوضة بالثوب لأن في ذلك قبضاً يقف استقرار العقد
عليه وههنا الحوالة بمنزلة القبض والاكان بيع دين بدين (مسألة) (ولا تصح
إلا بشروط ثلاثة (أحدها) أن يحيل على دين مستقر فإن أحال على مال الكتابة
أو السلم قبل قبضه أو الصداق قبل الدخول لم يصح وإن أحال المكاتب سيده أو
الزوج امرأته صح) لا تصح الحوالة على دين غير مستقر لأن مقتضاها إلزام
المحال عليه الدين مطلقاً ولا يثبت ذلك فيما هو بعرض السقوط ولا يعتبر ان
يحيل بدين مستقر إلا أن السلم لا تصح الحوالة به ولا عليه لأن دين السلم
ليس بمستقر لكونه متعرضاً للفسخ بانقطاع المسلم فيه ولا تصح الحوالة به
لأنها لا تصح إلا فيما يجوز أخذ العوض عنه ولا يجوز ذلك في السلم لقوله
عليه الصلاة والسلام (من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى
(5/56)
غيره فلا تصح الحوالة على المكاتب بمال
الكتابة لأنه غير مستقر لأن له أن يمتنع من أدائه ويسقط بعجزه وتصح الحوالة
عليه بدين غير دين الكتابة لأن حكمه حكم الأحرار في المداينات، وإن أحال
المكاتب سيده بنجم قد حل عليه صح وبرئت ذمة المكاتب بالحوالة ويكون ذلك
بمنزلة القبض وإن أحالت المرأة على زوجها بصداقها قبل الدخول لم يصح لأنه
غير مستقر يحتمل أن يسقط بانفساخ
النكاح بسبب من جهتها، وإن أحالها الزوج به صح لأن له تسليمه إليها وحوالته
به تقوم مقام تسليمه وإن أحالت به بعد الدخول صح لأنه مستقر، وإن أحال
البائع بالثمن على المشتري في مدة الخيار لم يصح في قياس ما ذكرنا وإن
أحاله المشتري به صح لأنه بمنزلة الوفاء قبل الاستقرار، وإن أحال البائع
بالثمن على المشتري ثم ظهر على عيب لم يتبين أن الحوالة كانت باطلة لأن
الثمن كان ثابتاً مستقراً والبيع كان لازماً وانما ثبت الجاز بعد العلم
بالعيب بالنسبة إلى المشتري، ويحتمل أن تبطل الحوالة لأن سبب الجواز عيب
المبيع وقد كان موجوداً وقت الحوالة.
وكل موضع أحال من عليه دين غير مستقر به ثم سقط الدين كالزوجة ينفسخ نكاحها
بسبب من جهتها أو المشتري يفسخ البيع ويرد المبيع فإن كان ذلك قبل القبض من
المحال عليه ففيه وجهان (أحدهما) تبطل الحوالة لعدم الفائدة في بقائها
ويرجع
(5/57)
المحيل بدينه على المحال عليه والثاني لا
تبطل لأن الحق انتقل عن المحيل فلم يعد إليه وثبت للمحتال فلم يزل عنه ولأن
الحوالة بمنزلة القبض فكأن المحيل أقبض المحتال فيرجع عليه به ويأخذ
المحتال من المحال عليه وسواء تعذر القبض من المحال عليه أو لم يتعذر وإن
كان بعد القبض لم تبطل وجها واحداً ويرجع المحيل على المحتال به (فصل) وإن
أحال من لادين عليه على من له عليه دين فهي وكالة يثبت فيها أحكامها وليست
بحوالة لأن الحوالة مأخوذة من تحويل الحق وانتقاله ولا حق ههنا ينتقل
ويتحول وإنما جازت الوكالة بلفظ الحوالة لاشتراكهما في استحقاق الوكيل
مطالبة من عليه الدين كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه وتحول ذلك إلى
الوكيل كتحوله إلى المحتال، وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه فليست
حوالة نص عليه أحمد فلا يلزم المحال عليه الأداء ولا المحتال القبول لأن
الحوالة معاوضة ولا معاوضة ههنا وإنما هو اقتراض فإن قبض المحتال منه الدين
رجع على المحيل لأنه قرض وإن أبرأه لم تصح البراءة لأنها براءة لمن لادين
عليه وإن وهبه إياه بعد أن قبضه منه رجع المحال عليه على على المحيل به
لأنه قد غرم عنه وإنما عاد إليه المال بعقد مستأنف ويحتمل أن لا يرجع إليه
لكونه ما
(5/58)
غرم عنه شيئاً، وإن أحال من لادين عليه على
من لادين عليه فهي وكالة في اقتراض وليست حوالة لأن الحوالة إنما تكون بدين
على دين (الشرط الثاني) اتفاقن الدينين في الجنس والصفة والحلول والتأجيل
لأنها تحويل للحق ونقل له فينتقل على صفته ويعتبر تماثلهما في الأمور
المذكورة (أحدها) الجنس فيحيل من عليه ذهب بذهب ومن عليه فضة بفضة ولو أحال
من عليه ذهب بفضة أو بالعكس لم يصح (الثاني) الصفة فلو أحال من عليه صحاح
بمكسرة أو من عليه مصرية بأميرية لم يصح (الثالث) الحلول والتأجيل ويعتبر
اتفاق أجل المؤجلين فإن كان أحدهما حالاً والآخر مؤجلاً أو كان أحدهما إلى
شهر والآخر إلى شهرين لم تصح الحوالة، ولو كان الحقان حالين فشرط على
المحتال أن يؤخر حقه أو بعضه إلى أجل لم تصح الحوالة لأن الحال لا يتأجل
ولأنه شرط ما لو كان ثابتاً في نفس الأمر لم تصح الحوالة فكذلك إذا اشترطه.
فإذا اجتمعت هذه الأمور وصحت الحوالة فتراضيا بأن يدفع المحال عليه إلى
المحتال خيراً من حقه أو رضي المحتال بدون الصفة أو رضي من عليه المؤجل
بتعجيله أو من له الحال بالظاره جاز لأن ذلك يجوز في القرض ففي الحوالة
أولى فإن مات المحيل أو المحتال فالأجل بحال وإن مات المحال عليه انبنى على
حول الدين بالموت وفيه روايتان (الشرط الثالث) ان يحيل برضاه لان الحق
(5/59)
عليه فلا يلزمه أداؤه من جهة الدين الذي
على المحال عليه ولا خلاف في هذا (فصل) ويعتبر لصحة الحوالة أن تكون بمال
معلوم لأنها إن كانت بيعاً فلا يصح في مجهول وإن كانت تحول الحق فيعتبر
فيها التسليم، والجهالة تمنع منه، فتصح بكل ما يثبت في الذمة بالإتلاف من
الأثمان والحبوب والأدهان، ولا تصح فيما لا يصح السلم فيه لأنه لا يثبت في
الذمة، ومن شرط الحوالة تساوي الدينين فأما ما يثبت في الذمة سلما غير
المثليات كالمعدود والمذروع ففي صحة الحوالة به وجهان (أحدهما) لا يصح لأن
المثل فيه لا يتحرر ولهذا لا يضمن بمثله في الإتلاف وهذا ظاهر مذهب الشافعي
(والثاني) يصح ذكره القاضي لأنه حق ثابت في الذمة فاشبه ماله مثل ويحتمل أن
يخرج هذان الوجهان على الخلاف فيما يقضي به قرض هذه الأموال فإن كان عليه
إبل من الدية وله على آخر مثلها في السن فقال القاضي يصح لأنها تختص بأقل
ما يقع عليه الاسم في السن والقيمة وسائر القصات، وقال أبو الخطاب
لا تصح في أحد الوجهين لأنها مجهولة ولأن الإبل ليست من المثليات التي تضمن
بمثلها في الإتلاف فلا تثبت في الذمة سلماً في رواية، وإن كان عليه إبل في
دية وله على آخر مثلها قرضاً فأحاله عليه فان قلنا يرد القرض قيمتها لم تصح
الحوالة لاختلاف الجنس وإن قلنا يرد مثلها اقتضى قول القاضي صحة الحوالة
(5/60)
لأنه أمكن استيفاء الحق على صفته من المحال
عليه ولأن الخيرة في التسليم إلى من عليه الدية وقد رضي بتسليم ماله في ذمة
المقترض فإن كانت بالعكس فاحتال المقرض بابل الدية لم يصح لأننا إن قلنا
تجب القيمة في القرض فقد اختلف الجنس وإن قلنا يجب المثل فللمقرض مثل ما
أقرض في صفاته وقيمته والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك (مسألة) (ولا يعتبر
رضى المحال عليه ولارضى المحتال إن كان المحال عليه مليئا) أما المحال عليه
فلا يعتبر رضاه لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه وبوكيله وقد افام المحتال
مقام نفسه في القبض فلزم المحال عليه الدفع اليه كالوكيل وإنما تعتبر
الملاءة في رضى المحتال بقرض الملئ غير المعدوم قال الشاعر: تطيلين لياني
وأنت مليئة وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا يعني قادرة على وفائي قال أحمد في
تفسير الملئ أن يكون مليئاً بماله وقوله وبدنه فمتى أحيل على من هذه صفته
لزم المحتال والمحال عليه القبول ولم يعتبر رضاهما، وقال أبو حنيفة يعتبر
رضاهما لأنه معاوضة فيعتبر الرضا من المتعاقدين، وقال مالك والشافعي يعتبر
رضى المحتال لأن حقه في ذمة المحيل فلا يجوز نقله إلى غيرها بغير رضاه كما
لا يجوز أن يجبره على أن يأخذ بالدين عوضاً، فأما المحال عليه فقال مالك لا
يعتبر رضاؤه إلا أن يكون المحتال عدوه وللشافعي في اعتبار رضاه قولان:
(5/61)
(أحدهما) يعتبر وهو يحكي عن الزهري لأنه
أحد من تتم به الحوالة فأشبه المحيل (والثاني) لا يعتبر لأنه أقامه في
القبض مقام نفسه فلم يفتقر إلى رضى من عليه الحق كالتوكيل ولنا قول النبي
صلى الله عليه وسلم (إذا اتبع أحدكم على ملئ فليتبع، ولأن للمحيل أن يوفي
الحق
الذي عليه بنفسه وبوكيله وقد أقام المحال عليه مقام نفسه في التقبيض قلزم
المحتال القبول كما لو وكل رجلاً في إيفائه، وفارق ما إذا أراد أن يعطيه
عما في ذمته عرضا لأنه يعطيه غير ما وجب له فلم يلزمه قبوله وإن لم يكن
المحال عليه مليئاً لم يلزمه أن يحتال لمفهوم الحديث ولأن عليه ضرراً في
ذلك فلم يلزمه كما لو بذل له دون حقه في الصفة (ففصل) فإن شرط المحتال
ملاءة المحال عليه فبان معسراً رجع على المحيل وبه قال بعض الشافعية وقال
بعضهم لا يرجع لأن الحوالة لا ترد بالإعسار إذا لم يشترط الملاءة فلا ترد
به وإن شرط كما لو شرط كونه مسلماً ويفارق البيع فإن الفسخ يثبت بالإعسار
فيه من غير شرط بخلاف الحوالة ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (المسلمون
على شروطهم) ولأنه شرط ما فيه مصلحة العقد في عقد معاوضة فيثبت الفسخ
بفواته كما لو شرط صفة في المبيع وقد يثبت بالشرط مالا يثبت بإطلاق العقد
بدليل إشتراط صفة في المبيع.
(مسألة) (وإن ظنه مليئاً فبان مفلساً ولم يكن رضي بالحوالة رجع عليه وإلا
فلا ويحتمل أن يرجع)
(5/62)
أما إذا لم يرض المحتال بالحوالة ثم بأن
المحال عليه مفلساً أو ميتاً رجع على المحيل بغير خلاف، ولا يلزمه الإحتيال
على غير الملئ لما عليه فيه من الضرر وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم
بقبول الحوالة على الملئ، وإن كان رضي بالحوالة لم يرجع لأنه رضي بدون حقه
ويحتمل أن يرجع لان الفلس عيب في الذمة فاشبه مالو اشترى شيئاً يظنه سليما
فبان معيبا.
(مسألة) (وإذا أحال المشتري البائع بالثمن أو أحال البائع عليه به فبان
البيع باطلاً فالحوالة باطلة) مثل أن يشتري عبداً فيحيل المشتري البائع
بالثمن ثم يظهر العبد حرا وأو مستحقاً فالبيع باطل والحوالة باطلة لأنا
تبينا أن لاثمن على المشتري وكذلك إن أحال البائع على المشتري أجنبياً
بالثمن متى بطل البيع بطلت الحوالة لذلك والحرية إنما ثبتت ببينة أو
اتفاقهم فإن اتفق المحيل والمحال عليه على حريته وكذبهما المحتال ولابينة
بذلك لم يقبل قولهما عليه لأنهما يبطلان حقه فأشبه ما لو باع المشتري العبد
ثم اعترف هو وبائعه أنه كان حراً لم يقبل قولهما على المشتري الثاني وإن
أقاما بينه لم تسمع لأنهما
كذباها بدخولهما في التبايع، وإن أقام العبد بينة بحريته قبلت وبطلت
الحوالة وإن صدقهما المحتال وادعى ان الحوالة بغير ثمن العبد فالقول قوله
مع يمينه لأن الأصل صحة الحوالة وهما يدعيان بطلانها فكان جنبته أقوى فإن
أقام البينة أن الحوالة كانت بالثمن قبلت لأنهما لم يكذباها، وإن اتفق
المحيل والمحتال على حرية العبد وكذبهما المحال عليه لم يقبل قولهما عليه
في حرية العبد لأنه اقرار على غيرهما وتبطل
(5/63)
الحوالة لاتفاق المرجوع عليه بالدين
والراجع به على استحقاق الرجوع والمحال عليه يعترف للمحتال بدين لا يصدقه
فيه فلا يأخذ منه شيئاً، وإن اعترف المحتال والمحال عليه بحرية العبد عتق
لإقرار من هو في يده بحريته وبطلت الحوالة بالنسبة إليهما ولم يكن للمحتال
الرجوع على المحيل لأن دخوله معه في الحوالة اعتراف ببراءته فلم يكن له
الرجوع عليه (مسألة) (فإن العقد بعيب أو إقالة لم تبطل الحوالة) يعني إذا
فسخ العقد بعيب أو إقالة بعدا لقبض فيما إذا أحال المشتري البائع بالثمن
فقد برئ المحال عليه لأنه قبض منه بإذنه ويرجع المشتري على البائع فإن كان
ذلك قبل القبض فقال القاضي تبطل الحوالة ويعود المشتري إلى ذمة المحال عليه
ويبرأ البائع فلا يبقى له دين ولا عليه لأن الحوالة بالثمن وقد سقط بالفسخ،
ويجب أن تبطل الحوالة لذهاب حقه من المال المحال به، وقال أبو الخطاب لا
تبطل في أحد الوجهين لأن المشتري عوض البائع عما في ذمته ماله في ذمة
المحال عليه ونقل حقه اليه نقلا صحيحا وبرئ من الثمن ويرئ المحال عليه من
دين المشتري فلم يبطل ذلك بفسخ العقد الأول كما لو أعطاه بالثمن ثوباً
وسلمة اليه ثم فسخ العقد لم يرجع بالثوب كذا ههنا، فإن قلنا ببطلان الحوالة
رجع المحيل على المحال عليه بدينه ولم يبق بينهما وبين البائع معاملة وإن
قلنا لا تبطل رجع المشتري على البائع بالثمن ويأخذه البائع من المحال عليه
وإن كانت المسألة بحالها لكن أحال البائع أجنبياً بالثمن على المشتري ثم رد
البعد المبيع ففي الحوالة وجهان:
(5/64)
(أحدهما) لا تبطل لأن ذمة المشتري برئت
بالحوالة من حق البائع وصار الحق عليه للمحتال
فأشبه مالو دفعه المشتري الى المحيل فعلى هذا يرجع المشتري على البائع
بالثمن ويسلم للمحتال ما أحاله به (والثاني) تبطل الحوالة إن كان الرد قبل
القبض لسقوط الثمن الذي كانت الحوالة به ولا فائدة في بقاء الحوالة فيعود
البائع بدينه ويبرأ المشتري منهما كالمسألة قبلها (مسألة) (وللبائع أن يحيل
المشتري على من أحاله المشتري عليه في الصورة الأولى وللمشتري أن يحيل
المتحال عليه على البائع في الثانية) إذا قلنا إن الحوالة لا تبطل وبحتمل
أن تبطل إذا لم يكن قبضها وقد ذكرناه (فصل) إذا أحال رجلاً على زيد بألف
فأحاله زيد بها على عمرو فالحوالة صحيحة لأن حق الثاني ثابت مستقر في الذمة
فصح ان يحيل به كالا ول وهكذا لو أحال الرجل عمراً على زيد بما يثبت له في
ذمته صح أيضاً لما ذكرنا وتكرر المحتال والمحيل لا يضر (مسألة) (وإذا قال
أحلتك قال بل وكلتني أو قال وكلتك قال بل احلتني فالقول قول مدعي الوكالة)
إذا كان لرجل دين على آخر فأذن لرجل في قبضه ثم اختلفا فقال احلتك بدينك
قال بل وكلتني وديني باق في ذمتك أو قال وكلتك في قبض ديني بلفظ التوكيل
قال بل احلتني
(5/65)
بلفظ الحوالة فالقول قول مدعي الوكالة مع
يمينه لأنه يدعي بقاء الحق على ما كان وينكر انتقاله والأصل معه فإن كان
لأحدهما بينة حكم بها لأن اختلافهما في اللفظ وهو مما يمكن إقامة البينة
عليه (مسألة) (وإذا اتفقا على أنه قال أحلتك بالمال الذي قبل زيد ثم اختلفا
فقال المحيل إنما وكلتك في القبض لي وقال الآخر بل أحلتني بديني عليك
فالقول قول مدعي الحوالة في أحد الوجهين) لأن الظاهر معه فإن اللفظ حقيقة
في الحوالة دون الوكالة فيجب حمل اللفظ على ظاهره كما لو اختلفا في دار في
يد أحدهما (والثاني) القول قول المحيل لأن الأصل بقاء حق المحيل على المحال
عليه والمحتال يدعي نقله والمحيل ينكره والقول قول المنكر.
فعلى الوجه الأول يحلف المحتال ويثبت حقه في ذمة المحال عليه ويستحق
مطالبته ويسقط عن المحيل، وعلى الوجه الثاني يحلف المحيل
ويبقى حقه في ذمة المحال عليه، وعلى كلا الوجهين إن كان المحتال قد قبض من
المحال عليه وتلف في يده فقد برئ كل واحد منهما من صاحبه ولا ضمان عليه
سواء تلف بتفريط أو غيره لأنه إن تلف بتفريط وكان المحتال محقاً فقد أتلف
ماله وإن كان مبطلاً ثبت لكل واحد منهما في ذمة الآخر ما في ذمته له
فيتقاصان ويسقطان وإن تلف بغير تفريط فالمحتال يقول قد قبضت حقي وتلف في
يدي وبرئ منه المحيل بالحوالة والمحال عليه بتسليمه والمحيل يقول قد تلف
المال في يد وكيلي بغير تفريط فلا ضمان عليه وإن لم يتلف احتمل أن لا يملك
المحيل طلبه لأنه معترف أن له عليه من الدين مثل ماله في يده وهو مستحق
لقبضه فلا فائدة في أن يقبضه منه ثم يسلمه اليه ويحتمل أن يملك أخذه منه
ويملك المحتال مطلبته بدينه وقيل يملك المحيل أخذه منه ولا يملك المحتال
(5/66)
المطالبة بدينه لا عترافه ببراءة المحيل
منه بالحوالة وليس بصحيح لأن المحتل إن اعترف بذلك فهو يدعي أنه قبض هذا
المال منه بغير حق وإنه لا يستحق المطالبة به فعلى كلا الحالين هو مستحق
للمطالبة بمثل هذا المال المقبوض منه في قولهما جميعاً فلا وجه لا سقاطه
ولا موضع للبينة في هذه المسألة لأنهما لا يختلفان في لفظ يسمع ولا فعل يرى
وإنما يدعي المحيل نيته وهذا لا تشهد به البينة نفياً ولا إثباتاً.
(فصل) فإن قال احلتك بدينك قال بل وكلتني ففيهما وجهان أيضاً لما قدمنا فإن
قلنا القول قول المحيل فحلف برئ من حق المحتال وللمحتال قبض المال من
المحال عليه لنفسه لأنه يجوز ذلك بقولهما معاً فإذا قفبضه كان له بحقه، وإن
قلنا القول قول المححتال فحلف كان له مطالبة المحيل بحقه ومطالبة المحتال
عليه لأنه إما وكيل أو محتال، فإن قبض منه قبل أخذه من المحيل فله أخذ ما
قبض لنفسه لأنه يجوز ذلك لأن المحيل يقول هو لك والمحتال يقول هو أمانة في
يدي ولي مثله على صاحبه وقد أذن له في أخذه ضمناً فإذا أخذه لنفسه حصل غرضه
ولم يأخذ من المحيل شيئاً، وإن استوفى من المحيل، دون المحال عليه رجع
المحيل على المحال عليه في أحد الوجهين لأن الوكالة قد ثبتت بيمين المحتال
وبقي في ذمة المحال عليه للمحيل (والثاني) لا يرجع عليه لأنه يعترف أنه قد
برئ من حقه وإنما
المحيل ظلمه بأخذ ما كان عليه، قال القاضي والأول أصح وإن كان قد أخذ
الحوالة فتلفت في يده بتفريط أو أتلفها سقط حقه وجهاً واحداً لأنه إن كان
محقاً فقد أتلف حقه وإن كان مبطلاً فقد أبطل مثل دينه فيثبت في ذمته
فيتقاصان وإن تلف بغير تقريطه فعلى الوجه الأول يسقط حقه أيضاً لأن ماله
تلف تحت يده وعلى الثاني له أن يرجع على المحيل بحقه وليس للمحيل الرجوع
على المحال عليه لأنه يقر ببرأته
(5/67)
(مسألة) (وإن قال احتلك بدينك فالقول قول
مدعي الحوالة وجهاً واحداً) إذا اتفقا على أنه قال احتلك بدينك ثم اختلفا
فالقول قول مدعي الحوالة وجهاً واحداً لأن الحوالة بدينه لا تحتمل الوكالة
فلم يقبل قول مدعيها وسواء اعترف المحيل بدين المحتال أو قال لادين لك علي
لأن قوله أحتلك بدينك اعتراف بدينه فلا يقبل جحده بعد ذلك فأما إن لم يقل
بدينك بل قال أحلتك ثم قال ليس لك علي دين وإنما أردت التوكيل بلفظ الحوالة
أو قال أردت أن أقول وكلتك فسبق لساني فقلت أحلتك وادعى المحتال أنه حوالة
بدينه وإن دينه كان ثابتاً على المحيل فهل هو اعتراف بالدين أولاء فيه
وجهان سبق توجيهما (فصل) وإن كان لرجل دين على آخر فطالبه به فقال قد أحلت
به علي فلاناً الغائب وأنكر صاحب الدين فالقول قوله مع يمينه فإن كان لمن
عليه الدين بينة بدعواه سمعت بينته لإسقاط حق المحيل عليه، وإن ادعى رجل ان
فلانا الغائب أحالني عليك فأنكر المدعي عليه فالقول قوله فإن اقام المدعي
بينه ثبتت في حقه وحق الغائب لأن البينة يقضي بها على الغائب ولزم الدفع
الى المحتال، وإن لم يكن له بينة فأنكر الندعى عليه فهل يلزمه اليمين؟ فيه
وجهان بناء على مالو اعترف له هل يلزمه الدفع على وجهين (أحدهما) يلزمه
الدفع إليه لأنه لا يأمن إنكار المحيل ورجوعه عليه فكان له الاحتياط لنفسه
كما لو ادعى أني وكيل فلان في قبض دينه منك فصدقه وقال لا أدفعه اليك فإذا
قلنا يلزمه الدفع مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار فإذا حلف برئ ولم يكن
للمحتال الرجوع على المحيل لإعترافه ببراءته وكذلك إن قلنا لا يلزمه اليمين
فليس للمحتال الرجوع على المخيل، ثم ينظر في المحيل فإن
صدق المدعي في أنه أحاله ثبتت الحوالة لأن رضا المحال عليه لا يعتبر وإن
أنكر الحوالة حلف وسقط حكم الحوالة فإن نكل المحال عليه عن اليمين فقضي
عليك بالنكول واستوفى الحق منه ثم إن المحيل صدق المدعي فلا كلام وإن أنكر
الحوالة فالقول قوله وله أن يستوفي من المحال عليه لأنه معترف له بالحق
ويدعي أن المحتال ظلمه وببقى دين المحتال على المحيل فإن أنكر المحيل أن له
عليه دينا فالعقول قوله بغير يمين لأن المحتال يقر ببراءته منه لا يستيفائه
من المحال عليه وإن كان المحيل
(5/68)
يعترف به لم يكن للمحتال المطالبة به لأنه
يقر أنه قد برئ منه بالحوالة والمحيل يصدق المحال عليه في كون المحتال قد
ظلمه واستوفى منه بغير حق والمحتال يزعم ان المحيل قذ أخذ منه ايضاً بغير
حق وإنه يجب عليه أن يرد ما أخذ منه إليه فينبغي أن يقبضها المحتال ويسلمها
الى المحال عليه أو يأذن للمحيل في ذفعها الى المحال عليه وإن صدق المحال
عليه المحتال في الحوالة ودفع اليه فأنكر المحيل الحوالة حلف ورجع على
المحال عليه، والحكم في الرجوع بما على المحيل من الدين على ما ذكرنا في
التي قبلها (فصل) فإن كان عليه ألف ضمنه رجل فأحال الضامن صاحب الدين به
برئت ذمته وذمة المضمون عنه لأن الحوالة كالتسليم ويكون الحكم ههنا كالحكم
فيما لو قضى عنه الدين على ما ذكرنا فإن كان الألف على رجلين على كل واحد
منهما خمسمائة وكل واحد كفيل عن الآخر بذلك فأحاله أحدهما بالألف برئت
ذمتهما معا كما لو قضاها وإن أحال ضاحب الألف رجلاً على أحدهما بعينه صحت
الحوالة لأن الدين على كل واحد منهما مستقر، وإن أحال عليهما جميعاً
ليستوفي منهما أو من أيهما شاء صحت الحوالة أيضاً عند القاضي لأنه لا فضل
ههنا في نوع ولا أجل ولا عدد وإنما هو زيادة استيثاق فلم فلم يمنع ذلك صحة
الحوالة كحوالة المعسر على الملئ، وقال بعض الشافعية لا تصح الحوالة لأن
الفضل قد دخلها فإن المحتال ارتفق بالتخيير الاستيفاء من أيهما شاء فأشبه
مالو أحاله على رجلين له على كل واحد منهما ألف ليستوفي من أيهما شاء
والأول أصح، والفرق وبين هذه المسألة وبين ما إذا
(5/69)
أحاله بألفين أنه لا فضل بينهما في العدد ههنا وثم تفاضلا ولأن الحوالة
ههنا بألف معين وثم الحوالة بأحدهما من غير تعيين وإنه إذا قضاه أحدهما
الألف فقد قضاه جميع الدين وثم إذا قضى أحدهما بقي ما على الآخر ولو لم يكن
كل واحد من الرجلين ضامناً عن صاحبه فأحال عليهما حصت الحوالة بغير إشكال
لأنه لما كان له أن يستوفي الألف من واحد كان له أن يستوفي من اثنين
كالوكلين |