الشرح الكبير على متن المقنع

* (كتاب الإيلاء) * الإيلاء في اللغة الحلف، يقال آلى يولي إيلاء وألية وجمع الألية ألايا.
قال الشاعر قليل الالايا حافظ ليمينه إذا صدرت منه الألية برت ويقال تألى يتألى وفي الخبر " من يتأل على الله يكذبه " * (مسألة) * (وهو الحلف على ترك الوطئ في موضع الشرع والأصل فيه قول الله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر وكان أبي بن كعب وابن عباس يقرآن يقسمون) * (مسألة) * (ويشترط له أربعة شروط أحدهما) الحلف على ترك الوطئ في القبل لأنه الذي يحصل الضرر به فان تركه بغير يمين لم يكن موليا) لأن الإيلاء الحلف

(8/502)


* (مسألة) * (فإن تركه مضراً بها من غير عذر فهل تضرب له مدة الإيلاء ويحكم عليه بحكمه؟ على روايتين) أما إذا تركه لعذر من مرض أو غيبة أو نحوه لم تضرب له مدة وإلا ففيه روايتان (إحداهما)
تضرب له مدة أربعة أشهر فإن وطئها وإلا دعي بعدها إلى الوطئ فإن امتنع منه أمر بالطلاق كما يفعل في الإيلاء سواء لانه أضر بها بترك الوطئ في مدة الإيلاء فيلزم حكمه كما لو حلف ولأن ما وجب أداؤه إذا حلف على تركه وجب أداؤه إذا لم يحلف كالنفقة وسائر الواجبات، يحققه أن اليمين لا تجعل غير الواجب واجباً إذا حلف على تركه فوجوبه معها يدل على وجوبه قبلها ولأن وجوبه في الإيلاء إنما كان لدفع حاجة المرأة وازالة الغرر عنها وضررها لا يختلف بالايلاء وعدمه فلا يختلف الوجوب، فإن قيل فلا يبقى للأيلاء أثر فلم أفردتم له باباً؟ قلنا بل له أثر فإنه يدل على قصد الإضرار فيتعلق الحكم به وإن لم يظهر منه قصد الاضرار اكتفينا بدلالته وإذا لم يوجد الإيلاء احتجنا إلى دليل سواه يدل على المضارة فيعتبر الإيلاء لدلالته على المقتضى لا لعينه (والثانية) لا تضرب له مدة وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه ليس بمول فلا تضرب له مدة كما لو لم يقصد الاضرار ولأن تعليق الحكم بالإيلاء يدل على انتفائه عند عدمه إذا لو ثبت هذا الحكم بدونه لم يكن له أثر وليس امتناعه باليمين أقوى من امتناعه بقصد الضرر لأنه يمتنع بقصد الضرر وبلزومه الكفارة فلا يصح الإلحاق إذا لم يحلف بما إذا حلف لقوة المانع والله أعلم

(8/503)


* (مسألة) * (وإن حلف على ترك الوطئ في الدبر أو دون الفرج لم يكن موليا) لأنه إذا حلف على ترك الوطئ في الدبر لم يترك الوطئ الواجب عليه ولا تتضرر المرأة بتركه لانه وطئ محرم وقد أكد منع نفسه بيمينه وكذلك إن حلف على ترك الوطئ دون الفرج لأنه لم يحلف على الوطئ الذي يطالب به في الفيئة ولا ضرر على المرأة في تركه * (مسألة) * (وإن حلف لا يجامعها الاجماع سواء يريد جماعاً ضعيفاً لا يزيد على التقاء الختانين لم يكن موليا) لأنه يمكنه الوطئ الواجب عليه من غير حنث وإن قال أردت وطأ لا يبلغ التقاء الختانين فهو مول لأنه لا يمكنه الوطئ الواجب عليه في الفيئة بغير حنث وكذلك إن أراد به الوطئ في الدبر أو دون الفرج فكذلك وإن لم يكن له نية فليس بمول لأنه محتمل فلا يتعين ما يكون به مولياً، وإن قال والله لا جامعتك جماع سوء لم يكن مولياً بحال لأنه لم يحلف على ترك الوطئ إنما حلف على ترك صفته المكروهة.
* (مسألة) * (وإذا حلف على ترك الوطئ بلفظ لا يحتمل غيره كلفظه الصريح وقوله لا أدخلت ذكري في فرجك وللبكر خاصة لا افتضضتك لم يدين فيه) وجملته أن الألفاظ التي يكون به مولياً تنقسم ثلاثة أقسام (أحدها) ما هو صريح في الحكم والباطن جميعاً كقوله والله لا أنيكك ولا أدخل أو أغيب

(8/504)


أو أولج ذكرى في فرجك ولا افتضضتك للبكر خاصة فهذه صريحة لا يدين فيها لأنها لا تحتمل غير الإيلاء.
(القسم الثاني) صريح في الحكم ويدين فيما بينه وبين الله تعالى وهي عشرة ألفاظ لا وطئتك ولا جامعتك ولا باضعتك ولا باعتك ولا باشرتك ولا قربتك ولا أصبتك ولا أتيتك ولا مسستك ولا اغتسلت منك فهذه صريحة في الحكم لأنها تستعمل في العرف في الوطئ وقد ورد القرآن ببعضها فقال سبحانه (ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فاتوهن) وقال (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) وقال (من قبل أن تمسوهن) وأما الجماع والوطئ فهما أشهر الألفاظ في الاستعمال فلو قال أردت بالوطئ الوطئ بالقدم وبالجماع اجتماع الأجسام وبالاصابة الاصابة باليد دين فيما بينه وبين الله تعالى ولم يقبل في الحكم لأنه خلاف الظاهر والعرف وقد اختلف قول الشافعي فيما عدا الوطئ والجماع من هذه الألفاظ فقال في موضع ليس بصريح في الحكم لأنه حقيقة في غير الجماع وقال في لا باضعتك ليس بصريح لأنه يحتمل أن يكون انتقاء البضعتين البضعة من البدن بالبضعة منه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " فاطمة بضعة مني "

(8/505)


ولنا أنه مستعمل في الوطئ عرفا وقد ورد ببعضه القرآن والسنة فكان صريحاً كلفظ الوطئ والجماع وكونه حقيقة في غير الجماع لا يبطل بلفظ الوطئ والجماع وكذلك قوله فارقتك وسرحتك في ألفاظ الطلاق فانهم قالوا هي صريحة في ألفاظ الطلاق مع كونها حقيقة في غيره، وأما قوله باضعتك فهو مشتق من البضع ولا يستعمل هذا اللفظ في غير الوطئ فهو أولى أن يكون صريحاً من سائر الألفاظ لأنها
تستعمل في غيره وبه قال أبو حنيفة (القسم الثالث) ما لا يكون موليا فيها إلا بالنية وهو ما عدا هذه الألفاظ مما يحتمل الجماع كقوله والله لا يجمع رأسي ورأسك شئ لا ساقف رأسي رأسك لا سوءنك لا غيظتك لتطولن غيبتي عنك لا مس جلدي جلدك لا قربت فراشك لا أويت معك لا نمت عندك فهذه إن أراد بها الجماع واعترف بذلك كان موليا وإلا فلا لأن هذه الألفاظ ليست ظاهرة في الجماع كظهور التي قبلها ولم يرد النص في استعمالهما فيه الا إن هذه الألفاظ منقسمة إلى ما يفتقر إلى نية الجماع والمدة معاً وهي قوله لا سوءنك أو لا غيظنك أو لتطولن غيبتي عنك فلا يكون موليا حتى ينوي ترك الجماع في مدة تزيد على أربعة أشهر لأن غيظها يوجد بترك الجماع فيما دون ذلك وسائر الألفاظ يكون موليا بنية الجماع فقط فإن قال والله لا أدخلت جميع ذكري في فرجك لم يكن موليا لأن الوطئ الذي تحصل به الفيئة يحصل بدون إيلاج جميع الذكر فإن قال والله لا أولجت حشفتي في فرجك كان كان موليا لأن الفيئة لا تحصل بدون ذلك (الشرط الثاني) أن يحلف بالله أو بصفة من صفاته، ولا خلاف بين أهل العلم في أن الحلف بذلك إيلاء.

(8/506)


* (مسألة) * (فإن حلف بنذر أو عتق أو طلاق لم يصر موليا في الظاهر عنه وعنه يكون مولياً) إذا حلف على ترك الوطئ بغير اسم الله تعالى وصفة من صفاته مثل أن حلف بطلاق أو عتاق أو صدقة المال أو الحج أو الظهار ففيه روايتان: [إحداهما] لا يكون موليا وهو قول الشافعي القديم (والرواية الثانية) هو مول، وروي عن ابن عباس أنه قال كل يمين منعت جماعها فهي إيلاء وبذلك قال الشعبي والنخعي ومالك وأهل الحجار والثوري وأبو حنيفة وأهل العراق والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد وغيرهم لأنها يمين منعت جماعها فكانت إيلاء كالحلب بالله تعالى ولأن تعليق الطلاق والعتاق حلف بدليل أنه لو قال متى حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال إن وطئتك فأنت طالق طلقت في الحال، وقال أبو بكر كل يمين من حرام أو غيرها تجب بها كفارة يكون الحالف بها موليا
وأما الطلاق والعتاق فليس الحلف به إيلاء لأنه يتعلق به حق آدمي وما أوجب كفارة تعلق به حق الله تعالى.
(والرواية الأولى) هي المشهورة لأن الايلاء المطلق إنما هو القسم ولهذا قرأ أبي وابن عباس (يقسمون) بدل يؤلون وروي عن ابن عباس في تفسير (يؤلون) قال يحلفون بالله ذكره الإمام أحمد والتعليق بشرط ليس بقسم ولهذا لا يؤتى فيه بحرف القسم ولا يجاب بجوابه ولا ذكره أهل العربية في باب

(8/507)


القسم فلا يكون إيلاء وانما يمسى حلفا تجوزا لمشاركته القسم في المعنى المشهور فيه وهو الحث على الفعل أو المنع منه أو توكيد الخبر والكلام عند إطلاقه لحقيقته ويدل على هذا قول الله تعالى (فان فاءوا فإن الله غفور رحيم) وإنما يدخل الغفران في اليمين بالله وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم " متفق عليه وإن سلمنا أن غير القسم حلف لكن الحلف باطلاقه إنما ينصرف إلى القسم وانما يصرف إلى غيره بدليل، ولا خلاف في أن القسم بغير الله وصفاته لا يكون إيلاء لأنه لا يوجب كفارة ولا شيئاً يمنع من الوطئ فلا يكون إيلاء كالخبر بغير قسم وإذا قلنا بالرواية لثانية فلا يكون موليا إلا أن يحلف بما يلزمه بالحنث فيه حق كقوله إن وطئتك فعبدي حر أو فأنت طالق أو فأنت علي كظهر أمي أو فأنت حرام أو فلله علي صوم سنة أو الحج أو صدقه فهذا يكون إيلاء لأنه يلزمه بوطئها حق يمنعه من وطئها خوفه من وجوبه * (مسألة) * (وإن قال إن وطئتك فأنت زانية أو فلله علي صوم هذا الشهر لم يكن موليا لأنه لو وطئها لم يلزمه حق ولا بصير قاذفا بالوطئ لأن القذف لا يتعلق بالشرط ولا يجوز أن تصير زانية بوطئه لها كما لا تصير زانية بطلوع الشمس، وأما قوله إن وطئتك فلله على صوم هذا الشهر لم يكن موليا لأنه لو وطئها بعد مضيه لم يلزمه حق فإن صوم هذا الشهر لا يتصور بعد مضي بعضه فلا يلزم بالنذر

(8/508)


كما لو قال أن وطئتك فلله علي صوم أمس فلو قال ان وطئتك فلله علي أن أصلي عشرين رجعة كان موليا وقال أبو حنيفة لا يكون موليا لأن الصلاة لا يتعلق بها مال ولا تتعلق بمال فلا يكون الحالف بها
موليا كما لو قال إن وطئتك فلله علي أن أمشي في السوق ولنا أن الصلاة تجب بالنذر فكان الحالف بها موليا كالصوم والحج وما ذكره لا يصح فإن الصلاة تحتاج إلى الماء والسترة، وأما المشي في السوق فقياس المذهب على هذه الرواية أنه يكون موليا لأنه يلزمه بالحنث في هذا النذر أحد شيئين إما الكفارة وإما المشي فقد صار الحنث موجباً لحق عليه فعلى هذا يكون موليا بنذر فعل المباحات والمعاصي فإن نذر المعصية موجب للكفارة في ظاهر المذهب وإن سلمنا فالفرق بينهما أن المشي لا يجب بالنذر بخلاف مسئلتنا وإذا استثنى في يمينه لم يكن موليا في قول الجميع لأنه لا يلزمه كفارة بالحنث فلم يكن الحنث موجباً لحق عليه وهذا إذا كانت اليمين بالله تعالى أو كانت يمينا مكفرة فأما الطلاق والعتاق فمن جعل الاستثناء فيهما غير مؤثر فوجوده كعدمه ويكون موليا بهما سواء استثنى أو لم يستثن (الشرط الثالث) أن يحلف على أكثر من أربعة أشهر وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس ومالك والاوزاعي والشافعي وأبي ثور وأبي عبيد وقال عطاء والثوري وأصحاب الرأي إذا حلف على أربعة أشهر فما زاد كان موليا وحكى ذلك القاضي أبو الحسين رواية عن أحمد لأنه ممتنع عن الوطئ باليمين أربعة أشهر فكان موليا كما لو حلف على

(8/509)


ما زاد وقال النخعي وقتادة وحماد وابن أبي ليلى واسحاق من حلف على ترك الوطئ في قليل من الأوقات أو كثير فتركها أربعة أشهر فهو مول لقول الله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) وهذا مول لأن الإيلاء الحلف وهذا حالف ولنا أنه لم يمنع نفسه من الوطئ باليمين أكثر من أربعة أشهر إذا حلف على أربعة فما دونها فلا معنى للتربص لأن مدة الإيلاء تنقضي قبل ذلك أو مع انقضائه وتقدير التربص بأربعة أشهر يقتضي كونه في مدة تناولها الإيلاء ولأن المطالبة إنما تكون بعد أربعة أشهر فإذا انقضت المدة بأربعة فما دون لم تصح المطالبة من غير ايلاء وأبو حنيفة ومن وافقه بنوا ذلك على قولهم في العنة إنها تكون في مدة أربعة أشهر وظاهر الآية خلافه فإن الله تعالى قال (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا) فعقب الفيئة عقيب التربص بقاء التعقيب فيدل على تأخيرها عنه إذا ثبت هذا فقد حكي
عن ابن عباس أن المؤلي من يحلف على ترك الوطئ أبداً أو مطلقاً لأنه إذا حلف على ما دون ذلك أمكنه التخلص بغير الحنث فلم يكن موليا كما لو حلف لا وطئها في مدينة بعينها ولنا أنه لا يمكنه التخلص بعد التربص من يمينه بغير حنت فأشبه المطلقة بخلاف اليمين على مدينة معينة فإنه يمكن التخلص بغير الحنث ولأن الأربعة الأشهر مدة تتضرر المرأة بتأخير الوطئ عنها فإذا حلف على أكثر منها كان موليا كالابد ودليل الوصف ما روي أن عمر رضي الله عنه كان يطوف ليلة في المدينة فسمع امرأة تقول:

(8/510)


تطاول هذا الليل وازور جانبه * وليس إلى جنبي خليل ألاعبه فوالله لولا الله لا رب غيره * لزعزع من هذا السرير جوانبه مخافة ربي والحياء يكفني * وإكرام بعلي أن ننال مراكبه فسأل عمر نساء كم تصبر المرأة عن الزوج؟ فقلن شهرين وفي الثالث يقل الصبر وفي الرابع ينفد الصبر فكتب إلى أمراء الاجناد أن لا يحبسوا رجلاً عن امرأته أكثر من أربعة أشهر (فصل) إذا علق الإيلاء بشرط مستحيل كقوله والله لا وطئتك حتى تصعدي السماء أو تقلبي الحجر ذهباً أو يشيب الغراب فهو مؤل لأن معنى ذلك ترك وطئها فإن ما يراد إحالة وجوده يعلق على المستحيلات قال الله تعالى في الكفار (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) معناه لا يدخلون الجنة أبداً.
وقال بعضهم إذا شاب الغراب أتيت أهلي * وصار القار كاللبن الحليب * (مسألة) * (أو يعلقه على شرط يغلب على الظن أنه لا يوجد في أقل من أربعة أشهر) كقوله والله لا وطئك حتى ينزل عيسى بن مريم أو يخرج الدجال أو الدابة أو غير ذلك من اشراط الساعة أو ما عشت أو حتى أموت أو تموتي أو يموت ولدك أو زيد أو حتى يقدم زيد من مكة والعادة أنه لا يقدم في أربعة أشهر فإنه يكون موليا فإن الغالب أن ذلك لا يوجد في أربعة أشهر فأشبه ما لو قال والله لا وطئتك في نكاحي هذا كذلك لو علق الطلاق على مرضها أو مرض بعينه، وإن قال والله لا وطئتك

(8/511)


إلى قيام الساعة أو حتى آتي الهند أو نحوه فهو مؤل لأنه معلوم أنه لا يوجد ذلك في أربعة أشهر لأن قيام الساعة له علامات تسبقه فقد علم أنه لا يوجد في المدة المذكورة * (مسألة) * (وإن قال والله لا وطئتك حتى تحبلي فهو مؤل) لأن حبلها من غير وطئ مستحيل عادة فهو كصعود السماء، وقال القاضي وابو الخطاب وأصحاب الشافعي ليس بمؤل إلا أن تكون صغيرة يغلب على الظن أنها لا تحمل في أربعة أشهر أو تكون آيسة فأما إن كانت من ذوات الإقراء لم يكن مؤليا لأن حملها ممكن ولنا أن الحمل بدون الوطئ مستحيل عادة فكان تعليق اليمين عليه إيلاء كصعود السما، ودليل استحالته قول مريم (أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا؟) ولولا استحالته لما نسبت نفسها إلى البغاء لوجود الولد وأيضاً قول عمر رضي الله عنه: الرجم حق على من زنى وقد أحصن اذا قامت به البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ولأن العادة أن الحبل لا يوجد من غير الوطئ فإن قالوا يمكن حبلها من وط غيره أو باستدخال منيه قلنا أما الأول فلا فإنه لو صرح به فقال لا وطئتك حتى تحبلي من غيري أو ما دمت في نكاحي أو حتى نزني كان مؤليا ولو صح ما ذكروه لم يكن مؤليا وأما الثاني فهو من المستحيلات عادة إن وجد كان من خوارق العادات بدليل ما ذكرناه، وقد قال أهل الطب أن المني إذا يرد لم يخلق منه ولد وصحح قولهم قيام الأدلة التي ذكرنا بعضها وجريان العادة على وفق ما قالوه وإذا كل تعليقه على موتها أو موته إيلاء فتعليقه على حبلها من غير وطئ أولى فإن قال أردت بقولي حتى تحبلي السببية ولم أرد الغاية ومعناه لا أطؤك لتحبلي قبل منه ولم يكن مؤليا لأنه ليس بحالف على ترك الوطئ وإنما حلف على ترك قصد الحبل به فإن حتى تستعمل بمعنى السببية

(8/512)


* (مسألة) * (وإن قال والله لا وطئتك مدة أو ليطولن تركي لجماعك لم يكن موليا حتى ينوي أكثر من أربعة أشهر) لأن ذلك بقع على القليل والكثير فلا يصير موليا به فإن نوى أكثر من أربعة أشهر صار موليا
* (مسألة) * (وإن حلف على ترك الوطئ حتى يقدم زيد أو نحوه مما لا يغلب على الظن عدمه في أربعة أشهر أو لا وطئتك في هذه البلدة لم يكن موليا) لأنه لا يعلم قدره فهذا ليس بإيلاء لكونه لا يعلم حلفه على أكثر من أربعة أشهر ولأنه يمكنه وطؤها في غير البلدة المحلوف عليها وهذا قول الثوري والاوزاعي والشافعي وأبي حنيفة وصاحبيه وقال ابن أبي ليلى وإسحاق هو مول لأنه حالف على ترك وطئها ولنا أنه يمكن وطؤها بغير حنث فلم يكن موليا كما لو استثنى في يمينه، فإن علقه على ما يعلم أنه يوجد في أقل من أربعة أشهر أو يظن ذلك كذبول يقل وجفاف ثوب ونزول المطر في أوانه وقدوم الحاج في زمانه فهذا لا يكون موليا لما ذكرناه، ولأنه لم يقصد الاضرار بترك وطئها أكثر من أربعة أشهر أشبه ما لو قال والله لا وطئتك شهرا (فصل) فإن علقه على فعل منها هي قادرة عليه أو فعل من غيرها فهو منقسم ثلاثة أقسام

(8/513)


(أحدها) أن يعلقه على فعل مباح لا مشقة فيه كقوله والله لا أطؤك حتى تدخلي الدار أو تلبسي هذا الثوب أو حتى أتنفل بصوم يوم أو حتى أكسوك، فهذا ليس بإيلاء لأنه ممكن الوجود بغير ضرر عليه فيه (الثاني) أن يعلقه على محرم كقوله والله لا أطؤك حتى تشربي الخمر أو تزني أو تسقطي ولدك أو تتركي صلاة الفرض أو حتى أقتل زيداً ونحوه فهذا إيلاء لأنه علقه على ممتنع شرعا فأشبه الممتنع حسا (الثالث) أن يعلقه على ما على فاعله فيه مضرة كقوله والله لا أطؤك حتى تسقطي صداقك أو جنينك أو حتى تكفلي ولدي أو حتى تهبيني دارك أو حتى يبيعني أبوك داره أو نحو ذلك فهذا ايلاء لان أخذه لمالها أو مال غيرها عن غير رضى صاحبه محرم فجرى مجرى شرب الخمر فإن قال والله لا أطؤك حتى أعطيك مالاً أو أفعل في حقك جميلا لم يكن ايلاء لأن فعله ذلك ليس بمحرم ولا ممتنع فجرى مجرى قوله حتى أصوم يوماً.
(فصل) فإن قال والله لا وطئتك إلا برضاك لم يكن موليا لإمكان وطئها بغير حنث ولأنه محسن في
كونه ألزم نفسه اجتناب سخطها، وعلى قياس ذلك كل حال يمكنه الوطئ فيها بغير حنث كقوله والله لا وطئتك مكرهة أو محزونة ونحو ذلك فإن قال والله لا وطئتك مريضة لم يكن موليا إلا أن يكون بها مرض لا يرجى برؤه أو لا يزول في أربعة أشهر فينبغي أن يكون موليا لأنه حالف على ترك وطئها أربعة أشهر

(8/514)


فإن قال ذلك لها وهي صحيحة فمرضت مرضا يمكن برؤه قبل أربعة أشهر لم يصر موليا وإن لم يرج برؤه فيها صار موليا، وكذلك إن كان الغالب أنه لا يزول في أربعة أشهر لأن ذلك بمنزلة ما لا يرجى زواله وإن قال والله لا وطئتك حائضا أو نفساء أو محرمة أو صائمة فرضا لم يكن موليا لأن ذلك ممنوع منه شرعا فقد أكد منع نفسه بيمينه، وإن قال والله لا وطئتك طاهرا أولا وطئتك وطأ مباحا صار موليا لأنه حالف على ترك الوطئ الذي يطالب به في الفيئة فكان موليا كما لو قال والله لا وطئتك في قبلك وإن قال والله لا وطئتك ليلاً أو والله لا وطئك نهاراً لم يكن موليا لان الوطئ ممكن بدون الحنث * (مسألة) * (وإن قال إن وطئتك فوالله لا وطئتك وإن دخلت الدار فوالله لا وطئتك لم يكن موليا في الحال لأنه لا يلزمه بالوطئ حق لكن إن وطئها أو دخلت الدار صار موليا) لأنها تبقى يمينا تمنع الوطئ على التأييد وهذا الصحيح عن الشافعي ويحتمل أن يكون موليا، وحكي عنه قول قديم أنه يكون موليا من الأول لأنه لا يمكنه الوطئ إلا أن يصير موليا فيلحقه بالوطئ ضرر ولأنه علقه على شئ إذا وجد صار موليا فيصير موليا في الحال كذلك ههنا ولنا أن يمينه معلقة على شرط ففيما قبله ليس بحالف فلا يكون موليا ولأنه يمكنه الوطئ من غير حنث فلم يكن موليا كما لو لم يقل شيئاً

(8/515)


* (مسألة) * (وإن قال والله لا وطئك في السنة إلا مرة لم يصر موليا في الحال) لأنه يمكنه الوطئ بغير حنث فلم يكن ممنوعا من الوطئ بحكم يمينه فإن وطئها وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر صار موليا وهذا قول أبي ثور وأصحاب الرأي وظاهر مذهب الشافعي وقال الشافعي في القديم يكون موليا في الحال لأنه لا يمكنه الوطئ إلا بأن يصير موليا فيلحقه بالوطئ ضرر
ولنا أن يمينه معلقة بالإصابة فقيلها لا يكون حالفا لأنه لا يلزمه بالوطئ شئ وكونه يصير موليا لا يلزمه به شئ إنما يلزمه بالحنث، وقوله لا يمكنه الوطئ إلا بأن يصير موليا ممنوع فيما إذا لم يطأ إلا وقد بقي من السنة أربعة أشهر فما دون * (مسألة) * (وإن قال والله لا وطئتك في السنة إلا يوما فكذلك في أحد الوجهين) وهو قول أبي حنيفة لأن اليوم منكر فلم يختص يوما دون يوم وكذلك لو قال صمت رمضان إلا يوما لم يختص اليوم الآخر، وكذلك لو قال لا أكلمك في السنة إلا يوما لم يختص يوما منها، وفيه وجه آخر أنه يصير موليا في الحال لأن اليوم المستثنى يكون من آخر المدة كالتأجيل، ومدة الخبار بخلاف قوله لا وطئتك في السنة إلا مرة فإن المرة لا تختص وقتا بعينه، ومن نصر الأول فرق بين هذا وبين التأجيل ومدة الخيار من حيث إن التأجيل ومدة الخيار تجب الموالاة فيهما ولا يجوز أن يتخلاهما يوم لا أجل فيه ولا خيار لو جازت له المطالبة لزم قضاء الدين فيسقط التأجيل

(8/516)


بالكلية ولو لزم العقد في أثناء مدة الخيار لم يعد إلى الجواز فتعين جعل اليوم المستثنى من آخر المدة بخلاف ما نحن فيه فإن جواز الوطئ في يوم من أول السنة أو أوسطها لا يمنع حكم اليمين فيما بقي منها فصار كقوله لا وطئتك في السنة إلا مرة (فصل) فإن قال والله لا وطئك عاما ثم قال والله لا وطئتك عاما فهو إيلاء واحد حلف عليه بيمينين إلا أن ينوي عاماً آخر سواه، فإن قال والله لا وطئتك عاما ثم قال والله لا وطئتك نصف عام أو قال والله لا وطئتك نصف عام ثم قال والله لا وطئتك عاما دخلت المدة القصيرة في الطويلة لأنها بعضها ولم يجعل إحداهما بعد الأخرى فأشبه ما لو أقر بدرهم لرجل ثم أقر له بنصف درهم أو أقر بنصف درهم ثم بدرهم فيكون إيلاء واحداً لهما وقت واحد وكفارة واحدة، وإن نوى باحدى المدتين غير الاخرى في هذه أو في التي قبلها أو قال والله لا وطئتك عاما فإذا مضى فوالله لا وطئتك عاما فهما إيلاآن في زمانين لا يدخل حكم أحدهما في الآخر، أحدهما منجز والآخر متأخر فإذا مضى حكم أحدهما بقي حكم الآخر لأنه أفرد كل واحد منهما بزمن غير زمن صاحبه فيكون له حكم ينفرد به، فإن قال في المحرم والله
لا وطئتك هذا العام ثم قال في رجب والله لا وطئتك عاما فهما إيلاآن في مدتين بعض إحداهما داخل في الاخرى فان فا في رجب أو فيما بعده من بقية العام الأول حنث في اليمينين ويجزئه كفارة واحدة وينقطع حكم الايلاءين وإن فاء قبل رجب أو بعد العام الأول حنث في إحدى اليمينين دون الاخرى، وإن فاء في الموضعين حنث في اليمينين وعليه كفارتان

(8/517)


(فصل) فإن حلف على وطئ امرأته عاما ثم كفر يمينه انحل الايلاء قال الأثرم قيل لأبي عبد الله المولى يكفر يمينه قبل مضي أربعة أشهر قال يذهب عنه الايلاء ويوقف بعد الأربعة وذهب الايلاء حين ذهبت اليمين وذلك لأنه لم يبق ممنوعا من الوطئ بيمينه فأشبه من حلف واستثنى، فإن كان تكفيره قبل مضي الأربعة الأشهر انحل الايلاء حين التكفير وصار كالحالف على ترك الوطئ أقل من أربعة أشهر وإن كفر بعد الأربعة وقبل الوقف صار كالحالف على أكثر منها إذا مضت يمينه قبل وقفه * (مسألة) * (فإن قال والله لا وطئتك أربعة أشهر فإذا مضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر أو فإذا مضت فلا وطئتك شهرين أو لا وطئتك فإذا مضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر ففيه وجهان (أحدهما) ليس بمول لأنه حالف بكل يمين على مدة ناقصة عن مدة الايلاء فلم يكن موليا كما لو لم ينو الا مدتهما ولانه يمكنه الوطئ بالنسبة إلى كل يمين عقيب مدتها من غير حنث فيها فأشبه ما لو أقتصر عليها، ويحتمل أن يصير موليا لأنه منع نفسه من الوطئ بيمينه أكثر من أربعة أشهر متوالية فكان موليا كما لو منعها بيمين واحدة، ولأنه لا يمكن الوطئ بعد المدة إلا بحنث في يمينه فأشبه ما لو حلف على ذلك بيمين واحدة، ولو لم يكن هذا إيلاء أفضى إلى أن يمتنع من الوطئ طول دهره باليمين وفلا يكون موليا وهكذا الحكم في كل مدتين متواليتين يزيد مجموعها على أربعة أشهر لما ذكرنا من التعليلين هذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى

(8/518)


* (مسألة) * (وإن قال والله لا وطئتك إن شئت فشاءت صار موليا) وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأنه يصير ممتنعا من الوطئ حيث تشاء إلا أن أصحاب
الشافعي قالوا إن شات على الفور جوابا لكلامه صار موليا وإن أخرت المشيئة انحلت يمينه لأن ذلك تخيير لها فكان على الفور كقوله اختاري في الطلاق ولنا أنه علق اليمين على المشيئة بحرف إن فكان على التراخي كمشيئة غيرها، فإن قيل فهلا قلتم لا يكون موليا فإنه علق ذلك باردتها فأشبه ما لو قال لا وطئتك إلا برضاك؟ قلنا الفرق بينهما أنها إذا شات انعقدت يمينه مانعة من وطئها بحيث لا يمكنه الوطئ بعد ذلك بغير حنث، وإذا قال والله لا وطئتك إلا برضاك فما حلف إلا على ترك وطئها في بعض الأحوال وهو حال سخطها فيمكنه الوطئ في حال رضاها بغير حنث وإذا طالبته بالفيئة فهو برضاها، وإن قال والله لا وطئتك إلا أن يشاء أبوك أو فلان لم يكن موليا لانه عقله بفعل منه يمكن وجوده في الأربعة الأشهر امكانا غير بعيد وليس بمحرم ولا فيه مضرة أشبه ما لو قال والله لا وطئتك إلا أن تدخلي الدار * (مسألة) * (وإن قال إلا أن تشائي أو إلا باختيارك أو إلا أن تختاري لم يصير موليا وصار كقوله إلا برضاك أو حتى تشائي) وقال أبو الخطاب أن شاءت في المجلس لم يصر موليا وإلا صار موليا وقال أصحاب الشافعي إن شاءت

(8/519)


على الفور عقيب كلامه لم يصر موليا وإلا صار موليا لأن المشيئة عندهم على الفور وقد فانت بتراخيها، وقال القاضي تنعقد يمينه فإن شاءت انحلت وإلا فهي منعقدة ولنا أنه منع نفسه بيمينه من وطئها إلا عند ارادتها فأشبه ما لو قال إلا برضاك أو حتى تشائي ولأنه علقه على وجود المشيئة أشبه ما لو علقه على مشيئة غيرها، فأما قول القاضي فإن أراد وجود المشيئة على الفور فهو كقولهم، وإن أراد وجود المشيئة على التراخي تنحل به اليمين لم يكن ذلك إيلاء لأن تعليق اليمين على فعل يمكن وجوده في مدة أربعة أشهر امكانا غير بعيد ليس بإيلاء * (مسألة) * (وإن قال لنسائه والله لا وطئت واحدة منكن صار موليا منهن إلا أن يريد واحدة بعينها وإن أراد واحدة مبهمة فقال أبو بكر تخرج بالقرعة) وجملة ذلك أن الرجل إذا قال لنسائه والله لا وطئت واحدة منكن واطلق كان موليا من جميعهن
في الحال لأنه لا يمكنه وطئ واحدة منهن إلا بالحنث، فإن طلق واحدة منهن أو مانت كان موليا من البواقي فإن وطئ واحدة منهن حنث وانحلت يمينه وسقط حكم الايلاء في الباقيات لأنها يمين واحدة فإذا حنث فيها مرة لم يحنث مرة ثانية ولا يبقى حكم اليمين بعد حنثه فيما بخلاف ما إذا طلق واحدة أو ماتت فإنه لم يحنث ثم فيبقى حكم يمينه في الباقيات منهن وهذا مذهب الشافعي، وذكر القاضي أنه إذا أطلق كان الإيلاء في واحدة غير معينة وهو اختيار بعض أصحاب الشافعي لأن لفظه تناول واحدة منكرة فلا يقتضي العموم

(8/520)


ولنا أن النكرة في سياق النفي تعم كقوله (لم يتخذ صاحبة ولا ولدا) وقوله (ولم يكن له كفوا أحد) ولو قال انسان والله لا شربت ماء من ادواة حنث بالشرب من أي ادواة كانت فيجب حمل اللفظ عند الاطلاق على مقتضاه في العموم فإن قال نويت واحدة بعينها تعلقت يمينه بها وحدها وصار موليا منها دون غيرها لأن اللفظ يحتمله احتمالا غير بعيد، وإن قال نويت واحدة مبهمة قبل منه لذلك، وهذا مذهب الشافعي ولا يصير موليا منهن في الحال فإذا وطئ ثلاثا كان موليا من الرابعة، وقال أبو بكر تخرج بالقرعة كما لو طلق واحدة من نسائه لا بعينها ومذهب الشافعي فيما إذا أبهم المحلوف عليها فله أن يعينها بقوله وأصل هذا مذكور فيما إذا طلق واحدة بعينها * (مسألة) * (وإن قال والله لا وطئت كل واحدة منكن كان موليا من جميعهن في الحال ولا يقبل فوله نويت واحدة منهن معينة ولا مبهمة لأن لفظة كل أزالت احتمال الخصوص وتنحل يمينه بوطئ واحدة كالمسألة التي قبلها) وقال القاضي وبعض أصحاب الشافعي لا تنحل في الباقيات لأنه صرح يمنع نفسه من كل واحدة فأشبه ما لو حلف على كل واحدة يميناً ولنا أنها يمين واحدة حنث فيها فسقط حكمها كما لو حلف على واحدة ولأن اليمين الواحدة إذا حنث فيها مرة لم يمكن الحنث فيها مرة أخرى فلم يبق ممتنعا من وطئ الباقيات بحكم اليمين فلم يبق الايلاء كسائر الايمان التي حنث فيها

(8/521)


* (مسألة) * (وإن قال والله لا أطؤكن فهي كالتي قبلها في أحد الوجهين) وهذا ينبني على أصل وهو الحنث بفعل بعض المحلوف عليه أولا؟ فإن قلنا يحنث فهو مؤل منهن كلهن في الحال لأنه لا يمكنه وطئ واحدة بغير حنث فصار مانعا لنفسه من وطئ كل واحدة منهن في الحال فإن وطئ واحدة منهن حنث وانحلت يمينه وزال الايلاء من البواقي وإن طلق بعضهن أو ماتت لم ينحل الايلاء في البواقي وإن قلنا لا يحنث بفعل البعض لم يكن موليا منهن في الحال لأنه يمكنه وطئ واحدة منهن من غير حنث فلم يمنع نفسه بيمينه من وطئها فلم يكن موليا منها فإن وطئ ثلاثا صار موليا من الرابعة لأنه لا يمكنه وطؤها من غير حنث في يمينه وإن ماتت بعضهن أو طلقها انحلت يمينه وزال الايلاء لأنه لا يحنث إلا بوطئ الأربع فإن راجع المطلقة أو تزوجها بعد بينونتها عاد حكم يمينه وذكر القاضي أنا إذا قلنا يحنث بفعل البعض فوطئ واحدة يحنث ولم ينحل الإيلاء في البواقي لأن الإيلاء من امرأة لا ينحل بوطئ غيرها

(8/522)


ولنا أنها يمين واحدة حنث فيها فوجب أن تنحل كسائر الايمان ولأنه إذا وطئ واحدة حنث ولزمته الكفارة فلا يلزمه بوطئ الباقيات شئ فلم يبق ممتنعا من وطئهن بحكم يمينه فانحل الايلاء كما لو كفرها، واختلف أصحاب الشافعي فقال بعضهما لا يكون موليا منهن حتى يطأ ثلاثا فيصير موليا من الرابعة وحكى المزني عن الشافعي أنه يكون موليا منهن كلهن يوقف لكل واحدة منهن فإذا أصاب بعضهن خرجت من حكم الايلاء ويوقف لمن بقي حتى يفئ أو يطلق ولا يحنث حتى يطأ الأربع، وقال أصحاب الرأي يكون موليا منهن كلهن فإن تركهن أربعة أشهر بن منه جميعا بالايلاء وإن وطئ بعضهن سقط الايلاء في حقها ولا يحنث إلا بوطئهن جميعا.
ولنا أن من لا يحنث بوطئها لا يكون موليا منها كالتي لم يحلف عليها (فصل) وفي هذه المواضع التي قلنا يكون موليا منهن كلهن إذا طالبن كلهن بالفيئة وقف لهن كلهن وإن طالبن في اوقات مختلفة ففيه روايتان

(8/523)


[إحداهما] يوقف للجميع وقت مطالبة أولاهن، قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد (والثانية) يوقف لكل واحدة منهن عند مطالبتها اختاره أبو بكر وهو مذهب الشافعي وإذا وقف للاولى فطلقها وقف للثانية فإن طلقها وقف للثالثة فإن طلقها وقف للرابعة وكذلك من مات منهن لم يمنع من وقفه للاخرى لأن يمينه لم تنحل وإيلاؤه باق لعدم حنثه فيهن فإن وطئ إحداهن حين وقف لها أو قبلها انحلت يمينه وسقط حكم الايلاء في الباقيات على ما قلناه وعلى قول القاضي ومن وافقه يوقف للباقيات كما لو طلق التي وقف لها.
(فصل) فإن قال كلما وطئت واحدة منكن فضرائرها طوالق فإن قلنا ليس هذا بإيلاء فلا كلام وإن قلنا هو إيلاء فهو مول منهن كلهن لأنه لا يمكنه وطئ واحدة منهن إلا بطلاق ضرائرها فيوقف لهن فإن فاء إلى واحدة طلق ضرائرها فإن كان الطلاق بائنا انحل الايلاء لأنه لم يبق ممنوعا من وطئها بحكم يمينه فإن كان رجعياً فراجعهن بقي حكم الايلاء في حقهن لأنه لا يمكنه وطئ واحدة إلا بطلاق

(8/524)


ضرائرها وكذلك إن راجع بعضهن كذلك إلا أن المدة تستأنف من حين الرجعة ولو كان الطلاق تاما فعاد فتزوجهن أو تزوج بعضهن عاد حكم الايلاء واستؤنفت المدة من حين النكاح وسواء تزوجها في العدة أو بعدها أو بعد زوج آخر واصابة لما سنذكره بعد إن شاء الله تعالى وإن قال نويت واحدة بعينها قبل منه وتعلقت يمينه بها فإذا وطئها طلق ضرائرها وإن وطئ غيرها لم يطلق منهن شئ ويكون موليا من المعينة دون غيرها لأنها التي يلزمه بوطئها الطلاق دون غيرها * (مسألة) * (وإن آلى من واحدة وقال للاخرى شركتك معها لم يصر موليا من الثانية لأن اليمين بالله لا تصح إلا بلفظ صريح من اسم أو صفة والتشريك بينهما كناية فلم تصح به اليمين، وقال القاضي يكون موليا منهما كما لو طلق واحدة، وقال للاخرى شركتك معها ينوي به الطلاق والفرق بينهما أن الطلاق ينعقد بالكناية ولا كذلك اليمين وإن قال إن وطئتك فأنت طالق ثم قال للاخرى شركتك معها ونوى فقد صار طلاق الثانية معلقا على وطئها أيضاً لأن الطلاق يصح بالكناية وإن

(8/525)


قلنا إن ذلك ايلاء في الأولى صار ايلاء في الثانية لأنها صارت في معناها وإلا فليس بإيلاء في واحدة منهما وكذلك لو إلى رجل من زوجته فقال آخر لامرأته أنت مثل فلانة لم يكن موليا، وقال أصحاب الرأي هو مول.
ولنا أنه ليس بصريح في القسم فلا يكون موليا به كما لو لم يشبهها بها ويصح الايلاء بكل لغة كالعجمية وغيرها ممن يحسن العربية وممن لا يحسنها لأن اليمين تنعقد بغير العربية وتجب بها الكفارة والمولي هو الحالف بالله أو بصفته على ترك وطئ زوجته الممتنع من ذلك بيمينه فإن آلى بالعجمية من لا يحسنها وهو لا يدري معناها لم يكن موليا وإن نوى موجبها عند أهلها وكذلك الحكم اذا آلى بالعربية من لا يحسنها لأنه لا يصح منه قصد الايلاء بلفظ لا يدري معناه فإن اختلف الزوجان في معرفته بذلك فالقول قوله إذا كان متكلما بغير لسانه لأن الأصل عدم

(8/526)


معرفته بها فأما إن آلى العربي بالعربية ثم قال جرى على لساني من غير قصد أو قال ذلك العجمي في إيلائه بالعجمية لم يقبل قوله في الحكم لأنه خلاف الظاهر (فصل) ولا يصح الايلاء إلا من زوجته لقول الله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) وإن حلف على ترك وطئ أمته لم يكن موليا إذا بقي من مدة يمينه أكثر من أربعة أشهر لأنه ممتنع من وطئ امرأته بتحكم يمينه مدة الايلاء فكان موليا كما لو حلف في الزوجية وحكي عن أصحاب الرأي أنه من مرت به امرأة فحلف أن لا يقربها ثم تزوجها لم يكن موليا وإن قال تزوجت فلانة فوالله لا قربتها صار موليا لأنه أضاف اليمين إلى حال الزوجية فأشبه ما لو حلف بعد تزوجها ولنا قول الله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم) وليست هذه من نسائه ولأن الايلاء حكم من أحكام النكاح فلم يتقدمه كالطلاق والقسم ولأن المدة تضرب له لقصده الاضرار بها بيمينه فإذا كانت اليمين

(8/527)


قبل النكاح لم يكن قاصداً للاضرار فأشبه الممتنع بغير يمين، قال الشريف أبو جعفر وقد قال أحمد يصح الظهار قبل النكاح والمنصوص عدم الصحة لما ذكرنا
(فصل) فإن آلى من الرجعية صح إيلاؤه، وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وذكر ابن حامد فيه رواية أخرى أنه لا يصح ايلاؤه لأن الطلاق يقطع مدة الايلاء إذا طرأ فلان يمنع صحته ابتداء أولى.
ولنا أنها زوجة يلحقها طلاقه فصح ايلاؤه منها كغير المطلقة وإذا آلى منها احتسب بالمدة من حين آلى وإن كانت في العدة ذكره ابن حامد وهو قول أبي حنيفة ويجئ على قول الخرقي أن لا يحتسب عليه بالمدة إلا من حين راجعها لأن الرجعة في ظاهر كلامه محرمة وهو مذهب الشافعي لأنها معتدة أشبهت البائن ولأن الطلاق إذا طرأ قطع المدة ثم لا يحتسب عليه بشئ من المدة قبل رجعتها فأولى أن لا يستأنف المدة في العدة ووجه الأول أنه من صح إيلاؤه احتسب عليه بالمدة من حين إيلائه كما لو لم تكن مطلقة، ولأنها

(8/528)


مباحة واحتسب عليه بالمدة فيها كما لو لم يطلقها، وفارق البائن فانها ليست زوجة، ولا يصح الايلاء منها بحال فهي كسائر الأجنبيات (فصل) ويصح الايلاء من كل زوجة مسلمة كانت أو ذمية حرة أو أمة لعموم قوله سبحانه (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) ولأن كل واحدة منهن زوجة فصح الايلاء منها كالحرة المسلمة، ويصح الايلاء قبل الدخول وبعده، وبهذا قال النخعي ومالك والاوزاعي والشافعي، وقال عطاء والزهري والثوري إنما الايلاء بعد الدخول ولنا عموم الآية والمعنى ولأنه ممتنع من جماع زوجته بيمينه فأشبه ما بعد الدخول ويصح الايلاء من الصغيرة والمجنونة إلا أنه لا يطالب بالفيئة في حال الصغر والجنون لانهما ليستا من أهل المطالبة.
فأما الرتقاء والقرناء فلا يصح الايلاء منهما لأن الوطئ متعذر دائماً فلم تنعقد اليمين على تركه كما لو حلف

(8/529)


لا يصعد السماء ويحتمل أن يصح وتضرب له المدة لأن المنع بسبب من جهتها فهي كالمريضة، فعلى هذا يفئ فيئة المعذور لأن الفيئة بالوطئ في حقها متعذرة فلا يمكن المطالبة به فأشبه المجبوب * (فصل) * (الشرط الرابع أن يكون من زوج يمكنه الوطئ وتلزمه الكفارة بالحنث مسلما كان أو
كافراً حراً أو عبداً سليماً أو خصياً أو مريضاً يرجى برؤه) وجملة ذلك أنه يشترط أن يكون الايلاء من زوج لقول الله سبحانه (للذين يؤلون من نسائهم) ويشترط أن يكون مكلفاً فأما الصبي والمجنون فلا يصح إيلاؤهما لان القلم مرفوع عنهما * (مسألة) * (ويصح إيلاء الذمي ويلزمه ما يلزم المسلم إذا تقاضوا إلينا) وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وإن أسلم لم ينقطع حكم إيلائه، وقال مالك إن أسلم سقط حكم يمينه وقال أبو يوسف ومحمد إن حلف بالله لم يكن موليا لأنه لا يحنث إذا جامع لكونه غير مكلف وإن كانت يمينه بطلاق أو عتاق فهو مول لأنه يصح عتقه وطلاقه ولنا قول الله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) ولأنه مانع نفسه باليمين من

(8/530)


جماعها فكان مولياً كالمسلم ولأن من صح طلاقه صح إيلاؤه ومن صحت يمينه عند الحاكم صح إيلاؤه كالمسلم فأما العاجز عن الوطئ فإن كان لعارض مرجو الزوال كالمرض والحبس صح إيلاؤه لأنه يقدر على الوطئ فصح منه للامتناع منه وإن كان غير مرجو الزوال كالجب والشلل لم يصح إيلاؤه لأنها يمين على ترك مستحيل فلم تنعقد كما لو حلف لا يقلب الحجارة ذهباً ولأن الايلاء اليمين المانعة من الوطئ وهذا لا يمنعه بيمينه فإنه متعذر منه ولا يضر المرأة بيمينه قال أبو الخطاب ويحتمل أن يصح الايلاء منه قياساً على العاجز بمرض أو حبس، وفيئته لو قدرت لجامعتك لانه معذور فيفئ بلسانه كالعاجز بعذر يزول، وللشافعي في ذلك قولان والأول أولى لما ذكرنا فأما الخصي الذي سلت بيضتاه أو رضت فيمكنه الوطئ وينزل ماء رقيقاً فيصح إيلاؤه وكذلك المجبوب الذي بقي من ذكره ما يمكن الجماع به * (مسألة) * (ولا يصح إيلاء الصبي والمجنون) لان القلم مرفوع عنهما ولأنه قول يجب بمخالفته كفارة أو حق فلم ينعقد منهما كالنذر

(8/531)


* (مسألة) * (وفي إيلاء السكران وجهان) بناء على طلاقه
(فصل) ولا يشترط في صحة الايلاء الغضب ولا قصد الاضرار روى ذلك عن ابن مسعود، وبه قال الثوري والشافعي وأهل العراق وابن المنذر وروي عن علي رضي الله عنه ليس في إصلاح إيلاء، وعن ابن عباس قال: إنما الايلاء في الغضب ونحوه عن الحسن والنخعي وقتادة، وقال مالك والاوزاعي وأبو عبيد من حلف لا يطأ زوجته حتى تفطم ولده لا يكون إيلاء إذا أراد الصلاح لولده ولنا عموم الآية ولأنه مانع لنفسه من جماعها بيمينه فكان مولياً كحال الغضب، يحققه أن حكم الإيلاء ثبت لحق الزوجة فيجب أن يثبت سواء قصد الاضرار أو لم يقصد كاستيفاء ديونها واتلاف مالها ولأن الطلاق والظهار وسائر الايمان سواء في الغضب والرضاء فكذلك في الإيلاء، وأما إذا حلف أن لا يطأها حتى تفطم ولده فإذا أراد وقت الفطام وكانت مدته تزيد على أربعة أشهر فهو مول

(8/532)


وإن أراد فعل الفطام لم يكن مولياً لأنه ممكن قبل أربعة أشهر وليس بمحرم ولا فيه تفويت حق لها فلم يكن موليا كما لو حلف أن لا يطأها حتى تدخل الدار * (مسألة) * (ومدة الإيلاء في الأحرار والرقيق سواء، وعنه أنها في العبد على النصف) يصح إيلاء العبد كما يصح من الحر قياساً عليه ولدخوله في عموم الآية ولا تختلف مدته فلا فرق بين الحرة والمسلمة والذمية والامة والصغيرة والكبيرة في ظاهر المذهب وهو قول الشافعي وابن المنذر.
وعن أحمد رواية أخرى أن مدة الإيلاء للعبد شهان وهو اختيار أبي بكر وقول عطاء والزهري ومالك واسحاق لأنهم على النصف في الطلاق وعدد المنكوحات فكذلك في الايلاء.
وقال الحسن والشعبي إيلاؤه من الامة شهران ومن الحرة أربعة وقال أبو حنيفة إيلاء الامة نصف إيلاء الحرة لأن ذلك تتعلق به البينونة فاختلف بالرق والحرية كالطلاق ولأنها مدة ثبت ابتداؤها بقول الزوج فوجب أن تختلف برق الامة وحريتها كمدة العنة ولنا عموم الآية ولأنها مدة ضربت للوطئ فاستوى فيها الرق والحرية، ولا نسلم أن البينونة تتعلق بها

(8/533)


ثم يبطل ذلك بمدة العنة ويخالف مدة العدة لأن العدة مبنية على الكمال بدليل أن الاستبراء يحصل بقرء واحد، وأما مدة الإيلاء فإن الاستمتاع بالحرة أكثر وكان ينبغي أن تقدم مطالبتها مطالبة الامة والحق على الحر في الاستمتاع أكثر منه على العبد ولا تجوز الزيادة عليه في مطالبة العبد عليه * (مسألة) * (ولا حق لسيد الامة في طلب الفيئة والعفو عنها وإنما ذلك إليها) وجملة ذلك أن الحرة والامة سواء في استحقاق المطالبة سواء عفا السيد عن ذلك أو لم يعف لأن الحق لها لأن الاستمتاع يحصل لها فإن تركت المطالبة لم يكن لمولاها الطلب، ولأنه لا حق له، فإن قيل حقه في الولد ولهذا لم يجز العزل عنها إلا بإذنه، قلنا لا يستحق على الزوج استيلاد المرأة ولذلك لو حلف ليعزلن عنها أو لا يستولدها لم يكن مولياً ولو أن المولي وطئ بحيث يوجب التقاء الختانين وجبت الفيئة وزالت عنه المطالبة وإن لم ينزل وإنما استؤذن السيد في العزل لأنه يضر بالامة فربما نقص قيمتها ولنا في وجوب استئذانه منع

(8/534)


* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (وإذا صح الإيلاء ضربت له مدة أربعة أشهر) وجملة ذلك أن المولي يتربص أربعة أشهر كما أمر الله تعالى ولا يطالب بالوطئ فيهن فإذا مضت أربعة أشهر ورافعته امرأته إلى الحاكم أمره بالفيئة فإن أبى أمره بالطلاق ولا تطلق زوجته بمضي المدة قال أحمد في الإيلاء يوقف عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمر ما يدل على ذلك وعن عثمان وعلي وجعل يثبت حديث علي وبه قال ابن عمر وعائشة وروي ذلك عن أبي الدرداء وقال سليمان ابن يسار كان تسعة عشر رجلا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوقفون في الإيلاء وقال سهيل بن أبي صالح سألت اثني عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكلهم يقول ليس عليه شئ حتى يمضي أربعة أشهر فيوقف فإن فاء وإلا طلق وبه قال سعيد بن المسيب وعروة ومجاهد وطاوس ومالك والشافعي واسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر وقال ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وجابر بن زيد وعطاء ومسروق والحسن وقبيصة والنخعي

(8/535)


والاوزاعي وابن أبي ليلى واصحاب الرأي: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.
وروي ذلك أيضاً عن علي وعثمان وزيد وابن عمر وروي عن أبي بكر بن عبد الرحمن ومكحول والزهري تطليقة رجعية.
ويحكى عن ابن مسعود أنه كان يقرأ (فان فاءوا فيهن فإن الله غفور رحيم) ولأن هذه مدة ضربت لاستدعاء الفعل منه فكان ذلك في المدة كمدة العنة ولنا قول الله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) لذكره الفيئة بعدها بالفاء المقتضية للتعقيب ثم قال (وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع) ولو وقع بمضي المدة لم يحتج إلى عزم عليه وقوله سميع عليم يقتضي أن الطلاق مسموع ولا يكون المسموع إلا كلاماً ولأنها مدة ضربت له تأجيلا فلم يستحق المطالبة فيها كسائر الآجال ولأن هذه مدة لم يتقدمها إيقاع فلم يتقدمها وقوع كمدة النعة ومدة العنة حجة لنا فإن الطلاق لا يقع بمضيها ولأن مدة العنة ضربت له ليختبر فيها ويعرف عجزه عن الوطئ بتركه في مدتها وهذه ضربت تأخيراً لها وتأجيلاً فلا تستحق المطالبة إلا بمضي الأجل كالدين

(8/536)


(فصل) وابتداء المدة من حين اليمين ولا تفتقر إلى ضرب مدة لأنها ثبتت بالنص والإجماع فلا تفتقر إلى ضرب كمدة العدة ولا يطالب بالوطئ فيها لما ذكرنا * (مسألة) * (فإن كان بالرجل عذر يمنع الوطئ احتسبت عليه بمدة وإن كان ذلك نهاية لم يحتسب عليه وإن طرأ بها استؤنفت المدة عند زواله) يعني إذا انقضت المدة وكان بالرجل عذر يمنع الوطئ كحبسه واحرامه حسبت عليه المدة من حين إيلائه لأن المانع من جهته وقد وجد التمكين الذي عليها ولذلك لو أمكنته من نفسها وكان ممتنعاً لعذر وجبت لها النفقة وإن طرأ شي من هذه الأعذار بعد الإيلاء أو جن لم تنقطع المدة للمعنى الذي ذكرناه وإن كان المانع من جهتها كصغرها ومرضها وحبسها وصيامها واعتكافها المفروضين واحرامها وغيبتها فإن وجد منها حال الإيلاء لم تضرب له المدة حتى يزول لأن المدة تضرب لامتناعه من وطئها والمنع ههنا من قبلها وإن طرأ بها شئ من هذه الأسباب استؤنفت المدة ولم تبن على ما مضى لأن قوله سبحانه (تربص أربعة أشهر) يقتضي متوالية فإذا قطعتها وجب استئنافها كمدة الشهرين في صوم الكفارة
* (مسألة) * (إلا الحيض فإنه يحتسب عليه بمدته وفي النفاس وجهان) قد ذكرنا أن المانع إذا كان من جهتها لا يحتسب عليه إلا الحيض فإنه يحتسب عليه ولا يمنع ضرب المدة إذا كان موجوداً وقت الإيلاء لأنه لو منع لم يمكن ضرب المدة لأن الحيض في الغالب لا يخلو منه شهر فيؤدي ذلك إلى إسقاط حكم الإيلاء وإن طرأ الحيض لم تقع المدة لما ذكرنا والنفاس مثل الحيض

(8/537)


في أحد الوجهين لأن أحكامه أحكام الحيض (والثاني) هو كسائر الأعذار التي من جهتها لأنه نادر غير معتاد فأشبه سائر الأعذار فأما إن جنت وهربت من يده انقطعت المدة وإن بقيت في يده وأمكنه وطؤها احتسب عليه بها فإن قيل فهذه الأسباب منها ما لا صنع لها فيه فلا ينبغي أن يقطع المدة كالحيض قلنا إذا كان المنع لمعنى فيها فلا فرق بين كونه بفعلها أو بغير فعلها كما إن البائع إذا تعذر عليه تسليم المعقود عليه لم تتوجه له المطالبة بعوضه سواء كان لعذر أو لغير عذر وإن آلى في الردة لم تضرب له المدة إلا من حين رجوح المرتد منهما إلى الإسلام فإن طرأت الردة في أثناء المدة انقطعت لأن النكاح قد تشعث وحرم الوطئ فإن عاد إلى الإسلام استؤنفت المدة سواء كانت الردة منهما أو من أحدهما وكذلك إن أسلم أحد الزوجين الكافرين أو خالعها ثم تزوجها * (مسألة) * (وإن طلقها في أثناء المدة انقطعت) لأنها صارت ممنوعة بغير اليمين قانقطعت المدة كما لو كان الطلاق بائنا سواء بانت بفسخ أو طلاق ثلاث أو بخلع أو بانقضاء عدتها من الطلاق الرجعي لأنها صارت أجنبية منه ولم يبق شئ من أحكام نكاحها فإن عاد فتزوجها عاد حكم الايلاء من حين تزوجها وكذلك إن كان الطلاق رجعياً فراجعها استؤنفت المدة كما لو كان الطلاق بلائنا فتزوجها فإن كان الباقي من مدة يمينه أربعة أشهر فما دون لم يثبت حكم الإيلاء لأن مدة التربص أربعة أشهر وإن كان أكثر من أربعة أشهر تربص أربعة أشهر ثم وقف لها فإما ان يفئ أو يطلق فإن لم يطلق طلق عليه الحاكم وهذا قول مالك وقال أبو حنيفة إن كان الطلاق أقل من ثلاث ثم تركها حتى انقضت عدتها ثم نكحها عاد الإيلاء وإن استوفي عدد الطلاق لم يعد الإيلاء

(8/538)


لأن حكم النكاح الأول زال بالكلية ولهذا ترجع إليه في طلاق ثلاث فصار إيلاؤه في النكاح الأول كإيلائه من أجنبية وقال أصحاب الشافعي يحصل من أقواله ثلاثة أقاويل قولان كالمذهبين وقول ثالث لا يعود حكم الإيلاء بحال وهو قول ابن المنذر لأنها صارت بحال لو آلى منها لم يصح إيلاؤه فبطل حكم الايلاء منهما كالمطلقة ثلاثاً ولنا أنه ممتنع من وطئ امرأته بيمين في حال نكاحها فثبت له حكم الإيلاء كما لو لم يطلق وفارق الإيلاء من الأجنبية فإنه لا يقصد باليمين عليها الاضرار بها بخلاف مسئلتنا (فصل) فإن آلى من امرأته الأمة ثم اشتراها ثم اعتقها وتزوجها عاد الإيلاء ولو كان المولي عبداً فاشترته امرأته ثم اعتقته وتزوجته عاد الإيلاء ولو بانت الزوجة بردة أو اسلام من أحدهما أؤ غيره ثم تزوجها تزويجاً جديداً عاد الإيلاء وتستأنف المدة في جميع ذلك سواء عادت إليه بعد زوج ثان أو قبله لأن اليمين كانت منه في حال الزوجية فبقي حكمها ما وجدت الزوجية وهكذا لو قال لزوجته إن دخلت الدار والله لا جامعتك ثم طلقها ثم نكحت غيره ثم تزوجها عاد حكم الإيلاء لأن الصفة المعقودة في حال الزوجية لا تنحل بزوال الزوجية فإن دخلت الدار في حال البينونة ثم عاد فتزوجها لم يثبت حكم الإيلاء في حقه لأن الصفة وجدت في حال كونها أجنبية ولا ينعقد الايلاء بالحف على الأجنبية بخلاف ما إذا دخلت وهي امرأته * (مسألة) * (وإن انقضت المدة وبها عذر يمنع الوطئ لم تملك طلب الفيئة) لان الوطئ ممتنع من جهتها فلم يكن لها مطالبته بما تمنعه منه ولأن المطالبة مع الاستحقاق وهي

(8/539)


لا تستحق الوطئ في هذه الأحوال وليس لها المطالبة بالطلاق لأنه إنما يستحق عند امتناعه ولم يجب عليه شئ ولكن تتأخر المطالبة إلى حال زوال العذر وإن لم يكن العذر قاطعاً للمدة كالحيض أو كان العذر حدث بعد انقضاء المدة * (مسألة) * (وإن كان العذر به وهو مما يعجز به عن الوطئ من مرض أو حبس بغير حق أو غيره لزمه ان يفئ بلسانه)
فيقول متى قدرت جامعتك أو نحو هذا وممن قال يفئ بلسانه إذا كان ذا عذر ابن مسعود وجابر بن زيد والنخعي والحسن والزهري والاوزاعي وعكرمة وأبو عبيد وأصحاب الرأي وقال سعيد بن جبير لا يكون الفيئ الا الجماع في حال العذر وغيره وقال أبو ثور إذا لم يقدر لم يوقف حتى يصح أو يصل إن كان غائباً ولا تلزمه الفيئة بلسانه لان الضرر ترك الوطئ ولا يزول بالقول وقال بعض الشافعية يحتاج أن يقول قد ندمت على ما فعلت وإن قدرت وطئت ولنا ان القصد بالفيئة ترك ما قصد بنفس الاضرار وقد ترك قصد الاضرار بما أتى به من الاعتذار والقول مع العذر يقوم مقام فعل القادر بدليل إن إشهاد الشفيع على الطلب بالشفعة عند العجز عن طلبها يقوم مقام طلبها عند الحضور في إثباتها ولا يحتاج أن يقول ندمت لأن الغرض أن يظهر رجوعه من المقام على اليمين وقد حصل بظهور عزمه عليه وحكى أبو الخطاب عن القاضي أن فيئة المعذور أن يقول فئت إليك وهو قول الثوري وأبي عبيد وأصحاب الرأي والذي ذكر القاضي في المجرد مثل ما ذكر الخرقي وهو أحسن لأن وعده بالفعل عند القدرة عليه دليل على ترك قصد الاضرار وفيه نوع من الاعتذار وإخبار

(8/540)


بإزالته الضرر عند إمكانه ولا يحصل بقوله فئت إليك شئ من هذا فأما العاجز لجب أو شلل ففيئته أن يقول لو قدرت لجامعتها لأن ذلك يزيل ما حصل بايلائه والإحرام كالمرض في ظاهر قول الخرقي وكذلك على قياسه الاعتكاف المنذور والظهار ومتى قدر على الفيئة وهي الجماع طولب به لأنه تأخر للعذر فإذا زال العذر طولب به كالدين الحال فان لم يفعل أمر بالطلاق وهذا قول كل من يقول يوقف المولي لأن الله تعالى قال (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) فإذا امتنع من أداء الواجب عليه فقد امتنع من الإمساك بالمعروف فيؤمر بالتسريح بالإحسان فإن كان قد فاء بلسانه في حال العذر ثم قدر على الوطئ أمر به فإن فعل وإلا أمر بالطلاق وهذا قول الشافعي وقال أبو بكر إذا فاء بلسانه لم يطالب بالفيئة مرة أخرى وخرج من الإيلاء وهو قول الحسن وعكرمة والاوزاعي لأنه فاء مرة فخرج من الإيلاء ولم تلزم فيئة ثانية كما لو فاء بالوطئ وقال أبو حنيفة تستأنف له مدة الإيلاء لأنه وفاها حقها بما أمكنه من الفيئة فلا يطالب إلا بعد استئناف مدة الإيلاء كما لو طلقها ولنا أنه أخر حقها لعجزه عنه فإذا قدر عليه لزمه أن يوفيها إياه كالدين على المعسر إذا قدر
عليه وما ذكره فليس بحقها ولا يزال الضرر عنها وإنما وعدها بالوفاء فلزمها الصبر عليه وانظاره كالغريم المعسر.

(8/541)


(فصل) وليس على من فاء بلسانه كفارة ولا حنث لأنه لم يفعل المحلوف عليه وإنما وعد بفعله فهو كمن عليه دين حلف أن لا يوفيه ثم أعسر به فقال متى قدرت وفيته * (مسألة) * (وإن كان مظاهراً فقال أمهلوني حتى أطلب رقبة أعتقها عن ظهاري أمهل ثلاثة أيام ذكر شيخنا أن الظهار كالمرض في قياس قول الخرقي.
وكذلك الاعتكاف المنذور، وقد ذكر أصحابنا أن المظاهر لا يمهل ويؤمر بالطلاق فيخرج من هذا أن كل عذر من فعله يمنع الوطئ لا يمهل من أجله وهو مذهب الشافعي لأن الامتناع بسبب منه فلا يسقط حكماً واجباً فعلى هذا لا يؤمر بالوطئ لانه محرم عليه ولكن يؤمر بالطلاق ووجه القول الأول أنه عاجز من الوطئ بأمر لا يمكنه الخروج منه فأشبه المريض.
فأما المظاهر فيقال له اما ان تكفر وتفئ وأما أن تطلق فإن قال أمهلوني حتى أطلب رقبة أو أطعم فان علم أنه قادر على التكفير في الحال وإنما يقصد المدافعة والتأخير لم يمهل لأن الحق حال عليه وإنما يمهل للحاجة وإن لم يعلم أمهل ثلاثة أيام فإنها قريبة ولا يزاد على ذلك وإن كان فرضه الصيام فطلب الإمهال ليصوم شهرين متتابعين لم يمهل لأنه كثير ويتخرج أن يفئ بلسانه فيئة المعذور ويمهل حتى يصوم كقولنا في المحرم فإن وطئها فقد عصى وانحل إيلاؤه ولها منعه لأنه وطئ محرم عليهما، وقال القاضي: يلزمها التمكين، وإن امتنعت سقط حقها في الوطئ وقد بذله لها ومتى وطئها فقد وفاها حقها والتحريم عليه دونها.
ولنا انه وطئ حرام فلا يلزم التمكين منه كالوطئ في الحيض والنفاس وهذا ينقض دليله ولا نسلم أن التحريم عليه دونها فان الوطئ متى حرم علي احدهما حرم على الآخر لكونه فعلاً واحداً

(8/542)


ولو جاز اختصاص أحدهما بالتحريم لاختصت المرأة بتحريم الوطئ في الحيض والنفاس واحرامها
وصيامها لاختصاصها بسببه (فصل) وإن انقضت المدة وهو محبوس بحق يمكنه أداؤه طولب بالفيئة لأنه قادر عليها بأداء ما عليه فان لم يفعل أمر بالطلاق وإن كان عاجزاً عن أدائه أو حبس ظلما أمر بفيئة المعذور وإن انقضت وهو غائب والطريق آمن فلها أو توكل من يطالبه بالمسير إليها أو حملها إليه فان لم يفعل أخذ بالطلاق وإن كان الطريق مخوفا أوله عذر يمنعه فاء فيئة المعذور (فصل) فإن كان مغلوباً على عقله بجنون أو إغماء لم يطالب لأنه لا يصلح للخطاب ولا يصح منه الجواب وتتأخر المطالبة إلى حال القدرة وزوال العذر ثم يطالب حينئذ * (مسألة) * وإن قال أمهلوني حتى أقضي صلاتي أو أتغدى فإني جائع أو حتى ينهضم الطعام أو أنام فإني ناعس أمهل بقدر ذلك) لأنه عذر ولا يمهل أكثر من قدر الحاجة كالدين الحال وكذلك إن قال أمهلوني حتى أفطر من صومي أمهل لذلك وإن قال أمهلوني حتى أرجع إلى بيتي أمهل لأن العادة فعل ذلك في بيته (فصل) فإن كانت المرأة صغيرة أو مجنونة فليس لهما المطالبة لأن قولهما غير معتبر وليس لوليهما المطالبة لأن هذا طريقه الشهوة فلا يقوم غيرهما مقامهما فيه فإن كانتا ممن لا يمكن وطؤهما لم يحتسب عليه بالمدة لأن المنع من جهتهما وإن كان وطؤهما ممكناً فأفاقت المجنونة أو بلغت الصغيرة قبل انقضاء المدة تمت المدة ثم لهما المطالبة وإن كان ذلك بعد انقضاء المدة فلهما المطالبة يومئذ لأن الحق لهما

(8/543)


ثابت وإنما تأخر لعدم إمكان المطالبة، وقال الشافعي لا تضرب المدة في الصغيرة حتى تبلغ وقال أبو حنيفة تضرب المدة سواء أمكن الوطئ أو لم يمكن فإن لم يمكن الوطئ فاء بلسانه وإلا بانت بانقضاء المدة وكذلك الحكم عنده في الناشز والرتقاء والقرناء والتي غابت في المدة لأن هذا إيلاء صحيح فوجب أن تتعقبه المدة كالتي يمكنه جماعها ولنا أن حقها من الوطئ يسقط بتعذر جماعها فوجب أن تسقط المدة المضروبة له كما يسقط أجل الدين بسقوطه، وأما التي أمكنه جماعها فتضرب له المدة في حقها لأنه إيلاء صحيح ممن يمكنه جماعها
فتضرب له المدة كالبالغة ومتى قصد الاضرار بهما بترك الوطئ أثم ويستحب أن يقال له اتق الله فإما أن تفئ وأما أن تطلق فإن الله تعالى قال (وعاشروهن بالمعروف) * (مسألة) * فإن لم يبق له عذر طلبت الفيئة وهي الجماع وليس في هذا اختلاف قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الفئ الجماع كذلك قال ابن عباس، وروي ذلك عن علي وابن مسعود، وبه قال عطاء والشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والثوري والاوزاعي والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي إذا لم يكن عذر وأصل الفئ الرجوع إلى فعل ما تركه.
* (مسألة) * (فإذا جامع انحلت يمينه وعليه كفارتها) في قول أكثر أهل العلم منهم زيد وابن عباس وبه قال ابن سيرين والثوري والنخعي وقتادة ومالك وأهل المدينة وأبو عبيد وأصحاب الرأي وابن

(8/544)


المنذر وهو ظاهر مذهب الشافعي وله قول آخر لا كفارة عليه وهو قول الحسن وقال النخعي كانوا يقولون ذلك لأن الله تعالى قال (فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم) قال قتادة هذا خالف الناس يعني قول الحسن ولنا قول الله تعالى (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين - إلى قوله - ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) وقال سبحانه (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا حلفت على يمينه فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك " متفق عليه ولأنه حالف حانث في يمينه فقبلت منه الكفارة كما لو حلف على ترك فريضة ثم فعلها، والمغفرة لا تنافي الكفارة فإن الله تعالى قد غفر لرسوله ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقد كان يقول " إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها " متفق عليه * (مسالة) * (وأدنى ما يكفي من ذلك تغييب الحشفة في الفرج) لأن أحكام الوطئ تتعلق به فإن وطئ في الدبر أو دون الفرج لم تحصل الفيئة به لأنه ليس بمحلوف عليه ولا يزول الضرر بفعله (فصل) فإن وطئها ناسياً ليمينه فهل يحنث؟ على روايتين فإن قلنا يحنث أنحل إيلاؤه وإن قلنا لا يحنث فهل ينحل إيلاؤه؟ على وجهين قياساً على المجنون، وكذلك يخرج فيما إذا آلى من زوجته ثم وجدها
في فراشه فظنها الأخرى فوطئها لأنه جاهل بها والجاهل كالناسي في الحنث وكذلك إن ظنها أجنبية فبانت زوجته وإن استدخلت ذكره وهو نائم لم يحنث لأنه لم يفعل ما حلف عليه، ولأن القلم مرفوع عنه وهل يخرج من حكم الإيلاء؟ يحتمل وجهين (احدهما) يخرج لأن المرأة وصلت إلى حقها فأشبه ما لو وطئ (الثاني)

(8/545)


لا يخرج من حكم الإيلاء لأنه ما وفاها حقها وهو باق على الامتناع من الوطئ بحكم اليمين فكان موليا كما لو لم تفعل به ذلك والحكم فيما إذا وطئ وهو نائم كذلك لأنه لا يحنث به * (مسألة) * (وإن وطئها في الفرج وطأ محرماً مثل أن يطأ في الحيض أو النفاس أو الإحرام أو صيام فرض من أحدهما أو مظاهراً فقد فاء إليها) لأن يمينه انحلت فزال حكمها وزال عنها الضرر وهذا مذهب الشافعي وقال أبو بكر قياس المذهب أن لا يخرج من الإيلاء لانه وطئ لا يؤمر به في الفيئة فلم يخرج به من الفيئة كالوطئ في الدبر، والذي ذكره لا يصح لأن يمينه انحلت ولم يبق ممتنعا من الوطئ بحكم اليمين فلم يبق الايلاء كما لو كفر يمينه أو كما لو وطئها مريضة، وقد نص أحمد فيمن حلف ثم كفر يمينه أنه لا يبقى مولياً لعدم حكم اليمين مع أنه ما وفاها حقها فلأن يزول بحنثه فيها أولى، وقد ذكر القاضي في المحرم والمظاهر أنهما إذا وطئا فقد وفياها حقها، وفارق الوطئ في الدبر فإنه لا يحنث به وليس بمحل للوطئ بخلاف مسئلتنا (فصل) فإن كان الإيلاء بتعليق عتق أو طلاق وقع بنفس الوطئ لأنه معلق بصفة وقد وجدت وان كان على نذر عتق أو صوم أو صلاة أو حج أو غير ذلك من الطاعات أو المباحات فهو مخير بين الوفاء به وبين التكفير لانه نذر لجاج أو غضب وهذا حكمه، فإن علق طلاقها الثلاث بوطئها لم يؤمر بالفيئة وأمر بالطلاق لأن الوطئ غير ممكن لكونها تبين منه بإيلاج الحشفة فيصير مستمتعاً بأجنبية وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وأكثرهم قال تجوز الفيئة لأن النزع ترك للوطئ وترك الوطئ ليس بوطئ وقد ذكر القاضي أن كلام أحمد يقتضي روايتين كهذين الوجهين، قال شيخنا واللائق بمذهب أحمد تحريمه لوجوه ثلاثة: (أحدها) أن آخر الوطئ يحصل في أجنبية كما ذكرناه فإن النزع يتلذذ به كما يلتذ بالايجلاج فيكون في

(8/546)


حكم الوطئ ولذلك قلنا فيمن طلع عليه الفجر وهو مجامع فنزع أنه يفطر، والتحريم ههنا أولى لأن الفطر بالوطئ ويمكن منع كون النزع وطأ والمحرم ههنا الاستمتاع والنزع استمتاع فكان محرماً ولأن لمسها على وجه التلذذ محرم فمس الفرج بالفرج أولى بالتحريم، فإن قيل فهذا إنما يحصل ضرورة ترك الوطئ المحرم قلنا فإذا لم يمكن الوطئ إلا بفعل محرم حرم ضرورة ترك الحرام كما لو اختلط لحم الخنزير بلحم مباح لا يمكنه أكله إلا بأكل لحم الخنزير حرم، ولو اشتبهت ميته بمذكاة أو امرأته بأجنبية حرم الكل (والوجه الثاني) أنه بالوطئ يحصل الطلاق بعد الإصابة وهو طلاق بدعة فكما يحرم إيقاعه بلسانه يحرم بتحقيق سببه (الثالث) أنه يقع به طلاق البدعة من وجه آخر وهو جمع الثلاث فإن وطئ فعليه النزع حين يولج الحشفة ولا يزيد على ذلك ولا يلبث ولا يتحرك عند النزع لأنها أجنبية فان فعل ذلك فلا حد ولا مهر لأنه تارك للوطئ وإن لبث أو تمم الإيلاج فلا حد عليه لتمكن الشبهة منه لكونه وطأ في زوجته، وفي المهر وجهان (أحدهما) يلزمه لأنه حصل منه وطئ محرم في محل غير مملوك فأوجب المهر كما لو أولج بعد النزع (والثاني) لا يجب لأنه تابع الإيلاج في محل مملوك فكان تابعاً له في سقوط المهر، وإن نزع ثم أولج وكانا جاهلين بالتحريم فلا حد عليهما وعليه المهر لها ويلحقه النسب، وإن كانا عالمين بالتحريم فعليهما الحد لأنه إيلاج في أجنبية بغير شبهة فأشبه ما لو طلقها ثلاثا ثم وطئها ولا مهر لها لأنها مطاوعة على الزنا ولا يلحقه النسب لان من زنا لا شبهة فيه، وذكر القاضي وجها أنه لا حد عليهما لان هذا يخفى على كثير من الناس وهو وجه لأصحاب الشافعي، والصحيح الأول لأن الكلام في العالمين وليس هو في مظنة الخفاء لأن أكثر

(8/547)


المسلمين يعلمون أن الطلاق الثلاث محرم للمرأة، وإن كان أحدهما عالماً والآخر جاهلاً نظرت فإن كان هو العالم فلها المهر وعليه الحد ولا يلحقه النسب لأنه زان محدود وإن كانت هي العالمة دونه فعليها الحد وحدها ولا مهر لها ويلحقه النسب لأن وطأه وطئ شبهة (فصل) فإن قال إن وطئتك فأنت علي كظهر أمي فقال أحمد لا يقربها حتى يكفر وهذا نص في تحريمها قبل التكفير وهو دليل على تحريم الوطئ في المسألة التي قبلها بطريق التنبيه لأن المطلقة ثلاثاً
أعظم تحريماً من المظاهر منها فإذا وطئ ههنا فقد صار مظاهراً من زوجته وزال حكم الإيلاء ويحتمل أن أحمد أراد إذا وطئها مرة فلا يطؤها اخرى حتى يكفر لكونه صار بالوطئ مظاهراً إذ لا يصح تقديم الكفارة على الظهار لأنه سببها ولا يجوز تقديم الحكم على سببه، ولو كفر قبل الظهار لم يجزئه وقد روى إسحاق قال قلت لأحمد فيمن قال لزوجته أنت علي كظهر أمي ان قربتك إلى سنة فقال إن جاءت تطلب فليس له أن يعضلها بعد مضي الأربعة الأشهر فيقال له اما ان تفئ وأما أن تطلق فإن وطئها فقد وجب عليه كفارة وإن أبي وأرادت مفارقته طلقها الحاكم عليه فينبغي أن تحمل الرواية الأولى على الوطئ بعد الوطئ الذي صار به مظاهرا لما ذكرناه فتكون الروايتان متفقتين والله أعلم (فصل) وإن انقضت المدة وادعى أنه عاجز عن الوطئ فإن كان قد وطئها مرة لم تسمع دعواه الفيئة كما لا تسمع دعواها عليه ويؤخذ بالفيئة أو بالطلاق كغيره وإن لم يكن وطئها ولم تكن حاله معروفة فقال القاضي تسمع دعواه ويقبل قوله لأن العنة من العيوب التي لا يقف عليها غيره وهذا ظاهر نص

(8/548)


الشافعي ولها أن تسأل الحاكم فيضرب له مدة العنة بعد ان يفئ فيئة المعذور، وفيه وجه آخر أنه لا يقبل قوله لأنه متهم في دعوى ما يسقط عنه حقاً توجه عليه الطلب به والأصل سلامته منه، وإن اعترفت أنه قد أصابها مرة وأنكر ذلك لم يكن لها المطالبة بضرب مدة العنة لاعترافها بعدم عنته والقول قوله في عدم الإصابة * (مسألة) * (وإن لم يفئ وأعفته المرأة سقط حقها ويحتمل أن لا يسقط ولها المطالبة بعد) إذا عفت المرأة عن المطالبة بالفيئة بعد وجوبها فقال بعض أصحابنا يسقط حقها وليس لها المطالبة قال القاضي هذا قياس المذهب لأنها رضيت بإسقاط حقها من الفسخ فسقط حقها منه كامرأة العنين إذا رضيت بعنته ويحتمل أن لا يسقط حقها ولها المطالبة متى شاءت وهذا مذهب الشافعي لأنها ثبتت لدفع الضرر بترك ما يتجدد مع الأحوال فكان لها الرجوع كما لو أعسر بالنفقة فعفت عن المطالبة بالفسخ ثم طالبت، وفارق الفسخ للعنة فإنه فسخ لعيبه فمتى رضيت بالعيب سقط حقها كما لو عفا المشتري عن عيب المبيع، فأما إن سكتت عن المطالبة ثم طالبت بعد فلها ذلك وجها واحدا لانها حقها يثبت على التراخي فلم يسقط
بتأخر المطالبة كاستحقاق النفقة * (مسألة) * (وإن لم تعفه أمر بالطلاق إن طلبت ذلك) لقول الله سبحانه (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم) وقال تعالى (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) فإذا امتنع من أداء الواحب فقد امتنع من الإمساك بالمعروف فيؤمر بالتسريح بإحسان

(8/549)


* (مسألة) * (فإن طلق واحدة فله رجعتها وعنه أنها تكون بائنة) وجملة ذلك أن الطلاق الواجب على المولى رجعي سواء أوقعه بنفسه أو طلق الحاكم عليه وبهذا قال الشافعي قال الأثرم قلت لأبي عبد الله في الولي فإن طلقها قال تكون واحدة وهو أحق بها وعن أحمد رواية أخرى أن فرقة الحاكم تكون بائناً ذكر أبو بكر الروايتين جميعاً وقال القاضي المنصوص عن أحمد في فرقة الحاكم أنها تكون بائناً فإن في رواية الأثرم وقد سئل إذا طلق عليه السلطان أتكون واحدة؟ فقال إذا طلق فهي واحدة وهو أحق بها، فأما تفريق السلطان فليس فيه رجعة، وقال أبو ثور طلاق المولي بائن سواء طلق هو أو طلق عليه الحاكم لأنها فرقة لدفع الضرر فكانت بائناً كفرقة العنة ولأنها لو كانت رجعية لم يندفع الضرر، وقال أبو حنيفة يقع الطلاق بانقضاء المدة بائناً، ووجه الأول أنه طلاق صادق مدخولاً بها من غير عوض ولا استيفاء عدد فكان رجعياً كالطلاق في غير الايلاء، ويفارق فرقة العنة لأنها فسخ لعيب وهذه طلقة ولأنه لو أبيح له إرتجاعها لم يندفع عنها الضرر وهذه يندفع عنها الضرر فهذه إذا ارتجعها ضربت له مدة أخرى ولأن العنين قد يئس من وطئه فلا فائدة في رجعته وهذا غير عاجز ورجعته دليل على رغبته فيها وإقلاعه عن الاضرار بها فافترقا * (مسألة) * (فإن لم يطلق حبس وضيق عليه حتى يطلق في إحدى الروايتين والأخرى يطلق الحاكم عليه) إذا امتنع المولي من الفيئة بعد التربص أو امتنع المعذور من الفيئة بلسانه أو امتنع من الوطئ بعد زوال عذره أمر بالطلاق فإن طلق وقع طلاقه الذي أوقعه واحدة كانت أو أكثر وليس للحاكم إجباره

(8/550)


على أكثر من طلقة لأنه يحصل الوفاء لحقها بها فإنها تفضي إلى البينونة والتخلص من ضرره، وإن امتنع من الطلاق طلق الحاكم عليه وبه قال مالك، وعن أحمد رواية أخرى ليس للحاكم الطلاق عليه لأن ما خير الزوج فيه بين أمرين لم يقم الحاكم مقامه فيه كالاختيار لبعض الزوجات في حق من أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة أو أختان، فعلى هذا يحبسه أو يضيق عليه حتى يفئ أو يطلق وللشافعي قولان كالروايتين ووجه الرواية الأخرى أن ما دخلته النيابة وتعين مستحقه وامتنع من هو عليه قام الحاكم مقامه فيه كقضاء الدين وفارق الاختيار فإنه ما تعين مستحقه وهذا أصح في المذهب وهو اختيار الخرقي وليس للحاكم أن يأمره بالطلاق ولا يطلق عليه إلا أن تطلب المرأة ذلك لأنه حق لها وإنما الحاكم يستوفي لها الحق فلا يكون الا عند طلبها * (مسألة) * (فإن طلق واحدة فهو كطلاق المولي) يعني إذا طلق الحاكم واحدة فهل هي رجعية أو بائنة؟ على روايتين لأنه قام مقامه وناب عنه فكان حكمه حكم المولي وإن طلق الحاكم ثلاثاً أو فسخ جاز لأن المولي إذا امتنع من الفيئة والطلاق قام الحاكم مقامه فملك من الطلاق ما يملكه المولي وإليه الخيرة فيه وإن شاء طلق واحدة وإن شاء اثنتين وإن شاء ثلاثاً وإن شاء فسخ قال القاضي هذا ظاهر كلام أحمد وقال الشافعي ليس له إلا واحدة لأن إيفاء الحق يحصل بها فلم يملك زيادة عليها كما لم يملك الزيادة على وفاء الدين في حق الممتنع ولنا ان الحاكم قائم مقامه فملك من الطلاق ما يملكه كما لو وكله في ذلك وليس ذلك زيادة على حقها فإن حقها الفرقة غير أنها تتنوع وقد يرى الحاكم المصلحة في تحريمها عليه ومنعه رجعتها لعلمه بسوء قصده وحصول المصلحة ببعده قال أبو عبد الله إذا قال فرقت بينكما فإنما هو فسخ وإذا قال طلقت واحد فهي واحدة وإذا قال طلقت ثلاثاً فهي ثلاث * (مسألة) * (وإن ادعى أن المدة ما انقضت وادعت مضيها فالقول قوله في أنها لم تمض مع يمينه) وإنما كان كذلك لأن الاختلاف في مضي المدة ينبني على الخلاف في وقت يمينه فإنهما لو اتفقا

(8/551)


على وقت اليمين حسب من ذلك الوقت فعلم هل انقضت المدة أو لا وزال الخلاف، أما إذا اختلفا في
وقت اليمين فقال حلفت في غرة رمضان وقالت بل حلفت في غرة شعبان فالقول قوله لأنه يصدر من جهته وهو أعلم به فكان القول قوله فيه كما لو اختلفا في اصل الإيلاء، ولأن الأصل عدم الحلف في غرة شعبان فكان قوله في نفيه موافقاً للأصل ويكون ذلك مع يمينه في قول الخرقي وهو مذهب الشافعي وقال أبو بكر لا يمين عليه قال القاضي وهو أصح لأنه اختلاف في أحكام النكاح فلم تشرع فيه اليمين كما لو ادعى زوجية امرأة فانكرته، والأول أولى لقول النبي صلى الله عليه وسلم اليمين على المدعي عليه ولأنه حق لآدمي يجوز بذله فيستحلف فيه كالديون * (مسألة) * (فإن ادعى أنه وطئها فأنكرته وكانت ثيباً فالقول قوله مع يمينه) اختاره الخرقي وهو مذهب الشافعي لأن الأصل بقاء النكاح والمرأة تدعي رفعه وهو يدعي ما يوافق الأصل فكان القول قوله كما لو ادعى الوطئ في العنة ولأن هذا أمر خفي ولا يعلم إلا من جهته فقبل قوله فيه كقول المرأة في حيضها وتلزمه اليمين لأن ما تدعيه المرأة محتمل فوجب نفيه باليمين ونص أحمد في رواية الأثرم على أنه لا يلزمه يمين لأنه لا يقضى فيه بالنكول وهذا اختيار أبي بكر فأما إن كانت بكرا واختلفا في الإصابة وادعت أنها عذراء أريت النساء الثقات فإن شهدن بثيوبتها فالقول قوله وإن شهدن ببكارتها فالقول قولها لأنه لو وطئها زالت بكارتها، وظاهر كلام الخرقي أنه لا يمين ههنا لأنه قال في باب العنين فإن شهدن بما قالت أجل سنة ولم يذكر يمينه وهذا قول أبي بكر لأن البينة تشهد لها فلا تجب اليمين معها وقيل تجب عليها اليمين لاحتمال أن تكون العذرة عادت بعد زوالها وإن لم يشهد بها أحد فالقول قوله كما لو كانت ثيباً وهل يحلف؟ على وجهين مضى توجيههما

(8/552)