الشرح
الكبير على متن المقنع (كتاب الديات) الأصل في وجوب الدية الكتاب
والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة
مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) وأما السنة فروى أبو بكر بن محمد
ابن عمر بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم كتابا إلى
أهل اليمن فيه الفرائض والسنن والديات وقال فيه " وفي النفس مائة من الإبل
" رواه النسائي في سننه ومالك وفي موطئه قال ابن عبد البر وهو كتاب مشهور
عند أهل السير ومعروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد
(9/480)
لانه أشبه المتواتر في مجيئه في أحاديث
كثيرة تأتي في مواضعها من الباب إن شاء الله تعالى وأجمع أهل
العلم على وجوب الدية في الجملة (مسألة) (كل من أتلف إنساناً أو جزأ منه
بمباشرة أو سبب فعليه ديته وسواء كان مسلماً أو ذمياً أو مستأمناً أو
مهادناً لما ذكرنا من الآية وفيها (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية
مسلمة إلى أهله) وعبر عن الذمة بالميثاق وحديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن
حزم حين كتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتابا إلى أهل اليمن ذكر فيه
الديات وأجمع أهل العلم عن ذلك في الجملة (مسألة) (فإن كان القتل عمداً
محضاً فهي في مال الجاني حالة) أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال
القاتل لا تحملها العاقلة، وهذا يقتضيه الأصل وهو أن بدل المتلف يجب على
المتلف وأرش الجناية على الجاني قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يجني
جان إلا على نفسه " وقال لبعض أصحابه حين رأى معه ولده " ابنك هذا؟ - قال
نعم قال - أما إنه لا لا يجني عليك ولا تجني عليه " ولأن موجب الجناية أثر
فعل الجاني فيجب أن يختص بضررها كما يختص بنفعها فإنه لو كسب كان كسبه
لغيره وقد ثبت حكم ذلك في سائر الجنايات والاكساب، وإنما خولف هذا الأصل في
قتل الحر المعذور فيه لكثرة الواجب وعجز الجاني في الغالب عن تحمله مع
(9/481)
وجوب الكفارة عليه وقيام عذره تخفيفاً عنه
ورفقاً به والعامد لا عذر له فلا يستحق التخفيف ولا يوجد فيه المعنى
المقتضي للمواساة في الخطأ.
إذا ثبت هذا فإنها تجب حالة وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة تجب في
ثلاث سنين لانها دية آدمي فكانت مؤجلة كدية شبه العمد ولنا أن ما وجب
بالعمد المحض كان حالاً كالقصاص وأرش اطراف العبد ولا يشبه شبه العمد لأن
القاتل معذور لكونه لم يقصد القتل وإنما أفضى إليه من غير اختيار منه فأشبه
الخطأ ولهذا تحمله العاقلة ولأن القصد التخفيف عن العاقلة الذين لم يصدر
منهم جناية وحملوا أداء مال مواساة فلاق بحالهم التخفيف عنهم، وهذا موجود
في الخطأ وشبه العمد على السواء، وأما العمد فإنما يحمله الجاني في غير حال
العذر فوجب أن يكون ملحقاً ببدل سائر المتلفات ويتصور الخلاف معه فيما إذا
قتل ابنه أو قتل
اجنبياً وتعذر استيفاء القصاص لعفو بعضهم أو غير ذلك (مسألة) (وإن كان شبه
عمد أو خطأ او ما جرى مجراه فعلى عاقلته) دية شبه العمد على العاقلة في
ظاهر المذهب وبه قال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي والثوري واسحاق وأصحاب
الرأي وابن المنذر، وقال ابن سيرين والزهري وإبن شبرمة وقتادة وأبو ثور: هي
على القاتل في ماله واختاره أبو بكر عبد العزيز لأنها موجب فعل قصده فلم
تحمله العاقلته كالعمد المحض ولأنها
(9/482)
دية مغلظة فأشبهت دية العمد وهكذا يجب أن
يكون مذهب مالك لأن شبه العمد عنده من باب العمد ولنا ما روى أبو هريرة
قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في
بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها متفق
عليه، ولأنه نوع قتل لا يوجب قصاصاً فوجبت ديته على العاقلة كالخطأ، ويخالف
العمد لأنه يغلظ من كل وجه لقصده الفعل وارادته القتل، وعمد الخطأ يغلظ من
وجه وهو قصده الفعل ويخفف من وجه وهو كونه لم يرد القصاص فاقتضى تغليظها من
وجه وهو الانسان وتخفيفها من وجه وهو حمل العاقلة لها وتأجيلها، ولا نعلم
في أنها تجب مؤجلة خلافا بين أهل العلم، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس
رضي الله عنهم، وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة وأبو هاشم وعبيد الله بن عمر
ومالك والشافعي واسحاق وأبو ثور وابن المنذر، وقد حكي عن قوم من الخوارج
أنهم قالوا الدية حالة لأنها بدل متلف ولم ينقل الينا ذلك عمن يعد خلافه
خلافاً، وتخالف الدية سائر المتلفات لأنها تجب على غير الجاني على سبيل
المواساة له فاقتضت الحكمة تخفيفها عليهم، وقد روي عن عمر وعلي رضي الله
عنهما أنهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين ولا مخالف لهما في
عصرهما فكان إجماعاً، وأما دية الخطأ فلا نعلم خلافاً في أنها على العاقلة،
قال إبن المنذر أجمع على هذا كل من تحفظ عنه من أهل العم، وقد ثبتت الأخبار
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى
(9/483)
بدية الخطأ على العاقلة وأجمع أهل العلم
على القول به ولأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية عمد الخطأ على العاقلة
بما قد روينا من الحديث وفيه تنبيه على أن العاقلة تحمل دية الخطأ والحكمة
في ذلك إن جنايات
الخطأ تكثر ودية الآدمي كثيرة فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به فاقتضت
الحكمة ايجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل وللاعانة تخفيفاً عنه
إذا كان معذوراً في فعله (فصل) فأما الكفارة ففي مال القاتل لا يدخلها تحمل
وقال أصحاب الشافعي تكون في بيت المال في أحد الوجهين لأنها تكثر فإيجابها
عليه يجحف به ولنا أنه كفارة فاختصت بمن وجد منه سببها كسائر الكفارات وكما
لو كانت صوماً ولأن الكفارة شرعت للتكفير عن الجاني ولا يكفر عنه بفعل غيره
وتفارق الدية فإنها إنما شرعت لجبر المحل وذلك يحصل بها كيفما كان ولأن
النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى بالدية على العاقلة لم يكفر عن العاقلة،
وما ذكروه لا أصل له، ولا يصح قياسه على الدية لوجوه (أحدها) أن الدية لم
تجب في بيت المال انما وجبت على العاقلة ولا يجوز أن يثبت حكم الفرع
مخالفاً لحكم الأصل (الثاني) أن الدية كثيرة فإيجابها على القاتل بجحف به
والكفارة بخلافها (الثالث) أن الدية وجبت مواساة للقاتل وجعل حظ القاتل من
الواجب الكفارة فإيجابها على غيره قطع للمواساة ويوجب على الجاني أكثر مما
وجب عليه وهذا لا يجوز
(9/484)
(فصل) ولا يلزم القاتل شئ من دية الخطأ
وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة هو كواحد من العاقلة لأنها وجبت
عليهم إعانة له فلا يزيدون عليه فيها ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى
الله عليه وسلم قضى بدية المرأة على عاقلتها متفق عليه وهذا يقتضي أنه قضى
عليهم جميعها ولأنه قاتل لم تلزمه الدية فلم يلزمه بعضها كما لو أمره
الإمام بقتل رجل فقتله يعتقد أنه لحق فبان مظلوماً، ولأن الكفارة تلزم
القاتل في ماله وذلك يعدل قسطه من الدية وأكثر منه فلا حاجة الى إيجاب شئ
من الدية عليه (مسألة) (وإن القى انسانا على أفعى أو ألقاها عليه فقتلته أو
طلب انسانا بسيف مجرد فهرب فوقع في شئ تلف به بصيراً أو ضريراً، أو حفر
بئراً في فنائه أو وضع حجراً أو صب ماء في طريقه أو بالت فيها دابته ويده
عليها أو رمى فيها قشر بطيخ فتلف به إنسان وجبت عليه ديته)
يجب الضمان بالسبب كما يجب بالمباشرة فإذا القى انسانا على أفعى أو ألقاها
عليه فقتلته فعليه ضمانه لأنه تلف بعدوانه فأشبه ما لو جنى عليه (مسألة)
(فإن طلب إنساناً بالسيف مشهوراً فهرب منه فتلف في هربه ضمنه) سواء سقط من
شاهق أو انخسف به سقف أو خر في بئرا ولقيه سبع فافترسه أو غرق في ماء أو
احترق بنار وسواء كان المطلوب صغيراً أو كبيراً أعمى أو بصيراً عاقلاً أو
مجنوناً، وقال الشافعي لا يضمن البالغ العاقل
(9/485)
البصير إلا أن ينخسف به سقف فإن فيه وفي
الصغير والمجنون والأعمى قولين لأنه هلك بفعل نفسه فلم يضمنه الطالب كما لو
لم يطلبه ولنا أنه هلك بسبب عدوانه فضمنه كما لو حفر له بئراً أو نصب له
سكيناً أو سم طعامه ووضعه وما ذكروه يبطل بهذه الأصول، وإن طلبه بشئ يخفيه
به كالكلب ونحوه فهو كما لو طلبه بسيف مشهور لأنه في معناه.
(فصل) ولو شهر سيفاً في وجه انسان أو دلاه من شاهق فمات من روعته أو ذهب
عقله فعليه ديته، فإن صاح بصبي أو مجنون صيحة شديدة فخر من سطح أو نحوه
فمات أو ذهب عقله، أو تغفل عاقلاً فصاح به فأصابه ذلك فعليه ديته تحملها
العاقلة فإن تعمد ذلك فهو شبه عمد وإلا فهو خطأ ووافق الشافعي في الصبي وله
في البالغ قولان، ولنا أنه تسبب إلى إتلافه فضمنه كالصبي (فصل) وإن قدم
انساناً الى هدف يرميه الناس فأصابه سهم من غير تعمد فضمانه على عاقله
الذمي قدمه، لأن الرامي كالحافر والذي قدمه كالدافع فكان الضمان على عاقلته
وإن عمد الرامي رميه فالضمان عليه لأنه باشر وذلك متسبب فأشبه الممسك
والقاتل، وان لم يقدمه أحد فالضمان على الرامي وتحمله عاقلته وإن كان خطأ
لأنه قتله.
(9/486)
(مسألة) (وإن حفر في فنائه بئراً لنفسه أو
في طريق لغير مصلحة المسلمين أو في ملك غيره بغير إذنه أو وضع في ذلك حجراً
أو صب فيه ماء، أو رمى قشر بطيخ فهلك به إنسان ضمنه)
لأنه تلف بعدوانه وروي عن شريح أنه ضمن رجلاً حفر بئراً فوقع فيها رجل
فمات، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وهو قول الثوري والشافعي وإسحاق
(مسألة) (وإن بالت فيها دابته فزلق به حيوان فمات به فقال أصحابنا على صاحب
الدابة الضمان إذا كان راكباً أو قائداً أو سائقاً) لأنه تلف حصل من جهة
دابته التي يده عليها فأشبه ما لو جنت بيدها او فمها، وقياس المذهب أنه لا
يضمن ما تلف بذلك لأنه لا يدله على ذلك ولا يمكن التحرز منه فهو كما لو
أتلفت برجلها، ويفارق ما إذا تلفت بيدها أو فمها لأنه يمكنه حفظهما.
(مسألة) (وإن حفر بئر أو وضع آخر مجرا أو نصب سكيناً فعثر بالحجر فوقع في
البئر أو على على السكين فالضمان على واضع الحجر وناصب السكين دون الحافر،
لأن الحجر كالدافع له وإذا اجتمع الحافر والدافع فالضمان على الدافع وحده)
وبهذا قال الشافعي ولو وضع رجل حجراً ثم حفر آخر عنده بئراً أو نصب سكيناً
فعثر بالحجر فسقط عليهما فهلك احتمل أن يكون الحكم كذلك لما ذكرنا واحتمل
أن يضمن الحافر وناصب السكين لأن
(9/487)
فعلهما متأخر عن فعله فأشبه ما لو كان زق
فيه مائع وهو واقف فحل وكاء إنسان وأماله آخر فسال ما فيه كان الضمان على
الآخر منهما، وإن وضع إنسان حجراً أو حديدة في ملكه وحفر فيه بئراً فدخل
إنسان بغير إذنه فهلك به فلا ضمان على المالك لأنه لم يتعد وإنما الداخل
هلك بعد وإن نفسه وإن وضع حجراً في ملكه ونصب أجنبي فيه سكيناً أو حفر
بئراً بغير إذنه فعثر رجل بالحجر فوقع على السكين أو في البئر فالضمان على
الحافر وناصب السكين لتعديهما إذا لم يتعلق الضمان بواضع الحجر لانتفاء
عدوانه وإن اشترك جماعة في عدوان تلف به شئ فالضمان عليهم فلو وضع اثنان
حجراً وواحد حجراً فعثر بهما انسان فهلك فالدية على عواقلهم أثلاثاً في
قياس المذهب وهو قول أبي يوسف لأن السبب حصل من الثلاثة أثلاثاً فوجب
الضمان عليهم سواء، وإن اختلفت أفعالهم كما لو جرحه واحد جرحين وجرحه اثنان
جرحين فمات بها، وقال زفر على الاثنين النصف وعلى واضع الحجر وحده النصف
لأن فعله مساو لفعلهما وإن
حفر انسان بئراً ونصب آخر فيها سكيناً فوقع انسان في البئر على السكين فمات
فقال ابن حامد الضمان على الحافر لأنه بمنزلة الدافع:، وهذا قياس المسائل
التي قبلها ونص أحمد على أن الضمان عليهما قال أبو بكر لأنهما في معنى
الممسك والقاتل الحافر كالممسك وناصب السكين كالقاتل فيخرج من هذا أن يجب
الضمان على جميع المتسببين في المسائل السابقة (فصل) وان حفر بئراً في ملك
نفسه أو في ملك غيره بإذنه فلا ضمان عليه لأنه غير متعد وكذلك
(9/488)
ان حفرها في موات أو وضع حجراً أو نصب
شركاً أو شبكة أو منجلاً ليصيد بها لأنه لم يتعد بذلك وإن فعل شيئاً من ذلك
في طريق ضيق فعليه ضمان ما تلف به لأنه متعد وسواء أذن له الامام أو لم
يأذن لأنه ليس للإمام أن يأذن فيما يضر بالمسلمين ولو فعل ذلك الإمام لضمن
ما يتلف به فإن كان الطريق واسعاً فحفر في مكان منها يضر بالمسلمين ضمن وإن
حفر في مكان لا يضر بالمسلمين وكان حفرها لنفسه ضمن ما تلف بها سواء حفرها
بإذن الإمام أو بغير إذنه وقال أصحاب الشافعي إن حفرها بإذن الإمام لم يضمن
لأن للإمام أن يأذن في الانتفاع بما لا ضرر فيه بدليل أنه يجوز أن يأذن في
القعود فيه ويقطعه لمن يبتاع فيه ولنا أنه تلف بحفر حفرة في حق مشترك بغير
إذن أهله لغيره مصلحتهم فضمن كما لو لم يأذن الإمام ولا نسلم أن للإمام أن
يأذن في هذا فإنما يأذن في القعود لأن ذلك لا يدوم ويمكن إزالته في الحال
فأشبه القعود في المسجد ولأن القعود جائز من غير إذن الإمام فكذلك الحفر
(فصل) وإن حفر بئراً في ملك مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه ضمن ما تلف به
جميعه وهذا قياس مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة يضمن ما قابل نصيب شريكه فلو
كان شريكان ضمن ثلثي التالف لأنه تعدي في نصيب شريكه وقال أبو يوسف عليه
نصف الضمان لأنه تلف بجهتين فكان الضمان نصفين كما لو جرحه أحدهما جرحاً
وجرحه الآخر جرحين
(9/489)
ولنا أنه متعد بالحفر فضمن الواقع فيها كما
لو كان في ملك غيره والشركة أوجب تعدية لجميع الحفر فكان موجب الجميع
الضمان ويبطل ما ذكره أبو يوسف بما لو حفره في طريق مشترك فإن له فيها حقاً
ومع ذلك يضمن الجميع والحكم فيما إذا أذن له بعض الشركاء في الحفر دون بعض
كالحكم فيما إذا حفر في ملك مشترك بينه وبين غيره لكونه لا يباح الحفر ولا
التصرف حتى يأذن الجميع (فصل) وإن حفر إنسان في ملكه بئراً فوقع فيها انسان
أو دابة فهلك به وكان الداخل دخل بغير إذنه فلا ضمان على الحافر لأنه لا
عدوان منه وان دخل بإذنه والبئر ظاهرة مكشوفة والداخل بصير يبصرها فلا ضمان
أيضاً لأن الواقع هو الذي أهلك نفسه فأشبه ما لو قدم إليه سكيناً فقتل بها
نفسه فإن كان الداخل أعمى أو كانت في ظلمة لا يبصرها الداخل أو غطى رأسها
فلم يعلم الداخل حتى وقع فيها ضمنه وبهذا قال شريح والشعبي والنخعي وحماد
ومالك وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقالوا في الآخر لا يضمنه لأنه هلك
بفعل نفسه ولنا أنه تلف بسببه فضمنه كما لو قدم له طعاماً مسموماً فأكله
وبهذا ينتقض ما ذكروه، وإن اختلفا فقال صاحب الدار ما أذنت لك في الدخول
وادعى ولي الهالك أنه أذن له فالقول قول المالك لأنه منكر، وإن قال كانت
مكشوفة وقال الآخر كانت مغطاة فالقول قول ولي الواقع لأن الظاهر معه
(9/490)
فإن الظاهر أنها كانت مكشوفة لم يسقط فيها
ويحتمل أن القول قول المالك لأن الأصل براءة ذمته فلا تشتغل بالشك.
(مسألة) (وان غصب صغيرا فنهشة حية أو أصابته صاعقة ففيه الدية وإن مات بمرض
فعلى وجهين) لأنه تلف في يده العادية (أحدهما) يضمنه كالعبد الصغير،
(والثاني) لا يضمنه لأنه حر لا نثبت اليد عليه في الغصب أشبه الكبير
(مسألة) (وان اصطدم نفسان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر) روي
هذا عن علي رضي الله ولا يجب القصاص سواء كان إصطدامها عمداً أو خطأ لأن
الصدمة لا تقتل غالباً فالقتل الحاصل بها مع العمد عمد الخطأ ولا فرق بين
البصيرين، والأعميين، والبصير والأعمى، فإن كان امرأتين حاملين فهما
كالرجلين فإن أسقطت كل واحدة منهما جنبيا فعلى كل واحدة نصف ضمان جنينها
ونصف ضمان جنين صاحبتها لانهما اشتركتا في قتله وعلى كل واحدة منهما عتق
ثلاث رقاب واحدة لقتل صاحبتها واثنتان لمشاركتها في الجنينين، فإن أسقطت
إحداهما دون الأخرى اشتركتا في ضمانه وعلى كل واحدة منهما عتق رقبتين، وإن
اصطدم راكب وماش فهو كما لو كانا ماشيين وإن اصطدم راكبان فماتا فهو كما لو
كانا ماشيين (مسألة) (وإن كانا راكبين فماتت الدابتان فعلى كل واحد منهما
قيمة دابة الآخر)
(9/491)
وجملة ذلك أن على كل واحد من المصطدمين
ضمان ما تلف من الآخر من نفس أو دابة أو مال سواء كانت الدابتان فرسين أو
بغلين أو حمارين أو جملين أو كان أحدهما فرساً والآخر غيره مقبلين كانا أو
مدبرين، وبهذا قال أبو حنيفة وصاحباه وإسحاق، وقال مالك والشافعي على كل
واحد منهما نصف قيمة ما تلف من الآخر لأن التلف حصل بفعلهما فكان الضمان
منقسماً عليهما كما لو جرح إنسان نفسه وجرحه غيره فمات منهما ولنا أن كل
واحد منهما مات من صدمة صاحبه وإنما هو قربها إلى محل الجناية فلزم الآخر
ضمانها كما لو كانت واقفة بخلاف الجراحة إذا ثبت هذا فإن قيمة الدابتين إن
تساوتا تقاصتا وسقطتا وإن كانت إحداهما أكثر من الأخرى فلصاحبها الزيادة
وإن ماتت إحدى الدابتين فعلى الآخر قيمتها وإن نقصت فعليه نقصها فإن كل
أحدهما يسير بين يدي الآخر فأدركه الثاني فصدمه فماتت الدابتان أو إحداهما
فالضمان على اللاحق لأنه الصادم والآخر مصدوم (مسألة) (إلا أن يكون أحدهما
يسير والآخر واقفاً فعلى السائر ضمان الواقف ودابته) نص أحمد على هذا لأن
السائر هو الصادم المتلف فكان الضمان عليه فإن مات هو أو دابته فهو هدر
لأنه أتلف نفسه ودابته، وإن انحرف الواقف فصادفت الصدمة انحرافه فهما
كالسائرين لأن التلف حصل من فعلهما
(9/492)
(مسألة) (إلا أن يكون في طريق ضيق قاعداً
أو واقفاً فلا ضمان عليه فيه وعليه ضمان ما تلف به) إذا كان الواقف متعدياً
بوقوفه مثل أن يقف في طريق ضيق فالضمان عليه دون السائر لأن التلف
حصل بتعديه فكان الضمان عليه كما لو وضع حجراً في الطريق او جلس في طريق
ضيق فعثر به إنسان (مسألة) (وإن أركب صبيين لا ولاية له عليهما فاصطدما
فماتا فعلى عاقلته ديتهما) لأنه متعد بذلك وتلفهما بسبب جنايته (مسألة)
(وإن رمى ثلاثة بمنجنيق فقتل الحجر إنساناً فعلى عاقلة كل واحد منهم ثلث
ديته) لا يخلو ذلك من حالين (أحدهما) أن يكون المقتول واحداً منهم
(والثاني) أن يكون من غيرهم فإن كان من غيرهم فالدية على عواقلهم أثلاثاً
لأن العاقلة تحمل الثلث فما زاد وسواء قصدوا رمي واحد بعينه أو قصدوا رمي
جماعة أو لم يقصدوا ذلك لأنهم إن لم يقصدوا قتل آدمي معصوم فهو خطأ ديته
دية الخطأ، وإن قصدوا رمي جماعة أو واحداً بعينه فهو شبه عمد لأن قصد
الواحد بالمنجنيق لا يكاد يفضي إلى إتلافه فيكون شبه عمد تحمله العاقلة في
ثلاث سنين وعلى قول أبي بكر لا تحمل العاقلة شبه العمد فلا تحمله ههنا.
(الحال الثاني) أن يصيب واحداً منهم فعلى كل واحد كفارة ولا تسقط عمن أصابه
الحجر لأنه شارك في قتل نفس مؤمنة والكفارة إنما تجب لحق الله تعالى فوجبت
عليه بالمشاركة في نفسه كوجوبها بالمشاركة في قتل غيره، وأما الدية ففيها
ثلاثة أوجه
(9/493)
(أحدهما) أن على عاقلة كل واحد منهم ثلث
دية المقتول لورثته لأن كل واحد منهم مشارك في قتل نفس مؤمنة خطأ فلزمته
ديتها كالأجانب وهذا ينبني على أن جناية المرء على نفسه وأهله خطأ تتحمل
عقلها عاقلته (الوجه الثاني) أن ما قابل فعل المقتول ساقط لا يضمنه أحد
لأنه شارك في إتلاف حقه فلم يضمن ما قابل فعله كما لو شارك في قتل بهيمته
أو عبده، وهذا الذي ذكره القاضي في المجرد ولم يذكر غيره وهو مذهب الشافعي
(الثالث) أن يلغى فعل المقتول في نفسه وتجب ديته بكمالها على عاقلة الآخرين
نصفين.
قال أبو الخطاب هذا قياس المذهب بناء على مسألة المتصادمين قال شيخنا والذي
ذكره القاضي أحسن وأصح في النظر، وقد روي نحو ذلك عن علي رضي الله عنه في
مسألة القارضة والقابضة والواقصة
قال الشعبي وذلك أن ثلاث جوار اجتمعن فارن فركبت إحداهن على عتق أخرى وقرصت
الثالثة المركوبة فقمصت فسقطت الراكبة فوقصت عنقها فماتت فرفع ذلك إلى علي
رضي الله عنه فقضى بالدية أثلاثاً على عواقلهن وألغى الثلث الذي قابل فعل
الواقصة لأنها أعانت على قتل نفسها وهذا شبيهة بمسئلتنا ولأن المقتول شارك
في القتل فلم تكمل الدية على شريكيه كما لو قتلوا واحداً من غيرهم فإن رجع
الحجر فقتل اثنين من الرماة فعلى الوجه الأول تجب ديتهما على عواقلتهم
أثلاثاً وعلى كل واحد منهم كفارتان، وعلى الوجه الثاني يجب على عاقلة الحي
منهم لكل ميت ثلث ديته وعلى عاقلة كل واحد
(9/494)
من الميتين ثلث دية صاحبه ويلغى فعل نفسه
وعلى الوجه الثالث على عاقلة الحي لكل واحد منهم نصف الدية وتجب على عاقلة
كل واحد من الميتين نصف الدية لصاحبه (مسألة) (وإن كانوا أكثر من ثلاثة
فالدية حالة في اموالهم في الصحيح من الذهب إلا على الوجه الذي اختاره أبو
الخطاب فإنهم إذا كانوا اربعة فقتل الحجر أحدهم فإنه يجب على عاقلة كل واحد
من الثلاثة الباقين ثلث الدية لأنهم يحملونها كلها فأما إن كانوا أكثر من
أربعة أو كان المقتول من غيرهم وهم أربعة فإن الدية حالة في اموالهم لأن
المقتول يلغى فعله في نفسه ويكون هدراً لأنه لا يجب عليه لنفسه شئ ويكون
باقي الدية في أموال شركائه حالاً لأن التأجيل في الديات إنما يكون فيما
تحمله النافية وهذا دون الثلث والعاقلة لا تحمل ما دون الثلث، وذكر أبو بكر
فيها رواية أخرى أن العاقلة تحملها لأن الجناية فعل واحد أوجب دية تزيد على
الثلث والصحيح الأول لأن كل واحد منهم يختص بموجب فعله دون فعل شركائه وحمل
العاقلة إنما شرع لتخفيف على الجاني فيما يشق ويثقل وما دون الثلث يسير على
ما تذكره والذي يلزم كل واحد أقل من الثلث وقوله إنه لعل واحد قلنا بل هي
أفعال فإن فعل واحد غير فعل الآخر وإنما موجب الجميع واحد فأشبه ما لو حرمه
كل واحد جرحاً فماتت النفس بجميعها إذا ثبت هذا فالضمان معلق بمن مد الحبال
ورمى الحجر دون من وضعه في الكفة وأمسك الخشب اعتباراً بالمباشر كمن وضع
سهماً في قوس إنسان ورماه صاحب القوس فالضمان على الرمي دون الواضع
(9/495)
(مسألة) (وإن جنى إنسان على نفسه أو طرفه
خطأ فلا شئ له وعنه على عاقلته ديته لورثته ودية طرفه لنفسه) أما إذا كانت
الجناية عمداً فلا شئ له إجماعاً وإن كانت خطأ فكذلك في إحدى الروايتين
قياساً على العمد ولما روي ان عامر بن الأكوع يوم خيبر رجع سيفه عليه فقتله
ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بدية ولا غيرها ولو كانت
واجية لبينها النبي صلى الله عليه وسلم ولنقل ظاهراً (والرواية الثانية) أن
ديته على عاقلته لورثته ودية طرفه لنفسه وهو ظاهر كلام الخرقي ذكره فيما
اذا رمى ثلاثة بالمنجنيق فرجع الحجر فقتل احدهم لما روي أن رجلاً ساق
حماراً فضربه بعصاً كانت معه فطارت منها شظية فاصابت عينه ففقأتها فجعل عمر
بن الخطاب رضي الله عنه ديته على عاقلته وقال هي يد من أيدي المسلمين لم
يصبها اعتداء على أحد لم يعرف له مخالف ولأنه قتل خطأ فكانت ديته على
عاقلته كما لو قتل غيره والأول أصح في القياس، وهذا قول أكثر أهل العلم
منهم ربيعة ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لما ذكرنا من حديث عامر بن
الأكوع حين رجع سيفه عليه يوم خيبر فمات ولأن وجوب الدية على العاقلة على
خلاف الأصل مواساة للجاني وتخفيفاً عنه وليس ههنا على الجاني شئ يخفف عنه
ولا يقتضي النظر أن تكون جنايته على نفسه على غيره ويفارق هذا ما إذا كانت
الجناية على غيره فإنه لو لم تحمله العاقلة لا * جحف به وجوب الدية لكثرتها
وقال القاضي الرواية الثانية
(9/496)
أظهر عنه فعلى هذه الرواية أن كانت العاقلة
هي الوارثة لم يجب شئ لأنه لا يجب للانسان شئ على نفسه فإن كان بعضهم
وارثاً سقط عن الوارث ما يقابل ميراثه فإن كانت جنايته على نفسه شبه عمد
فهو كالخطأ في أحد الوجهين وفي الآخر لا تحمله العاقلة بحال (مسألة) (وإن
نزل رجل في بئر فخر عليه آخر فمات الاول من سقطه فعلى عاقلته ديته) وجملة
ذلك أنه إذا نزل رجل في بئر فسقط عليه آخر فقتله فعليه ضمانة كما لو رمى
عليه حجراً ثم ينظر فإن كان عمد رمي نفسه عليه وهو مما يقتل غالباً فعليه
القصاص، وإن كان مما لا يقتل غالباً
فهو شبه عمد، وإن وقع خطأ فالدية على عاقلته محققة، وإن مات الثاني بوقوعه
على الأول فدمه هدر لأنه مات بفعله، وقد روى علي بن رباح اللخمي أن رجلاً
كان يقود أعمى فوقعا في بئر خر البصير فوقع الأعمى فوق البصير فقتله فقضى
عمر بعقل البصير على الأعمى فكان الاعمى بنشد في الموسم يا أيها الناس لقيت
منكرا * هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا؟ * خرا معاً كلاهما تكسرا وهذا قول
ابن الزبير وشريح والنخعي والشافعي وإسحاق قال شيخنا: ولو قال قاتل ليس على
الأعمى ضمان البصير لأنه الذي قاده الى المكان الذي وقعا فيه وكان سبب
وقوعه عليه ولذلك لو فعله قصداً لم يضمنه بغير خلاف وكان عليه ضمان الأعمى
إلا أن يكون مجمعاً عليه فلا يجوز مخالفة الاجماع، ويحتمل أنه إنما لم يجب
الضمان على القائد لوجهين
(9/497)
(أحدهما) أنه مأذون فيه من جهة الاعمى فلم
يضمن ما تلف به كما لو حفر له بئراً في داره بإذنه فتلف بها (الثاني) أنه
فعل مندوب اليه مأمور به فأشبه ما لو حفر بئراً في سابلة ينتفع بها
المسلمون فإنه لا يضمن ما تلف، بها وإن مات الثاني فدمه هدر لأنه لا صنع
لغيره في هلاكه (مسألة) (وإن وقع عليهما ثالث فمات الثاني به فعلى عاقلة
الثالث ديته) لأنه تلف من سقطته، وإن مات الأول من سقطتهما فديته على
عاقلتهما لأنه مات بوقوعهما عليه ودية الثاني على الثالث لأنه انفرد
بالوقوع عليه فانفرد بديته، ودم الثالث هدر لأنه لا صنع لغيره في هلاكه هذا
إذا كان الوقوع هو الذي قتله، فإن كان البئر عميقاً يموت الواقع بمجرد
وقوعه لم يجب ضمان على أحد لأن كل واحد منهم مات بوقعته لا بفعل غيره، وإن
احتمل الأمرين فكذلك لأن الأصل عدم الضمان.
(مسألة) (وإن كان الأول جذب الثاني وجذب الثاني الثالث فلا شئ على الثالث)
لأنه لا فعل له ووجبت ديته على الثاني في أحد الوجهين لأنه هو جذبه وباشره
بذلك والمباشرة تقطع حكم المتسبب كالحافر مع الدافع (والثاني) ديته على
الأول والثاني نصفين لأن الأول جذب الثاني الجاذب للثالث فصار مشاركاً
للثاني في إتلافه، ودية الثاني على عاقلة الأول في أحد الوجهين لأنه هلك
بجذبته، وإن هلك بسقوط الثالث عليه فقد هلك بجذبة الاول وجذبة نفسه للثالث
فسقط فعل نفسه
(9/498)
كالمصطدمين وتجب ديته بكمالها على الأول
ذكره القاضي (والوجه الثاني) يجب على الأول نصف ديته ويهدر نصفها في مقابلة
فعل نفسه وهذا مذهب الشافعي، ويتخرج وجه ثالث وهو وجوب نصف ديته على عاقلته
لورثته كما قلنا فيما اذا رمى ثلاثة بالمنجنيق فقتل الحجر احدهم، وأما
الأول إذا مات بوقوعهما عليه ففيه الأوجه الثلاثة لأنه مات من جذبته وجذبة
الثاني للثالث فتجب ديته كلها على عاقلة الثاني ويلغى فعل نفسه على الوجه
الأول وعلى الثاني يهدر نصف ديته المقابل لفعل نفسه ويجب نصفها على الثاني
وعلى الثالث يجب نصفها على عاقلته لورثته (فصل) وإن جذب الثالث رابعاً فمات
جميعهم بوقوع بعضهم على بعض فلا شئ على الرابع لأنه لم يفعل شيئاً في نفسه
ولا غيره وفي ديته وجهان (أحدهما) إنها على عاقلة الثالث المباشر لجذبه
(والثاني) على عاقلة الأول والثاني والثالث لأنه مات من جذب الثلاثة فكانت
ديته على عواقلهم، وأما الأول فقد مات بجذبته وجذبة الثاني وجذبة الثالث
ففيه ثلاثة أوجه (أحدهما) أنه يلغى فعل نفسه وتجب ديته على عاقلة الثاني
والثالث نصفين (والثاني) يجب على عاقلتهما ثلثاها ويسقط ما قابل فعل نفسه
(والثالث) يجب ثلثها على عاقلته لورثته وأما الجاذب فقد مات بالأفعال
الثلاثة وفيه هذه الأوجه الثلاثة المذكورة في الأول سواء، وأما الثالث ففيه
مثل هذه الأوجه الثلاثة ووجهان آخران
(9/499)
(أحدهما) أن ديته بكمالها على الثاني لأنه
المباشر لجذبه فسقط فعل غيره بفعله (والثاني) أن على عاقلته نصفها ويسقط
النصف الثاني في مقابلة فعله في نفسه (فصل) وإن وقع بعضهم على بعض فماتوا
نظرت فإن كان موتهم بغير وقوع بعضهم على بعض مثل أن يكون البئر عميقاً يموت
الواقع فيه بنفس الوقوع أو كان فيه ما يغرق الواقع فيقتله أو أسد يأكلهم
فليس على بعضهم ضمان بعض لعدم تاثير فعل بعضهم في هلاك بعض، وإن شككنا في
ذلك لم يضمن بعضهم بعضاً لأن الأصل براءة الذمة فلا نشغلها بالشك، وإن كان
موتهم بوقوع بعضهم على
بعض فدم الرابع هدر لأن غيره لم يفعل فيه شيئا وإنما هلك بفعله وعليه دية
الثالث لأنه قتله بوقوعه عليه ودية الثاني عليه وعلى الثالث نصفين ودية
الأول على الثلاثة أثلاثاً (مسألة) (وإن خر رجل في زبية أسد فجذب آخر وجذب
الثاني، ثالثاً وجذب الثالث رابعاً فقتلهم الأسد فالقياس أن دم الأول هدر
وعلى عاقلته دية الثاني وعلى عاقلة الثاني دية الثالث وعلى عاقلة الثالث
دية الرابع، وفيه وجه آخر أن دية الثالث على عاقلة الأول والثاني نصفين
ودية الرابع على عاقلة الثلاثة أثلاثا) الحكم في هذه المسألة أنه لا شئ على
الرابع لأنه لم يفعل شيئاً وديته على عاقلة الثالث في أحد الوجهين وفي
الثاني على عواقل الثلاثة أثلاثاً ودم الأول هدر وعلى عاقلته دية الثاني،
وأما دية الثالث فعلى الثاني
(9/500)
في أحد الوجهين وفي الآخر على الأول
والثاني نصفين هذه تسمى مسألة الزبية وقد روى حنش الصنعاني أن قوماً من أهل
اليمن حفروا زبية للأسد فاجتمع الناس على رأسها فهوى فيها واحد فجذب ثانياً
وجذب الثاني ثالثاً ثم جذب الثالث رابعاً فقتلهم الأسد فرفع ذلك إلى علي
رضي الله عنه فقال للأول ربع الدية لأنه هلك فوقه ثلاثة وللثاني ثلث الدية
لأنه هلك فوق اثنان وللثالث نصف الدية لأنه هلك فوقه واحد وللرابع كمال
الدية وقال فإني أجعل الدية على من حضر راس البئر فرفع ذلك إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقال هو كما قال رواه سعيد بن منصور ثنا أبو عوانة وأبو
الاحوص عن سماك بن حرب عن أنس بنحو هذا المعنى قال أبو الخطاب فذهب أحمد
إلى ذلك توقيفا على خلاف القياس وقد ذكر بعض أهل العلم أن هذا الحديث لا
يثبته أهل النقل وأنه ضعيف والقياس ما قلناه فلا ينتقل عنه إلى ما لا يدري
ثبوته ولا معناه (مسألة) (ومن اضطر إلى طعام إنسان أو شرابه وليس به مثل
ضروره فمنعه حتى مات ضمنه نص عليه) وجملة ذلك ان من أخذ طعام إنسان أو
شرابه في برية أو مكان لا يقدر فيه على طعام وشراب فهلك بذلك او هلكت
بهيمته فعليه ضمان ما تلف به لأنه سبب هلاكه وكذلك إن اضطر إلى طعام وشراب
لغيره فطلبه منه فمنعه إياه مع غناه عنه في تلك الحال فمات بذلك ضمنه
المطلوب منه لما روي
عن عمر رضي الله عنه أنه قضى بذلك ولأنه إذا اضطر فصار أحق به ممن هو في
يده وله أخذه قهراً فإذا
(9/501)
منعه إياه تسبب الى هلاكه بمنعه ما يستحقه
فلزمه ضمانة كما لو أخذ طعامه وشرابه فهلك بذلك وظاهر كلام أحمد أن الدية
في ماله لأنه تعمد هذا الفعل الذي يقتل مثله غالباً وقال القاضي يكون على
عاقلته لأن هذا لا يوجب القصاص فيكون شبه عمد وإن لم يطلبه منه لم يضمنه
لأنه لم يمنعه ولم يوجد منه فعل تسبب به إلى هلاكه، وخرج عليه أو الخصاب كل
من أمكنه انجاء انسان من مهلكة فلم ينجه منها مع قدرته على ذلك أنه يجب
عليه ضمانه قياساً على ما إذا طلب الطعام فمنعه إياه مع غناه عنه حتى هلك
ولنا أن هذا لم يهلكه ولم يكن سبباً في هلاكه فلا يضمنه كما لو لم يعلم
بحاله، وقياس هذا على المسألة التي ذكرها غير صحيح لأنه في الأولى منعه
منعاً كان سبباً في هلاكه فيضمنه بفعله الذي تعدى به وههنا لم يفعل شيئاً
يكون سبباً (مسألة) (وإن افزع إنسانا فأحدث بغائط فعليه ثلث ديته وعنه لا
شئ عليه) وجملة ذلك أنه إذا ضرب إنساناً حتى أحدث فإن عثمان رضي الله عنه
قضى فيه بثلث الدية قال أحمد لا اعرف شيئا يدفعه وبه قال إسحاق وعنه لا شئ
عليه وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لأن الدية انما تجب لإتلاف منفعة أو
عضو أو إزالة جمال وليس ههنا شئ من ذلك وهذا هو القياس وإنما ذهب من ذهب
إلى إيجاب الثلث لقضية عثمان لأنه في مظنة الشهرة ولم ينقل خلافهما فيكون
إجماعاً ولأن قضاء الصحابي فيما يخالف القياس يدل على أنه توقيف وسواء كان
الحديث ببول او غائط أو ريح قاله القاضي وكذلك الحكم فيما إذا افزعه حتى
أحدث والأولى إن شاء الله التفريق بين الريح وغيرها إن كان قضاء عثمان في
الغائط والبول لأن ذلك أفحش فلا يقاس عليه
(9/502)
(فصل) إذا أكره رجلاً على قتل إنسان فقتله
فصار الأمر الى الدية فهي عليهما لأنهما كالشريكين ولو أكره رجل امرأة على
الزنا فحملت وماتت من الولادة ضمنها لأنها ماتت بسبب فعله وتحمله العاقلة
إلا أن لا يثبت ذلك إلا باعترافه فتكون الدية عليه لأن العاقلة لا تحمل
اعترافا ولذلك إن شهد شاهدان
على رجل بقتل عمد فقتل ثم رجعا عن الشهادة لزمهما الضمان كالشريكين في
الفعل ويكون الضمان في مالهما لا تحمله العاقلة لانها الاعتراف وهذا ثبت
باعترافهما (فصل) إذا قتل رجلاً وادعى أنه كان عبداً أو القى عليه حائطاً
وادعى أنه كان ميتاً وأنكر وليه فالقول قول الولي مع يمينه وهو أحد قولي
الشافعي وقال في الآخر القول قول الجاني لأن الأصل براءة ذمته وما ادعاه
محتمل فلا يزول عن اليقين بالشك ولنا أن الأصل حياة المجني عليه وحريته
فيجب الحكم ببقائه كما لو قتل مسلماً وادعى أنه ارتد قبل قتله وبهذا يبطل
ما ذكره، وإن قطع عضو أو إدعى شلله أو قلع عيناً وادعى عماها وأنكر المجني
عليه فالقول قوله لأن الأصل السلامة وهكذ لو قطع ساعداً وادعى أنه لم يكن
عليه كف أو ساقاً وادعى أنه لم يكن لها قدم، وقال القاضي إن اتفقا على أنه
كان بصيراً فالقول قول المجني عليه وإلا فالقول قول الجاني وهذا مذهب
الشافعي لأن هذا مما يتعذر إقامة البينة عليه فإنه لا يخفى على اهله
وجيرانه ومعامليه
(9/503)
وصفة أداء الشهادة عليه أنه كان يتبع الشخص
بسره يتوقى ما يتوقاه البصير ويتجنب البئر واشباهه في طريقه ويعدل في
العطفات * خف من يطلبه ولنا أن الأصل السلامة فكان القول قول من يدعيها كما
لو اختلفا في إسلام المقتول في دار الإسلام وفي حياته، قولهم لا يتعذر
إقامة البينة عليه قلنا وكذلك لا يتعذر إقامة البينة على ما يدعيه الجاني
فإيجابها عليه أولى من إيجابها على من يشهد له الأصل، ثم البطل بسائر
المواضع التي سلموها، فإن قالوا ههنا ما يثبت أن الأصل وجود البصر، قلنا
الظاهر يقوم مقام الأصل ولهذا رجحنا قول من يدعي حريته وإسلامه (فصل) ومن
إدب ولده امرأته في النشوز أو المعلم صبيه أو السلطان رعيته ولم يسرف فأفضى
الى تلفه لم يضمنه لأنه أدب مأذون فيه شرعاً فلم يضمن ما تلف به كالحد
والتعزير (مسألة) (ويتخرج وجوب الضمان على ما قاله إذا أرسل السلطان الى
امرأة ليحضرها فاجهضت جنينا أو ماتت فعلى عاقلته الدية) وجملة ذلك أن
السلطان اذا بعث الى امرأة ليحضرها فأسقطت جنيناً فمات ضمنه لما روي أن
عمر رضي الله عنه بعث الى امرأة مغيبة كان يدخل عليها فقالت يا ويلها ما
لها ولعمر فبينا هي في الطريق إذ فزعت فضر بها الطلق فألقت ولداً فصاح
الصبي صيحتين ثم مات فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأشار
بعضهم ان ليس عليك شئ إنما أنت وال ومؤدب وصمت علي فأقبل عليه عمر فقال ما
تقول يا أبا
(9/504)
الحسن فقال إن كانوا قالوا برأيهم فقد
أخطأوا رأيهم وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك ان ديته عليك لأنك
أفزعتها فألقته فقال عمر أقسمت عليك أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك، ولو
فزعت المرأة فماتت وجبت ديتها أيضاً ووافق الشافعي في ضمان الجنين وقال لا
تضمن المرأة لأن ذلك ليس بسبب لهلاكه في العادة ولنا أنها نفس هلكت بإرساله
اليها فضمنها كجنينها أو نفس هلكت بسببه فعزمها كما لو ضربها فماتت.
قوله إنه ليس بسبب عادة قلنا إذا كانت حاملاً فهو سبب للإسقاط والإسقاط سبب
للهلاك ثم لا يعتبر في الضمان كونه سببا معتاد فإن الضربة والضربتين بالسوط
ليست سبباً للهلاك في العادة ومتى أفضت أليه وجب الضمان وإن استعدى إنسان
على المرأة فألقت جنينها أو ماتت فزعاً فعلى عاقلة المستعدي الضمان إن كان
ظالماً لها وإن كانت هي الظالمة فاحضرها عند الحاكم فينبغي أن لا يضمنها
لأنها سبب إحضارها بظلمها فلا يضمنها غيرها ولأنه استوفى حقه فلم يضمن ما
تلف به كالقصاص ولكن يضمن جنينها لأنه تلف بفعله فأشبه ما لو اقتص منها
(مسألة) (وإن سلم ولده الى السابح ليعلمه فغرق لم يضمنه ويحتمل أن تضمنه
العاقلة) أما إذا سلم ولده الصغير الى السابح ليعلمه السباحة فغرق فالضمان
على عاقلته السابح لأنه سلمه اليه
(9/505)
ليحتاط في حفظه فإذا غرق نسب الى التفريط
في حفظه وقال القاضي قياس المذهب أنه لا يضمنه لأنه فعل ما جرت العادة به
لمصلحته فلم يضمن ما تلف به كما إذا ضرب العلم الصبي ضرباً معتاداً فتلف به
فأما الكبير إذا غرق فليس على السابح شئ إذا لم يفرط لأن الكبير في يد نفسه
لا ينسب التفريط في هلاكه إلى غيره
(مسألة) (وإن أمر إنساناً أن ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك بذلك لم يضمنه)
لأنه لم يجن ولم يتعد فأشبه ما لو أذن له ولم يأمره إلا أن يكون الآمر
السلطان فهل يضمنه؟ على وجهين (أحدهما) لا يضمنه كغيره (والثاني) يضمنه
لأنه يخاف منه إذا خالفه وهو مأمور بطاعته إلا أن يكون المأمور صغير إلا
يميز فيضمنه لأنه تسبب إلى إتلافه (مسألة) (وإن وضع جرة على سطحه أو حائطه
أو حجراً فرمته الريح على إنسان فقتله أو شئ أتلفه لم يضمنه) لأن ذلك بغير
فعله ووضعه ذلك كان في ملكه، ويحتمل أن يضمن إذا وضعها متطرفة لأنه تسبب
إلى إلقائها وتعدى بوضعا فأشبه ما لو بنى حائطاً مائلاً (مسألة) (وإن أخرج
جناحاً إلى الطريق أو ميزابا فسقط على إنسان فأتلفه ضمنه) لأن إخراج الجناح
الى الطريق غير جائز لأنه تصرف في غير ملكه إذا كان الطريق نافذاً أو غير
نافذ ولم يأذن فيه أصحابه إذا سقط على شئ فأتلفه ضمنه لأنه تلف بعدوانه
فضمنه كما لو وضع البناء على أرض الطريق وكذلك الحكم في الميزاب وفي ذلك
اختلاف وتفصيل ذكرناه في الغصب والله أعلم
(9/506)
باب مقادير ديات النفس دية الحر المسلم
مائة من الإبل أو مائتا بقرة أو ألفا شاة ألف مثقال أو أثنا عشر ألف درهم
فهذه الخمس أصول في الدية إذا أحضر من عليه الدية شيئاً منها لزم قبوله
وجملة ذلك أنا إذا قلنا إن هذه الخمس أصول في الدية إذا أحضر من عليه الدية
من القاتل أو العاقلة شيئاً منها لزم الولي أخذه ولم يكن له المطالبة بغيره
سواء كان من أهل ذلك النوع أو لم يكن لأنها أصول في قضاء الواجب يجزئ واحد
منها فكانت الخيرة الى من وجبت عليه كخصال الكفارة وشاتي الجيران في الزكاة
مع الدراهم وكذلك الحكم في الحال إذا قلنا إنها أصل (فصل) ولا نعلم خلافاً
بين أهل العلم في أن الإبل أصول في الدية وأن دية الحر المسلم مائة من
الإبل وقد دلت عليه الأحاديث الواردة منها حديث عمرو بن حزم وحديث عبد الله
بن عمر وفي دية
خطأ العمد وحديث ابن مسعود في دية الخطأ وسنذكرها إن شاء الله تعالى.
قال القاضي لا يختلف المذهب أن أصول الدية الإبل والذهب والورق والبقر
والغنم فهذه خمسة لا يختلف المذهب فيها، وهذا قول عمر وعطاء وطاوس والفقهاء
السبعة، وبه قال الثوري وابن أبي ليلى وأبو يوسف، ومحمد بن عمرو بن حزم روى
في كتابه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن " وإن في
النفس
(9/507)
المؤمنة مائة من الإبل وعلى أهل الورق ألف
دينار " رواه النسائي وروى ابن عباس أن رجلا من بني عدي قبل فجعل النبي صلى
الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا، رواه أبو داود وابن ماجة وروى الشعبي
أن عمر جعل على أهل الذهب ألف دينار، وعن عمرو بن شيب عن أبيه عن جده أن
عمر قام خطيباً فقال: ألا أن الإبل قد غلت قال فقوم على أهل الذهب ألف
دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل
الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحال مائتي حلة رواه أبو داود (مسألة) (وفي الحلل
روايتان) (إحداهما) ليست أصلا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا إن في
قيل عمد الخطأ قيل السوط والعصا مائة من الإبل.
(الثانية) أنها أصل لما ذكرنا من قول عمر حين قام خطيباً فجعل على أهل
الحلل مائتي حلة رواه أبو داود وهذا كان بمحضر من الصحابة فكان إجماعاً وكل
حلة بردان (مسألة) (وعن أحمد رحمه الله أن الإبل هي الأصل خاصة) وهذا ظاهر
كلام الخرقي وذكرها أبو الخطاب عن أحمد وهو قول طاوس والشافعي وابن المنذر
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط مائة
من الإبل " ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين دية العمد والخطأ فغلظ
بعضها وخفف بعضها ولا يتحقق هذا في غير الإبل ولأنه بدل متلف حقاً لآدمي
فكان متعيناً كعوض الأموال وحديث ابن عباس يحتمل أن النبي صلى الله عليه
وسلم أوجب الورق بدلاً
(9/508)
عن الإبل وإنما الخلاف في كونها أصلاً
وحديث عمرو بن شعيب يدل على أن الأصل الإبل فإن إيجابه لهذه المذكورات على
سبيل التقويم لغلاء الإبل ولو كانت أصولاً بنفسها لم يكن إيجابها تقويماً
للإبل،
ولا كان لغلاء الإبل أثر في ذلك ولا لذكره معنى.
وقد روي أنه كان يقوم الإبل قبل أن تغلو ثمانية آلاف درهم ولذلك قيل إن دية
الذمي أربعة آلاف وديته نصف الدية فكان ذلك أربعة آلاف حين كانت الدية
ثمانية آلاف (فصل) إذا قلنا أن الأصول خمسة فإن قدرها ما ذكرنا في المسألة
في أول الباب ولم يختلف القائلون بهذه الأصول في قدرها من الذهب ولا من
سائرها إلا الورق فإن الثوري وأبا حنيفة قالوا: قدرها من الورق عشرة آلاف،
وحكي ذلك عن ابن شبرمة لما روى الشعبي أن عمر جعل على أهل الورق عشرة آلاف
ولأن الدينار معدول في الشرع بعشرة دراهم بدليل أن نصاب الذهب عشرون
مثقالاً ونصاب الفضة مائتا درهم وبما ذكرناه قال الحسن وعروة مالك والشافعي
في قول وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس لما ذكرنا من حديث ابن عباس وحديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر ولأن الدينار معدول باثني عشر درهما
بدليل أن عمر فرض الجزية على الغني أربعة دنانير أو ثمانية وأربعين درهماً
وعلى المتوسط دينارين أو اربعه وعشرين درهما وعلى الفقير دينارين أو اثني
عشر درهماً وهذا أولى مما ذكروه في نصاب الزكاة لأنه لا يلزم أن يكون نصاب
أحدهما معدولاً بنصاب الآخر
(9/509)
كما أن السائمة من بهيمة الأنعام ليس نصاب
شئ منها معدولاً بنصاب غيره قال ابن عبد البر: ليس في جعل الدية عشرة آلاف
عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث مرسل ولا مسند وحديث الشعبي عن عمر
يخالفه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه جده عنه (مسألة) (وإذا قلنا إن الإبل هي
الأصل خاصة فعلى من عليه الدية تسليمها إلى مستحقها سليمة من العيوب وأيهما
أراد العدول عنها إلى غيرها فللآخر منعه) لأن الحق متعين فيها فاستحقت
كالمثل في المتلفات المتلفة، وإن اعوزت الإبل أو لم توجد إلا بأكثر من ثمن
المثل فله العدول ألى ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم وهذا قول الشافعي في
القديم وقال في الجديد تجب قيمة الإبل بالغة ما بلغت لحديث عمرو بن شعيب عن
عمر في تقويم الإبل ولأن ما ضمن بنوع من المال وجبت قيمته عند تعذره كذوات
الأمثال ولأن الإبل إذا أجزأت إذا قلت
قيمتها فينبغي أن تجب، وإن كثرت قيمتها كالدنانير إذا غلت أو رخصت وهكذا
ينبغي أن يقول إذا غلت الإبل كلها فأما إن كانت الإبل موجودة بثمن مثلها
إلا أن هذا لم يجدها لكونها في غير ولده فان عمر قوم الدية من الدراهم
باثني عشر ألفاً ومن الذهب ألف دينار (مسألة) (فإن كان القتل عمدا أو شبه
عمد وجبت أرباعا خمس وعشرون بنت مخاض وخمس
(9/510)
وعشرون لبون بنت وخمس وعشرون حقة وخمس جذعة
وعنه أنها ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها) اختلفت
الرواية عن احمد في مقدارها فروى جماعة عن أحمد أنها أرباع وكذلك ذكره
الخرقي وهو قول الزهري وربيعة ومالك وسليمان بن يسار وأبي حنيفة وروي ذلك
عن ابو مسعود رضي الله عنه، وروى جماعة عن أحمد أنها ثلاثون حقة وثلاثون
جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها، وبهذا قال عطاء ومحمد بن الحسن
والشافعي وروي ذلك عن عمر وزيد وابي موسى ولغيرة رضي الله عنهم لما روى
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قتل
مؤمنا متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فان شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا
الدية وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة " وما صولحوا عليه فهو لهم
وذلك لتشديد القتل رواه الترمذي وقال هو حديث حسن غريب وعن عبد الله بن
عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل
السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها " رواه
الإمام أحمد وأبو داود وعن عمرو بن شعيب أن رجلا يقال له قتادة حذف ابنه
بالسيف فقتله فأخذ عمر منه الدية ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة
رواه مالك في الموطأ.
ووجه الأول ما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال كانت الدية على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم أرباعا خمسا وعشرين جذعة وخمساً وعشرين حقة وخمساً
وعشرين بنت لبون وعشرين مخاض
(9/511)
ولأنه حق يتعلق بجنس الحيوان فلا يعتبر فيه
الحمل كالزكاة والأضحية والخلفة الحامل وقول النبي صلى الله عليه وسلم " في
بطونها أولادها " تأكيد وهل يعتبر في الخلفات كونها ثنايا؟ على وجهين
(أحدهما) لا يعتبر لأن
النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الخلفات ولم يقيدها فأي فاقة حملت فهي خلفة
تجزئ في الدية واعتبار السن تقييد لا يصار إليه إلا بدليل (والثاني) يشترط
لأن في بعض ألفاظ الحديث " أربعون خلفة ما بين ثنية عامها إلى بازل " ولأن
سائر أنواع الإبل مقدرة السن فكذلك الخلفة والذي ذكره القاضي هو الأول
والثنية التي لها خمس سنين ودخلت السادسة وقلما تحمل الاثنية ولو أحضرها
خلفة سقطت قبل قبضها فعليه بدلها (فصل) فإن اختلفا في حملها رجع الى أهل
الخبرة كما يرجع الى حمل المرأة في القوابل وإن تسلمها الولي ثم قال لم تكن
حوامل وقد ضمرت أجوافها فقال الجاني بل قد ولدت عندك نظرت فإن قبضها بقول
أهل الخبرة فالقول قول الجاني لأن الظاهر إصابتهم وإن قبضها بغير قولهم
فالقول قول الولي لأن الأصل عدم الحمل.
(مسألة) (وإن كان القتل خطأ وجبت أخماساً عشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض
وعشرون بنت لبون وعشرون حقة وعشرون جزعة) لا يختلف المذهب أن دية الخطأ
أخماس كما ذكرنا وهذا قول ابن مسعود والنخعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال
عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري والليث وربيعة ومالك والشافعي
(9/512)
هي أخماس إلا أنهم جعلوا مكان بني مخاض بني
لبون، وهكذا رواه سعيد في سننه عن النخعي عن ابن مسعود قال الخطابي روي أن
النبي صلى الله عليه وسلم ودى الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة وليس في
أسنان الصدقة ابن مخاض، وروي عن علي والحسن والشعبي والحارث العكلي وإسحاق
انها ارباع كدية العمد سواء وعن زيد انها ثلاثون حقة وثلاثون بنت لبون
وعشرون ابن لبون وعشرون بنت مخاض، قال طاوس ثلاثون حقة وثلاثون بنت لبون
وثلاثون بنت مخاض وعشر بني لبون ذكور لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته من الإبل ثلاثون
بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقة وعشر بني لبون ذكور، رواه أبو داود
وابن ماجة، وقال أبو ثور الديات كلها أخماس كدية الخطأ لأنها بدل متلف فلا
يختلف بالعمد والخطأ كسائر المتلفات وحكي عنه ان دية العمد مغلظة ودية شبه
الخطأ والعمد اخماس لأن شبه العمد تحمله العاقلة فكان أخماساً كدية الخطأ
ولنا ما روى عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " في
دية الخطأ عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بني مخاض وعشرون
بنت لبون " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة ولأن ابن لبون يجب على طريق
البدل عن ابنة مخاض في الزكاة إذا لم يجدها فلا يجمع بين البدل والمبدل في
واجب ولأن موجبهما واحد فيصير كانه أوجب اربعين ابنة مخاض، ولأن ما قلناه
الأقل والزيادة
(9/513)
عليه لا نثبت إلا بتوقيف على من ادعاه
الدليل، فأما قتيل خيبر فلا حجة لهم فيه لأنهم لم يدعوا القتل إلا عمداً
فتكون ديته دية العمد وهي من أسنان الصدقة والخلاف في دية الخطأ، وقول أبي
ثور يخالف الآثار المروية التي ذكرناها فلا يعول عليه (مسألة) (ويؤخذ في
البقر النصف مسنات والنصف أتبعة وفي الغنم النصف ثنايا والنصف أجذعة إذا
كانت الغنم ضأناً) لأن دية الإبل من الاسنان من المقدرة في الزكاة فكذلك
للبقر والغنم (مسألة) (ولا تعتبر القيمة في شئ من ذلك إذا كان سليماً من
العيوب وقال أبو الخطاب تعتبر أن تكون القيمة لكل بعير مائة وعشرين درهماً،
وظاهر هذا أنه يعتبر في الأصول كلها أن تبلغ دية من الأثمان والأول أولى)
الصحيح أنه لا تعتبر قيمة الإبل بل متى وجدت على الصفة المشروطية وجب أخذها
وهو ظاهر كلام الخرقي وسواء قلت قيمتها أو كثرت وهو ظاهر مذهب الشافعي وذكر
أصحابنا أن مذهب احمد ان تؤخذ مائة من الإبل قيمة كل بعير منها مائة وعشرون
درهماً فإن لم يقدر على ذلك أدى اثني عشر ألف درهم أو الف دينار لأن عمر
قوم الإبل على أهل الذهب ألف مثقال وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم فدل
على أن ذلك قيمتها ولأن هذه أبدال محل واحد فيجب أن تتساوى في القيمة
كالمثل والقيمة في بدل القرض المتلف في المثليات
(9/514)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " في
النفس المؤمنة مائة من الإبل " وهذا مطلق فتقييده يخالف اطلاقه فلم يجب إلا
بدليل ولأنها كانت تؤخذ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقيمتها ثمانية
آلاف، وقول عمر في حديثه
أن الإبل قد غلت فقومها على أهل الورق اثني عشر ألفاً دليل على أنها في حال
رخصها أقل قيمة من ذلك وقد كانت تؤخذ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي
بكر وصدراً من خلافه عمر مع رخصها وقلة قيمتها ونقصها عن مائة وعشرين
فإيجاب ذلك فيها خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن النبي صلى
الله عليه وسلم فرق بين دية الخطأ والعمد فغلظ دية العمد وخفف دية الخطأ
وأجمع عليه أهل العلم، واعتبارها بقيمة واحدة تسوية بينهما وجمع بين ما فرق
الشارع وإزالة التخفيف والتغليظ جميعاً بل هو تغليظ لدية الخطأ لأن اعتبار
ابنة مخاض بقيمة ثنية أو جذعة يشق جداً فيكون تغليظاً لدية الخطأ وتخفيفاً
لدية العمد وهذا خلاف ما قصده الشارع وورد به، ولأن العادة نقص قيمة بنات
المخاض عن قيمة الحقاق والجذعات فلو كانت تؤدى على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم بقيمة واحدة ويعتبر فيها ذلك النقل ولم يجز الإخلال به لأن ما
ورد الشرع به مطلقاً إنما يحمل على العرف والعادة فإذا أريد به ما يخالف
العادة وجب بيانه وايضاحه لئلا يكون تلبيساً في الشريعة وإيهامهم أن حكم
الله خلاف ما هو حكمه على الحقيقة والنبي صلى الله عليه وسلم بعث للبيان
قال الله تعالى (لتبين للناس ما نزل إليهم) فكيف يحمل قولهم على الإلباس
والألغاز هذا لا يحل لو حمل الأمر على ذلك لكان ذكر الأسنان عبثاً غير مفيد
فإن فائدة ذلك إنما هو لكون
(9/515)
اختلاف أسنانها مظنة لا ختلاف القيم فأقيم
مقامه ولأن الإبل الأصل في الدية فلا يعتبر قيمتها بغيرها كالذهب والورق،
ولانها أصل في الوجوب فلا تعتبر قيمتها كالإبل في السلم وشاة الجيران،
وحديث عمرو بن شعيب حجة لنا فإن الإبل كانت تؤخذ قبل أن تغلو ويقومها عمر
وقيمتها أكثر من اثني عشر ألفا وقد قيل إن قيمتها كانت ثمانية آلاف ولذلك
قال عمر دية الكتابي أربعة آلاف، وقولهم انها أبدال محل واحد فلنا أن نمنع
ونقول البدل انما هو الإبل وغير ها معتبر بها وإن سلمنا فهو منتقض بالذهب
والورق فإنه لا يعتبر تساويهما، وينتقض أيضاً بشاة الجيران مع الدراهم،
وأما بدل القرض والمتلف فإنما هو المثل خاصة والقيمة بدل عنه ولذلك لا تجب
إلا عند المعجز عنه بخلاف مسئلتنا، فإن قيل فهذا حجة عليكم لقولكم أن الإبل
هي الأصل وغيرها بدل عنها فيجب أن يساويهما كالمثل والقيمة، قلنا إذا ثبت
لنا هذا ينبغي أن يقوم غيرها بها ولا تقوم هي بغيرها لأن البدل يتبع الأصل
ولا يتبع الأصل البدل على أنا نقول إنما صير الى التقدير بهذا
لأن عمر رضي الله عنه قومها في وقته بذلك فوجب المصير اليه كيلا يؤدي إلى
التنازع والاختلاف في قيمة الإبل الواجبة كما قدر لبن المصراة بصاع من
التمر نفياً للتنازع في قيمته فلا يوجب هذا ان يرد الأصل الى التقويم فيفضي
الى عكس حكمة الشرع ووقوع التنازع في قيمة الإبل مع وجودها بعينها على أن
المعتبر في بدلي القرض مساواة المقرض فاعتبر كل واحد من بدليه به والدية
غير معتبرة بقيمة المتلف ولهذا لا تعتبر صفاته، وهكذا قول أصحابنا في تقويم
البقر والشاء والحلل يجب أن يكون مبلغ الواجب من
(9/516)
كل صنف منها اثني ألفاً فتكون قيمة كل بقرة
أو حلة ستين درهماً وقيمة كل شاة ستة دراهم لتتساوى الأبدال كلها.
(مسألة) (ويؤخذ في الحلل المتعارف من ذلك باليمن) وهي مائتا حلة كل بردان
فتكون اربعمائة بردة، فإن تنازعا جعلت قيمة كل حلة ستين درهماً ليبلغ قيمة
الجميع اثني ألف درهم.
(فصل) ولا يقبل في الإبل معيب ولا أعجف ولا يعتبر فيها أن تكون من جنس إبله
ولا إبل بلده.
وقال القاضي وأصحاب الشافعي الواجب عليه من جنس إبله سواء كان القاتل أو
العاقلة لأن وجوبها على سبيل المواساة فيجب كونها من جنس مالهم كالزكاة
فإذا كان عند بعض العاقلة عراب وعند بعضهم نجاتي أخذ من كل واحد من جنس ما
عنده وإن كان عند واحد صنفان ففيه وجهان (أحدهما) يؤخذ من كل صنف بقسطه
(والثاني) يؤخذ من الأكثر فإن استويا دفع من أيهما شاء فإن دفع من غير إبله
خيراً من إبله أو مثلها جاز كما لو أخرج في الزكاة خيراً من الواجب، وان
أدون لم يقبل إلا أن يرضي المستحق، وإن لم يكن له إبل فمن غالب إبل البلد
فإن لم يكن في البلد إبل وجبت من غالب إبل أقرب البلاد اليه فإن كانت إبله
عجافاً أو مراضاً كلف تحصيل صحاح من صنف ما عنده لأنه بدل متلف فلا يؤخذ
فيه معيب كقيمة الثوب المتلف ونحو هذا قال أصحابنا في البقر والغنم
(9/517)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في
النفس المؤمنة مائة من الإبل أطلق الإبل فمن قيدها احتاج الى دليل ولأنها
بدل متلف فلم يختص بجنس ماله كبدل سائر المتلفات، ولأنها حق ليس سببه المال
فلم يعتبر فيه كونه من
جنس ما * له كالمسلم فيه والقرض ولأن المقصود بالدية جبر المفوت والجبر لا
يختص بجنس مال من وجب عليه، وفارق الزكاة فإنها وجبت على سبيل المواساة
ليشارك الفقراء لا غنياء فيما أنعم الله عليهم به فاقتضى كونه من جنس
أموالهم وهذا بدل متلف فلا وجه لتخصيصه بماله وقولهم انها مواساة لا يصح
وانما وجبت جبراً للفائت كبدل المال المتلف، وانما العاقلة تواسي القاتل
فيما وجب بجناية ولهذا لا تجب من جنس أموالهم اذا لم يكونوا ذوي إبل
والواجب بجنايته ابل مطلقة فتواسيه في تحملها ولأنها لو وجبت من جنس مالهم
لوجبت المريضة من المراض والصغيرة من الصغار كالزكاة (فصل) ودية المرأة نصف
دية الرجل، إذا كانت المرأة حرة مسلمة فديتها نصف دية الحر المسلم أجمع على
ذلك أهل العلم ذكره ابن المنذر وابن عبد البر وحكى غيرهما عن ابن عليه
والأصم أنهما قالا ديتها كدية الرجل لقوله عليه الصلاة والسلام " في النفس
المؤمنة مائة من الإبل " وهذا قول شاذ يخالف إجماع الصحابة وسنة النبي صلى
الله عليه وسلم فإن في كتاب عمرو بن حزم دية المرأة على النصف من دية الرجل
وهو أخص مما ذكروه وهما في كتاب واحد فيكون ما ذكرنا مفسراً لما ذكروه
مخصصاً له (مسألة) (وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى ثلث الدية فإذا زادت
صارت على النصف)
(9/518)
روي هذا عن عمر وابنه وزيد بن ثابت وبه قال
سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وعروة والزهري وقتادة وربيعة ومالك قال
ابن عبد البر وهو قول فقهاء المدينة السبعة وجمهور أهل المدينة وحكي عن
الشافعي في القديم وقال الحسن يستويان الى النصف، وروي عن علي رضي الله عنه
انها على النصف فيما قل أو أكثر، وروي ذلك عن ابن سيرين وبه قال الثوري
والليث وابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبي حنيفة وأصحابه والشافعي في ظاهر
مذهبه.
واختاره ابن المنذر لأنهما شخصان تختلف ديتهما فاختلف أرش أطرافهما كالمسلم
والكافر ولانهما جناية لها أرش فكان من المرأة على النصف من الرجل كاليد،
وروي عن ابن مسعود أنه قال تعاقل المرأة الرجل الى نصف عشر الدية فإذا زاد
على ذلك فهي على النصف كأنها تساويه في الموضحة، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عقل المرأة مثل عقل الرجل
حتى يبلغ الثلث من ديتها " أخرجه النسائي وهو
نص يقدم على ما سواه قال ربيعة قلت لسعيد بن المسيب كم في أصبع المرأة؟ قال
عشر قلت ففي اصبعين قال عشرون قلت ففي ثلاث أصابع؟ قال ثلاثون قلت ففي أربع
قال عشرون قال فقلت لما عظمت مصيبتها قل عقلها؟ قال هكذا السنة يا ابن أخي
وهذا مقتضى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه سعيد ولأنه إجماع
الصحابة رضي الله عنهم إذ لم ينقل عنهم خلاف ذلك إلا عن علي ولا نعلم ثبوت
ذلك عنه ولأن ما دون الثلث يستوي فيه الذكر والأنثى بدليل الجنين فإنه
يستوي فيه دية الذكر والأنثى، فأما الثلث
(9/519)
نفسه ففيه روايتان (إحداهما) يستويان فيه
لأنه لم يعتبر حد القلة ولهذا صحت الوصية به (والثانية) يختلفان فيه وهو
الصحيح لقوله عليه الصلاة والسلام " حتى يبلغ الثلث " وحتى للغاية ويجب أن
تكون مخالفة لما قبلها لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية) ولأن الثلث في
حد الكثرة لقوله عليه الصلاة والسلام " والثلث كثير " ولأن العاقلة تحمله
فدل على أنه مخالف لما دونه، فأما دية نساء سائر أهل الأديان فقال أصحابنا
تساوي دياتهن ديات رجالهم الى الثلث لعموم قوله عليه الصلاة والسلام " عقل
المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها " ولأن الواجب دية امرأة
فساوت دية الرجل من أهل ديتها كالمسلمين ويحتمل أن تساوي المرأة الرجل إلى
ثلث دية الرجل المسلم لأنه القدر الكثير الذي ثبت له النصيف في الأصل وهو
دية وهكذا أرش جراحة المسلمين (مسألة) (ودية الخنثى المشكل نصف دية ذكر
ونصف دية أنثى وذلك ثلاثة أرباع دية الذكر لأنه يتحمل الذكورية والأنوثية)
وهذا قول أصحاب الرأي وعند الشافعي الواجب دية أنثى لأنها اليقين فلا يجب
الزائد بالشك ولنا أنه يحتمل الذكورية والأنوثية احتمالاً واحداً وقد يئسنا
من انكشاف حاله فيجب التوسط بينهما والعمل بكلا الاحتمالين
(9/520)
(فصل) ويفاد به الذكر والأنثى لأنهما لا
يختلفان في القود ويفاد هو بكل واحد منهما فأما جراحه فإن كانت دون الثلث
استوى الذكر والأنثى لأن أدنى حاليه أن يكون امرأة وهي تساوي الذكر على
ما بينا وفيما زاد ثلاثة أرباع حر ذكر (فصل) ودية الكتابي نصف دية المسلم
إذا كان حراً ونساؤهم على النصف من دياتهم هذا ظاهر المذهب وهو قول عمر بن
عبد العزيز وعروة ومالك وعمرو بن شعيب عنه أنها ثلث دية المسلم إلا أنه رجع
عنها فروى عنه صالح أنه قال: كنت أقول دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف
وأنا اليوم أذهب الى نصف دية المسلم حديث عمرو بن شعيب وحديث عثمان الذي
يرويه الزهري عن سالم عن ابيه وهذا صريح في الرجوع عنه، وروي عن عمر وعثمان
أن ديته أربعة آلاف درهم، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء وعكرمة وعمرو بن
دينار والشافعي واسحاق وأبو ثور لما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال " دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف أربعة آلاف " وروي أن
عمر رضي الله عنه جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ودية المجوسي
ثمانمائة درهم وقال علقمة ومجاهد والشعبي والنخعي والثوري وأبو حنيفة: ديته
كدية المسلم، وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن مسعود ومعاوية رضي الله عنهم،
وقال ابن عبد البر هو قول سعيد بن المسيب والزهري
(9/521)
لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه
قال " دية اليهودي والنصراني مثل دية المسلم " ولأن الله سبحانه ذكر في
كتابه دية المسلم وقال (ودية مسلمة إلى أهله) قال في الذمي مثل ذلك ولم
يفرق فدل لى أن ديتهما واحدة ولأنه حر ذكر معصوم فتكمل ديته كالمسلم ولنا
ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " دية
المعاهد نصف دية المسلم " وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن عقل
أهل الكتاب نصف عقل المسلمين رواه الإمام أحمد وفي لفظ دية المعاهد نصف دية
الحر قال الخطابي ليس في دية أهل الكتاب شئ أبين من هذا ولا بأس باسناده
وقد قال به أحمد وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى.
فأما حديث عبادة فلم يذكره أصحاب السنن والظاهر أنه ليس بصحيح وحديث عمر
إنما كان ذلك حين كانت الدية ثمانية آلاف فأوجب فيه نصفها أربعة آلاف ودليل
ذلك ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كانت قيمة الدية على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب
يؤمئذ النصف
فهذا بيان وشرح يزيل الاشكال وفيه جمع للاحاديث فيكون دليلاً لنا ولو لم
يكن كذلك لكان قول النبي صلى الله عليه وسلم مقدماً على قول عمر وغيره بغير
إشكال فقد كان عمر رضي الله عنه إذا بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة
ترك قوله وعمل بها فكيف يسوغ لأحد أن يحتج بقوله في ترك قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأما ما احتج به الآخرون فإن الصحيح من حديث عمرو بن شعيب
ما رويناه أخرجه الأئمة في كتبهم دون ما رووه، وأما ما رووه من قول الصحابة
فقد روي عنهم خلافه فيحمل قولهم في إيجاب الدية
(9/522)
كاملة على سبيل التغليظ.
قال أحمد إنما غلظ عثمان الدية عليه لأنه كان عمداً فلما ترك القود غلظ
عليه وكذلك حديث معاوية، ومثل هذا ما روي عن عمر رضي الله عنه حين انتحر
رقيق حاطب ناقة لرجل مزني فقال عمر لحاطب: إني أراك تجمعهم لأغرمنك غرماً
يشق عليك فغرمه مثلي قيمتها.
(مسألة) (وجراحاتهم على النصف من دياتهم كجراحات المسلمين من دياتهم قياساً
عليهم) قال الأثرم قيل لأبي عبد الله جني على مجوسي في عينه وفي يده؟ قال
يكون بحساب ديته كما أن المسلم يؤخذ بالحساب فكذلك هذا قيل قطع يده؟ قال
بالنصف من ديته (مسألة) (ونساؤهم على النصف من دياتهم) لا نعلم في هذا
خلافاً قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل
ولأنه لما كان دية نساء المسلمين على النصف من دياتهم كذلك نساء أهل الكتاب
قياساً عليهم.
(مسألة) (ودية المجوسي والوثني ثمان مائة درهم) ذهب أكثر أهل العلم في دية
المجوسي قال احمد ما أقل من اختلف في دية المجوسي وممن قال ذلك عمر وعثمان
وابن مسعود وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء وعكرمة والحسن ومالك
والشافعي وإسحاق ويروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال ديته نصف دية المسلم
كدية الكتابي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " سنوا بهم سنة أهل الكتاب "،
وقال النخعي والشعبي وأصحاب الرأي: ديته كدية المسلم لأنه آدمي حر معصوم
فأشبه المسلم
(9/523)
ولنا قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم
في عصرهم مخالفا فكان إجماعا وقوله " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " يعني في
أخذ جزيتهم وحقن دمائهم بدليل أن ذبائحهم ونساءهم لا تحل لنا ولا يجوز
اعتباره بالمسلم ولا بالكتابي لنقصان ديته وأحكامه عنهما فينبغي أن تنقص
ديته كنقص المرأة عن دية الرجل وسواء كان المجوسي ذمياً أو مستأمناً لأنه
محقون الدم، ونساؤهم على النصف من دياتهم وجراح كل واحد معتبرة من ديته
كالمسلم (مسألة) (فأما عبدة الأوثان وسائر من ليس له كتاب كالترك ومن عبد
ما استحسن فلا ذمة لهم وإنما تحقن دماؤهم بالأمان) فإذا قتل من له أمان
منهم فديته دية مجوسي لأنها أقل الديات فلا ينقص عنها ولأنه كافر ذو عهد لا
تحل منا كحته فأشبه المجوسي (مسألة) (ومن لم تبلغه الدعوة فلا ضمان فيه) من
لم تبلغه الدعوة من الكفار إن وجد لم يجز قتله حتى يدعى فإن قتل الدعوة من
غير أن يعطى أماناً فلا ضمان فيه لأنه لا عهد له ولا ايمان فأشبه امرأة
الحربي وابنه الصغير وانما حرم قله لتبلغه الدعوة وهذا قول أبي حنيفة وقال
أبو الخطاب إن كان ذا دين فديته دية أهل دينه وهو مذهب الشافعي لأنه محقون
الدم أشبه من له أمان والأول أولى فإن هذا ينتقض بصبيان أهل الحرب
ومجانينهم
(9/524)
ولأنه كافر لا عهد له فلم يضمن كالصبيان
فأما إن كان له عهد ففيه دية أهل ديته فإن لم يعرف ديته ففيه دية المجوسي
لأنه اليقين والزيادة مشكوك فيها (فصل) ودية العبد والأمة قيمتهما بالغة
وعنه لا يبلغ بها دية الحر أجمع أهل العلم على أن في العبد الذي لا تبلغ
قيمة دية الحر قيمته فإن بلغت قيمته دية أو زادت عليهما فذهب أحمد رحمه
الله في المشهور عنه الى ان فيه قيمته بالغة ما بلغت عمداً كان القتل او
خطأ سواء ضمن باليد أو بالجناية وهذا قول سعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين
وعمر بن عبد العزيز وأياس بن معاوية والزهري ومكحول ومالك والاوزاعي
والشافعي وإسحاق وأبي يوسف وقال النخعي والشعبي والثوري وأبو حنيفة ومحمد
لا يبلغ به دية الحر وحكاها أبو الخطاب رواية عن أحمد وقال أبو حنيفة ينقص
عن دية الحر ديناراً وعشرة دراهم القدر الذي
يقطع به السارق هذا إذا ضمن بالجناية وان ضمن باليد مثل ان يعصب عبداً
فيموت في يده فإن قيمته تجب وإن زادت على دية الحر واحتجوا بأنه ضمان آدمي
فلم يزد على دية الحر كضمان الحر وذلك لأن الله تعالى لما اوجب في الحر دية
لا نزيد وهو أشرف لخلوه عن نقص الرق كان تنبيها على أن العبد المنقوص لا
يزاد عليها فتجعل مالية العبد معياراً للقدر الواجب فيه ما لم يزد على
الدية فإن زاد علمنا خطأ ذلك فنرده إلى دية الحر كأرش ما دون الموضح يجب
فيه ما تخرجه الحكومة ما لم يزد على أرش الموضحة فنرده اليها
(9/525)
ولنا أنه مال متقوم فيضمن بكمال قيمته
بالغة ما بلغت كالفرس او مضمون بقيمته فكانت جميع القيمة مضمونة كما لو
ضمنه باليد ويخالف الحر فإنه ليس مضموناً بالقيمة وإنما ضمن بما قدره الشرع
فلم يتجاوزه ولأن ضمان الحر ليس بضمان مال ولذلك لم يختلف باختلاف صفاته
وهذا ضمان مال يزيد بزيادة المالية وينقص بنقصانها فاختلفا (فصل) ولا فرق
في هذا الحكم بين القن من العبيد والمدبر والمكاتب وأم الولد قال الخطابي
أجمع عوام الفقهاء على أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم في جنايته والجناية
عليه ألا إبراهيم النخعي فإنه قال في المكاتب يودى بقدر ما أدى من كتابة
دية الحر وما بقي دية العبد وروي في ذلك شئ عن علي رضي الله عنه وقد روى
أبو داود في سننه والإمام أحمد في مسنده حدثنا محمد بن عبد الله ثنا هشام
بن أبي عبد الله قال حدثني يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال قضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم في المكاتب يقتل أنه يودى ما أدى من كتابته
دية الحر وما بقي دية العبد وقال الخطابي إذا صح الحديث وجب القول به إذا
لم يكن منسوخاً أو معارضاً بما هو أولى منه (مسألة) (وفي جراحه إن لم يكن
مقدرا ما في الحر ما نقصه بعد التئام الجرح كسائر الأموال وإن كان مقدراً
في الحر فهو مقدر في العبد من قيمته ففي يده نصف قيمته وفي موضحة نصف عشر
قيمته نقصته الجناية أقل من ذلك أو اكثر وعنه أنه يضمن بما نقص اختاره
الخلال وجملة ذلك أن الجناية على العبد يجب ضمانها بما نقص من قيمته لأن
الواجب إنما وجب جبراً لما فات بالجناية ولا تجبر إلا بايجاب ما نقص
(9/526)
من القيمة فيجب ذلك كما لو كانت الجناية
على غيره من الحيوانات وسائر المال ولا يجب زيادة على ذلك لأن حق المجني
عليه قد انجبر فلا تجب له زيادة على ما فوته الجاني عليه هذا هو الأصل ولا
نعلم فيه خلافاً فيما ليس فيه مقدر شرعي فإن كان الفائت بالجناية مؤقتاً في
الحر كيده وموضحته ففيه عن أحمد روايتان (إحداهما) ان فيه أيضاً ما نقصه
بالغا ما بلغ وذكر أبو الخطاب أنه اختيار الخلال وروى الميموني عن أحمد أنه
قال انما يأخذ قيمة ما نقص منه على قول ابن عباس وروى هذا عن مالك فيما عدا
موضحته ومنقلته وهاشمته وجائفته لأن ضمانه ضمان الامور فيجب فيه ما نقص
كالبهائم ولأن ما ضمن بالقيمة بالغا ما بلغ ضمن نقصه بما نقص كسائر الأموال
ولأن مقتضى الدليل ضمان الفائت بما نقص خالفناه فيما وقت الحر كما خالفناه
في ضمان نفسه بالدية المؤقتة ففي الوقت يبقى فيهما على مقتضى الدليل
والرواية الأخرى أن ما كان موقتاً في الحر فهو موقت في العبد من قيمته ففي
يده أو عينه أو شفته نصف قيمته وفي موضحته نصف عشر قيمته وما أوجب الدية في
الحر كالأنف واللسان واليدين والرجلين والعينين والأذنين أوجب قيمة العبد
مع العبد بقاء ملك السيد عليه وروى هذا عن علي رضي الله عنه وروي نحوه عن
سعيد بن المسيب وبه قال ابن سيرين وعمر بن عبد العزيز والشافعي والثوري قال
أحمد هذا قول سعيد بن المسيب وقال آخرون ما اصيب به العبد فهو على ما نقص
من قيمته والظاهر أن هذا لو كان قول علي لما احتج أحمد إلا به دون غيره إلا
أن أبا حنيفة والثوري قالا ما أوجب الدية من الحر
(9/527)
يتخير سيد العبد فيه بين أن يغرمه قيمته
ويصير ملكاً للجاني وبين أن لا يضمنه شيئاً لئلا يؤدي الى اجتماع البدل
والمبدل لرجل واحد وروي عن إياس بن معاوية فيمن قطع يد عبد عمداً أو قلع
عينه هو له وعليه ثمنه ووجه هذه الرواية قول علي رضي الله عنه ولم يعرف له
من الصحابة مخالف ولأنه آدمي يضمن بالقصاص والكفارة فكان في أطرافه مقدر
كالحر ولأن اطرافه فيها مقدر من الحر فكان فيها مقدر من العبد كالشجاج
الأربع عند مالك وما وجب في شجاجه مقدر وجب في أطرافه كالحر وعلى أبي حنيفة
قول علي وإن هذه الأعضاء فيها مقدر فوجب ذلك مع بقاء ملك السيد في العبد
كاليد الواحدة وسائر الأعضاء وقولهم إنه اجتمع البدل والمبدل لواحد لا يصح
لأن القيمة ههنا بدل العضو واحدة
والرواية الأولى أقيس وأولى إن شاء الله تعالى ولم يثبت ما روي عن علي وان
ثبت فقد روي عن ابن عباس خلافه فلا يبقى حجة والقياس على الحر لا يصح لأنهم
لم يسووا بينه وبين الحر فيما ليس فيه مقدر شرعي فإنهم أوجبوا فيه ما نقصه
وإن كان في عضو فيه مقدر شرعي فإنهم أوجبوا فيه ما نقصه وإن كان في عضو فيه
مقدر كالجناية على الإصبع من غير قطع إذا نقصت قيمته العشر أو أكثر بخلاف
الحر وقد ذكرنا دليل ذلك في صدر المسألة (فصل) والأمة مثل العبد فيما ذكرنا
وفيه من الخلاف ما فيه إلا أنها تشبه بالحرة ولا تفريع على الرواية الأولى
فأما على الثانية فإن بلغت قيمتها احتمل أن ترد الى النصف فيكون في ثلاثة
أصابع ثلاثة
(9/528)
أعشار قيمتها وفي أربعة أصابع خمسها كما أن
المرأة تساوي الرجل في الجراح الى ثلث ديتها فإذا بلغت الثلث ردت الى النصف
والأمة امرأة فيكون أرشها من قيمتها كأرش الحرة، ويحتمل أن لا ترد الى
النصف لأن ذلك في الحرة على خلاف الأصل لكون الأصل زيادة الأرش بزيادة
الجناية وإن كل ما زاد نقصها وضررها زاد في ضمانها فإذا خولف في الحرة
بقينا في الأمة على وفق الأصل (مسألة) (ومن نصفه حر ففيه نصف دية حر ونصف
قيمته وكذلك في جراحه) وجملة ذلك أن من نصفه حرا إذا جنى عليه الحر فلا قود
عليه لأنه ناقص بالرق فأشبه ما لو كان كله رقيقا وان كان قاتله عبداً أقيد
منه لأنه أكمل من الجاني، وإن كان نصف القاتل حراً وجب القود لتساويهما وإن
كانت الحرية في القاتل أكثر لم يجب القود لعدم المساواة بينهما، وفي ذلك
كله إذا لم يكن القاتل عبداً فعليه نصف دية حر ونصف قيمته إذا كان عمداً
وإن كان خطأ ففي ماله نصف قيمته لأن العاقلة لا تحمل العبد والنصف على
العاقلة لأنها دية حر في الخطأ، وهكذا الحكم في جراحه إذا كان قدر الدية من
أرشها يبلغ ثلث الدية مثل أن يقطع أنفه أو يديه وإن قطع إحدى يديه فالجميع
على الجاني لأن نصف دية اليد ربع ديته فلا تحملها العاقلة لنقصها عن الثلث
(مسألة) (وإذا قطع خصيتي عبد أو أنفه أو اذنيه لزمته قيمته للسيد ولم يزل
ملك السيد عنه وإن قطع ذكره ثم خصاه لزمته قيمته لقطع الذكر وقيمته مقطوع
الذكر وملك سيده باق عليه)
(9/529)
وفي ذلك اختلاف ذكرناه وعلى الرواية الأخرى
يلزمه ما نقص من قيمته ودليلهما ما سبق (فصل) (ودية الجنين الحر المسلم إذا
سقط ميتاً غرة عبداً أو أمة قيمتها خمس من الإبل مورثة عنه كأنه سقط حيا
ذكرا أو انثى، وهو نصف عشر الدية) يقال غرة عبد بالصفة وغرة عبد بالإضافة
والصفة أحسن لأن الغرة اسم للعبد نفسه قال مهلهل كل قتيل في كليب غره * حتى
ينال القتل آل مره وجملة ذلك أن في جنين المسلمة غرة هذا قول أكثر أهل
العلم منهم عمر رضي الله عنه وعطاء والشعبي والنخعي والزهري ومالك والثوري
والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وقد روي أن عمر استشار الناس في
املاص المرأة فقال المغيرة بن شعبة شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه
بغرة عبد أو أمة قال لتأتين بمن يشهد معك فشهد له محمد بن مسلمة، وعن أبي
هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في
بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن دية جنينها عبد أو أمة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها
ولدها ومن معهم متفق عليه، والغرة عبد أو أمة سميا بذلك لانهن أنفس
الاموال، والاصل في الغرة الخيار، فإن قيل فقد روي في هذا الخبر " أو فرس
أو بغل " قلنا هذا لم يثبت رواه عيسى بن يونس ووهم فيه قاله أهل النقل
والحديث الصحيح إنما فيه عبد أو أمة
(9/530)
(فصل) وإنما تجب الغرة إذا سقط من الضربة،
ويعلم ذلك بأن يسقط عقيب الضرب أو تبقى منها متألمة الى أن يسقط، ولو قتل
حاملاً ولم يسقط جنينها أو ضرب من في جوفها حركة او انتفاخ فسكن الحركة
واذهبها لم يضمن الجنين وبهذا قال مالك وقتادة والاوزاعي والشافعي وابن
المنذر وحكي عن الزهري ان عليه غرة لأن الظاهر أنه قتل الجنين فوجبت الغرة
كما لو أسقطت ولنا أنه لا يثبت حكم الولد إلا بخروجه ولذلك لا يصح له وصية
ولا ميراث ولأن الحركة يجوز أن تكون لريح في البطن سكنت فلا يجب الضمان
بالشك، وأما إذا القته ميتاً فقد تحقق والظاهر تلفه من الضربة فيجب ضمانه
سواء ألقته في حياتها أو بعد موتها وبهذا قال الشافعي، وقال مالك وأبو
حنيفة ان
القته بعد موتها لم يضمنه لأنه يجري مجرى اعضائها وبموتها سقط حكم أعضائها
ولنا أنه جنين تلف بجنايته وعلم ذلك بخروجه كما لو سقط في حياتها ولأنه لو
سقط حياً ضمنه فكذلك إذا سقط ميتاً كما لو أسقطته في حياتها، وما ذكروه غير
صحيح لأنه لو كان كذلك لكان إذا سقط ميتاً ثم ماتت لم يضمنه كامضائها ولأنه
آدمي موروث فلا يدخل في ضمان أمه كما لو خرج حياً، فإن ظهر بعضه من بطن أمه
ولم يخرج باقية ففيه الغرة وبه قال الشافعي، وقال مالك وابن المنذر لا تجب
(9/531)
حتى تلقيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم
إنما أوجب الغرة في الجنين الذي ألقته المرأة وهذه لم تلق شيئاً فأشبه ما
لم يظهر منه شئ.
ولنا أنه قاتل لجنينها فلزمته الغرة كما لو ظهر جميعه، ويفارق ما لو لم
يظهر منه شئ فانه لم يتيقن قتله ولا وجوده وكذلك إن ألقت يداً أو رجلاً أو
رأساً أو جزءاً من أجزاء الآدمي تجب الغرة لانا تيقنا أنه من جنين، وإن
ألقت رأسين أو أربع أيد لم يجب أكثر من غرة لأن ذلك يجوز أن يكون من جنين
واحد ويجوز أن يكون من جنينين فلم تجب الزيادة مع الشك لأن الأصل براءة
الذمة ولذلك لم يجب ضمانه إذا لم يظهر، فإن أسقطت ما ليس فيه صورة آدمي فلا
شئ فيه لأنه لا يعلم أنه جنين، وأن ألقت مضغة فشهد ثقات من القوابل أن فيه
صورة خفية ففيه غرة، وإن شهدن أنه مبتدأ خلق آدمي لو بقي تصور ففيه وجهان
(أصحهما) لا شئ فيه لأنه لم يتصور فلم يجب فيه شئ كالعلقة ولأن الأصل براءة
الذمة فلا نشغلها بالشك (والثاني) فيه غرة لأنه مبتدأ خلق آدمي أشبه ما لو
تصور وهذا يبطل بالمضغة والعلقة (فصل) والغرة عبد أو أمة وهو قول أكثر أهل
العلم وقال عروة وطاوس ومجاهد عبد أو أمة أو فرس لأن الغرة اسم لذلك وقد
جاء في حديث أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين
بغرة أو أمة أو فرس أو بغل، وجعل ابن سيرين مكان الفرس مائة شاة ونحوه قال
الشعبي لأنه روي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل في ولدها مائة
شاة رواه أبو داود، وروي عن عبد الملك
(9/532)
ابن مروان أنه قضى في الجنين إذا أملص
بعشرين ديناراً فإذا كان مضغة فأربعين فإذا كان عظماً
فستين فإذا كان العظم قد كسي لحماً فثمانين فإن تم خلفه وكسي شعره فمائة
دينار، وقال قتادة إذا كان علقة فثلث غرة وإذا كان مضغة فثلثي غرة ولنا
قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في املاص المرأة بعبد أو أمة وسنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم قاضية على ما خالفها، وذكر الفرس والبغل وهم انفرد
به عيسى بن يونس عن سائر الرواة وهو متروك في البغل بغير خلاف فكذلك في
الفرس والحديث الذي ذكرناه أصح ما روي فيه وهو متفق عليه وقد قاله به أكثر
أهل العلم فلا يلتفت الى ما خالفه وقول عبد الملك بن مروان تحكم بتقدير لم
يرد به الشرع وكذلك قتادة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالاتباع
من قولهما إذا ثبت هذا فإنه يلزمه الغرة فإن أراد دفع بدلها ورضي المدفوع
اليه جاز لأنه حق آدمي فجاز ما تراضيا عليه وأيهما امتنع من قبول البدل فله
ذلك لأن الحق لهما فلا يقبل بدلها إلا برضاهما (فصل) وقيمة الغرة خمس من
الإبل وذلك نصف عشر الدية روى ذلك عن عمر وزيد رضي الله عنهما، وبه قال
النخعي والشعبي وربيعة ومالك والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي ولأن ذلك أقل ما
قدره الشرع في الجنايات وهو أرش موضحة ودية السن فرددناه اليه، فإن قيل فقد
وجب في
(9/533)
الأنملة ثلاثة أبعرة وثلث ذلك دون ما ذكروه
قلنا الذي نص عليه صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم أرش الموضحة وهو خمس من
الإبل، وإذا كان أبوا الجنين كتابيين ففيه غرة قيمتها نصف قيمة الغرة
الواجبة في المسلم، وفي جنين المجوسية غرة قيمتها أربعون درهماً فاما تعذر
وجود غرة بهذه الدراهم وجبت الدراهم لأنه موضع حاجة وإذا اتفق نصف عشر
الدية من الأصول كلها بأن تكون قيمتها خمساً من الإبل وخمسين ديناراً أو
ستمائة درهم فلا كلام، وإن اختلفت قيمة الإبل ونصف عشر الدية من غيرها مثل
إن كانت قيمة الإبل اربعين ديناراً أو أربعمائة درهم فظاهر كلام الخرقي
أنها تقوم بالإبل لأنها الأصل، وعلى قول غيره من أصحابنا تقوم بالذهب أو
الورق فتجعل قيمتها خمسين ديناراً أو ستمائة درهم فإن اختلفا قومت على أهل
الذهب به وعلى اهل الورق به، فإن كان من أهل الذهب والورق جميعاً قوما من
هي عليه بما شاء منهما لأن الخيرة الى الجاني في دفع ما شاء من سائر الأصول
ويحتمل أن تقوم بأدعاهما على كل حال لذلك وإذا لم يجد الغرة انتقل الى خمس
من الإبل على قول الخرقي وعلى قول غيره ينتقل الى خمسين ديناراً أو ستمائة
درهم (فصل) والغرة موروثة عنه كأنه سقط حياً لأنها دية له وبدله عنه فيرثها
ورثته كما لو قتل بعد الولادة وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي، وقال الليث: لا
تورث بل يكون بدله لأمه كعضو من أعضائها فأشبه يدها.
ولنا أنها دية آدمي حر فوجب أن تكون موروثة عنه كما لو ولدته حياً ثم مات
وقوله إنه كعضو
(9/534)
من اعضائها لا يصح لأنه لو كان عضو لدخل
بدله في دية أمه كيدها ولما منع من القصاص من أمه وإقامة الحد عليها من
أجله ولما وجبت الكفارة من أجله بقتله ولما صح عتقه دونها ولا عتقها دونه،
ولأن كل نفس تضمن بالدية تورث كدية الحي، فعلى هذا إذا اسقطت جنينا ميتا ثم
ماتت فإنها ترث نصيبها من الغرة ثم يرثها ورثتها، وإن اسقطته حياً ثم مات
قبلها ثم ماتت فإنها ترث نصيبها من ديته ثم يرثها ورثتها، وإن ماتت قبله ثم
القته ميتاً لم يرث أحدهما صاحبه، وإن خرج حياً ثم ماتت قبله ثم مات، أو
ماتت ثم خرج حياً ثم مات ورثها ثم يرثه ورثته، وان اختلف ورائهما في أولهما
موتاً فحكمهما حكم الغرقى على ما ذكر في موضعه، ويجئ على قول الخرقي في
المسألة التي ذكرها اذا ماتت امرأة وابنها ان يحلف ورثة كل واحد منهما
ويختصوا بميراثه، وان ألقت جنيناً ميتاً أو حياً ثم مات ثم ألقت آخر حيا
ففي الميت غرة وفي الحي الأول دية إذا كان سقوطه لوقت يعيش مثله ويرثهما
الآخر يرثه ورثته ان مات، وإن كانت الأم قد ماتت بعد الأول وقبل الثاني فإن
دية الاول ترث منها الأم والجنين الثاني ثم إذا ماتت الام ورثها الثاني ثم
يصير ميراثه لورثته فإن ماتت الأم بعدهما ورثتهما جميعاً (فصل) إذا ضرب بطن
امرأة فألقت أجنة ففي كل واحد غرة وبهذا قال الزهري ومالك والشافعي وإسحاق
وابن المنذر قال لا أحفظ عن غيرهم خلافهم وذلك لأنه ضمان آدمي فتعدد بتعدده
كالديات
(9/535)
وان القتهم احياء لوقت يعيشون في مثله ثم
ماتوا ففي كل واحد منهم دية كاملة، وإن كان بعضهم حياً فمات وبعضهم ميتاً
ففي الحي دية وفي الميت غرة (فصل) ويستوي في ذلك الذكر والأنثى في أنه يجب
في كل واحد غرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة وهو يطلق
على الذكر والأنثى ولأن المرأة تساوي الذكر فيما دون الثلث (مسألة) (ولا
يقبل في الغرة خنثى ولا معيب ولا من له دون سبع سنين) وجملة ذلك أن الغرة
تجب سليمة من العيوب وإن قل العيب لأنه حيوان يجب بالشرع فم يقبل فيه
المعيب كالشاة في الزكاة ولأن الغرة الخيار والمعيب ليس من الخيار، ولا
يقبل فيها هرمة ولا معيبة ولا خنثى ولا خصي وان كثرت قيمته لأن ذلك عيب،
ولا من له دون سبع سنين قاله القاضي وابو الخطاب وأصحاب الشافعي لأنه محتاج
الى من يكفله ويحضنه وليس من الخيار، وظاهر كلام الخرقي ان سنها غير مقدر
وهو قول أبي حنيفة وذكر بعض أصحاب الشافعي أنه لا يقبل فيها غلام بلغ خمس
عشرة سنة لأنه لا يدخل على النساء ولا ابنة عشرين لأنها تتغير وهذا تحكم لم
يرد الشرع به فيجب ان لا يقيل وما ذكروه من الحاجة إلى الكفاية باصل بمن له
فوق السبع ولأن بلوغه قيمة الكبير مع صغره يدل على أنه خيار ولم يشهد لما
ذكروه نص ولا له أصل يقاس عليه والشاب البالغ أكمل من الصبي عقلاً وبنية
وأقدر على التصرف وأنفع في الخدمة وأقضى للحاجة، وكونه لا يدخل على النساء
إن أريد به النساء الأجنبيات فلا حاجة الى
(9/536)
دخوله عليهن، وان أريد به سيدته فليس بصحيح
فإن الله تعالى قال (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم
منكم ثلاث مرات) الى قوله (ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم
بعضكم على بعض) ثم لو لم يدخل على النساء لحصل من منعه أضعاف ما يحصل من
دخوله وفوات شئ الى ما هو أنفع منه لا يعد فواتاً كمن اشترى بدرهم ما يساوي
درهمين لا يعد فواتاً ولا خسراناً (فصل) ولا يعتبر لون الغرة، وذكر عن ابي
عمرو بن العلاء ان الغرة لا تكون إلا بيضاء ولا يقبل عبد أسود ولا جارية
سوداء ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بعبد أو أمة وأطلق والسواد
غالب على عبيدهم وإمائهم ولأنه حيوان
تجب ديته فلم يعتبر لونه كالإبل في الدية (مسألة) (وإن كان الجنين مملوكاً
ففيه عشر قيمة أمه ذكراً كان أو أنثى) وجملته أنه إذا كان جنين الأمة
مملوكاً فسقط من الضربة ميتاً ففيه عشر قيمة أمه هذا قول الحسن وقتادة
ومالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر وبنحوه قال النخعي والزهري.
وقال زيد بن أسلم يجب فيه عشر قيمة غرة وهو خمسة دنانير، وقال الثوري وأبو
حنيفة وأصحابه يجب فيه نصف عشر قيمته إن كان ذكراً أو عشر قيمته إن كان
أنثى لأن الغرة الواجبة في جنين الحرة هي نصف عشر دية الرجل
(9/537)
وعشر دية الأنثى وهذا متلف فاعتباره بنفسه
أولى من اعتباره بأمه ولأنه جنين مضمون تلف بالضربة فكان فيه نصف الواجب
إذا كان ذكراً كبيراً أو عشر الواجب إذا كان أنثى كجنين الحرة، وقال محمد
بن الحسن: مذهب أهل المدينة يفضي إلى أن يجب في الجنين الميت أكثر من قيمته
اذا كان حيا ولنا أنه جنين مات بالجناية في بطن أمه فلم يختلف ضمانه
بالذكورية والأنوثية كجنين الحرة، ودليلهم نقلبه عليهم فنقول جنين مضمون
تلف بالجناية فكان الواجب فيه عشر ما يجب في أمه كجنين الحرة، وما ذكروه من
مخالفة الأصل معارض بأن مذهبهم يفضي الى تفضيل الأنثى على الذكر وهو خلاف
الأصول ولأنه لو اعتبر بنفسه لوجبت قيمته كلها كسائر المضمونات بالقيمة
ومخالفتهم أشد من مخالفتنا لأننا اعتبرناه إذا كان ميتاً بأمه وإذا كان
حياً بنفسه فجاز أن تزيد قيمة الميت على الحي مع اختلاف الجهتين كما جاز أن
يزيد البعض على الكل في أن من قطع اطراف إنسان الأربعة كان الواجب عليه
أكثر من دية النفس كلها وهم فضلوا الأنثى على الذكر مع اتحاد الجهة وأوجبوا
فيما يضمن بالقيمة عشر قيمة أمه تارة ونصف عشر اخرى وهذا لا نظير له إذا
ثبت هذا فإن قيمة أمه معتبرة يوم الجناية عليها وهذا منصوص الشافعي، وقال
بعض أصحابه حين أسقطت لأن الاعتبار في ضمان الجناية بالاستقرار ويتخرج لنا
وجه مثل ذلك ولنا أنه لم يتخلل بين الجناية وحال الاستقرار ما يوجب تغيير
بدل النفس فكان الاعتبار بحال
(9/538)
الجناية كما لو جرح عبداً ثم نقصت السوق
لكثرة الجلب ثم مات فإن الاعتبار بقيمته يوم الجناية ولأن قيمتها تتغير
بالجناية وتنقص فلم تقوم في حال نقصها الحاصل بالجناية كما لو قطع يدها
فمات من سرايتها أو قطع يدها فمرضت بذلك ثم اندملت جراحتها (فصل) وولد
المدبرة والمكاتبة والمعتقة بصفة وأم الولد إذا حملت من غير مولاها حكمه
حكم ولد الأمة لأنه مملوك فأما جنين المعتق بعضها فهو مثلها فيه من الحرية
مثل ما فيها وإذا كان نصفها حراً فتصفه حر فيه نصف غرة لورثته وفي النصف
الباقي نصف عشر قيمة أمه لسيده (فصل) وإن وطئ أمه بشبهة أو غر بأمه فتزوجها
وأحبلها فضربها ضارب فألقت جنيناً فهو حر وفيه غرة موروثة عنه لورثته وعلى
الوطئ عشر قيمتها لسيدها لأنه لولا اعتقاد الحرية لكان هذا الجنين مملوكاً
لسيده على ضاربه عشر قيمة أمه فلما انعتق بسبب الوطئ فقد حال بين سيدها
وبين هذا القدر فالزمناه ذلك للسيد سواء كان بقدر الغرة أو أكثر منها أو
أقل (فصل) إذا أسقط جنين ذمية قد وطئها مسلم وذمي في طهر واحد وجب فيه
اليقين وهو ما في الجنين الذمي فإن ألحق بعد ذلك بالذمي فقد وفى ما عليه
وإن الحق بمسلم فعليه تمام الغرة وان ضرب بطن نصرانية فأسقطت فادعت أو ادعى
ورثته أنه من مسلم حملت به من وطئ شبهة او زنا فاعترف الجاني فعليه غرة
كاملة وإن كان مما تحمله العاقلة فاعترفت ايضاً فالغرة عليها وان انكرت
حلفت وعليها ما في جنين
(9/539)
الذميين والباقي على الجاني لأنه ثبت
باعترافه والعاقلة لا تحمل اعترافاً وإن اعترفت العاقلة دون الجاني فالغرة
عليها مع دية امه وان أنكر الجاني والعاقلة فالقول قولهم مع أيمانهم أنا لا
نعلم أن هذا الجنين من مسلم ولا يلزمهما اليمين مع البت لأنها يمين على
النفي في فعل الغير فإذا اختلفوا وجبت دية ذمي لأن الأصل أن ولدها تابع لها
ولأن الأصل براءة الذمة وإن كان مما لا تحمله العاقلة فالقول قول الجاني
وحده مع يمينه ولو كانت النصرانية امرأة مسلم فادعى الجاني ان الجنين من
ذمي بوطئ شبهة او زنا فالقول قول ورثة الجنين لأن الجنين محكوم بإسلامه فإن
الولد للفراش (فصل) إذا كانت الأمة بين شريكين فحملت بمملوك فضربها أحدهما
فأسقطت فعليه كفارة لأنه
اتلف آدمياً ويضمن لشريكه نصف عشر قيمة أمه ويسقط ضمان نصيبه لأنه ملكه وإن
أعتقها الضارب بعد ضربها وكان معسراً ثم اسقطت عتق نصيبه منه ومن ولدها
وعليه لشريكه نصف عشر قيمة الأم وعليه نصف غرة من أجل النصف الذي صار حراً
يورث عنه بمنزلة مال الجنين ترث أمه منه بقدر ما فيها من الحرية والباقي
لورثته هذا قول القاضي وقياس قول ابن حامد وهو مذهب الشافعي وقياس قول أبي
بكر وابي الخطاب لا يجب على الضارب ضمان ما أعتقه لأنه حين الجناية لم يكن
مضموناً عليه والاعتبار في الضمان بحال الجناية وهي الضرب ولهذا اعتبرنا
قيمة الأم حال الضرب وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله
تعالى لأن الإتلاف حصل بفعل غير مضمون فأشبه ما لو جرح
(9/540)
حربياً فأسلم ثم مات بالسراية ولأن موته
يحتمل أن يكون قد حصل بالضرب فلا يتجدد ضمانه بعد موته والأصل براءة ذمته
وإن كان المعتق موسراً سرى العتق اليها والى جنينها وفي الضمان الوجهان
فعلى قول القاضي في الجنين غرة.
موروثة عنه وعلى قياس قول ابي بكر عليه ضمان نصيب شريكه من الجنين بنصف عشر
قيمة أمه ولا يضمن أمه لأنه قد ضمنها باعتاقها فلا يضمنها بتلفها وإن كان
المعتق الشريك الذي لم يضرب وكان معسراً فلا ضمان على الشريك في نصيبه لأن
العتق لم يسر اليه وعليه في نصيب شريكه من الجنين نصف غرة يرثها ورثته على
قول القاضي وعلى قياس قول ابي بكر يضمن نصيب شريكه بنصف عشر قمية أمه ويكون
لسيده اعتباراً بحال الجناية وكذلك الحكم في ضمان الأم إذا ماتت من الضربة
وإن كان المعتق موسراً سرى العتق اليهما وصارا حرين وعلى المعتق ضمان نصف
الأم ولا يضمن نصف الجنين لأنه يدخل في ضمان الأم كما يدخل في بيعها وعلى
الضارب ضمان الجنين بغرة موروثة عنه على قول القاضي وعلى قياس قول ابي بكر
يضمن نصيب الشريك بنصف عشر قيمة أمه وليس عليه ضمان نصيبه لأنه ملكه حال
الجناية عليه وأما ضمان الأم ففي أحد الوجهين فيها دية حرة لسيدها منها أقل
الأمرين من ديتها أو قيمتها وعلى الآخر يضمنها بقيمتها لسيدها كما تقدم من
قطع يد عبد ثم عتق ومات (فصل) ولو ضرب بطن أمته ثم أعتقها ثم اسقطت جنينا
ميتا لم يضمنه في قياس قول أبي بكر لأن
(9/541)
جنايته لم تكن مضمونة في ابتدائها فلم تضمن
سرايتها كما لو جرح مرتداً فاسلم ثم مات ولأن موت الجنين يحتمل أنه حصل
بالضربة في مملوكه ولم يتجدد بعد العتق ما يوجب الضمان وعلى قول ابن حامد
عليه غرة لا يرث منها شيئاً لأن اعتبار الجناية بحال استقرارها، ولو كانت
الأمة لشريكين فضرباها ثم أعتقاها معاً فولدت جنيناً ميتاً فعلى قول أبي
بكر على كل واحد منهما نصف عشر قيمة أمه لشريكه لأن كلا منهما جنى عليه
الجنين ونصفه لشريكه فسقط عنه ضمانه ولزمه ضمان نصفه الذي لشريكه بنصف عشر
قيمة أمه اعتباراً بحال الجناية وعلى قول ابن حامد على كل واحد منهما نصف
الغرة للأم منها الثلث وباقيها للورثة ولا يرث القاتل منها شيئاً (مسألة)
(وإن ضرب بطن أمه فعتقت ثم أسقطت الجنين ففيه غرة) على قول ابن حامد
والقاضي لأنه كان حراً اعتباراً بحال الاستقرار وعلى قول أبي بكر وابي
الخطاب فيه عشر قيمة أمه اعتباراً بحال الجناية لأنها كانت في حال كونه
عبداً ويمكن منع كونه صار حراً لأن الظاهر تلفه بالجناية وبعد تلفه لا يمكن
تحريره فعلى قول هذين يكون الواجب فيه لسيده وعلى قول ابن حامد يكون الواجب
فيه أقل الأمرين من الغرة وعشر قيمة أمه لأن الغرة إن كانت اكثر لم يستحق
الزيادة لأنها زادت بالحرية الحاصلة لزوال ملكه وإن كانت أقل لم يكن له
أكثر منها لأن النقص حصل باعافه فلا يضمن له كما لو قلع يد عبد فأعتقه سيده
ثم مات بسراية الجناية كان له
(9/542)
أقل الأمرين من دية حر أو نصف قيمته وما
فضل عن حق السيد لورثة الجنين فأما إن ضرب بطن الأمة فاعتق السيد جنينها
وحده نظرت فإن أسقطته حياً لوقت يعيش مثله ففيه دية حر نص عليه أحمد وإن
كان لوقت لا يعيش مثله ففيه غرة لأنه حر على قول ابن حامد وعلى قول أبي بكر
عليه عشر قيمة أمه وإن أسقطته ميتاً ففيه عشر قيمة أمه لأننا لا نعلم كونه
حياً حال إعتاقه ويحتمل أن تجب عليه الغرة لأن الأصل بقاء حياته ما لو أعتق
أمه (فصل) إذا ضرب ابن المعتقة الذي ابوه عبد بطن امرأة ثم عتق ابوه ثم
أسقطت جنيناً وماتت
احتمل ان تكون ديتهما في مال الجاني على ما تقدم ذكره واحتمل أن تكون الدية
على مولى الأم وعصباته في قياس قول ابي بكر اعتباراً بحال الجناية وعلى
قياس ابن حامد على مولى الأب وأقاربه اعتباراً بحال ألإسقاط وإن ضرب ذمي
بطن امرأته الذمية ثم أسلم ثم أسقطت لم تحمله عاقلته وإن ماتت معه فكذلك
لأن عاقلته المسلمين لا يعقلون عنه لأنه كان حين الجناية ذميا وأهل الذمة
لا يعقلون عنه لأنه حين الإسقاط مسلم ويحتمل أن يكون عقله على عاقلته من
أهل الذمة في قياس قول ابي بكر اعتباراً بحال الجناية ويكون في الجنين ما
يجب في الجنين الكافر لأنه حين الجناية محكوم بكفره وعلى قياس قول ابن حامد
يجب فيه غرة كاملة ويكون عقله وعقل أمه على عاقلته المسلمين اعتباراً بحال
الاستقرار (مسألة) (وإن كان الجنين محكوماً بكفره ففيه عشر دية)
(9/543)
وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي
قال إبن المنذر لم أحفظ عن غيرهم خلافهم لأن جنين الحرة المسلمة مضمون بعشر
دية أمه فكذلك جنين الكافرة إلا أن أصحاب الرأي يرون دية الكافرة كدية
المسلمة فلا يتحقق عندهم بينهما اختلاف (مسألة) (وإن كان أحد أبويه كتابياً
والآخر مجوسياً اعتبر أكثرهما دية فيجب عشر دية كتابية على كل حال) لأن ولد
المسلم من الكافرة يعتبر بأكثرهما دية كذا ههنا ولأن الضمان إذا وجد في أحد
أبويه ما يوجب وفي الآخر ما يسقط غلب الإيجاب بدليل ما لو قتل المحرم صيداً
متولداً من مأكول وغيره ولا فرق فيما ذكرنا بين الذكر والأنثى لأن السنة لم
تفريق بينهما وبه يقول الشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وعامة أهل
العلم (فصل) لو ضرب بطن كتابية حامل من كتابي فأسلم أحد أبويه ثم أسقطته
ففيه الغرة في قول ابن حامد والقاضي وهو ظاهر كلام أحمد ومذهب الشافعي لأن
الضمان بحال استقرار الجناية والجنين محكوم بإسلامه عند استقرارها وفي قول
أبي بكر وابي الخطاب فيه عشر دية كتابية لأن الجناية عليه في حال كفره
(مسألة) (وان سقط الجنين حياً ثم مات ففيه دية حر إن كان لحرا أو قيمته أن
كان مملوكاً)
إذا كان سقوطه لوقت يعيش مثله وهو ان تضعه لستة أشهر فصاعداً وإلا فحكمه
حكم الميت هذا
(9/544)
قول عامة أهل العلم قال إبن المنذر أجمع كل
من نحفظ عنه من أهل العلم على أن في الجنين يسقط حياً من الضرب دية كاملة
منهم زيد بن ثابت وعروة والزهري والشعبي وقتادة ابن شبرمة ومالك والشافعي
واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وذلك لأنه مات من جنايته بعد ولادته في وقت
يعيش لمثله فأشبه قتله بعد وضعه في هذه المسائل ثلاثة فصول (أحدهما) أنه
انما يضمن بالدية إذا وضعته حياً فمن علمت حياته ثبت له هذا الحكم سواء ثبت
باستهلاله أو ارتضاعه أو تنفسه او عطاسه أو غير ذلك مما تعلم به حياته هذا
ظاهر قول الخرقي وهو مذهب الشافعي، وروى عن أحمد أنه لا يثبت له حكم الحياة
إلا بأن يستهل وهذا قول الزهري وقتادة ومالك وإسحاق وروي معنى ذلك عن عمرو
ابن عباس والحسن بن علي وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم لقول النبي صلى
الله عليه وسلم " إذا استهل المولود ورث وورث " مفهومه أنه لا يرث إذا لم
يستهل، والاستهلال الصياح قاله ابن عباس والقاسم والنخعي لأن النبي صلى
الله عليه وسلم قال " ما من مولود يولد لا مسه الشيطان فيستهل صارخاً إلا
مريم وابنها) فلا يجوز غير ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم والأصل في
تسمية الصياح استهلال ان من عادة الناس إذا رأو الهلال صاحوا وأراه بعضهم
بعضنا فسمي صياح المولود استهلالاً لأنه في ظهوره بعد خفائه كالهلال وصياحه
كصياح من يتراآه
(9/545)
ولنا أنه قد علمت حياته فأشبه المستهل
والخبر يدل بمعناه وتنبيهه على ثبوت الحكم في سائر الصور فإن شربه اللبن
أدل على حياته من صياحه وعطاسه ضرب منه فهو كصياحه، وأما الحركة والاختلاج
المنفرد فلا يثبت به حكم الحياة لأنه قد يتحرك بالاختلاج وبسبب آخر وهو
خرجه من مضيق فإن اللحم يختلج سيما إذا عصر ثم ترك فلم نثبت بذلك حياته
(الفصل الثاني) أنه إنما يجب ضمانه إذا علم موته بسبب الضربة ويحصل ذلك
بسقوطه في الحال أو موته أو بقاؤه متألماً الى أن يموت أو بقاء أمه متألمة
الى أن تسقطه فيعلم بذلك موته بالجناية كما لو
ضرب رجلاً فمات عقيب ضربه أو بقي ضمناً حتى مات، وإن ألقته حياً فجاء آخر
فقتله وكانت فيه حياة مستقرة فعلى الثاني القصاص إذا كان عمداً أو الدية
كاملة وإن لم تكن فيه حياه مستقرة بل كانت حركته كحركة المذبوح فالقاتل هو
الأول وعليه الدية كاملة يؤدب الثاني وإن بقي الجنين حياً وبقي زمناً
سالماً لا ألم به لم يضمنه الضارب لأن الظاهر أنه لم يمت من جنايته (الفصل
الثالث) إن الدية انما تجب فيه إذا كان سقوطه لستة أشهر فصاعداً فإن كان
لدون ذلك ففيه غرة كما لو سقط ميتاً وبهذا قال المزني، وقال الشافعي فيه
دية كاملة لأننا علمنا حياته وقد تلف من جنايته ولنا أنه لم تعلم فيه حياة
يتصور بقاؤه بها فلم تجب فيه دية كما لو ألقته ميتاً وكالمذبوح، وقولهم إنا
علمنا حياته قلنا وإذا أسقط ميتاً وله ستة أشهر فقد علمنا حياته أيضاً
(9/546)
(مسألة) (وإن اختلفا في حياته ولا بينة
لهما ففي أيهما يقدم قوله؟ وجهان) (أحدهما) يقدم قول الولي لأن الأصل حياته
فإن الجنين إذا بلغ أربعة أشهر نفخ فيه الروح (والثاني) قول الجاني لأن
الأصل براءة ذمته من الدية الكاملة (فصل) إذا دعت المرأة على رجل أنه ضربها
فأسقط جنينها فأنكر الضرب فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم الضرب، وإن
أقر بالضرب أو قامت به بينة وأنكر أن تكون أسقطت فالقول قوله أيضاً مع
يمينه لأنه لا يعلم أنها أسقطت، ولا يلزمه اليمين على البت لأنها يمين على
نفي فعل الغير والأصل عدمه، وإن ثبت الإسقاط والضرب ببينة أو إقرار فادعى
أنها أسقطته من غير ضربه فإن كانت أسقطته عقيب ضربه فالقول قولها لأن
الظاهر أنه منه لوجوده عقيب شئ يصلح أن يكون سبباً له، وإن ادعى أنها ضربت
نفسها أو شربت دواء أو فعل ذلك غيرها فحصل الإسقاط فأنكرته فالقول قولها مع
يمينها لأن الأصل عدم ذلك، وإن أسقطت بعد الضرب بأيام وكانت متألمة الى حين
الإسقاط فالقول قولها، وإن لم تكن متألمة فالقول قوله مع يمينه كما لو ضرب
إنساناً فلم يبق متألماً ولا ضمناً ومات بعد أيام، وإن اختلفا في وجود
التألم فالقول قوله لأن الأصل عدمه، وإن كانت متألمة في بعض المدة فدعى
أنها برأت وزال ألمها وأنكرت ذلك فالقول قولها لأن الأصل بقاؤه، وإن ثبت
إسقاطها من الضربة
(9/547)
فادعت سقوطه حياً وأنكرها فالقول قوله مع
يمينه إلا أن تقوم لها بينة باستهلاله لأن الأصل عدم ذلك وإن ثبتت حياته
فادعت أنه لوقت يعيش مثله فأنكرها فالقول قولها مع يمينها لأن ذلك لا يعلم
إلا من جهتها ولا يمكن إقامة البينة عليه فقيل قولها فيه كانقضاء عدتها
ووجود حيضها وطهرها، وإن أقامت بينة باستهلاله وأقام الجاني بينة بخلافها
قدمت بينتها لأنها مثبتة فقدمت على النافية لان المثبتة معها زيادة اعلم،
وإن ادعت أنه مات عقيب إسقاطه وادعى أنه عاش مدة فالقول قولها لأن الأصل
عدم حياته، وإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه قدمت بينة الجاني لأن معها
زيادة علم، وإن ثبت أنه عاش مدة فما دعت أنه بقي متألماً حتى مات أنكر
فالقول قوله لأن الأصل عدم التألم، فإن أقاما بينتين قدمت بينتها الان معها
زيادة علم، ويقبل في استهلال الجنين وسقوطه وبقائه متألما وبقاء أمه متألمة
قول امرأة واحدة لأنه مما لا يطلع عليه الرجال غالباً لأن الغالب أنه لا
يشهد الولادة الا النساء والاستهلال يتصل بها، وهن يشهدن حال المرأة
وولادتها وحال الطفل ويعرفن علله وأمراضه وقوته وضعفه دون الرجال، وإن
اعترف الجاني باستهلاله أو ما يوجب فيه دية كاملة فالدية في مال الجاني لا
تحمله العاقلة لأنها لا تحمل اعترافا، وإن كانت مما تحمل العاقلة فيه الغرة
فهي على العاقلة وباقي الدية في مال القاتل (فصل) وإن انفصل منها جنينان
ذكر وأنثى فاستهل أحدهما واتفقوا على ذلك واختلفوا في المستهل فقال الجاني
هو الأنثى وقال وارث الجنين هو الذكر فالقول قول الجاني مع يمينه لأن اصل
براءة
(9/548)
ذمته من الزائد على دية الأنثى، فإن كان
لأحدهما بينة قدم بها وإن كان لهما بينتان وجبت دية الذكر لأن البينة قد
قامت باستهلاله والبينة المعارضة لها نافية له والإثبات مقدم على النفي،
فإن قيل فينبغي أن تجب ديتهما، قلنا لا تجب دية الأنثى لأن المستحق لها لم
يدعها وهو مكذب للبينة الشاهدة بها فإن ادعى الاستهلال منها ثبت ذلك
بالبينتين، وإن لم تكن بينة فاعترف الجاني باستهلال الذكر فأنكرت العاقلة
فالقول قولهم مع أيمانهم فإذا حلفوا كان عليهم دية الأنثى وغرة إن كانت
تحمل الغرة، وعلى الضارب تمام دية الذكر وهو نصف الدية لا تحمله العاقلة
لأنه ثبت باعترافه، وإن اتفقوا على أن أحدهما استهل
ولم يعرف بعينه لزم العاقلة دية أنثى لأنها متيقنة وتمام دية الذكر مشكوك
فيه والأصل براءة الذمة منه فلم يجب بالشك وتجب الغرة في الذي لم يستهل
(فصل) إذا ضربها فألقت يداً ثم ألقت جنيناً فإن كان القاؤهما متقارباً أو
بقيت المرأة متألمة الى أن ألقته دخلت اليد في ضمان الجنين لأن الظاهر أن
الضرب قطع يده وسرى الى نفسه فأشبه ما لو قطع يد رجل فسرى القطع إلى نفسه،
ثم إن كان الجنين سقط ميتاً أو حياً لوقت لا يعيش مثله ففيه غرة، وان ألقته
حياً لوقت يعيش لمثله ففيه دية كاملة، وان بقي حياً فلم يمت فعلى الضارب
ضمان اليد بديتها بمنزلة من قطع يد رجل فاندملت، وقال القاضي وبعض أصحاب
الشافعي يسئل القوابل فإن قلن إنها يد من لم تخلق فيه الحياة ففيها نصف
الغرة وإن قلن يد من خلقت فيه الحياة ففيها نصف الدية
(9/549)
ولنا أن الجنين إنما يتصور بقاء الحياة فيه
إذا كان حياً قبل ولادته بمدة طويلة أقلها شهران على ما دل عليه حديث
الصادق الصدوق في أنه ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر وأقل ما يبقى بعد ذلك
شهران لأنه لا يحي إذا وضعته لأقل من ستة أشهر، والكلام فيما إذا لم يتخلل
بين الضربة والإسقاط مدة طويلة تزيل ظن سقوطه بها فيعلم حنيئذ أنها كانت
بعد وجود الحياة فيه، وأما إن ألقت اليد وزال الألم ثم ألقت الجنين ضمن
اليد وحدها بمنزلة من قطع يداً فاندملت ثم مات صاحبها ثم ينظر فإن ألقته
ميتاً أو لوقت لا يعيش لمثله ففي اليد نصف غرة لأن في جميعه غرة ففي يده
نصف ديته، وإن ألقته حيا لوقت يعيش لمثله ثم مات أو عاش وكان بين القاء
اليد وبين القائه مدة يحتمل أن تكون الحياة لم تخلق فيه قبلها أري القوابل
ههنا، فإن قلن إنها يد من لم تخلق فيه الحياة وجب نصف غرة وإن قلن إنها يد
من خلقت فيه الحياة ولم يمض له ستة أشهر وجب فيه نصف الغرة لأنها يد من لا
يجب فيه أكثر من غرة فأشبهت يد من لم تنفخ فيه الروح، وإن اشكل الأمر عليهن
وجب نصف الغرة لأنه اليقين وما زاد مشكوك فيه فلا يجب بالشك (فصل) وإذا
شربت الحامل دواه فألقت جنيناً فعليها غرة لا ترث منها شيئاً لا نعلم بين
أهل العلم خلافاً في ذلك لأنها أسقطت الجنين بفعلها وجنايتها فلزمها ضمانه
بالغرة كما لو جنى عليه غيرها ولا ترث
(9/550)
من الغرة شيئاً لأن القاتل لا يرث من دية
المقتول ويرثها سائر ورثته، فإن كان الجاني المسقط للجنين أباه أو غيره
فعليه غرة لا يرث منها شيئاً لما ذكرنا (فصل) وإن جني على بهيمة فألقت
جنينها ففيه ما نقصها في قول عامة أهل العلم، وحكي عن أبي بكر ان فيه عشر
قيمة أمه لانها جناية على حيوان يملك بيعه اسقطت جنينه أشبه جنين الأمة
وهذا لا يصح لأن الجناية على الأمة تقدر من قيمتها في ظاهر المذهب ففي يدها
نصف قيمتها وفي موضحتها نصف عشر قيمتها وقد وافق أبو بكر على ذلك فقدر
جنينها من قيمتها كبعض أعضائها.
والبهيمة انما يجب بالجناية عليها قدر نقصها فكذلك في جنينها ولأن الأمة
آدمية ألحقت بالأحرار في تقدير أعضائها من قيمتها بخلاف البهيمة (فصل) ودية
الأعضاء كدية النفس فإن كان الواجب من الذهب والورق لم تختلف بعمد ولا خطأ،
وإن كان من الإبل وجبت في العمد ارباعاً على إحدى الروايتين، وفي الأخرى
يجب خمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وخمساها خلفات وفي الخطأ تجب أخماساً
فإن لم تمكن قيمته مثل ان يوضحه عمداً فإنه يجب أربعة ارباعاً والخامس من
أحد الأجناس الاربعة قيمته ربع قيمة الأربع، وإن قلنا بالرواية الأخرى وجب
خلفتان وحقة وجذعة ويعتبر قيمته نصف قيمة حقة ونصف قيمة جذعة، وإن كانت خطأ
وجب الخمس من الأجناس الخمسة من كل جنس بعير، وإن كان
(9/551)
الواجب دية أنملة وقلنا تجب من ثلاثة أجناس
وجب بعير وثلث من الخلفات وحقة وجذعة وإن قلنا ارباعاً وجب ثلاثة وثلث
قيمتها نصف قيمة الأربعة وثلثها، وإن كان خطأ فقيمتها ثلثا قيمة الخمس وعند
أصحابنا ان قيمة كل بعير مائة وعشرون درهماً أو عشرة دنانير فلا فائدة في
تعيين أسنانها، وان اختلفت قيمة الدنانير والدراهم مثل ان كانت العشرة
الدنانير تساوي مائة درهم فقياس قولهم إذا جاء بما قيمته عشرة دنانير لزم
المجني عليه قبوله لأنه لو جاءه بالدنانير لزمه قبولها فلزمه قبول ما
يساويها (فصل) قال الشيخ رحمه الله (وذكر أصحابنا أن القتل تغلظ ديته
بالحرم والإحرام والأشهر
الحرم الرحم المحرم فيزاد لكل واحد ثلث الدية فإذا اجتمعت الحرمات الأربع
وجب ديتان وثلث) وجملة ذلك أن الدية تغلظ بثلاثة أشياء: إذا قتل في الحرم
والأشهر الحرم وإذا قتل محرماً، ونص أحمد على التغليظ فيما إذا قتل محرماً
في الحرم وفي الشهر الحرام، فأما ان قتل ذا رحم محرم فقال أبو بكر تغلظ
ديته، وقال القاضي ظاهر كلام أحمد أنها لا تغلظ، وقال أصحاب الشافعي تغلظ
بالحرم والأشهر الحرم وذي الرحم، وفي التغليظ بالإحرام وجهان، وممن روي عنه
التغليظ عثمان وابن عباس والسعيدان وعطاء وطاوس ومجاهد وسليمان بن يسار
وجابر بن زيد وقتادة والاوزاعي ومالك والشافعي وإسحاق واختلف القائلون
بالتغليظ في صفته فقال اصحابنا يغلظ لكل واحد من الحرمات ثلث الدية فإذا
اجتمعت الحرمات الأربع وجبت ديتان وثلث
(9/552)
قال أحمد في رواية ابن منصور فيمن قتل
محرماً في الحرم في الشهر الحرام فعليه اربعة وعشرون الفاً وهذا قول
التابعين القائلين بالتغليظ.
وقال أصحاب الشافعي صفة التغليظ ايجاب دية العمد في الخطأ ولا يتصور
التغليظ في غير الخطأ ولا يجمع بين تغليظين وهذا قول مالك إلا أنه يغلظ في
العمد فإذا قتل ذا رحم محرم عمداً فعليه ثلاثون حقة وثلاثون جذعة واربعون
خلفة وتغليظها في الذهب الفضة أن ينظركم قيمة اسنان الإبل غير مغلظة
وقيمتها مغلظة؟ ثم يحكم بزيادة ما بينهما كانت قيمتها مخففة ستمائة وفي
العمد ثمانمائة وذلك ثلث الدية المخففة، وعند مالك تغلظ في الأب والأم
والجد دون غيرهم واحتجا على صفة التغليظ بما روي عن عمر رضي الله عنه انه
اخذ من قتادة المدلجي دية ابنه حين حذفه بالسيف ثلاثين حقة وثلاثين جذعة
واربعين خلفة ولم يزد عليه في العدد شيئاً وهذه قصة اشتهرت فلم تنكر فكانت
إجماعاً، ولأن ما أوجب التغليظ أوجبه في الأسنان دون القدر كالضمان ولا
يجمع بين تغليظين لأن ما أوجب التغليظ بالضمان إذا اجتمع سببان تداخلا
كالحرام والإحرام في قتل الصيد وعلى أنه لا يغلظ بالإحرام لأن الشرع لم يرد
بتغليظه.
واحتج أصحابنا بما روى ابن أبي نجيح ان امرأة وطئت في الطواف فقضى عثمان
رضي الله عنه فيها آلاف وألفين تغليظاً للحرم وعن ابن عمر أنه قال: من قتل
في الحرم او ذا رحم او في الشهر الحرام فعليه دية وثلث
(9/553)
وعن ابن عباس أن رجلاً في الشهر الحرام وفي
البلد الحرام فقال ديته اثنا عشر ألفاً وللشهر الحرام أربعة آلاف وللبلد
الحرام أربعة آلاف وهذا مما يظهر وينتشر ولم ينكر فثبت إجماعاً وهذا فيه
الجمع بين تغليظات ثلاث ولأنه قول التابعين والقائلين بالتغليظ واحتجوا على
التغليظ في العمد أنه إذا غلظ الخطأ مع العذر فيه ففي العمد مع عدم العذر
أولى وكل من غلظ الدية أوجب التغليظ في بدل الطرف بهذه الأسباب لأن ما أوجب
تغليظ دية النفس أوجب تغليظ دية الطرف (مسألة) (وظاهر كلام الخرقي ان الدية
لا تغلظ لشئ من ذلك وهو قول الحسن والشعبي والنخعي وأبي حنيفة وابن المنذر)
وروي ذلك عن الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز وغيرهم لأن النبي صلى الله
عليه وسلم قال " في النفس المؤمنة مائة من الإبل " لم يزد على ذلك، وعلى
أهل الذهب ألف مثقال.
وفي حديث ابن شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وأنتم يا خزاعة قد
قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله فمن قتل له قتيل بعد ذلك فأهله
بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية " وهذا القتيل كان بمكة
في حرم الله تعالى ولم يزد النبي صلى الله عليه وسلم على الدية ولم يفرق
بين الحرم وغيره.
وقال الله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى
أهله) وهذا يقتضي أن تكون الدية واحدة في كل مكان وكل حال ولأن عمر أخذ من
قتادة المدلجي دية ابنه لم يزد على مائة
(9/554)
وروى الجوزجاني بإسناده عن أبي الزناد أن
عمر بن عبد العزيز كان يجمع الفقهاء فكان مما احيا من تلك السنن بقول فقهاء
المدينة السبعة ونظرائهم ان تاسا كانوا يقولون ان الدية تغلظ في الشهر
الحرام اربعة آلاف فتكون ستة عشر ألفاً فألغى عمر ذلك بقول الفقهاء وأثبتها
اثني عشر ألف درهم في الشهر الحرام والبلد الحرام وغيرهم.
قال إبن المنذر وليس بثابت ما روي عن الصحابة في هذا ولو صح ففعل عمر في
حديث قتادة أولى وهو مخالف لغيره فيقدم على قول من خالفه وهو أصح في
الرواية مع موافقة الكتاب والسنة والقياس
(فصل) ولا تغلظ الدية بموضع غير حرم مكة وقال أصحاب الشافعي تغلظ الدية
بالقتل في المدينة على قوله القديم لأنها مكان يحرم صيده فأشبهت حرم مكة
ولا يصح القياس لأنها ليست محلاً للمناسك فأشبهت سائر البلدان.
ولا يصح قياسها على الحرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أي بلد هذا؟
أليست البلدة - قال - فإن دماءكم وأموالكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في
شهركم هذا في بلدكم هذا " وهذا يدل على أنه أعظم البلاد حرمة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن أعتى الناس على الله رجل قتل في الحرم،
ورجل قتل غير قاتله ورجل قتل بدخل في الجاهلية " وتحريم الصيد ليس هو العلة
في التغليظ وإن كان من جملة المؤثر فقد خالف تحريمه تحريم الحرم فإنه لا
يجب الجزاء على من قتل فيه صيداً ولا يحرم الرعي فيه ولا الاحتشاش منه ولا
ما يحتاج إليه من الرحل والعارضة والقائمة وشبهه
(9/555)
(مسألة) (وان قتل مسلم كافراً عمداً ضعفت
الدية على قاتله لإزالة القود كما حكم عثمان رضي الله عنه) روى احمد عن عبد
الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رجلاً قتل رجلاً من أهل الذمة
فرفع الى عثمان فلم يقتله وغلظ عليه الف دينار فذهب اليه أحمد رحمه الله
وله نظائر في مذهبه فإنه أوجب على الأعور إذا قلع عين صحيح مماثلة لعينه
دية كاملة لما درأ عنه القصاص وأوجب على سارق التمر المعلق مثلي قيمته لما
درأ عنه القطع.
وذهب جمهور العلماء الى إن دية الذمي في العمد والخطأ واحد لعموم الأخبار
فيها وكما لو قتل حرا عبداً عمداً فإنه لا تضعف القيمة عليه ولأنه بدل متلف
فلم يتضاعف بالعمد كسائر الأبدال (فصل) قال الشيخ رحمه الله (وإن جنى العبد
خطأ فسيده بالخيار بين فدائه بالأقل من قيمته أو أرش جنايته أو تسليمه
ليباع في الجناية) وجملة ذلك أن جناية إذا كانت موجبة للمال أو كانت موجبة
للقصاص فعفا عنها الى المال تتعلق برقبته لأنه لا يخلو من أن تتعلق برقبته
أو ذمة سيده او لا يجب شئ ولا يمكن إلغاؤها لانها جنايتها آدمي فوجب
اعتبارها كجناية الحر، ولأن جناية الصغير والمجنون غير ملغاة مع عذره
وعدم تكليفه فالعبد أولى ولا يمكن تعليقها بذمته لأنه يفضي إلى الغائها أو
تأخير حق المجني عليه
(9/556)
الى غير غاية ولا بذمة السيد لأنه لمم يجن
فتعين تعليقها برقبة العبد ولأن الضمان موجب جنايته فتعلق برقبتة كالقصاص
ثم لا يخلو أرش الجناية من أن يكون بقدر قيمته أو أقل أو أكثر فإن كان
بقدرها فما دون فالسيد مخير بين أن يفديه بأرش جنايته أو يسلمه إلى ولي
الجناية فيملكه وبهذا قال الثوري ومحمد بن الحسن واسحاق، وروي ذلك عن
الشعبي وعطاء ومجاهد وعروة والحسن والزهري وحماد لأنه ان دفع أرش الجناية
فهو الذي وجب للمجني عليه فلم يملك المطالبة بأكثر منه، وإن سلم العبد فقد
أدى المحل الذي تعلق الحق به ولأن حق المجني عليه لا يتعلق بأكثر من الرقبة
وقد أداها وإن طالب المجني عليه السيد بتسليمه اليه لم يجبر عليه السيد لما
ذكرنا (مسألة) (وإن كانت الجناية أكثر من قيمته ففيه روايتان) (إحداهما) هي
كالتي قبلها يخير بين تسليمه أو أن يفديه بقيمته أو أرش جنايته لأنه إذا
أدى قيمته فقد أدى قدر الواجب عليه فلم يلزمه أكثر من ذلك كما لو كانت
الجناية بقدر قيمته والرواية الثانية يلزمه تسليمه أو أن يفديه بأرش
الجناية بالغة ما بلغت وهذا قول مالك لأنه إذا عرض للبيع ربما رغب فيه راغب
بأكثر من قيمته فإذا أمسكه فقد فوت تلك الزيادة على المجني عليه وللشافعي
قولان كالروايتين ووجه الرواية الأولى أن الشرع قد جعل له فداءه فكان
الواجب قدر قيمته كسائر المتلفات
(9/557)
(مسألة) (وإن سلمه اليه السيد فأبى ولي
الجناية الجناية قبوله وقال بعه أنت وادفع ثمنه الي فهل يلزم السيد ذلك؟
على روايتين) (إحداهما) لا يلزمه لأنه إذا سلم العبد فقد أدى المحل الذي
تعلق الحق به، ولأن حق المجني عليه لا يتعلق بأكثر من الرقبة، وقد أدها.
(والثانية) يلزمه لأن الجناية تقتضي وجوب أرشها وأرشها هو قيمة العبد
(مسألة) (وإن جنى عمدا فعفا الولي على القصاص على رقبته فهل يملكه بغير رضا
السيد؟ على روايتين)
(إحداهما) لا يملكه لأنه إذا لم يملكه بالجناية فلأن لا يملكه بالعفو أولى،
ولأنه أحد من عليه قصاص فلا يملك بالعفو كالحر ولأنه إذا عفا عن القصاص
انتقل حقه الى المال فصار كالجاني جناية موجبة للمال (والثانية) أنه يملكه
لأنه مملوك استحق اتلافه فاستحق ابقاء على ملكه كعبده الجاني عليه (فصل)
قال أبو طالب سمعت أبا عبد الله يقول إذا أمر غلامه فجنى فعليه ما جنى، وإن
كان أكثر من ثمنه، وإن قطع يد حر فعليه يد الحر، وإن كان ثمنه أقل وإن أمره
سيده أن يجرح رجلاً فما جنى فعليه قيمة جناية، وإن كان أكثر من ثمنه، وإن
قطع يد حر لأنه بأمره وكان علي وابو هريرة يقولان إذا امر عبده ان يقتل
فإنما هو سوطه يقتل الولي ويحبس العبد، وقال احمد بن بهز ثنا حماد بن سلمة
ثنا قتادة عن حلاس ان عليا قال: إذا أمر الرجل عبده فقل إنما هو
(9/558)
كسوطه أو كسيفه يقتل المولى، والعبد يستودع
السجن ولأنه فوت شيئاً بأمره فكان على السيد ضماه كما لو استدان بأمره
(مسألة) (وإن جنى على اثنين خطأ اشتركا فيه بالحصص وإن كان بعضها بعد بعض)
وبهذا قال الحسن وحماد ربيعة وأصحاب الرأي والشافعي، وعن شريح أنه قال يقضى
لآخرهم وبه قال الشعبي وقتادة لانها جناية وردت على محل مستحق فقدم صاحبها
على المستحق قبله كجناية المملوك الذي لم يجز، وقال شريح في عبد شج رجلاً
ثم آخر ثم آخر فقال شريح يدفع إلى الأول إلا أن يفديه مولاه ثم يدفع الى
الثاني ثم يدفع الى الثالث ولنا أنهم تساووا في سبب تعلق الحق فتساووا في
الاستحقاق كما لو جنى عليهم دفعة واحدة بل لو قدم بعضهم كان الأول أولى لأن
حقه أسبق (مسألة) (وإن عفا أحدهما أو مات المجني عليه فعفا بعض ورثته فهل
يتعلق حق الباقين بجميع العبد أو بحصتهم منه؟ على وجهين) (أحدهما) يستحق
جميع العبد لأن سبب استحقاقه موجود وإنما امتنع ذلك لمزاحمة الآخر له وقد
زال المزاحم فثبت له الحق جميعه لوجود المقتضي وزوال المانع فهو كما لو جنى
عليه إنسان ففداه سيده ثم جنى
(9/559)
على آخر (والثاني) لا يستحق إلا حصته لأنه
لم يثبت له قبل العفو إلا حصته فكذلك بعده لأن العفو عما يلزم السيد عفو
عنه لا عن غيره (فصل) فإن أعتق السيد عبده الجاني عتق وضمن ما تعلق به من
الأرش لأنه أتلف محل الجناية على من تعلق حقه به فلزمه غرامته كما لو قتله
وينبني قدر الضمان على الروايتين فيما إذا اختار إمساكه بعد الجناية لأنه
منع من تسليمه بإعتاقه فهو بمنزلة امتناعه من تسليمه باختيار فدائه، ونقل
ابن منصور عن أحمد أنه أعتقه عالماً بجنايته فعليه دية المقتول، وإن لم يكن
عالماً بها فعليه قيمة العبد لأنه إذا أعتقه مع العلم كان مختاراً لفدائه
بخلاف ما إذا لم يعلم فإنه لم يختر الفداء لعدم علمه به فلم يلزمه أكثر من
قيمة ما فوته (فصل) وإن باعه أو وهبه صح لما ذكرنا في البيع ولم يزل تعلق
الجناية عن رقبته فإن كان المشتري عالماً بحاله فلا خيار له لأنه دخل على
بصيرة وينتقل الخيار في فدائه وتسليمه اليه كالسيد الأول وإن لم يعلم فله
الخيار بين امساكه ورده كسائر المعيبات (مسألة) (وإن جرح العبد حراً فعفا
عنه ثم مات من الجراحة ولا مال له وقيمة العبد عشر دية الحر واختار السيد
فداءه وقلنا يفديه بقيمته صح العفو في ثلثه) لأنه ثلث ما مات عنه ويبقى
الثلثان للورثة، وإن قلنا يفديه بديته صح العفو في خمسة أسداسه
(9/560)
وللورثة سدسه لأن العفو صح في شئ من قيمته
وله بزيادة الفداء تسعة أشياء بقي للورثة ألف إلا عشرة أشياء تعدل شيئين
اجبر وقابل يصر ألف يعدل اثني عشر شيئا فالشئ إذاً يعدل نصف سدس الدية
وللورثة شيئان فتعدل السدس والله أعلم.
(فصل في الجناية على العبد) إذا قتل عبد مثله عمداً فسيد المقتول مخير بين
القصاص والعفو فإن عفا إلى مال تعلق المال برقبة القاتل لأنه وجب بجنايته
وسيده مخير بين فدائه وتسليمه فإن اختار فداه بأقل الامرين من قيمته أو
قيمة المقتول لأنه إن كان الأقل قيمته لم يلزمه أكثر منها لأنها
بدل عنه وإن كان الأقل قيمة المقتول فليس لسيده أكثر منها لأنها بدل عبده
وعنه رواية أخرى أن سيده إن اختار فداءه بأرش الجناية بالغاً ما بلغ وقد
ذكرناه (فصل) فإن قتل عشرة أعبد عبداً عمداً فعليهم القصاص فإن اختار السيد
قتلهم فله ذلك وان عفا إلى مال تعلقت قيمة عبده برقابهم على كل واحد منهم
عشرها يباع منه بقدرها أو يفديه سيده وإن اختار قتل بعضهم والعفو عن البعض
فله ذلك لأن له قتل الجميع والعفو عنهم، وان قتل عبد عبدين لرجل واحد فله
قتله والعفو عنه فإن قتله سقط حقه وإن عفا إلى مال تعلقت قيمة العبدين
برقبته فإن كانا لرجلين فكذلك إلا أن القاتل يقتل بالأول منهما لأن حقه
اسبق فإن عفا عنه الأول قتل بالثاني وان
(9/561)
قتلهما دفعة واحدة اقرع بين السيدين فمن
وقعت له القرعة اقتص وسقط حق الآخر وان عفا عن القصاص أو عفا سيد القتيل
الأول الى مال تعلق برقبة العبد وللثاني ان يقتص لأن تعلق المال بالرقبة لا
يسقط حق القصاص كما لو جنى العبد المرهون فإن قتله الآخر سقط حق الأول من
القيمة لأنه لم يبق محل يتعلق به وان عفا الثاني تعلقت قيمة القتيل الثاني
برقبته أيضاً ويباع فيهما ويقسم ثمنه على قدر القيمتين ولم يقدم الأول
بالقيمة كما قدمناه بالقصاص لأن القصاص لان يتبعض بينهما والقيمة يمكن
تبعيضها، فإن قيل فحق الأول أسبق قلنا لا يراعى السبق كما لو اتلف اموالاً
لجماعة واحداً بعد واحد (فصل) فإن قتل العبد عبداً بين شريكين كان لهما
القصاص والعفو فإن عفا أحدهما سقط القصاص وينتقل حقهما الى القيمة لأن
القصاص لا يتبعض فإن قتل عبدين لرجل واحد فله أن يقتص منه لأحدهما أيهما
كان وسقط حقه من الآخر وله أن يعفو عنه الى مال وتتعلق قيمتهما جميعاً
برقبته
(9/562)
(باب ديات الأعضاء ومنافعها) وهي نوعان
(أحدهما) الشجاج وهي ما كان في الرأس والوجه وسنذكرها في بابها (الثاني) ما
كان في سائر البدن وينقسم قسمين (أحدهما) قطع عضو (والثاني) قطع لحم
والمضمون في الآدمي ضربان (احدهما) ما ذكرنا (والثاني) تفويت منفعة كإذهاب
السمع والبصر والشم والذوق والعقل ونحو ذلك
(من تلف ما في الإنسان منه شئ واحد ففيه الدية، وهو الذكر والأنف واللسان
الناطق ولسان الصبي الذي يحركه بالبكاء) وجملة ذلك أن كل عضو لم يخلق الله
سبحانه منه إلا واحداً كالأنف واللسان فيه دية كاملة لأن في اتلافه اذهاب
منفعة الجنس واذهابها كالنفس (مسألة) (وما فيه منه شيئان ففيهما الدية وفي
أحدهما نصفهما كالعينين والأذنين والشفتين واللحيين وثديي المرأة وتندوتي
الرجل واليدين والرجلين والخصيتين والاليتين) لأن في إتلافهما اذهاب منفعة
الجنس فكان فيهما الدية وفي أحدهما نصفها وهذه الجملة مذهب الشافعي ولا
نعلم فيه مخالفاً وقد روى الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم عن أبيه
عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له وكان في كتابه " وفي الأنف
إذا أوعب جذعه الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين
الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل
(9/563)
الواحدة نصف الدية " رواه النسائي ورواه
ابن عبد البر وقال كتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء وما فيه متفق عليه
إلا قليلاً، وعن أحمد في الشفة السفلى ثلثا الدية وفي العليا ثلثها يروى
هذا عن زيد بن ثابت لأن النفع بالسفلى أعظم لأنها تدور لأنها تدور وتتحرك
وتحفظ الريق والطعام، والأولى أصح لقول أبي بكر الصديق وعلي رضي الله عنهما
ولأن كل شيئين وجبت الدية فيهما وجب نصفها في أحدهما كاليدين ولا عبرة
بزيادة النفع كاليمنى مع اليسرى (مسألة) (وفي المنخرين ثلثا الدية وفي
الحاجز ثلثها وعنه في المنخرين الدية وفي الحاجز حكومة) وجملة ذلك أن ما في
البدن منه ثلاثة ففيها الدية وفي كل واحد ثلثها وذلك المنخران والحاجز
بينهما وبهذا قال إسحاق وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن المارن يشتمل
على ثلاثة أشياء من جنس فتوزعت الدية على عددها كسائر ما فيه عدد من
الأصابع والأجفان، وعنه المنخرين الدية وفي الحاجز حكومة حكاها أبو الخطاب
قال أحمد في كل زوجين من الانسان الدية وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي
لأن المنخرين ليس في البدن لهما ثالث فأشبها اليدين ولأنه بقطع المنخرين
اذهب
الجمال كله والمنفعة فأشبه قطع اليدين، فعلى هذا الوجه في قطع أحد المنخرين
نصف الدية وإن قطع معه الحاجز ففيه حكومة، وان قطع نصف الحاجز أو أقل أو
أكثر لم يزد على حكومة، وعلى الأول في قطع أحد المنخرين ونصف الحاجز نصف
الدية وفي قطع جميعه مع المنخر ثلثا الدية وفي قطع
(9/564)
جزء من الحاجز أو أحد المنخرين بقدره من
ثلث الدية يقدر بالمساحة، وان اشق الحاجز ففيه حكومة وان بقي منفرجاً
فالحكومة فيه أكثر والأول أظهر لأن ما كان فيه ثلاثة أشياء ينبغي أن يوزع
على جميعها كما وزعت الدية ارباعاً على ما هو أربعة أشياء كأجفان العينين
وانصافاً على ما هو اثنان كاليدين (مسألة) (وفي الأجفان الأربعة الدية وفي
كل واحد ربعها) كما ذكرنا فيما فيه منه اثنان (مسألة) وفي اصابع اليدين
الدية وكذلك أصابع الرجلين وفي كل اصبع عشرها) لانها عشر الدية على عددها
كما قسمت على عدد الأجفان ولما روى ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " دية أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل لكل أصبع " قال
الترمذي هذا حديث حسن صحيح وفي لفظ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "
هذه وهذه سواء " يعني الإبهام والخنصر أخرجه البخاري (مسألة) (وفي كل أنملة
ثلث عقلها) لأن في كل اصبع ثلاث أنامل فتقسم دية الأصبع عليها كما قسمت دية
اليد على الأصابع بالسوية إلا الإبهام فإنها مفصلان ففي كل مفصل نصف عقلها
وهو خمس من الإبل (مسألة) (وفي الظفر خمس دية الأصبع وهكذا ذكره أبو
الخطاب) يعني إذا قلعه ولم يعد والتقديرات يرجع فيها الى التوقيف فإن لم
يكن فيها توقيف فالقياس أن فيه حكومة كسائر الجراح التي ليس فيها مقدر
(9/565)
(مسألة) وفي كل سن خمس من الإبل إذا قلعت
ممن قد أثغر يعني ألقى أسنانه ثم عادت والأضراس والأنياب كالأسنان ويحتمل
أن يجب فيها دية واحدة)
لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن دية الأسنان خمس خمس في كل سن، وقد روى
ذلك عن عمرو بن الخطاب وابن عباس ومعاوية وسعيد بن المسيب وعروة وعطاء
وطاوس وقتادة والزهري ومالك والثوري والشافعي واسحاق وأبي حنيفة ومحمد بن
الحسن، وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم " في السن خمس من
الإبل " رواه النسائي وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن البني صلى الله
عليه وسلم قال " في الأسنان خمس خمس " رواه أبو داود، فأما الأضراس فأكثر
أهل العلم على أنها مثل الأسنان منهم عروة وطاوس وقتادة والزهري ومالك
والثوري والشافعي واسحاق وأبو حنيفة ومحمد ابن الحسن، وروي ذلك عن ابن عباس
ومعاوية، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الاضراس ببعير بعير، وروي عن
سعيد بن المسيب أنه قال: لو كنت انا لجعلت في الاضراس بعيرين بعيرين فتلك
الدية سواء رواه مالك في موطئه وعن عطاء نحوه، وحكي عن أحمد أن فيها دية
واحدة فيتعين حمل هذه الرواية على مثل قول سعيد للإجماع على أن في كل سن
خمساً من الإبل وورود الحديث به فيكون في الأسنان والأنياب ستون بعيراً لأن
فيه أربع ثانيا واربع رباعيات واربعة انياب فيها خمس خمس وفيه عشرون ضرساً
في كل جانب عشرة خمسة من فوق وخمسة من أسفل فيكون فيها أربعون بعيراً
(9/566)
في كل ضراس بعيران فتكمل الدية وحجة من قال
هذا انه ذو عدد تجب فيه الدية فلم تزد ديته على دية الإنسان كالأصابع
والأجفان وسائر مال في البدن ولأنها تشتمل على منفعة جنس فلم تزد ديتها على
الدية كسائر منافع الجنس ولأن الأضراس تختص بالمنفعة دون الجمال والأسنان
فيها منفعة وجمال فاختلفا في الأرش ولنا ما روى أبو داود بإسناده عن ابن
عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الأصابع سواء الثنية والضرس سواء
والأسنان سواء هذه وهذه سواء " وهذا نص وقوله في الأحاديث المتقدمة " في
الأسنان خمس خمس " ولم يفصل يدخل في عمومها الأضراس لأنها أسنان ولأن كل
دية وجبت في جملة كانت مقسومة على العدد دون المنافع كالأصابع والأجفان،
وقد أومأ ابن عباس إلى هذا فقال لا اعتبرها بالأصابع، فأما ما ذكروه من
المعنى فلا بد من مخالفة القياس فيه فمن ذهب الى قولنا خالف المعنى الذي
ذكروه ومن ذهب الى قولهم خالف التسوية الثانية بقياس سائر الأعضاء من جنس
واحد فكان ما
ذكرناه مع موافقة الأخبار وقول أكثر أهل العلم أولى، وأما على قول عمر إن
في كل ضرس بعيراً فيخالف القياس والأخبار جميعاً فإنه لا يوجب الدية كاملة
وإنما يوجب ثمانين بعيراً ويخالف بين الأعضاء المتجانسة والله أعلم (مسألة)
قال (إذا قلعت ممن قد ثغر وهو الذي أبدل أسنانه وبلغ حداً إذا قلعت سنه لم
يعد بدلها) يقال ثغر وأثغر إذا كان كذلك فأما سن الصبي الذي لم يثغر فلا
يجب بقلعها في الحال شئ
(9/567)
هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا
أعلم فيه مخالفاً وذلك لأن العادة عود سنه فلم يجب فيها في الحال شئ كنتف
شعره لكن ينظر عودها فإن مضت مدة يئس من عودها وجبت ديتها قال احمد يتوقف
سنة لأنها الغالب في نباتها وقال القاضي إذا سقطت أخواتها ولم تعد هي أخذت
الدية، وإن نبت مكانها أخرى لم تجب ديتها كما لو نتف شعره فعاد مثله لكن ان
عادت قصيرة او مشوهة ففيها حكومة لأن الظاهر أن ذلك بسبب الجناية عليها فإن
أمكن تقدير نقصها عن نظيرتها ففيها ديتها بقدر ما نقص وكذلك إن كانت فيها
ثلمة أمكن تقديرها ففيه بقدر ما ذهب منها كما لو كسر من سنه ذلك القدر، وإن
نبتت أطول من أخواتها ففيها حكومة لأن ذلك عيب وقيل لا شئ فيها لأن هذا
زيادة والصحيح الأول لأن ذلك شين حصل بسبب الجناية فأشبه نقصها، وإن نبتت
مائلة عن صف الأسنان حيث لا ينتفع بها ففيها ديتها لأن ذلك كذهابها، وإن
كانت ينتفع بها ففيها حكومة للشين الحاصل بها ونقص نفعها وإن نبتت صفراء أو
حمراء أو متغيرة ففيها حكومة لنقص جمالها، وإن نبتت سوداء، أو خضراء ففيها
روايتان حكاهما القاضي (إحداهما) فيها دية (والثانية) حكومة كما لو سودها
من غير قلعها وإن مات الصبي قبل اليأس من عودها فعلى وجهين (أحدهما) لا شئ
له لأن الظاهر أنه لو عاش عادت فلم يجب فيها شئ كما لو نتف شعره (والثاني)
فيه الدية لأنه قلع سناً يئس من عودها فوجبت ديتها كما لو مضى زمن تعود في
مثله فلم تعد، وإن قلع سن من قد ثغر وجبت ديتها في الحال لأن الظاهر
(9/568)
أنها لا تعود فإن عادت لم تجب الدية وإن
كان قد أخذها ردها وبهذا قال أصحاب الرأي وقال مالك
لا يرد شيئاً لأن العادة أنها لا تعود فمتى هبة من الله مجددة فلا يسقط
بذلك ما وجب له بقلع سنه وعن الشافعي كالمذهبين ولنا انه عادله في مكانها
مثل التي قلعت فلم يجب له شئ كالذي لم يثغر وإن عادت ناقصة أو مشوهة فحكمها
حكم سن الصغير إذا عادت على ما ذكرنا ولو قلع سن من لم يثغر فمضت مدة يئس
من عودها وحكم بوجوب الدية فعادت بعد ذلك فهي كسن الكبير إذا عادت (فصل)
وإن قلع سناً مضطربة لكبر أو مرض فكانت منافعها باقية من المضع وحفظ الطعام
والريق وجبت ديتها وكذلك إن ذهب بعض منافعها وبقي بعضها لأن جمالها وبعض
منافعها باق فكملت ديتها كاليد المريضة ويد الكبير وإن ذهبت منافعها كلها
فهي كاليد الشلاء على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وإن قلع سناً فيها داء
آكلة فإن لم يذهب شئ من اجزائها ففيها دية السن الصحيحة لأنها كاليد
المريضة، وإن سقط من اجزائها شئ سقط من ديتها بقدر الذاهب منها ووجب الباقي
وإن كانت أحد ثنيتيه قصيرة نقص من ديتها بقدر نقصها كما لو نقصت بكسرها
(فصل) وإن جنى على سنه جان فاضطربت وطالت عن الأسنان وقيل أنها تعود الى
مدة الى
(9/569)
ما كانت عليه انتظرت اليها فإن ذهبت وسقطت
وجبت ديتها، وإن عادت كما كانت فلا شئ فيها كما لو جنى على يد فمرضت ثم
برأت، وإن بقي فيها اضطراب ففيها حكومة وإن قلعها قالع فعليه ديتها كاملة
كما ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا وعلى الأول حكومة لجنايته، وإن مضت المدة
ولم تعد إلى ما كانت عليه ففيها حكومة وإن قلعها قالع فعليه ديتها كما
ذكرنا وإن قالوا يرجى عودها من غير تقدير مدة وجبت الحكومة فيها لئلا يفضي
إلى إهدار الجناية وإن عادت سقطت الحكومة كما ذكرنا في غيرها (مسألة) (وتجب
دية اليد والرجل في قطعهما من الكوع والكعب فإن قطعهما من فوق ذلك لم يزد
على الدية وقال القاضي في الزائد حكومة أجمع أهل العلم على وجوب الدية في
اليدين والرجلين ووجوب نصفها في إحداهما وقد روي عن معاذ بن جبل أن النبي
صلى الله علي وسلم قال " في اليدين الدية وفي الرجلين الدية " وفي كتاب
النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو
ابن حزم " وفي اليد خمسون من الإبل " واليد التي تجب فيها الدية من الكوع
لأن اسم اليد عند الاطلاق ينصرف اليها لأن الله تعالى لما أمر بقطع يد
السارق كان الواجب قطعها من الكوع فإن قطع يده من فوق الكوع فقطعها من
المرفق أو نصف الساعد فليس عليه إلا دية واحدة نص عليه في رواية أبي طالب
وهذا قول عطاء وقتادة وابن أبي ليلى ومالك وهو قول بعض اصحاب الشافعي وظاهر
مذهبه عند اصحابه انه يجب مع دية اليد حكومة لما زاد لأن اسم اليد لها الى
الكوع ولأن المنفعة المقصودة في اليد من
(9/570)
البطش والأخذ والدفع بالكف وما زاد تابع
للكف والدية تجب في قطعها من الكوع فيجب في الزائد حكومة قال أبو الخطاب
وهو قول القاضي ولنا أن اليد اسم للجميع الى المنكب بدليل قوله تعالى
(وأيديكم إلى المرفق) ولما نزلت آية التيمم مسح الصحابة الى المناكب وقال
ثعلب اليد الى المنكب وفي عرف الناس ان جميع ذلك يسمى يداً فإذا قطعها من
فوق الكوع فما قطع إلا يداً فلا يلزمه أكثر من ديتها فأما قطعها في السرقة
فلأن المقصود يحصل به وقطع بعض الشئ يسمى قطعاً له كما يقال قطع ثوبه إذا
قطع جانباً منه وقولهم إن الدية تجب في قطعها من الكوع قلنا ولذلك تجب بقطع
الأصابع منفردة ولا يجب بقطعها من الكوع أكثر مما يجب بقطع الأصابع والذكر
يجب في قطعه من أصله مثل ما يجب في قطع حشفته وأما إذا قطع يده من الكوع ثم
قطعها من المرفق وجب في المقطوع ثانياً حكومة لأنه وجبت عليه دية اليد
بالقطع الأول فوجب بالثاني حكومة كما لو قطع الأصابع ثم قطع الكف أو كما لو
فعل ذلك اثنان (فصل) وإن كان له كفان في ذراع او يدان على عضد وإحداهما
بطشة دون الأخرى أو احداهما أكثر بطشاً أو في سمت الذراع والأخرى منحرفة
عنه او إحداهما تامة والأخرى ناقصة فالأولى هي الأصلية والأخرى زائدة ففي
الأصلية ديتها والقصاص بقطعها عمداً وفي الزائد حكومة سواء قطعها مفردة أو
مع الأصلية وعلى قول ابن حامد لا شئ فيها لأنها عيب فهي كالسلعة في اليد
وان استويا من
(9/571)
كل الوجوده وكانتا غير باطشتين ففيهما ثلث
دية اليد او حكومة ولا تجب دية اليد كاملة لأنهما لا نفع فيهما
فهما كاليد الشلاء وان كانتا باطشتين ففيهما جميعاً دية اليد وهل تجب حكومة
مع ذلك؟ على وجهين بناء على أن الزائدة هل فيها حكومة أو لا؟ وإن قطع
إحداهما فلا قود لاحتمال أن تكون هي الزائدة فلا تقطع الأصلية بها وفيها
نصف ما فيهما لتساويهما وان قطع اصبعاً من إحداهما وجب ارش نصف اصبع وفي
الحكومة وجهان وان قطع ذو اليد التي لها طرفان وجب القصاص فيهما على قول
ابن حامد لأن هذا نقص لا يمنع القصاص كالسلعة في اليد وعلى قول غيره لا يجب
لئلا يأخذ يدين بيد واحدة ولا نقطع احداهما لأننا لا نعرف الاصلية فنأخذها
زائدة بأصلية (فصل) وفي الرجلين الدية خلاف وفي احداهما نصفها لما ذكرنا من
الحديث والمعنى في اليدين وفي تفصيلها كما ذكرنا من التفصيل في اليدين
ومفصل الكعبين ههنا مثل مفصل الكوعين في اليدين وفي قدم الأعرج ويد الأعسم
الدية لأن العرج لمعنى في غير القدم والعسم اعوجاج في الرسغ وليس ذلك عيباً
في قدم ولا كف فلم يمنع كمال الدية فيهما وذكر أبو بكر أن في كل واحد منهما
ثلث الدية كاليد الشلاء ولا يصح لأنهما لم تبطل منفعتهما فلم تنقص ديتهما
بخلاف اليد الشلاء فإن كان له قدمان في رجل واحدة فالحكم على ما ذكرنا في
اليدين وان كانت احدى القدمين أطول من الأخرى وكان الطويل مساوياً للرجل
الأخرى فهو الأصلي وان كان زائداً عنها والآخر مساو للرجل الأخرى فهو
(9/572)
الأصلي وإن كان له في كل رجل قدمان يمكنه
المشي على الطويلتين مشياً مستقيما فيهما الأصليتان وإن لم يمكنه فقطع
وأمكنه المشي على القصيرين فيهما الاصليان والآخران زائدين فإن أشل
الطويلين ففيهما الدية لأن الظاهر انهما الاصليان فإن قطعهما قاطع فأمكنه
المشي على القصيرين تبين انهما الأصليان وإن لم يمكنه فالطويلان هما
الأصليان (مسألة) (وفي مارن الأنف وحشفة الذكر وحلمتي الثديين دية العضو
كاملة) في الأنف الدية إذا قطع مارنه بغير خلاف بينهم حكاه ابن المنذر وابن
عبد البر عمن يحفظه من أهل العلم وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله
عليه وسلم انه قال وفي الأنف إذا أوعب جدعاً الدية وفي رواية مالك في
الموطأ اذا اوعى جدعاً يعني استوعب واستوصل ولأنه عضو فيه جمال
ومثفقة ليس في البدن منه الا شئ واحد فأشبه اللسان (فصل) وإنما الدية في
مارنه وهو مالان منه هكذا قال الخليل وغيره ولأنه يروى عن طاوس أنه قال:
كان في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنف إذا أوعب مارنه جدعاً
الدية وفي بعضه اذا قطع بقدره من الدية يمسح ويعرف قدر ذلك يروى هذا عن عمر
بن عبد العزيز والشعبي والشافعي (مسألة) (ويحتمل أن يجب على من استوعب
الأنف جدعاً دية وحكومة في القصبة) اذا قطع المارن مع القصبة ففيه الدية في
قياس المذهب ويحتمل أن يجب في المارن الدية وحكومة
(9/573)
في القصبة وهذا مذهب الشافعي لأن المارن
وحده موجب للدية فوجبت الحكومة في الزائد كما لو قطع القصبة وحدها مع قطع
لسانه ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " في الأنف إذا أوعب جدعاً الدية "
ولأنه عضو واحد فلم يجب فيه أكثر من دية واحدة كالذكر إذا قطع من أصله
وبهذا يبطل ما ذكروه ويفارق اذا قطع لسانه وقصبته لأنهما عضوان فلا تدخل
دية أحدهما في الآخر أما العضو الواحد فلا يبعد أن يجب في جميعه ما يجب في
بعضه كالذكر تجب في حشفته الدية التي تجب في جميعه وفي الثدي كله ما في
حلمته، فأما ان قلع الأنف وما تحته من اللحم ففي اللحم حكومة لأنه ليس من
الأنف فأشبه ما لو قطع الذكر واللحم الذي تحته (مسألة) (وفي الذكر الدية)
أجمع أهل العلم على ذلك لأن في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم
" وفي الذكر الدية " وذكر الصغير والكبير والشيخ والشاب سواء في الدية
لعموم الحديث وسواء قدر على الجماع أو لم يقدر وفي حشفة الذكر الدية وهو
قول جماعة من أهل العلم ولا نعلم فيه مخالفاً لأن منفعته تكمل بالحشفة كما
(9/574)
تكمل منافع اليد بالأصابع فكملت الدية
بقطعها كالأصابع، وان قطع الذكر كله او الحشفة وبعض العصبة لم يجب أكثر من
الدية كما لو قطع الأصابع وبعض الكف (مسألة) (وفي الثديين الدية) ولا نعلم
خلافاً في أن في ثديي المرأة وفي الواحد منهما نصف الدية قال إبن المنذر
أجمع كل
من نحفظ عنه من أهل العلم على أن في ثدي المرأة نصف الدية وفي الثديين
الدية وممن حفظنا عنه ذلك الحسن والشعبي والزهري ومكحول وقتادة ومالك
والثوري والشافعي واصحاب الرأي ولأن فيهما جمالا ونفعاً فأشبها اليدين
والرجلين (مسألة) (وفي قطع حلمتي الثديين ديتهما) نص عليه أحمد وروي نحو
هذا عن الشعبي والنخعي والشافعي وقال مالك والثوري ان ذهب اللبن وجبت
ديتهما وإلا وجبت حكومة بقدر شينه.
ونحوه قال قتادة: اذا ذهب الرضاع بقطعهما ففيهما الدية ولنا أنه ذهب منهما
ما تذهب المنفعة بذهابه فوجبت ديتهما كالأصابع مع الكف وحشفة الذكر وبيان
ذهاب المنفعة ان بهما يشرب الصبي ويرتضع فهما كالأصابع في الكف وان قطع
الثديين كلهما فليس فيهما الا دية كما لو قطع الذكر كله وان حصل مع قطعهما
جائفة وجب فيها ثلث الدية مع ديتهما
(9/575)
وان ضربهما فأشلهما ففيهما الدية كما لو
أشل يديه، وان جنى عليهما من صغيرة ثم ولدت فلم ينزل لها لبن سئل أهل
الخبرة فإن قالوا إن الجناية سبب قطع اللبن فعليه ما على من ذهب باللبن بعد
وجوده وإن قالوا ينقطع بغير الجناية لم يجب عليه أرشه لأن الأصل براءة ذمته
فلا يجب فيها شئ بالشك وان جنى عليهما فنقص لبنهما او جنى على ثديين ناهدين
فكسرهما أو صار بهما مرض ففيه حكومة لنقصه الذي نقصهما (مسألة) (وفي ثديي
الرجل وهما التندوتان الدية) وبه قال إسحاق وحكي ذلك قولا للشافعي لأنه ذهب
بالجمال من منفعة فلم يجب دية كما لو أتلف العين القائمة واليد الشلاء،
وقال الزهري في حلمة الرجل خمس من الإبل، وعن زيد بن ثابت فيه ثمن الدية.
ولنا أن ما وجب فيه الدية من المرأة وجب فيه الرجل كسائر الأعضاء ولأنهما
عضوان في البدن يحصل بهما الجمال ليس في البدن غيرهما.
من جنسهما فوجب فيهما الدية كاليدين ولأنه أذهب
الجمال على الكمال فوجبت فيهما الدية كالشعور الأربعة عند أبي حنيفة وكأذني
الأصم وأنف الأخشم عند الجميع ويفارق العين القائمة لانه ليس فيهما جمال
كامل ولأنها عضو قد ذهب منه ما تجب فيه الدية فلم تكمل ديته كاليدين إذا
شلتا بخلاف مسئلتنا
(9/576)
وما في اللثة منها يسمى سنخاً فإذا كسر
السن ثم جاء آخر فقلع السنخ ففي السن ديتها وفي السنخ حكومة كما لو قطع
إنسان أصابع رجل ثم قطع آخر كفه، وإن قلعها الأول بسنخها لم يجب فيها أكثر
من ديتها كما لو قطع اليد من كوعها، وان فعل ذلك في مرتين فكسر السن ثم عاد
فقلع السنخ ففيه ديتها وحكومة لأن ديتها وجبت بالأول ثم وجب عليه بالثاني
حكومة كما لو فعله غيره وكذلك لو قطع الأصابع ثم قطع الكف، وإن كسر بعض
الظاهر ففيه من دية السن بقدره إن كان ذهب النصف وجب نصف الأرش وإن كان
الذاهب الثلث وجب الثلث، وإن جاء آخر فكسر بقيتها فعليه بقية الأرش، فإن
قلع الثاني سنخها نظرنا فإن كان الأول كسرها عرضاً فليس على الثاني للسنخ
شئ لأنه تابع لما قلعه من ظاهر السن فصار كما لو قطع الأول من كل أصبع من
أصابعه أنملة ثم قطع الثاني يده من الكوع، وإن كان الأول كسر نصف السن
طولاً دون سنخه فجاء الثاني فقلع الباقي بالسنخ كله فعليه دية النصف الباقي
وحكومة لنصف السنخ الذي بقي من كسر الأول كما لو قطع الأول اصبعين من يد ثم
جاء الثاني فقطع الكف كله، فإن اختلف الثاني والمجني عليه فيما قلعه الأول
فالقول قول المجني عليه لأن الأصل سلامة السن، وانكشفت اللثة عن بعض السن
فالدية في قدر الظاهر عادة دون ما انكشف على خلاف العادة، وإن اختلفا في
قدر الظاهر اعتبر ذلك بأخواتها فإن
(9/577)
لم يكن لها شئ تعتبر به ولم يكن أن يعرف
ذلك من أهل الخبرة فالقول قول الجاني لأن الأصل براءة ذمته ويحتمل أن يجب
على من استوعب جدعاً دية وحكومة في القصبة وهذا مذهب الشافعي وقد ذكر كقطع
اليد من نصف الساعد (مسألة) (وفي العينين الدية)
أجمع أهل العلم على ذلك وعلى أن في العين الواحدة نصفها لقول النبي صلى
الله عليه وسلم " وفي العينين الدية " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال " وفي العين الواحدة خمسون من الإبل " رواه مالك في الموطأ ولأن
العينين من أعظم الجوارح نفعاً فكانت فيهما الدية وفي احدهما نصفها
كاليدين.
إذا ثبت هذا فيستوي في ذلك الصغيرتان والكبيرتان والمليحتان والقبيحتان
والصحيحتان والمريضتان والحولاء والرمصاء فإن كان فيهما بياض لا ينقص البصر
لم تنقص الدية وان نقص من البصر نقص من الدية بقدره (مسألة) (وفي الأذنين
الدية) روى ذلك عن عمر وعلي وبه قال عطاء ومجاهد والحسن وقتادة والثوري
والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي ومالك في إحدى الروايتين عنه، وقال في
الأخرى فيها حكومة لأن الشرع لم يرد فيهما بتقدير ولا يثبت التقدير بالقياس
ولنا أن في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي الأذنين
الدية " ولأن عمر وعلياً قضيا فيهما بالدية، فإن قيل فقد روي عن أبي بكر
الصديق أنه قضى في الاذنين بخمسة عشر بعيراً قلنا لم يثبت
(9/578)
ذلك قاله ابن المنذر ولأن ما كان في البدن
منه عضوان كان فيهما الدية وفي احدهما نصف الدية بغير خلاف بين القائلين
بوجوب الدية فيهما (مسألة) (وفي اللحيين الدية) وهما العظمان اللذان فيهما
الأسنان السفلى لأن فيهما نفعاً وجمالاً وليس في البدن مثلهما فكانت فيهما
الدية كسائر ما في البدن منه شيئان، وفي أحدهما نصفها كإحدى اليدين
والرجلين ونحوهما مما في البدن منه شيئان (مسألة) (وفي الأليتين الدية) قال
إبن المنذر كل من نحفظ عنه من أهل العلم يقولون في الأليتين الدية وفي كل
واحد منهما نصفها منهم عمرو بن شعيب والنخعي والشافعي وأصحاب الرأي ولأنهما
عضوان من جنس فيهما جمال ظاهر ومنفعة كاملة فإنه يجلس عليهما كالوسادتين
فوجبت فيهما الدية وفي احداهما نصفها كاليدين،
والأليتان هما ما علا وأشرف عن الظهر وعن استواء الفخذين وفيهما الدية إذا
اخذتا الى العظم الذي تحتهما، وفي ذهاب بعضهما بقدره لأن ما وجب فيه الدية
وجب في بعضه بقدره فإن جهل المقدار وجبت حكومة لأنه نقص لم يعرف قدره
(9/579)
(مسألة) (وفي الأنثيين الدية) لا نعلم في
هذا خلافا وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي البيضتين
" الدية ولأن فيهما الجمال المنفعة فإن النسل يكون بهما فاشبهما اليدين،
وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أنه قال مضت السنة أن في الصلب الدية وفي
الأنثيين الدية وفي احداهما نصف الدية في قول أكثر أهل العلم وحكي عن سعيد
بن المسيب ان في اليسرى ثلثي الدية وفي اليمنى ثلثها لأن نفع اليسرى اكثر
لأن النسل يكون منها ولنا أن ما وجبت الدية في شيئين منه وجب في احدهما
نصفها كاليدين وسائر الأعضاء ولأنهما ذوا عدد تجب فيه الدية فاستوت ديتهما
كالأصابع وما ذكروه ينتقض بالأصابع، وكذلك الأجفان تستوي ديتهما مع اختلاف
نفعهما ثم يحتاج الى إثبات الذي ذكره وان رض أنثييه أو أشلهما كملت ديتهما
كما لو أشل يديه أو ذكره وإن قطع أنثييه فذهب نسله لم يجب أكثر من دية لأن
ذلك نفعهما فلم تزدد الدية بذهابه معهما كالبصر مع ذهاب العينين وان قطع
احداهما فذهب النسل لم يجب أكثر من نصف الدية لأن ذهابه غير متحقق (مسألة)
(وفي إسكتي المرأة الدية) والإسكتان هما اللحم المحيط بالفرج من جانبيه
إحاطة الشفتين بالفم وأهل اللغة يقولون الشفران
(9/580)
حاشيتا الاسكتان كما ان أشفار العينين
أهدابهما وفيهما دية المرأة إذا قطعا، وبهذا قال الشافعي وقاله الثوري إذا
لم يقدر على جماعها وقضى به محمد بن سفيان اذا بلغا العظم وذلك لأن فيهما
جمالاً ومنفعة وليس في البدن غيرهما من جنسهما فوجبت فيهما الدية كسائر ما
في البدن منه شيئان، وفي احداهما
نصف الدية كما ذكرنا في غيرهما، وان جنى عليهما فأشلهما وجبت ديتهما كما لو
جنى على شفتيه فأشلهما ولا فرق بين كونهما غليظتين أو دقيقتين قصيرتين أو
طويلتين من بكر او ثيب او صغيرة او كبيرة أو محفوظة او غير محفوظة لأنهما
عضوان فيهما الدية فاستوى فيه جميع ما ذكرنا كسائر أعضائها ولا فرق بين
الرتقاء وغيرها لأن الرتق عيب في غيرهما فلم ينقص ذلك من ديتهما كما أن
الصمم لم ينقص دية الاذنين والحفظ هو الختان في حق المرأة (مسألة) (وفي ركب
المرأة حكومة وهو عانة المرأة وكذلك عانة الرجل) لأنه لا مقدر فيه ولا هو
نظير لما قدر فيه فإن أخذ منه شئ مع فرج المرأة وذكر الرجل ففيه الحكومة مع
الدية كما لو أخذ مع الأنف أو الشفتين من اللحم الذي حولها (مسألة) (وفي
اللسان الدية اذا كان ناطقا) أجمع أهل العلم على وجوب الدية في لسان
الناطق، وروي ذلك عن ابي بكر وعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم، وبه قال
أهل المدينة وأهل الكوفة واصحاب الرأي واهل الحديث وغيرهم
(9/581)
وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو
بن حزم " وفي اللسان الدية " ولان فيه جمالاً ومنفعة فأشبه الأنف فأما
الجمال فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الجمال فقال " في اللسان "
ويقال جمال الرجل في لسانه والمرء بأصغريه قلبه ولسانه ويقال ما الإنسان
لولا اللسان الا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة، وأما النفع فإن به تبلغ
الأغراض وتستخلص الحقوق وتدفع الآفات وتقتضي الحاجات وتتم العبادات في
القراءة والذكر والشكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعليم والدلالة
على الحق البين والصراط المستقيم وبه يذوق الطعام ويستعين في مضغه وتقليبه
وتنقية الفم وتنظيفه فهو أعظم الأعضاء نفعاً وأتمها جمالاً فإيجاب الدية في
غيره تنبيه على إيجابها فيه.
وانما تجب الدية في اللسان الناطق وأما الأخرس فسنذكره في موضعه إن شاء
الله تعالى (فصل) فإن قطع لسان صغير لم يتكلم لطفوليته وجبت ديته وبهذا قال
الشافعي وقال أبو حنيفة لا يجب لأنه لسان لا كلام فيه فأشبه الأخرس
ولنا أن ظاهره السلامة وانما لم يتكلم لأنه لا يحسن الكلام فوجبت به الدية
كالكبير ويخالف الأخرس فإنه علم أن لسانه أشل الا ترى أن اعضاءه لا يبطش
بها وتجب فيها الدية؟ فإن بلغ حداً يتكلم مثله فلم يتكلم فقطع لسانه فلم
تجب فيه الدية لأن الظاهر أنه لا يقدر على الكلام فهو كلسان الأخرس وان كبر
فنطق ببعض الحروف وجبت فيه بقدر ما ذهب من الحروف لأننا تبينا أنه كان
ناطقاً وإن كان قد بلغ الى حد يتحرك بالكباء وغيره فلم يتحرك فقطعه فلا دية
فيه لأن الظاهر أنه لو كان صحيحاً لتحرك، وان لم يبلغ الى حد يتحرك ففيه
الدية لأن الظاهر سلامته وان
(9/582)
قطع لسان كبير وادعى أنه كان أخرس ففيه ما
ذكرنا فيما إذا اختلفا في شلل العضو بعد قطعه من الخلاف.
(فصل) وفي أجفان العينين الدية وفي أحدهما ربع الدية لأن كل عدد تجب في
جميعه الدية يجب في الواحد منها بحصته كالأصابع وهذا قول الثوري والشافعي
وأصحاب الرأي وعن مالك أنه لا مقدر فيها بل يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم
ولنا أنها أعضاء فيها جمال ظاهر ونفع كامل فإنها تكن العين وتقيها وتحفظها
من الحر والبرد ولولاها لقبح منظرها فوجبت فيها الدية كاليدين وعن الشعبي
أنه يجب في الأعلى ثلثا الدية وفي الأسفل ثلثها لأنه أكثر نفعاً ولنا أن كل
عدد تجب الدية في جميعه تجب بالحصة في الواحد منه كالأصابع فإن قلع العينين
بأشفارهما وجبت ديتان لأنهما جنسان تجب الدية بكل واحد منهما منفرداً فوجب
بإتلافهما جملة ديتان كاليدين والرجلين، وتجب الدية في أشفار عين الأعمى
وهي الأجفان لأن ذهاب بصره عيب في غير الأجفان فلم يمنع وجوب الدية فيهما
كذهاب الشم لا يمنع وجوب الدية في الأنف.
(مسألة) (وفي قطع بعض المارن والاذن والحلم واللسان والشفة والحشفة
والأنملة وشق الحشفة طولاً بالحساب من ديته يقدر بالأجزاء كالثلث والربع ثم
يؤخذ مثله من الدية)
لأن ما وجبت الدية في جميعه وجبت في بعضه فإن كان الذاهب النصف وجب نصف
الدية وإن كان الثلث وجب ثلثها، وإن كان أقل أو أكثر وجب بحساب ذلك كما
بقسط دية اليد على الأصابع.
(9/583)
(مسألة) (وفي شلل العضو وإذهاب نفعه
والجناية على الشفتين بحيث لا يطبقان على الأسنان الدية) لأنه عطل نفعهما
فأشبه ما لو أشل يده وكذلك ان استرختا فصارتا لا ينفصلان عن الأسنان لأنه
عطل جمالها.
(فصل) وإن جنى على يديه فأشلهما وجبت ديتهما لأنه فوت منفعتهما فهو كما لو
أعمى عينيه أو أخرس لسانه وإن أشل الذكر ففيه ديته لأنه ذهب بنفعه أشبه ما
لو أشل لسانه وكذلك إن أشل انثييه كما لو اشل يديه وكذلك إن جنى على
الاسكتين فأشلهما ففيهما الدية كما لو جنى على الشفتين فأشلهما ففيهما
الدية وكذلك الأصابع إذا أشلهما لما ذكرنا وسائر الأعضاء إلا الاذن والانف
وسنذكرهما إن شاء الله تعالى (مسألة) (وفي تسويد السن والظفر بحيث لا يزول
ديته وعنه في تسويد السن ثلث ديتها وقال أبو بكر فيها حكومة) إذا جنى على
سنه فسودها فحكي عن أحمد في ذلك روايتان
(9/584)
(إحداهما) تجب ديتهما كاملة وهو ظاهر كلام
الخرقي ويروى عن زيد بن ثابت وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين
وشريح والزهري وعبد الملك بن مروان والنخعي ومالك والليث والثوري وأصحاب
الراي وهو أحد قولي الشافعي (والرواية الثانية) عن أحمد أنه إن اذهب
منفعتها من المضغ عليها ونحوه ففيها ديتها وان لم يذهب نفعها ففيها حكومة
وهذا قول القاضي والقول الثاني للشافعي وهو المختار عند اصحابه وهو اقيس
لأنه لم يذهبها بمنفعتها فلم تكمل ديتها كما لو اصفرت وهذا قول أبي بكر
ولنا أنه قول زيد بن ثابت ولم يعرف له مخالف من الصحابة فكان إجماعاً ولأنه
أذهب الجمال على
الكمال فكلمت ديتها كما لو قطع اذن الأصم وأنف الأخشم والظفر كذلك قياساً
على السن وعن أحمد (رواية ثالثة) ان في تسويد السن ثلث ديتها والتقدير لا
يثبت إلا بالتوقيف (فصل) فأما إن اصفرت او احمرت لم تكمل ديتها لأنه لم
يذهب الجمال على الكمال وفيها حكومة وإن اخضرت احتمل أن يكون كتسويدها لأنه
ذهب بجمالها واحتمل أن لا يكون فيه إلا حكومة لأن ذهاب جمالها لتسويدها
أكثر فلم يلحق به غيرها كما لو حمرها فعلى قول من أوجب ديتها متى قلعت بعد
تسويدها ففيها ثلث ديتها أو حكومة على ما نذكره إن شاء الله تعالى وعلى قول
من لم يوجب فيها إلا حكومة يجب في قلعها ديتها كما لو صفرها
(9/585)
(فصل) فإن جنى على سنه فذهبت حدتها وكلت
ففي ذلك حكومة وعلى قالعها بعد ذلك دية كاملة لأنها سن صحيحة كاملة فكملت
ديتها كالمضطربة وإن ذهب منها جزء ففي الذاهب بقدره وإن قلعها قالع نقص من
ديتها بقدر ما ذهب كما لو كسر منها جزءاً (مسألة) (وفي العضو الأشل من اليد
والرجل والذكر والثدي ولسان الأخرس والعين القائمة وشحمة الأذن وذكر الخصي
والعينين والسن السوداء والثدي دون حلمته والذكر دون حشفته وقصبة الأنف
واليد والأصبع الزائدتين حكومة وعنه ثلث ديته) أما اليد الشلاء وهي اليابسة
التي ذهبت منها منفعة البطش وكذلك الرجل مثلها في الحكم قياساً عليها
والعين القائمة التي ذهب بصرها وصورتها باقية كصورة الصحيحة والسن السوداء
فعن أحمد رحمه الله فيهن حكومة لأنه لا يمكن دية كاملة لكونها قد ذهبت
منفعتها ولا مقدر فيها فتجب الحكومة كاليد الزائدة وعنه فيهن ثلث الدية كما
روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في
العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية وفي اليد الشلاء إذا قطعت ثلث
ديتها وفي السن السوداء إذا قلعت بثلث ديتها رواه النسائي واخرجه أبو داود
في العين وحدها وهو قول عمر ورواه قتادة عن خلاس عن عبد الله بن جريدة عن
يحيى بن يعمر عن أبيه عن ابن عباس أن عمر رضي الله عنه قضى في العين
القائمة اذا قلعت واليد الشلاء إذا قطعت والسن السوداء اذا كسرت بثلث دية
كل واحد منهن
ولأنها كاملة الصورة فكان فيها مقدر كالصحيحة وقولهم لا يمكن ايجاب مقدر
ممنوع فإننا قد ذكرنا التقدير وبيناه
(9/586)
(فصل) قال القاضي قول أحمد في السن السوداء
ثلث ديتها محمول على سن ذهبت منفعتها بحيث لا يمكنه ان بعض بها شيئاً أو
كانت تتفتت فأما إن كانت منفعتها باقية ولم يذهب منها إلا لونها ففيه كمال
ديتها سواء قلت منفعتها بأن يعجز عن عض الاشيئاء الصلبة أو لم يعجز لأنها
باقية المنفعة فكملت ديتها كسائر الأعضاء وليس على من سودها إلا حكومة وهذا
مذهب الشافعي قال شيخنا والصحيح من مذهب أحمد ما يوافق ظاهر كلامه لظاهر
الأخبار وقضاء عمر وقول أكثر أهل العلم ولأنه ذهب جمالها بتسويدها فكملت
ديتها على من سودها كتسويد الوجه ولم يجب على متلفها أكثر من ثلث ديتها
كاليد الشلاء وكالسن البيضاء اذا انقلعت ونبتت مكانها سوداء لمرض فيها فإن
القاضي وأصحاب الشافعي سلموا انها لا تكمل ديتها (فصل) فإن نبتت أسنان صبي
سوداء ثم ثغر ثم عادت سوداء فديتها تامة لأن هذا جنس خلق على هذه الصورة
اشبه من خلق اسود الجسم والوجه جميعاً وان نبتت اولاً بيضاء ثم ثغر ثم عادت
سوداء سئل أهل الخبرة فإن قالوا ليس السوداء لعلة ولا مرض ففيها كمال ديتها
وان قالوا ذلك لمرض فعلى قالعها ثلث ديتها أو حكومة وقد سلم القاضي وأصحاب
الشافعي الحكم في هذه الصورة وهو حجة عليهم فيما خالفوا فيه ويحتمل أن يكون
الحكم فيما كانت سوداء من ابتداء الخلقة هكذا لأن المرض قد يكون في فيه من
ابتداء خلقته فيثبت حكمه في نقص ديتها كما لو كان طارئاً
(9/587)
(فصل) وفي لسان الأخرس روايتان أيضاً كاليد
الشلاء وكذلك كل عضو ذهبت منفعته وبقيت صورته كالرجل الشلاء والأصبع والذكر
إذا شلا وذكر الخصي والعينين إذا قلنا لا تكمل ديتهما وأشباه هذا كله يتخرج
على روايتين (إحداهما) فيه ثلث الدية والأخرى حكومة (فصل) فأما اليد والرجل
والأصبع أو السن الزوائد ونحو ذلك فليس فيه إلا حكومة وقال القاضي هو في
معنى اليد الشلاء فيخرج على الروايتين والذي ذكره شيخنا اصح لأنه لا تقدير
في
هذا ولا هو في معنى المقدر ولا يصح قياس هذا على العضو الذي ذهبت منفعته
وبقي جماله لأن هذه الزوائد لا جمال فيها انما هي شين في الخلقة وعيب يرد
به المبيع وتنقص بالقيمة فيكيف يصح قياسه على ما يحصل به الجمال؟ ثم لو حصل
به جمال ما لكنه يخالف جمال العضو الذي يحصل به تمام الخلقة ويختلف في نفسه
اختلافاً كثيراً فوجبت فيه الحكومة ويحتمل أن لا يجب فيه شئ لما ذكرنا
(فصل) قد ذكرنا أن في الأصبع الزائدة حكومة وبه قال الثوري والشافعي وأصحاب
الرأي وعن زيد بن ثابت ان فيها ثلث دية الأصبع وذكر القاضي أنه قياس المذهب
على رواية ايجاب ثلث دية اليد في اليد الشلاء والأول اصح على ما ذكرنا ولا
يصح قياسها على اليد الشلاء لما ذكرنا من الفرق بينهما والله أعلم (فصل)
واختلفت الرواية في قطع الذكر دون حشفته وعلى قياسيه الثدي دون حلمته وقطع
الكف بعد اصابعه فروى أبو طالب عن أحمد فيه ثلث ديته وكذلك شحمة الأذن وعن
أحمد في ذلك كله
(9/588)
حكومة وهذا هو الصحيح لعدم التقدير فيه
وامتناع قياسه على ما فيه تقدير لأن الأشل بقيت صورته وهذا لم تبق صورته
انما بقي بعض ما فيه الدية أو أصل ما فيه الدية فأما قطع الذراع بعد قطع
الكف والساق بعد قطع القدم فينبغي أن تجب الحكومة فيه وجهاً واحداً لأن
ايجاب ثلث دية اليد فيه يفضي إلى أن يكون الواجب فيه مع بقاء الكف والقدم
وذهابهما واحداً مع تفاوتهما وعدم النص فيهما (مسألة) (وعنه في ذكر الخصي
والعنين كمال ديته) أما ذكر العنين فأكثر أهل العلم على وجوب الدية فيه لأن
في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي الذكر الدية " ولأنه
غير مأيوس من جماعة وهو عضو سليم في نفسه فكملت ديته كذكر الشيخ وذكر
القاضي فيه عن أحمد روايتين (إحداهما) تجب فيه الدية لذلك (والثانية) لا
تكمل ديته وهو قول قتادة لأن منفعته الإنزال والإحبال والجماع وقد عدم ذلك
منه في حال الكمال فلم تكمل ديته كالأشل وبهذا فارق ذكر الصبي والشيخ
واختلفت الرواية في ذكر الخصي فعنه فيه دية كاملة وهو قول سعيد ابن عبد
العزيز والشافعي وابن المنذر للخبر ولأن منفعة الذكر الجماع وهو باق فيه
(والثانية) لا يجب فيه
وهو قول مالك والثوري وأصحاب الرأي وقتادة وإسحاق لما ذكرنا في ذكر العنين
ولأن المقصود منه تحصيل النسل ولا يوجد ذلك منه فلم تكمل ديته كالأشل
والجماع يذهب في الغالب بدليل أن البهائم يذهب جماعها بخصائها والفرق بين
ذكر العنين وذكر الخصي ان الجماع في ذكر العنين ابعد منه في ذكر الخصي
واليأس من الإنزال متحقق في ذكر الخصي دون ذكر العنين
(9/589)
(مسألة) (فإذا قلنا لا تكمل الدية في قطع
ذكر الخصي ان قطع الذكر والأنثيين دفعة واحدة أو قطع الذكر ثم قطع الأنثيين
لزمته ديتان وإن قطع الأنثيين ثم قطع الذكر لزمته دية واحدة للأنثيين وفي
الذكر حكومة أو ثلث الدية) قال القاضي ونص أحمد على هذا وان قطع نصف الذكر
بالطول فقال اصحابنا فيه نصف الدية والأولى ان تجب الدية كاملة لأنه ذهب
بمنفعة الجماع به فوجبت الدية كاملة كما لو أشله أو كسر صلبه فذهب جماعه
وان قطع قطعة منه مما دون الحشفة وكان البول يخرج على ما كان عليه وجب بقدر
القطعة من جميع الذكر من الدية وإن خرج البول من موضع القطع وجب الأكثر من
حصة القطعة من الدية أو الحكومة وان ثقب ذكره فيما دون الحشفة فصار البول
يخرج من الثقب ففيه حكومة لذلك (مسألة) (وإن أشل الأنف أو الأذن أو عوجهما
ففيه حكومة وفي قطع الأشل منهما كمال الدية) إذا ضرب أنفه فأشله ففيه حكومة
وان قطعه قاطع بعد ذلك ديته وكذلك الأذن اذا جنى عليها فاستحشفت واستحشافها
كشلل سائر الأعضاء ففيها حكومة وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر في ذلك
ديتها وكذلك قوله في الأنف إذا أشله لأن ما وجبت ديته بقطعه وجبت بشلله
كاليد والرجل ولنا ان نفع الأذن باق بعد استحشافها وجمالها فإن نفعها جمع
الصوت ومنع دخول الماء والهوام
(9/590)
في صماخه وهذا باق بعد شللها فإن قطعها
قاطع بعد شللها ففيها ديتها لأنه قطع أذناً فيها جمالها ونفعها فوجبت ديتها
كالصحيحة وكما لو قلع عينا عمياء أو حولاء وكذلك الأنف نفعه جمع الرائحة
ومنع وصول الهوام الى دماغه وهذا باق بعد الشلل بخلاف سائر الأعضاء فإن جنى
على الأنف فعوجه
أو غير لونه ففيه حكومة في قولهم جميعاً وكذلك الأذن إذا عوجها او غير
لونها ففيها حكومة كالأنف (فصل) فإن قطع الأنف إلا جلدة بقي معلقاً بها فلم
يلتحم واحتيج الى قطع الجلدة ففيه ديته لأنه قطع جميعه بعضه بالمباشرة
وبعضه بالسبب فأشبه ما لو سرى قطع بعضه الى قطع جميعه وان رده فالتحم ففيه
حكومة لأنه لم يبن وإن أبانه فرده فالتحم فقال أبو بكر ليس فيه إلا حكومة
كالتي قبلها وقال القاضي فيه ديته وهو مذهب الشافعي لأنه أبان أنفه فلزمته
ديته كما لو لم يلتحم ولأن ما أبين قد نجس فيلزمه ان يبينه بعد التحامه ومن
قال بقول أبي بكر منع نجاسته ووجوب إبانته لأن أجزاء الآدمي كجملته بدليل
سائر الحيوانات جملته طاهرة فكذلك أجزاؤه (مسألة) (وتجب الدية في أنف
الأخشم والمخزوم)
(9/591)
لأن أنف الأخشم لا عيب فيه وانما العيب في
غيره فوجبت ديته كأنف غير الأخشم وأما المخزوم فأنفه كامل غير أنه معيب
فأشبه العضو المريض ولذلك تجب في أذن الأصم لأن الصمم نقص في غير الأذن فلم
يؤثر في ديتها كالعمى لا يؤثر في دية الأجفان وهذا قول الشافعي ولا نعلم
فيه مخالفاً (مسألة) (وان قطع أنفه فذهب شمه وجبت ديتان لأن الشم في غير
الأنف فلا تدخل دية أحدهما في الآخر وكذلك إذا قطع أذنه فذهب سمعه يجب
ديتان لأن السمع في غير الأذن فهو كالبصر مع الأجفان والنطق مع الشفتين)
(مسألة) (وسائر الأعضاء إذا أذهبها بمنفعتها لم يجب إلا دية واحدة كالعين
إذا قلعت فذهب ضوؤها لم يجب إلا دية واحدة) لأن الضوء فيها ومثل ذلك سائر
الأعضاء إذا أذهبها بنفعها لم يجب إلا دية واحدة لأن نفعها فيها فدخلت ديته
في ديتها ولأن منافعها تابعة لها تذهب بذهابها فوجبت دية العضو دون المنفعة
كما لو قتله لم يجب إلا ديته (فصل) في دية المنافع قال الشيخ رحمه الله في
كل حاسة دية كاملة وهي السمع والبصر والشم والذوق لا خلاف في وجوب الدية
بذهاب السمع قال إبن المنذر اجمع عوام أهل العلم على أن في السمع الدية روى
ذلك عن عمر وبه قال مجاهد وقتادة والثوري والاوزاعي وأهل الشام وأهل العراق
ومالك
(9/592)
والشافعي وابن المنذر ولا أعلم عن غيرهم
خلافهم وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وفي السمع الدية " وروى
ابو المهلب عن أبي قلابة ان رجلاً رمى رجلاً بحجر في رأسه فذهب سمعه وعقله
ولسانه ونكاحه فقضى فيه عمر بأربع ديات والرجل حي ولأنها حاسة تختص بنفع
فكان فيها الدية كالبصر، وإن ذهب السمع من إحدى الأذنين وجب نصف الدية كما
لو ذهب البصر من إحدى العينين (مسألة) (وفي البصر الدية) لأن كل عضوين وجبت
الدية بذهابهما وجبت بإذهاب نفعهما كاليدين إذا أشلهما وفي ذهاب بصر
إحداهما نصف الدية كما لو أشل يداً واحدة، وليس في اذهابهما بنفعهما اكثر
من دية واحدة كاليدين، وإن جني على رأسه جناية ذهب بها بصره فعليه ديته
لأنه ذهب بسبب جنايته وان لم يذهب بها فداواها فذهب بالمداواة فعليه الدية
ذهب بسبب فعله (مسألة) (وفي الشم الدية) لأنه حاسة يختص بمنفعة فكان في
ذهابها الدية كسائر الحواس ولا نعلم في هذا خلافاً قال القاضي في كتاب عمرو
بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " وفي المشام الدية " (فصل)
وفي الذوق الدية وكذلك قال أبو الخطاب لأن الذوق حاسة فأشبه الشم وقياس
المذهب
(9/593)
أنه لا دية فيه فإنه لا يختلف في لسان
الأخرس لا دية فيه، وقد نص أحمد على أن فيه ثلث الدية ولو وجب في الذوق دية
لوجبت في ذهابه مع ذهاب اللسان بطريق الأولى، واختلف أصحابنا الشافعي فمنهم
من قال قد نص الشافعي على وجوب الدية فيه ومنهم من قال لا نص له فيه ومنهم
من قال قد نص على أن في لسان الأخرس حكومة وإن ذهب الذوق بذهابه قال شيخنا:
والصحيح إن شاء الله أنه لا دية فيه لأن في إجماعهم على أن لسان الأخرس لا
تكمل الدية فيه اجماعا على أنه لا تكمل في ذهاب الذوق بمفرده لأن كل عضو لا
تكمل الدية فيه بمنفعته لا تكمل في منفعته دونه كسائر الأعضاء ولا تفريع
على هذا القول
(مسألة) (وكذلك تجب في الكلام والعقل والمشي والأكل والنكاح) إذا جنى عليه
فخرس وجبت ديته لأن كل ما تعلقت الدية بإتلافه تعلقت بإتلاف منفعته كاليد
(مسألة) (وفي ذهاب العقل الدية) ولا نعلم فيه خلافاً روى ذلك عن عمر وزيد
رضي الله عنهما وإليه ذهب من بلغنا قوله من الفقهاء وفي كتاب النبي صلى
الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي العقل الدية " ولأنه أكبر المعاني قدر
أو أعظم الحواس نفعاً فإنه يتميز من البهيمة ويعرف به حقائق المعلومات
ويهتدي إلى مصالحه ويتقي ما يضره ويدخل به في التكليف
(9/594)
وهو شرط في ثبوت الولايات وصحة التصرفات
وأداء العبادات فكان بإيجاب الدية أحق من بقية الحواس فإن نقص عقله نقصاً
معلوماً وجب بقدره (فصل) فإن ذهب عقله بجناية لا توجب أرشاً كاللطمة
والتخويف ونحو ذلك ففيه الدية لا غير وإن أذهبه بجناية توجب أرشاً كالجراح
أو قطع عضو وجبت الدية وأرش الجرح وبهذا قال مالك والشافعي في الجديد، وقال
أبو حنيفة والشافعي في القديم يدخل الأقل منهما في الأكثر فإن كانت الدية
أكثر من أرش الجرح وجبت وحدها وإن كان أرش الجرح أكثر كأن قطع يديه ورجليه
فذهب عقله وجبت دية الجرح ودخلت دية العقل فيه لأن ذهاب العقل تخل معه
منافع الأعضاء فدخل أرشها فيه كالموت ولنا أن هذه جناية أذهبت منفعة من غير
محلها مع بقاء النفس فلم يتداخل الأرشان كما لو أوضحه فذهب بصره أو سمعه،
ولأنه لو جنى على أذنه او أنفه فذهب شمه لم يدخل أرشهما في دية الأنف
والأذن مع قربهما منهما فههنا أولى، وما ذكروه لا يصح لأنه لو دخل أرش
الجرح في دية العقل لم يجب أرشه إذا زاد على دية العقل كما أن دية الأعضاء
كلها مع القتل لا يجب أكثر من دية النفس فلا يصح قولهم إن منافع الأعضاء
تبطل بذهاب العقل فإن المجنون تضمن منافعه وأعضاؤه بعد ذهاب عقله بما تضمن
به منافع الصحيح وأعضاؤه، ولو ذهبت منافعه وأعضاؤه لم تضمن كما لا تضمن
منافع الميت وأعضاؤه وإذا جاز أن تضمن بالجناية عليها بعد الجناية عليه جاز
ضمانها مع الجناية عليه كما لو جنى عليه فأذهب سمعه وبصره بجراحة في غير
محلها
(9/595)
(فصل) فإن جنى عليه فأذهب عقله وشمه وبصره
وكلامه وجب أربع ديات مع أرش الجرح قال ابو قلابة رمى رجل رجلاً بحجر فذهب
عقله وسمعه وبصره ولسانه فقضى عليه عمر بأربع ديات وهو حي، ولأنه أذهب
منافع في كل واحد منهما دية فوجبت عليه دياتها كما لو أذهبها بجنايات فإن
مات من الجناية لم يجب إلا دية واحدة لأن ديات المنافع كلها تدخل في دية
النفس كديات الأعضاء (مسألة) (وفي ذهاب المشي الدية) لأنها منفعة مقصودة
فوجبت فيها الدية كالكلام (فصل) وفي كسر الصلب الدية إذا لم ينجبر لما روي
في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي الصلب الدية " وعن
سعيد بن المسيب قال: مضت السنة أن في الصلب الدية وهذا ينصرف إلى سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم وبه قال زيد بن ثابت وعطاء والحسن والزهري ومالك
وقال القاضي وأصحاب الشافعي ليس في كسر الصلب دية إلا أن يذهب مشيه أو
جماعة فتجب الدية لتلك المنفعة لأنه عضو لم تذهب منفعته فلم يجب فيه دية
كاملة كسائر الأعضاء ولنا الخبر ولأنه عضو ليس في البدن مثله فيه جمال
ومنفعة فوجبت فيه الدية بمفرده كالأنف، وإن ذهب مشيه بكسر صلبه ففيه الدية
في قول الجميع ولا يجب أكثر من دية لأنها منفعة تلزم كسر الصلب غالباً
فأشبه ما لو قطع رجليه (مسألة) (وفي ذهاب الأكل الدية) لأنها منفعة مقصودة
فوجبت فيه لدية كالشم والنكاح (مسألة) (فإن كسر صلبه فذهب نكاحه ففيه
الدية) روى ذلك عن علي رضي الله عنه لأنه نفع مقصود فأشبه ذهاب المشي، وإن
ذهب جماعه ومشيه
(9/596)
وجبت ديتان في ظاهر كلام أحمد في رواية
ابنه عبد الله لأنهما منفعتان تجب الدية بذهاب كل واحدة منهما منفردة فإذا
اجتمعتا وجبت ديتان كالسمع والبصر، وعن أحمد فيهما دية واحدة لأنهما نفع
عضو واحد فلم يجب فيهما أكثر من دية واحدة كما لو قطع لسانه فذهب كلامه
وذوقه، وان جبر صلبه فعادت احدى المنفعتين دون الأخرى لم يجب إلا دية إلا
أن تنقص الأخرى فتجب حكومة لنقصها أو تنقص من
جهة أخرى فيكون فيه حكومة لنقصها لذلك، وان ادعى ذهاب جماعه فقال رجلان من
أهل الخبرة ان مثل هذه الجناية تذهب الجماع فالقول قول المجني عليه مع
يمينه لأنه لا يتوصل الى معرفة ذلك إلا من جهته، وان كسر صلبه فشل ذكره
اقتضى كلام أحمد وجوب ديتين لكسر الصلب واحدة وللذكر اخرى، وفي قول القاضي
ومذهب الشافعي في الذكر دية وحكومة لكسر الصلب، وان اذهب ماءه دون جماعة
احتمل وجوب الدية، ويروى هذا عن مجاهد قال بعض أصحاب الشافعي هو الذي
يقتضيه مذهب الشافعي لأنه ذهب بمنفعة مقصودة فوجبت الدية كما لو ذهب بجماعة
أو كما لو قطع أنثييه أو رضهما واحتمل أن لا تجب الدية كاملة لأنه لم يذهب
بالمنفعة كلها (مسألة) (ويجب في الحدب) تجب الدية في الحدب لأن في كتاب
النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي الصلب الدية " ولأنه أبطل
عليه منفعة مقصودة وجمالاً أشبه ما لو أذهب مشيه
(9/597)
(مسألة) (وفي الصعر الدية وهو ان يضربه
فيصير الوجه إلى جانب) وأصل الصعر داء يأخذ البعير فيلتوي منه عنقه قال
الله تعالى (ولا تصعر خدك للناس) أي لا تعرض عنهم بوجهك تكبراً كإمالة وجه
البعير الذي به الصعر، فمن جنى على إنسان جناية فعوج عنقه حتى صار وجهه في
جانب فعليه دية كاملة روى ذلك عن زيد ثابت رضي الله عنه وقال الشافعي: ليس
فيه إلا حكومة لأنه إذهاب جمال عن غير منفعة ولنا ماروى مكحول عن زيد بن
ثابت انه قال: وفي الصعر الدية ولم يعرف له في الصحابة مخالف فكان إجماعا
ولأنه أذهب الجمال والمنفعة فوجبت فيه دية كسائر المنافع، وقولهم لم تذهب
منفعة لا يصح فإنه لا يقدر على النظر امامه وانقاء ما يحذره اذا مشى وإذا
نابه أمر أو دهمه عدو لم يمكنه العلم به ولا اتقاؤه ولا يمكنه لي عنقه
ليتعرف ما يريد نظره ويتعرف ما يضره مما ينفعه (فصل) فإن جنى عليه فصار
الالتفات او ابتلاع الماء عليه شاقا فيه حكومة لأنه لم يذهب بالمنفعة كلها
ولا يمكن تقديرها، وان صار بحيث لا يمكنه ازدراد ريقه فهذا لا يكاد يتقى
وان بقي مع ذلك ففيه
الدية لأنه تفويت منفعة ليس لها مثل في البدن (مسألة) (وفي تسويد الوجه اذا
لم يزل الدية وقال الشافعي فيه حكومة) لأنه لا مقدر فيه ولا هو نظير لمقدر
ولنا أنه فوت الجمال على الكمال فضمنه بديته كما لو قطع أذني الأصم او أنف
الأخشم وقوله ليس
(9/598)
بنظير لمقدر ممنوع فإنه نظير لقطع الأذنين
في ذهاب الجمال بل هو أعظم في ذلك فيكون بإيجاب الدية أولى، فإن زال السواد
رد ما أخذه لسواده لزوال سبب الضمان، فإما إن صفر وجهه أو حمره ففيه حكومة
لأنه لم يذهب بالجمال على الكمال (مسألة) (واذا لم يستمسك الغائط والبول
ففي كل واحد من ذلك دية كاملة) وجملة ذلك أنه إذا ضرب بطنه فلم يستمسك
الغائط أو المثانة فلم يستمسك البول وجب فيه الدية وبهذا قال ابن جريح وأبو
ثور وأبو حنيفة ولا نعلم فيه مخالفاً إلا أن ابن ابي موسى ذكر في المثانة
رواية أخرى أن فيها ثلث الدية لأنها باطنة فهي كافضاء المرأة، والصحيح
الاول كل واحد من هذين المحلين عضو فيه منفعة كبيرة ليس في البدن مثله فوجب
في تفويت منفعته دية كاملة كسائر الأعضاء المذكورة فإن نفع المثانة حبس
البول وحبس البطن الغائط منفعة مثلها والنفع بهما كثير والضرر بفواتهما
عظيم فكان في كل واحد منهما الدية كالسمع والبصر، وإن فاتت المنفعتان
بجناية واحدة وجب على الجاني ديتان كما لو ذهب سمعه وبصره بجناية واحدة
(مسألة) (وفي نقص شئ من ذلك ان علم بقدره مثل نقص العقل بأن يجن يوماً
ويفيق يوماً أو ذهاب بصر إحدى العينين أو سمع إحدى الأذنين) لأن ما وجب فيه
الدية وجب بعضها في بعضه كالأصابع واليدين
(9/599)
(فصل) وإن نقص الذوق نقصا يتقدر بأن لا
يدرك أحد المذاق الخمس وهي الحلاوة والحموضة والمرارة والملوحة والعذوبة
فإذا لم يدرك أحدها وأدرك الباقي ففيه خمس الدية وفي اثنين خمساها
وفي ثلاث ثلاثة أخماسها وإن لم يدرك واحدة فعليه الدية إذا قلنا تجب الدية
في ذهاب الذوق وإلا ففيه حكومة (مسألة) (وفي بعض الكلام بالحساب يقسم على
ثمانية وعشرين حرفاً) يعتبر ذلك بحروف المعجم هي ثمانية وعشرون حرفاً سوى
لا فإن مخرجها مخرج الام والألف فمهما نقص من الحروف نقص من الدية بقدره
لأن الكلام تم، بجميعها فالذاهب يجب أن يكون عوضه من الدية كقدره من الكلام
ففي الحرف الواحد ربع سبع الدية وفي الحرفين نصف سبعها وفي الأربعة سبعها،
ولا فرق بين ما خف على اللسان من الحروف أو ثقل لأن كل ما وجب فيه المقدر
لم يختلف لاختلاف قدره كالأصابع ويحتمل ان تقسم الدية على الحروف التي
للسان فيها عمل دون الشفوية وهي الباء والميم والفاء والواو، ودون حروف
الحلق السنة الهمز والحاء والخاء والعين والغين، فهذه عشرة بقي ثمانية عشر
حرفا للسان تقسم ديته عليها لأن الدية تجب بقطع اللسان وذهاب هذه الحروف
وحدها مع بقائه فإذا وجبت الدية فيها بمفردها وجب في بعضها بقسطه منها، ففي
الواحد نصف تسع الدية وفي الاثنين تسعها وفي الثلاثة سدسها وهذا قول بعض
أصحاب الشافعي، وإن جني على شفته فذهب بعض الحروف وجب فيه بقدره وكذلك إن
ذهب بعض حروف الحلق بجنايته، وينبغي ان يجب بقدره من
(9/600)
ثمانية وعشرين وجهاً واحداً وان ذهب حرف
فعجز عن كلمة لم يجب غير ارش الحرف لأن الضمان إنما يجب لما تلف وان ذهب
حرف فأبدل مكانه حرفاً آخر كان كأن يقول درهم فصار يقول دلهم أو دعهم أو
ديهم فعليه ضمان الحرف الذاهب لأن ما يبدل لا يقوم مقام الذاهب في القراءة
ولا غيرها فإن جنى عليه فذهب البدل وجبت ديته أيضاً لأنه أصل وإن جنى عليه
جان فأذهب بعض الحروف وجنى عليه آخر فأذهب بقية الكلام فعلى كل واحد منهما
بقسطه كما لو ذهب الأول ببصر إحدى العينين وذهب الآخر ببصر الأخرى وإن كان
الثغ من غير جناية عليه فذهب انسان بكلامه كله فإن كان مأيؤسا من ذهاب
لثغته ففيه بقسط ما ذهب من الحروف وإن كان غير مأيوس من زوالها كالصبي ففيه
الدية الكاملة لأن الظاهر زوالها وكذلك الكبير إذا أمكن إزالة لثغته
بالتعليم (مسألة) (وإن لم يعلم قدره مثل أن صار مدهوشاً يفزع مما لا يفزع
ويستوحش إذا خلا فهذا
لا يمكن تقديره) فيجب فيه ما تخرجه الحكومة لأنه لا تقدير فيه (مسألة) (فإن
نقص سمعه أو بصره أو شمه أو حصل في كلامه تمتمة أو عجلة أو فأفأة ففيه
حكومة لما حصل من النقص والشين ولم تجب الدية) لأن المنفعة باقية فإن جنى
عليه جان آخر فأذهب كلامه ففيه الدية كاملة كما لو جنى على عينه جان فعمشت
ثم جنى عليه آخر فأذهب بصرها فإن نقص ذوقه نقصاً غير مقدر بأن يحس المذاق
كله إلا أنه لا يدركه على الكمال ففيه حكومة كما لو نقص بصره أو سمعه نقصاً
لا يتقدر
(9/601)
(مسألة) (وإن نقص مشيه أو انحنى قليلاً أو
تقلست شفته بعض التقلس أو تحركت سنه أو ذهب اللبن من ثدي المرأة ونحو ذلك
ففيه حكومة) لما ذكرنا (مسألة) (وإن قطع بعض اللسان فذهب بعض الكلام اعتبر
أكثرهما فلو ذهب ربع اللسان ونصف الكلام أو ربع الكلام ونصف اللسان وجب نصف
الدية) إذا قطع بعض لسانه فذهب بعض كلامه فإن استويا مثل ان يقطع ربع لسانه
فيذهب ربع كلامه وجب ربع الدية بقدر الذاهب منهما كما لو قطع احدى عينيه
فذهب بصرها وان ذهب من أحدهما أكثر من الآخر كأن قطع ربع لسانه فذهب نصف
كلامه او قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه وجب بقدر الأكثر وهو نصف الدية في
الحالين لأن كل واحد من اللسان والكلام مضمون بالدية منفرداً فإذا انفرد
نصفه بالذهاب وجب النصف ألا ترى أنه لو ذهب نصف الكلام ولم يذهب من اللسان
شئ وجب نصف الدية؟ ولو ذهب نصف اللسان ولم يذهب من الكلام شئ وجب نصف الدية
(مسألة) (وان قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام ثم الآخر بقيته فذهب بقية
الكلام فعلى الأول نصف الدية وعلى الثاني نصفها ويحتمل أن يجب عليه نصف
الدية وحكومة لربع اللسان) في هذه المسألة ثلاثة أوجه (أحدها على الثاني
نصف الدية وهذا قول القاضي وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن السالم نصف
اللسان وباقية اشل بدليل ذهاب نصف الكلام (والثاني) عليه نصف
(9/602)
الدية وحكومة للربع الأشل لأنه لو كان
جميعه اشل لكانت فيه حكومة أو ثلث الدية فإذا كان بعضه أشل ففي ذلك البعض
حكومة أيضاً (والثالث) عليه ثلاثة أرباع الدية وهذا الوجه الثاني لأصحاب
الشافعي لأنه قطع ثلاثة أرباع لسانه فذهب نصف كلامه فوجب عليه ثلاثة أرباع
الدية كما لو قطعه أولا ولا يصح القول بأن بعضه أشل لأن العضو متى كان فيه
بعض النفع لم يكن بضعه اشل كالعين إذا كان بصرها ضعيفاً واليد إذا كان
بطشها ضعيفاً (فصل) وان قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه فعليه نصف ديته وإن
قطع الآخر بقيته فعليه ثلاثة أرباع الدية وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي
والآخر عليه نصف الدية لأنه لم يقطع إلا نصف لسانه ولنا أنه ذهب بثلاثة
أرباع الكلام فلزمته ثلاثة أرباع ديته كما لو ذهب ثلاثة أرباع الكلام بقطع
نصف اللسان في الأول ولأنه لو ذهب ثلاثة أرباع الكلام مع بقاء اللسان لزمته
ثلاثة أرباع الدية فلأن يجب بقطع نصف اللسان أولى ولو لم يقطع الثاني نصف
اللسان لكن جنى عليه جنايته أذهب بقية كلامه مع بقاء لسانه لكان عليه ثلاثة
أرباع ديته لأنه ذهب بثلاثة أرباع ما فيه الدية فكان عليه ثلاثة أرباع
الدية كما لو جنى على صحيح فذهب ثلاثة أرباع كلامه مع بقاء لسانه (فصل) إذا
قطع بعض لسانه عمداً فاقتص المجني عليه من مثل ما جنى عليه فذهب من كلام
الجاني
(9/603)
مثل ما ذهب من كلام المجني عليه أو أكثر
فقد استوفى حقه ولا شئ في الزائد من سراية القود وهي غير مضمونة وأن ذهب
أقل فللمقتص دية ما بقي لأنه لم يستوف بدله (فصل) إذا كان للسانه طرفان
فقطع احدهما فذهب كلامه ففيه الدية لأن ذهاب الكلام بمفرده يوجب الدية وان
ذهب بعض الكلام نظرت فإن كان الطرفان متساويين وكان ما قطعه بقدر ما ذهب من
الكلام وجب فإن كان أحدهما اكثر وجب الأكثر على ما مضى وان لم يذهب من
الكلام شئ وجب بقدر ما ذهب من اللسان من الدية وإن كان احدهما منحرفا عن
سمت اللسان فهو خلقة زائدة وفيه حكومة وان قطع جميع اللسان وجبت الدية من
غير زيادة سواء كان الطرفان متساويين أو مختلفين وقال القاضي إن كانا
متساويين ففيهما الدية وإن كان احدهما منحرفاً عن سمت اللسان وجبت الدية
وحكومة في الخلقة الزائدة ولنا أن هذه الزيادة عيب نقص يرد بها المبيع
وينقص من ثمنه فلم يجب شئ كالسلعة في اليد وربما عاد القولان إلى شئ واحد
لأن الحكومة لا يخرج بها شئ إذا كانت الزيادة عيباً (مسألة) (وان قطع لسانه
فذهب نطقه وذوقه لم يجب إلا دية وان ذهبا مع بقاء اللسان وجبت ديتان) إذا
جنى على لسان ناطق فاذهب كلامه وذوقه ففيه ديتان وإن قطع لسانه فذهبا معاً
يجب إلا
(9/604)
دية واحد لأنهما يذهبان تبعاً لذهابه فوجبت
ديته دون ديتهما كما لو قتل إنساناً لم يجب إلا دية واحدة ولو ذهبت منافعه
مع بقائه ففي كل منفعة دية (فصل) فإن جنى على لسانه فذهب كلامه أو ذوقه ثم
عاد لم تجب الدية لأننا تبينا أنه لم يذهب ولو ذهب لم يعد وإن كان قد قبض
الدية ردها وان قطع لسانه فعاد لم تجب الدية وإن كان قد أخذها ردها قاله
أبو بكر وظاهر مذهب الشافعي أنه لا يرد لأن العادة لم تجر بعوده واختصاص
هذا بعوده يدل على أنها هبة مجددة ولنا أنه عاد ما وجبت فيه الدية فوجب رد
الدية كالأسنان وسائر ما يعود وأن قطع إنسان نصف لسانه فذهب كلامه ثم قطع
آخر بقيته فعاد كلامه لم يجب رد الدية لأن الكلام الذي كان باللسان قد ذهب
ولم يعد الى اللسان وانما عاد في آخر بخلاف التي قبلها وان قطع لسانه فذهب
كلامه ثم عاد اللسان دون الكلام لم يرد الدية لأنه قد ذهب ما تجب الدية فيه
بانفراده وان عاد كلامه دون لسانه لم يردها أيضاً لذلك (مسألة) (وإن كسر
صلبه فذهب مشيه ونكاحه ففيه ديتان لأجل ذهاب المشي والجماع) وعن أحمد فيهما
دية واحدة لأنهما نفع عضو واحد فلم يجب فيهما أكثر من دية واحدة كما لو قطع
لسانه فذهب نطقه وذوقه
(9/605)
(مسألة) (وإن اختلفا في نقص سمعه وبصر
فالقول قول المجني عليه مع يمينه)
لأن ذلك لا يعرف إلا من جهته فيحلفه الحاكم ويوجب حكومة (فصل) فإن ادعى أن
إحدى عينيه نقص ضوء ما عصبت المريضة وأطلقت الصحيحة ونصب له شخص وتباعد عنه
فكلما قال قد رأيته ووصف لونه علم صدقه حتى ينتهي فإذا انتهت رؤيته علم
موضعها ثم تشد الصحيحة وتطلق المريضة وينصب له شخص ثم يذهب حتى تنتهي رؤيته
ثم يدار الشخص الى جانب آخر فيضع به مثل ذلك ثم يعلم عند المسافتين وتذرعان
ويقابل بينهما فإن كانا سواء فقد صدق وينظركم بين مسافة رؤية العليلة
والصحيحة؟ ويحكم له من الدية بقدر ما بينهما وان اختلفت المسافتان فقد كذب
وعلم أنه قصر مسافة المريضة لكثير الواجب له فيردد حتى تستوي المسافة بين
الجانبين والأصل في هذا ما روي عن علي رضي الله عنه قال إبن المنذر أحسن ما
قيل في ذلك ما قاله علي أمر بعينه فعصبت وأعطى رجلاً بيضة فانطلق بها وهو
ينظر حتى انتهى بصره ثم أمر فخط عند ذلك ثم أمر بعينه الأخرى فعصبت وفتحت
الصحيحة وأعطى رجلاً بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى بصره ثم خط عند
ذلك ثم حول الى مكان آخر ففعل مثل ذلك فوجدوه سواء فأعطاه بقدر ما نقص من
بصره من مال الآخر قال القاضي وإذا زعم أهل الطب أن بصره يقل اذا بعدت
المسافة ويكثر اذا قربت وأمكن هذا في المذارعة عمل عليه وبيانه أنهم اذا
قالوا ان الرجل إن كان يبصر الى مائة ذراع ثم أراد أن يبصر
(9/606)
الى مائتي ذراع احتاج للمائة الثانية الى
ضعفي ما يحتاج إليه للمائة الأولى من البصر فعلى هذا إذا ابصر بالصحيحة الى
مائتين وأبصر بالعليلة الى مائة علمنا انه قد نقص ثلثا بصر عينه فيجب له
ثلثا ديتها قال شيخنا وهذا لا يكاد ينضبط في الغالب وكل ما لا ينضبط فيه
حكومة وإن جني على عينيه فندرتا أو أحولتا أو عمشتا ففي ذلك حكومة كما لو
ضرب يده فأعوجت والجناية على الصبي والمجنون كالجناية على البالغ والعاقل
لكن يفترقان في أن البالغ العاقل خصم لنفسه والخصم للصبي والمجنون وليهما
فإذا توجهت اليمين عليهما لم يلحفا ولم يحلف الولي عنهما فإن بلغ الصبي
وأفاق المجنون حلفا حينئذ ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كمذهبنا (فصل)
فإن ادعى المجني عليه نقصاً في سمع أحد أذنيه سددنا العليلة وأطلقنا
الصحيحة وأقمنا من
يصح يحدثه وهو متباعد إلى جنب يقول اني لا اسمع فإذا قال ذلك غير عليه
الصوت والكلام فإن بان انه يسمع وإلا فقد كذب فإذا انتهى الى آخر سماعه
قدرت المسافة وسدت الصحيحة وأطلقت المريضة وحدثه وهو يتباعد حتى يقول اني
لا اسمع فإذا قال ذلك غير عليه الكلام فإن تغيرت صفته لم يقبل قوله وإن لم
تتغير صفته حلف وقبل قوله وتمسح المسافتان وينظر ما تنقص العليلة فيجب
بقدره فإن قال اني أسمع العالي ولا أسمع الخفي فهذا لا يمكن تقديره فيجب
فيه حكومة (فصل) فإن قال أهل الخبرة أنه يرجى عود سمعه الى مدة النظر إليها
وان يكن لذلك غاية لم ينظر
(9/607)
(مسألة) (وإن اختلفا في ذهاب بصره أري أهل
الخبرة فيرجع في ذلك إلى قول مسلمين عدلين منهم لأن لهما طريقاً الى معرفة
ذلك لمشاهدتهما العين التي هي محل البصر بخلاف السمع فإن لم يوجد أهل
الخبرة أو تعذر معرفة ذلك اعتبر بأن يوقف في عين الشمس ويقرب الشئ الى عينه
في أوقات غفلته فإن طرف عينه وخاف من الذي يخوف به فهو كاذب ولا حكم له
واذا علم ذهاب بصره وقال اهل الخبرة لا يرجى عوده وجبت الدية وان قالوا
يرجى عوده الى مدة عينوها انتظر اليها ولم يعط الدية حتى تنقضي المدة فإن
لم يعد استقرت على الجاني الدية فإن مات المجني عليه قبل العود استقرت
الدية سواء مات في المدة أو بعدها فإن جاء اجنبي فقلع عينه في المدة استقرت
على الأول الدية أو القصاص لأنه أذهب البصر فلم يعدو على الثاني حكومة لأنه
أذهب عيناً لا ضوء لها يرجى عود ضوئها وان قال الأول عاد ضوؤها وأنكر
الثاني فالقول قول المنكر لأن الأصل معه وأن صدق المجني عليه الأول سقط حقه
عنه ولم يقبل قوله على الثاني فأما إن قال أهل الخبرة يرجى عوده لكن لا
يعرف له مدة وجبت الدية أو القصاص لأن انتظار ذلك الى غير غاية يفضي الى
اسقاط موجب الجناية والظاهر في البصر عدم العود والأصل يؤيده فإن عاد قبل
استيفاء الواجب سقط وان عاد بعد الاستيفاء وجب رد ما أخذ منه لأننا تبينا
أنه لم يكن واجباً (مسألة) (وإن اختلفا في ذهاب سمعه فانه ينفعل ويصاح به
وينتظر اضطرابه ويتأمل عند صوت
(9/608)
الرعد والأصوات المزعجة فإن ظهر منه ازعاج
أو التفات أو ما يدل على السمع فالقول
قول الجاني مع يمينه) لأن ظهور الأمارات يدل على أنه سميع فغلبت جنبة
المدعي وحلف لجواز أن يكون ما ظهر منه اتفاقاً وإن لم يوجد شئ منه ذلك
فالقول قول المجني عليه مع يمينه لأن الظاهر عدم السمع وحلف لجواز أن يكون
احترز وتصبر وان ادعى ذلك في إحداهما سدت الأخرى وتغفل على ما ذكرنا
(مسألة) (وإن ادعى ذهاب شمه جربناه بالروائح الطيبة والمنتنة فإن هش للطيب
وتنكر للمنتن فالقول قول الجاني مع يمينه وإن لم يبن منه ذلك فالقول قول
المجني عليه) لقولنا في اختلافهم في السمع والبصر وان ادعى المجني عليه نقص
شمه فالقول قوله مع يمينه لأنه لا يتوصل الى معرفة ذلك إلا من جهته فقبل
قوله فيه كما يقبل قول المرأة في انقضاء عدتها بالإقراء ويجب له من الدية
ما تخرجه الحكومة، وان ذهب شمه ثم عاد قبل أخذ الدية سقطت وإن كان بعد
أخذها ردها لأننا تبينا أنه لم يكن ذهب وان رجي عود شمه الى مدة انظر اليها
وان ذهب شمه من أحد منخريه ففيه نصف الدية كما لو ذهب بصره من إحدى عينيه
(مسألة) (وإن اختلفا في ذهاب ذوقه أطعم الأشياء المرة فإن عبس للطعم المر
سقطت دعواه) لظهور ما يدل على خلاف ما ادعاه وإلا فالقول قوله مع يمينه
لأنه لا يعلم إلا من جهته فقبل قوله فيه كالمسألة التي قبلها (فصل) ولا تجب
دية الجرح حتى يندمل لأنه لا يدرى أقتل هو أم ليس بقتل فينبغي أن ينتظر
حكمه وما الواجب فيه ولهذا لا يجوز الاستيفاء في العمد قبل الاندمال فكذلك
لا يجوز أخذ الدية قبله فنقول أحد موجبي الجناية فلا يجوز قبل الاندمال
كالآخر
(9/609)
(مسألة) (ولا تجب دية سن ولا ظفر ولا منفعة
حتى ييئس من عودها) لأن ذلك مما يعود فلا يجب شئ مع احتمال العود كالشعر
وإنما يعرف ذلك بقول عدلين من أهل الخبرة أنها لا تعود أبداً (مسألة) (فلو
قطع سن كبير أو ظفراً ثم نبت او رده فالتحم فلم تجب الدية)
نص أحمد في السن على ذلك في رواية جعفر بن محمد وهو قول أبي بكر والظفر في
معناها وقال القاضي تجب ديتها وهو مذهب الشافعي وقد ذكرنا توجيههما فيما
إذا قطع أنفه فرده فالتحم فعلى قول أبي بكر يجب عليه حكومة لنقصها إن نقصت
وضعفها ان ضعفت، وإن قلعها قالع بعد ذلك وجبت ديتها لأنها ذات جمال ومنفعة
فوجبت ديتها كما لو لم تنقلع، وعلى قول القاضي ينبني حكمها على وجوب قلعها
فإن قلنا يجب فلا شئ على قالعها لأنه قد أحسن بقلع ما يجب قلعه وإن قلنا لا
يجب قلعها احتمل أن تؤخذ ديتها لما ذكرنا واحتمل أن لا تؤخذ ديتها لأنه قد
وجبت له ديتها مرة فلا تجب ثانية ولكن فيها حكومة، فأما إن جعل مكانها سناً
أخرى أو سن حيوان أو عظماً فثبتت وجبت ديتها وجهاً واحد لأن سنه ذهبت
بالكلية فوجبت ديتها كما لو لم يجعل مكانها شيئاً، وان قلعت هذه الثانية لم
تجب ديتها لأنها ليست سناً له ولا هي من بدن ولكن يجب فيها حكومة لأنها
جناية أزالت جماله ومنفعته فأشبه ما لو خاط جرحه بخيط فالتحم فقامه إنسان
فانفتح
(9/610)
الجرح وزال التحامه، ويحتمل أن لا يجب شئ
لأنه أزال ما ليس من بدنه فأشبه ما لو قلع انف الذهب الذي جعله المجدوع
مكان انفه، والأول أولى لأن هذا كان قد التحم بخلاف أنف الذهب فإنه يمكن
اعادته كما كان وهذا إذا أعاده قد لا يلتحم (مسألة) (وان ذهب سمعه أو بصره
أو شمه أو ذوقه أو عقله ثم عاد سقطت ديته) لزوال سببها وإن كان قد أخذها
ردها لأنا تبينا أنه أخذها بغير حق (مسألة) (وإن عاد ناقصا أو عادت السن أو
الظفر قصيراً أو متغير فله أرش نقصه) لأنه نقص حصل بجنايته أشبه ما لو نقصه
مع بقائه (مسألة) (وان قلع سناً صغيراً ويئس من عودها وجبت ديتها) لأنه
أذهبها بجنايته إذهاباً مستمراً فوجبت ديتها كالسن الكبير وقال القاضي فيها
حكومة لأن العادة عودها فلم تكمل ديتها كالشعر، والصحيح الأول لأن الشعر لو
لم يعد وجبت ديته مع أن العادة عوده (مسألة) (وعنه في الظفر إذا نبت على
صفته خمسة دنانير وإن نبت متغيراً عشرة)
والتقديرات بابها التوقيف ولا نعلم فيه توقيفاً والقياس أنه لا شئ فيه إذا
عاد على صفته وإن نبت متغيرا ففيه حكومة (مسألة) (وإن مات المجني عليه
فادعى الجاني عود ما أذهبه فأنكر الولي فالقول قوله) لأن الأصل عدم العود،
وإن جني على سنه اثنان فاختلفا فالقول قول المجني عليه في قدر ما أتلف كل
واحد منهما لأن ذلك لا يعرف إلا من جهته فأشبه ما لو ادعى نقص سمعه أو بصره
(9/611)
(فصل) قال رضي الله عنه (وفي كل واحد من
الشعور الاربعة الدية وهي شعر الراس واللحية والحاجبين وأهداب العينين)
وبهذا قال أبو حنيفة والثوري وممن اوجب في الحاجبين الدية سعيد بن المسيب
وشريح والحسن وقتادة وروي عن علي وزيد بن ثابت رضي الله عنهما أنهما قالا
في الشعر الدية وقال مالك والشافعي فيه حكومة واختاره ابن المنذر لأنه
إتلاف جمال من غير منفعة فلم تجب الدية كاليد الشلاء والعين القائمة ولنا
أنه أذهب الجمال على الكمال فوجب فيه دية كاملة كأذن الأصم وأنف الأخشم
وقولهم لا منفعة فيه ممنوع فإن الحاجب يرد العرق عين العين ويفرقه وهدب
العين يرد عنها ويصونها فجرى مجرى أجفانها وما ذكروه ينتقض بالأصل الذي
قسنا عليه واليد الشلاء ليس جمالها كاملاً (مسألة) (وفي كل حاجب نصفها وفي
كل هدب ربعها) وجملة ذلك أن في إحدى الحاجبين نصف الدية لأن كل شيئين فيهما
الدية في احدهما نصفها كاليدين وفي كل هدب ربعها لأن الدية إذا وجبت في
أربعة أشياء وجب في كل واحد ربعها كالأجفان (مسألة) (وفي بعض ذلك بقسطه من
الدية يقدر بالمساحة كالأذنين ومارن الأنف ولا فرق في هذه الشعور بين كونها
كثيفة أو خفيفة جملية أو قبيحة أو كونها من صغير أو كبير) لأن سائر ما فيه
الدية من الأعضاء لا تفترق الحال فيه بذلك
(9/612)
(مسألة) (وإنما تجب ديته إذا أزاله على وجه
لا يعود)
مثل أن يقلب على رأسه ماء حاراً فيتلف منبت الشعر فينقطع بالكلية بحيث لا
يعود وإن رجي عوده الى مدة انتظر اليها (مسألة) (فإن عاد سقطت الدية) إذا
عاد قبل أخذ الدية لم تجب فإن عاد بعد أخذها ردها والحكم فيه كالحكم في
ذهاب السمع والبصر فيها يرجى عوده ما لا يرجى (مسألة) (وإن بقي من لحيته ما
لا جمال فيه أو من غيره من الشعور ففيه وجهان) (أحدهما) يؤخذ بالقسط لأنه
محل يجب في بعضه بحصته فأشبه الأذن ومارن الأنف (والثاني) تجب الدية كاملة
لأنه أذهب المقصود كله فأشبه ما لو أذهب ضوء العينين ولأن جنايته ربما
أحوجت الى إذهاب الباقي لزيادته في القبح على ذهاب الكل فتكون جنايته سبباً
لذهاب الكل فأوجبت ديته كما لو ذهب بسراية الفعل أو كما لو احتاج في دواء
شجة الرأس الى ما أذهب ضوء عينه (مسألة) (ولا قصاص في شئ من هذه الشعور)
لأن إتلافها إنما يكون بالجناية على محلها وهو غير معلوم المقدار ولا تمكن
المساواة فيه فلا يجب القصاص فيه (مسألة) (وإن قلع الجفن بهدبه لم يجب إلا
دية الجفن) لأن الشعور تزول تبعاً لزوال الأجفان فلم يجب فيه شئ كالأصابع
إذا قطع الكف وهي عليه
(9/613)
(مسألة) (وإن قلع اللحنين بما عليهما من
الأسنان وجبت ديتهما ودية الأسنان) ولم تدخل دية الأسنان في الجنين كما
تدخل دية الأصابع في اليد لوجوه (أحدها) أن الأسنان ليست متصلة باللحيين
وإنما هي مغرزة فيها بخلاف الأصابع (الثاني) أن أحدهما ينفرد باسمه عن
الآخر بخلاف الأصابع مع الكف فإن اسم اليد بشملهما (الثالث ان اللحيين
يوجدان منفردين عن الأسنان فإنهما يوجدان قبل وجود الأسنان ويبقيان بعد
قلعهما بخلاف الكف مع الأصابع (مسألة) (وان قطع كفاً بأصابعه لم يجب إلا
دية الأصابع) لدخول الجميع في مسمى اليد وكما لو قطع ذكراً بحشفته لم يجب
إلا دية الحشفة لدخولها في مسمى الذكر (مسألة) (وان قطع كفاً عليه بعض
الأصابع دخل ما حاذى الأصابع في ديتها وعليه أرش باقي الكف)
لأن الأصابع لو كانت سالمة كلها لدخل أرش الكف كله في دية الأصابع فكذلك ما
حاذى الأصابع السالمة يدخل في ديتها وما حاذى المقطوعات ليس ما يدخل في
ديته فوجب أرشه كما لو كانت الأصابع كلها مقطوعة (مسألة) (وان قطع أنملة
بظفرها فليس عليه إلا ديتها) كما لو قطع كفا بأصابعها أو جفناً بهدبه (فصل)
وفي عين الأعور دية كاملة نص عليه وبذلك قال الزهري ومالك والليث وقتادة
وإسحاق وقال مسروق وعبد الله بن مغفل والنخعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي
فيها نصف الدية لقوله عليه
(9/614)
الصلاة السلام " وفي العين خمسون من الإبل
" وقوله عليه السلام " وفي العينين الدية " يقتضي أن لا يجب فيها أكثر من
ذلك سواء قلعهما واحد أو ثان في وقت واحد أو في وقتين وقالع الثانية قالع
عين أعور فلو وجب عليه دية لوجب فيهما دية ونصف، ولأن ما يضمن بنصف الدية
مع نظيره يضمن به مع ذهابه كالأذن ويحتمل هذا كلام الخرقي لقوله وفي العين
الواحدة نصف الدية ولم يفرق ولنا أن عمر وعثمان وعلياً وابن عمر قضوا في
عين الأعور بالدية ولا نعلم لهم في الصحابة مخالفاً فتكون إجماعاً ولأن قلع
عين الأعور يتضمن إذهاب البصر كله فوجبت الدية كما لو أذهبه من العينين،
ودليل ذلك أنه يحصل بها ما يحصل بالعينين فإنه يرى الأشياء البعيدة ويدرك
الأشياء اللطفية ويعمل اعمال البصراء ويجوز أن يكون قاضيا ويجزي في الكفارة
وفي الأضحية إذا لم تكن العين مخسوفة فوجب في بصره دية كاملة كذي العينين:
فإن قيل فعلى هذا ينبغي أن لا يجب في ذهاب احدى العينين نصف الدية لأنه لم
ينقص، قلنا لأنه لا يلزم من وجوب شئ من دية العينين نقص دية الباقي بدليل
ما لو جنى عليهما فاحول * نا أو عمشا أو نقص ضوؤهما فإنه يجب أرش النقص ولا
تنقص ديتهما بذلك ولأن النقص الحاصل لم يؤثر في تنقيص أحكامه ولا هو مضبوط
في تفويت النفع فلم يؤثر في تنقيص الدية، قلت ولولا ما روي عن الصحابة لكان
القول الآخر أولى لظاهر النص والقياس على ذهاب سمع إحدى الأذنين وما ذكر من
المعاني فهو موجود فيما إذا ذهب سمع أحد الأذنين ولم يوجبوا في الباقي دية
كاملة
(9/615)
(مسألة) (وإن قلع الأعور عين صحيح مماثلة
لعينه الصحيحة عمداً فلا قصاص وعليه دية كاملة) إذا قلع الأعور عين صحيح
نظرنا فإن قلع العين التي لا تماثل عينه الصحيحة أو قلع المماثلة خطأ فليس
عليه إلا نصف الدية لا نعلم فيه خلافاً لأن ذلك هو الأصل، وأن قلع المماثلة
لعينه الصحيحة عمداً فلا قصاص وعليه دية كاملة وبهذا قال سعيد بن المسيب
وعطاء ومالك في إحدى روايتيه وقال في الأخرى عليه نصف الدية ولا قصاص، وقال
المخالفون في المسألة الأولى له القصاص لقوله تعالى (والعين بالعين) وان
اخبار الدية فله نصفها للخبر ولأنه لو قلعها غيره لم يجب فيها إلا نصف
الدية فلم يجب فيه إلا نصفها كالعين الأخرى ولنا عن عمر وعثمان رضي الله
عنهما قضيا بمثل مذهبنا ولا نعرف لهما مخالفاً في الصحابة فكان إجماعاً
ولأننا منعناه من إتلاف ضوء يضمن بدية كاملة فوجبت عليه دية كاملة كما لو
قلع عيني سليم ثم عمي الجاني ويتحمل أن يقلع عينه ويعطى نصف الدية لأن ذلك
يروي فيه أثر وقد روي عن علي رضي الله عنه في الرجل إذا قتل امرأة يقتل بها
ويعطى نصف الدية (مسألة) (وإن قلع عيني صحيح عمداً خير بين قلع عينه ولا شئ
له غيرها وبين الدية) إذا قلع الأعور عيني صحيح عمداً فإن شاء قلع عينه ولا
شئ له لأن عينه له فيها دية كاملة لما ذكرنا من قضاء الصحابة رضي الله عنهم
فيها بالدية ولأنه أذهب بصره كله فلم يكن له أكثر من إذهاب بصره
(9/616)
وهو مبني على قضاء الصحابة وأن عين الأعور
تقوم مقام العينين وأكثر أهل العلم على أن له القصاص ونصف الدية للعين
الأخرى وهو مقتضى الدليل والله أعلم فأما إن قلعهما خطأ فليس له إلا الدية
كاملة كما لو قلعها صحيح العينين وذكر القاضي فيما إذا قلعهما عمداً إن
قياس المذهب وجوب ديتين إحداهما في العين التي استحق بها قلع عين الأعور
والأخرى في الأخرى لأنها عين الأعور ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم "
وفي العينين الدية " ولأنه قلع عينين فلم يلزمه أكثر من الدية كما لو كان
القالع صحيحاً ولأنه لم يزد على تفويت منفعة الجنس فلم يزد على الدية كما
لو قطع أذنيه وما ذكره القاضي لا يصح لأن وجوب الدية في إحدى عينيه لا يجعل
الأخرى عين أعور على أن وجوب الدية بقلع إحدى العينين
قضية مخالفة للخبر والقياس صرنا إليها لإجماع الصحابة عليها فيما عدا موضع
الإجماع يجب العمل بهما والبقاء عليهما (مسألة) (وفي يد الا * قطع نصف
الدية وكذلك في رجله وعنه فيها دية كاملة وان اختار القصاص فله ذلك) لأنه
عضو أمكن القصاص في مثله فكان الواجب فيه القصاص أو دية مثله كما لو قطع
أذن من له أذن واحدة وعن أحمد رواية أخرى أن الأولى إن كانت قطعت ظلماً
وأخذ ديتها أو قطعت قصاصاً ففيها نصف ديتها وإن قطعت في سبيل الله ففي
الباقية دية كاملة لأنه عطل منافعه من العضوين جملة فأشبه
(9/617)
قلع عين الأعور والصحيح الأول لأن هذا أحد
العضوين الذين تحصل بهما منفعة الجنس لا يقوم مقام العضوين فلم يجب فيه دية
كاملة كسائر الأعضاء وكما لو كانت الأولى أخذت قصاصاً أو في غير سبيل الله
ولا يصح القياس على عين الأعور لثلاثة وجوه (أحدها) أن عين الأعور حصل فيها
ما يحصل بالعينين ولم يختلفا في الحقيقة والأحكام إلا اختلافاً يسيراً
بخلاف أقطع اليد الرجل (والثاني) أن عين الأعور لم يختلف الحكم فيها
باختلاف صفة ذهاب الأولى وههنا اختلف (الثالث) أن هذا التقدير والتعيين على
هذا الوجه أمر لا يصار اليه بمجرد الرأي ولا توقيف فيه فيصار اليه ولا نظير
له فيقاس عليه فالمصير إليه تحكم بغير دليل فيجب اطراحه فأما أن قطعت أذن
من قطعت أذنه أو منخر من قطع منخره لم يجب فيه أكثر من نصف الدية رواية
واحدة لأن منفعة كل أذن لا تتعلق بالأخرى بخلاف العينين
(9/618)
(باب الشجاج وكسر العظام) الشجة اسم لجرح
الرأس الوجه خاصة وهي عشر، خمس لا مقدر فيها (أولها) الحارصة وهي التي تحرص
الجلد أي تشقه قليلاً ولا تدميه (ثم البازلة) وهي الدامية التي يخرج منها
دم يسير (ثم الباضعة) وهي التي تشق اللحم بعد الجلد ثم (المتلاحمة) وهي
التي تترك في اللحم ثم السمحاق التي بينها وبين العظم قشرة رقيقة فهذه
الخمس فيها حكومة في ظاهر المذهب
وجملة ذلك أن الشجاع عشر خمس لا توقيت فهيا، أولها الحارصة قاله الأصمعي
وهي التي تشق الجلد قليلاً يعني تقشر شيئاً يسيراً من الجلد لا يظهر منه دم
ومنه حرص الفصار الثوب إذا شقه قليلاً وقال بعضهم هي الحرصة ثم البازلة وهي
التي ينزل منها الدم أي يسيل وتسمى الدامية أيضاً والدامعة لقلة سيلان دمها
تشبيهاً له بخروج الدمع من العين ثم الباضعة وهي التي تشق اللحم بعد الجلد
ثم المتلاحمة وهي التي أخذت في اللحم يعني دخلت فيه دخولاً كثيراً تزيد على
الباضعة ولم تبلغ السمحاق ثم السمحاق وهي التي تصل الى قشرة رقيقة فوق
العظم تسمى تلك القشرة سمحاقاً وسميت الجراح الواصلة اليها بها ويسميها أهل
المدينة الملطا والملطاة وهي تأخذ اللحم كله حتى تخلص منه وهذه الشجاج
الخمس لا توقيت فيها في ظاهر المذهب وهو قول أكثر الفقهاء يروي ذلك عن عمر
بن عبد العزيز ومالك والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وروي عن أحمد رواية
أخرى أن في الدامية بعيراً وفي الباضعة بعيرين وفي المتلاحمة ثلاثة وفي
المسحاق أربعة أبعرة لأن ذلك يروي عن زيد بن ثابت وروي عن علي رضي الله عنه
في السمحاق مثل ذلك رواه سعيد عنهما وعن عمر وعثمان فيها نصف أرش الموضحة
والصحيح الأول فإنها جراحات لم يرد فيها توقيت في الشرع فكان الواجب فيها
حكومة كجراحات البدن
(9/619)
روي عن مكحول قال قضى النبي صلى الله عليه
وسلم في الموضحة بخمس من الإبل ولم يقض فيها دونها ولأنه لم يثبت فيها مقدر
له بتوقيف ولا قياس يصح فوجب الرجوع الى الحكومة كالحارصة وذكر القاضي أنه
متى أمكن اعتبار هذه الجراحات من الموضحة مثل أن يكون في رأس المجني عليه
موضحة الى جانبها قدرت هذه الجراحة منها فإن كانت بقدر النصف وجب نصف أرش
الموضحة وإن كانت بقدر الثلث وجب ثلث الأرش وعلى هذا إلا أن تزيد الحكومة
على قدر ذلك فيوجب ما تخرجه الحكومة فإذا كانت الجراحة قدر نصف الموضحة
وشينها ينقص قدر ثلثيها فيوجب ثلثي ارش الموضحة وان نقصت الحكومة أقل من
النصف أوجب النصف فيوجب الأكثر مما تخرجه الحكومة أو قدرها من الموضحة لأنه
اجتمع سببان موجبان الشين وقدرها من الموضحة فوجب فيها والدليل على إيجاب
هذا المقدار ان هذا اللحم فيه مقدر فكان في بعضه بقدره من ديته كالمارن
والحشفة والشفة والجفن وهذا مذهب الشافعي قال شيخنا: وهذا لا نعلمه
مذهباً لاحمد ولا يقتضيه مذهبه ولا يصح لأن هذه جراحة تجب فيها الحكومة فلا
يجب فيها مقدر كجراحات البدن ولا يصح قياس هذا على ما ذكروه فإنه لا تجب
فيه الحكومة ولا نعلم لما ذكروه نظيراً وما لم يكن فيه من الجراح توقيف ولم
يكن نظيراً لما وقتت ديته ففيه حكومة أما الذي فيه توقيت فهو الذي نص النبي
صلى الله عليه وسلم عليه بين قدر ديته كقوله " في الأنف وفي اللسان الدية "
وأما نظيره فهو ما كان في معناه ومقيسا عليه كالاليتين والثديين والحاجين
وقد ذكرناه فما لم يكن من الموقت ولا مما يمكن قياسه
(9/620)
كالشجاج التي دون الموضحة وجراح البدن سوى
الجائفة وقطع الأعضاء وكسر العظام فليس فيه إلا الحكومة (فصل) قال الشيخ
رحمه الله (وخمس فيها مقدر أولها الموضحة وهي التي توضح العظم أي تبرزه
والوضح البياض) يعني أنها أبدت وضح العظم أي بياضه وأجمع أهل العلم على أن
أرشها مقدر قاله ابن المنذر وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن
حزم " وفي الموضحة خمس من الإبل " وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " في المواضح خمس خمس " رواه أبو داود
والنسائي والترمذي وقال حديث حسن وأنما يجب ذلك في موضحة الحر فأما موضحة
العبد فقد ذكرنا الخلاف فيها وموضحة المرأة كموضحة الرجل فيما يجب فيها عند
أحمد رحمه الله لأن المرأة تساوي جراحها جراح الرجل إلى ثلث الدية وعند
الشافعي أن موضحة المرأة إنما يجب فيها نصف ما وجب في موضحة الرجل بناء على
مذهبه في أن جراح المرأة على النصف من جراح الرجل في القليل والكثير
والحديث الذي ذكرناه حجة عليه وفيه كفاية وأكثر أهل العلم على أن الموضحة
في الرأس والوجه سواء وهو ظاهر المذهب روى ذلك عن ابي بكر وعمر رضي الله
عنهما، وبه قال شريح ومكحول والشعبي والنخعي والزهري وربيعة وأبو حنيفة
والشافعي وإسحاق، وعن أحمد أن في موضحة الوجه عشرة أبعرة روى ذلك عن سعيد
بن المسيب لأن شينها أكثر وموضحة الرأس يسترها الشعر والعمامة وقال مالك:
إذا كانت في أنف أو في اللحي الأسفل ففيها حكومة لأنها تبعد عن الدماغ
فأشبهت موضحة سائر البدن
(9/621)
ولنا عموم الأحاديث وقول ابي بكر وعمر رضي
الله عنهما: الموضحة في الرأس والوجه سواء
ولأنها موضحة فكان أرشها خمساً من الإبل كغيرها مما سلموه ولا عبرة بكثرة
الشين بدليل التسوية بين الكبيرة والصغيرة وما ذكرناه مالك لا يصح فإن
الموضحة في الصدر أكثر ضرراً وأقرب الى القلب ولا مقدر فيها ولأن ما قاله
مخالف لظاهر النص، وقد روي عن أحمد أنه قال موضحة الوجه أحرى أن يزاد في
ديتها وليس معنى هذا أنه يجب فيها أكثر إنما معناه والله أعلم أولى بإيجاب
الدية فإنها إذا وجبت في موضحة الراس مع قلة شينها واستتارها بالشعر وغطاء
الرأس خمس من الإبل فلأن يجب ذلك في الوجه الظاهر الذي هو مجمع المحاسن
وعنوان الجمال أولى وحمل كلام أحمد على هذا أولى من من حمله على ما يخالف
الخبر والأثر وقول أكثر أهل العلم بغير توقيف ولا قياس صحيح (فصل) ويجب أرش
الموضحة في الصغيرة والكبيرة والبارزة والمستورة بالشعر لأن اسم الموضحة
يشمل الجميع وحد الموضحة ما أفضى الى العظم ولو بقدر ابرة ذكره ابن القاسم
والقاضي (فصل) وليس في الموضحة غير الرأس والوجه مقدر في قول أكثر أهل
العلم منهم إمامنا ومالك والثوري والشافعي واسحاق وابن المنذر قال ابن عبد
البر ولا يكون في البدن موضحة يعني ليس فيها مقدر، على ذلك جماعة العلماء
إلا الليث بن سعد قال الموضحة تكون في الجسد ايضاً وقال الأوزاعي
(9/622)
في جراحة الجسد: على النصف من جراحة الرأس،
وحكي نحو ذلك عن عطاء الخراساني قال في الموضحة في سائر الجسد خمسة وعشرون
ديناراً ولنا أن اسم الموضحة انما يطلق على الجراحة المخصوصة في الوجه
والرأس وقول الخليفتين الراشدين الموضحة في الرأس والوجه سواء يدل على أن
باقي الجسد بخلافه ولأن الشين فيما في الراس والوجه اكثر واخطر مما في سائر
البدن فلا يلحق به ثم ايجاب ذلك في سائر البدن يفضي إلى أن يجب في موضحة
العضو أكثر من ديته مثل أن يوضح أنملة ديتها ثلاثة وثلث وية الموضحة خمس
وأما قول الاوزاعي وعطاء الخراساني فتحكم لا نص فيه ولا يقتضيه القياس فيجب
اطراحه (مسألة) (قال عمت الرأس ونزلت إلى الوجه فهل هي موضحة أو موضحتان؟
على وجهين) إذا أوضحه في رأسه ومدها الى وجهه فعلى وجهين (أحدهما) هي موضحة
واحدة لأن الوجه
والرأس سواء في الموضحة فصارا كالعضو الواحد (والثاني) هما موضحتان لأنه
أوضحه في عضوين فكان لكل واحد منهما حكم نفسه كما لو أوضحه في راسه ونزل
الى القفا ذكر شيخنا في الكتاب المشروح قال: إذا عمت الرأس ولم يذكره في
كتابيه المغني والكافي أطلق القول فيما إذا كان بعضها في الرأس وبعضها في
الوجه وان لم تعم الرأس فيها الوجهان وهو الذي يقتضيه الدليل المذكور والله
أعلم (مسألة) (وان أوضحه موضحتين بينهما حاجز فعليه عشرة من الإبل أرش
موضحتين) لأنهما موضحتان فإن خرق ما بينهما أو ذهب بالسراية صارا موضحة
واحدة فيجب ارش موضحة
(9/623)
فصار كما لو أوضح الكل من غير حاجز فإن
اندملتا ثم أزال الحاجز بينهما فعليه أرش ثلاث مواضح لأنه استقر عليه أرش
الأولتين بالاندمال ثم لزمته دية الثالثة وان اندملت إحداهما وزال الحاجز
بفعله او سراية الأخرى فعليه أرش موضحتين (مسألة) (فإن خرقه أجنبي فعلى
الأول أرش موضحتين وعلى الثاني أرش موضحة) لأن فعل احداهما لا يبني على فعل
الآخر فانفرد كل واحد منهما بحكم جنايته وإن أزاله المجني عليه وجب على
الأول أرش موضحتين لأن ما وجب بجنايته لا يسقط بفعل غيره (مسألة) (فإن
اختلفنا فيمن خرقه فالقول قول المجني عليه) إذا قال الجاني أنا شققت ما
بينهما وقال المجني عليه بل أنا أو أزالها آخر سواك كان القول قول المجني
عليه لأن سبب أرش موضحتين قد وجد والجاني يدعي زواله والمجني عليه ينكره
فالقول قول المنكر لأن الأصل معه.
ومثله لو قطع ثلاث اصابع امرأة فعليه ثلاثون من الإبل فإن قطع الرابعة عاد
الى عشرين فإن اختلفا في قاطعها فالقول قول المجني عليه لما ذكرنا وهذا على
مذهبنا لأن عندنا أن جراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى الثلث فإذا زادت
صارت الى النصف (مسألة) (وإن خرق ما بينهما في الباطن بأن قطع اللحم الذي
بينهما وترك الجلد الذي فوقهما ففيها وجهان) (أحدهما) يلزمه أرش موضحتين
لانفصالهما في الظاهر
(9/624)
(والثاني) أرش موضحة لاتصالهما في الباطن،
وإن جرحه جراحاً واحدة أوضحه في طرفها وباقيها دون الموضحة ففيه أرش
موضحتين لأن ما بينهما ليس بموضحة (مسألة) (وإن شج جميع رأسه سمحاقاً إلا
موضعاً منه أوضحه فعليه أرش موضحة) إذا شجه في رأسه شجة بعضها موضحة وبعضها
دون الموضحة لم يلزمه أكثر من أرش موضحة لأنه لو أوضح الجميع لم يلزمه أكثر
من ذلك فلأن لا يلزمه في الإيضاح في البعض أكثر من ذلك أولى وهكذا لو شجه
شجة بعضها هاشمة وباقيها دونها لم يلزمه أكثر من أرش هاشمة، وإن كانت منقلة
وما دونها أو مأمومة وما دونها فعليه أرش منقلة أو مأمومة لما ذكرنا
(مسألة) (ثم الهاشمة وهي التي توضح العظم وتهشمه ففيها عشر من الإبل) سميت
هاشمة لهشمها العظم ولم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها تقدير
وأكثر من بلغنا قوله من أهل العلم على أن أرشها مقدرة بعشر من الإبل روى
ذلك قبيصة بن ذويب عن زيد بن ثابت وبه قال قتادة والشافعي والعنبري ونحوه
قول الثوري وأصحاب الرأي إلا أنهم قدروها بعشر الدية من الدراهم وذلك على
قولهم ألف درهم وكان الحسن لا يوقت فيها شيئاً، وحكي عن مالك أنه قال لا
أعرف الهاشمة لكن في الإيضاح خمس وفي الهشم حكومة قال إبن المنذر والنظر
يدل على قول الحسن إذ لا سنة فيها ولا إجماع ولم ينقل عن النبي صلى الله
عليه وسلم فيها تقدير فوجبت فيها الحكومة كما دون الموضحة
(9/625)
ولنا قول زيد ومثل ذلك الظاهر أنه توقيف
ولأنه لا يعرف له مخالف في عصره ولأنها شجة فوق الموضحة تختص باسم فكان
فيها مقدر كالمأمومة (فصل) والهاشمة في الوجه والرأس خاصة كما ذكرنا في
الموضحة فإن هشمه هاشمتين بينهما حاجز ففيهما عشرون من الإبل على ما ذكرنا
من التفصيل في الموضحة وتنوى الهاشمة الصغيرة والكبيرة كالموضحة وان شجه
شجة بعضها موضحة وبعضها هاشمة وبعضها سمحاق وبعضها متلاحمة وجب أرش الهاشمة
لأنه لو كان جميعها هاشمة أجزأ أرشها ولو انفرد القدر المهشوم وجب أرشها
فلا ينتقص ذلك بما زاد من الأرش في غيرها
(مسألة) (فإن ضربه بمنقل فهشمه من غير أن يوضحه ففيه حكومة ولا تجب دية
الهاشمة بغير خلاف) لأن الأرش المقدر وجب في هاشمة معها موضحة وفي الواجب
فيها وجهان (أحدهما) حكومة لأنه كسر عظم لا جرح معه فأشبه كسر قصبة الأنف
(والثاني) فيها خمس من الإبل لأنه لو أوضح وهشم لوجب عشر خمس في الإيضاح
وخمس في الهشم فإذا وجد أحدهما وجب خمس كالإيضاح وحده (فصل) فإن أوضحه
موضحتين هشم العظم في كل واحدة منهما واتصل الهشم في الباطن فهما
(9/626)
هاشمتان لأن الهشم إنما يكون تبعاً للإيضاح
فإذا كانتا موضحتين كان الهشم هاشمتين بخلاف الموضحة فإنها ليست تبعاً
لغيرها فافترقا (مسألة) (ثم المنقلة وهي التي توضح وتهشم وتنقل عظامها
وفيها خمس عشرة من الإبل) المنقلة زائدة على الهاشمة وهي التي تكسر العظام
وتزيلها عن مواضعها فيحتاج الى نقل العظم ليلتئم وفيها خمس عشرة من الإبل
بإجماع من أهل العلم حكاه ابن المنذر وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم
لعمرو بن حزم " وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل " وفي تفصيلها ما في تفصيل
الموضحة والهاشمة على ما مضى (مسألة) (ثم المأمومة وهي التي تصل الى جلدة
الدماغ وتسم أم الدماغ وتسمى المأمومة آمة) قال ابن عبد البر أهل العراق
يقولون الآمة وأهل الحجاز المأمومة وهي الجراحة الواصلة الى أم الدماغ وهي
جلدة فيها الدماغ تسمى أم الدماغ لأنها تحوطه وتجمعه فإذا وصلت الجراحة
اليها سميت آمة ومأمومة وأرشها ثلث الدية في قول عامة أهل العلم إلا
مكحولاً فإنه قال إن كانت عمداً ففيها ثلثا الدية وإن كانت خطأ ففيها ثلثها
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم " وفي المأمومة ثلث
الدية " وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وروي نحوه عن علي
ولأنها شجة فلم يختلف ارشها بالعمد والخطأ في المقدار كسائر
(9/627)
الشجاج، ثم الدامغة وهي التي تجرح الجلد
ففيها ما في المأمومة، قال القاضي لم يذكر أصحابنا الدامغة لمساواتها
المأمومة في ارشها وقيل فيها مع ذلك حكومة لخرق جلدة الدماغ ويحتمل أنهم
تركوا ذكرها لكونها لا يسلم صاحبها في الغالب (فصل) فإن أوضحه رجل ثم هشمه
الثاني ثم جعلها الثالث منقلة ثم جعلها الرابع مأمومة فعلى الأول ارش موضحة
وعلى الثاني خمس تمام أرش الهاشمة وعلى الثالث خمس تمام أرش المنقلة وعلى
الرابع ثمانية عشر وثلث تمام أرش المأمومة (فصل) وفي الجائفة ثلث الدية وهي
التي تصل الى باطن الجوف من بطن أو ظهر أو صدر او نحر وهذا قول عامة أهل
العلم منهم أهل المدينة والكوفة وأهل الحديث وأصحاب الرأي إلا مكحولاً قال
فيها في العمد ثلثا الدية ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو
بن حزم " وفي الجائفة ثلث الدية " وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
مثل ذلك ولانهما جراحة فيها مقدر فلم يختلف قدر ارشها بالعمد والخطأ
كالموضحة ولا نعلم في جراح البدن الحالية عن قطع الأعضاء وكسر العظام
مقدراً غير الجائفة، وذكر ابن عبد البر ان مالكا وأبا حنيفة والشافعي والتى
واصحابهم اتفقوا على أن الجائفة لا تكون إلى في الجوف وقال ابن القاسم
الجائفة ما أفضى الى الجوف ولو بمغرز إبرة
(9/628)
(فصل) وإن أجافه جائفتين بينهما حاجز فعليه
ثلثا الدية وان خرق الجاني ما بينهما أو ذهب بالسراية صارا جائفة واحدة
فيها ثلث الدية لا غير، وإن خرق ما بينهما اجنبي او المجني عليه فعلى الأول
ثلثا الدية وعلى الأجنبي الثاني ثلثها ويسقط ما قابل فعل المجني عليه، وإن
احتاج الى خرق ما بينهما للمداواة فخرقها المجني عليه أو غيره بأمره أو
خرقها ولي المجني عليه لذلك أو الطبيب بأمره فلا شئ عليه في خرق الحاجز
وعلى الأول ثلثا الدية (مسألة) (وإن خرقه من جانب فخرج من الجانب الآخر فهي
جائفتان) هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء وقتادة ومجاهد ومالك والشافعي
وأصحاب الرأي قال
ابن عبد البر لا أعلمهم يختلفون في ذلك وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أنه قال
هي جائفة واحدة وحكي أيضاً عن أبي حنيفة لأن الجائفة هي التي تنفذ من ظاهر
البدن الى الجوف وهذه الثانية انما نفذت من الباطن الى الظاهر ولنا ما روى
سعيد بن المسيب ان رجلاً رمى رجلاً بسهم فأنفذه فقضى ابو بكر رضي الله عنه
بثلثي الدية ولا مخالف له فيكون إجماعاً أخرجه سعيد بن منصور في سننه وروي
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر رضي الله عنه قضى في الجائفة إذا
نفذت الى الجوف بأرش جائفتين ولأنه أنفذه من موضعين فكان جائفتين كما لو
أنفذه بضربتين، وما ذكروه لا يصح فإن الاعتبار بوصول الجرح الى
(9/629)
الجوف لا بكيفية ايصاله إذ لا أثر لصورة
لفعل مع التساوي في المعنى ولأن ما ذكروه من الكيفية ليس بمذكور في خبر
وانما الغالب والعادة وقوع الجائفة هكذا فلا يعتبر كما أن العادة والغالب
حصولها بالحديد ولو حصلت بغيره لكانت جائفة ثم ينتقض ما ذكروه بما لو أدخل
يده في جائفة انسان فخرق بطنه من موضع آخر فإنه يلزمه أرش جائفة بغير خلاف
نعلمه ولذلك يخرج فيمن أوضح إنساناً في رأسه ثم أخرج رأس السكين من موضع
آخر فهي موضحتان وإن هشمه هاشمة لها مخرجان فهي هاشمتان وكذلك ما أشبهه
(فصل) فإن أدخل اصبعه في فرج بكر فأذهب بكارتها فليس بجائفة لأن ذلك ليس
بجوف (مسألة) (وان طعنه في خده فوصل إلى فيه ففيه حكومة) لأن باطن الفم
حكمه حكم الظاهر لا حكم الباطن ويحتمل أن تكون جائفة لان جرح وصل الى جوف
مجوف فأشبه ما لو وصل إلى البطن (فصل) فإن طعنه في وجنته فكسر العظم ووصل
الى فيه فليس بجائفة لما ذكرنا وقال الشافعي في أحد قوليه هو جائفة لأنه قد
وصل الى جوف وقد ذكرنا أن باطن الفم في حكم الظاهر بخلاف الجوف، فعلى هذا
يكون عليه دية هاشمة لكسر العظم وفيما زاد حكومة، وان جرحه في أنفه فأنفذه
فهو كما لو جرح في وجنته فأنفذه الى فيه في الحكم والخلاف، وان جرحه في
ذكره فوصل الى مجرى البول من الذكر فليس بجائفة لأنه ليس بجوف يخاف التلف
من الوصول إليه بخلاف غيره
(مسألة) (وإن جرحه في وركه فوصل الجرح إلى جوفه او أوضحه فوصل الجرح إلى
قفاه فعليه دية جائفة وموضحة وحكومة لجرح القفا والورك)
(9/630)
إذا جرحه في فخذه ومد السكين حتى بلغ الورك
فأجافه فيه أو جرح الكتف ومد السكين حتى بلغ الصدر فأجافه فيه فعليه أرش
الجائفة وحكومة في الجرح لأن الجرح في غير موضع الجائفة فانفردت بالضمان
كما لو لم يكن معها جائفة، وأن أوضحه فوصل الى قفاه فعليه دية موضحة لأنه
أوضحه وعليه حكومة لجرح القفا كما لو انفرد (مسألة) (وان أجافه ووسع آخر
الجرح فهما جائفتان وعلى كل واحد منهما أرش جائفة) لأن فعل كل واحد منهما
لو انفرد كان جائفة فلا يسقط حكمه بانضمامه الى فعل غيره لأن فعل الإنسان
لا ينبني على فعل غيره، وإن وسعها الطبيب بإذنه أو إذن وليه فلا شئ عليه
(مسألة) (وإن وسع ظاهره دون باطنه أو باطنه دون ظاهره فعليه حكومة) لأن
جنايته لم تبلغ الجائفة (فصل) وإن أدخل السكين في الجائفة ثم أخرجها عزر
ولا شئ عليه وإن خاطها فجاء آخر فقطع الخيط وأدخل السكين فيها قبل أن تلتحم
عزر أشد من التعزير الذي قبله وغرم ثمن الخيوط وأجر الخياط ولم يلزمه أرش
جائفة لأنه لم يجفه (مسألة) (وإن التحمت الجائفة ففتحها آخر فهي جائفة أخرى
عليه أرشها) لأنه عاد إلى الصحة فصار كالذي لم يجرح وان التحم بعضها دون
بعض ففتق ما التحم فعليه أرش جائفة لما ذكرنا، وإن فتق غير ما التحم فليس
عليه أرش الجائفة وحكمه حكم من فعل مثل فعله قبل
(9/631)
أن يلتحم منها شئ، وان فتق بعض ما التحم في
الظاهر دون الباطن أو الباطن دون الظاهر فعليه حكومة كما لو وسع جرحه كذلك
(فصل) ومن وطئ زوجته وهي صغيرة ففتقها لزمه ثلث الدية، ومعنى الفتق خرق ما
بين مسلك البول والمني وقيل بل معناه خرق ما بين القبل والدبر إلا ان هذا
بعيد لأنه يبعد أن يذهب بالوطئ
ما بينهما من الحاجز فإنه حاجز غليظ قوي.
والكلام في ذلك في أمرين (احدهما) في أصل وجوب الضمان (والثاني) في قدره
أما الأول فإن الضمان إنما يجب بوطئ الصغيرة أو النحيفة التي لا تحمل الوطئ
دون الكبيرة التحملة له وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي يجب الضمان في
الجميع لأنه جناية فيجب الضمان به كما لو كان في أجنبية ولنا أنه وطئ مستحق
فلم يجب ضمان ما تلف به كالبكارة ولأنه فعل مأذون فيه ممن يصح إذنه فلم
يضمن ما تلف بسرايته كما لو أذنت في مداواتها بما يفضي إلى ذلك، وكقطع
السارق واستيفاء القصاص وعكسه الصغيرة والمكرهة على الزنا.
إذا ثبت هذا فإنه يلزمه المهر المسمى في النكاح مع أرش الجناية ويكون أرش
الجناية في ماله إن كان عمداً محضاً وهو أن يعلم أنها لا تطيقه وإن وطأه
يفضيها، فأما ان علم ذلك وكان مما يحتمل أن لا يفضي اليه فهو عمد الخطأ
فيكون عاقلته إلا على قول من قال إن العاقلة لا تحمل عمد الخطأ فيكون في
ماله (الثاني) في قدر الواجب وهو ثلث الدية وبه قال قتادة
(9/632)
وأبو حنيفة وقال الشافعي تجب الدية كاملة
وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز لأنه أتلف منفعة الوطئ فلزمته الدية كما لو
قطع إسكتيها ولنا ما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في الإفضاء
بثلث الدية ولم نعرف له في الصحابة مخالفاً ولأن هذه جناية تخرق الحاجز بين
مسلك البول والذكر فكان موجبها ثلث الدية كالجائفة ولا نسلم أنها تمنع
الوطئ وأما قطع الإسكتين فإنما أوجب الدية لأنه قطع عضوين فيهما نفع وجمال
فأشبه الشفتين (فصل) فإن استطلق بولها مع ذلك لزمته دية من غير زيادة وبهذا
قال أبو حنيفة وقال الشافعي تجب دية وحكومة لأنه فوت منفعتين فلزمه أرشهما
كما لو فوت كلامه وذوقه ولنا أنه إتلاف عضو واحد لم يفت غير منافعه فلم
يضمنه بأكثر من دية واحدة كما لو قطع لسانه فذهب ذوقه وكلامه وما قاله لا
يصح لأنه لو أوجب دية المنفعتين لأوجب ديتين لأن استطلاق البول موجب لدية
والإفضاء عنده موجب للدية منفرداً ولم يقل به وإنما أوجب الحكومة ولم يوجد
مقتضيها فإنا لا نعلم أحدا أوجب في الإفضاء حكومة فإن اندمل الحاجز وانسد
وزال الافضاء لم يحدث ثلث
الدية ووجبت حكومة لجبر ما حصل من النقص
(9/633)
(فصل) وإن أكره امرأة على الزنا فأفضاها
لزمه ثلث ديتها ومهر مثلها لانه حصل بوطئ غير مستحق ولا مأذون فيه فلزمه
ضمان ما تلف به كسائر الجنايات وهل يلزمه أرش البكارة مع ذلك؟ فيه روايتان
(إحداهما) لا يلزمه لأن أرش البكارة داخل في مهر المثل فإن مهر البكر أكثر
من مهر الثيب فالتفاوت بينهما هو أرش عوض البكارة فلم يضمنه مرتين كما في
حق الزوجة (والثانية) يضمنه لأنه محل اتلفه بعدوانه فلزمه أرشه كما لو
أتلفه بأصبعه فأما المطاوعة على الزنا إذا كانت كبيرة ففتقها فلا ضمان عليه
في فتقها وقال الشافعي يضمن لأن المأذون فيه الوطئ دون الفتق فأشبه كما لو
قطع يدها ولنا أنه ضرر حصل من فعل مأذون فيه فلم يضمنه كأرش بكارتها ومهر
مثلها وكما لو أذنت في قطع يدها فسرى القطع إلى نفسها وفارق ما إذا أذنت في
وطئها فقطع يدها لأن ذلك ليس من المأذون فيه ولا من ضرورته.
(فصل) وإن وطئ امرأة بشبهة فافضاها فعليه أرش إفضائها مع مهر مثلها لأن
الفعل إنما أذن فيه اعتقاداً أن المستوفي له هو المستحق فإذا كان غيره ثبت
في حقه وجوب الضمان لما أتلف كما لو أذن في أخذ الدين لمن يعتقد أنه مستحقه
فبان أنه غيره وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يجب لها أكثر الأمرين من
مهر مثلها أو أرش إفضائها لأن الإرش لإتلاف العضو فلا يجمع بين ضمانه وضمان
منفعته كما لو قلع عيناً
(9/634)
ولنا أن هذه جناية تنفك عن الوطئ فلم يدخل
بدله فيها كما لو كسر صدرها وما ذكره غير صحيح فإن المهر يجب لاستيفاء
منفعة البضع والأرش يجب لإتلاف الحاجز فلا تدخل المنفعة فيه (فصل) وإن
استطلق بول المكرهة على الزنا والموطوءة بشبهة مع افضائها فعليه ديتهما
والمهر وقال أبو حنيفة في الموطوءة بشبهة لا يجمع بينهما ويجب أكثرهما وقد
سبق الكلام معه في ذلك (فصل) وفي الضلع بعير وفي الترقوتين بعيران روى سعيد
عن مطر عن قتادة عن سليمان بن عمر
وسفيان عن زيد بن أسلم عن أسلم عن عمر في الضلع جمل والترقوة جمل وقال
الخرقي في الترقوة بعيران فظاهر قوله أن في كل ترقوة بعيرين فيكون في
الترقوتين أربعة أبعرة وهذا قول زيد بن ثابت والترقوة العظم المستدير حول
العنق من النحر الى الكتف ولكل واحد ترقوتان وقال القاضي المراد بقول
الخرقي الترقوتان معاً وإنما اكتفى بلفظ الواحد لإدخال الألف واللام
المقتضية للاستغراق فيكون في كل ترقوة بعير وهذا قول عمر رضي الله عنه وبه
قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعبد الملك بن مروان وسعيد بن جبير وقتادة
وإسحاق وهو قول للشافعي والمشهور من قوله عند أصحابه ان في كل واحد مما
ذكرنا حكومة وهو قول مسروق وأبي حنيفة ومالك وابن المنذر لأنه عظم باطن لا
يختص بجمال ومنفعة فلم يجب فيه أرش مقدر كسائر أعضاء البدن ولأن التقدير
إنما يكون بتوقيف أو قياس صحيح وليس في هذا توقيف ولا قياس وروي عن الشعبي
أن في الترقوة أربعين ديناراً وقال عمرو بن
(9/635)
شعيب في الترقوتين الدية وفي احداهما نصفها
لأنهما عضوان ومنفعة وليس في البدن غيرهما من جنسهما فكملت فيها الدية
كاليدين ولنا قول عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهما وما ذكروه ينتقض
بالهاشمة فإنها كسر عظام باطنة وفيها مقدر ولا يصح قولهم إنها لا تختص
بجمال ومنفعة فإن جمال هذه العظام ونفعها لا يوجد في غيرها ولا مشارك لها
فيه وأما قول عمرو بن شعيب فمخالف للإجماع فإنا لا نعلم أحداً قبله ولا
بعده وافقه فيه (مسألة) (وفي كل واحد من الذراع والزند والعضد والساق
بعيران) قال القاضي في الزند أربعة أبعرة لأن فيها اربعة عظام ففي كل عظم
بعير وهذا يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال أبو حنيفة ومالك
والشافعي فيه حكومة لما تقدم ولنا ما روى سعيد ثنا هشيم أنا يحيى بن سعيد
عن عمرو بن شعيب أن عمرو بن العاص كتب الى عمر في أحد الزندين إذا كسر فكتب
اليه عمر ان فيه بعيرين، وإذا كسر الزندين ففيهما أربعة من الإبل ورواه
أيضاً من طريق آخر مثل ذلك وهذا لم يظهر له مخالف في الصحابه فكان إجماعاً
(فصل) ولا مقدر في غير هذه العظام في ظاهر قول الخرقي وهو قول أكثر أهل
العلم وقال
القاضي في عظم الساق بعيران وفي الساقين أربعة أبعرة وفي الفخذ بعيران وفي
الفخذين أربعة أبعرة فهذه تسعة عظام فيها مقدر الضلع والترقوتان والزندان
والساقان والفخذان وما عداهما لا مقدر فيه
(9/636)
وقال ابن عقيل وابو الخطاب وجماعة من أصحاب
القاضي في كل واحد من الذراع والعضد بعيران وزاد ابو الخطاب عظم القدم لما
روى سليمان بن يسار ان عمر قضى في الذراع والفخذ والساق والزند إذا كسر
واحد منهما فجبر ولم يكن به دحور يعني عوجاً بعير وإن كان فيها دحور فبحساب
ذلك وهذا الخبر ان صح فهو مخالف لما ذهبوا اليه فلا يصلح دليلاً عليه قال
شيخنا: والصحيح إن شاء الله أنه لا تقدير في غير الخمس الضلع والترقوتين
والزندين لأن التقدير إنما يثبت بالتوقيف ومقتضى الدليل وجوب الحكومة في
هذه العظام الباطنة كلها وإنما خالفناه في هذه العظام لقضاء عمر رضي الله
عنه ففي ما عداه يبقى على مقتضى الدليل (مسألة) (وما عدا ما ذكرنا من
الجروح وكسر العظام مثل خرزة الصلب والعصعص ففيه الحكومة) ولا نعلم فيها
مخالفاً، وان خالف فيها أحد فهو قول شاذ لا يستند الى دليل يعتمد عليه ولا
يصار اليه وخرزة الصلب ان أريد بها كسر الصلب ففيه الدية وقال القاضي فيه
حكومة وهو مذهب الشافعي وقد ذكرناه (مسألة) (والحكومة ان يقوم المجني عليه
كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت فما نقص فله مثله من الدية
فإن كان قيمته وهو صحيح عشرون وقيمته وبه الجناية تسعة عشر ففيه نصف عشر
ديته)
(9/637)
وهذا الذي ذكره في تفسير الحكومة قول أهل
العلم لا نعلم بينهم فيه خلافاً، وبه قال الشافعي والعنبري وأصحاب الرأي
وغيرهم، قال إبن المنذر: كل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن معنى قولهم
حكومة أن يقال اذا أصيب الإنسان بجرح لا عقل له معلوم كم قيمة هذا الجرح لو
كان عبداً لم يجرح هذا الجرح؟ فإذا قيل مائة دينار قيل وكم قيمته وقد أصابه
هذا الجرح وانتهى برؤه؟ قيل خمسة وتسعون فالذي يجب على الجاني نصف عشر
الدية وان قالوا تسعون فعشر الدية وان زاد أو نقص فعلى هذا المثال وإنما
كان كذلك لأن جملته مضمونة بالدية فأجزاؤه مضمونة منها كما أن البيع لما
كان مضموناً على البائع بالثمن كان
أرش عيبه مقدراً من الثمن فيقال كم قيمته لا عيب فيه؟ فإذا قالوا عشرة
فيقال كم قيمته وفيه العيب؟ فإذا قيل تسعة علم أنه نقص عشر قيمته فيجب ان
يرد من الثمن عشرة أي قدر كان ونقدره عبداً ليمكن تقويمه ويجعل العبد اصلاً
للحر فيما لا موقت فيه والحر أصلا للعبد فيما فيه توقيت في المشهور من
المذهب.
(مسألة) إلا أن يكون في شئ فيه مقدر فلا يبلغ به أرش المقدر فإن كانت في
الشجاج التي دون الموضحة لم يبلغ بها أرش الموضحة فلو جرحه في وجهه سمحاقاً
فنقصته عشر قيمته فمقتضى الحكومة وجوب عشر من الإبل ودية الموضحة خمس)
(9/638)
فههنا يعلم غلظ المقوم لأن الجراحة لو كانت
موضحة لم يزد على خمس مع أنها سمحاق وزيادة عليها فلأن لا يجب في بعضها
زيادة على خمس أولى وهذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول الشافعي وأصحاب
الرأي، وحكي عن مالك انه يجب ما تخرجه الحكومة كائناً ما كان لأنها جراحة
لا مقدر فيها فوجب فيها ما نقص كما لو كانت في سائر البدن ولنا أنها بعض
الموضحة لأنه لو أوضحه لقطع ما قطعته هذه الجراحة ولا يجوز أن يجب في بعض
الشئ أكثر مما يجب فيه ولأن الضرر في الموضحة أكبر والشين أعظم والمحل واحد
فإذا لم يزد أرش الموضحة على خمس كان ذلك تنبيهاً على أن لا يزاد ما دونها
عليها واما سائر البدن فما كان فيه موقت كالأعضاء والعظام المعلومة
والجائفة فلا يزاد جرح عظم على ديته مثاله جرح أنملة فبلغ أرشها بالحكومة
خمساً من الإبل فإنه يرد الى دية الأنملة وإن كان في اصبع فبلغ ما زاد على
العشر بالحكومة رد الى العشر وإن جنى عليه في جوفه دون الجائفة لم يزد على
أرش الجائفة وما لم يكن كذلك وجب ما أخرجته الحكومة لأن المحل مختلف فإن
قيل فقد وجب في بعض البدن أكثر مما وجب في جميعه ووجب في منافع اللسان أكثر
من الواجب فيه قلنا إنما وجبت دية النفس دية عن الروح وليست الأطراف بعضها
بخلاف مسئلتنا هذا ذكره القاضي ويحتمل كلام الخرقي إن يختص امتناع الزيادة
بالرأس والوجه لقوله إلا أن تكون الجناية في وجه أو رأس فلا يجاوز به أرش
الموقت
(9/639)
(فصل) إذا خرجت الحكومة في شجاج الرأس التي
دون الموضحة قدر أرش الموضحة أو زيادة عليه فظاهر كلام الخرقي أنه يجب أرش
الموضحة وقال القاضي يجب أن ينقص عنها شيئاً على حسب ما يؤدي اليه الاجتهاد
وهذا مذهب الشافعي وهو الذي ذكره شيخنا في كتاب الكافي المقنع لئلا يجب في
بعضها ما يجب في جميعها ووجه قول الخرقي أن مقتضى الدليل وجوب ما اخرجته
الحكومة وانما سقط الزائد على أرش الموضحة لمخالفته النص أو تنبيه النص
ففيما لم يزد يجب البقاء على الأصل ولأن ما ثبت بالتنبيه يجوز ان يساوي
المنصوص عليه في الحكم ولا يلزم ان يزيد عليه كما انه لما نص على وجوب فدية
الأدنى في حق العذور لم يلزم زيادتها في حق من لا عذر له ولا يمنع أن يجب
في البعض ما يجب في الكل بدليل وجوب دية الأصابع مثل دية اليد كلها وفي
حشفة الذكر مثل ما في جميعه فإن قيل هذا وجب بالتقدير الشرعي لا بالتقويم
قلنا إذا ثبت الحكم بنص الشارع لم يمتنع ثبوت مثله بالقياس عليه والاجتهاد
ما يؤدي إليه وفي الجملة فالحكومة دليل على ترك العمل بها في الزائد لمعنى
مقصود في المساوي فيجب العمل بها لعدم المعارض ثم وان صح ما ذكروه فينبغي
أن ينقص ادنى ما تزول به المساواة المحدودة ويجب الباقي عمد بالدليل الموجب
له (فصل) ولا يكون التقويم إلا بعد برء الجرح لأن ارش الجرح المقدر أنما
يستقر بعد برئه (مسألة) فإن كانت الجراحة مما لا تنقص شيئاً بعد الاندمال
مثل ان قطع اصبعاً زائدة أو يداً او
(9/640)
قطع لحية امرأة فلم ينقصه ذلك بل زاده
حسناً فالجاني محسن بجنايته فلم يضمن كما لو قطع سلعة أو تؤلولا أو بط
خراجا ويحتمل أن يضمن قال القاضي نص أحمد على هذا لأن هذا جزء من مضمون فلم
يعر عن ضمان كما لو اتلف مقدر الأرش فزاد به جمالاً أو لم ينقصه شيئاً،
فعلى هذا يقوم في أقرب الأحوال الى البرء لأنه لما سقط اعتبار قيمته بعد
برئه قوم في أقرب الأحوال اليه كولد المغرور لما تعذر تقويمه في البطن قوم
عند الوضع لأنه أقرب الأحوال التي أمكن تقويمه الى كونه في البطن (مسألة)
(فإن لم ينقص في تلك الحال قوم حال جريان الدم) لانه لابد من نقص للخوف
عليه ذكره القاضي ولأصحاب الشافعي وجهان كما ذكرنا وتقوم
لحية المرأة كأنها لحية رجل في حال تنقصه ذهاب لحية وان أتلف سناً زائدة
قوم وليست له سن زائدة ولا خلفها اصلية ثم يقوم وقد ذهبت الزائدة فإن كانت
المرأة اذا قدرناها ابن عشرين نقصها ذهاب
(9/641)
لحيتها يسيراً وإن قدرناها ابن اربعين
نقصها كثيراً قدرناها ابن عشرين لأنه أقرب الأحوال الى حال المجني عليه
فأشبه تقويم الجرح الذي لا ينقص بعد الاندمال فإننا نقرمه في أقرب أحوال
النقص الى حال الاندمال والأول أصح إن شاء الله تعالى فإن هذا لا مقدر فيه
ولم ينقص شيئاً فأشبه الضرب وتضمين النقص الحاصل حال جريان الدم إنما هو
تضمين الخوف عليه وقد زال فأشبه ما لو لطمه فاصفر وجه حالة اللطمة أو احمر
ثم زال وتقدير المرأة رجلاً لا يصح لأن اللحية زين للرجل وعيب في المرأة
وتقدير ما يعيب بما يزين لا يصح وكذلك تقدير السن في حالة يراد زوالها
بحالة يكره لا يجوز فإن الشئ يقدر بنظيره ويقاس على مثله لا على ضده ومن
قال بهذا الوجه فإنما يوجب أدنى ما يمكن ايجابه وهو أقل نقص يمكن تقديره
(فصل) فإن لطمه على وجهه فلم يؤثر في وجهه فلا ضمان لأنه لم ينقص به جمال
ولا منفعة ولم يكن له حال ينقص فيها فلم يضمنه كما لو شتمه
(9/642)
(باب العاقلة وما تحلمه) (عاقلة الإنسان
عصباته كلهم قريبهم وبعيدهم من النسب والولاء إلا عمودي نسبه آباؤه وأبناؤه
وعنه أنهم من العاقلة أيضاً) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في العاقلة
فروي عنه أنهم جميع العصبات من النسب والولاء يدخل فيهم الآباء والأبناء
والإخوة وسائر العصبات من العمومة وأبنائهم اختاره أبو بكر والشريف أبو
جعفر، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال
قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا
يرثون منها شيئاً إلا ما فضل عن ورثتها وإن قتلت فعقلها بين ورثتها، رواه
أبو داود ولأنهم عصبة فأشبهوا سائر العصبات، يحققه ان العقل
موضوع على التناصر وهم من أهله ولأن العصبة في تحمل العقل كهم في الميراث
في تقديم الأقرب فالأقرب وأبناؤه وآباؤه أحق العصبات بميراثه فكانوا أولى
بتحمل عقله، وفيه رواية ثانية أن الآباء والأبناء ليسوا من العاقلة وهو قول
الشافعي لما روى أبو هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى
بحجر فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم متفق
عليه وفي رواية ثم ماتت القاتلة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثها
لبنيها والعقل
(9/643)
على العصبة وفي رواية عن جابر بن عبد الله
قال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلتها وبرأ
زوجها وولدها قال فقالت عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم " ميراثها لزوجها وولدها " رواه أبو داود.
إذا ثبت هذا في الأولاد قسنا عليه الوالد لانه معناه ولأن مال ولده ووالده
كما له ولهذا لم تقبل شهادتهم له ولا شهادته لهم ووجب على كل واحد منهم
الإنفاق على الآخر إذا كان محتاجاً والآخر موسراً فلا يجب في ماله دية كما
لو تجب في مال القاتل وفيه رواية ثالثة أن الإخوة ليسوا من العاقلة كالوالد
والولد وهي ظاهر كلام الخرقي، وغيره من اصحابنا يجعلونهم من العاقلة بكل
حال ولا نعلم عن غيرهم خلافهم (فصل) فإن كان الولد ابن ابن عم أو كان
الوالد والولد، مولى أو عصبة مولى فإنه يعقل في ظاهر كلام أحمد قاله القاضي
وقال أصحاب الشافعي لا يعقل لأنه والد وولد فلم يعقل كما لو لم يكن كذلك
ولنا أنه ابن ابن عم أو مولى فيعقل كما لو لم يكن ولداً وذلك لأن هذه
القرابة أو الولاء سبب يستقل بالحكم منفردا فإذا وجد مع ما لا يثبت الحكم
أثبته كما لو وجد مع الرحم المجرد ولأنه يثبت حكمه في القرابة الأخرى بدليل
أنه يلي نكاحها مع أن الابن لا يلي النكاح عندهم.
(فصل) وسائر العصبات من العاقلة بعدوا أو قربوا من النسب والمولى وعصبته
وبهذا قال عمر ابن عبد العزيز والنخعي وحماد ومالك والشافعي ولا أعلم عن
غيرهم خلافهم وذلك لأنهم عصبة يرثون المال إذا لم يكن وارث اقرب منهم
فيدخلون في العقل كالقريب، ولا يعتبر ان يكونوا وارثين في الحال بل
(9/644)
متى كانوا يرثون لولا الحجب عقلوا لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية بين عصبة المرأة من كانوا لا يرثون
منها إلا ما فضل عن ورثتها ولأن الموالي من العصبات فأشبهوا المناسبين.
(فصل) العاقلة من يحمل العقل والعقل الدية سميت عاقلة لأنها تعقل لسان ولي
المقتول وقيل إنما سميت العاقلة لأنهم يمنعون عن القاتل والمنع العقل ولهذا
سمي بعض العلوم عقلاً لأنه يمنع من الإقدام من المضار، ولا خلاف بين أهل
العلم في أن العاقلة العصبات وان غيرهم من الإخوة من الأم وسائر ذوي
الأرحام والزوج وكل من عد العصبات ليسوا من العاقلة ولا يعقل المولى من
أسفل وبه قال أبو حنيفة واصحاب مالك وقال الشافعي في أحد قوليه يعقل لأنهما
شخصان يعقل أحدهما صاحبه فيعقل الآخر عنه كالآخرين ولنا أنه ليس بعصبة له
ولا وارث فلم يعقل عنه كالأجنبي وما ذكروه يبطل بالذكر مع الانثى والصغير
مع الكبير والعاقل مع المجنون (فصل) ولا يعقل مولى الموالاة وهو الذي يوالي
رجلاً يجعل له ولاءه ونصرته، ولا الحليف وهو الرجل يحالف آخر على أن
يتناصرا على دفع الظلم ويتضافرا على من قصدهما او قصد أحدهما ولا العديد
وهو الذي لا عشيرة له ينضم الى العشيرة فيعد نفسه وبهذا قال الشافعي، وقال
أبو حنيفة يعقل مولى الموالاة ويرث وقال مالك إذا كان الرجل في غير عشيرته
فعقله على القوم الذين هو معهم
(9/645)
ولنا أنه معنى يتعلق بالتعصيب فلا يستحق
بذلك كولاية النكاح (فصل) ولا مدخل لأهل الديوان في العاقلة وبهذا قال
الشافعي وقال أبو حنيفة يتحملون جميع الدية فإن عدموا فالاقارب حنيئذ
يعقلون لأن عمر رضي الله عنه جعل الدية على اهل الديوان في الأعطية الى
ثلاث سنين.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على عصبة القاتلة ولانه معنى
لا يستحق به الميراث فلم يحمل به العقل كالجوار واتفاق المذاهب وقضاء النبي
صلى الله عليه وسلم أولى من قضاء عمر على أنه صح ما ذكر عنه فيحتمل انهم
كانوا عشيرة القاتل.
(مسألة) (وليس على فقير ولا صبي ولا زائل العقل ولا امرأة ولا خنثى مشكل
ولا رقيق ولا مخالف لدين الجاني حمل شئ من الدية وعنه أن الفقير يحمل من
العقل)
أكثر أهل العلم على أنه لا مدخل لأحد من هؤلاء في تحمل العقل قال إبن
المنذر أجمع كل من تحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة والصبي الذي لم
يبلغ لا يعقلان مع العاقلة واجمعوا على الفقير لا يلزمه شئ وهذا قول مالك
والشافعي وأصحاب الرأي وحكى بعض اصحابنا عن مالك وأبي حنيفة أن للفقير
مدخلاً في التحمل وعن أحمد مثل ذلك وحكاها ابو الخطاب لأنه من أهل النصرة
فكان من العاقلة كالنثي، والصحيح الأول لأن تحمل العقل مواساة فلا تلزم
الفقير
(9/646)
كالزكاة ولأنها وجبت على العاقلة تخفيفاً
على العاقل فلا يجوز التثقيل بها على من لا جناية منه وفي إيجابها على
الفقير تثقيل عليه وتكليف له ما لا يقدر عليه ولأننا اجمعنا على أنه لا
يكلف أحد من العاقلة ما يثقل عليه ويجحف به وتحميل الفقير شيئاً منها يثقل
عليه ويجحف بماله وربما كان الواجب عليه جميع ماله أو أكثر منه أو لا يكون
له شئ اصلاً، واما الصبي والمجنون والمرأة فلا يحملون منها لأن فيها معنى
التناصر وليس هم من أهل النصرة وكذلك المخالف في الدين ليس هو من أهل
النصرة أيضاً (مسألة) (ويحمل الغائب كما يحمل الحاضر) وبهذا قال أبو حنيفة
وقال مالك يختص به الحاضر لأن التحمل بالنصرة وانما هي من الحاضرين ولأن في
قسمه على الجميع مشقة وعن الشافعي كالمذهبين ولنا الخبر وانهم استووا في
التعصيب والإرث فاستووا في تحمل العقل كالحاضرين ولأنه معنى يتعلق بالتعصيب
فاستوى فيه الحاضر والغائب كالميراث والولاية (فصل) ويعقل المريض اذا لم
يبلغ حد الزمانة، والشيخ اذا لم يبلغ حد الهرم لأنهما من اهل النصرة
والمواساة، وفي الزمن والشيخ والفاني وجهان (أحدهما) لا يعقلان لأنهما ليسا
من أهل النصرة ولهذا لا يجب عليهما الجهاد ولا يقنلان اذا كانا من أهل
الحرب، وكذلك يخرج في الأعمى لأنه مثلهما في هذا المعنى (والثاني) يعقلون
لأنهم من أهل المواساة ولهذا تجب عليهم الزكاة وهذا منتقض بالصبي والمجنون
ومذهب الشافعي كمذهبنا
(9/647)
(مسألة) (وخطأ الإمام والحاكم في احكامه في
بيت المال وعنه على عاقلته) لأن خطأه يكثر في احكامه فإيجاب ما يجب به على
عاقلته يجحف بهم، وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة واسحاق ولأن الإمام
والحاكم نائب عن الله تعالى في احكامه وأفعاله فكان أرش جنايته في مال الله
سبحانه وللشافعي قولان كالروايتين وفيه رواية أخرى أنه يجب على عاقلته لما
روي أن عمر رضي الله عنه بعث إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها فقالت يا
ويلها ما لها ولعمر فأسقطت ولداً فصاح الصبي صيحتين ثم مات فاستشار عمر رضي
الله عنه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار بعضهم ان ليس عليك شئ
إنما أنت وال ومؤدب فقال علي إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأوا رأيهم وإن
كانوا في هواك فلم ينصحوا لك ان ديته عليك لأنك أفزعتها فألقته فقال عمر
أفسمت عليك أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك (مسألة) (وهل يتعاقل أهل الذمة؟
على روايتين) (إحداهما) يتعاقلون قياساً على المسلمين لأن قرابتهم تقتضي
التوريث فاقتضت التعاقل كالمسلمين ولأن دياتهم ديات أحرار معصومين فأشبهت
ديات المسلمين (والثانية) لا يتعاقلون لأن حمل العاقلة ثبت على خلاف الأصل
لحرمة قرابة المسلمين فلا يقاس عليهم غيرهم لانهم لا يساوونهم في الحرمة
(مسألة) (ولا يعقل حربي عن ذمي ولا ذمي عن حربي)
(9/648)
لأنه لا يرث بعضهم من بعض فلا يعقل بعضهم
عن بعض كغير العصبات وفي الميراث احتمال أنهما يتوارثان فيخرج في التعاقل
مثل ذلك ولا يعقل يهودي عن نصراني ولا نصراني عن يهودي لأنه لا موالاة
بينهم وهم أهل ملتين مختلفتين ويحتمل أن يتعاقلا بناء على الروايتين في
توارثهما فإن تهود نصراني أو تنصر يهودي وقلنا إنه يقر عقل عنه عصبته من
أهل الدين الذي انتقل اليه وهل يعقل عنه الذين انتقل عن دينهم؟ على وجهين
وإن قلنا لا يقر لم يعقل عنه أحد لأنه كالمرتد والمرتد لا يعقل عنه أحد
لأنه ليس بمسلم فيعقل عنه المسلمون ولا ذمي فيعقل عنه أهل الذمة فتكون
جنايته في ماله وكذلك كل من لا تحمل عاقلته جنايته يكون موجبها في ماله
كسائر الجنايات التي لا تحملها العاقلة
(مسألة) (ومن لا عاقلة له أو لم يكن له عاقلة تحمل الجميع فالدية أو باقيها
عليه ان كان ذمياً) لأن بيت المال لا يعقل عنه وإن كان مسلماً ففيه روايتان
(إحداهما) يؤدى عنه من بيت المال وهو مذهب الزهري والشافعي لأن النبي صلى
الله عليه وسلم ودى الأنصاري الذي قتل بخيبر من بيت المال وروي ان رجلاً
قتل في زحام في زمن عمر فلم يعرف قاتله فقال علي لعمر يا أمير المؤمنين لا
يطل دم امرى مسلم فأدى ديته من بيت المال ولأن المسلمين يرثون من لا وارث
(9/649)
له فيعقلون عنه عدم عاقلته كعصباته ومواليه
(والثانية) لا يجب ذلك لأن بيت المال فيه حق النساء والصبيان والمجانين
والفقراء ومن لا عقل عليه فلا يجب صرفه فيما لا يجب عليهم ولأن العقل على
العصبات وليس بيت المال عصبة ولا هو لعصبة هذا فأما قتيل الأنصار فغير لازم
لأن ذلك قتيل اليهود وبيت المال لا يعقل عن الكفار بحال وانما النبي صلى
الله عليه وسلم تفضل بذلك عليهم وقولهم إنهم يرثونه قلنا ليس صرفه الى بيت
المال ميراثاً بل هو فبئ ولهذا يؤخذ مال من لا وارث له من أهل الذمة الى
بيت المال ولا يرثه المسلمون ثم ان العقل لا يجب على الوارث إذا لم يكن
عصبة ويجب على العصبة وإن لم يكن وارثاً فعلى الرواية الأولى إذا لم يكن له
عاقلته أديت الدية كلها عنه من بيت المال وإن كان له عاقلة لا تحمل الجميع
أخذ الباقي من بيت المال وهل يؤدى من بيت المال دفعة واحدة أو في ثلاث
سنين؟ على وجهين (أحدهما) في ثلاث سنين كما يؤخذ من العاقلة (والثاني) يؤدى
دفعة واحدة وهو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أدى دية الأنصاري دفعة
واحدة وكذلك عمر ولأن الدية بدل متلف لا تؤديه العاقلة فيجب كله في الحال
كسائر ابدال المتلفات وإنما أجل على العاقلة تخفيفاً عنهم ولا حاجة الى ذلك
في بيت المال ولهذا يؤدى الجميع.
(فصل) فإن لم يكن الأخذ من بيت المال فليس على القاتل شئ وهذا أحد قولي
الشافعي ولأن الدية لزمت العاقلة ابتداء بدليل أنها لا يطالب بها غيرهم ولا
يعتبر تحملهم ولا رضاهم ولا تجب على غير
(9/650)
من وجبت عليه كما لو عدم القاتل فإن الدية
لا تجب على أحد كذا ههنا فعلى هذا إن وجد بعض العاقلة
حملوا بقسطهم وسقط الباقي فلا يجب على أحد قال شيخنا ويحتمل أن تجب في مال
القاتل اذا تعذر حملها عنه وهذا القول الثاني للشافعي لعموم قوله تعالى
(ودية مسلمة) إلى أهله ولأن قضية الدليل وجوبها على الجاني جبراً للمحل
الذي فوته وأنما سقط عن القاتل لقيام العاقلة مقامه في جبر المحل فإذا لم
يوجد ذلك بقي واجباً عليه بمقتضى الدليل ولأن الأمر دائر بين ان يطل دم
المقتول وبين ايجاب ديته على المتلف لا يجوز الأول لأن فيه مخالفة الكتاب
والسنة وقياس أصول الشريعة فتعين الثاني ولأن إهدار الدم المضمون لا نظير
له وايجاب الدية على قاتل الخطأ له نظائر وقد قالوا في المرتد تجب الدية في
ماله لما لم يكن عاقلة والذمي الذي لا عاقلة له تلزمه الدية ومن رمى سهماً
ثم أسلم أو كان مسلماً فارتد أو كان عليه الولاء لموالي امه فانجر الى
موالي ابيه ثم اصاب سهمه انساناً فنقول قتيل في دار الإسلام معصوم تعذر حمل
عاقلته عقله فوجب على قاتله كهذه الصور وهذا أولى من إهدار دماء الأحرار في
غالب الأحوال فإنه لا يكاد يوجد عاقلة تحمل الدية كلها ولا سبيل إلى الأخذ
من بيت المال فتضيع الدماء وتفوت حكمة ايجاب الدية قولهم إن الدية تجب على
العاقلة عنه ابتداء ممنوع وانما تجب على القاتل ثم تحملها العاقلة وان
سلمنا وجوبها عليهم ابتداء لكن مع وجودهم اما مع عدمهم فلا يمكن القول
بوجوبها عليهم ثم ما ذكروه منقوض بما أبديناه من الصور فعلى هذا تجب الدية
على القاتل إن تعذر حمل جميعها أو باقيها إن حملت العاقلة بعضها
(9/651)
(فصل) ولو رمى ذمي صيداً ثم أسلم ثم أصاب
السهم آدمياً فقتله لم يعقله المسلمون لأنه لم يكن مسلماً حال رميه ولا
المعاهدون لأنه قتل مسلماً فتكون الدية في مال الجاني وهكذا لو رمى وهو
مسلم ثم ارتد ثم قتل السهم انساناً لم يعقله أحد ولو جرح ذمي ذمياً ثم أسلم
الجارح ومات المجروح وكان ارش جراحه يزيد على الثلث فعقله على عصبته من أهل
الذمة وما زاد على ارش الجرح لا يحمله احد ويكون في مال الجاني لما ذكرنا
فإن لم يكن أرش الجرح مما تحمله العاقلة فجيمع الدية على الجاني وكذلك
الحكم اذا جرح مسلم ثم ارتد ويحتمل ان تحمل العاقلة الدية كلها في
المسئلتين لأن الجناية وجدت وهو ممن تحمل العاقلة جنايته ولهذا وجب القصاص
في المسألة الأولى اذا قتله عمداً ويحتمل أن لا تحمل العاقلة شيئاً لأن
الأرش انما يستقر باندمال الجرح وسرايته.
(فصل) إذا تزوج عبد معتقه فاولدها أولاداً فولاؤهم لمولى أمهم فإن جنى
أحدهم فالعقل على مولى أمه لأنه عصبته ووارثه فإن عتق ابوه ثم سرت الجناية
أو رمى بسهم فلم يقع السهم حتى عتق ابوه لم يحمل عقله أحد لأن موالي الأم
قد زال ولاؤهم عنه قبل قتله وموالي الأب لم يكن لهم عليه ولاء حال جنايته
فتكون الدية عليه في ماله إلا أن يكون أرش الجرح مما تحمله العاقلة منفرداً
فيخرج فيه مثل ما قلناه في المسألة التي قبلها.
(مسألة) (ولا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافاً ولا ما دون
ثلث الدية ويكون
(9/652)
ذلك في مال الجاني حالاً إلا غرة الجنين
إذا مات مع أمه فإن العاقلة تحملها مع دية امه وإن ماتا منفردين لم تحملهما
العاقلة لنقصهما عن الثلث) وجملة ذلك أن العاقلة لا تحمل العمد سواء كان
مما يجب القصاص فيه او لا يجب ولا خلاف في أنها لا تحمل دية ما تجب فيه
القصاص وأكثر أهل العلم على أنها لا تحمل العمد بحال وحكي عن مالك أنها
تحمل الجنايات التي لا قصاص فيها كالمأمومة والجائفة وهذا قول قتادة لأنها
جناية لا قصاص فيها فأشبهت جناية الخطأ ولنا ما روى ابن عباس عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال " لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا
اعترافا " وروي عن ابن عباس موقوفاً ولم نعرف له في الصحابة مخالفاً فيكون
إجماعاً ولأنها جناية عمد فلا تحملها العاقلة كالموجبة للقصاص وجناية الأب
على ابنه ولأن حمل العاقلة انما يثبت في الخطأ لكون الجاني معذورا تخفيفاً
عنه ومواساة له والعامد غير معذور فلا يستحق المواساة ولا التخفيف فلم يوجد
فيه المقتضي وبهذا فارق العمد الخطأ ثم يبطل ما ذكروه بقتل الأب ابنه فإنه
لا قصاص فيه ولا تحمله العاقلة (فصل) فإن اقتص بحديدة مسمومة فسرى الى
النفس ففيه وجهان (أحدهما) تحمله العاقلة لأنه فسرى الى النفس ففيه وجهان
(أحدهما) تحمله العاقلة لأنه ليس بعمد محض اشبه عمد الخطأ (والثانية) لا
تحمله لأنه قتل بآلة يقتل مثلها غالباً فأشبه من له القصاص ولو وكل في
استيفاء القصاص ثم عفى عنه فقتله الوكيل من غير علم بعفوه فقال القاضي لا
تحمله العاقلة لأنه عمد قتله وقال أبو الخطاب تحمله لأنه لم يقصد الجناية
ومثل هذا يعد خطأ بدليل ما لو قتل في
(9/653)
دار الحرب مسلماً يظنه حربياً فإنه عمد
قتله وهو أحد نوعي الخطأ وهذا أصح ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين (فصل) ولا
تحمل العاقلة العبد يعني اذا قتل العبد قاتل وجبت قيمته في مال القاتل ولا
شئ على عاقلته خطأ كان أو عمداً وهذا قول ابن عباس والشعبي والثوري ومكحول
والنخعي والبتي ومالك والليث وابن أبي ليلى وإسحاق وأبي ثور وقال عطاء
والزهري والحكم وحماد وأبو حنيفة تحمله العاقلة لأنه آدمي يجب بقتله القصاص
والكفارة فحملت العاقلة بدله كالحر وعن الشافعي كالمذهبين ووافقنا أبو
حنيفة في دية اطرافه ولنا حديث ابن عباس ولأن الواجب فيه قيمة تختلف
باختلاف صفاته فلم تحمله العاقلة كسائر القيم ولأنه حيوان لا تحمل العاقلة
دية أطرافه فلم تحمل الواجب في نفسه كالفرس (فصل) ولا تحمل الصلح ومعناه ان
يدعى عليه القتل فينكره ويصالح المدعي على مال فلا تحمله العاقلة لأنه مال
ثبت بمصالحته واختياره فلم تحمله العاقلة كالذي ثبت باعترافه وقال القاضي
معناه أن يصالح الأولياء عن دم العمد الى الدية والتفسير الأول أولى لأن
هذا عمد يستغنى عنه بذكر العمد وممن قال لا تحمل العاقلة الصلح ابن عباس
والزهري والشعبي والثوري والليث والشافعي وقد ذكرنا حديث ابن عباس فيه
ولأنه لو حملته العاقلة أدى الى أن يصالح بمال غيره ويوجب عليه حقاً بقوله
(9/654)
(فصل) ولا تحمل الاعتراف وهو ان يقر
الإنسان على نفسه بقتل خطأ أو شبه عمد فتجب الدية عليه فلا تحمله العاقلة
لا نعلم فيه خلافاً وبه قال ابن عباس والشعبي والحسن وعمر بن عبد العزيز
والزهري والثوري ومالك والاوزاعي والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي وقد ذكرنا
حديث ابن عباس فيه ولأنه لو وجب عليهم لوجب باقرار غيرهم ولا يقبل اقرار
شخص على غيره ولأنه متهم في أن يواطئ من يقر له بذلك ليأخذ الدية من عاقلته
فيقاسمه اياها إذا ثبت هذا فإنه يلزمه ما اعترف به وتجب الدية عليه حالة في
ماله في قول الأكثرين وقال أبو ثور وابن عبد الحكم لا يلزمه شئ ولا يصح
إقراره
لأنه مقر على غيره لا على نفسه لأنه لم يثبت موجب اقراره فكان باطلاً كما
لو أقر على غيره بالقتل ولنا قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة
مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) ولأنه مقر على نفسه بالجناية الموجبة للمال فصح
اقراره كما لو أقر باتلاف مال أو بما لا تحمل ديته العاقلة ولأنه محل مضمون
فيضمن اذا اعترف به كسائر المحال وإنما سقطت عنه الدية في محل الوفاق لتحمل
العاقلة لها فإذا لم تحملها وجبت عليه كجناية المرتد (فصل) ولا تحمل
العاقلة ما دون الثلث وبهذا قال سعيد بن المسيب وعطاء ومالك وإسحاق وعبد
العزيز بن أبي سلمة وقال الزهري لا تحمل الثلث ايضاً وقال الثوري وأبو
حنيفة تحمل السن والموضحة وما فوقهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل
الغرة التي في الجنين على العاقلة وقيمتها نصف عشر الدية ولا تحمل
(9/655)
ما دون ذلك ولأنه ليس فيه أرش مقدر والصحيح
عن الشافعي أنها تحمل القليل والكثير لأن من حمل الكثير حمل القليل كالجاني
في العمد ولنا ما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الدية ان لا يحمل
منها شئ حتى تبلغ عقل المأمومة ولأن مقتضى الأصل وجوب الضمان على الجاني
لأنه موجب جنايته وبدل متلفه فكان عليه كسائر الجنايات والمتلفات وإنما
خولف في الثلث تخفيفاً عن الجاني لكونه كثيراً يجحف به قال النبي صلى الله
عليه وسلم " الثلث كثير " ففيما دونه يبقى على قضية الأصل ومقتضى الدليل
وهذا حجة على الزهري لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلث كثيراً فأما
دية الجنين فلا تحملها العاقلة إلا إذا مات مع أمه من الضربة لكون ديتهما
جميعا موجب جناية تزيد على الثلث وإن سلمنا وجوبها على العاقلة فلأنها دية
آدمي كاملة (فصل) وتحمل العاقلة دية الطرف إذا بلغ الثلث وهو قول من سمينا
في الفصل الذي قبل هذا وحكي عن الشافعي أنه قال في القديم لا تحمل ما دون
الدية لأن ذلك يجري مجرى ضمان الأموال بدليل أنه لا يجب فيه كفارة ولنا قول
عمر رضي الله عنه ولأن الواجب دية جناية على حر تزيد على الثلث فحملتها
العاقلة كدية النفس ولأنه كثير يجب ضمانا لحر اشبه ما ذكرنا وما ذكروه يبطل
بما إذا جنى على الأطراف بما يوجب
الدية أو زيادة عليها
(9/656)
(فصل) وتحمل العاقلة دية المرأة بغير خلاف
بينهم فيها وتحمل من جراحها ما يبلغ ارشه ثلث دية الرجل كدية أنفها، فأما
ما دون ذلك كدية يدها فلا تحمله العاقلة وكذلك الحكم في دية الكتابي ولا
تحمل دية المجوسي لأنها دون الثلث (مسألة) (وتحمل غرة الجنين) إذا مات مع
أمه فإن العاقلة تحملها مع دية أمه نص عليه لأن ديتهما وجبت في حال واحدة
بجناية واحدة مع زيادتهما على الثلث فحملتهما العاقلة كالدية الواحدة ولا
تحملها إن مات منفرداً أو مات قبل موت أمه نص عليه أحمد لأنه دون الثلث
(مسألة) (وتحمل جناية الخطأ عن الحر إذا بلغت الثلث) وحكي عن الشافعي لا
تحمل ما دون الدية وقد ذكرناه وذكرنا دليله (مسألة) (قال أبو بكر ولا تحمل
العاقلة شبه العمد ويكون في مال القاتل في ثلاث سنين) وهي رواية عن أحمد
وبه قال ابن سيرين والزهري والحارث العكلي وابن شبرمة وقتادة وأبو ثور وهي
على القاتل في ماله لأنها موجب فعل قصده فلم تحمله العاقلة كالعمد المحض،
ولأنها دية مغلظة فأشبهت دية العمد وهكذا يجب أن يكون مذهب مالك لأن شبه
العمد عنده من باب العمد (والثانية) تحملها العاقلة ذكرها الخرقي وهي ظاهر
المذهب وبه قال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي والثوري واسحاق وأصحاب
(9/657)
الرأي وابن المنذر لما روى أبو هريرة قال
اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها
فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها متفق عليه،
ولأنه نوع قتل لا يوجب القصاص فوجبت ديته على العاقلة كالخطأ، ويخالف العمد
المحض فإنه يغلظ من كل وجه لقصده الفعل وارادته القتل، وعمد الخطأ يغلظ من
وجه وهو الأسنان وهو قصده الفعل ويخف من وجه وهو كونه لم يرد القتل فاقتضى
تغليظها من وجه وهو الأسنان وتخفيفها من وجه
وهو حمل العاقلة لها وتأجيلها ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أنها تجب
مؤجلة روى ذلك عن عمر وعلي وابن عباس، وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة وعبيد
الله بن عمر ومالك والشافعي واسحاق وأبو ثور وابن المنذر، وقد حكي عن قوم
من الخوارج أنهم قالوا الدية حالة لأنها بدل متلف ولم ينقل الينا ذلك عمن
يعد خلافه خلافاً والدية تخالف سائر المتلفات لأنها تجب على غير الجاني على
سبيل المواساة له فاقتضت الحكمة تخفيفها عليهم وقد روي عن عمر وعلي رضي
الله عنهما أنهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين ولا مخالف لهما في
عصرهما فكان إجماعا (مسألة) (وما يحمله كل واحد من العاقلة غير مقدر لكن
يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم فيحمل كل إنسان ما يسهل ولا يشق وجملة ذلك أنه
لا خلاف بين أهل العلم في إن العاقلة لا تكلف من العقل ما يجحف بها ويشق
عليها
(9/658)
لأنه لازم لها من غير جنايتها على سبيل
المواساة للقاتل والتخفيف عنه فلا يخفف عن الجاني بما يثقل على غيره ويحجف
به كالزكاة، ولأنه لو كان الاحجاف مشروعاً كان الجاني أحق به لأنه موجب
جنايته وجزاء فعله فإذا لم يشرع في حقه ففي حق غيره أولى، واختلف أهل العلم
فيما يحمله كل واحد منهم فقال أحمد يحملون على قد ما يطيقون فعلى هذا لا
يتقدر شرعا وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم فيفرض على كل واحد قدراً يسهل
ولا يؤذي وهذا مذهب مالك لأن التقدير لا يثبت إلا بتوقيف ولا يثبت بالرأي
والتحكم ولا نص في هذه المسألة فوجب الرجوع فيها الى اجتهاد الحاكم كمقادير
النفقات، وعن أحمد رواية أخرى أنه يفرض على الموسر نصف مثقال لأنه أقل ما
يتقدر في الزكاة فكان معتبراً بها ويجب على المتوسط ربع مثقال لأن ما دون
ذلك تافه لكون اليد لا تقطع فيه بدليل قول عائشة رضي الله عنها لا يقطع في
الشئ التافه وما دون ربع دينار لا قطع فيه، وهذا اختيار أبي بكر ومذهب
الشافعي وقال أبو حنيفة أكثر ما يجعل على الواحد أربعة دراهم وليس لا فله
حد لأن ذلك يجب على سبيل المواساة للقرابة فلم يتقدر اقله كالنفقة قال
ويسوى بين الغني والمتوسط لذلك، والصحيح الأول لما ذكرنا من أن التقدير
انما يصار إليه بتوقيف فيه وانما يختلف بالغنى والتوسط كالزكاة والنفقة ولا
يختلف بالبعد والقرب لذلك
(مسألة) (واختلف القائلون بالتقدير بنصف دينار وربعه فقال بعضهم يتكرر
الواجب في الأحوال الثلاثة فيكون الواجب على الغني فيها دينارا ونصفا وعلى
المتوسط ثلاثة أرباع دينار)
(9/659)
لأنه حق يتعلق بالحول على سبيل المواساة
فيتكرر بتكرر الحول كالزكاة وقال بعضهم لا يتكرر لأن في الإيجاب زيادة على
النصف ايجاب الزيادة على أقل الزكاة فيكون مضرا، ويعتبر الغنى والتوسط عند
رأس الحول لأنه حال الوجوب فاعتبر الحول عنده كالزكاة، وإن اجتمع من
العاقلة في درجة واحدة عدد كثير قسم الواجب على جميعهم فيلزم الحاكم كل
إنسان على حسب ما يراه وإن قل، وعلى الوجه الآخر يجعل على المتوسط نصف ما
على الغني ويعم بذلك جميعهم وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر يختص
الحاكم من شاء منهم فيفرض عليهم هذا القدر الواجب لئلا ينقص عن القدر
الواجب ويصير إلى الشئ التافه ولأنه يشق فربما أصاب كل واحد قيراط فيشق
جمعه ولنا أنهم استووا في القرابة فكانوا سواء كما لو قلوا كالميراث وأما
التعلق بمشقة الجمع فلا يصح لأن مشقة زيادة الواجب أعظم من الجمع ثم هذا
تعلق بالحكمة من غير أصل يشهد لها فلا يترك لها الدليل ثم هي معارضة بحقه
الواجب على كل واحد منهم وسهولة الواجب عليهم، ثم لا يخلو من أن يخص الحاكم
بعضهم بالاجتهاد أو بغير اجتهاد فإن خصه بالاجتهاد ففيه مشقة عليه وربما لا
يحصل له معرفة الأولى منهم بذلك فيتعذر الإيجاب وإن خصه بالتحكم أفضى إلى
أنه يتخير بين أن يوجب على إنسان شيئا بشهوته من غير دليل وبين أن لا يوجب
عليه ولا نظير له وربما ارتشى من بعضهم واتهم وربما امتنع من فرض عليه شئ
من أدائه لكونه يرى مثله لا يؤدي شيئا مع التساوي من كل الوجوه (مسألة)
(ويبدأ بالأقرب فالأقرب فمتى اتسعت أموال الأقربين لها لم يتجاوزهم وإلا
ننقل الى من يليهم)
(9/660)
وجملة ذلك أنه يبدأ في قسمة الدية بين
العاقلة الاقرب فالأقرب فيقسم على الإخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم ثم أعمام
الأب ثم بنيهم ثم أعمام الجد ثم بنيهم كذلك أبداً حتى إذا انقرض الناسبون
فعلى المولى المعتق ثم على
عصباته ثم على مولى المولى ثم على عصباته الأقرب فالأقرب كالميراث سواء وان
قلنا الآباء والأبناء من العاقلة بدئ بهم لأنهم أقرب ومتى اتسعت أموال قوم
للعقل لم يعدهم الى من بعدهم لأنه حق يستحق بالتعصيب فقدم الأقرب فالأقرب
كالميراث وولاية النكاح، وهل يقدم من يدلي بالأبوين على من يدلي بالأب؟ على
وجهين (أحدهما) يقدم كالميراث وكتقديم الأخ على ابنه (والثاني) يستويان لأن
ذلك يستفاد بالتعصيب ولا اثر لقرابة الأم في التعصيب والأول أولى إن شاء
الله تعالى لأن قرابة الأم تؤثر في الترجيح والتقديم وقوة التعصيب لاجتماع
القرابتين على وجه لا تنفرد كل واحدة بحكم وذلك لأن القرابتين تنقسم الى ما
ينفرد كل واحدة منهما بحكم كابن العم اذا كان أخاً لأم فإنه يرث بكل واحدة
من القرابتين ميراثاً منفرداً يرث السدس بالاخوة ويرث بالتعصب ببنوة العم،
وحجب إحدى القرابتين لا يؤثر في حجب الأخرى فهذا لا يؤثر في قوة ولا ترجيح
ولذلك لا يقدم ابن العم الذي هو اخ لأم على غيره، والى ما لا تنفرد كل
واحدة منهما بحكم كابن العم من ابوين من ابن عم من اب لا تنفرد إحدى
القرابتين بميراث عن الأخرى فتؤثر في الترجيح وقوة التعصيب ولذلك أثرث في
التقديم في الميراث فكذلك في غيره، وبما ذكرنا قال الشافعي وقال أبو حنيفة
يسوى بين القريب والبعيد ويقسم على جميهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل
دية المقتولة على عصبة القاتلة ولنا أنه حكم تعلق بالتعصيب فوجب ان يقدم
فيه الأقرب فالأقرب كالميراث والخبر لا حجة فيه لأننا نقسمه على الجماعة
إذا لم يف به الأقرب فنحمله على ذلك
(9/661)
(مسألة) (وإن تساوى جماعة في القرب وزع
القدر الذي يلزمهم بينهم) لأنهم استووا في القرابة المقتضية للعقل عنه
فتساووا في حكمه كسائر الأحكام وقد ذكرنا ذلك في مسألة وما يحمله كل واحد
من العاقلة غير مقدر (فصل) ولا يحمل العقل من لا يعرف نسبه من القاتل إلا
أن يعلم أنهم من قوم يدخلون كلهم في العقل ومن لا يعرف ذلك منه لا يحمل وإن
كان من قبيلته فلو كان القاتل قرشياً لم يلزم قريشاً كلهم التحمل فإن
قريشاً وان كانوا كلهم يرجعون الى أب واحد إلا أن قبائلهم تفرقت وصار كل
قوم ينتسبون الى اب يتميزون به فيقل عنهم من يشاركهم في نسبتهم الى الأب
الأدنى، الا ترى أن الناس
كلهم بنو آدم فهم راجعون الى أب واحد لكن إن كان من فخذ يعلم ان جميعهم
يتحملون وجب ان يتحمل جميعهم سواء عرف احدهم أو لم يعرف للعلم بأنه متحمل
على أي وجه كان وإن لم يثبت نسب القاتل من أحد فالدية في بيت المال لأن
المسلمين يرثونه إذا لم يكن وارث بمعنى أنه يؤخذ ميراثه لبيت المال فلذلك
يعقلونه على هذا الوجه فإن وجد له من يحمل بعض العقل فالباقي في بيت المال
لذلك، فإن قيل فهذا ينتقض بالذمي الذي لا وارث له فإن ميراثه لبيت المال
ولا يعقلون عنه، قلنا إنما لم يعقلون عنه لوجود المانع وهو اختلاف الدين
ولذلك لا يعقله عصباته المسلمون
(9/662)
(مسألة) (وما تحمله العاقلة يجب مؤجلاً في
ثلاث سنين في كل سنة ثلثه ان كان دية كاملة) لا خلاف بين أهل العلم في أن
دية الخطأ على العاقلة حكاه ابن المنذر وأنها مؤجلة في ثلاث سنين فإن عمر
وعلياً رضي الله عنهما جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين ولا نعرف
لهم في الصحابة مخالفاً واتبعهم أهل العلم على ذلك لأنه مال يجب على سبيل
المواساة فلم يجب حالاً كالزكاة ويجب في آخر كل حرل ثلثها ويعتبر ابتداء
السنة من حين وجوب الدية وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ابتداؤها من
حين حكم الحاكم لأنها مدة مختلف فيها فكان ابتداؤها من حين حكم الحاكم كمدة
العنة ولنا أنه مال مؤجل فكان ابتداء أجله من حين وجوبه كالدين المؤجل
والسلم ولا نسلم الخلاف فيها فإن الخوارج لا يعتد بخلافهم (مسألة) (وإن كان
الواجب ثلث الدية وجب في رأس الحول الأول وإن كان نصفها كدية اليد وجب في
رأس الحول الأول الثلث وباقيه في رأس الحول الثاني وإن كان دية امرأة أو
كتابي فكذلك ويحتمل أن يقسم في ثلاث سنين، وإن كان أكثر من دية كما لو جنى
عليه فأذهب سمعه وبصره لم يزد في كل حول على الثلث) .
وجملة ذلك أن الواجب إذا كان دية كاملة فإنها تقسم في ثلاث سنين في كل سنة
ثلثها سواء كانت دية النفس أو دية الطرف كدية جدع الأنف والأذنين، وإن كان
دون الدية فان نظرنا فإن كان الثلث كدية المأمومة وجب في آخر السنة الأولى
ولم يجب منه شئ حال لأن العاقلة لا تحمل
حالاً وإن كان نصف الدية أو ثلثيها كدية المرأة دية المنخرين وجب الثلث في
آخر السنة الأولى
(9/663)
والباقي في آخر السنة الثانية، وإن كان
أكثر من دية مثل ان ذهب سمع إنسان وبصره ففي كل سنة ثلث لأن الواجب لو كان
دون الدية لم ينقص في السنة عن الثلث فكذلك لا يزيد عليه إذا زاد على
الثلث، وإن كان الواجب بالجناية على اثنين وجب لكل واحد ثلث في كل سنة لأن
كل واحد له دية فيستحق ثلثها كما لو انفرد حقه، وإن كان الواجب دون ثلث
الدية كدية الأصبع لم تحمله العاقلة لأنها لا تحمل ما دون الثلث ويجب حالاً
لأنه متلف لا تحمله فكان حالاً كالجناية على المال (مسألة) (فإن كانت الدية
ناقصة كدية المرأة والكتابي ففيها وجهان) (أحدهما) تنقسم في ثلاث سنين بدل
النفس فأشبهت الدية كاملة (والثاني) يجب منها في العام الأول قدر ثلث الدية
الكاملة وباقيها في العام الثاني لأن هذه تنقص عن الدية فلم تنقسم في ثلاث
سنين كأرش الطرف وهذا مذهب أبي حنيفة وللشافعي كالوجهين، فإن كانت الدية لا
تبلغ ثلث الدية الكاملة كدية المجوسي وهي ثمانمائة درهم ودية الجنين وهي
خمس من الإبل لم تحمله العاقلة لأنه ينقص عن الثلث فأشبه دية السن والموضحة
إلا ان يقتل الجنين مع امه فتحمله العاقلة لأنها جناية واحدة وتكون دية
الأم على الوجهين، فإن قلنا هي في عاملين كانت دية الجنين واجبة مع ثلث دية
الأم في العام الأول لأنها دية أخرى ويحتمل أن يجب مع باقي دية الأم في
العام الثاني وإن قلنا دية الأم في ثلاث سنين فهل تجب دية الجنين في ثلاثة
أعوام أو لا؟ على وجهين فإذا قلنا بوجوبها في ثلاث سنين وجبت في السنين
التي وجبت فيها دية الأم لأنهما ديتان لمستحقين فيجب في كل سنة ثلث ديتها
وثلث ديته، ويحتمل أن تجب في ثلاث سنين أخرى لأن تلفهما موجب جناية واحدة
(9/664)
(مسألة) (وابتداء الحول في الجرح من حين
الاندمال وفي القتل من حين الموت وقال القاضي إن لم يسر الجرح إلى شئ فحوله
من حين القطع) وجملة ذلك أنه إذا كان الواجب دية نفس فابتداء حولها من حين
الموت سواء كان قتلا موجباً او عن سراية جرح وإن كان الواجب دية جرح نظرت
فإن كان عن جرح اندمل من غير
سراية مثل ان قطع يده فبرأت بعد مدة فابتداء المدة من حين القطع لأن تلك
حالة الوجوب ولهذا لو قطع يده وهو ذمي فأسلم ثم اندملت وجب نصف دية يهودي
وأما إن كان الجرح سارياً مثل أن قطع أصبعه فسرى ذلك الى كفه ثم اندمل
فابتداء المدة من حين الاندمال لأنها إذا سرت فما استقر الأرش إلا من حين
الاندمال هكذا ذكره القاضي وأصحاب الشافعي وقال أبو الخطاب تعتبر المدة من
حين الاندمال فيهما لأن الأرش لا يستقر إلا بالاندمال فيها (مسألة) (ومن
مات من العاقلة قبل الحول أو افتقر سقط ما عليه وإن مات بعد الحول لم يسقط
ما عليه) من مات من العاقلة أو افتقر أو جن قبل الحول لم يلزمه شئ لا نعلم
في هذا خلافاً لأنه مال يجب في آخر الحول على سبيل المواساة فأشبه الزكاة
وإن كان ذلك بعد الحول لم يسقط الواجب وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة
يسقط بالموت لأنه خرج عن أهلية الوجوب فأشبه ما لو مات قبل الحول ولنا أنه
حق تدخله النيابة لا يملك إسقاطه في حياته فأشبه الديون وفارق ما قبل الحول
لأنه لم يجب ولم يستمر الشرط الى حين الوجوب فأما إن كان فقيراً عند القتل
فاستغنى عند الحول فقال القاضي يجب عليه لأنه وجد وقت الوجوب وهو من أهله
وبخرج على هذا من كان صبياً
(9/665)
فبلغ أو مجنوناً فأفاق عند الحول وجب عليه
لذلك ويحتمل أن لا يجب لأنه لم يكن من أهل الوجوب حالة السبب فلم يثبت
الحكم فيه حالة الشرط كالكافر إذا ملك مالاً ثم أسلم عند الحول لم تلزمه
الزكاة فيه (مسألة) (وعمد الصبي والمجنون خطأ تحمله العاقلة) لأنه لم يتحقق
منه كمال القصد فتحلمه العاقلة كشبه العمد ولأنه قتل لا يوجب القصاص لأجل
العذر فأشبه الخطأ وعنه في الصبي العاقل أن عمده في ماله وهو أحد قولي
الشافعي لأنه عمد يجوز تأديبه عليه فأشبه القتل من البالغ والأول أولى وما
ذكروه ينتقض بشبه العمد والله سبحانه وتعالى أعلم (باب كفارة القتل) من قتل
نفساً محرمة خطأ او ما أجري مجرى الخطأ أو شارك فيها أو ضرب بطن امرأة
فألقت جنيناً ميتاً أو حياً ثم مات فعليه الكفارة
الأصل في كفارة القتل قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة)
الآية وأجمع أهل العلم على ان على القاتل خطأ كفارة سواء كان المقتول ذكراً
أو انثى ويجب في قتل الصغير والكبير سواء باشره بالقتل او تسبب الى قتله
بسبب تضمن به النفس كحفر البئر ونصب السكين وشهادة الزور وبهذا قال مالك
والشافعي وقال أبو حنيفة لا تجب بالتسبب لأنه ليس بقتل ولأنه ضمن بدله بغير
مباشرة القتل فلم تلزمه الكفارة كالعاقلة ولنا أنه كالمباشرة في الضمان
فكان كالمباشرة في الكفارة ولأنه سبب لإتلاف الآدمي يتعلق به ضمان فتعلقت
به الكفارة كما لو كان راكباً فأوطأ دابته إنساناً وقياسهم ينتقض بالأب إذا
أكره إنساناً على قتل ابنه فإن الكفارة تجب عليه من غير مباشرة وفارق
العاقلة فإنها تحمل من غيرها ولم يصدر منها قتل ولا تسبب إليه وقولهم ليس
بقتل ممنوع قال القاضي ويلزم الشهود الكفارة سواء قالوا أخطأنا أو تعمدنا
وهذا يدل على أن القتل بالسبب تجب به الكفارة بكل حال ولا يعتبر فيه الخطأ
والعمد لأنه وان قصد القتل فهو جار مجرى الخطأ في أنه لا يجب به القصاص
(9/666)
(مسألة) (ومن شارك في قتل يوجب الكفارة
لزمته كفارة ويلزم كل واحد من شركائه كفارة) هذا قول أكثر أهل العلم منهم
الحسن وعكرمة والنخعي والثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وعن أحمد أن على
المشتركين كفارة واحدة حكاها أبو الخطاب وهو قول أبي ثور وحكي عن الأوزاعي
وحكاه أبو علي الطبري عن الشافعي وأنكره سائر أصحابه واحتج لمن أوجب كفارة
واحدة بقوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) ومن تتناول
الواحد والجماعة ولم يوجب إلا كفارة واحدة ودية، والدية لا تتعدد فكذلك
الكفارة وإنها كفارة قتل فلم تتعدد بتعدد القاتلين إذا كان المقتول واحد
ككفارة الصيد الحرمي ولنا أنها لا تتبعض وهي من موجب قتل الآدمي فكملت في
حق كل واحد من المشتركين كالقصاص وتخالف كفارة الصيد فإنها تجب بدلاً ولهذا
تجب في ابعاضه فكذلك الدية (مسألة) (ولو ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً ميتاً
أو حياً ثم مات فعليه الكفارة) تجب الكفارة بإلقاء الجنين الميت إذا كان من
ضرب بطنها وبه قال الحسن وعطاء والزهري والنخعي
والحكم ومالك والشافعي واسحاق وقال أبو حنيفة لا تجب وقد مضت هذه المسألة
في دية الجنين (مسألة) (مسلماً كان المقتول أو كافراً حرا أو عبدا) تجب
الكفارة بقتل الكافر المضمون سواء كان ذمياً أو مستأمناً وبهذا قال أكثر
أهل العلم وقال الحسن ومالك لا كفارة فيه لقول الله تعالى (ومن قتل مؤمنا
خطأ) فمفهومه انه لا كفارة في غير
(9/667)
ولنا قوله تعالى (وإن كان من قوم بينكم
وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) والذمي له ميثاق وهذا
منطوق يقدم على دليل الخطاب ولأنه آدمي مقتول ظلما فوجبت الكفارة بقتله
كالمسلم (مسألة) (وتجب الكفارة بقتل العبد) وبه قال أبو حنيفة والشافعي
وقال مالك لا تجب لأنه مضمون بالقيمة أشبه البهيمة ولنا عموم قوله تعالى
(ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) ولأنه يجب القصاص بقتله فتجب
الكفارة به كالحر ولأنه مؤمن فأشبه الحر ويفارق البهائم بذلك (مسألة)
(وسواء كان القاتل كبيراً عاقلاً أو صبياً أو مجنوناً حرا أو عبدا) إذا كان
القاتل صبياً أو مجنوناً وجبت الكفارة في أموالهما وكذلك الكافر تجب عليه
الكفارة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا كفارة على واحد منهم لأنها
عبادة محضة تجب بالشرع فلا تجب على الصبي والمجنون والكافر كالصوم والصلاة
وقياساً على كفارة اليمين ولنا أنه حق مالي يتعلق بالقتل فتعلقت بهم كالدية
ويفارق الصوم والصلاة فإنهما عبادتان بدنيتان وهذه مالية أشبهت نفقة
الأقارب وأما كفارة اليمين فلا تجب على الصبي والمجنون لأنها تتعلق بالقول
ولا قول لهما وهذه تتعلق بالفعل وفعلهما متحقق قد أوجب الضمان عليهما
ويتعلق بالفعل مالا يتعلق بالقول بدليل أن العتق يتعلق باحبالهما دون
اعتاقهما بقولهما وأما الكافر فتجب عليه وتكون عقوبة له كالحدود والحر
والعبد سواء لدخولهما في عموم الآية (مسألة) (ويكفر العبد بالصيام لأنه) لا
مال له وقد ذكرنا كفارة العبد فيما مضى (فصل) ومن قتل في دار الحرب مسلماً
يعتقده كافراً أو رمى الى صف الكفار فأصاب فيهم مسلماً
فقتله فعليه كفارة لقوله تعالى (وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير
رقبة)
(9/668)
(مسألة) (فأما القتل المباح كالقصاص والحد
وقتل الباغي والصائل فلا كفارة فيه) وجملة ذلك أن كل قتل مباح لا كفارة فيه
كقتل الحربي والباغي والزاني المحض والقتل قصاصاً وحداً لأنه قتل مأمور به
والكفارة لا تجب لمحو المأمور به وأما الخطأ فلا يوصف بتحريم ولا إباحة
لأنه كقتل المجنون والبهيمة لكن النفس الذاهبة به معصومة محرمة فلذلك وجبت
الكفارة فيها وقال قوم الخطأ محرم لا إثم فيه وقيل ليس بمحرم لأن المحرم ما
إثم فاعله.
وقوله تعالى (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) هذا استثاء منقطع وإلا
في موضع لكن والتقدير لكن قد يقتله خطأ وقيل إلا بمعنى ولا أي ولا خطأ وهذا
يبعد لأن الخطأ لا يتوجه إليه النهي لعدم إمكان التحرز منه وكونه لا يدخل
تحت الوسع ولأنها لو كانت بمعنى ولا لكانت عاطفة للخطأ على ما قبله وليس
قبله ما يصلح عطفه عليه فأما قتل نساء أهل الحرب وصبيانهم فلا كفارة فيه
لأنهم ليس لهم أيمان ولا أمان وإنما منع من قتلهم لانتفاع المسلمين بهم
لكونهم يصيرون بالسبي رقيقاً ينتفع بهم وكذلك قتل من لم تبلغه الدعوة لا
كفارة فيه لذلك ولذلك لم يضمنوا بشئ فاشبهوا من قتله مباح (فصل) ومن قتل
نفسه خطأ وجبت الكفارة في ماله وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تجب
لأن ضمان نفسه لا يجب فلم تجب الكفارة به كقتل نساء أهل الحرب وصبيانهم
ووجه الأول عموم قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) ولأنه
آدمي مؤمن مقتول خطأ فوجبت الكفارة على قاتله كما لو قتله غيره قال شيخنا
وقول أبي حنيفة أقرب الى الصواب إن شاء الله تعالى فإن عامر بن الأكوع قتل
نفسه خطأ فلم بأمرالنبي صلى الله عليه وسلم فيه بكفارة فأما قوله تعالى
(ومن قتل مؤمنا خطأ) فإنما
(9/669)
أريد بها إذا قتل غيره بدليل قوله (ودية
مسلمة إلى أهله) وقاتل نفسه لا تجب فيه دية بدليل قتل عامر بن الأكوع
(مسألة) (وفي العمد وشبهه روايتان (إحداهما) لا كفارة فيه اختارها أبو بكر
والقاضي والأخرى فيه الكفارة)
المشهور في المذهب أنه لا كفارة في قتل العمد وبه قال مالك والثوري ومالك
وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية أخرى تجب فيه الكفاة
وحكي ذلك عن الزهري وهو قول الشافعي لما روى واثلة بن الاسقع قال أتينا
النبي صلى الله عليه وسلم بصاحب لنا قد أوجب بالقتل فقال " اعتقوا عنه رقبة
يعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار " ولأنها إذا وجبت في قتل الخطأ
ففي العمد أولى لأنه أعظم جرماً وحاجته الى تكفير ذنبه أعظم ولنا مفهوم
قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) ثم ذكر قتل العمد فلم
يوجب فيه كفارة وجعل جزاءه جهنم فمفهومه أنه لا كفارة فيه وروي أن سويد بن
الصامت قتل رجلاً فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم القود ولم يوجب كفارة
وعمرو بن أمية الضمري قتل رجلين كانا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
فوداهما النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بكفارة ولأنه فعل يوجب القتل
فلا يوجب كفارة كزنا المحصن وحديث واثلة يحتمل أنه كان خطأ وسماه موجباً أي
فوت النفس بالقتل ويحتمل أنه كان شبه عمد ويحتمل أنه أمرهم بالإعتاق تبرعاً
ولذلك أمر غير القاتل بالإعتاق وما ذكروه من المعنى لا يصح لأنها وجبت في
الخطأ لتمحو إئمه لكونه لا يخلو من تفريط فلا يلزم من ذلك ايجابها في موضع
عظم الإثم فيه بحيث لا يرتفع بها.
إذا ثبت هذا فلا فرق بين العمد الموجب للقصاص وما لا قصاص فيه كقتل الوالد
ولده والسيد عبده والحر العبد والمسلم الكافر لأن هذا من أنواع العمد
(9/670)
(فصل) فأما شبه العمد فقال شيخنا تجب فيه
الكفارة ولم أعلم لأصحابنا فيه قولاً لكن مقتضى الدليل ما ذكرناه لأنه أجري
مجرى الخطأ في نفي القصاص وحمل العاقلة ديته وتأجيلها في ثلاث سنين فجرى
مجراه في وجوب الكفارة ولأن القاتل إنما لم يحمل شيئاً من الدية لتحمله
الكفارة فلو لم تجب عليه الكفارة لحمل من الدية لئلا يخلو القاتل عن وجوب
شئ أصلاً ولم يرد الشرع بهذا وقد ذكر في الكتاب المشروح رواية أنه كالعمد
لأن ديته مغلظة وهي اختيار أبي بكر لأن عنده أن الدية فيه يحملها القاتل
فقد اشبه العمد في ذلك فكان حكمه حكمه (فصل) وكفارة القتل عتق رقبة مؤمنة
بنص القرآن سواء كان القاتل أو المقتول مسلماً أو كافراً
النبي صلى الله عليه وسلم القود ولم يوجب كفارة وعمرو بن أمية الضمري قتل
رجلين كانا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فوداهما النبي صلى الله عليه
وسلم ولم يأمره بكفارة ولأنه فعل يوجب القتل فلا يوجب كفارة كزنا المحصن
وحديث واثلة يحتمل أنه كان خطأ وسماه موجباً أي فوت النفس بالقتل ويحتمل
أنه كان شبه عمد ويحتمل أنه أمرهم بالإعتاق تبرعاً ولذلك أمر غير القاتل
بالإعتاق وما ذكروه من المعنى لا يصح لأنها وجبت في الخطأ لتمحو إئمه لكونه
لا يخلو من تفريط فلا يلزم من ذلك ايجابها في موضع عظم الإثم فيه بحيث لا
يرتفع بها.
إذا ثبت هذا فلا فرق بين العمد الموجب للقصاص وما لا قصاص فيه كقتل الوالد
ولده والسيد عبده والحر العبد والمسلم الكافر لأن هذا من أنواع العمد
(9/671)
(فصل) فأما شبه العمد فقال شيخنا تجب فيه
الكفارة ولم أعلم لأصحابنا فيه قولاً لكن مقتضى الدليل ما ذكرناه لأنه أجري
مجرى الخطأ في نفي القصاص وحمل العاقلة ديته وتأجيلها في ثلاث سنين فجرى
مجراه في وجوب الكفارة ولأن القاتل إنما لم يحمل شيئاً من الدية لتحمله
الكفارة فلو لم تجب عليه الكفارة لحمل من الدية لئلا يخلو القاتل عن وجوب
شئ أصلاً ولم يرد الشرع بهذا وقد ذكر في الكتاب المشروح رواية أنه كالعمد
لأن ديته مغلظة وهي اختيار أبي بكر لأن عنده أن الدية فيه يحملها القاتل
فقد اشبه العمد في ذلك فكان حكمه حكمه (فصل) وكفارة القتل عتق رقبة مؤمنة
بنص القرآن سواء كان القاتل أو المقتول مسلماً أو كافراً فإن لم يجدها في
ملكه فاضلة عن حاجته أو يجد ثمنها فاضلاً عن كفايته فصيام شهرين متتابعين
توبة من الله وهذا ثابت بالنص أيضاً فإن لم يستطع ففيه روايتان (إحداهما)
يثبت الصيام في ذمته ولا يجب شئ آخر لأن الله تعالى لم يذكره ولو وجب لذكره
(والثانية) يجب إطعام ستين مسكيناً عند العجز عن الصوم ككفارة الظهار
والفطر في رمضان وإن لم يكن مذكوراً في نص القرآن فقد ذكر في نظيره فيقاس
عليه فعلى هذه الرواية إن عجز عن الإطعام ثبت في ذمته حتى يقدر عليه
وللشافعي في هذا قولان كالروايتين والله أعلم (تم بحمد الله وعونه الجزء
التاسع..)
(9/671)
بسم الله الرحمن الرحيم باب القسامة وهي
الأيمان المكررة في دعوى القتل والقسامة مصدر أقسم قسامة ومعناه حلف حلفاً،
والمراد بالقسامة ههنا الأيمان المكررة في دعوى القتل، وقال القاضي هي
الأيمان اذا كثرت على وجه المبالغة، قال وأهل اللغة يذهبون الى أنها القوم
الذين يحلفون سموا باسم المصدر كما يقال رجل عدل ورضى، وأي الأمرين كان فهو
من القسم الذي هو الحلف، والأصل في القسامة ماروي عن سهل بن أبي حثمة ورافع
بن خديج أن محيصة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا الى خيبر فتفرقا في
النخيل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود فجاء أخوه عبد الرحمن وأبناء
عمه حويصة ومحيصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم عبد الرحمن في أمر
أخيه وهو أصغرهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (كبر الكبر) أو قال
(10/2)
(ليبدأ الأكبر) فتكلما في أمر صاحبهما فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم
برمته) فقالوا أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال (فتبرئكم يهود بأيمان خمسين
منهم) قالوا يا رسول الله قوم كفار ضلال قال فوداه رسول الله صلى الله عليه
وسلم من قبله قال سهل فدخلت مربداً لهم
فركضتني ناقة من تلك الابل) متفق عليه (مسألة) (ولا يثبت إلا بشروط أربعة:
أحدها دعوى القتل ذكراً كان المقتول أو أنثى حراً أو عبداً مسلماً أو ذمياً
وأما الجراح فلا قسامة فيها) دعوى القتل شرط في القسامة ولا تسمع الدعوى
إلا محررة بأن يقول ادعي أن هذا قتل وليي فلان ابن فلان عمداً أو خطأ أو
شبه عمد، ويصف القتل فان كان عمداً قال قصد اليه بسيف أو بما يقتل مثله
غالباً.
فان كانت الدعوى على واحد فأقر ثبت القتل فإن أنكر وثم بينة حكم بها وإلا
صار الأمر الى الأيمان، وإن كانت الدعوى على أكثر من واحد لم يخل من أربعة
أحوال (أحدها) أن يقول قتله هذا وهذا تعمد قتله، ويصف العمد بصفته فيقال له
عين واحداً فان القسامة الموجبة للقود لا تكون على أكثر من واحد (الحال
الثاني) أن يقول تعمد هذا وهذا كان خاطئاً فهو يدعي قتلا غير.
موجب للقود فيقسم عليهما ويأخذ نصف الدية من مال العامد ونصفها من مال
الخاطئ (الحال الثالث) أن يقول عمد هذا ولا أدري أكان قتل الثاني عمداً أو
خطأ فقيل لا تسوغ القسامة
(10/3)
ههنا لأنه يحتمل أن يكون الآخر مخطئاً
فيكون موجبها الدية عليهما ويحتمل أن يكون عامداً فلا يسوغ ههنا ويجب تعيين
واحد والقسامة عليه فيكون موجبها القود فلم تجز القسامة مع هذا، فان عاد
فقال علمت أن الآخر كان عامدا فله أن يعين واجدا ويقسم عليه، وإن قال كان
مخطئاً ثبتت القسامة حينئذ ويسئل الآخر فان أنكر ثبتت القسامة وإن أقر ثبت
عليه القتل ويكون عليه نصف الدية في ماله لأنه ثبت باقراره لا بالقسامة،
وقال القاضي يكون على عاقلته والأول أصح لأن العاقلة لا تحمل اعترافا
(الحال الرابع) أن يقول قتلاه خطأ أو شبه عمدا أو أحدهما خاطئا والآخر شبهه
العمد فله أن يقسم عليهما، فإن ادعى أنه قتل وليه عمداً فسئل عن تفسيره
العمد ففسره بعمد الخطأ قبل تفسيره وأقسم على ما فسره به لأنه أخطأ في وصف
القتل بالعمدية، ونقل المزني عن الشافعي لا يحلف عليه لأنه بدعوى العمد برأ
العاقلة فلم تسمع دعواه بعد ذلك ما يوجب عليهم المال ولنا أن دعواه قد
تحررت وإنما غلط في تسمية شبه العمد عمداً وهذا مما يشتبه فلا يؤاخذ به
ولو أحلفه الحاكم قبل تحرير الدعوى وتبيين نوع القتل لم يعتد باليمين لأن
الدعوى لا تسمع غير محررة فكأنه أحلفه قبل الدعوى ولأنه إنما يحلفه ليوجب
له ما يستحقه فاذا لم يعلم ما يستحقه بدعواه لم يحصل المقصود باليمين فلم
يصح (فصل) قال القاضي يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل اذا غلب على ظنهم
أنه قتله وإن كانوا
(10/4)
غائبين عن مكان القتل لأن النبي صلى الله
عليه وسلم قال للأنصار (تحلفون وتستحقون دم صاحبكم) وكانوا بالمدينة والقتل
بخيبر، ولأن للانسان أن يحلف على غالب ظنه كما ان من اشترى من إنسان شيئاً
فجاء آخر يدعيه جاز أن يحلف أنه لا يستحقه لأن الظاهر أنه ملك الذي باعه
وكذلك اذا وجد شيئاً بخطه أو خط أبيه ودفتره جاز أن يحلف، وكذلك إذا باع
شيئاً لم يعلم فيه عيباً فادعى عليه المشتري أنه معيب وأراد رده كان له أن
يحلف أنه باعه بريئاً من العيب، ولا ينبغي أن يحلف المدعي إلا بعد
الاستثبات وغلبة ظن يقارب اليقين، وينبغي للحاكم أن يقول لهم اتقوا الله
واستثبتوا ويعظهم ويحذرهم ويقرأ عليهم (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم
ثمنا قليلا) ويعرفهم ما في اليمين الكاذبة وظلم البرئ وقتل النفس بغير الحق
ويعرفهم ان عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وهذا كله مذهب الشافعي (مسألة)
(وسواء كان المقتول ذكراً أو أنثى حراً أو عبداً مسلماً أو ذمياً) أما إذا
كان المقتول مسلماً حراً فليس فيه اختلاف سواء كان المدعى عليه مسلماً أو
كافراً فان الأصل في القسامة قصة عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر فاتهم
اليهود بقتله فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة وأما إن كان المقتول
كافراً أو عبداً وكان قاتله ممن يجب عليه القصاص بقتله وهو المماثل له في
حالة أو دونه ففيه القسامة، وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي، وقال الزهري
والثوري ومالك والاوزاعي لا قسامة في العبد لأنه مال فلم تجب القسامة فيه
كالبهيمة
(10/5)
ولنا أنه قتل موجب للقصاص فأوجب القسامة
كقتل الحر بخلاف البهيمة فانه لا قصاص فيها
ويقسم على العبد سيده لأنه المستحق لدمه، وأم الود والمدبر والمكاتب
والمعلق عتقه بصفة كالقن لأن الرق ثابت فيهم، فإن كان القاتل ممن لا قصاص
عليه كالمسلم يقتل كافراً والحر يقتل عبداً فلا قسامة فيه في ظاهر قول
الخرقي وهو قول مالك لأن القسامة إنما تكون فيما يوجب القود وقال القاضي
فيها القسامة وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي لأنه قتل آدمي يوجب الكفارة
فشرعت القسامة فيه كقتل الحر المسلم، ولأن ما كان حجة في قتل الحر المسلم
كان حجة في قتل العبد والكافر كالبينة، ووجه قول الخرقي أنه قتل لا يوجب
القصاص فأشبه قتل البهيمة ولا يلزم من شرعها فيما يوجب القصاص شرعها مع
عدمه بدليل أن العبد لو اتهم بقتل سيده وجبت القسامة إذا كان القتل موجباً
للقصاص ذكره القاضي لأنه لا يجوز قتله قبل ذلك ولو لم يكن موجباً للقصاص لم
تشرع القسامة (فصل) وان قتل عبد المكاتب فللمكاتب أن يقسم على الجاني لأنه
مالك العبد يملك التصرف فيه وفي بدله وليس لسيده انتزاعه منه وله شراؤه
منه، ولو اشترى المأذون له في التجارة عبداً فقتل فالقسامة لسيده دونه لأن
ما اشتراه المأذون يملكه سيده دونه ولهذا يملك انتزاعه منه، وإن عجز
المكاتب قبل أن يقسم فلسيده أن يقسم لأنه صاو المستحق لبدل المقتول بمنزلة
ورثة الحر إذا مات قبل أن يقسم، ولو ملك السيد عبده أو أم ولده عبداً فقتل
فالقسامة للسيد سواء قلنا يملك العبد
(10/6)
بالتمليك أولا يملك لأنه إن لم يملك فالملك
لسيده وإن ملك فهو ملك غير ثابت ولهذا يملك سيده انتزاعه منه ولا يجوز له
التصرف بغير إذن سيده بخلاف المكاتب، وإن أوصى لأم ولده ببدل العبد صحت
الوصية وإن كان لم يجب بعد كما تصح الوصية بثمرة لم تخلق والقسامة للورثة
لأنهم القائمون مقام الموصي في إثبات حقوقه فإذا حلفوا ثبت لها البدل
بالوصية فإن لم يحلفوا لم يكن لها أن تحلف كما اذا امتنع الورثة باليمين مع
الشاهد لم يكن للغرماء أن يحلفوا معه (فصل) والمحجور عليه لسفه أو فلس كغير
المحجور عليه في دعوى القتل والدعوى عليه لأنه إذا أقر بمال أو لزمته الدية
بالنكول عن اليمين لم تلزمه في حال حجره لأن اقراره بالمال في الحال غير
مقبول بالنسبة الى أخذ شئ من ماله في الحال على ما عرف في موضعه
(فصل) ولو جرح مسلم فارتد فمات على الردة فلا قسامة فيه لأن نفسه غير
مضمونة ولا قسامة فيما دون النفس ولأن ماله يصير فيأ والفئ ليس له مستحق
معين فتثبت القسامة له، وإن مات مسلماً فارتد وارثه قبل القسامة فقال أبو
بكر ليس له أن يقسم وإن أقسم لم يصح لأن ملكه يزول عن ماله وحقوقه فلا يبقى
مستحقاً للقسامة وهذا قول المزني ولأن المرتد قد أقدم على الكفر الذي لا
ذنب أعظم منه فلا يستحق بيمينه دم مسلم ولا يثبت بها قتل، وقال القاضي
الأولى أن تعرض عليه القسامة فان أقسم وجبت الدية وهذا قول الشافعي لأن
استحقاق المال بالقسامة حق له فلا يبطل
(10/7)
بردته كاكتساب المال بوجوه الاكتساب وكفره
لا يمنع يمينه لأن الكافر تصح يمينه ويعرض عليه في الدعاوى فإن حلف ثبت
القصاص أو الدية، فإن عاد إلى الإسلام كان له وإن مات كان فيئاً والصحيح إن
شاء الله ما قاله أبو بكر لأن مال المرتد إما أن يكون ملكه قد زال عنه واما
موقوف وحقوق المال حكمها حكمه، فإن قلنا يزول ملكه فلا حق له وإن قلنا هو
موقوف فهو قبل انكشاف حاله مشكوك فيه فلا يثبت الحكم بشئ مشكوك فيه كيف
وقتل المسلم أمر كبير لا يثبت مع الشبهات ولا يستوفى مع الشك؟ فأما إن ارتد
قبل موت مورثه لم يكن وارثاً ولا حق له وتكون القسامة لغيره من الوارث فإن
لم يكن للميت وارث سواه فلا قسامة فيه لما ذكرنا، فإن عاد إلى الإسلام قبل
قسامة غيره فقياس المذهب أنه يدخل في القسامة لأنه متى رجع قبل قسم الميراث
قسم له.
وقال القاضي لا تعود القاسمة اليه لأنها استحقت على غيره وإن ارتد رجل فقتل
عبده أو قتل عبده ثم ارتد فهل له أن يقسم؟ عل وجهين بناء على الاختلاف
المتقدم فإن عاد إلى الإسلام عادت القسامة لأنه يستحق بدل العبد (مسألة)
(فأما الجراح فلا قسامة فيها) لا قسامة فيما دون النفس من الأطراف والجراح
لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي لأن
القسامة تثبت في النفس لحرمتها فاختصت بها دون الأطراف كالكفارة
(10/8)
ولأنها تثبت حيث كان المجني عليه لا يمكنه
التعبير عن نفسه وتعيين قاتله ومن قطع طرفه يمكنه ذلك وحكم الدعوى فيه حكم
الدعوى في سائر الحقوق، والبينه على المدعي واليمين على المنكر يميناً
واحدة لأنها دعوى لا قسامة فيها فلا تغلظ بالعدد كالدعوى في المال (الثاني)
اللوث وهو العداوة الظاهرة كنحو ما كان بين الأنصار وأهل خيبر وكما بين
القبائل التي يطلب بعضها بعضاً بثأر في ظار المذهب، اختلفت الرواية عن أحمد
رحمه الله في اللوث فروي عنه أن العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه
كنحو ما كان بين الأنصار ويهود خيبر وما بين القبائل والأحياء وأهل القرى
الذين بينهم الدماء والحروب وما بين البغاة وأهل العدل وما بين الشرطة
واللصوص وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله نقل مهنا عن
أحمد فيمن وجد قتيلاً في المسجد الحرام ينظر من بينه وبينه في حياته شئ
يعني ضغناً يؤخذون به ولم يذكر القاضي في اللوث غير العداوة الا أنه قد قال
في الفريقين يقتتلان فينكشفون عن قتيل فاللوث على الطائفة التي القتيل من
غيرها سواء كان القتال بالتحام أو مراماة بالسهام وان لم تبلغ السهام
فاللوث على طائفة القتيل إذا ثبت هذا فانه لا يشترط مع العداوة أن لا يكون
في الموضع الذي به القتيل غير العدو نص عليه أحمد في رواية مهنا التي
ذكرناها وكلام الخرقي يدل عليه أيضاً واشترط القاضي أن يوجد القتيل في موضع
عدو
(10/9)
لا يختلط بهم غيرهم وهذا مذهب الشافعي لأن
الأنصاري قتل في خيبر ولم يكن بها الا اليهود وجميعهم أعداء ولأنه متى
اختلط بهم غيرهم احتمل أن يكون القاتل ذلك الغير ثم ناقض قوله فقال في قوم
ازدحموا في مضيق فافترقوا عن قتيل فقال إن كان في القوم من بينه وبينه
عداوة وأمكن أن يكون هو قتله لكونه بقربه فهو لوث فجعل العداوة لوثاً مع
وجود غير العدو ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار هل كان
بخيبر غير اليهود أم لا؟ مع أن الظاهر وجود غيرهم فيها لأنها كانت أملاكاً
للمسلمين يقصدونها لأخذ غلات أملاكهم منها وعمارتها والاطلاع عليها
والامتيار منها ويبعد أن تكون مدينة على جادة تخلو من غير أهلها وقول
الأنصار ليس لنا بخيبر عدو إلا اليهود يدل على أنها قد كان بها غيرهم ممن
ليس بعدو ولأن اشتراكهم في العداوة لا يمنع من
وجود اللوث في حق واحد وتخصيصه بالدعوى مع مشاركة غيره في احتمال قتله فلأن
لا يمنع ذلك وجود من يبعد منه القتل أولى وما ذكروه من الاحتمال لا ينفي
اللوث فان اللوث لا يشترط فيه يقين القتل من المدعى عليه فلا ينافيه
الاحتمال ولو تيقن القتل من المدعى عليه لما احتيح إلى الأيمان ولو اشترط
نفي الاحتمال لما صحت الدعوى على واحد من جماعة لاحتمال أن القاتل غيره ولا
على الجماعة كلهم لأنه يحتمل أن لا يشترك الجميع في قتله والرواية الثانية
عن أحمد أن اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي ذلك من وجوه
(10/10)
(أحدها) العداوة المذكورة (الثاني) أن
يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثاً في حق كل واحد منهم فإن ادعى الولي
على واحد فأنكر كونه مع المجاعة فالقول قوله مع يمينه ذكره القاضي وهو مذهب
الشافعي لأن الأصل عدم ذلك إلا أن يثبت ببينة (الثالث) أن يزدحم الناس في
مضيق فيوجد بينهم قتيل فظاهر كلام أحمد أن هذا ليس بلوث فإنه قال فيمن مات
من الزحام يوم الجمعة: فديته في بيت المال وهذا قول إسحاق وروي ذلك عن عمر
وعلي فان سعيداً روى في سننه عن ابراهيم قال قتل رجل في زحام الناس بعرفة
فجاء أهله الى عمر فقال: بينتكم على من قتله فقال علي يا أمير المؤمنين لا
تطل دم امرئ مسلم إن علمت قاتله وإلا فأعط ديته من بيت المال وقال أحمد
فيمن وجد مقتولاً في المسجد الحرام ينظر من كان بينه وبينه شئ في حياته
يعني عداوة فلم يجعل الحضور لوثاً وإنما جعل اللوث العداوة وقال الحسن
والزهري فيمن مات في الزحام ديته على من حضر لأن قتله حصل منهم، وقال مالك
دمه هدر لأنه لا يعلم له قاتل ولا وجد لوث فيحكم بالقسامة فيه وقد روي عن
عمر بن عبد العزيز أنه كتب اليه في رجل وجد قتيلا ولم يعرف قاتله فكتب
اليهم إن من القضايا قضايا لا يحكم فيها الافي الدار الآخر ة وهذا منها
(الرابع) أن يوجد قتيل لا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكين ملطخ بدم ولا
يوجد غيره ممن يغلب على الظن قتله مثل أن يرى رجلاً هارباً يحتمل أنه قاتل
أو سبعاً يحتمل ذلك فيه
(10/11)
(الخامس) أن تقتتل فئتان فيفترقون عن قتيل
من إحداهما فاللوث على الأخرى.
ذكره القاضي فان كانوا بحيث لا يصل سهام بعضهم بعضاً فاللوث على طائفة
القتيل وهذا قول الشافعي، وروى عن أحمد أن عقل القتيل على الذين نازعوهم
فيما إذا اقتتلت الفئتان إلا أن يدعوا على واحد بعينه وهذا قول مالك.
وقال ابن أبي ليلى: عقله على الفريقين جميعاً لأنه يجتمل أنه مات من فعل
أصحابه فاستوى الجميع فيه وعن أحمد في قوم اقتتلوا فقتل بعضهم وجرح بعضهم:
فدية المقتولين على المجروحين يسقط منه دية الجراح وإن كان فيهم من لا جرح
فيه فهل عليه من الديات شئ على وجهين ذكرهما ابن حامد (السادس) أن يشهد
بالقتل عبيد ونساء ففيه عن أحمد روايتان (إحداهما) أنه لوث لأنه يغلب على
الظن صدق المدعي فأشبه العداوة (والثانية) ليس بلوث لأنها شهادة مردودة فلم
تكن لوثا كما لو شهد به كفار وإن شهد به فساق أو صبيان ففيه وجهان (أحدهما)
ليس بلوث لأنه لا يتعلق بشهادتهم حكم فلا يثبت اللوث بها كشهادة الأطفال
والمجانين (والثاني) يثبت بها اللوث لأنها شهادة فغلب على الظن صدق المدعي
فأشبه شهادة النساء والعبيد وقول الصبيان معتبر في الأدب في دخول الدار
وقبول الهدية ونحوها وهذا مذهب الشافعي.
ويعتبر أن يجئ الصبيان متفرقين لئلا يتطرق إليهم التواطؤ على الكذب.
فهذه الوجوه قد ذكر عن أحمد أنها لوث لأنها تغلب على الظن صدق المدعي أشبهت
العداوة.
وروي أن هذا ليس بلوث وهو ظاهر كلامه في الذي قتل في الزحام
(10/12)
لأن اللوث إنما يثبت بالعداوة بقضية
الأنصاري القتيل بخيبر ولا يجوز القياس عليها لأن الحكم ثبت بالمظنة ولا
يجوز القياس على المظان لأن الحكم إنما يتعدى بتعدي سببه والقياس بالمظان
جمع بمجرد الحكمة وغلبة الظنون والحكم والظنون تختلف ولا تأتلف وتنخبط ولا
تنضبط وتختلف باختلاف القرائن والأحوال والأشخاص فلا يمكن ربط الحكم بها
ولا تعديته بتعديها ولأنه يعتبر في التعدية والقياس التساوي بين الأصل
والفرع والمقتضي ولا سبيل إلى تغير التساوي بين الظنين مع كثرة الاحتمالات
وترددها.
فعلى هذه الرواية حكم هذه الصور حكم غيرها مما لا لوث فيه
(فصل) وإن شهد رجلان على رجل أنه قتل أحد هذين القتيلين لم تثبت هذه
الشهادة ولم يكن لوثاً عند أحد علمنا قوله وإن شهدا أن هذا القتيل قتله أحد
هذين الرجلين أو شهد أحدهما أن هذا قتله وشهد الآخر أنه أقر بقتله أو شهد
أحدهما أنه قتله بسيف وشهد الآخر أنه قتله بسكين لم تكمل الشهادة ولم يكن
لوثاً.
هذا قول القاضي واختياره.
والمنصوص عن أحمد فيما إذا شهد أحدهما بقتله والآخر بالاقرار بقتله أنه
يثبت القتل واختار أبو بكر ثبوت القتل ههنا وفيما إذا شهد أحدهما أنه قتله
بسيف وشهد الآخر أنه قتله بسكين لأنهما اتفقا على القتل واختلفا في صفته
وقال الشافعي هو لوث في هذه الصورة في أحد القولين وفي الصورتين اللتين
قبلها هو لوث لأنها شهادة يغلب على الظن صدق المدعي أشبهت شهادة النساء
والعبيد.
ولنا انها شهادة مردودة للاختلاف فيها فلم تكن لوثاً كالصورة الأولى
(10/13)
(فصل) وليس من شرط اللوث أن يكون بالقتيل
أثر وبهذا قال مالك والشافعي.
وعن أحمد أنه شرط وهذا قول حماد وأبي حنيفة والثوري لأنه إذا لم يكن به أثر
احتمل أنه مات حتف أنفه ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار
هل كان بقتيلهم أثر أو لا؟ ولأن القتل يحصل بما لا أثر له كغم الوجه والخنق
وعصر الخصيتين وضربة الفؤاد فأشبه من به أثر، وم به أثر قد يموت حتف أنفه
لسقطته أو صرعته أو يقتل نفسه.
فعلى قول من اعتبر الأثر ان خرج الدم من أذنه فهو لوث لأنه لا يكون إلا
لخنق أو أمر أصيب به، وإن خرج من أنفه فهل يكون لوثاً على وجهين (مسألة)
(فأما قول القتيل فلان قتلني فليس بلوث) هذا قول أكثر أهل العلم منهم
الثوري والاوزاعي وأصحاب الرأي.
وقال مالك والليث هو لوث لأن قتيل بني اسرائيل قال قتلني فلان فكان حجة.
ويروى هذا القول عن عبد الملك بن مروان ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم
(لو يعطى الناس بدعواهم لا دعى، قوم دماء رجال وأموالهم) ولأنه يدعي حقاً
لنفسه فلم يقبل قوله كما لو لم يمت، ولأنه خصم فلم تكن دعواه لوثاً كالولي
فأما قتيل بني اسرائيل فلا حجة فيه فإنه لا قسامة فيه فإن ذلك كان من آيات
الله ومعجزات نبيه موسى عليه السلام حيث
أحياه الله تعالى بعد موته وانطقه بقدرته بما اختلفوا فيه ولم يكن الله
تعالى لينطقه بالكذب بخلاف الحي ولا سبيل إلى مثل هذا اليوم، ثم ذاك في
تبرئة المتهمين فلا يجوز تعديته الى تهمة البريئين
(10/14)
(مسألة) (ومتى ادعى القتل مع عدم اللوث
عمداً فقال الخرقي لا يحكم له بيمين ولاغيرها وعن أحمد أنه يحلف يميناً
واحدة وهي الأولى.
وإن كان خطأ حلف يميناً واحدة) إذا ادعى القتل مع عدم اللوث لم يخل من
حالين (أحدهما) إذا وجد قتيل في موضع فادعى أولياؤه قتله على رجل أو جماعة
ولم يكن بينهم عداوة ولا لوث فهي كسائر الدعاوى إن كانت لهم بينة حكم لهم
بها وإلا فالقول قول المنكر وبهذا قال مالك والشافعي وابن المنذر.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: اذا ادعى اولياؤه قتله على أهل المحلة أو على معين
فللولي أن يختار من الموضع خمسين رجلا يحلفون خمسين يميناً والله ما قتلناه
ولا علمنا قاتله فإذا نقصوا عن الخمسين كررت الأيمان عليهم حتى تتم فاذا
حلفوا وجبت الدية على باقي الخطة فإن لم يكن وجبت على سكان الموضع فإن لم
يحلفوا حبسوا حتى يحلفوا أو يقروا لما روي أن رجلا وجد قتيلا بين حيين
فحلفهم عمر رضي الله عنه خمسين يميناً وقضى بالدية على أقربهما يعني أقرب
الحيين فقالوا: والله ما وقت أيماننا أموالنا ولا أموالنا ايماننا.
فقال عمر حقنتم بأموالكم دماءكم ولنا حديث عبد الله بن سهل وقول النبي صلى
الله عليه وسلم (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن
اليمين على المدعى عليه) رواه مسلم وقول النبي صلى الله عليه وسلم (البينة
على المدعي واليمين على من أنكر) ولأن المدعى عليه الأصل براءة ذمته ولم
يظهر كذبه فكان القول قوله كسائر الدعاوى
(10/15)
ولأنه مدعى عليه فلم تلزمه اليمين والغرم
كسائر الدعاوى وقول النبي صلى الله عليه وسلم أولى من قول عمر وأحق
بالاتباع.
ثم قضية عمر يحتمل أنهم اعترفوا بالقتل خطأ وأنكروا العمد فأحلفوا على
العمد ثم أنهم لا يعلمون بخبر النبي صلى الله عليه وسلم المخالف للاصول وقد
صاروا ههنا إلى ظاهر قول عمر المخالف للأصول وهو إيجاب الأيمان على غير
المدعى عليه وإلزامهم الغرم مع عدم الدعوى عليهم والجمع بين تحليفهم
وتغريمهم وحبسهم على الأيمان قال إبن المنذر: سن النبي صلى الله عليه وسلم
البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه وسن القسامة في القتيل الذي وجد
بخيبر، وقول أصحاب الرأي خارج عن هذه السنن (فصل) ولا تسمع الدعوى على غير
معين فلو كانت الدعوى على أهل مدينة أو محلة أو واحد غير معين أو جماعة
منهم بغير أعيانهم لم تسمع وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي تسمع
ويستحلف خمسون منهم لأن الأنصار ادعوا القتل على يهود خيبر ولم يعينوا
القاتل فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم دعواهم ولنا أنها دعوى في حق فلم
تسمع على غير معين كسائر الدعاوى فأما الخبر فأن دعوى الأنصار التي سمعها
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن الدعوى التي بين الخصمين المختلف فيها
فان تلك من شرطها حضور المدعى عليه عليه عندهم أو تعذر حضوره عندنا وقد بين
النبي صلى الله عليه وسلم إن الدعوى لا تصح إلا على واحد بقوله (تقسمون على
رجل منهم فيدفع إليكم برمته) وفي هذا بيان أن الدعوى لا تصح على غير معين
(10/16)
[فصل] فأما ادعى القتل من غير وجود قتل ولا
عداوة فهي كسائر الدعاوى في اشتراط تعيين المدعى عليه وإن القول قوله لا
نعلم فيه خلافاً (الحال الثاني) أنه إذا ادعى القتل ولم يكن عداوة ولا لوث
فإنه لا يحكم على المدعى عليه بيمين ولا بشئ في إحدى الروايتين ويخلى سبيله
هذا الذي ذكره الخرقي، سواء كانت الدعوى خطأ أو عمداً لأنها دعوى فيما لا
يجوز بذله فلم يستحلف فيها كالحدود، ولأنه لا يقضى في هذه الدعوى بالنكول
فلم يحلف فيها كالحدود (والثانية) يستحلف وبه قال الشافعي وهو الصحيح لعموم
قوله عليه السلام (اليمين على المدعي عليه) وقوله عليه السلام (لو يعطى
الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه)
رواه مسلم ظاهر في ايجاب اليمين ههنا لوجهين (أحدهما) عموم اللفظ فيه
(والثاني) أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره في صدر الخبر بقوله (لا دعى
قوم دماء رجال واموالهم - ثم عقبه بقوله - ولكن اليمين على المدعى عليه)
فيعود الى المدعى عليه المذكور في الحديث، ولايجوز اخراجه منه الا بدليل
أقوى منه، ولأنها دعوى في حق آدمي فيستحلف كدعوى
المال ولأنها دعوى لو أقر بها لم يقبل رجوعه عنها فيجب اليمين فيها كالأصل
المذكور.
إذا ثبت هذا فالمشروع يمين واحدة وعن أحمد أنه يشرع خمسون يميناً لأنها
دعوى في القتل فيشرع فيها خمسون يميناً كما لو كان بينهم لوث وللشافعي فيها
كالروايتين
(10/17)
ولنا أن قوله عليه الصلاة والسلام (ولكن
اليمين على المدعى عليه) ظاهر في أنها يمين واحدة لوجهين (أحدهما) أنه وحد
اليمين فينصرف الى واحدة (الثاني) أنه لم يفرق في اليمين المشروعة في الدم
والمال ولأنها يمين يعضدها الظاهر والأصل فلم تغلظ كسائر الأيمان، ولأنها
يمين مشروعة في جنبة المنكر ابتداء فلم تغلظ بالتكرير كسائر الأيمان وبهذا
فارق ما ذكروه (فصل) فان نكل المدعى عليه عن اليمين لم يجب القصاص بغير
خلاف في المذهب، وقال أصحاب الشافعي إن نكل المدعى عليه ردت اليمين على
المدعي فحلف خمسين يميناً واستحق القصاص أو الدية ان كانت الدعوى عمداً
موجباً للقتل لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة أو الاقرار
والقصاص يجب بكل واحد منهما ولنا أن القتل يثبت ببينة ولا اقرار ولم يعضده
لوث فلم يجب القصاص كما لو لم ينكل ولا يصح الحاق الأيمان مع النكول ببينة
ولا اقرار لأنها أضعف منها بدليل انها لاتشرع الاعند عدمهما فتكون بدلا
عنهما والبدل أضعف من المبدل ولا يلزم من ثبوت الحكم بالاقوى ثبوته بالاضعف
ولا يلزم من وجوب الدية وجوب القصاص لأنه لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال
ولا بالشاهد واليمين ويحتاط له ويدرأ بالشبهات والدية بخلافه، فأما الدية
فتثبت بالنكول عند من يثبت المال به أو يرد اليمين على المدعي
(10/18)
فيحلف يمينا واحدة ويستحقها كما لو كانت
الدعوى في مال وسواء كانت الدعوى عمداً أو خطأ فان العمد متى تعذر ايجاب
القصاص فيه وجب به المال وتكون الدعوى ههنا كسائر الدعاوى والله علم
(الثالث) اتفاق الأولياء في الدعوى فإن ادعى بعضهم وأنكر بعض لم تثبت
القسامة) من شرط ثبوت القسامة اتفاق الأولياء على الدعوى فان كذب بعضهم
بعضاً فقال أحدهم قتله
هذا وقال الآخر لم يقتله هذا أو قال بل قتله هذا الآخر لم تثبت القسامة نص
عليه أحمد، وسواء كان المكذب عدلاً أو فاسقاً، وعن الشافعي أن القسامة لا
تبطل بتكذيب الفاسق لأن قوله غير مقبول ولنا أنه مقر على نفسه بتبرئة من
ادعى عليه أخوه فقبل كما لو ادعيا ديناً لهما وإنما لا يقبل قوله على غيره
وأما على نفسه فهو كالعدل لأنه لا يتهم في حقها، فأما إن لم يكذبه ولم
يوافقه في الدعوى مثل أن قال أحدهما قتله هذا وقال الآخر لا نعلم قاتله
فظاهر قوله ههنا أن القسامة لا تثبت وهو ظاهر كلام الخرقي لاشتراط دعاء
الأولياء على واحد وهذا قول مالك، وكذلك إن كان أحد الوليين غائباً فادعى
الحاضر دون الغائب أو ادعيا جميعا على واحد ونكل أحدهما عن الأيمان لم يثبت
القتل في قياس قول الخرقي، ومقتضى قول أبي بكر والقاضي ثبوت القسامة وكذلك
مذهب الشافعي لأن أحدهما لم يكذب الآخر فلم تبطل القسامة كما لو كان أحد
الوارثين امرأة أو صغيراً، فعلى قولهم يحلف المدعي خمسين يميناً ويستحق نصف
الدية لأن الأيمان ههنا بمنزلة البينة لا يثبت
(10/19)
شئ من الحق إلا بعد كمال البينة فأشبه ما
لو أدعى أحدهما ديناً لأبيهما فانه لا يستحق نصيبه من الدين إلا أن يقيم
بينة كاملة ولنا أنهما لم يتفقا في الدعوى فلم تثبت القسامة كما لو كذبه
ولأن الحق في محل الوفاق إنما ثبت بأيمانهما التي أقيمت مقام البينة ولا
يجوز أن يقوم أحدهما مقام الآخر في الأيمان كما في سائر الدعاوى فعلى هذا
إن قدم الغائب فوافق أخاه أو عاد من لم يعلم فقال قد عرفنه هو الذي عينه
أخي أقسما حينئذ وإن قال أحدهما قتله هذا وقال الآخر قتله هذا وفلان فعلى
قول الخرقي لا تثبت القسامة لأنها لا تكون إلاعلى واحد وعلى قول غيره
يحلفان على من اتفقا عليه ويستحقان نصف الدية ولا يجب القود لأنه إنما يجب
في الدعوى على واحد ويحلفان جميعاً على هذا الذي اتفقا عليه على حسب
دعواهما ويستحقان نصف الدية ولا يجب أكثر من نصف الدية لأن أحدهما يكذب
الآخر في النصف الآخر فبقي اللوث في حقه في نصف الدم الذي اتفقا عليه ولم
يثبت في النصف الذي كذبه أخوه فيه، ولا يحلف الآخر على الآخر لأن أخاه كذبه
في دعواه عليه، وإن قال أحدهما قتل أبي زيد وآخر لاأعرفه وقال الآخر قتله
عمرو وآخر لا أعرفه لم تثبت القسامة في ظاهر قول الخرقي لأنها لا تكون إلا
على واحد ولأنهما ما اتفقا في الدعوى على أحد ولا يمكن أن يحلفا على من لم
يتفقا على الدعوى عليه والحق إنما يثبت في محل الوفاق بايمان الجميع فكيف
يثبت في الفرع بيامان البعض؟ وقال أبو بكر والقاضي تثبت القسامة وهذا مذهب
الشافعي لأنه ليس ههنا تكذيب فإنه يجوز أن يكون الذي جهله كل واحد منهما
(10/20)
هو الذي عرفه أخوه فيحلف كل واحد منهما على
الذي عينه خمسين يميناً ويستحق ربع الدية وان عاد كل واحد منهما فقال قد
عرفت الذي جهلته وهو الذي عينه أخي حلف أيضاً على الذي حلف عليه أخوه وأخذ
منه ربع الدية، ويحلف خمسا وعشرين يمينا لأنه يبني على أيمان أخيه فلم
يلزمه أكثر من خمس وعشرين كما لو عرفه ابتداء، وفيه وجه آخر يحلف خمسين لأن
أخاه حلف خمسين يمينا، وللشافعي في هذا قولان كالوجهين، ويجئ في المسألة
وجه آخر أن الأول لا يحلف أكثر من خمس وعشرين يميناً لأنه إنما يحلف على ما
يستحقه والذي يستحقه النصف فيكون عليه نصف الأيمان كما لو حلف أخوه معه،
وإن قال كل واحد منهما الذي كنت جهلته غير الذي عينه أخي بطلت القسامة التي
أقسماها لأن التكذيب يقدح في اللوث فيرد كل واحد منهما ما أخذ من الدية،
وإن كذب أحدهما اخاه ولم يكذبه الآخر بطلت قسامة المكذب دون الذي لم يكذب
(فصل) إذا قال الولي بعد القسامة غلطت ما هذا الذي قتله، أو ظلمته بدعواي
القتل عليه أو قال كان هذا المدعى عليه في بلد آخر يوم قتل وليي وكان
بينهما بعد ولا يمكنه أن يقتله إذا كان فيه بطلت القسامة ولزمه رد ما أخذه
لأنه مقر على نفسه فقبل إقراره، وإن قال ما أخذته حرام سئل عن ذلك فإن قال
أردت انني كذبت في دعواي عليه بطلت قسامته أيضاً، فإن قال أردت أن الأيمان
تكون في جنبة المدعي عليه كمذهب أبي حنيفة لم تبطل القسامة لأنها تثبت
باجتهاد الحاكم فيقدم على اجتهاده، وإن قال هذا مغصوب وأقر بمن غصبه منه
لزمه رده عليه ولا يقبل قوله على من
(10/21)
أخذ منه لأن الانسان لا يقبل إقراره على
غيره وإن لم يقر به لأحد لم ترفع يده عنه لأنه لم يتعين مستحقه
وإن اختلفا في مراده فالقول قوله لأنه أعرف بقصده (فصل) وإن أقام المدعي
عليه بينة أنه كان يوم القتل في بلد بعيد من بلد المقتول لا يمكن مجيئه منه
اليه في يوم واحد بطلت الدعوى، وإن قالت البينة نشهد أن فلاناً لم يقتله لم
تسمع هذه الشهادة لأنه نفي مجرد، فان قالا ما قتله فلان بل قتله فلان سمعت
لأنها شهدت باثبات ضتمن النفي فسمعت كما لو قالت ما قتله فلان لأنه كان يوم
القتل في بلد بعيد (فصل) فإن جاء انسان فقال ما قتله المدعى عليه بل أنا
قتلته فكذبه الولي لم تبطل دعواه وله القسامة ولا يلزمه رد الدية وإن كان
أخذها لأنه قول واحد ولا يلزم المقر شئ لأنه أقر لمن يكذبه وان صدقه الولي
أو طالبه بموجب القتل لزمه رد ما أخذ وبطلت دعواه على الأول لأن ذلك جرى
مجرى الاقرار ببطلان الدعوى وهل له مطالبة المقر؟ فيه وجهان (أحدهما) له
مطالبته لأنه أقر له بحق فملك مطالبته به كسائر حقوق (والثاني) ليس له
مطالبته لأن دعواه على الاول انفراده بالقتل ابراء لغيره فلا يملك مطالبة
من أبرأه والمنصوص عن أحمد أنه يسقط القود عنهما وله مطالبة الثاني بالدية
فإنه قال في رجل شهد عليه شاهدان بالقتل فأخذ ليقاد منه فقام رجل فقال ما
قتله هذا أنا قتلته فالقود يسقط عنهما والدية على الثاني، ووجه ذلك ما روى
أن رجلاً
(10/22)
ذبح رجلاً في خربة وتركه وهرب وكان قصاب
يذبح شاة وأراد ذبح أخرى فهربت منه الى الخربة فتبعها حتى وقف على القتيل
والسكين بيده عليها الدم فأخذ على تلك الحال وجئ به الى عمر فأمر بقتله،
فقال القاتل في نفسه يا ويله قتلت نفسا ويقتل بسبي آخر فقام فقال أنا قتلته
لم يقتله هذا فقال عمر: إن كان قد قتل نفساً فقد أحيا نفساً، ودرأ عنه
القصاص، ولأن الدعوى على الأول شبهة في درء القصاص عن الثاني وتجب الدية
عليه لا قراره بالقتل الموجب لها، وهذا القول أصح وأعدل مع شهادة الأثر
بصحته (الرابع) أن يكون في المدعين رجال عقلاء ولا مدخل للنساء والصبيان
والمجانين في القسامة عمداً كان القتل او خطأ أما الصبيان فلا خلاف بين أهل
العلم أنهم لا يقسمون سواء كانوا من
الأولياء أو مدعى عليهم لأن الأيمان حجة على الحالف والصبي لا يثبت بقوله
حجة، ولو أقر على نفسه لم يقبل فلأن لا يقبل قوله في حق غيره أولى،
والمجنون في معناه لأنه غير مكلف فلا حكم لقوله وأما النساء فاذا كن من أهل
القتيل لم يستحلفن وبهذا قال ربيعة والثوري والليث والاوزاعي، وقال مالك
لهن مدخل في قسامة الخطأ دون العمد.
قال ابن القاسم: ولا يقسم في العمد إلا اثنان فصاعداً كما أنه لا يقتل إلا
بشاهدين، وقال الشافعي يقسم كل وارث بالغ لأنها يمين في دعوى فتشرع في حق
النساء كسائر الأيمان
(10/23)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (يقسم
خمسون رجلاً منكم ويستحقون دم صاحبكم) ولأنها حجة يثبت بها قتل العمد فلم
تسمع من النساء كالشهادة، ولأن الجناية المدعاة التي تجب القسامة عليها هي
القتل ولا مدخل للنساء في إثباته وإنما يثبت المال ضمناً، فجرى ذلك مجرى
رجل ادعى زوجية امرأة بعد موتها ليرثها فإن ذلك لا يثبت بشاهد ويمين ولا
بشهادة رجل وامرأتين وإن كان مقصودها المال، فأما إن كانت المرأة مدعى
عليها القتل فان قلنا انه يقسم من العصبة رجال لم تقسم المرأة أيضاً لأن
ذلك مختص بالرجال، وإن قلنا يقسم المدعى عليه فينبغي أن تستحلف لأنها لا
تثبت بقولها حقاً ولا قتلاً وانما هي كتبرئتها منه فتشرع في حقها اليمين
كما لو لم يكن لوث، فعلى هذا إذا كان في الأولياء نساء ورجال أقسم الرجال
وسقط حكم النساء، وإن كان منهم صبيان ورجال بالغون أو كان منهم حاضرون
وغائبون فان القسامة لا تثبت حتى يحضر الغائب ويبلغ الصبي لأن الحق لا يثبت
الا بالبينة الكاملة، والبينة أيمان الأولياء كلهم والأيمان لا تدخلها
النيابة ولأن الحق إن كان قصاصاً فلا يمكن تبعيضه فلا فائدة في قسامة
الحاضر والبالغ، وإن كان غيره فلا يثبت إلا بواسطة ثبوت القتل وهو لا يتبعض
أيضاً، وقال القاضي إن كان القتل عمدا لم يقسم الكبير حتى يبلغ الصغير ولا
الحاضر حتى يقدم الغائب لأن حلف الكبير الحاضر لا يفيد شيئاً في الحال، وإن
كان موجباً للمال كالخطأ وشبه العمد فللحاضر المكلف أن يحلف ويستحق قسطه من
الدية وهذا قول
(10/24)
أبي بكر ومذهب الشافعي، واختلفوا في كم
يقسم الحاضر؟ فقال ابن حامد يقسم بقسطه من الأيمان وان كان الاولياء اثنين
أقسم الحاضر خمسة وعشرين يمينا، وإن كانوا ثلاثة أقسم سبع عشرة يميناً، وإن
كانوا أربعة أقسم ثلاث عشرة يميناً وكلما قدم غائب أقسم بقدر ما عليه
واستوفى حقه لأنه لو كان الجميع حاضرين لم يلزمه أكثر من قسطه فكذلك إذا
غاب بعضهم كما في سائر الحقوق ولأنه لا يستحق أكثر من قسطه من الدية فلا
يلزمه أكثر من قسطه من الأيمان وقال أبو بكر يحلف الأول خمسين يمينا وهو
قول الشافعي لأن الحكم لا يثبت إلا بالبينة الكاملة والبينة هي الأيمان
كلها، وكذلك لو أدعى أحدهما ديناً لابيهما لم يستحق نصيبه منه إلا بالبينة
المثبتة لجميعه ولأن الخمسين في القسامة كاليمين الواحدة في سائر الحقوق،
ولو ادعى مالا له فيه شركة له به شاهد يحلف يميناً كاملة فاذا قدم الثاني
أقسم خمسا وعشرين يمينا وجها واحداً عند أبي بكر لأنه يبني على أيمان أخيه
المتقدمة وقال الشافعي فيه قول آخر يحلف خمسين يمينا أيضا لأن أخاه إنما
استحق بخمسين فكذلك هو، وحكي ذلك عن ابي بكر والقاضي أيضاً فاذا قدم ثالث
وبلغ فعلى قول أبي بكر يحلف سبع عشرة يميناً لأنه يبني على أيمان أخويه
وكذلك على أحد قولي الشافعي وعلى الثاني يقسم خمسين يمينا وان قدم رابع فهل
يحلف ثلاثة عشر يميناً أو خمسين؟ فيه قولان
(10/25)
(فصل) والخنثى المشكل يحتمل أن يقسم لأن
سبب القسامة وجد في حقه وهو الاستحقاق من الدية ولم يتحقق المانع من يمينه
ويحتمل أن لا يقسم لأنه لا يحمل من العقل فلا يثبت القتل بيمينه كالمرأة
(مسألة) (وذكر الخرقي من شروط القسامة أن تكون الدعوى عمداً يوجب القصاص
إذا ثبت القتل وأن تكون الدعوى على واحد) لا يختلف المذهب أنه لا يستحق
بالقسامة أكثر من قتل واحد وبهذا قال الزهري ومالك وبعض أصحاب الشافعي وقال
بعضهم يستحق بها قتل الجماعة لأنها بينة موجبة للقود فاستوى فيها الواحد
والجماعة كالبينة وقول أبي ثور نحو هذا ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم
(يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته) فخص بها الواحد ولأنها
بينة ضعيفة
خولف بها الأصول في قتل الواحد فيقتصر عليه ويبقى على الأصل فيما عداه
وبيان مخالفة الأصل بها أنها تثبت باللوث واللوث شبهة مغلبة على الظن صدق
المدعي والقود يسقط بالشبهات فكيف يثبت بها؟ ولأن الايمان ثبتت ابتداء في
سائر الدعاوي في جانب المدعى عليه وهذه بخلافه وبيان ضعفها أنها تثبت بقول
المدعي ويمينه مع التهمة في حقه والشك في صدقه وقيام العداوة المانعة من
صحة الشهادة عليه في اثبات حق لغيره فلأن يمنع من قبول قوله وحده في إثبات
حق له أولى وأحرى وفارق البينة فانها قويت بالعدد وعدالة الشهود وانتفاء
التهمة في حقهم من الجهتين في كونهم لا يثبتون لأنفسهم حقاً ولا نفعاً
(10/26)
فلا يدفعون عنها ضرراً ولا عداوة بينهم
وبين المشهود عليه ولهذا يثبت بها سائر الحقوق والحدود التي تنتفي
بالشبهات.
إذا ثبت هذا فلا قسامة فيما لا قود فيه في قول الخرقي فيطرد قوله في أن
القسامة لا تسوغ إلا في حق واحد، وعند غيره من أصحابنا أن القسامة تجري
فيما لاقود فيه فيجوز أن يقسموا على جماعة وهذا قول مالك والشافعي فعلى هذا
إذا ادعى على رجلين على أحدهما لوث دون الآخر حلف على من عليه اللوث خمسين
يميناً واستحق الدية عليه وحلف على الآخر يمينا واحدة وبرئ، وإن نكل عن
اليمين فعليه نصف الدية وإن ادعى على ثلاثة عليهم لوث ولم يحضر إلا أحدهم
حلف على الحاضر منهم خمسين يميناً واستحق ثلث الدية فإذا حضر الثاني ففيه
وجهان (أحدهما) يحلف عليه خمسين يميناً أيضاً ويستحق ثلث الدية لأن الحق لا
يثبت على احد الرجلين الا بما يثبت على صاحبه كالبينة فانه يحتاج الى اقامة
البينة الكاملة على الثاني كاقامتها على الأول (والثاني) يحلف عليه خمساً
وعشرين يميناً لأنهما لو حضرا معاً لحلف عليهما خمسيناً حصة كل واحد منهما
خمس وعشرون وهذا الوجه ضعيف فان اليمين لا تقسم عليهم إذا حضروا ولو حلف
على كل واحد منفرداً حصته من الأيمان لم يصح ولم يثبت له حق وإنما الأيمان
عليهم جميعهم وتتناولهم
(10/27)
تناولاً واحداً ولأنها لو قسمت عليهم
بالحصص لوجب أن لا يقسم على الأول أكثر من سبع عشرة يميناً وإن قيل إنما
حلف بقدر حصته وحصة الثالث فينبغي أن يحلف أربعاً وثلاثين يميناً، واذا قدم
الثالث ففيه وجهان (أصحهما) يحلف عليه خمسين يميناً ويستحق ثلث الدية
(والآخر) يحلف سبع عشرة يميناً وإن حضروا جميعاً حلف عليهم خمسين يميناً
واستحق الدية عليهم أثلاثاً وهذا التفريع يدل على اشتراط حضور المدعى عليه
وقت الأيمان وذلك أنها أقيمت مقام البينة فاشترط حضور من أقيمت عليه
كالبينة وكذلك إن ردت الأيمان على المدعى عليهم اشترط حضور المدعين وقت حلف
المدعى عليهم لأن الأيمان له عليهم فيعتبر رضاه بها وحضوره إلا أن يوكل
وكيلاً فيقوم مقام الموكل (فصل) ويبدأ في القسامة بأيمان المدعين فيحلفون
خمسين يميناً، الكلام في هذا الفصل في أمرين (أحدهما) أن الأيمان تشرع في
حق المدعين أولاً فيحلفون خمسين يميناً على المدعى عليه أنه قتلهم ويثبت
حقهم فان لم يحلفوا حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ وهذا قول يحيى بن
(10/28)
سعيد وربيعة وأبي الزناد والليث ومالك
والشافعي وقال الحسن يستحلف المدعى عليهم أولاً خمسين يمينا ويبرءون فان
أبوا أن يحلفوا استحلف خمسين من المدعين أن حقنا قبلكم ثم يعطون الدية لقول
النبي صلى الله عليه وسلم (ولكن اليمين على المدعى عليه) رواه مسلم، وفي
لفظ (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) رواه الشافعي في مسنده
وروى أبو داود باسناده عن سليمان بن يسار عن رجال من الانصار أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال ليهود وبدأ بهم (يحلف منكم خمسون رجلا) فأبوا فقال
للانصار (استحقوا) قالوا نحلف على الغيب يارسول الله فجعلها رسول الله صلى
الله عليه وسلم على اليهود ابتداء ولأنه وجد بين أظهرهم ولأنها يمين في
دعوى فوجبت في جانب المدعى عليه ابتداء كسائر الدعاوى، وقال الشعبي والنخعي
والثوري وأصحاب الرأي يستحلف خمسون رجلا من أهل المحلة التي وجد فيها
القتيل بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ويغرمون الدية لقضاء عمر رضي الله
عنه بذلك ولم نعرف له في الصحابة مخالفا فكان إجماعا وتكلموا في حديث سهل
بما روى أبو داود عن محمد بن ابراهيم بن الحارث التيمي عن عبد الرحمن بن
بجيد بن قنطى أحد بني حارثة قال ابن ابراهيم ويم الله ماكان سهل بأعلم منه
ولكنه كان أسن منه قال والله ما قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم (احلفوا على ما لا علم لكم به) ولكنه كتب الى
يهود حين كلمته الأنصار أنه وجد
(10/29)
بين أبنائكم قتيل فدوه فكتبوا يحلفون بالله
ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلاً فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده
ولنا حديث سهل وهو صحيح متفق عليه، ورواه مالك في موطئه وعمل به وما عارضه
من الحديث لا يصح لوجوه (أحدها) انه نفي فلا يرد به قول المثبت (والثاني)
أن سهلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد القصة وعرفها حتى انه
قال: ركضتني ناقة من الابل والآخر يقول برأيه وظنه من غير أن يرويه عن أحد
ولا حضر القصة (والثالث) أن حديثنا مخرج في الصحيحين وحديثهم بخلافه
(الرابع) أنهم لا يعلمون بحديثهم ولا حديثنا فكيف يحتجون بما هو حجة عليهم
فيما خالفوه
(10/30)
فيه؟ وحديث سليمان بن يسار عن رجال من
الانصار لم يذكر لهم صحبة فهو أدنى حالا من حديث محمد ابن ابرايهم وقد خالف
الحديثين جميعاً فكيف يجوز أن يعتمد عليه وحديث اليمين على المدعي عليه لم
يرد به هذه القضية لأنه يدل على أن الناس لا يعطون بدعواهم وههنا قد أعطوا
بدعواهم على أن حديثنا أخص منه فيجب تقديمه وهو حجة عليهم لكون المدعين
أعطوا بمجرد دعواهم من غير بينة ولا يمين منهم وقد رواه ابن عبد البر
بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة) وهذه الزيادة
يتعين العمل بها لأن الزيادة
(10/31)
من الثقة مقبولة ولأنها أيمان مكررة فيبدأ
فيها بأيمان المدعين كاللعان.
إذا ثبت هذا فإن أيمان القسامة خمسون على ما جاءت به الأحاديث الصحيحة.
وأجمع عليه أهل العلم لا نعلم احدا خالف فيه
(الامر الثاني) أن الايمان تختص بالوارث دون غيرهم هذا ظاهر المذهب وظاهر
قول الخرقي واختيار ابن حامد وهو قول الشافعي لأنها يمين في دعوى حق فلا
تشرع في حق غير المتداعيين كسائر الأيمان فعلى هذه الرواية يقسم بين الورثة
من الرجال من ذوي الفروض والعصبات على قدر ارثهم إن كانوا جماعة وإن كان
واحداً حلفها فإن انقسمت من غير كسر مثل أن يخلف المقتول
(10/32)
ابنين أو أخا وزوجا حلف كل واحد منهم خمساً
وعشرين يمينا، وإن كان فيها كسر جبر عليهم مثل زوج وابن يحلف الزوج ثلاثة
عشر يميناً والابن ثمانية وثلاثين يميناً لأن تكميل الخمسين واجب ولا يمكن
تبعيض اليمين ولا حمل بعضهم لها عن بعض فوجب تكميل اليمين المنكسرة في حق
كل واحد منهم فان كانوا ثلاثة بنين أو جداً وأخوين جبر الكسر فحلف كل واحد
سبع عشرة يميناً، وإن خلف أخا من أب وأخا من أم فعلى الأخ من الأم سدس
الأيمان ثم يجبر الكسر فيكون عليه تسع أيمان وعلى الأخ من الأب اثنان
وأربعون وهذا أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر يحلف كل
(10/33)
واحد من المدعين خمسين يميناً سواء تساووا
في الميراث أو اختلفوا فيه لأن ما حلفه الواحد إذا انفرد حلفه كل واحد من
الجماعة كاليمين الواحدة في سائر الدعاوي وعن مالك أنه قال ينظر إلى من
عليه أكثر اليمين فيجبر عليه ويسقط عن الآخر ولنا على أن الخمسين تقسم
بينهم قول النبي صلى الله عليه وسلم للانصاريين (تحلفون خمسين يميناً
وتستحقون دم صاحبكم) وأكثر ماروي عنه في الأيمان خمسون ولو حلف كل واحد
خمسين لكانت مائة ومائتين وهذا خلاف النص، ولأنها حجة للمدعين فلم تزد على
ما يشرع في حق الواحد كالبينة ويفارق اليمين
(10/34)
على المدعى عليه فانها ليست حجة للمدعي
ولأنها لم يمكن قسمتها فكملت في حق كل واحد كاليمين المنكسرة في القسامة
فانها تجبر وتكمل في حق كل واحد لكونها لاتتبعض ومالا يتبعض يكمل كالطلاق
والعتق، وما ذكره مالك لا يصح لأنه اسقاط لليمين عمن عليه بعضها فلم يجز
كما لو تساوى الكسران
بأن يكون على كل واحد نصفها أو ثلثها إن كانوا ثلاثة وبالقياس على من عليه
أكثرها، ولان اليمين في سائر الدعاوي تكمل في حق كل واحد ويستوي من له في
المدعى قليل وكثير كذا ههنا ولأنه يفضي إلى أن يتحمل اليمين غير من وجبت
عليه عمن وجبت عليه فلم يجز ذلك كاليمين الكاملة وكالجزء الأكبر
(10/35)
(فصل) فإن كان فيهم من لاقسامة عليه بحال
وهو النساء سقط حكمه فإذا كان ابن وبنت حلف الابن الخمسين كلها وان كان أخ
وأخت لأم وأخ وأخت لأب قسمت الأيمان بين الأخوين على احد عشر: على الأخ من
الأم ثلاثة وعلى الآخر ثمانية ثم يجبر الكسر عليهما فيحلف الأخ من الأب
سبعاً وثلاثين يميناً والأخ من الأم أربع عشرة يميناً (فصل) فإن مات
المستحق انتقل إلى وارثه ما عليه من الأيمان وكانت الايمان بينهم على حسب
مواريثهم ويجبر الكسر فيها عليهم كما يجبر في حق ورثة القتيل.
فان مات بعضهم قسم نصيبه من الأيمان بين ورثته فلو كان للقتيل ثلاثة بنين
كان على كل واحد سبع عشرة يميناً، فان مات بعضهم قبل
(10/36)
أن يقسم وخلف ثلاثة بنين قسمت أيمانه بينهم
فكان على كل واحد منهم ستة أيمان، وان خلف اثنين حلف كل واحد تسعة أيمان.
وانما قلنا هذا لأن الوارث يقوم مقام الموروث في إثبات حججه كما يقوم مقامه
في استحقاق ماله وهذا من حججه ولذلك يملك إقامة البينة والحلف في الانكار
ومع الشاهد الواحد في دعوى المال، فإن كان موته بعد شروعه في الايمان فحلف
بعضها فان ورثته يستأنفون الايمان ولا يبنون على أيمانه لان الخمسين جرت
مجرى اليمين الواحدة ولأنه لا يجوز أن يستحق أحد شيئاً بيمين غيره ولا يبطل
هذا بما إذا حلف جميع الايمان ثم مات لأنه لا يستحق المال إرثا عنه،
لابيمينه ولا بما إذا حلف الوارثان كل واحد منهما خمسا وعشرين يميناً فان
الدية تستحق
(10/37)
بيمينهما لانهما يشتركان في الايمان ويستحق
كل واحد بقدر أيمانه ولا يستحق بأيمان غيره وإن
كان اجتماع العدد شرطاً في استحقاقها (فصل) ولو حلف بعض الايمان ثم جن ثم
أفاق فانه يتمم ولا يلزمه الاستئناف لأن أيمانه وقعت موقعها بخلاف الموت
فان الموت يتعذر معه إتمام الأيمان منه وغيره لايبني على يمينه وههنا يمكنه
أن يتمها إذا أفاق ولا يبطل بالتفريق بدليل أن الحاكم إذا أحلفه بعض
الأيمان ثم تشاغل عنه لم يبطل ويتمها وما لا يبطله التفريق لا يبطله تخلل
الجنون كالسعي بين الصفا والمروة.
وان حلف بعض الايمان
(10/38)
ثم عزل الحاكم وولي غيره أتمها عند الثاني
ولم يلزمه استئنافها لان الايمان وقعت موقعها، وكذلك لو حلف بعضها ثم سأل
احاكم إنظاره فأنظره بنى على ما مضى ولم يلزمه الاستئناف لما ذكرنا (فصل)
وإذا حلف الاولياء استحقوا القود إذا كانت الدعوى عمداً إلا أن يمنع منه
مانع، روى ذلك عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز وبه قال مالك وأبو ثور
وابن المنذر، وعن معاوية وابن عباس والحسن وإسحاق لا يجب بها لا الدية لقول
النبي صلى الله عليه وسلم لليهود (إما أن تدوا صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب
من الله ورسوله) ولأن أيمان المدعين إنما هي لغلبة الظن وحكم الظاهر فلا
يجوز إشاطة الدم بها لقيام الشبهة المتمكنة ولانها حجة لا يثبت بها النكاح
فلا يجب بها القصاص كالشاهد واليمين وللشافعي قولان كالمذهبين
(10/39)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (يقسم
خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته وفي رواية مسلم ويسلم اليكم وفي
لفظ وتستحقون دم صاحبكم) وأراد دم القاتل لان دم القتيل ثابت لهم قبل
اليمين، ولرمة الحبل الذي يربط به من عليه القود، ولأنها حجة يثبت بها
العمد فيجب بها القود كالبينة، وقد روى الأثرم بإسناده عن عامر الاحول أن
النبي صلى الله عليه وسلم اقاد بالقسامة بالطائف وهذا نص، ولأن الشارع جعل
القول قول المدعي مع يمينه احتياطاً للدم فان لم يجب القود سقط هذا المعنى
(مسألة) (وعن أحمد يحلف من العصبة الوارث منهم وغير الوارث خمسون رجلا كل
واحد يميناً) اختلفت الرواية عن أحمد فيمن تجب عليه ايمان القسامة فروي
أنها تختص بالذكور من الوارث
وهو ظاهر المذهب وقد ذكرناه وروي عنه رواية ثانية أنه يحلف من العصبة وغير
الوارث خمسون
(10/40)
رجلا كل واحد يميناً واحدة وهذا قول لمالك
فعلى هذا يحلف الوراث منهم الذين يستحقون دمه فان لم يبلغوا خمسين تمموا من
سائر العصبة يؤخذ الاقرب منهم فالأقرب من قبيلته التي ينتسب اليها ويعرف
كيفية نسبه من المقتول، فأما من عرف انه من القبيلة ولم يعرف وجه النسب لم
يقسم مثل أن يكون الرجل قرشياً والمقتول قرشي ولا يعرف كيفية نسبه منه فلا
يقسم لأننا نعلم أن الناس كلهم من آدم ونوح وكلهم يرجعون إلى أب واحد، ولو
قتل من لا يعرف نسبه لم يقسم عنه سائر الناس فان لم يوجد من نسبه خمسون
رددت الأيمان عليهم وقسمت عليهم فان انكسرت بينهم عليهم جبر كسرها
(10/41)
عليهم حتى تبلغ خمسين لقول النبي صلى الله
عليه وسلم للانصار (يحلف خمسون رجلا منكم وتستحقون دم صاحبكم) وقد علم
النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن لعبد الله بن سهل خمسون رجلاً وارثاً
فانه لا يرثه إلا اخوة أو من هو في درجته) أو أقرب منه نسباً ولأنه خاطب
بهذا ابني عمه وهما غير وارثين (فصل) ويستحب أن يستظهر في ألفاظ اليمين في
القسامة تأكيداً فيقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم خائنة الأعين وما
تخفي الصدور فان اقتصر على لفظة والله كفى ويقول والله أو بالله أو تالله
بالجر كما تقتضيه العربية فان قاله مضموما أو منصوبا فقد لحن، قال القاضي
ويجزئه تعمده أو لم يتعمده لانه لحن لا يحيل المعنى وهو قول الشافعي وما
زاد على هذا تأكيد ويقول لقد قتل فلان بن فلان الفلاني ويشير اليه فلاناً
ابني أو أخي منفرداً بقتله ما شركه غيره وان كنا اثنين قال منفردين بقتله
ما شركهما غيرهما، ثم يقول عمداً أو خطأ وبأي اسم من أسماء الله سبحانه أو
صفة من صفات ذاته
(10/42)
حلف أجزأ اذا كان اطلاقه ينصرف إلى الله
تعالى، ويقول المدعى عليه في اليمين والله ما قتلته ولا شاركت في قتله
ولافعلت سبباً مات منه ولا كان سبباً في موته ولا معيناً على موته (مسألة)
(فإن لم يحلف المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ)
هذا ظاهر المذهب وهو الذي ذكره الخرقي وبه قال يحيى الانصاري وربيعة وأبو
الزناد والليث والشافعي وأبو ثور وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد أنهم
يحلفون ويغرمون الدية لقضية عمر وخبر سليمان بن يسار وهو قول أصحاب الرأي
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم) اي
يبرءون منكم وفي لفظ قال (فيحلفون خمسين يمينا ويبرءون من دمه) وقد ثبت أن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يغرم اليهود وانه أداها من عنده ولانها أيمان
مشروعة في حق المدعى عليه فيبرأ بها كسائر الايمان ولان ذلك إعطاء بمجرد
(10/43)
الدعوى فلم يجز للخبر ومخالفة مقتضى الدليل
فان قول الانسان لا يقبل على غيره بمجرده كدعوى المال وسائر الحقوق ولأن في
ذلك جمعا ين اليمين والغرم فلم يشرع كغيره من الحقوق (فصل) وإذا ردت
الأيمان على المدعى عليهم وكان عمداً لم يجز على أكثر من واحد فيحلف خمسين
يميناً وإن كانت على غير عمد كالخطأ وشبه العمد فلا قسامة في ظاهر كلام
الخرقي لأن القسامة من شرطها اللوث والعداوة وهي إنما تؤثر في تعمد القتل
لا في خطئه فان احتمال الخطأ في العدو وغيره سواء وقال غيره ومن أصحابنا
فيه قسامة وهو قول الشافعي لأن اللوث يختص العداوة عندهم فعلى هذا تجوز
الدعوى على جماعة فاذا ادعى على جماعة حلف كل واحد منهم خمسين يميناً وقال
بعض أصحابنا تقسم الأيمان بينهم بالحصص كقسمها بين المدعين إلا انها ههنا
تقسم بالسوية لأن المدعى
(10/44)
عليهم متساوون فيها فه كبني الميت وللشافعي
قولان كالوجهين والحجة لهذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم (تبرئكم
يهود بخمسين يميناً) وفي لفظ قال (فيحلفون لكم خمسين يمينا ويبرءون من دمه)
ولأنهم أحد المتداعبين في القسامة فنقسط الأيمان على عددهم كالمدعين، وقال
مالك يحلف من المدعى عليهم خمسون رجلا خمسين يميناً فان لم يبلغوا خمسين
رجلاً رددت على من حلف منهم حتى تكمل خمسين يميناً فان لم يجد أحداً يحلف
إلا الذي ادعى عليه حلف وحده خمسين يميناً ولنا أن هذه أيمان يبرئ بها كل
واحد نفسه من التقل فكان على كل واحد خمسون كما لو ادعى
على كل واحد وحده قتيل ولأنه لا يبرئ المدعى عليه حال الاشتراك إلا ما
يبرئه حالة الانفراد ولأن كل واحد منهم يحلف على غير ما حلف عليه صاحبه
بخلاف المدعين فان أيمانهم على شئ واحد فلا يلزم من تلفيقها تلفيق ما يختلف
مدلوله ومقصوده
(10/45)
(مسألة) (فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا
بيمين المدعى عليه فداه الامام من بيت المال) يعني أدى ديته لقضية عبد الله
بن سهل حين قتل بخيبر فأبى الانصار أن يحلفوا وقالوا كيف نقبل أيمان قوم
كفار؟ فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده كراهية أن يطل دمه فان تعذر
فداؤه من بيت المال لم يجب على المدعى عليهم شئ لان الذي توجه عليهم
اليمين، وقد امتنع مستحقوها من استيفائها فلم يجب لهم شئ كدعوى المال
(مسألة) (وإن طلبوا أيمانهم فنكلوا لم يحبسوا وهل تلزمهم الدية أو تكون في
بيت المال؟ على روايتين) إذا امتنع المدعى عليهم من اليمين لم يحبسوا حتى
يحلفوا، وعن أحمد رواية أخرى أنهم يحبسون حتى يحلفوا وهو قول أبي حنيفة
ولنا أنها يمين مشروعة في حق المدعى عليه فلم يحبس عليها كسائر الايمان.
إذا ثبت هذا
(10/46)
فإنه لا يجب القصاص بالنكول لأنه حجة ضعيفة
فلا يناط بها الدم كالشهاد واليمين قال القاضي ويديه الامام من بيت المال
نص عليه أحمد وروي عنه حرب بن اسماعيل أن الدية تجب عليهم وهذا والصحيح وهو
اختيار أبي بكر لأنه حكم يثبت بالنكول فيثبت في حقهم ههنا كسائر الدعاوى
ولأن وجوبها في بيت المال يفضي إلى إهدار الدم وإسقاط حق المدعين مع إمكان
جبره فلم يجز كما في سائر الدعاوى وههنا لو لم يجب على المدعى عليه مال
بنكوله ولم يجبر على اليمين لخلا من وجوب شئ عليه بالكلية، وقال أصحاب
الشافعي إذا نكل المدعى عليهم ردت الأيمان على المدعين إن قلنا موجبها
المال فان حلفوا استحقوا وإن نكلوا فلا شئ لهم، وإن قلنا موجبها القصاص فهل
ترد على المدعين؟ فيه قولان وهذا القول لا يصح لأن اليمين إنما شرعت في حق
المدعى عليه إذا نكل عنها المدعي فلا
ترد عليه كما لاترد على المدعى عليه إذا نكل المدعى عنها بعد ردها عليه في
سائر الدعاوى ولانه يمين مردودة على أحد المتداعبين فلا ترد على من ردها
كدعوى المال
(10/47)
(باب قتال أهل البغي) والاصل في هذا قول
الله تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت
إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله - إلى قوله -
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) ففيها خمس فوائد (أحدها) أنهم لم
يخرجوا بالبغي عن الإيمان فانه سماهم مؤمنين (الثانية) أنه أوجب قتالهم
(الثالثة) أنه أسقط قتالهم اذا فاءوا الى أمر الله (الرابعة) أنه أسقط عنهم
التبعة فيما أتلفوه في قتالهم اذا فاءوا إلى أمر الله (الخامسة) ان الآية
أفادت جواز قتال كل من منع حقاً عليه وروى عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول (من أعطى اماما صفقة يده وثمرة قبله فليطعه
ما استطاع فان جاء أحد ينازعه فاضربوا عنق الآخر) رواه مسلم.
وروى عرفجة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ستكون هنات وهنات (ورفع
صوته) ألا من خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان)
فكل من ثبتت إمامته وجبت طاعته وحرم الخروج عليه وقتاله لقول الله تعالى
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)
(10/48)
وروى عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع
الامر أهله وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من خرج من الطاعة
وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية)) رواه ابن عبد البر من حديث أبي هريرة
وأبي ذر وابن عباس كلها بمعنى واحد وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم على قتال
البغاة فان أبا بكر رضي الله انه قاتل ما نعي الزكاة، وعلي رضي الله عنه
قاتل أهل الجمل وأهل صفين وأهل النهروان
(مسألة) (وهم القوم الذين يخرجون على الامام بتأويل سائغ ولهم منعة وشوكة)
الخارجون عن قبضة الامام أصناف أربعة (أحدها) قوم امتنعوا من طاعته وخرجوا
عن قبضته بغير تأويل فهؤلاء قطاع الطريق ساعون في الارض بالفساد وقد ذكرنا
حكمهم (الثاني) قوم لهم تأويل إلا أنهم نفر يسير لامنعة لهم كالعشيرة
ونحوهم فهؤلاء حكمهم حكم الصنف الذي قبلهم في قول أكثر الاصحاب ومذهب
الشافعي لأن ابن ملجم لما جرح علياً قال للحسن إن برئت رأيت رأيي وأن مت
فلا تمثلوا به فلم يثبت لفعله حكم البغاة، ولأننا لو أثبتنا للعدد اليسير
(10/49)
حكم البغاة في سقوط ضمان ما أتلفوه أفضى
إلى اتلاف أموال الناس، وقال أبو بكر لا فرق بين الكثير والقليل وحكمهم حكم
البغاة اذا خرجوا عن قبضة الامام (الثالث) الخوارج الذين يكفرون بالذنب
ويكفرون علياً وعثمان وطلحة والزبير وكثيراً من الصحابة ويستحلون دماء
المسلمين وأموالهم ألا من خرج معهم فظاهر قول الفقهاء المتأخرين من أصحابنا
أنهم بغاة لهم حكمهم وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من
أهل الحديث وأما مالك فيرى استتابتهم فان تابوا وإلا قتلوا على افسادهم
لاعلى كفرهم، وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون حكمهم حكم
المرتدين تباح دماؤهم وأموالهم فان تحيزوا في مكان وكانت لهم منعة وشوكة
صاروا أهل حرب كسائر الكفار، وإن كانوا في قبضة الامام استتابهم كاستتابة
المرتدين فان تابوا وإلا قتلوا وكانت أموالهم فيأ لا يرثهم ورثتهم المسلمون
لما روى أبو سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (يخرج قوم
تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم يقرءون
القرآن لا يجاوز حناجرهم، ويمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر
في النصل فلا يرى شيئاً، وينظر في الريش فلا يرى شيئاً ويتمارى في الفوق)
وهو حديث صحيح ثابت الاسناد رواه البخاري ومالك في موطئه وفي لفظ قال (يخرج
في آخر الزمان أحداث الاسنان سفهاء الاحلام يقولون من خير قول الاية يقرءون
القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم
(10/50)
من الرمية فأينما لقيتهم فاقتلهم فان قتلهم
أجر لمن قتلهم يوم القيامة) رواه البخاري، وروي معناه من وجوه، يقول كما
خرج هذا السهم نقياً خالياً من الدم والفرث لم يتعلق منهما شئ كذلك خروج
هؤلاء من الدين يعني الخوارج وعن أبي أمامة انه رأى رءوسا منصوبة على درج
مسجد دمشق فقال: كلاب النار، شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه،
ثم قرأ (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) إلى آخر الآية فقيل له أنت سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال لو لم أسمعه الامرة أو مرتين أو ثلاثاً
أو أربعاً حتى عد سبعاً ما حدثتكموه قال الترمذي هذا حديث حسن ورواه مالك
عن سهل عن ابن عيينة عن أبي غالب أنه سمع أبا أمامة يقول شر قتلى تحت أديم
السماء وخير قتلى من قتلوه، كلاب أهل النار كلاب أهل النار كلاب أهل النار
كانوا مسلمين فصار واكفارا.
قلت يا أبا امامة هذا شئ تقوله؟ قال بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعن علي في قوله تعالى (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا) قال هم أهل
النهروان وعن أبي سعيد في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (هم شر
الخلق والخليقة لئن أدركتهم لا قتلنهم قتل عاد) وقيل لا يجاوز ايمانهم
حناجرهم، وأكثر الفقهاء على أنهم بغاة ولا يرون تكفيرهم، قال إبن المنذر لا
أعلم أحداً وافق أهل الحديث على تكفيرهم وجعلهم كالمرتدين، وقال ابن عبد
البر في الحديث الذي رويناه قوله عليه السلام (يتمارى في الفوق) يدل على
أنه لم يكفرهم لأنهم علقوا من الإسلام بشئ بحيث يشك في
(10/51)
خروجهم: وروي أن عليا لما قاتل أهل النهر
قال لاصحابه لا تبدوءهم بالقتال وبعث اليهم اقيدونا بعبد الله بن خباب
قالوا كلنا قتله فحينئذ استحل قتالهم لا قرارهم على أنفسهم بما يوجب قتلهم
وذكر ابن عبد البر عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن أهل النهر أكفار هم؟ قال
من الكفر فروا قيل فمنافقون؟ قال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا
قال فماهم؟ قال هم قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا وبغوا علينا وقاتلونا
فقاتلناهم، ولما جرحه ابن ملجم قال للحسن أحسنوا إساره وان عشت فانا ولي
دمي وان مت فضربة كضربتي وهذا رأي عمر بن عبد العزيز فيهم وكثير من
العلماء، وقال شيخنا رحمه الله والصحيح إن شاء الله تعالى ان الخوارج يجوز
قتلهم فان علياً رضي الله عنه قال لولا أن
يتظروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه
وسلم ولأن بدعتهم وسوء فعلهم يقتضي حل دمائهم بدليل ما أخبر به النبي صلى
الله عليه وسلم من عظم ذنبهم وانهم شر الخلق والخليقة وأنهم يمرقون من
الدين وأنهم كلاب النار، وحثه على قتالهم واخباره بأنه لو ادركهم لقتلهم
قتل عاد فلا يجوز الحاقهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عنهم،
وتورع كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتالهم ولا بدعة فيهم
(10/52)
(الصنف الرابع) (قوم من أهل الحق يخرجون عن
قبضة الامام ويرومون خلعه لتأويل سائغ وفيهم منعة يحتاج في كفهم الى جمع
الجيش فهؤلاء البغاة الذين يذكر في الباب حكمهم) وجملة الامران من اتفق
المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت امامة ووجبت معونته لما ذكرنا من النص في
أول الباب مع الاجماع على ذلك وفي معناه من ثبتت إمامته بعهد من النبي صلى
الله عليه وسلم أو بعهد امام قبله اليه، فان أبا بكر رضي الله عنه ثبتت
امامته باجماع الصحابة على بيعته وعمر ثبتت إمامته بعهد أبي بكر إليه
واجماع الصحابة على قبوله، ولو خرج رجل على إمام فقهره وغلب الناس بسيفه
حتى أقروا له وأذعنوا بطاعته وبايعوه صار اماماً يحرم قتاله والخروج عليه،
فان عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير فقتله واستولى على البلاد
وأهلها حتى بايعوه طوعاً وكرهاً وصار إماماً يحرم الخروج عليه، وذلك لما في
الخروج عليه من شق عصا المسلمين إراقة دمائهم وذهاب أموالهم، ويدخل الخارج
عليه في عموم قوله عليه الصلاة والسلام (من خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا
عنقه بالسيف كائناً من كان) فمن خرج على من ثبتت إمامته بأحد هذه الوجوه
باغيا وجب قتاله (مسألة) (وعلى الامام أن يراسلهم ويسألهم ما ينقمون منه
ويزل ما يذكرونه من مظلمة ويكشف من شبهة فان فاؤا والا قاتلهم) وجملة ذلك
أن الامام لا يجوز له قتالهم حتى يبعث اليهم من يسألهم ويكشف لهم الصواب
إلا
(10/53)
أن يخاف كلبهم فلا يمكن ذلك في حقهم، فأما
إن أمكن تعريفهم عرفهم ذلك وأزال يذكرونه من المظالم وأزال حججهم فان لجوا
قاتلهم حينئذ لأن الله تعالى بدأ بالأمر بالاصلاح قبل القتال فقال سبحانه
(وإن طائفتان من
المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي
تبغي حتى تفئ إلى أمر الله) وروي أن علياً رضي الله عنه راسل أهل البصرة
قبل وقعة الجمل ثم أمر أصحابه أن لا يبدء وهم بالقتال ثم قال: إن هذا يوم
من فلج فيه فلج يوم القيامة ثم سمعهم يقولون الله أكبر يا ثارات عثمان فقال
اللهم أكب قتلة عثمان لوجوهم.
وروى عبد الله بن شداد بن الهادي أن علياً لما اعتزله الحرورية بعث إليهم
عبد الله بن عباس فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلاف (فصل)
فان أبوا الرجوع وعظهم وخوفهم القتال وإنما كان ذلك لأن المقصود كفهم ودفع
شرهم لا قتلهم فاذا أمكن بمجرد القول كان أولى من القتال لما فيه من الضرر
بالفريقين فان فاؤا والا قاتلهم لقوله سبحانه (فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ
إلى أمر الله) (مسألة) (وعلى رعيته معونته على حربهم) للآية (مسألة) (فان
استنظروه مدة رجا رجوعهم فيها أنظرهم ويكشف عن حالهم ويبحث عن أمرهم فان
بان له أن قصدهم الرجوع إلى الطاعة ومعرفة الحق أمهلهم، قال إبن المنذر
أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم (مسألة) (فان ظن أنها مكيدة لم
ينظرهم وقاتلهم) اذا ظهر له أن اتسنظارهم مكيدة ليجتمعوا على قتاله وان لهم
مدداً ينتظرونه ليتقووا به أو خديعة
(10/54)
الامام ليأخذوه على غرة ويفترق عسكره
عاجلهم بالقتال لأنه لا يأمن أن يصير هذا طريقاً إلى قهر أهل الحق والعدل،
وهذا لا يجوز، وإن أعطوه عليه مالا لأنه لا يجوز أن يأخذ المال على إقرارهم
على مالا يحل إقرارهم عليه، وان بذلوا له رهائن على إنظارهم لم يجز أخذها
لذلك ولأن الرهائن لا يجوز قتلهم لغدر أهلهم عليه فلا يفيد شيئاً، وإن كان
في أيديهم أسارى من أهل العدل وأعطوا بذلك رهائن منهم قتلهم الامام واستظهر
للمسلمين فان اطلقوا أسرى المسلمين الذين عندهم أطلقت رهائنهم وإن قتلوا من
عندهم لم يجز قتل رهائنهم لانهم لا يقتلون بقتل غيرهم وإذا انقضت الحرب خلى
الرهائن كما يخلى الأسارى منهم، وان خاف الامام على الفئة العادلة الضعف
عنهم أخر قتالهم إلى أن تمكنه
القوة عليهم لأنه لا يأمن الاصطلام والاستئصال فيؤخرهم حتى تقوى شوكة أهل
العدل ثم يقاتلهم وان سألوه أن ينظرهم أبداو يدعهم وماهم عليه ويكفوا عن
المسلمين نظرت فان لم تعلم قوته عليهم وخاف قهرهم له إن قاتلهم تركهم وان
قوي عليهم لم يجز إقرارهم على ذلك لأنه لا يجوز أن يترك بعض المسلمين طاعة
الامام لا يأمن قوة شوكتهم بحيث يفضي إلى قهر الامام العادل ومن معه، ثم ان
أمكن دفعهم بدون القتل لم يجز قتلهم لأن المقصود دفعهم ولأن الدفع إذا حصل
بغير القتل لم يجز القتل من غير حاجة وإن حضر معهم من لا يقاتل لم يجز
قتله، وقال أصحاب الشافعي فيه وجه آخر يجوز
(10/55)
لأن علياً رضي الله عنه نهى أصحابه عن قتل
محمد بن طلحة السجاد وقال: إياكم وصاحب البرنس فقتله رجل وأنشأ يقول: وأشعث
قوام بآيات ربه * كثير التقى فيما ترى العين مسلم هتكت له بالرمح جيب قميصه
* فخر صريعاً لليدين وللفم على غير ذنب غير أن ليس تابعاً * علياً ومن
لايتبع الحق يظلم يناشدني حم والرمح شاجر * فهلا تلاحم قبل التقدم وكان
السجاد حامل راية أبيه ولم يكن يقاتل فلم ينكر علي قتله ولأنه صار ردءاً
لهم ولنا قوله تعالى (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم) والأخبار
الواردة في تحريم قتل المسلم والاجماع على تحريمه وإنما خص من ذلك ما حصل
ضرورة دفع الباغي والصائل ففيما عداه يبقى على العموم والاجماع، ولهذا حرم
قتل مدبرهم وأسرهم والإجهاز على جريحهم مع أنهم إنما تركوا القتال عجزاً
عنه ومتى ما قدر عليه عادو اليه، فمن لا يقاتل تورعاً عنه مع قدرته عليه
ولا يخالف منه القتال بعد ذلك أولى، ولأنه مسلم لم يحتج إلى دفعه ولا صدر
منه أحد الثلاثة فلم يحل دمه لقوله عليه الصلاة والسلام (لا يحل دم امرئ
مسلم إلا باحدى ثلاث) فأما حديث علي في نهيه عن قتل السجاد فهو حجة عليهم
فان نهي علي أولى من فعل من خالفه ولم يمتثل قول الله تعالى ولا قول رسوله
ولا قول إمامه وقولهم فلم ينكر قتله قلنا لم ينقل الينا أن علياً علم حقيقة
الحال في قتله ولا حضر قتله فينكره، وقد جاء
أن علياً رضي الله عنه حين طاف في القتلى رآه فقال السجاد ورب الكعبة هذا
الذي قتله بره بأبيه وهذا يدل على أنه لم يشعر بقتله ورأى كعب بن سور فقال:
يزعمون إنما خرج الينا الرعاع وهذا
(10/56)
الحبر بين أظهرهم ويجوز أن يكون تركه
الانكار عليهم اجتزاء بالنهي المتقدم ولأن القصد من قتالهم كفهم وهذا كاف
لنفسه فلم يجز قتله كالمنهزم (فصل) واذا قاتل معهم عبيد ونساء وصبيان فهم
كالرجل الحر البالغ يقاتلون مقبلين ويتركون مدبرين لأن قتالهم للدفع، ولو
أراد أحد هؤلاء قتل إنسان جاز دفعه وقتاله وإن أتى على نفسه ولذلك قلنا في
أهل الحرب اذا كان معهم النساء والصبيان قوتلوا وقتلوا (مسألة) (ولا
يقاتلهم بما يعم إتلافه كالمنجنيق والنار إلا لضرورة) لأنه لا يجوز قتل من
لا يقاتل وما يعم اتلافه يقع على من لا يقاتل فان دعت إلى ذلك ضرورة مثل أن
يحتاط بهم البغاة ولا يمكنهم المتخلص الابرميهم بما يعم إتلافه جاز وهذا
قول الشافعي وقال أبو حنيفة اذا تحصن الخوارج واحتاج الإمام إلى رميهم
بالمجنيق فعل ذلك ما كان لهم عسكر وما لم ينهزموا وان رماهم البغاة
بالمنجنيق والنار جاز رميهم بمثله (فصل) قال أبو بكر اذا اقتتلت طائفتان من
أهل البغي فقدر الامام على قهرهما لم يعن واحدة منهما لأنهما جميعاً على
الخطأ وإن عجز عن ذلك وخاف اجتماعهما على حربه ضم اليه أقربهما إلى الحق
فان استويا اجتهد برأيه في ضم إحداهما ولا يقصد بذلك معونة احداها بل
الاستعانة على الآخر فإذا هزمها لم يقاتل من معه حتى يدعوهم إلى الطاعة
لأنهم قد حصلوا في أمانة وهذا مذهب الشافعي (مسألة) (ولا يستعين في حربهم
بكافر ولا بمن يرى قتلهم مدبرين) وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي لا
بأس ان يستعين عليهم بأهل الذمة والمستأمنين وصنف آخر منهم اذا كان أهل
العدل هم الظاهرين على من يستعينون به
(10/57)
ولنا ان القصد كفهم وردهم الى الطاعة
لاقتلهم وهؤلاء يقصدون قتلهم فان دعت الحاجة الى
الاستعانة بهم فان كان يقدر على كفهم عن فعل مالا يجوز استعان بهم وإن لم
يقدر لم يجز (مسألة) (وهل يجوز أن يستعين عليهم بسلاحهم وكراعهم؟ على
وجهين) (أحدهما) لا يجوز لأنه لا يحل أخذ مالهم لكونه معصوماً بالاسلام
وإنما أبيح قتالهم لردهم الى الطاعة يبقى المال على العصمة كمال قاطع
الطريق إلا أن تدعو ضرورة فيجوز كما يجوز أكل مال الغير في المخمصة (والوجه
الثاني) يجوز قياساً على أسلحة الكفار (مسألة) (وذكر القاضي أن أحمد أومأ
الى جواز الانتفاع به حال الحرب) وهذا أحد الوجهين الذين ذكرناهما ولايجوز
في غير قتالهم وهو قول أبي حنيفة لأن هذه الحال لا يجوز فيها اتلاف نفوسهم
وحبس سلاحهم وكراعهم فجاز الانتفاع به كسلاح أهل الحرب، وقال الشافعي لا
يجوز ذلك الامن ضرورة اليه لأنه مال مسلم فلم يجز الانتفاع به بغير إذنه
كغيره من أموالهم ومتى انقضت الحرب وجب رده اليهم كما ترد سائر أموالهم
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس
منه) والله أعلم [مسألة] (ولا يتبع لهم مدبر ولا يجاز على جريح) وجملة ذلك
أن أهل البغي إذا تركوا القتال إما بالرجوع إلى الطاعة وإما بالقاء السلاح
أو بالهزيمة إلى فئة أو الى غير فئة وإما بالعجز لجراح أو مرض أو أسر فانه
يحرم قتالهم واتباع مدبرهم وبهذا قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة اذا هزموا ولا فئة لهم كقولنا وان كانت لهم فئة يلجأون
اليها جاز قتل مدبرهم وأسرهم والاجازة على جريحهم، فأما إذا لم تكن لهم فئة
لا يقتلون ولكن يضربون ضرباً وجيعاً
(10/58)
ويحبسون حتى يقلعوا عما هم عليه ويحدثوا
توبة، ذكر هذا في الخوارج ويروى عن ابن عباس نحو هذا واختاره بعض أصحاب
الشافعي لأنه متى لم يقتلهم اجتمعوا وعادوا الى المحاربة ولنا ماروي عن علي
رضي الله عنه أنه قال يوم الجمل (لا يذفف على جريح ولا يهتك ستر ولا يفتح
باب ومن أغلق بابا - أو بابه - فهو آمن ولا يتبع مدبر) وروي نحو ذلك عن
عمار وعن علي انه ودى قوماً من بيت مال المسلمين قتلوا مدبرين.
وعن أبي أمامة قال شهدت صفين فكانوا لا
يجيزون على جريح ولا يقتلون مولياً ولا يسلبون قتيلاً وروى القاضي في شرحه
عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يا ابن أم عبد
ماحكم من بغى على أمتي؟) فقلت الله ورسوله أعلم فقال (لا يتبع مدبرهم ولا
يجاز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ولا يقسم فيئهم) لأن المقصود دفعهم وكفهم
وقد حصل فلم يجز قتلهم كالصائل ولا يقتلون لما يخاف في ثاني الحال كما لو
لم تكن لهم فئة، فعلى هذا إذا قتل إنساناً منع من قتله ضمنه لأنه قتل
معصوماً لم يؤمر بقتله ويجب عليه القصاص في أحد الوجهين لأنه قتل مكافئاً
معصوماً (والثاني) لا يجب لأن في قتلهم اختلافاً بين الأئمة فكان ذلك شبهة
دارئة للقصاص لانه مما يندرئ بالشبهات، وأما أسيرهم فان دخل في الطاعة خلي
سبيله (مسألة) (ولا يغنم لهم مال ولا يسبى لهم ذرية) ولا نعلم في تحريمه
بين أهل العلم خلافاً لما ذكرنا من حديث أبي امامة وابن مسعود ولأنهم
معصومون وإنما أبيح من دمائهم وأموالهم ما حصل من ضرورة دفعهم وقتالهم وما
عداه يبقى على أصل التحريم وقد روي أن عليا يوم الجمل قال من عرف شيئاً من
ماله مع أحد فليأخذه وكان بعض أصحاب
(10/59)
علي قد أخذ قدراً وهو يطبخ فيها فجاء
صاحبها ليأخذها فسأله الذي يطبخ فيها إمهاله حتى ينضج الطبيخ فأبى وكبه
وأخذها وهذا من جملة مانقم الخوارج من علي فانهم قالوا انه قاتل ولم يسب
ولم يغنم فان حلت له دماؤهم فقد حلت له أموالهم وان حرمت عليه أموالهم فقد
حرمت عليه دماؤهم فقال لهم ابن عباس أفتسبون أمكم عائشة رضي الله عنها أم
تستحلون منها ما تستحلون من غيرها فان قلتم ليست أمكم كفرتم وان قلتم انها
أمكم واستحللتم سبيها فقد كفرتم يعني بقوله انكم إن جحدتم أنها أمكم فقد
قال الله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) فإن لم
تكن أماً لكم لم تكونوا من المؤمنين، ولأن قتال البغاة انما هو كدفعهم
وردهم إلى الحق لا لكفرهم فلا يستباح منهم الا ما حصل ضرورة الدفع كالصائل
وقاطع الطريق ويبقى حكم المال والذرية على أصل العصمة وما أخذ من سلاحهم
وكراعهم لم يرد اليهم حال الحرب لئلا يقاتلونا به
(مسألة) (ومن أسر من رجالهم حبس حتى تنقضي الحرب ثم يرسل) وجملة ذلك أن حكم
من أسر منهم أنه يخلى سبيله إن دخل في الطاعة وان أبى ذلك وكان رجلا جلداً
من أهل القتال حبس ما دامت الحرب قائمة فاذا انقضت الحرب خلي سبيله وشرط
عليه أن لا يعود إلى القتال (مسألة) (وإن أسر صبي أو امرأة فهل يفعل به ذلك
أو يخلى سبيله في الحال؟ يحتمل وجهين) (احدهما) يخلى سبيلهم في الحال
(والثاني) يحبسون لأن فيه كسر قلوب البغاة والأول أصح (فصل) فان أسر كل
واحد من الفريقين أسارى من الفريق الآخر جاز فداء أسارى أهل العدل بأسارى
البغاة فان قتل أهل البغي أسارى أهل العدل لم يجز لأهل العدل قتل أساراهم
لأنهم لا يقتلون بجناية غيرهم ولا يزرون وزر غيرهم فان أبى أهل البغي
مفاداة الأسرى الذين معهم وحبسوهم
(10/60)
احتمل أن لا يجوز لأهل العدل حبس من معهم
ليتوصلوا الى تخليص أساراهم بحبس الأسارى الذين معهم واحتمل أن لا يجوز
حبسهم ويطلقون لأن الذنب في حبس أسارى أهل العدل لغيرهم مسألة (وإذا انقضى
الحرب فمن وجد ماله في يد إنسان أخذه) لما ذكرنا من قول علي: من عرف شيئاً
أخذه ولأنه مال معصوم بالاسلام فأشبه مال غير البغاة مسألة (ولا يضمن أهل
العدل ما أتلفوه عليهم حال الحرب من نفس أو مال وهل يضمن البغاة ما أتلفوه
على أهل العدل في الحرب؟ على روايتين) وجملة ذلك أنه إذا لم يمكن دفع أهل
البغي إلا بقتلهم جاز ولا شئ على من قتلهم من إثم ولا ضمان ولا كفارة لأنه
فعل ما أمر به وقتل من أحل الله قتله وكذلك ما أتلفه أهل العدل على أهل
البغي حال الحرب من المال لا ضمان فيه لأنهم إذا لم يضمنوا الأنفس فالأموال
أولى (فصل) وان قتل العادل كان شهيداً لأنه قتل في قتال أمره الله تعالى به
بقوله سبحانه (فقاتلوا التي تبغي) وهل يغسل ويصلى عليه؟ فيه روايتان
[إحداهما] لا يغسل ولا يصلى عليه لأنه شهيد معركة أمر بالقتال فيها فأشبه
شهيد معركة الكفار [والأخرى] يغسل ويصلى عليه وهو قول الأوزاعي وابن المنذر
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة على من قال لا إله إلا الله
واستثنى قتيل الكفار في المركة ففيما عداه
يبقى على الأصل ولأن شهيد معركة الكفار اجره اعظم وفضله أكثر وقد جاء أنه
يشفع في سبعين من أهل بيته وهذا لا يلحق به في فضله فلا يثبت فيه مثل حكمه
لان الشئ إنما يقاس على مثله (فصل) وليس على أهل البغي أيضاً ضمان ما
أتلفوه حال الحرب من نفس ولا مال وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه
وعن أحمد رواية ثانية أنهم يضمنون وهو القول الثاني للشافعي
(10/61)
لقول أبي بكر رضي الله عنه لأهل الردة:
تدون قتلانا ولاندي قتلاكم ولأنها نفوس وأموال معصومة أتلفت بغير حق ولا
ضرورة دفع مباح فوجب ضمانه كالذي تلف في غير حال الحرب ولنا ماروى الزهري
أنه قال كانت الفتنة العظمى بين الناس وفيهم البدريون فأجمعوا على ان
لايقام حد على رجل ارتكب فرجاً حراماً بتأويل القرآن ولا يلزم مالاً اتلفه
بتأويل القرآن.
ولأنها طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل سائغ فلم تضمن ما اتلفت على الأخرى كأهل
العدل ولأن تضمينهم يفضي الى تنفيرهم عن الرجوع الى الطاعة فلا يشرع كتضمين
أهل الحرب.
فأما قول أبي بكر رضي الله عنه فقد رجع عنه ولم يمضه فان عمر قال له اما ان
يدوا قتلانا فلا فإن قتلانا قتلوا في سبيل الله على ما أمر الله فوافقه أبو
بكر ورجع الى قوله فصار إجماعاً حجة ولم ينقل أنه غرم أحداً شيئاً من ذلك
وقد قتل طليحة عكاشة بن محصن وثابت بن أرقم ثم أسلم فلم يغرم شيئاً ثم لو
وجب التغريم في حق المرتدين لم يلزم مثله ههنا فإن أولئك كفار لا تأويل لهم
وهؤلاء طائفة من المسلمين لهم تأويل سائغ فكيف يصح إلحاقهم به؟ مسألة (ومن
أتلف في غير حال الحرب شيئاً ضمنه سواء كان قبل الحرب أو بعده) وبهذا قال
الشافعي ولذلك لما قتل الخوارج عبد الله بن خباب أرسل اليهم علي أقيدونا من
عبد الله بن حباب ولما قتل ابن ملجم علياً في غير المعركة قتل به وهل يتحتم
قتل الباغي إذا قتل احداً من أهل العدل في غير المعركة؟ فيه وجهان [أحدهما]
يتحتم لأنه قتل باشهار السلاح والسعي في الأرض بالفساد فأشبه قطاع الطريق
[والثاني] لا يتحتم وهو الصحيح لقول علي رضي الله عنه ان شئت اعفو وان شئت
استقدت.
فاما الخواجر فالصحيح على ما ذكرنا إباحة قتلهم فلا قصاص على واحد منهم
ولاضمان عليه في ماله
(10/62)
(فصل) ومن قتل من أهل البغي غسل وصلي عليه
وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي إن لم يكن لهم فئة صلي عليهم وان كانت
لهم فئة لم يصل عليهم لأنه يجوز قتلهم في هذه الحالة فلم يصل عليهم كالكفار
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (صلوا على من قال لا إله إلا الله) رواه
الخلال في جامعه ولأنهم مسلمون لم يثبت لهم حكم الشهادة فيغسلون ويصلى
عليهم كما لو لم تكن لهم فئة.
وما ذكروه ينتقض بالزاني المحصن والمقتص منه والقاتل في المحاربة (فصل) ولم
يفرق أصحابنا بين الخوارج وغيرهم في هذا وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي
وظاهر كلام أحمد رحمه الله أنه لا يصلى على الخوارج فانه قال أهل البدع إن
مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تصلوا عليهم، وقال أحمد رضي الله عنه
الجهمية والرافضة لا يصلى عليهم قد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة
بأقل من هذا وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقاتل خيبر ناحية من
نواحيها فقاتل رجل من تلك الناحية فقتل فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه
وسلم فقيل له فان كان في قرية أهلها نصارى ليس فيها من يصلي عليه قال أنا
لا أشهده يشهده من شاء وقال مالك: لا يصلى على الاباضية ولا القدرية وسائر
أهل الاهواء ولا تتبع جنائزهم ولا تعاد مرضاهم، والاباضية صنف من الخوارج
نسبوا إلى عبد الله بن اباض صاحب مقالتهم والازارقة أصحاب نافع بن الأزرق
والنجدات أصحاب نجدة الحروري والبيهسية أصحاب بيهس والصفرية قيل انهم نسبوا
إلى صفرة ألوانهم وأصنافهم كثيرة
(10/63)
والحرورية نسبوا إلى أرض يقال لها حروراء
خرجوا بها قال أبو بكر بن عياش: لا أصلي على الرافضي لأنه يزعم أن عمر كافر
ولا على الحروري لأنه يزعم أن علياً كافر، وقال الفريابي: من سب أبا بكر
فهو كافر لا يصلى عليه، ووجه ترك الصلاة عليهم أنهم يكفرون أهل الاسلام ولا
يرون الصلاة عليهم فلا يصلى عليهم كالكفار من أهل الذمة وغيرهم لأنهم مرقوا
من الدين فأشبهوا المرتدين (فصل) والبغاة إذا لم يكونوا من أهل البدع ليسوا
بفاسقين وانما هم مخطئون في تأويلهم والامام وأهل العدل مصيبون في قتالهم
فهم جميعاً كالمجتهدين من الفقهاء في الاحكام من شهد منهم قبلت شهادته إذا
كان عدلاً وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم في قبول شهادتهم خلافاً فأما الخوارج
وأهل
البدع إذا خرجوا على الامام لم تقبل شهادتهم لأنهم فساق، وقال أبو حنيفة
يفسقون بالبغي وخروجهم ولكن تقبل شهادتهم لأن فسقهم من جهة الدين فلا ترد
به الشهادة والاختلاف في ذلك يذكر في كتاب الشهادة إن شاء الله تعالى (فصل)
ذكر القاضي أنه لا يكره للعادل قتل ذوي رحمه الباغين لأنه قتل بحق أشبه
إقامة الحد عليه وكرهت طائفة من أهل العلم القصد الى ذلك قال شيخنا وهو
الصحيح إن شاء الله تعالى
(10/64)
لقول الله تعالى (وإن جاهداك على أن تشرك
بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) وقال الشافعي
كف النبي صلى الله عليه وسلم أبا حذيفة بن عتبة عن قتل أبيه وقال بعضهم لا
يحل ذلك لأن الله تعالى أمر بمصاحبته بالمعروف وليس هذا من المعروف فان
قتله فهل يرثه؟ على روايتين (إحداهما) يرثه اختارها أبو بكر وهو مذهب أبي
حنيفة لأنه قتل بحق فلم يمنع الميراث كالقصاص والقتل في الحد (والثانية) لا
يرثه وهو قول ابن حامد ومذهب الشافعي لعموم قوله عليه الصلاة والسلام (ليس
لقاتل شئ) فأما الباغي إذا قتل العادل فلا يرثه وهو قول الشافعي وقال أبو
حنيفة يرثه لأنه قتل بتأويل أشبه قتل العادل الباغي ولنا أنه قتله بغير حق
فلم يرثه كالقتل خطأ، وفارق ما إذا قتله العادل لأنه قتله بحق وقال قوم إذا
تعمد العادل قتل قريبه فقتله ابتداء لم يرثه وان قصد ضربه ليصير غير ممتنع
فجرحه ومات من هذا الضرب ورثه ولأنه قتله بحق وهذا قول ابن المنذر وهو أقرب
الاقاويل (مسألة) (وما أخذوا في حال امتناعهم من زكاة او خراج أو جزية لم
يعد عليهم، ولا على صاحبه) إذا غلب أهل البغي على بلد فجبوا الخراج والزكاة
والجزية وأقاموا الحدود وقع ذلك موقعه فإذا ظهر
(10/65)
أهل العدل بعد على البلد وظفروا بأهل البغي
لم يطالبوا بشئ مما جبوه ولم يرجع به على من أخذ منه وروي نحو هذا عن ابن
عمر وسلمة بن الاكوع وهو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي سواء كان من
الخوارج أو من غيرهم وقال أبو عبيد على من أخذوا منه الزكاة الاعادة لأن
أخذها
ممن لا ولاية له صحيحة فأشبه ما لو أخذها آحاد الرعية ولنا أن علياً رضي
الله عنه لما ظهر على أهل البصرة لم يطالبهم بشئ مما جبوه وكان ابن عمر إذا
أتاه ساعي نجدة الحروري دفع اليه الزكاة وكذلك سلمة بن الاكوع ولأن في ترك
الاحتساب بها ضرراً عظيماً ومشقة كبيرة فانهم قد يغلبون على البلاد السنين
الكثيرة فلو لم يحتسب بما أخذوه أدى إلى ثنا الصدقات في تلك المدة كلها
(مسألة) (ومن ادعى دفع زكاته اليهم قبل بغير يمين) قال أحمد لا يستخلف
الناس على صدقاتهم (مسألة) (وإن ادعى ذمي دفع جزيته اليهم لم يقبل الا
ببينة) لأنهم غير مأمونين ولأن ما يجب عوض وليس بمواساة فلم يقبل قولهم فيه
كأجرة الدار ويحتمل أن يقبل قولهم إذا مضى الحول لأن الظاهر أن البغاة لا
يدعون الجزية لهم فكان القول قولهم
(10/66)
لأن الظاهر معهم ولأنه إذا مضى لذلك سنون
كثيرة شق عليهم اقامة البينة على كل عام فيؤدي ذلك إلى تغريمهم الجزية
مرتين (مسألة) (وإن ادعى دفع خراجه اليهم فهل يقبل بغير بينة؟ على وجهين)
(أحدهما) يقبل لأنه حق على مسلم فقبل قوله فيه كالزكاة (والثاني) لا يقبل
لأنه عوض فأشبه الجزية (مسألة) (وتجوز شهادتهم) لأنهم أخطئوا في فروع
الاسلام باجتهادهم فأشبه المجتهدين من الفقهاء في الأحكام وإذا لم يكونوا
من أهل البدع قبلت شهادتهم كأهل العدل وهو قول الشافعي ولا نعلم فيه خلافا
(مسألة) (ولا ينقض من حكم حاكمهم الا ما ينقض من حكم غيره) إذا نصب أهل
البغي قاضياً يصلح للقضاء فهو كقاضي أهل العدل ينفذ من أحكامه ما ينفذ من
أحكام قاضي أهل العدل ويرد منه ما يرد فإن كان ممن يستحل دماء أهل العدل
وأموالهم لم يجز قضاؤه لأنه ليس بعدل وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة لا
يجوز قضاؤه بحال لأن أهل البغي يفسقون ببغيهم والفسق ينافي القضاء
(10/67)
ولنا أنه اختلاف في الفروع بتأويل سائغ فلم
يمنع صحة القضاء ولم يفسق به كاختلاف الفقهاء إذا ثبت هذا فانه إذا حكم بما
لا يخالف نصاً ولا إجماعاً نفذ حكمه وإن خالف ذلك نقض حكمه كقاضي أهل
العدل، فان حكم بسقوط الضمان على أهل البغي فيما اتلفوه حال الحرب جاز حكمه
لأنه موضع اجتهاد، وان كان حكمه فيما أتلفوه قبل قيام الحرب لم ينفذ لأنه
مخالف للاجماع، وان حكم على أهل العدل بوجوب الضمان فيما أتلفوه حال الحرب
لم ينفذ حكمه لمخالفته للإجماع وإن حكم بوجوب ضمان ما أتلفوه في غير حال
الحرب نفذ حكمه، وإن كتب قاضيهم الى قاضي أهل العدل جاز قبول كتابه لأنه
قاض ثابت القضايا نافذ الاحكام، والأولى أنه لا يقبله كسراً لقلوبهم وقال
أصحاب الرأي لا يجوز وقد سبق الكلام في هذا فأما الخوارج إذا ولوا قاضيا لم
يجز قضاؤه لأن أقل أحوالهم الفسق وهو يمنع القضاء ويحتمل أن يصح قضاؤه
وتنفذ أحكامه لأن هذا مما يتطاول وفي القضاء بفساد قضاياه وعقوده الانكحة
وغيرها ضرر كثير فجاز دفعاً للضرر كما لو أقام الحدود وأخذ الجزية والخراج
والزكاة (فصل) وإذا ارتكب أهل البغي في حال امتناعهم ما يوجب الحد ثم قدر
عليهم أقيمت فيهم حدود الله تعالى ولا تسقط باختلاف الدار، وبهذا قال مالك
والشافعي وابن المنذر وقال أبو حنيفة: إذا امتنعوا بدار لم يجب الحد على
أحد منهم ولا على من تاجر أو أسر لأنهم خارجون عن دار الامام فأشبهوا من
دار الحرب ولنا عموم الآيات والأخبار ولأن كل موضع تجب فيه العبادات في
أوقاتها تجب الحدود فيه
(10/68)
عند وجود أسبابها كدار أهل العدل، ولأنه
زان أو سارق ولا شبهة في زناه وسرقته فوجب عليه الحد كالذي في دار العدل،
وهكذا القول فيمن أتى حدا في دار الحرب فانه يجب عليه لكن لا يقام الا في
دار الإسلام على ما ذكرناه في موضعه (مسألة) (وإن استعانوا بأهل الذمة
فأعانوهم انتقض عندهم إلا أن يدعوا أنهم ظنوا أنه تجب عليهم معونة من
استعان بهم من المسلمين ونحو ذلك فلا ينتقض عهدهم)
اذا استعان البغاة بأهل الذمة في قتال أهل العدل وقاتلوا معهم فقد ذكر أبو
بكر فيهم وجهين (أحدهما) ينتقض عهدهم لأنهم قاتلوا أهل الحق فانتقض عهدهم
كما لو انفردوا بقتالهم (والثاني) لا ينتقض لأن أهل الذمة لا يعرفون المحق
من المبطل فيكون ذلك شبهة لهم وللشافعي قولان كالوجهين فان قلنا ينتقض عدهم
صاروا كأهل الحرب فيما نذكره وإن قلنا لا ينتقض عهدهم فحكمهم حكم أهل البغي
في قتل مقبلهم والكف عن اسريهم ومدبرهم وجريحهم، وان أكرههم البغاة على
معونتهم أو ادعوا ذلك قبل منهم لأنهم تحت ايديهم وقدرتهم، وكذلك إن قالو
ظننا أن من استعان من استعان بنا من المسلمين لزمتنا معونته لأن ما ادعوه
محتمل فلا ينتقض عهدهم مع الشبهة (فصل) ويغرمون ما أتلفو من نفس ومال حال
القتال وغيره بخلاف أهل البغي فانهم لا يضمنون
(10/69)
ما اتلفوا حال الحرب لأنهم اتلفوه بتأويل
سائغ وهؤلاء لا تأويل لهم ولأن سقوط الضمان عن المسلمين كيلا يؤدي الى
تنفيرهم عن الرجوع الى الطاعة وأهل الذمة لا حاجة بنا الى ذلك فيهم (مسألة)
(وإن استعانوا بأهل الحرب وآمنوهم لم يصح امانهم وابيح قتلهم) إذا استعان
أهل البغي بالكفار لم يخل من ثلاثة أصناف (أحدها) أهل الذمة وقد ذكرنا
حكمهم (الثاني) أهل الحرب فاذا استعانو بهم وآمنوهم وعقدوا لهم ذمة لم يصح
واحد منهما لأن الأمان من شرط صحته التزام كفهم عن المسلمين وهؤلاء يشترطون
عليهم قتال المسلمين فلا يصح ولأهل العدل قتلهم كمن لم يؤمنوه سواء وحكم
اسيرهم حكم اسير سائر أهل الحرب قبل الاستعانة بهم فأما البغاة فلا يجوز
لهم قتلهم لأنهم آمنوهم فلا يجوز لهم الغدر بهم (الثالث) المستأمنون فمتى
استعانوا بهم فأعانوهم نقضوا عهدهم وصاروا كأهل الحرب لأنهم تركوا الشرط
وهو كفهم عن المسلمين، فان فعلوا ذلك مكرهين لم ينتقض أمانهم لان لهم عذر
أو ان ادعو الاكراه لم يقبل إلا ببينة لأن الأصل عدمه فإن ادعوا أنهم ظنوا
أنه يجب عليهم معونة من
(10/70)
استعان بهم من المسلمين انتقض عهدهم ولم
يكن ذلك عذراً لهم والفرق بينهم وبين أهل الذمة أن إن أهل الذمة أقوى حكماً
لأن عهدهم مؤبد ولا يجوز نقضه بخوف الخيانة منهم ويلزم الامام الدفع
عنهم والمستأمنون بخلاف ذلك (مسألة) (وإن أظهر قوم رأي الخوارج ولم يجتمعوا
لحرب لم يتعرض لهم) مثل تكفير من ارتكب كبيرة وترك الجماعة واستحلال دماء
المسلمين وأموالهم إلا أنهم لم يجتمعوا لحرب ولم يخرجوا عن قبضة الامام ولم
يسفكوا الدم الحرام، فحكى القاضي عن أبي بكر أنه لا يحل بذلك قتلهم ولا
قتالهم وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور أهل الفقه روى ذلك عن عمر ابن
عبد العزيز فعى هذا حكمهم في ضمان النفس والمسلمين (مسألة) (وان سبوا
الامام عزرهم وكذلك إن سبوا غيره من أهل العدل) لأنهم ارتكبوا محرماً لا حد
فيه وان عرضوا بالسب فهل يعزرون؟ على وجهين، وقال مالك في الاباضية وسائر
أهل البدع يستتابون فان تابوا وإلا ضربت أعناقهم قال اسماعيل بن إسحاق رأى
مالك قتل الخوارج وأهل القدر من أجل الفساد الداخل في الدين كقطاع الطريق
فان تابوا وإلا
(10/71)
قتلوا على افسادهم لا على كفرهم، وأما من
رأى تكفيرهم فمقتضى قوله انهم يستتابون فان تابوا وإلا قتلوا لكفرهم كما
يقتل المرتد، وحجتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي أنكر عليه وقال
انها قسمة ما أريد بها وجه الله لأبي بكر (اذهب فاقتله) ثم قال لعمر مثل
ذلك فأمر بقتله قبل قتاله وهو الذي قال (يخرج من ضئضئ هذا قوم) يعني
الخوارج وقول عمر لضبيع لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك بالسيف يعني
لقتلتك وإنما يقتله لكونه من الخوارج فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال
سيماهم التسبيد يعني حلق رؤوسهم واحتج الاولون بفعل علي رضي الله عنه فروي
عنه أنه كان يخطب يوماً فقال رجل بباب المسجد لاحكم إلا الله فقال علي كلمة
حق اريد بها باطل ثم قال لكم علينا ثلاث لا نمنعكم مساجد الله ان تذكروا
فيها اسم الله ولا نمنعكم الفئ ما دامت أيديكم معنا ولا نبدؤكم بقتال، وروى
أبويحيى قال صلى علي صلاة فناداه رجل (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من
الخاسرين) فأجابه علي (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)
وكتب علي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز أن الخوارج يسبونك فكتب اليه إن
سبوني فسبوهم أو اعفوا عنهم وإن شهروا السلاح فاشهروا وان ضربوا
فاضربوا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للمنافقين الذين معه في
المدينة فلأن يتعرض لغيرهم أولى
(10/72)
وقد روي في خبر الخارجي الذي أنكر عليه ان
خالداً قال يا رسول الله الا اضرب عنقه قال (لا لعله يصلي؟) قال رب مصل لا
خير فيه قال (اني لم أومر أن انقب على قلوب الناس) (مسألة) (وان جنوا جناية
أو أتوا حداً اقامه عليهم) لأن ابن ملجم جرح علياً فقال أطعموه واسقوه
واحبسوه فان عشت فانا ولي دمي اعفوا ان شئت وإن شئت استقدت وإن مت فاقتلوه
ولا تمثلوا به (مسألة) (وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو طلب رئاسة فهما
ظالمتان وتضمن كل واحدة منهما ما اتلفت على الأخرى) لأنها اتلفت نفسها
معصومة أو مالاً معصوماً هذا إذا لم تكن واحدة منهما في طاعة الامام فإن
كانت احداهما في طاعة الامام تقاتل بأمره فهي محقة وحكم الاخرى حكم من
يقاتل الامام لأنهم يقاتلون من أذن له الامام في قتالهم فاشبه المقاتل لجيش
الامام فيكون حكمهم حكم البغاة
(10/73)
باب حكم المرتد المرتد هو الذي يكفر بعد
إسلامه قال الله تعالى (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت
أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) وقال النبي
صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) وأجمع أهل العلم على وجوب قتل
المرتدين روى ذلك عن ابي بكر وعمر وعثمان وعلي عليه السلام ومعاذ وأبي موسى
وإبن عباس وخالد رضي الله عنهم وغيرهم فلم ينكر فكان إجماعا (مسألة) (فمن
أشرك بالله تعالى أو جحد ربوبيته أو وحد وحدانيته أو صفة من صفاته أو اتخذ
صاحبة أو ولداً أو جحد نبياً أو كتاباً من كتب الله أو شيئاً منه أو سب
الله سبحانه وتعالى أو رسوله كفر) وجملة ذلك أن المرتد هو الراجع عن دين
الاسلام إلى الكفر فمن أقر بالاسلام ثم أنكره وأنكر الشهادتين او إحداهما
كفر بغير خلاف
(مسألة) (فإن جحد وجوب العبادات الخمس أو شيئاً منها أو أحل الزنا أو الخمر
أو شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها لجهل عرف ذلك فإن كان ممن
لا يجهل ذلك كفر) وجملة ذلك أنه قد مضى شرح حكم وجوب الصلاة وغيرها من
العبادات الخمس في كتاب
(10/74)
الصلاة ولا خلاف بين أهل العلم في كفر من
ترك الصلاة جاحداً لوجوبها إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك فإن كان ممن
لايعرف الوجوب كحديث الاسلام والناشئ بغير دار الإسلام أو بادية بعيدة عن
الامصار وأهل العلم لم يحكم بكفره وعرف ذلك وثبتت له أدلة وجوبها فان جحدها
بعد ذلك كفر وأما ذا كان الجاحد ناشئاً بين المسلمين في الامصار بين أهل
العلم فان يكفر بمجرد جحدها وكذلك الحكم في مباني الإسلام كلها وهي الزكاة
والصيام والحج لأنها مباني الاسلام وأدلة وجوبها لاتكاد تخفى إذا كان
الكتاب والسنة مشحونين بأدلتها والاجماع منعقد عليها فلا يجحدها إلا معاند
للاسلام ممتنع من التزام الاحكام غير قابل لكتاب الله تعالى وسنة رسوله
وإجماع الأمة وكذلك من اعتقد حل شئ أجمع المسلمون على تحريمه وظهر حكمه بين
المسلمين وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا الخمر
واشباه هذه مما لا خلاف فيه كفر إذا كان قد نشأ بين المسلمين وهو ممن لا
يجهل مثله ذلك وقد ذكرناه في تارك الصلاة (فصل) ومن سب الله تعالى أو رسوله
كفر سواء كان جاداً أو مازحاً وكذلك من استهزأ بالله سبحانه وتعالى أو
بآياته أو برسله أو كتبه لقوله تعالى (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوص
ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد
إيمانكم) وينبغي أن لا يكتفى من الهازئ بذلك بمجرد الاسلام حتى يؤدب أدبا
يزجره عن ذلك لأنه إذا لم يكتف ممن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالتوبة فهذا أولى
(10/75)
(فصل) فان استحل قتل المعصومين وأخذ
أموالهم بغير شبهة ولا تأويل كفر لما ذكرنا وإن كان بتأويل كالخوارج فقد
ذكرنا أن كثيراً من العلماء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين
وأموالهم وفعلهم ذلك متقربين إلى الله تعالى وكذلك لم يحكم بكفر ابن ملجم
مع قتله أفضل الخلق في زمنه ولا يكفر الماذح له على ذلك أيضاً المتمني مثل
فعله وهو عمران بن حطان قال بمدحه لقتل علي يا ضربة من تقي ما أراد بها *
إلا ليبلغ عند الله رضوانا اني لأذكره يوما فأحسبه * أوفى البرية عند الله
ميزانا وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال
دمائهم وأموالهم واعتقادهم التقرب إلى ربهم بقتلهم ومع هذا لم يحكم أكثر
الفقهاء بكفرهم لتأويلهم وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا فقد
روي أن قدامة بن مظعون شرب الخمر مستحلاً فأقام عمر عليه الحد ولم يكفره
وكذلك أبو جندل بن سهيل وجماعة شربوا الخمر بالشام مستحلين لها مستدلين
بقول الله تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا)
الآية فلم يكفروا وعرفوا تحريهما فتابوا وأقيم عليهم حدها فيخرج فيمن كان
مثلهم مثل حكمهم وكذلك كل جاهل بشئ يمكن أن يجهله لا يحكم بكفره حتى يعرف
ذلك وتزول عنه الشبهة ويستحله بعد ذلك، وقد
(10/76)
قال أحمد من قال الخمر حلال فهو كافر
يستتاب فإن تاب والاضربت عنقه وهذا محمول على من لا يخفى على مثله تحريمه
لما ذكرنا، فأما إن أكل لحم الخنزير أو ميتة أو شرب خمراً لم يحكم بردته
بمجرد ذلك سواء فعله في دار الحرب أو دار الاسلام لأنه يجوز أن يكون فعله
معتقداً تحريمه كما يفعل غير ذلك من المحرمات (فصل) والإسلام شهادة ان لا
إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلوات الخمس، وإيتاء الزكاة،
وصوم رمضان، وحج البيت فمن أقر بهذا فهو مسلم وتجري عليه أحكام الاسلام ومن
أنكر هذا أو شيئاً منه كفر لأن الإقرار بالجميع واجب بالاتفاق ولا يكون
مسلماً إلا بذلك فمن أنكر ذلك لم يكن مسلماً ومن أنكر البعض كان كمن أنكر
الجميع لأنه اذا أنكر البعض كان البعض الآخر كالمعدوم والدليل على ذلك أن
من ترك ركناً من أركان الصلاة عامداً بطلت وكان وجود باقي الاركان كالمعدوم
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسئ في صلاته (ارجع فصل فانك لم تصل)
فجعل وجود صلاته
كعدمها حيث ترك بعض أركانها وقال تعالى (كذبت قوم نوح المرسلين) وإنما
كذبوا نوحا وحده فكان تكذيبهم إياه كتكذيبهم جميع المرسلين، وعلى هذا لو
جحد حكماً من أحكام الاسلام مجمعاً عليه كان كمن جحده جميعه
(10/77)
(مسألة) (ومن ترك شيئاً من العبادات الخمس
تهاوناً لم يكفر وعنه يكفر) وقد ذكرنا توجيه الروايتين في باب من ترك
الصلاة فأما الحج فلا يكفر بتأخيره بحال لان في وجوبه على الفور خلافاً بين
العلماء على ما ذكر في موضعه (مسألة) (ومن ارتد عن الاسلام من الرجال
والنساء وهو بالغ عاقل دعي اليه ثلاثة أيام وضيق عليه فإن لم يتب قتل)
الكلام في هذه المسألة في خمسة فصول: (أحدها) أنه لا فرق بين الرجال
والنساء في وجوب القتل، وروي ذلك عن ابي بكر وعمر رضي الله عنهما وبه قال
الحسن والزهري والنخعي ومكحول وحماد ومالك والليث والشافعي واسحاق وروي عن
علي والحسن وقتادة أنها تسترق ولا تقتل لأن أبا بكر استرق نساء بني حنيفة
وذراريهم وأعطى علياً امرأة منهم فولدت له محمد بن الحنفية وهذا بمحضر من
الصحابة فلم ينكر فكان اجماعا وقال أبو حنيفة تجبر على الاسلام بالحبس
والضرب ولا تقتل لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تقتلوا امرأة) ولأنها
لا تقتل بالكفر الاصلي فلا تقتل بالطارئ كالصبي ولنا قول النبي صلى الله
عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) رواه البخاري وأبو داود، وقال عليه الصلاة
والسلام (لا يحل دم امرئ مسلم إلا باحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس
بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) متفق عليه
(10/78)
وروى الدارقطني ان امرأة يقال لها أم مروان
ارتدت عن الإسلام فبلغ أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن تستتاب
فإن تابت وإلا قتلت ولأنها شخص مكلف بدل دين الحق بالباطل فتقتل كالرجل
وأما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المرأة فالمراد به الاصلية قال
ذلك حين رأى امرة مقتولة وكانت كافرة
أصلية وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم إلى ابن أبي الحقيقق
عن قتل النساء ولم يكن فيهم مرتد ويخالف الكفر الاصلي الطارئ بدليل أن
الرجل يقر عليه ولا يقتل الشيوخ ولا المكافيف ولا تجبر المرأة على تركه
بضرب ولا حبس والكفر الاصلي بخلافه والصبي غير مكلف بخلاف المرأة وأما بنو
حنيفة فلم يثبت أن من استرق منهم تقدم له إسلام ولم يكن بنو حنيفة أسلموا
كلهم وإنما أسلم بعضهم والظاهر أن الذين أسلموا كانوا رجالاً فمنهم من ثبت
على إسلامه منهم ثمامة بن أثال ومنهم من ارتد منهم الدجال الحنفي (الفصل
الثاني) إن الردة لا تصح إلا من عاقل فأما الطفل الذي لا يعقل والمجنون ومن
زال عقله بنوم أو إغماء أو شرب دواء مباح شربه فلا تصح ردته ولا حكم لكلامه
بغير خلاف، قال ابن لمنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ان المجنون
إذا ارتد في حال جنونه مسلم على ما كان عليه قبل ذلك ولو قتله قاتل عمداً
كان عليه القود اذا طلب أولياؤه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (رفع
القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون
حتى يفيق) أخرجه
(10/79)
أبو داود والترمذي وقال حديث حسن ولأنه غير
مكلف فلم يؤاخذ بكلامه كما لو يؤاخذ به في اقراره ولا طلاقه ولا عتاقه.
وأما السكران والصبي العاقل فيذكر حكمهما فيما بعد إن شاء الله تعالى
(الصفل الثالث) أنه لا يقتل حتى يستتاب ثلاثا وهذا قول أكثر أهل العلم منهم
عمر وعصاء والنخعي ومالك والثوري والاوزاعي واسحاق وأصحاب الرأي وهذا أحد
قولي الشافعي، وعن أحمد رواية أخرى لا تجب استتابته قيل تستحب وهو القول
الثاني للشافعي وبه قال عبيد بن عمير وطاوس ويروى عن الحسن لقول النبي صلى
الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) ولم يذكر استتابته وروي أن معاذاً
قدم على أبي موسى فوجد عنده رجلا موثقاً فقال ما هذا؟ قال رجل كان يهودياً
فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود فقال لا أجلسن حتى يقتل قضاء الله
ورسوله ثلاث مرات فأمر به فقتل.
متفق عليه ولم يذكر استتابته، ولأنه يقتل لكفره فلم تجب استتابته كالأصلي
ولأنه لو قتل قبل الاستتابة لم يضمن ولو حرم قتله قبله ضمن، وقال عطاء إن
كان مسلماً أصلياً لم يستتب،
وإن كان أسلم ثم ارتد استتيب ولنا حديث أم مروان فإن النبي صلى الله عليه
وسلم أمر أن تستتاب وروى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن ابن محمد بن عبد
الله بن عبد القاري عن أبيه أنه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى فقال له
عمر هل كان من معربة خيبر؟ قال نعم رجل كفر بعد اسلامه فقال ما فعلتم به؟
قال قربناه فضربنا
(10/80)
عنقه فقال عمر فهلا حبستموه ثلاثاً
فأطعمتموه كل يوم رغيفاً واستتبتموه لعله يتوب أو يراجع أمر الله اللهم لم
أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني، ولو لم تجب استتابته لما برئ من فعلهم
ولأنه أمكن ستصلاحه فلم يجز إتلافه قبل استصلاحه كالثوب النجس، وأما الأمر
بقتله فالمراد به بعد الاستتابة بدليل ما ذكرناه، وأما حديث معاذ فإنه قد
جاء فيه وكان قد استتيب، ويروى أن أبا موسى استتابه شهرين قبل قدوم معاذ
عليه وفي رواية فدعاه عشرين ليلة أو قريباً من ذلك فجاء معاذ فدعاه وأبى
فضربت عنقه رواهن أبو داود، ولا يلزم من تحريم القتل وجوب الضمان بدليل
نساء أهل الحرب وصبيانهم إذا ثبت وجوب الاستتابة فمدتها ثلاثة أيام روى ذلك
عن عمر رضي الله عنه، وبه قال مالك واسحاق وأصحاب الرأي وهو أحد قولي
الشافعي وقال في الآخر ان تاب والاقتل مكانه وهذا أصح قوليه وهو قول ابن
المنذر لحديث أم مروان لأنه مصر على كفره اشبه بعد الثلاث، وقال الزهري
يدعى ثلاث مرات فان أبى ضربت عنقه وهذا يشبه قول الشافعي، وقال النخعي
يستتاب أبدا وهذا يفضي إلى أنه لا يقتل أبدا وهو مخالف للسنة والاجماع وعن
علي أنه استتاب رجلاً شهراً ولنا حديث علي ولأن الردة إنما تكون لشبهة ولا
تزول في الحال فوجب أن ينظر مدة؟ رتئي، فيها وأولى كل ذلك ثلاثة أيام للاثر
فيها وانها مدة قريبة وينبغي أن يضيق عليه في مدة
(10/81)
لاستتابة ويحبس لقول عمر: هلا حبستموه
وأطعمتوه كل يوم رغيفاً؟ وتتكرر دعايته لعله ينعطف قلبه فيراجع دينه.
(الفصل الرابع) إن لم يتب قتل لما تقدم ذكره وهو قول عامة الفقهاء (مسألة)
(ويقتل بالسيف لأنه آلة القتل ولا يحرق بالنار)
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أمر بتحريق المرتدين وفعل ذلك بهم
خالد والأولى أولى لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه ولا
تعذبوا بعذاب الله) يعني النار أخرجه البخاري وقال عليه الصلاة والسلام (ان
الله كتب الاحسان على كل شئ فاذا قتلتم فأحسنوا القتلة) (الفصل الخامس) أن
مفهوم كلام المصنف في هذه المسألة إذا تاب قبلت توبته وسنذكره إن شاء الله
تعالى (مسألة) (ولا يقتله إلا الإمام أو نائبه حراً كان المرتد أو عبداً)
وهذا قول عامة أهل العلم إلا الشافعي في أحد الوجهين في العبد أن لسيده
قتله، وعن أحمد رحمه الله أن له قتله في الردة وقطعه في السرقة لقول النبي
صلى الله عليه وسلم (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم) ولأن حفصة قتلت
جارية سحرتها وابن عمر قطع عبداً سرق ولأنه حد لله تعالى فملك السيد إقامته
كحد الزاني.
ولنا أنه قتل لحق الله تعالى فكان إلى الامام كقتل الحر، فأما قوله (أقيموا
الحدود على ما
(10/82)
ملكت أيمانكم) فلا يتناول القتل في الردة
فانه قتل لكفره لا حدا في حقه، وأما خبر حفصة فان عثمان تغيظ عليها وشق
عليه، فأما الجلد في الزنا فانه تأديب عبده بخلاف القتل وقد ذكرنا ذلك في
الحدود (مسألة) (فان قتله غيره بغير إذنه أساء وعزر لاساءته وافتياته على
الامام ولاضمان عليه) لأنه محل غير معصوم وسواء قتله قبل الاستتابة أو
بعدها لذلك (مسألة) (وإن عقل الصبي الاسلام صح اسلامه وردته وعنه يصح
اسلامه دون ردته وعنه لا يصح منهما شئ حتى يبلغ) والمذهب الأول يصح إسلام
الصبي في الجملة وبهذا قال أبو حنيفة واسحاق وابن ابي شيبة وابو أيوب، وقال
الشافعي وزفر لا يصح اسلامه حتى يبلغ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (رفع
القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ) حديث حسن ولأنه قول تثبت به الاحكام فلم
يصح من الصبي كالهبة والعتق ولأنه أحد من رفع عنه القلم فلم يصح إسلامه
كالنائم والمجنون ولأنه غير مكلف أشبه الطفل ولنا عموم قوله عليه الصلاة
والسلام (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) وقوله (أمرت أن
أقاتل الناس حق يقولوا لا إله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم إلا
بحقها وحسابهم على الله) وقال عليه الصلاة والسلام (كل مولود يولد على
الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه حتى يعرب عنه لسانه إما شاكراً وإما كفورا)
وهذه الأخبار يدخل في عمومها الصبي ولأن الاسلام عبادة محضة فصحت
(10/83)
من الصبي العاقل كالصلاة والحج، ولأن الله
تعالى دعا عباده الى دار السلام وجعل طريقها الاسلام وجعل من لم يجب دعوته
في الجحيم والعذاب الاليم، فلا يجوز منع الصبي من إجابة دعوة الله تعالى مع
إجابته اليها وسلوكه طريقها ولا الزامه بعذاب الله والحكم عليه بالنار وسد
طريق النجاة عليه مع هربه منها ولأن ما ذكرناه إجماع فان علياً رضي الله
عنه أسلم صبياً وقال سبقتكم إلى الاسلام طرا صبيا ما بغلت اوان حلمي ولهذا
قيل: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء خديجة،
ومن العبيد بلال، وقال عروة أسلم علي والزبير وهما ابنا ثمان سنين وبايع
النبي صلى الله عليه وسلم ابن الزبير لسبع او ثمان سنين ولم يرد النبي صلى
الله عليه وسلم على أحد اسلامه من صغير أو كبير، فأما قوله عليه السلام
(رفع القلم عن ثلاثة) فلا حجة لهم فيه فانه يقتضي أن لا يكتب عليه ذنب
والاسلام يكتب له لا عليه ويسعد به في الدنيا والآخرة فهو كالصلاة تصح منه
وتكتب له وإن لم تجب عليه وكذلك غيرها من العبادات المحضة، فان قيل
فالاسلام يوجب عليه الزكاة في ماله ونفقة قريبه المسلم ويحرمه ميراث قريبه
الكفار ويفسخ نكاحه، قلنا أما الزكاة فإنها نفع لأنها سبب الزيادة والنماء
وتحصين المال والثواب، وأما الميراث والنفقة فأمر متوهم وهو مجبور بميراثه
من أقاربه المسلمين وسقوط نفقة أقاربه الكفار ثم هذا الضرر مغمور في جنب ما
يحصل له من سعادة الدنيا والآخرة وخلاصه من شقاء الدارين والخلود في الجحيم
منزل منزلة الضرر في أكل القوت المتضمن فوت ما يأكله وكلفة تحريك فيه لما
كان بقاؤه لم يعد ضررا والضرر في مسئلتنا في جنب ما يحصل من النفع أدنى من
ذلك بكثير
(10/84)
(فصل) واشترط الخرقي لصحة إسلامه: أن يكون
له عشر سنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بضربه
على الصلاة لعشر، وأن يكون ممن يعقل الاسلام ومعناه أن يعلم أن الله تعالى
ربه لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وهذا لا خلاف في اشتراطه فان الطفل
الذي لا يعقل لا يتحقق منه اعتقاد الإسلام وإنما كلامه لقلقة بلسانه لا يدل
على شئ، فأما اشتراط العشر فان أكثر المصححين لإسلامه لم يشترطوا ذلك ولم
يحدوا له حداً من السنين، وحكاه ابن المنذر عن أحمد لأن المقصود متى حصل لم
يحتج إلى زيادة عليه، وروى عن أحمد إذا كان ابن سبع سنين فاسلامه إسلام
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (مروهم بالصلاة لسبع) فدل على أن
ذلك حد لامرهم وصحة عبادتهم فيكون حداً لصحة إسلامهم، وقال ابن أبي شيبة
إذا أسلم وهو ابن خمس سنين جعل إسلامه إسلاماً ولعله يقول أن علياً عليه
السلام أسلم وهو ابن خمس لأنه قد قيل انه قد مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة
فعلى هذا يكون اسلامه وهو ابن خمس لأن مدة النبي منذ بعث إلى أن مات ثلاث
وعشرون سنة وعاش علي بعده ثلاثين سنة فذلك ثلاث وخمسون فاذا ضممنا اليها
خمساً كانت ثمانياً وخمسين وقال أبو أيوب أجيز اسلام ابن ثلاث سنين من أصاب
الحق من صغير أو كبير أجزناه وهذا لا يكاد يعقل الاسلام ولا يدري ما يقول
ولا يثبت لقوله حكم فان وجد ذلك منه ودلت أحواله وأقواله على معرفة الاسلام
وعقله إياه صح منه كغيره (مسألة) (وإن أسلم ثم قال لم أدر ما قلت لم يلتفت
إلى قوله وأجبر على الاسلام) متى حكمنا بصحة إسلام الصبي لمعرفتنا بفعله
بأدلته فرجع وقال لم أدر ما قلت لم يقبل قوله ولم يبطل إسلامه الاول، وروى
عن أحمد أنه يقبل منه ولا يجبر على الاسلام
(10/85)
قال أبو بكر هذا قول محتمل لأن الصبي في
مظنة النقص فيجوز أن يكون صادقاً قال والعمل على الأول لأنه قد ثبت عقله
للاسلام ومعرفته به بأفعاله أفعال العقلاء وتصرفاته تصرفاتهم وتكلمه
بكلامهم وهذا يحصل به معرفة عقله، ولهذا اعتبرنا رشده بعد بلوغه بأفعاله
وتصرفاته، وعرفنا جنون المجنون وعقل العاقل بما يصدر عنه من أقواله وأفعاله
وأحواله فلا يزول ما عرفناه بمجرد دعواه وهكذا كل من تلفظ بالاسلام أو اخبر
عن نفسه ثم أنكر معرفته بما قال لم يقبل إنكاره وكان مرتدا نص عليه أحمد في
مواضع، فعلى هذا إذا ارتد صحت ردته وأجبر على الاسلام وهو قول
أبي حنيفة والظاهر من مذهب مالك، وعند الشافعي لا يصح اسلامه ولا ردته وقد
روي أنه يصح اسلامه ولا تصح ردته لقوله عليه الصلاة والسلام (رفع القلم عن
ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ) وهذا يقتضي أنه لا يكتب عليه ذنب ولا شئ ولو صحت
ردته لكتبت، وأما الاسلام فلا يكتب عليه إنما يكتب له ولأن الردة أمر يوجب
القتل فلم يثبت حكمه في حق الصبي كالزنا، ولان الاسلام إنما صح منه لانه
تمحض مصلحة فأشبه الوصية والتدبير، والردة تمحضت مضرة ومفسدة فلم يلزم
صحتها، منه فعلى هذا حكمه حكم من لم يرتد فاذا بلغ فان أصر على الكفر كان
مرتداً حينئذ (مسألة) (ولا يقتل حتى يبلغ ويجاوز ثلاثة أيام من وقت بلوغه
فان ثبت على كفره قتل) وجملة ذلك أن الصبي لا يقتل إذا ارتد سواء قلنا بصحة
ردته أو لا لأن الغلام لا يجب عليه عقوبة
(10/86)
بدليل أنه لا يتعلق به حكم الزنا والسرقة
وسائر الحدود ولا يقتل قصاصا فاذا بلغ وثبت على ردته ثبت حكم الردة حينئذ
فيستتاب ثلاثاً فإن تاب وإلا قتل سواء قلنا انه كان مرتداً قبل بلوغه أو لم
نقل وسواء كان مسلماً أصلياً فارتد أو كان كافراً فأسلم صبياً ثم ارتد
[مسألة] (ومن ارتد وهو سكران لم يقتل حتى يصحو ويتم له ثلاثة أيام من وقت
ردته فإن مات في سكره مات كافراً وعنه لا تصح ردته) اختلفت الرواية عن احمد
في ردة السكران فروي عنه أنها تصح قال أبو الخطاب وهو أظهر الروايتين عنه
وهو مذهب الشافعي وعنه لا تصح ردته وهو قول أبي حنيفة لأن ذلك يعلق
بالاعتقاد والقصد والسكران لا يصح عقده فأشبه المعتوه ولأنه زائل العقل فلم
تصح ردته كالنائم والمجنون ولأنه غير مكلف فاشبه المجنون.
ووجه الرواية الأولى أن الصحابة قالوا في السكران إذا سكر هذى وإذا هذى
افترى فحدوه حد المفتري وأوجبوا عليه حد الفرية التي يأتي بها في سكره
وأقاموا مظنتها (مظلتها) مقامها ولأنه يقع طلاقه فصحت ردته كالصاحي، وقولهم
ليس بمكلف ممنوع فان الصلاة واجبة عليه وكذلك سائر أركان الإسلام، ويأثم
بفعل المحرمات وهذا معنى التكليف، ولأن السكران لا يزول عقله بالكلية ولهذا
يتقي
المحذورات ويفرح بما يسره ويساء بما يضره ويزول سكره عن قريب من الزمان
فأشبه الناعس بخلاف المجنون، وأما استتابته فتؤخر إلى حين صحوه فيكمل عقله
ويفهم ما يقال له وتزول شبهته إن كان قد قال الكفر معتقداً له كما تؤخر
استتابته إلى حين زوال شدة عطشه وجوعه ويؤخر الصبي
(10/87)
إلى حين بلوغه وكمال عقله ولأن القتل جعل
للزجر ولا يحصل في حال سكره وإن قتله قاتل في حال سكره لم يضمنه لأن عصمته
زالت بردته وإن مات أو قتل لم يرثه ورثته، ولا يقتل حتى يتم له ثلاثة أيام
من وقت ردته فان استمر سكره أكثر من ثلاث لم يقتل حتى يصحو ثم يستتاب عقيب
صحوه فإن تاب وإلا قتل في الحال (فصل) فان أسلم في سكره صح إسلامه كما صحت
ردته ثم يسئل بعد صحوه فان ثبت على إسلامه فهو مسلم من حين أسلم لأن إسلامه
صح وإنما يسئل استظهاراً فان مات بعد إسلامه في سكره مات مسلماً ويصح
إسلامه في سكره سواء كان أصلياً أو مرتداً لأنه إذا صحت ردته مع أنها محض
مضرة وقول باطل فلأن يصح إسلامه الذي هو محض مصلحة أولى، ويتخرج أن لا يصح
فان من لا تصح ردته لا يصح اسلامه كالمجنون (فصل) ولا تصح ردة المجنون ولا
إسلامه لأنه لا قول له فان ارتد في صحته ثم جن لم يقتل في حال جنونه لأنه
يقتل بالاصرار على الردة والمجنون لا يوصف بالاصرار ولا يمكن استتابته، ولو
وجب عليه القصاص فجن قتل لأن القصاص لا يسقط عنه بسبب من جهته وههنا يسقط
برجوعه ولأن القصاص إنما يسقط بسبب من جهة المستحق له فنظير مسئلتنا أن يجن
المستحق للقصاص فانه لا يستوفى في حال جنونه.
(10/88)
(مسألة) (وهل تقبل توبة الزنديق ومن تكررت
ردته أو من سب الله تعالى أو رسوله أو الساحر؟ على روايتين: (إحداهما)
لاتقبل توبته ويقتل بكل حال والأخرى تقبل توبته كغيره) مفهوم كلام الشيخ
رحمه الله أن المرتد إذا تاب تقبل توبته ولم يقتل أي كافر كان وهو ظاهر
كلام الخرقي سواء كان زنديقاً أو لم يكن وهذا مذهب الشافعي والعنبري ويروى
ذلك عن علي وابن
مسعود وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار أبي بكر الخلال وقال انه أولى
على مذهب أبي عبد الله (والرواية الأخرى) لا تقبل توبة الزنديق ومن تكررت
ردته وهو قول مالك والليث واسحاق وعن أبي حنيفة روايتان كهاتين واختيار أبي
بكر أنها لا تقبل لقول الله تعالى (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا)
والزنديق لا يظهر منه ما يبين به رجوعه وتوبته لأنه كان مظهراً للاسلام
مسراً للكفر فاذا أظهر التوبة لم يزد على ما كان منه قبلها وهو إظهار
الاسلام وأما من تكررت ردته فقد قال الله تعالى (إن الذين آمنوا ثم كفروا
ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم
سبيلا) وروى الأثرم باسناده عن ظبيان بن عمارة أن رجلا من بني سعد مر على
مسجد بني حنيفة فاذا هم يقرءون برجز مسيلمة فرجع الى ابن مسعود فذكر ذلك له
فبعث اليهم فاتي بهم فاستتابهم
(10/89)
فتابوا فخلى سبيلهم إلا رجلا منهم يقال له
ابن النواحة قال اتيت بك مرة فزعمت أنك قد تبت وأراك قد عدت فقتله ووجه
الرواية الأولى قول الله تعالى (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد
سلف) وروى أن رجلا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يدر ماساره به
فاذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم (اليس يشهد ان لا إله إلا الله؟) قال بلى ولا شهادة له قال (أليس
يصلي؟) قال بلى ولا صلاة له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أولئك
الذين نهاني الله عن قتلهم) وقد قال الله تعالى (ان المنافقين في الدرك
الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا) وروي أن محش بن حمير
كان في النفر الذين أنزل فيهم (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب)
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وتاب الى إلى الله تعالى فقبل توبته وهو
الطائفة التي عفا الله عنها بقوله سبحانه (إن نعف عن طائفة منكم نعذب
طائفة) وروي أنه سأل الله تعالى أن يقتل شهيداً في سبيله ولا يعلم بمكانه
فقتل يوم اليمامة ولم يعلم موضعه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كف عن
المنافقين بما أظهروا من الشهادة مع اخبار الله تعالى له بباطنهم بقوله
تعالى (يحلفون بالله إنهم لمنكم وماهم منكم ولكنهم قوم يفرقون) وغيرها من
الآيات وحديث ابن مسعود حجة في قبول توبتهم مع اسرارهم بكفرهم فأما قتل ابن
النواحة فيحتمل أنه قتله لظهور كذبه في توبته لأنه أظهرها وتبين أنه ما زال
عما كان عليه من كفره ويحتمل انه قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم له
حين جاء رسولا لمسيلمة (لولا أن
الرسل لا تقتل لقتلتك) تحقيقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روي
انه قتله لذلك (فصل) فأما من سب الله سبحانه وتعالى ورسوله فروى القاضي عن
أحمد أنه قال لا توبة لمن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أبو الخطاب
رواية أخرى أن توبته مقبولة لقول الله تعالى (قل للذين
(10/90)
كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)
ولحديث محش ابن حمير ولأن من زعم أن لله ولداً فقد سب الله تعالى بدليل قول
النبي صلى الله عليه وسلم إخباراً عن ربه تعالى أنه قال (شتمني ابن آدم وما
ينبغي له أن يشتمني أما شتمه إياي فزعم أن لي ولداً) وتوبته مقبولة بغير
خلاف وإذا قبلت توبة من سب الله تعالى فمن سب نبيه صلى الله عليه وسلم أولى
أن تقبل توبته (فصل) وهل تقبل توبة الساحر؟ فيه روايتان (إحداهما) لا
يستتاب وهو ظاهر ما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم فانه لم ينقل عن أحد منهم
أنه استتاب ساحراً وفي الحديث الذي رواه هشام عن عروة عن عائشة أن امرأة
جاءتها فقالت يا أم المؤمنين ان عجوز اذهبت بي الى هاروت وماروت فقلت
علماني السحر فقالا اتقي الله ولا تكفري فانك على رأس أمرك فقلت علماني
السحر فقالا اذهبي الى ذلك التنور فبولي فيه ففعلت فرأيت كأن فارساً مقنعاً
في الحديد خرج مني حتى طار فغاب في السماء فرجعت اليهما فأخبرتهما فقالا:
ذلك إيمانك وذكرت باقي القصة إلى أن قالت والله يا أمير المؤمنين ما صنعت
شيئاً غير هذا ولا أصنعه أبداً فهل لي من توبة؟ قالت عائشة رأيتها تبكي
بكاء شديداً فكانت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون
تسألهم هل لها من توبة؟ فما أفتاها أحد إلا ابن عباس قال إن كان أحد من
أبويك حياً فبريه وأكثري من عمل البر ما استطعت ولأن السحر معنى في قلبه لا
يزول بالتوبة فيشبه من لم يتب (والرواية الثانية) يستتاب فإن تاب قبلت
توبته فإن الله تعالى قبل توبة سحرة فرعون وجعلهم من أوليائه في ساعة ولأن
الساحر لو كان كافراً فأسلم صح إسلامه وتوبته فإذا صحت التوبة منهما صحت من
أحدهما كالكفر ولانه الكفر والقتل ما هو إلا بعمله بالسحر بدليل الساحر إذا
أسلم والعمل به تمكن التوبة منه وكذلك اعتقاد ما يكفر باعتقاده تمكن التوبة
منه كالشرك
(10/91)
(فصل) والخلاف بين الأئمة في قبول توبتهم
إنما هو في الظاهر من أحكام الدنيا من ترك قتلهم وثبوت أحكام الاسلام في
حقهم فأما قبول الله تعالى لها في الباطن وغفران ذنوبهم لمن تاب وأقلع
ظاهراً وباطناً فلا خلاف فيه فإن الله تعالى قال في المنافقين (إلا الذين
تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف
يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما) [مسألة] (وتوبة المرتد إسلامه وهو أن يشهد
أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا أن تكون ردته بانكار فرض أو
احلال محرم أو جحد نبي أو كتاب أو إلى دين من يعتقد أن محمداً بعث الى
العرب خاصة فلا يصح إسلامه حتى يقر بما جحده ويشهد أن محمداً بعث الى
العالمين أو يقول انا برئ من كل دين يخالف الاسلام) من ثبتت ردته باقرار أو
بينة فتوبته أن يشهد أن لا إله إلا الله ولا يكشف عن صحة ما شهد به عليه
ويخلى سبيله ولا يكلف الاقرار لما نسب اليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم
(أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني
دماءهم وأموالهم الا بحقها وحسابهم على الله) متفق عليه.
ولأن هذا يثبت به إسلام الكافر الأصلي فكذلك إسلام المرتد ولا حاجة مع ثبوت
إسلامه إلى الكشف عن صحة ردته وهذا يكفي فيمن كانت ردته بجحد الوحدانية أو
جحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو جحدهما معاً، فأما من كفر بغير هذا
فلا يحصل اسلامه إلا بالاقرار بما جحده فمن أقر برسالة محمد صلى الله عليه
وسلم وأنكر أنه مبعوث إلى العالمين فلا يثبت إسلامه حتى يشهد أن محمداً
رسول الله
(10/92)
بعث إلى الخلق أجمعين أو تبرأ مع الشهادتين
من كل دين يخالف الاسلام، فإن زعم أن محمداً رسول مبعوث بعد غير هذا لزمه
الاقرار بأن هذا المبعوث هو رسول الله لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل
انه أراد ما اعتقدوه وإن ارتد بجحود فرض لم يسلم حتى يقر بما جحده ويعيد
الشهادتين لأنه كذب الله ورسوله بما اعتقده وكذلك إن جحد نبياً أو آية من
كتاب الله تعالى أو كتاباً من كتبه أو ملكاً من ملائكته الذين ثبت أنهم
ملائكة الله أو استباح محرماً فلابد في إسلامه من الإقرار بما
جحده، وأما الكافر بجحد الدين من أصله اذا شهد أن محمداً رسول الله واقتصر
على ذلك ففيه روايتان (إحداهما) يحكم باسلامه لأنه روي أن يهودياً قال أشهد
أن محمداً رسول الله ثم مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم (صلوا على
صاحبكم) ولأنه يقر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وقد جاء
بتوحيده (والثانية) إن كان مقراً بالتوحيد كاليهود حكم باسلامه لأن توحيد
الله ثابت في حقه وقد ضم إليه الإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكمل
إسلامه وإن كان غير موحد كالنصارى والمجوس وعبدة الأوثان لم يحكم باسلامه
حتى يشهد أن لا إله إلا الله وبهذا جاءت أكثر الأخبار وهو الصحيح لأن من
يجحد شيئين لا يزول جحدهما إلا باقراره بهما جميعاً وإن قال أشهد أن النبي
رسول الله لم يحكم باسلامه لأنه يحتمل أنه يريد غير نبينا.
وإن قال أنا مؤمن أو أنا مسلم فقال القاضي يحكم باسلامه
(10/93)
بهذا وإن لم يأت بلفظ الشهادتين لانهما
اسمان لشئ معلوم معروف وهو الشهادتان فاذا أخبر عن نفسه بما تضمن الشهادتين
كان مخبراً بهما وروى المقداد أنه قال يارسول الله: إن لقيت رجلا من الكفار
فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت أفأقتله
يارسول الله بعد أن قالها؟ قال (لا تقتله فان قتلته فانه بمنزلتك قبل أن
تقتله وانك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها) وعن عمر إن ابن حصين
قال: أصاب المسلمون رجلا من بني عقيل فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم
فقال يا محمد إني مسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو كنت قلت وأنت
تملك أمرك أفلحت كل الفلاح) رواهما مسلم ويحتمل أن هذا في الكافر الاصلي أو
من جحد الوحدانية أما من كفر بجحد نبي أو كتاب أو فريضة أو نحو هذا فانه لا
يصير مسلما بذلك لأنه ربما اعتقد أن الاسلام ما هو عليه فان أهل البدع
يعتقدون أنهم هم المسلمون ومنهم من هو كافر [مسألة] (وإذا أتى الكافر
بالشهادتين ثم قال لم أرد الاسلام صار بذلك مرتداً ويجبر على الاسلام) نص
عليه أحمد في رواية جماعة ونقل عن أحمد أنه يقبل منه ولا يجبر على الاسلام
لأنه يحتمل الصدق فلا يراق دمه بالشهادة والأول أولى لأنه قد حكم بإسلامه
فلم يقبل إذا رجع كما لو طالت مدته
[مسألة] (واذا مات المرتد فأقام وارثه بينة أنه صلى بعد الردة حكم باسلامه)
(10/94)
متى صلى الكافر حكم بإسلامه أصلياً كان أو
مرتداً جماعة أو فرادى في دار الحرب أو في دار الإسلام، وقال الشافعي يحكم
باسلامه إذا صلى في دار الحرب ولا نحكم باسلامه في دار الإسلام لأنه يحتمل
أنه صلى رياء وتقية.
ولنا أن ما كان اسلاماً في دار الحرب كان اسلاما في دار الإسلام كالشهادتين
واحتمال التقية والرياء يبطل بالشهادتين وأما سائر أركان الإسلام من الزكاة
والصيام والحج فلا يحكم باسلامه به فان المشركين كانوا يحجون في عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى منعهم فقال (لا يحج بعد العام مشرك) والزكاة
صدقة وهم يتصدقون وقد فرض على نصارى بني تغلب من الزكاة مثلا ما يؤخذ من
المسلمين فلم يصيروا بذلك مسلمين وأما الصيام فلكل أهل دين صيام ولأن
الصيام ليس بفعل إنما هو امساك عن أفعال مخصوصة وقد يتفق هذا من الكافر
كاتفاقه من المسلم ولا عبرة بالنية فإنها أمر باطن لا علم به بخلاف الصلاة
فإنها أفعال تتميز عن أفعال الكفار ويختص بها أهل الاسلام ولا يثبت بها
الاسلام حتى يأتي بصلاة يتميز بها عن صلاة الكفار من استقبال قبلتنا
والركوع والسجود ولا يحصل بمجرد القيام لأنهم يقومون في صلاتهم إذا ثبت هذا
فإنه متى مات المرتد فأقام وارثه بينة أنه صلى بعد ردته حكم لهم بالميراث
إلا أن يثبت أنه ارتد بعد صلاته أو تكون ردته بجحد فريضة
(10/95)
أو كتاب أو نبي أو ملك أو نحو ذلك من البدع
التي ينسب أهلها إلى الاسلام فانه لا يحكم باسلامه بصلاته لأنه يعتقد وجوب
الصلاة ويعتقدها مع كفره فأشبه فعله غيرها [مسألة] (ولا يبطل إحصان المسلم
بردته ولا عباداته التي فعلها في إسلامه إذا عاد إلى الإسلام) يعني إذا كان
محصناً فارتد ثم أسلم لم يصر غير محصن بل متى زنا رجم لأنه يثبت له حكم
الإحصان والأصل بقاء ما كان على ما كان ولا تبطل عباداته التي فعلها في
إسلامه إذا عاد إلى الإسلام لأنه فعلها على وجهها وبرئت ذمته منها فلم تعد
الى ذمته كديون الآدميين وإن كان قد حج حجة
الإسلام قبل ردته لم يجب عليه إعادتها إذا عاد إلى الإسلام لما ذكرنا [فصل]
قال الشيخ رحمه الله (ومن ارتد لم يزل ملكه بل يكون موقوفاً وتصرفاته
موقوفة فان أسلم ثبت ملكه وتصرفاته وإلا بطلت) لا يحكم بزوال ملك المرتد
بردته في قول أكثر أهل العلم فعلى هذا إن قتل أو مات زال ملكه بموته وإن
راجع الإسلام فملكه باق له فعلى هذا تصرفاته في ردته بالبيع والهبة والعتق
والتدبير والوصية ونحو ذلك موقوفة إن أسلم تبينا أن تصرفه كان صحيحاً فان
قتل أو مات كان باطلاً وقال مالك يزول ملكه بردته فان راجع الاسلام رد اليه
تمليكا مستأنفا لأن عصمة نفسه وماله إنما تثبت
(10/96)
باسلامه فزوال اسلامه يزيل عصمتهما كما لو
لحق بدار الحرب ولأن المسلمين ملكوا إراقة دمه بردته فوجب أن يملكوا أمواله
بها وقال أصحاب أبي حنيفة ماله موقوف إن أسلم تبينا بقاء ملكه وإن مات أو
قتل تبينا زواله من حين ردته، وقال الشريف أبو جعفر: هذا ظاهر كلام أحمد
وعن الشافعي الاقول ا؟ (الأقوال) الثلاثة ولنا ان الردة سبب يبيح دمه كزنا
المحصن، وقتل من يكافئه عمداً لا يلزم منه زوال الملك بدليل الزاني المحصن
والقاتل في المحاربة فان ملكهم ثابت مع عدم عصمتهم، ولو لحق المرتد بدار
الحرب لم يزل ملكه لكن يباح لكل احد قتله بغير استتابة وأخذ ماله لمن قدر
عليه لأنه صار حربياً حكمه حكم أهل الحرب، ولو ارتد جماعة وامتنعوا في
دارهم عن طاعة الامام زالت عصمتهم في أنفسهم وأموالهم لأن الكفار الاصليين
لا عصمة لهم في دارهم فالمرتدون أولى (فصل) فأما على قول أبي بكر فتصرف
المرتد باطل لانه ملكه قد زال بردته وهذ أحد أقوال الشافعي وعن الشافعي قول
آخر إنه ان تصرف قبل الحجر عليه انبنى على الاقوال الثلاثة وان تصرف بعد
الحجر عليه لم يصح تصرفه كالسفيه ولنا ان ملكه تعلق به حق غيره مع بقاء
ملكه فيه فكان تصرفه موقوفا كتبرع المريض
(10/97)
(فصل) وان تزوج لم يصح تزوجه لأنه لا يقر
على النكاح وما منع الاقرار على النكاح منع انعقاده كنكاح الكافر المسلمة
وان زوج موليته لم يصح لأن ولايته على موليته قد زالت بردته وكذلك ان زوج
امته لأن النكاح لا يكون موقوفاً ولأن النكاح وإن كان في الامة فلابد في
عقده من ولاية صحيحة بدليل أن المرأة لا يجوز أن تزوج امتها وكذلك الفاسق
والمرتد لا ولاية له فانه أدنى حالا من الفاسق الكافر (فصل) ويوخذ مال
المرتد فيترك عند ثقة من المسلمين فإن كان له اماء جعلن عند امرأة ثقة
لأنهن محرمات عليه فلا يمكن منهن، وذكر القاضي أنه يؤجر عقاره وعبيده
واماءه، قال شيخنا والأولى أن لا يفعل ذلك لأن مدة انتظاره قريبة ليس في
انتظاره فيها ضرر فلا يفوت عليه منافع ملكه فيما لا يرضاه من أجلها فانه
ربما راجع الاسلام فيمتنع عليه التصرف في ماله باجارة الحاكم له، وان لحق
بدار الحرب أو تعذر قتله مدة طويلة فعل الحاكم له ما يرى الحظ فيه من بيع
الحيوان الذي يحتاج الى النفقة وغيره واجارة ما يرى ابقاءه والمكاتب يؤدي
إلى الحاكم ويعتق بالاداء لأنه نائب عنه (مسألة) (ويقضي ديونه واروش
جناياته وينفق على من تلزمه مؤنته) يعني إذا مات أو قتل فانه يبدأ بقضاء
ديونه وارش جنايته ونفقة زوجته واقاربه الذين تلزمه مؤنتهم لأن هذه الحقوق
لا يجوز تعطيلها وأولى ما يؤخذ من ماله في الصحيح من المذهب وعنه
(10/98)
انه لورثته من المسلمين وعنه انه لورثته من
أهل الدين الذي انتقل اليه وقد ذكرنا ذلك في الفرائض (فصل) واذا وجد من
المرتد سبب يقتضي الملك كالصيد والاحتشاش والاتهاب والشراء وايجار نفسه
اجارة خاصة أو مشتركة ثبت الملك له لأنه أهل للملك ولذلك بقيت أملاكه
الثابتة له ومن قال ان ملكه يزول لم يثبت له ملكا لأنه ليس بأهل للملك
ولهذا زالت املاكه الثابتة، فان اسلم احتمل أن لا يثبت له شئ أيضاً لأن
السبب لم يثبت حكمه واحتمل ان يثبت الملك له حينئذ لأن السبب موجود وإنما
امتنع ثبوت حكمه لعدم أهليته فاذا وجدت تحقق الشرط فيثبت الملك حينئذ كما
تعود اليه املاكه التي زالت عنه عند عود أهليته، فعلى هذا إن مات أو قتل
انتقل الملك الى من ينتقل اليه ماله لأن هذا في معناه
(فصل) وان لحق المرتد بدار الحرب فالحكم فيه حكم من هو في دار الإسلام الا
أن ما كان معه من ماله يصير مباحاً لمن قدر عليه كما أبيح دمه، واما املاكه
وماله الذي في دار الإسلام فملكه ثابت فيه ويتصرف فيه الحاكم بما يرى
المصلحة فيه وقال أبو حنيفة يورث ماله كما لو مات لأنه قد صار في حكم
الموتى بدليل حل دمه وماله الذي معه لكل من قدر عليه ولنا أنه حي فلم يورث
كالحربي الأصلي وحل دمه لا يوجب توريث ماله بدليل الحربي الأصلي وانما حل
ماله الذي معه لأنه زال العاصم له فأشبه مال الحربي الذي في دار الحرب وأما
الذي في دار الإسلام فهو باق على العصمة كمال الحربي الذي مع مضاربه في دار
الإسلام أو عند مودعه (مسألة) (وما أتلف من شئ ضمنه ويتخرج في الجماعة
الممتنعة أن لا يضمن ما اتلفه
(10/99)
اذا ارتد قوم فأتلفوا مالا للمسلمين لزم
ضمان ما أتلفوه سواء تحيزوا وصاروا في منعة أو لم يصيروا ذكره أبو بكر قال
القاضي وهو ظاهر كلام أحمد وقال الشافعي حكمهم حكم أهل البغي فيما اتلفوه
من الأنفس والأموال لأن تضمينهم يؤدي الى تنفيرهم عن الرجوع الى الاسلام
فأشبهوا أهل البغي ولنا ما روى عن أبي بكر رضي الله عنه انه قال لأهل الردة
حين رجعوا تردون علينا ما أخذتم منا ولا نرد عليكم ما أخذنا منكم وان تدوا
قتلانا ولا ندي قتلاكم قالوا نعم يا خليفة رسول الله قال عمر كل ما قلت كما
قلت الا أن يدوا ما قتل منافلا لأنهم قوم قتلوا في سبيل الله واستشهدوا،
ولأنهم اتلفوه بغير تأويل فأشبهوا هل الذمة، فاما القتلى فحكمهم حكم أهل
البغي لما ذكرنا من خبر أبي بكر وعمر ولأن طليحة الأسدي قتل عكاشة بن محصن
وثابت بن أرقم الاسديين فلم يغر مهما وبنو حنيفة قتلوا من قتلوا من
المسلمين يوم اليمامة فلم يغرموا شيئاً، ويحتمل أن يحمل قول أحمد وكلامه في
المال على وجوب رد ما هو في أيديهم دون ما أتلفوه وعلى من اتلف من غير أن
تكون له منعة او اتلف في غير الحرب وما أتلفوه حال الحرب فلا ضمان عليهم
فيه لأنه إذا سقط ذلك عن اهل البغي كيلا يؤدي الى تنفيرهم عن الرجوع إلى
الطاعة فلأن يسقط ذلك كيلا يؤي الى التنفير عن الاسلام أولى لأنهم اذا
امتنعوا صاروا كفاراً ممتنعين بدارهم فأشبهوا أهل الحرب ويحمل قول أبي بكر
على ما بقي في أيديهم من المال
فيكون مذهب أحمد ومذهب الشافعي في هذا سواء وهذا أعدل وأصح إن شاء الله
تعالى، فأما من لا منعة له
(10/100)
فيضمن ما اتلف من نفس ومال كالواحد من
المسلمين أو اهل الذمة لأنه لا منعة له ولا يكثر ذلك منه فبقي المال والنفس
بالنسبة اليه على عصمته ووجوب ضمانه والله أعلم (مسألة) (واذا أسلم فهل
يلزمه قضاء ما ترك من العبادات؟ على روايتين) (إحداهما) عليه القضاء لأنها
عبادة واجبة التزم بوجوبها واعترف به في زمن إسلامه فلزم قضاؤها عند فواتها
كغير المرتد (والثانية) لا يلزمه قضاؤها لقول الله تعالى (قل للذين كفروا
إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) ولأنه كافر أسلم فلم يلزمه قضاء العبادات
التي كانت في كفره كالحربي ولأن أبا بكر لم يأمر المرتدين حين أسلموا بقضاء
ما فاتهم (مسألة) (وإذا ارتد الزوجان ولحقا بدار الحرب لم يجز استرقاقهما
ولا استرقاق أولادهما الذين ولدوا في الاسلام ومن لم يسلم منهم قتل ويجوز
استرقاق من ولد بعد الردة وهل يقرون على كفرهم؟ على روايتين) وجملة ذلك أن
الرق لا يجري على المرتد سواء كان رجلاً أو امرأة وسواء لحق بدار الحرب أو
أقام بدار الاسلام وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا لحقت المرتدة بدار
الحرب جاز استرقاقها لان أبا بكر سبى بني حنفية واسترق نساءهم وأم محمد بن
الحنفية منهم ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه ولأنه
لا يجوز اقراره على كفره فلم يجز استرقاقه كالرجل ولم ينقل ان الذين سباهم
ابو بكر رضي الله عنه كانوا أسلموا ولا ثبت لهم حكم الردة، فإن قيل فقد روي
عن علي رضي الله عنه أن المرتدة تسبى قلنا هذا الحديث ضعفه أحمد، فأما
اولاد المرتدين فان كانوا ولدوا قبل الردة فانهم محكوم باسلامهم تبعاً
لآبائهم ولا يتبعونهم في الردة لأن الاسلام يعلو وقد تبعوهم فيه فلا
يتبعونهم
(10/101)
في الكفر فلا يجوز استرقاقهم صغاراً لأنهم
مسلمون ولا كباراً لأنهم إن ثبتوا على إسلامهم بعد كفرهم فهم مسلمون وإن
كفروا فهم مرتدون حكمهم حكم آبائهم في الاستتابة وتحريم الاسترقاق، وأما من
حديث بعد الردة فهو محكوم بكفره لأنه ولد بين أبوين كافرين، ويجوز استرقاقه
لأنه ليس بمرتد نص عليه أحمد وهو
ظاهر كلام الخرقي وأبي بكر، ويحتمل أن لا يجوز استرقاقهم لأن آباءهم لا
يجوز استرقاقهم ولأنهم لا يقرون بالجزية فلا يقرون بالاسترقاق وهذا مذهب
الشافعي، وقال أبو حنيفة: إن ولدوا في دار الإسلام لم يجز استرقاقهم وإن
ولدوا في دار الحرب جاز استرقاقهم كولد الحربيين بخلاف آبائهم فعلى هذا إذا
وقع في الأسر بعد لحوقه بدار الحرب فحكمه حكم سائر أهل الحرب وإن كان في
دار الإسلام لم يقر بالجزية وكذلك لو بذل الجزية بعد لحوقه بدار الحرب لم
يقر بها لأنه انتقل إلى الكفر بعد نزول القرآن، فأما من كان حملاً حال ردته
فظاهر كلام الخرقي أنه كالحادث بعد كفره وعند الشافعي هو كالمولود ولهذا
يرث ولنا أن أكثر الأحكام إنما تتعلق بعد الوضع فكذلك هذا الحكم، وهل يقر
من ولد بعد الردة على كفره؟ فيه روايتان (إحداهما) يقر كأولاد اهل الحرب
(والثانية) لا يقرون فاذا أسلموا رقوا لانهم أولاد من لا يقر على كفره فلا
يقرون على كفرهم كالموجودين قبل ردتهم (فصل) ومن لم يسلم من الذين كانوا
موجودين قبل الردة فقدر عليهم أو على آبائهم استتيب منهم من كان بالغاً
عاقلا فمن لم يتب قتل ومن لم يبلغ انتظر بلوغه فان لم يتب قتل إذا استتيب
وينبغي أن يحبس حتى لا يهرب (فصل) ومتى ارتد أهل بلد وجرت فيهم أحكامهم
صاروا دار خرب في اغتنام أموالهم وسبي
(10/102)
ذراريهم الحادثين بعد الردة، وعلى الامام
قتالهم فان أبا بكر رضي الله عنه قاتل أهل الردة بجماعة من الصحابة ولأن
الله تعالى قد أمر بقتال الكفار في مواضع من كتابه وهؤلاء أحقهم بالقتال
لأن تركهم ربما أغرى أمثالهم بالتشبه بهم والارتداد معهم فيكثر الضرر بهم،
واذا قاتلهم قتل من قدر عليه ويتبع مدبرهم ويجاز على جريحهم وتغنم أموالهم
وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا تصير دار حرب حتى يجتمع فيها ثلاثة
أشياء: إن تكون متاخمة لدار الحرب لا شئ بينهما من دار الاسلام (الثاني) لا
يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمن (الثالث) أن تجري فيها أحكامهم ولنا أنها دار
كفار فيها أحكامهم فكانت دار حرب كما لو اجتمع فيها هذه الحصال أو
دار الكفرة الاصليين.
(فصل) وإن قتل المرتد من يكافئه عمداً فعليه القصاص نص عليه أحمد والولي
مخير بين قتله والعفو عنه فان اختار القصاص قدم على قتل الردة سواء تقدمت
الردة أو تأخرت لأنه حق آدمي وإن عفا على مال وجبت الدية في ماله وكذلك إن
كان القتل خطأ تجب الدية في ماله أيضاً لأنه لا عاقلة له قال القاضي: وتؤخذ
منه الدية في ثلاث سنين لانها دية الخطأ وإن قتل أو مات اخذت من ماله في
الحال لأن الدين المؤجل يحل بالموت في حق من لا وارث له ويحتمل أن تجب
الدية حالة عليه لأنها إنما أجلت في حق العاقلة تخفيفاً عليهم لأنهم يحملون
عن غيرهم على سبيل المواساة فأما لجاني فتجب عليه حالة لأنها بدل عن متلف
فكانت حالة كسائر ابدال المتلفات
(10/103)
(فصل) ومن أسلم من الأبوين كان أولاده
الأصاغر تبعاً له وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي إذا أسلم أبواه أو
أحدهما وأدرك فأبى الاسلام أجبر عليه ولم يقتل، وقال مالك إن أسلم الأب
تبعه أولاده وان أسلمت الأم لم يتبعوها لأن ولد الحرين يتبع أباه دون امه
بدليل الموليين إذا كان لهما ولد كان ولاؤه لمولى ابيه دون أمه ولو كان
الأب عبداً والأم مولاة فأعتق العبد لجر ولاء ولده إلي مواليه، ولأن الولد
يشرف بشرف أبيه وينسب إلى قبيلته دون قبيلة أمه فوجب أن يتبع أباه في دينه
أي دين كان، وقال الثوري إذا بلغ خير بين دين أبيه ودين أمه فأيهما اختاره
كان على دينه ولعله يحتج بحديث الغلام الذي أسلم أبوه وأبت أمه أن تسلم
فخيره النبي صلى الله عليه وسلم بين أبيه وأمه ولنا أن الولد يتبع أبويه في
الدين فإذا اختلفا وجب أن يتبع المسلم منهما كولد المسلم من الكتابية ولأن
الإسلام يعلو ولا يعلى، ويترجح بأشياء (منها) أنه دين الله الذي رضيه
لعباده وبعث به رسله ودعا خلقه اليه (ومنها) أنه تحصل به السعادة في الدنيا
والآخرة ويتخلص به في الدنيا من القتل والاسترقاق واداء الجزية وفي الآخرة
من سخط الله وعذابه (ومنها) أن الدار دار الإسلام يحكم بإسلام لقيطها ومن
لا تعرف حاله فيها، وإذا كان محكوماً باسلامه أجبر عليه إذا امتنع منه
بالقتل كولد المسلمين ولأنه مسلم فاذا رجع عن إسلامه وجب قتله لقوله عليه
الصلاة والسلام (من بدل دينه فاقتلوه) وبالقياس على غيره
ولنا على مالك أن الأم أحد الأبوين فتبعها ولدها في الاسلام كالأب بل الأم
أولى لأنها أخص به لأنه مخلوق منها حقيقة وتختص بحمله ورضاعه ويتبعها في
الرق والحرية والتدبير والكتابة ولأن سائر الحيوانات يتبع الولد أمه دون
أبيه وهذا يعارض ما ذكره، وأما تخيير الغلام فهو في الحضانة لا في الدين
(10/104)
(فصل) ومن مات من الأبوين الكافرين على
كفره قسم للولد الميراث وكان مسلماً بموت من مات منهما وأكثر الفقهاء على
أنه لا يحكم باسلامه بموتهما ولا بموت أحدهما لأنه ثبت كفره تبعاً ولم يوجد
منه إسلام ولا ممن هو تابع له فوجب بقاؤه على ما كان عليه لأنه لم ينقل عن
النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه أنه أجبر احدا من أهل الذمة
على الاسلام بموت أبيه مع أنه لم يخل زمنه عن موت بعض أهل الذمة عن بنيهم
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه
يهودانه وينصرانه ويمجسانه) متفق عليه فجعل كفره بفعل أبويه فإذا مات
أحدهما انقطعت التبعية فوجب ابقاؤه على الفطرة التي ولد عليها ولأن المسألة
مفروضة فيمن مات أبوه في دار الإسلام وقضية الدار الحكم باسلام أهلها وكذلك
حكمنا باسلام لقيطها وإنما ثبت الكفر للطفل الذي له أبوان فاذا عدما أو
أحدهما وجب ابقاؤه على حكم الدار لانقطاع تبعيته لمن يكفر بها وإنما قسم له
الميراث لأن اسلامه إنما ثبت بموت أبيه الذي استحق به الميراث فهو سبب لهما
فلم يتقدم الاسلام المانع من الميراث على استحقاقه ولأن الحرية المعلقة
بالموت لا توجب الميراث فيما إذا قال سيد العبد له إذا مات أبوك فأنت حر
فمات ابوه فانه يعتق ولا يرث فيجب ان يكون الاسلام المعلق بالموت لا يمنع
الميراث وهذا فيما إذا كان في دار الإسلام لأنه متى قطعت تبعيته لأبويه او
أحدهما ثبت له حكم الدار فأما دار الحرب فلا يحكم باسلام ولد الكافر فيها
بموتهما ولا موت احدهما لأن الدار لا يحكم باسلام أهلها ولذلك لم يحكم
بإسلام لقيطها
(10/105)
(فصل) وتثبت الردة بشيئين: الإقرار والبينة
فمتى شهد بالردة على المرتد من ثبتت الردة بشهادته فأنكر لم يسمع انكاره
واستتيب فإن تاب وإلا قتل، وحكي عن بعض أصحاب أبي حنيفة
ان انكاره يكفي في الرجوع إلى الاسلام ولا يلزمه النطق بالشهادة لأنه لو
أقر بالكفر ثم أنكره قبل منه ولم يكلف الشهادتين فكذلك هذا ولنا ما روى
الأثرم بإسناده عن علي رضي الله عنه أنه أتي برجل عربي فاستتابه فأبى أن
يتوب فقتله واتى برهط يصلون وهم زنادقة وقد قامت عليهم بذلك الشهود العدول
فجحدوا وقالوا ليس لنا دين إلا الاسلام فقتلهم ولم يستتبهم ثم قال: تدرون
لم استتبت النصراني؟ استتبته لأنه أظهر دينه فأما الزنادقة الذين قامت
عليهم البينة فإنما قتلهم لأنهم جحدوا وقد قامت عليهم البينة ولأنه قد ثبت
كفره فلم يحكم باسلامه بدون الشهادتين كالكافر الاصلي ولأن إنكاره تكذيب
للبينة فلم يسمع كسائر الدعاوى فأما إذا اقر بالكفر ثم أنكر فيحتمل أن
القول فيه كمسئلتنا وإن سلمنا فالفرق بينهما أن الحد وجب بقوله فقبل رجوعه
عنه وما ثبت بالبينة لم يثبت بقوله فلا يقبل رجوعه عنه كالزنا والسرقة
وتقبل الشهادة على الردة من عدلين في قول أكثر أهل العلم منهم مالك
والشافعي والاوزاعي وأصحاب الرأي قال ابن المنذر ولا نعلم احداً خالفهم الا
الحسن قال: لا يقبل في القتل إلا أربعة لأنها شهادة بما يوجب القتل فلم
يقبل فيها إلا أربعة قياساً على الزنا.
ولنا انها شهادة بغير الزنا فقبلت من عدلين كالشهادة على السرقة ولا يصح
قياسه على الزنا فلم
(10/106)
يعتبر فيه إلا أربعة لعلة القتل بدليل
اعتبار ذلك في زنا البكر ولا قتل فيه وإنما العلة كونه زنا ولم يوجد ذلك في
الردة ثم الفرق بينهما أن القذف بالزنا يوجب ثمانين جلدة بخلاف القذف
بالردة (فصل) وإذا أكره على الاسلام من يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم
لم يثبت له حكم الاسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعاً مثل أن يثبت
على الاسلام بعد زوال الاكراه عنه وإن مات قبل ذلك فحكمه حكم الكفار، وإن
رجع إلى دين الكفر لم يجز قتله ولا إكراهه على الاسلام وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي وقال محمد بن الحسن يصير مسلماً في الظاهر وإن رجع عنه قتل إذا
امتنع من الاسلام لعموم قوله عليه السلام (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا
لا إله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها) ولأنه
أتى بقول الحق فلزمه حكمه كالحربي
إذا أكره عليه.
ولنا أنه أكره على ما لا يجوز إكراهه عليه فلم يثبت حكمه في حقه كالمسلم
اذا أكره على الكفر والدليل على تحريم الإكراه قول الله تعالى (لا إكراه في
الدين) وأجمع أهل العلم على ان الذمي إذا قام على ما هو عليه والمستأمن لا
يجوز نقض عهده ولا إكراهه على ما لم يلتزمه ولأنه أكره على ما لا يجوز
إكراهه عليه فلم يثبت حكمه في حقه كالاقرار والعتق وفارق الحربي والمرتد
فانه يجوز قتلهما وإكراههما على الاسلام بان يقول إن أسلمت وإلا قتلناك
فمتى أسلم حكم باسلامه ظاهر وإن مات قبل زوال الاكراه عنه فحكمه حكم
المسلمين لأنه أكره بحق فحكم بصحة ما يأتي به كما لو اكره المسلم على
الصلاة فصلى.
وأما في الباطن فبينهم وبين ربهم فمن اعتقد الاسلام بقلبه وأسلم فيما بينه
وبين ربه فهو مسلم
(10/107)
عند الله موعود بما وعد به من اسلم طائعاً
ومن لم يعتقد الاسلام بقلبه فهو باق على كفره لاحظ له في الاسلام وسواء في
هذا من يجوز إكراهه ومن لا يجوز فان الاسلام لا يحصل بدون اعتقاده من
العاقل بدليل أن المنافقين كانوا يظهرون الاسلام ويقومون بفرائضه ولم
يكونوا مسلمين (فصل) ومن أكره على الكفر لم يصر كافراً وبهذا قال مالك وابو
حنيفة والشافعي وقال محمد بن الحسن هو كافر في الظاهر تبين منه امرأته ولا
يرثه المسلمون إن مات ولا يغسل ولا يصلى عليه وهو مسلم فيما بينه وبين الله
تعالى لأنه نطق بكلمة الكفر فأشبه المختار ولنا قول الله تعالى (إلا من
أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله)
ويروى ان عماراً أكرهه المشركون فضربوه حتى تكلم بما طلبوا منه ثم أتى
النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فأخبره فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم (إن عادوا فعد) وروي أن الكفار كانوا يعذبون المستضعفين من المؤمنين
فما منهم أحد إلا أجلبهم إلا بلالاً فانه كان يقول أحد أحد وقال النبي صلى
الله عليه وسلم (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ولأنه قول
أكره عليه بغير حق فلم يثبت في حقه كما لو أكره على الاقرار وفارق ما إذا
أكره بحق فانه خير بين أمرين يلزمه أحدهما فأيهما اختاره ثبت حكمه في حقه
فاذا ثبت أنه لم يكفر فمتى زال
عنه الإكراه أمر باظهار إسلامه فان أظهره فهو باق على اسلامه وإن أظهر
الكفر حكم أنه كفر من حين نطق به لأننا تبينا بذلك أنه كان منشرح الصدر
بالكفر من حين نطق به مختاراً له وإن قامت عليه بينة أنه نطق بكلمة الكفر
وكان محبوساً عند الكفار ومقيداً عندهم في حالة خوف لم يحكم بردته
(10/108)
لأن ذلك ظاهر في الإكراه، وإن شهدت أنه كان
آمناً حال نطقه بردته فإن ادعى ورثته رجوعه إلى الاسلام لم يقبل إلا ببينة
لأن الاصل بقاؤه على ما هو عليه وإن شهدت البينة عليه بأكل لحم الخنزير لم
يحكم بردته لأنه قد يأكله معتقداً تحريمه كما يشرب الخمر من يعتقد تحريمها،
وإن قال بعض ورثته أكله مستحلاً له او أقر بردته حرم ميراثه لأنه مقر بأنه
لا يستحقه ويدفع إلى مدعي إسلامه قدر ميراثه لأنه لا يدعي أكثر منه ويدفع
الباقي الى بيت المال لعدم من يستحقه فان كان في الورثة صغير أو مجنون دفع
اليه نصيبه ونصيب المقر بردة الموروث لأنه لم تثبت ردته بالنسبة اليه (فصل)
ومن أكره على كلمة الكفر فالأفضل أن يصبر ولا يقولها وإن أتى ذلك على نفسه
لما روى خباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن كان الرجل ممن قبلكم
ليحفر له في الارض فيجعل فيها فيجاء بمنشار فيوضع على شق رأسه ويشق باثنتين
ما يمنعه ذلك عن دينه ويمشط بامشاط الحديد ما دون عظمه من لحم ما يصرفه ذلك
عن دينه) وجاء في تفسير قوله تعالى (قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ
هم عليها قعود.
وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) أن بعض ملوك الكفار أخذ قوما من
المؤمنين فحفر لهم أخدوداً في الارض وأوقدوا فيها ناراً ثم قال من لم يرجع
عن دينه فألقوه في النار فجعلوا يلقونهم فيها حتى جاءت امرأة على كتفها صبي
لها فتقاعست من أجل الصبي فقال يا أمه اصبري فانك على الحق فذكرهم الله
تعالى في كتابه وروى الأثرم عن أبي عبد الله أنه سئل عن رجل يؤسر فيعرض على
الكفر ويكره عليه أله أن يرتد؟ فكرهه كراهة شديدة وقال ما يشبه هذا عندي
الذي أنزلت فيهم الآية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
(10/109)
أولئك كانوا يرادون على الكلمة ثم يتركون
يعملون ما شاءوا وهؤلاء يريدونهم على الإقامة على الكفر
وترك دينهم وذلك أن الذي يكره على الكلمة يقولها ثم يخلى لا ضرر فيها وهذا
المقيم بينهم يلتزم باجابتهم الى الكفر المقام عليه واستحلال المحرمات وترك
الفرائض والواجبات وفعل المنكرات والمحظورات وإن كانت امرأة يزوجونها
ويستولدونها أولاداً كفاراً وكذلك الرجل وظاهر حالهم المصير الى الكفر
الحقيقي والانسلاخ من الدين الحنيفي (فصل) ومن أصاب حداً ثم ارتد ثم أسلم
أقيم عليه حده وبهذا قال الشافعي سواء لحق بدار الحرب في ردته أو لم يلحق
بها، وقال قتادة في مسلم احدث حدثا ثم لحق بالروم ثم قدر عليه ان كان ارتد
درئ عنه الحد وإن لم يكن ارتد أقيم عليه ونحو هذا قال أبو حنيفة والثوري
إلا حقوق الناس لأن ردته احبطت عمله فأسقطت ما عليه من حقوق الله تعالى كمن
فعل ذلك في حال شركه فانه لم يثبت حكمه في حقه.
وأما قوله الاسلام (يجب ما قبله) فالمراد به ما فعله في كفره لأنه لو أراد
ما قبل ردته أفضى إلى كون الردة التي هي اعظم الذنوب مكفرة للذنوب وأن من
كثرت ذنوبه ولزمته حدود يكفر ثم يسلم فتكفر ذنوبه وتسقط حدوده (فصل) فأما
فعله في ردته فقد نقل مهنا عن أحمد قال: سألته عن رجل ارتد عن الاسلام فقطع
الطريق ثم لحق بدار الحرب وأخذه المسلمون قال تقام عليه الحدود ويقتص منه
وسألته عن رجل ارتد فلحق بدار الحرب فقتل بها مسلماً ثم رجع تائبا وقد أسلم
فأخذه وليه يكون عليه القصاص؟ فقال قد زال عنه الحكم لأنه إنما قتل وهو
مشرك ثم توقف بعد ذلك وقال لا أقول في هذا شيئاً
(10/110)
وقال القاضي ما أصاب في ردته من نفس أو مال
أو جرح فعليه ضمانه سواء كان في منعة وجماعة أو لم يكن لأنه التزم حكم
الاسلام باقراره فلم يسقط بجحده كما لا يسقط ما التزمه عند الحاكم بجحده.
قال شيخنا والصحيح إن ما أصابه المرتد بعد لحوقه بدار الحرب أو كونه في
جماعة ممتنعة لا يضمنه لما ذكرناه فيما تقدم في مسألة وما أتلف من شئ ضمنه
وما فعله قبل هذا أخذ به إذا كان مما يتعلق به حق آدمي كالجناية على نفس أو
مال لأنه في دار الإسلام فلزمه حكم جنايته كالذمي والمستأمن وأما من ارتكب
حداً خالصاً لله تعالى كالزنا وشرب الخمر والسرقة فإنه إن قتل بالردة سقط
ما سوى القتل
من الحدود لأنه متى اجتمع مع القتل حد انتفى بالقتل، وإن رجع إلى الاسلام
أخذ بحد الزنا والسرقة لأنه من أهل دار الاسلام فأخذ بهما كالذمي
والمستأمن.
فأما حد الخمر فيحتمل انه لا يجب عليه لأنه كافر فلا يقام عليه حد الخمر
كسائر الكفار ويحتمل أن يجب لأنه أقر بحكم الاسلام قبل ردته وهذا من أحكامه
فلم يسقط بجحده بعده (فصل) ومن ادعى النبوة أو صدق من ادعاها فقد ارتد لأن
مسيلمة لما ادعى النبوة فصدقه قومه صاروا بذلك مرتدين وكذلك طليحة الاسدي
ومصدقوه وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون
كذابون كلهم يدعي أنه رسول الله) (فصل) قال رحمه الله والساحر الذي يركب
المكنسة فتسير به في الهواء ونحوه يكفر ويقتل فأما الذي يسحر بالأدوية
والتدخين ويتقي شيئاً يضر فلا يكفر ولا يقتل ولكن يعذر ويقتص منه
(10/111)
إن فعل ما يوجب القصاص.
وجملة ذلك أن السحر عقد ورقى وكلام يتكلم به ويكتبه أو يعمل شيئاً يؤثر في
بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له وله حقيقة فمنه ما يقتل وما
يمرض وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها ومنه ما يفرق به بين المرء
وزوجه وما يبغض أحدهما إلى الآخر أو يجب بين اثنين وهذا قول الشافعي وذهب
بعض أصحابه إلى أنه لا حقيقة له إنما هو تخييل قال الله تعالى (يخيل إليه
من سحرهم أنها تسعى) وقال أصحاب أبي حنيفة إن كان شيئاً يصل الى بدن
المسحور كدخان ونحوه جاز أن يحصل منه ذلك فأما ان يحصل المرض والموت من غير
أن يصل انى بدنه شئ فلا يجوز ذلك لأنه لو جاز لبطلت معجزات الأنبياء عليهم
السلام لأن ذلك يخرق العادات فاذا جاز من غير الأنبياء بطلت معجزاتهم
وأدلتهم ولنا قول الله تعالى (قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق
إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد) يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن
وينفثن عليه ولولا أن السحر حقيقة لما أمر بالاستعاذة منه وقال الله تعالى
(يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) الى قوله
(فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) وروت عائشة رضي الله عنها
أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى إنه ليخيل اليه أنه يفعل الشئ وما
يفعله وأنه قال لها ذات يوم (أشعرت أن
(10/112)
الله أفتاني فيما استفتيته؟ إنه اتاني
ملكان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال ما وجع الرجل؟ قال مطبوب
قال من طبه؟ قال لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة في جف طلعة ذكر في بئر ذي
اروان) ذكره البخاري وغيره جف الطلعة وعاؤها والمشاطة الشعر الذي يخرج من
شعر الرأس أو غيره إذا مشط، فقد أثبت لهم سحراً، وقد اشتهر بين الناس وجود
عقد الرجل عن امرأته حين يتزوجها فلا يقدر على إتيانها وحل عقده فيقدر
عليها بعد عجزه عنها حتى صار متوترا لا يمكن جحده، وروي من أخبار السحرة ما
لا يكاد يمكن التواطؤ على الكذب فيه، وأما إبطال المعجزات فلا يلزم من هذا
لأنه لا يبلغ ما تأتي به الأنبياء عليهم السلام وليس يلزم أن ينتهي إلى أن
تسعى العصا والحبال (فصل) وتعليم السحر وتعلمه حرام لا نعلم فيه خلافا بين
أهل العلم قال أصحابنا ويكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو
إباحته، وروى عن أحمد ما يدل على أنه لا يكفر فان حنبلا روى عنه قال قال
عمي في العراف والكاهن والساحر: أرى أن يستتاب من هذه الافاعيل كلها فإنه
عندي في معنى المرتد فإن تاب وراجع يعني خلي سبيله قلت له يقتل؟ قال لا
لعله يراجع قلت له لم لا تقتله؟ قال إذا كان يصلي لعله يتوب ويرجع، وهذا
يدل على أنه لم يكفره لأنه لو كفره لقتله، وقوله في معنى المرتد
(10/113)
يعني في الاستتابة وقال أصحاب أبي حنيفة إن
اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء كفر وإن اعتقد أنه تخييل لم يكفر وقال
الشافعي إن اعتقد ما يوجب الكفر مثل التقرب الى الكواكب السبعة أنها تفعل
ما يلتمس أو اعتقد حل السحر كفر لأن القرآن نطق بتحريمه وثبت بالنقل
المتواتر والاجماع وإلا فسق ولم يكفر لأن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة
لها سحرتها بمحضر من الصحابة ولو كفرت لصارت مرتدة يجب قتلها ولم يجز
استرقاقها ولانه شئ يضر بالناس فلم يكفر بمجرده كأذاهم ووجه قول الاصحاب
قول الله تعالى (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان
الى قوله وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) وقوله تعالى
(وما كفر سليمان)
أي ماكان ساحراً كفر بسحره وقولهما إنما نحن فتنة فلا تكفر أي لا تتعلمه
فتكفر بذلك وقد ذكرنا حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن الساحرة سألت
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون هل لها من توبة فما
أفتاها أحد (فصل) وحد الساحر القتل روى ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة
وجندب بن عبد الله وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبد العزيز وهو قول
أبي حنيفة، ومالك ولم ير الشافعي عليه القتل بمجرد السحر وهو قول ابن
المنذر ورواية عن أحمد وقد ذكرناها ووجهها ما ذكرنا من حديث عائشة في
المدبرة التي سحرتها فباعتها، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل
دم امرئ مسلم إلا باحدى ثلاث:
(10/114)
كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس
بغير حق) ولم يصدر منه أحد الثلاثة فوجب أن لا يحل دمه ولنا ما روى جندب بن
عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (حد الساحر ضربه بالسيف) قال
إبن المنذر رواه اسماعيل بن مسلم وهو ضعيف وروى سعيد وابو داود في كتابيهما
عن بجالة قال كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الاحنف بن قيس إذ جاء كتاب عمر
قبل موته بسنة: اقتلوا كل ساحر فقتلنا ثلاث سواحر في يوم، وهذا اشتهر فلم
ينكر فكان إجماعاً وقتلت حفصة جارية لها سحرتها وقتل جندب بن كعب ساحرا كان
يسحر بين يدي الوليد بن عقبة ولأنه كافر فقتل للخبر المروي (فصل) والسحر
الذي ذكرنا حكمه هو الذي يعد في العرف سحراً مثل فعل لبيد بن الأعصم حين
سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة، وروينا في مغازي الأموي أن
النجاشي دعا السواحر فنفخن في احليل عمارة بن الويد فهام مع الوحش فلم يزل
معها إلى إمارة عمر بن الخطاب فأمسكه إنسان فقال خلني وإلا مت فلم يخله
فمات من ساعته، وبلغنا أن بعض الأمراء أخذ ساحرة فجاء زوجها كأنه محترق
فقال قولوا لها تحل عني فقالت ائتوني بخيوط وباب فأتوها به فجلست على الباب
وجعلت تعقد فطار بها الباب فلم يقدروا عليها، فهذا وأمثاله مثل أن يعقد
الرجل المتزوج فلا يطيق وطئ امرأته هو السحر المختلف في حكم صاحبه
(10/115)
(مسألة) (فأما الذي يسحر بالاودية والتدخين
وسقي شئ يضر فلا يكفر ولا يقتل) لأن الله تعالى وصف الساحرين الكافرين
بأنهم يفرقون بين المرء وزوجه فيختص الكفر بهم ويبقى من سواهم من الذين
يسحرون بالادوية والتدخين على أصل العصمة لا يجب قتلهم ولا يكفرون بسحرهم
لكن يعزرون إن ارتكبوا معصية ويقتص منهم ما يوجب القصاص كما يقتص من غيرهم
من المسلمين (مسألة) (وأما الذي يعزم على الجن ويزعم أنه يجمعها فتطيعه فلا
يكفر ولا يقتل)
(10/116)
وذكره أبو الخطاب في السحرة الذين يقتلون
وكذلك ذكره القاضي.
فأما الذي يحل بالسحر فان كان بشئ من القرآن أو شئ من الذكر والأقسام
والكلام المباح فلا بأس به فإن كان بشئ من السحر فقد توقف أحمد عنه، قال
الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن رجل يزعم انه يحل السحر فقال قد رخص فيه
بعض الناس، قيل لأبي عبد الله انه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه ويعمل كذا
فنفض يده كالمنكر وقال ما أدري ما هذا، قيل له فترى ان يؤتى مثل هذا يحل
السحر؟ فقال ما أدري ما هذا، وروي عن محمد بن سيرين أنه سئل عن امرأة
تعذبها السحرة فقال رجل أخط خطا عليها واغرز السكين عند مجمع الخط واقرأ
القرآن فقال محمد ما أعلم بقراءة القرآن بأسا على حال ولا أدري
(10/117)
ما الخط والسكين، وروي عن سعيد بن المسيب
في الرجل يؤخذ عن امرأته فيلتمس من يداويه فقال إنما نهى الله عما يضر ولم
ينه عما ينفع وقال أيضاً إن استطعت أن تنفع أخاك فافعل فهذا من قولهم يدل
على أن المعزم ونحوه لم يدخلوا في حكم السحرة لأنهم لا يسمون به وهو مما
ينفع ولا يضر (فصل) فأما الكافر الذي له رئي من الجن يأتيه بالأخبار،
والعراف الذي يحدس ويتخرص فقد قال أحمد في رواية حنبل في العراف والساحر
والكاهن أرى أن يستتاب من هذه الافاعيل، قيل له يقتل قال لا، يحبس لعله
يرجع، قال والعرافة طرف من السحر والساحر أخبث لأن السحر شعبة من الكفر
وقال الساحر والكاهن حكمهما القتل أو الحبس حتى يتوبا لأنهما يلبسان أمرهما
وحديث عمر اقتلوا كل ساحر وكاهن وليس هو من أمر الاسلام، وهذا يدل على أن
كل واحد فيه روايتان (إحداهما)
أنه يقتل إذا لم يتب (والثانية) لا يقتل لأن حكمه أخف من حكم الساحر وقد
اختلف فيه فهذا بدرء القتل عنه أولى (فصل) فأما ساحر أهل الكتاب فلا يقتل
لسحره إلا ان يقتل به ويكون مما يقتل غالباً فيقتل قصاصا، وقال أبو حنيفة
يقتل لعموم ما تقدم من الأخبار ولأنه جناية أوجبت قتل المسلم فأوجبت قتل
الذمي كالقتل قصاصا ولنا أن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم
فلم يقتله ولأن الشرك أعظم من سحره فلا يقتل به والاخبار وردت في ساحر
المسلمين لأنه يكفر بسحره وهذا كافر أصلي وقياسهم ينتقض باعتقاد الكفر
والتكلم به وينتقض بالزنا من المحصن فانه لا يقتل به الذمي عندهم ويقتل به
المسلم والله أعلم
(10/118)
|