الشرح الكبير على متن المقنع

 (كتاب الجنايات) الجنايات كل فعل عدوان على نفس أو مال لكنها في العرف مخصوصة بما يحصل فيه التعدي على الأبدان وسموا الجنايات على الأموال غصبا ونهبها وسرقة وخيانة وإتلافاً وأجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حق والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) وقال (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) وقال (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم) الآية وأما السنة فروى عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله الا باحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه والمفارق للجماعة " متفق عليه وروى عثمان وعائشة

(9/318)


عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله في آي وأخبار كثيرة ولا خلاف بين الأمة في تحريمه فإن فعله إنسان متعمداً فسق وأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وتوبته مقبولة في قول أكثر أهل العلم وقال ابن عباس لا تقبل توبته للآية التي ذكرناها وهي في آخر ما نزل ولم ينسخها شئ ولان لفظ لآية لفظ الخبر والأخبار لا يدخلها نسخ ولا تغيير لأن خبر الله تعالى لا يكون إلا صدقاً ولنا قول الله تعالى (إن الله لا يغفر ان يشترك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فجعله داخلاً في المشيئة وقال تعالى (إن الله يغفر الذنوب جميعا) وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " ان رجلاً قتل مائة رجل ظلماً ثم سئل هل له من توبة؟ فدل على عالم فسأل فقال ومن يحول بينك وبين التوبة ولكن خرج من قرية لسوء إلى القرية الصالحة فا عبد الله فيها فخرج تائباً فأدركه الموت في الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فبعث الله عزوجل ملكاً فقال قيسوا ما بين القريتين فإلى أيهما أقرب فاجعلوه من أهلها فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر فجعلوه من أهلها " أخرجه مسلم ولأن
الثوبة تصح من الكفر فمن القتل أولى والآية محمولة على من قتله مستحلاً ولم يتب أو على أن هذا جزاؤه إن جازاه الله وله العفو إن شاء وقوله لا يدخلها النسخ قلنا يدخلها التخصيص والتأويل (مسألة) (والقتل على أربعة أضرب عمد وشبه وخطأ وما أجري مجرى الخطأ) أكثر أهل العلم يرون القتل منقسماً إلى عمد وشبه عمد وخطأ روى ذلك عن عمر وعلي وبه قال

(9/319)


الشعبي والنخعي وقتادة وحماد وأهل العراق والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وأنكر مالك شبه العمد وقال ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ فأما شبه العمد فلا يعلم به عندنا وجعله من قسم العمد وحكي عنه مثل قول الجماعة وهو الصواب لما روى عبد الله بن عمر وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ألا إن في دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصى مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها " رواه أبو داود وفي لفظ " قتيل خطأ العمد، وهذا نص يقدم على ما ذكره وقسمه شيخنا في هذا الكتاب أربعة أقسام فزاد ما أجري مجرى الخطأ على ما ذكرناه وكذلك قسمه أبو الخطاب وهو أن ينقلب النائم على شخص فيقتله ومن يقتل بالسبب كحفر البئر ونحوه وكذلك قتل غير المكلف وهذه الصور عند الأكثرين من قسم الخطأ أعطوه حكمه (مسألة) (والعمد أن يقتله بما يغلب على الظن موته به عالماً بكونه آدمياً معصوماً وهو تسعة أقسام) (أحدهما) أن يجرحه بما له مور في البدن من حديد أو غيره مثل أن يجرحه بسكين أو يغزره بمسلة أو ما في معناه مما يحدد ويجرح من الحديد والنخاس والرصاص الذهب والفضة والزجاج والحجر والخشب والقصب والعظم فهذا كله إذا جرح به جرحاً كبيراً فمات فهو قتل عمد لا اختلاف فيه بين العلماء فيما علمنا فأما إن جرحه جرحا صغيراً كشرطة الحجام أو غرزه بإبرة أو شوكة أو جرحه جرحاً صغيراً بكبر في غير مقتل فمات في الحال ففي كونه عمداً وجهان (أحدهما) لا قصاص فيه قاله ابن حامد لأن الظاهر أنه لم يمت منه ولأنه لا يقتل غلبا أشبه العصى والسوط

(9/320)


(والثاني) فيه القصاص لان لمحدد لا يعتبر فيه غلبة الظن في حصول القتل به بدليل ما لو قطع شحمة
أذنه أو أنملته ولأنه لما لم تكن ادارة الحكم وضبطه بغلبة الظن وجب ربطه بكونه محدداً ولا يعتبر ظهور الحكمة في آحاد صور المظنة بل يكفي احتمال الحكمة ولذلك ثبت الحكم به فيما إذا بقي ضمنا مع أن العمد لا يختلف مع اتحاد لآية والفعل بسرعة الافضاء وإبطائه ولأن في البدن مقاتل خفية وهذا له سراية وصور فأشبه الجرح الكبير وهذا ظاهر كلام الخرقي فإنه لم يفرق بين الصغير والكبير وهذا مذهب أبي حنيفة وللشافعي من التفصيل نحو مما ذكرنا (مسألة) (فإن بقي من ذلك ضمناً حتى مات أو كان الغرز بها في مقتل كالفؤاد والخصيتين فهو عمد محض) أما إذا كان الجرح في مقتل كالعين والفؤاد والخاصرة والصدغ أو أصل الأذن فمات فهو عمد محض يجب به القصاص وكذلك إن بالغ في إدخل الإبرة ونحوها في البدن لأنه يشتد ألمه ويفضي إلى القتل كالكبير، وإن بقي من ذلك ضمناً حتى مات ففيه القود لأن الظاهر أنه مات به قاله أصحابنا وقيل لا يجب به القصاص لان لما احتمل حصول الموت بغيره ظاهراً كان شبهة في درء القصاص ولو كانت العلة أن القتل لا يحصل به غالباً لما افترق بين موته في الحال وموته الحال وموته ومتراخيا كسائر ما لا يجب به قصاص (مسألة) (وان قطع سلعة من أجنبي بغير إذنه فمات فعليه القود لأنه جرحه بغير إذنه جرحاً لا يجوز له

(9/321)


فكان عليه القود اذا تعمد كغيره وإن قطعها حاكم من صغير أو وليه فمات فلا قود لأن له فعل ذلك وقد فعله لمصلحته فأشبه ما لو ختنه (الثاني) أن يضربه بمثقل فوق عمود الفسطاط أو بما يغلب على الظن موته به كاللت والكوذين والسندان أو حجر كبير أو يلقي عليه حائطا أسقفا أو يلقيه من شاهق أو يكرر الضرب بصغير أو يضربه في مقتل أو في حال ضعف قوة من مرض أو صغر أو كبر أو برد أو نحوه وجملة ذلك أنه إذا قتله بغير محدد يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله فهو عمد موجب للقصاص وبه قال النخعي والزهري وابن سيرين وجماد وعمرو بن دينار وابن أبي ليلى ومالك والشافعي واسحاق وأبو يوسف وأبو محمد وقال الحسن لا قود في ذلك وروي ذلك عن الشعبي وقال ابن المسيب وعطاء وطاوس العمد ما كان بالسلاح وقال أبو حنيفة لا قود إلا أن يكون قتله بالنار وعنه في مثقل الحديد
روايتان، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا إن في قتيل عمد الخطأ قيتل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل " فسماه عمدا لخطأ وأوجب فيه الدية دون القصاص ولأن العمد لا يمكن اعتباره بنفسه فيجب ضبطه يمظنته ولا يمكن ضبطه بما يقتل غالباً لحصول العمد بدونه في الجرح الصغير فوجب ضبطه بالجرح ولنا قول الله تعالى (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) وهذا مقتول ظلماً وقوله سبحانه (كتب عليكم القصاص في القتلى) وروى أنس أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لما بحجر فقتله رسول

(9/322)


الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين متعق عليه، وروى أبو هريرة قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودى وإما أن يقاد " متفق عليه ولأنه يقتل غالباً أشبه المحدد وأما الحديث فمحمول على المثل الصغير لأنه ذكر العصى والسوط وقرن به الحجر فدل على أنه أراد ما اشبههما وقولهم لا يمكن ضبطه ممنوع فاما توجب القصاص بما يتقين حصول الغلبة به وإذا شككنا لم نوجبه مع الشك والجرح الصغير قد سبق القول فيه ولأنه لا يصح ضبطه بالجرح بدليل ما لو قتله بالنار، والمراد بعمود الفسطاط الذي ذكره ههنا العمد التي تتخذها العرب لببوتها وفيها دتة وانما حد الواجب للقصاص بفوق عمود الفسطاط لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المرأة التي ضربت جاريتها بعمود الفسطاط فقتلتها وجنينها قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة وقضى بالدية على عاقلتها والغافلة لا تحمل العمد فدل على أن القتل بعمود الفسطاط ليس بعمد، وإن كان أعظم منه بعمد الخيام فهو كبير يقتل غالباً فيجب فيه القصاص، ومن هذا النوع أن يلقي عليه جداراً أو صخرة أو خشبة عظيمة أو يلقيه من شاهق فيهلكه ففيه القود لأنه يقتل غالباً، ومن ذلك أن يضربه بمقتل صغير أو حجر صغير أو يلكزه ببده في مقتل أو في حال ضعف المضروب لمرض أو صغر أو في حر مفرط أو برد شديد بحيث يقتله بتلك الضربة أو كرر الضرب حتى قتله بما يقتل غالباً فقتله ففيه القود لأنه قتله بما يقتل غالباً أشبه المثقل

(9/323)


الكبير وإن لم يكن كذلك ففيه الدية لأنه عمد الخطأ إلا أن يصغر جداً كالضربة بالقلم والأصبع في غير مقتل ونحو هذا مما لا يتوهم القتل به فلا قود فيه ولا دية لأنه لم يمت به وكذلك إن مسه بالكبير ولم يضربه
به لأن الدية انما تجب بالقتل فليس هذا قتلاً (النوع الثالث) (ألقاه في زبية أسد أو أنهشه كلباً أو سبعاً أو حية أو ألسعه عقرباً من القواتل ونحو ذلك فقتله فيجب به القصاص) إذا جمع بينه وبين أسد أو نحو في مكان ضيق كزبية أو نحوها فقتله فهو عمد فيه القصاص إذا فعل به السبع فعلاً يقتل مثله وان فعل وإن فعل به فعلاً لو فعله الآدمي لم يكن عمداً لم يجب القصاص به لأن السبع صار آلة للآدمي فكان فعله كفعله فإن ألقاه مكتوفاً بين يدي الأسد أو النمر في فضاء فقتل فعليه القود وكذلك إن جمع بينه وبين حية في مكان ضبق فنهشته فقتلته فعليه القود، وقال القاضي لا ضمان عليه في الصورتين وهو قول أصحاب الشافعي لأن الأسد والحية يهربان من الآدمي، ولأن هذا سبب غير ملجئ ولنا أن هذا يقتل غالباً فكان عمداً محضاً كسائر الصور، وقولهم أنهما يهربان لا يصح فإن الأسد يأخذ الآدمي المطلق فكيف يهرب من مكتوف ألقي له ليأكله؟ والحية إنما تهرب في مكان واسع أما إذا ضاق المكان فالغالب أنها تدفع عن نفسها بالهش على ما هو العادة، وقد ذكر القاضي فيمن ألقي

(9/324)


مكتوفاً في أرض مسبعة أو ذات حيات فقتلته أن في وجوب القصاص روايتين وهذا تناقص شديد فإنه نفى الضمان بالكلية في صورة كان القتل فيها أغلب واوجب القصاص في صورة كان فيها أنذر، والصحيح أنه لا قصاص ههنا ويجب الضمان لأنه فعل به فعلاً متعمداً تلف به لأنه يقتل مثله غالباً وإن أنهشه حية أو سبعاً فقتله فعليه القود إذا كان ذلك مما يقتل غالباً فإن كان مما لا يقتل غالبا كثبعان الحجاز أو سبع صغير ففيه وجهان (أحدهما) فيه القود لأن الجرح لا يعتبر فيه غلبة حصول القتل به وهذا جرح ولأن الحية من جنس ما يقتل غالباً (والثاني) هو شبه عمد لأنه لا يقتل غالباً أشبه الضرب بالسوط والعصا والحجر الصغير وإن ألسعه عقرباً من القواتل فقتلته فهو كما لو انهشته حية يوجب القصاص لأنه يقتل غالباً، فإن كتفه وألقاه في أرض غير مسبعة فأكله سبع أو نهشته حية فمات فهو شبه عمد وقال أصحاب الشافعي هو خطأ محض ولنا أنه فعل به فعلاً لا يقتل مثله غالباً فأفضى إلى إهلاكه أشبه ما لو ضربه بعصاً فمات وكذلك إن
ألقاه مشدوداً في موضع لم يعهد وصول زيادة الماء إليه فان كان في موضع يعلم وصول زيادة الماء إليه في ذلك الوقت فمات به فهو عمد محض وإن كانت الزيادة غير معلومة إما لكونها تحتمل الوجود وعدمه أو لا تعهد أصلاً فهو شبه عمد (النوع الرابع) ألقاه في ماء يغرقه أو نار لا يمكنه التخلص منها إما لكثرة الماء والنار وإما لعجزه

(9/325)


عن التخلص لمرض أو ضعف أو صغر أو كونه في حفرة لا يقدر على الصعود منها ونحو هذا أو ألقاه في بئر ذات نفس فمات عالماً بذلك فهذا كله عمد لأنه يقتل غالباً، وإن ألقاه في ماء يسير فقدر على الخروج منه فلبث فيه اختياراً حتى مات فلا شئ فيه لأن هذا الفعل لم يقتله وإنما حصل موته بلبثه فيه وهو فعل نفسه فلم يضمنه غيره، فإن تركه في نار يمكنه التخلص منها لقلتها أو كونه في طرف منها يمكنه الخروج بأدنى حركة فلم يخرج حتى مات فلا قود لأن هذا لا يقتل غالباً وهل يضمنه؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يضمنه لأنه مهلك لنفسه بإقامته فلم يضمنه كما لو ألقاه في ماء يسير لكن يضمن ما أصابت النار منه (والثاني) يضمنه لأنه جان بالإلقاء المفضي إلى الهلاك وترك التخلص لا يسقط الضمان كما لو فصده فترك شد فصاده مع إمكانه أو جرحه فترك مداواة جرحه، وفارق الماء اليسير لأنه لا يهلك بنفسه ولهذا يدخله الناس للغسل والسباحة وأما النار فيسيرها مهلك وإنما تعلم قدرته على التخلص بقوله أنا قادر على التخلص أو نحو هذا لأن النار لها حرارة شديدة فربما أزعجته حرارتها عن معرفة ما يتخلص به أو اذهبت عقله بألمها وروعتها (الخامس) (خنفقه بحبل أو غيره أو سد فمه وأنفه أو عصر خصيتيه حتى مات) إذا منع خروج نفسه بأن يخنقه بحبل أو غيره وهو نوعان (أحدهما) أن يخنقه بأن يجعل في عنقه

(9/326)


خراطة ثم يعلقه في خشبة أو شئ بحيث يرتفع عن الأرض فيختنق ويموت فهذا عمد سواء مات في الحال أو بقي زمناً لأن هذا أوحى أنواع الخنق وهو الذي جرت العادة بفعله في اللصوص
واشباههم من المفسدين (الثاني) أن يخنقه وهو على الأرض بيديه أو حبل أو يغمه بوسادة أو شئ يضعه على فيه وأنفه أو يضع يديه عليهما فيموت فهذا إن فعل به ذلك في مدة يموت في مثلها غالباً فمات فهو عمد فيه القصاص وبه قال عمر بن عبد العزيز والنخعي والشافعي، وإن كان في مدة لا يموت في مثلها غالباً فهو عمد الخطأ ويلتحق بذلك ما لو عصر خصيته عصراً شديداً فقتله بعصر يقتل مثله غالباً، وإن لم يكن كذلك فهو شبه عمد إلا أن يكون ذلك يسيراً في الغاية بحيث لا يتوهم الموت منه فلا يوجب ضماناً لأنه بمنزلة لمسه، ومتى خنقه وتركه متألماً حتى مات ففيه القود لأنه مات من سراية جناية كسراية الجرح وإن تنفس وصح ثم مات فلا قود لأن الظاهر أنه لم يمت منه فأشبه ما لو اندمل الجرح ثم مات (السادس) حبسه ومنعه الطعام أو الشرب حتى مات جوعاً وعطشاً في مدة يموت في مثلها غالباً فعليه القود لأن هذا يقتل غالباً، وهذا يختلف باختلاف الناس والزمان والأحوال فإذا عطشه في شدة الحرمات في الزمن القليل وإن كان ريان والزمن بارد أو معتدل لم يمت إلا في زمن طويل فيعتبر هذا فيه، فان كان في مدة يموت في مثلها غالباً ففيه القود إن كان في مدة لا يموت في مثلها غالباً فهو عمد الخطأ

(9/327)


وإن شككنا فيها لم يجب القود لأنا شككنا في السبب ولا يثبت الحكم مع اشك في سببه سيما القصاص الذي يسقط بالشبهات (السابع) سقاه سماً لا يعلم به أو خلطه بطعام فأطعمه أو خلطه بطعامه فأكله وهو لا يعلمه فمات فعليه القود إذا كان مثله يقتل غالباً وقال الشافعي في أحد قوليه لا قود عليه لأنه أكله مختاراً فأشبه ما لو قدم إليه سكيناً فطعن بها نفسه، ولأن أنس بن مالك روى أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها النبي صلى الله عليه وسلم وبشر بن البراء فلم يقتلها النبي صلى الله عليه وسلم قال وهل تجب الدية؟ فيه قولان، قلنا حديث اليهودية حجة لنا فإن ابا سلمة قال فيه فمات بشر فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقتلت أخرجه أبو داود ولأن هذا يقتل غالباً ويتخذ طريقاً إلى القتل كثيراً فأوجب القصاص كما لو اثرهه على شربه، فأما حديث أنس فلم يذكر فيه أن أحدا مات منعه ولا يجب القصاص إلا ان يقتل به ويجوز
أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلها قبل أن يموت بشر فلما مات أرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فاعترفت فقتلها فنقل أنس صدر القصة دون آخرها، ويتعين حمله عليه جميعاً بين الخبرين ويجوز أن يترك قتلها لكونها ما قصدت قتل بشر إنما قصدت قتل النبي صلى الله عليه وسلم فاختل العمد بالنسبة إلى بشر، وفارق تقديم السكين فإنها لا تقدم إلى الإنسان ليقتل بها نفسه إنما تقدم إليه لينتفع وهو عالم بمضرتها ونفعها فأشبه ما لو قدم

(9/328)


إليه السم وهو عالم به فأما إن أكله وهو عالم به وهو بالغ عاقل فلا ضمان عليه كما لو قدم إليه سكيناً فوجأ بها نفسه (مسألة) (فإن خلط السم بطعام نفسه فدخل إنسان منزله فأكله فلا ضمان عليه) لأنه لم يفعله وإنما الداخل قتل نفسه فأشبه ما لو حفر في داره بئراً فدخل رجل فوقع فيها وسواء قصد بذلك قتل الداخل مثل أن يعلم أن ظالماً يريد هجوم داره فترك السم في الطعام ليقتله فهو كما لو حفر بئراً في داره ليقع فيها اللص إذا دخل ليسرق منها ولو دخل رجل بإذنه فأكل الطعام المسموم بغير إذنه لم يضمنه لذلك (مسألة) (وإن ادعى القاتل بالسم أنني لم أعلم أنه سم قاتل لم يقبل قوله في أحد الوجهين) لأن السم من جنس ما يقتل غالباً فأشبه ما لو جرحه وقال لم أعلم أنه يموت منه (والثاني) لا قود عليه لأنه لا يجوز أن يخفى عليه أنه قاتل وهذا شبهة ليسقط به القود فيكون شبه عمد (فصل) فإن سقى إنساناً سماً أو خلطه بطعامه فأكل وهو لا يعلم به وهو مما لا يقتل مثله غالباً فهو شبه عمد فإن اختلف فيه هل يقتل غالبا اولا وثم بينة تشهد عمل بها وإن قالت تقتل النضو الضعيف دون القوي أو غير ذلك عمل على حسب ذلك فإن لم يكن مع أحدهما بينة فالقول قولا الساقي لأن

(9/329)


الأصل عدم وجوب القصاص فلا يثبت بالشك ولأنه أعلم بصفة ما يسقي فإن ثبت أنه قاتل فقال لم أعلم به ففيه الوجهان المذكوران (الثامن) أن يقتله بسحر يقتل غالباً فيلزمه القود لأنه قتله بما يقتل غالباً فأشبه قتله بالسكين وإن
كان مما لا يقتل غالباً أو كان مما يقتل ولا يقتل ففيه الدية دون القصاص لأنه عمد الخطأ فأشبه ضرب العصا (التاسع) أن يشهدا على رجل بقتل عمد أو زنا أو ردة فيقتل بذلك ثم يرجعا ويقولا عمدنا قتله أو يقول الحاكم علمت كذبهما وعمدت قتله أو يقول ذلك الولي فهذا فكله عمد محض موجب للقصاص إذا كلمت شروطه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا قصاص عليهما لانه بسبب غير ملجئ فلا وجب القصاص كحفر البئر ولنا ما روى القاسم بن عبد الرحمن أن رجلين شهدا عند علي كرم الله وجهه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعان عن شهادتهما فقال علي لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وغرمهما دية يده ولأنهما توصلا الى قتله بسبب يقتل غالباً فوجب عليهما القصاص كالمكره وكذلك الحاكم إذا حكم على على رجل بالقتل عالماً بذلك متعمداً فقتله واعترف بذلك وجب القصاص والكلام فيه كالكلام في الشاهدين ولو أن الولي الذي باشر قتله أقر بعلمه بكذب الشهود وتعمد قتله فعليه القصاص لا نعلم

(9/330)


فيه خلافا فان أقر الشاهدان والحاكم والولي جميعاً بذلك فعلى الولي القصاص لأنه باشر القتل عمداً وعدواناً وينبغي أن لا يجب على غيره شئ لأنهم متسببون والمباشرة تبطل حكم التسبب كالدافع مع الحافر ويفارق هذا ما إذا لم يقر لأنه لم يثبت حكم مباشرة القتل في حقه ظلماً فكان وجوده كعدمه ويكون القصاص على الشاهدين والحاكم لأن الجمع متسببون وإن صار الأمر الى الدية فهي عليهم أثلاثاً ويحتمل أن يتعلق الحكم بالحاكم وحده لأن سببه أخص من سببهم فإن حكمه واسطة بين شهادتهم وقتله فأشبه المباشر مع المتسبب فإن كان الولي المقر بالتعمد لم يباشر القتل وإنما وكل فيه فأقر الوكيل بالعلم وتعمد القتل ظلماً فهو القاتل وحده لأنه المباشر للقتل عمداً ظلماً من غير إكراه فتعلق الحكم به كما لو قتل في غيره هذه الصورة وإن لم يعترف بذلك فالحكم يتعلق بالولي كما لو باشره (فصل) قال رضي الله عنه وشبه العمد أن يقصد الجناية بما لا يقتل غالباً فيقتل إما لقصد العدوان عليه أو لقصد التأديب له فيسرف فيه كالضرب بالسوط والعصا والحجر الصغير أو يلكزه بيده أو يلقيه في ماء يسير أو يقتله بسحر لا يقتل غالباً وسائر ما لا يقتل غالباً أو يصيح بصبي أو معتوه وهما على
سطح فيسقطان أو يغتفل عاقلاً فيصيح به فيسقط فهو شبه عمد إذا قتل لأنه قصد الضرب دون القتل ويسمى خطأ العمد وعمد الخطأ لاجتماع العمد والخطأ فيه فإنه عمد الفعل وأخطأ في القتل فهذا لا قود فيه والدية على العاقلة في قول أكثر أهل العلم وجعله مالك عمداً في بعض ما حكي عنه موجباً للقصاص

(9/331)


لأنه ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ فمن زاد قسماً ثالثاً زاد على النص ولانه قبله بفعل عمده فكان عمداً كما لو غرزه بإبرة وحكي عنه مثل قول الجماعة وقال أبو بكر عبد العزيز تجب الدية في مال القاتل وهو قول ابن شبرمة لأنه موجب فعل عمد فكان في مال القاتل كسائر جنايات العمد ولنا ما روى أبو هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها يقضى النبي صلى الله عليه وسلم " إن دية جنينها عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها " متفق عليه فأوجب ديتها على العاقلة، والعاقلة لا تحمل العمد وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا إن في قتل خطأ العمد قتيل السوط والحجر والعصى مائة من الإبل " وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " عقل شبه العمد تغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه " رواه أبو داود وهذا نص وقوله هذا قسم ثالث قلنا نعم هذا ثبت بالسنة والقسمان الأولان ثبتا بالكتاب ولأنه قتل لا يوجب القود فكانت ديته على العاقلة كقتل الخطأ (فصل) والخطأ على ضربين (أحدهما) أن يرمي الصيد ويفعل ماله فعله فيتول الى إتلاف إنسان معصوم فعليه الكفارة والدفع على العاقلة بغير خلاف قال إبن المنذر أجمع كل من تحفظ عنه من أهل العلم أن القتل الخطأ أن يرمي الرامي شيئاً فيصيب غيره لا أعلمهم يختلفون فيه هذا قول عمر بن عبد العزيز وقتادة والنخعي والزهري وابن شبرمة والثوري ومالك والشافعي واصحاب الرأي والأصل في وجوب الدية والكفارة قول الله سبحانه وتعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة

(9/332)


مؤمنة ودية مسلمة إلى اصله إلا أن يصدقوا) وسواء كان المقتول مسلماً أو كافراً له عهد لقول الله تعالى (فإن كان من قول بينكم وبينهم ميثق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) ولا قصاص في شئ من هذا لأن الله تعالى أوجب به الدية ولم يذكر قصاصا وقال النبي صلى الله عليه وسلم " رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان وما استكرهوا عليه، ولأنه لم يوجب القصاص في عمد الخطأ ففي الخطأ أولى (الضرب الثاني) أن يقتل في دار الحرب من يظنه حربياً ويكون مسلماً أو يرمي إلى صف الكفار فيصيب مسلماً أو يتترس من الكفار بمسلم ويخاف على المسلمين إن لم يرمهم فيرميهم فيقتل المسلم فهذا تجب به الكفارة روى ذلك عن ابن عباس وبه قال عطاء ومجاهد وعكرمة وقتادة والاوزاعي وأبو حنيفة وفي وجوب الدية على العاقلة روايتان (إحداهما) تجب وهو قول مالك والشافعي لقول الله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله أن يصدقوا) وقال عليه السلام " ألا إن في قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصى مائة من الإبل " ولأنه قتل مسلماً خطأ فوجبت ديته كما لو كان في دار الإسلام (والثانية) لا تجب الدية لقول الله تعالى (وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) ولم يذكر دية وتركه ذكرها في هذا القسم مع ذكرها في الذي قبله وبعد ظاهر في أنها غير واجبة وذكره لهذا قسماً مفرداً يدل على أنه لم يدخل في عموم في الآية التي احتجوا بها ويخص بها عموم الخبر الذي رووه وهذا ظاهر المذهب.

(9/333)


(مسألة) (والذي أجري مجرى الخطأ كالنائم ينقلب على إنسان فيقتله أو يقتل بالسبب مثل أن يحفر بئراً أو ينصب سكيناً أو حجرا فيئول الى إتلاف إنسان وعمد الصبي والمجنون) فهذا كله لا قصاص فيه والدية على العاقلة وعليه الكفارة في ما له لأنه خطأ فيكون هذا حكمه لما ذكرناه (فصل) قال رحمه الله (ويقتل الجماعة بالواحد إذا كان فعل كل واحد منهم لو انفرد أوجب القصاص عليه، روي ذلك عن عمر وعلي والمغيرة بن شعبة وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وأبو سلمة وعطاء وقتادة وهو مذهب مالك والثوري والاوزاعي والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي، وعن أحمد رواية أخرى لا يقتلون وتجب الدية عليهم والمذهب الأول يروي ذلك عن ابن الزبير والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت وعبد الملك وربيعة وداود وابن المنذر وحكاه ابن أبي موسى عن ابن عباس وروي ذلك عن معاذ وابن الزبير والزهري أنه يقتل منهم واحد ويأخذ من
الباقين حصصهم من الدية لأن كل واحد منهم مكافئ له فلا يستوفى أبداً إلا ببدل واحد كما لا تجب ديات لمقتول واحد ولأن الله تعالى قال (الحر بالحر) (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) ومقتضاه أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة ولأن التفاوت في الأوصاف يمنع بدليل أن الحر لا يؤخذ بالعبد فالتفاوت في العدد أولى قال إبن المنذر لا حجة مع من أوجب قتل الجماعة بواحد ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فروى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل سبعة من

(9/334)


أهل صنعاء قتلوا رجلاً وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم جميعاً وعن علي انه قتل ثلاثة قتلوا رجلاً وعن ابن عباس أنه قتل جماعة بواحد ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف فكان إجماعاً لأنها عقوبة تجب للواحد على الواحد فوجبت للواحد على الجماعة كحد القذف ويفارق الدية فإنها تتبعض والقصاص لا يتبعض ولأن القصاص لو سقط بالاشتراك أدى إلى التسارع إلى القتل به فيؤدي إلى إسقاط حكمه الردع والزجز.
(مسألة) (وان جرحه أحدهما جرحاً والآخر مائة فهما سواء في القصاص والدية) جملة ذلك أنه لا يعتبر في وجوب القصاص على المشتركين التساوي في سببه فلو جرحه أحدهما جرحاً والآخر مائة أو أوضحه أحدهما وشجه الآخر آمة أو أحدهما جائفة والآخر غير جائفة فمات كانا سواء في القصاص والدية لأن اعتبار التساوي يفضي إلى سقوط القصاص عن المشتركين إذ لا يكاد جرحان يتساويان من كل وجه ولو احتمل التساوي لم يثبت الحكم، لأن الشرط يعتبر العلم بوجوده ولا يكتفى باحتمال الوجود بل الجهل بوجوده كالعلم بعدمه في إسقاط الحكم لأن الجرح الواحد يحتمل أن يموت منه دون المائة كما يحتمل أن يموت من الموضحة دون الآمة ومن غير الجائفة دون الجائفة ولأن الجراح

(9/335)


إذا صارت نفساً سقط اعتبارها فكان حكم الجماعة كحكم الواحد ألا ترى أنه لو قطع أطرافه كلها فمات وجبت دية واحدة كما لو قطع طرفه فمات (فصل) إذا اشترك ثلاثة في قتل رجل فقطع أحدهم يده والآخر رجله وأوضحه ثالث فمات
فللولي قتل جميعهم والعفو عنهم إلى الدية فيأخذ من كل واحد ثلثها وله أن يعفو عن واحد فيأخذ منه ثلث الدية ويقتل الآخرين وان يعفوا عن اثنين فيأخذ منهما ثلثي الدية ويقتل الثالث وان برأت جراحة أحدهم ومات من الجرحين الآخرين فله أن يقتص من الذي برأ جرحه بمثل جرحه ويقتل الآخرين أو يأخذ منهما دية كاملة أو يقتل أحدهما ويأخذ من الآخر نصف الدية وله أن يعفوا عن الذي برأ جرحه ويأخذ منه دية جرحه وإن ادعى الموضح أن جرحه برأ قبل موته وكذبه شريكاه نظرت في الولي فإن صدقه ثبت حكم البرء بالنسبة اليه فلا يملك قتله والا مطالبته بثلث الدية وله ان يقتص منه موضحة أو يأخذ منه أرشها ولم يقبل قوله في حق شريكيه، لأن الأصل عدم البرء فيها لكن إن اختار الولي القصاص فلا فائدة لهما في إنكار ذلك لأن له أن يقتلهما سواء برأت أو لم تبرأ وان اختار الدية لم يلزمهما أكثر من ثلثيها وإن كذبه الولي حلف وله الاقتصاص منه أو مطالبته بثلث الدية ولم يكن له مطالبة شريكه بأكثر من ثلثيها وإن شهد له شريكاء ببرئها لزمهما الدية كاملة لإقرارهما بوجوبها وللولي أخذها منهما إن صدقهما وإن لم يصدقهما وعفى إلى الدية لم يكن له أكثر من ثلثها لأنه يدعي

(9/336)


أكثر من ذلك وتقبل شهادتهما إن كانا قد تابا وعدلا لأنهما لا يجران إلى أنفسهما بذلك نفعاً فيسقط القصاص ولا يلزمه أكثر من أرش موضحة (مسألة) (وإن قطع أحدهما يده من الكوع والآخر من المرفق فهما قاتلان) أما إذا ابرأت جراحة الأول قبل قطع الثاني فالقاتل الثاني وحده وعليه القود أو الدية كاملة إن عفا عن قتله فله قطع يد الأول أو نصف الدية، وإن لم تبرأ فهما قاتلان وعليهما القصاص في النفس أو الدية ان عفا عنهما وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة القاتل هو الثاني وحده ولا قصاص على الأول في النفس لأن قطع الثاني قطع سراية قطعه ومات بعد زوال جناية فأشبه ما لو اندمل جرحه، وقال مالك إن قطعه الثاني عقيب قطع الأول قتلا جميعاً وإن عاش بعد قطع الأول حتى أكل وشرب ومات عقيب قطع الثاني فالقاتل هو الثاني وحده وإن عاش بعدهما حتى أكل وشرب فللأولياء أن يقسموا على أيهما شاء ويقتلوه ولنا أنهما قطعان لو مات بعد كل واحد منهما وحده لوجب عليه القصاص فإذا مات بعدهما وجب
عليهما القصاص كما لو كانا في يدين ولأن القطع الثاني لا يمنع حياته بعده فلا يسقط حكم ما قبله كما لو كانا في يدين ولا نسلم زوال جنايته ولا قطع سرايته فإن الألم الحاصل بالقطع الأول لم يزل وإنما انضم اليه الألم الثاني فضعفت النفس عن احتمالهما فزهقت بهما فكان القتل بهما، ويخالف الاندمال فإنه لا يبقى

(9/337)


معه الألم الذي حصل في الأعضاء الشريفة فافترقا، وإن ادعى الأول أن جرحه اندمل فصدقه الولي سقط عنه القتل ولزمه القصاص في اليد أو نصف الدية وإن كذبه شريكه واختار الولي القصاص فلا فائدة له في تكذيبه لأن قتله واجب، وإن عفا عنه إلى الدية فالقول قوله مع يمينه ولا يلزمه أكثر من نصف الدية وإن كذب الولي الأول حلف وكان له قتله، لأن الأصل عدم ما ادعاه وإن ادعى الثاني اندمال جرحه فالحكم فيه كالحكم في الأول إذا ادعى ذلك (مسألة) (وإن فعل أحدهما فعلاً لا تبقى معه الحياة كقطع حشوته أو مريئه أو ودجيه ثم ضرب عنقه آخر فالقاتل هو الاول يعزر الثاني، وإن شق الأول بطنه أو قطع يده ثم ضرب الثاني عنقه فالثاني هو القاتل وعلى الأول ضمان ما أتلف بالقصاص والدية) وجملة ذلك أنه إذا جنى عليه اثنان جنايتين نظرنا فإن كانت الأولى أخرجته من حكم الحياة مثل قطع حشوته وابنها منه أو ذبحه ثم ضرب عنقه الثاني فالأول هو القاتل لأنه لا يبقى مع جنايته وحياة والقود عليه خاصة ويعزر الثاني كما لو جنى على ميت وإن عفا الولي الى الدية فهي على الأول وحده، وإن كان جرح الأول تبقى الحياة معه مثل شق البطن من غير إبانة الحشوة أو قطع طرف ثم ضرب عنقه آخر فالثاني هو القاتل لأنه لم يخرج بجرح الأول عن حكم الحياة فيكون الثاني هو المفوت لها فعليه القصاص في النفس والدية كاملة إن عفا عنه ثم ينظر في جرح الأول فإن كان موجباً للقصاص كقطع الطرف فالولي مخير بين قطع طرفه

(9/338)


والعفو على ديته أو العفو مطلقاً، وإن كان لا يوجب القصاص كالجائفة ونحوها فعليه الأرش وإنما جعلنا عليه القصاص لأن الثاني بفعله قطع سراية الأول فصار كالمندمل الذي لا يسري وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه مخالفاً، ولو كان جرح الأول يفضي إلى الموت لا محالة إلا أنه لا يخرج به من حكم الحياة
وتبقى معه الحياة المستقرة مثل خرق المعى أو أم الدماغ فضرب الثاني عنقه فالقاتل هو الثاني لأنه فوت حياة مستقرة وقتل من هو في حكم الحياة بدليل أن عمر رضي الله عنه لما جرح دخل عليه الطبيب فسقاه لبنا فخرج يصلد فعلم الطبيب أنه ميت فقال أعهد إلى الناس فعهد إليهم وأوصى وجعل الخلافة إلى أهل الشورى فقبل الصحابة عهده وأجمعوا على قبول وصاياه لما كان حكم الحياة باقياً كان الثاني مفوتاً لها فكان هو القاتل كما لو قتل عليلاً لا يرجى برء علته (مسألة) (فإن رماه من شاهق فتلقاه آخر بسيف فقده فالقصاص على الثاني) لأنه فوت حياته قبل المصير إلى حياة ييئس فيها من حياته فأشبه ما لو رماه إنسان بسهم قاتل فقطع آخر عنقه قبل وقوع السهم به أو القى عليه صخرة فأطار آخر رأسه بالسيف قبل وقوعها عليه وبهذا قال الشافعي إن رماه من مكان يجوز أن يسلم منه وإن رماه من شاهق لا يسلم منه الواقع ففيه وجهان (أحدهما) كقولنا (والثاني) الضمان عليهما بالقصاص والدية عند سقوطه لأن كل واحد منهما سبب للإتلاف ولنا أن الرمي سبب والقتل مباشرة فانقطع حكم السبب كالدافع مع الحافر والجارح مع الذابح وكالصور التي ذكرناها وما ذكروه باطل بالأصول المذكورة (مسألة) (وإن ألقاه في لجة فالتقمه الحوت فالقود على الرامي في أحد الوجهين) إذا كانت اللجة لا يمكنه التخلص منها فالقود على الرامي لأنه ألقاه في مهلكة هلك بها من غير

(9/339)


واسطة يمكن إحالة الحكم عليها أشبه ما لو مات بالغرق أو هلك بوقوعه على صخرة (والثاني) لا قود عليه لأنه لم يهلك بها أشبه ما لو قتله آدمي آخر، فأما إن ألقاه في ماء يسير فأكله سبع أو التقمه حوت أو تمساح فلا قود عليه لأن الذي فعله لا يقتل غالباً وعليه ضمانه لأنه هلك بفعله (مسألة) (وإن أكره إنساناً على القتل فقتل فالقصاص عليهما) وقال أبو حنيفة يجب القصاص على الآمر دون المأمور لأن المأمور صار بالإكراه بمنزلة الآلة والقصاص إنما يجب على مستعمل الآلة لا على الآلة، وقال أبو يوسف لا يجب على واحد منهما لأن الآمر غير مباشر إنما هو متسبب والقصاص لا يجب على المتسبب مع المباشر دليله الدافع مع الحافر
والمأمور مسلوب الاختيار، وقال زفر يجب على المأمور ولا يجب على الآمر لأن المأمور مباشر فيجب عليه وحده كالدافع مع الحافر ولنا على أبي حنيفة أن المأمور قاتل فوجب عليه القصاص كما لو لم يأمر، والدليل على أنه قاتل أنه ضرب بالسيف ولأن القتل جرح أو فعل يتعقبه الزهوق وهذا كذلك ولأنه يأثم إثم القاتل قولهم إنه بمنزلة الآلة لا يصح فإنه يأثم والآلة لا تأثم قولهم إنه مسلوب الاختيار لا يصح فإنه قصد استبقاء نفسه بقتل هذا، وهذا يدل على قصده واختيار نفسه ولا خلاف في أنه يأثم ولو سلم الاختيار لم يأثم كالمجنون، والدليل على أن الآمر قاتل أنه تسبب الى قتله بما

(9/340)


يفضي إليه غالباً فوجب عليه القصاص كما لو أنهشه حية أو أسداً أو رماه بسهم ولأنه ألجأه إلى الهلاك أشبه ما لو ألقاه عليه.
(مسألة) (وإن أمر من لا يميز أو مجنوناً أو عبده الذي لا يعلم أن القتل محرم فالقصاص على الآمر) إذا امر عبده بقتل رجل وكان العبد ممن لا يعلم تحريم القتل كمن نشأ في غير بلاد الإسلام وجب القصاص على الآمر، فأما إن أقام في بلاد الإسلام بين أهله فلا يخفى عليه تحريم القتل ولا يعذر في فعله، ومتى كان عالماً بذلك فالقصاص على العبد، ويؤدب سيده لامر بما أفضى إلى القتل بما يراه الإمام من الحبس والتعزير وإذا لم يكن عالماً أدب العبد، نقل أبو طالب عن أحمد قال: يقتل المولى ويحبس العبد حتى يموت لأن العبد سوط المولى وسيفه، كذا قال علي وابو هريرة قال علي رضي الله عنه يستودع السجن، وممن قال بهذه الجملة الشافعي وممن قال أن السيد يقتل علي وابو هريرة وقال قتادة يقتلان جميعاً وقال سليمان بن موسى لا يقتل الآمر ولكن يديه ويعاقب ويحبس لأنه لم يباشر القتل ولا ألجأ له اليه فلم يجب عليه القصاص كما لو علم العبد خطر القتل ولنا أن العبد إذا لم يكن عالماً بخطر القتل فهو معتقد إباحته وذلك شبهة تمنع القصاص كما لو اعتقده صيداً فرماه فقتل إنساناً ولأن حكمة القصاص الزجر والردع ولا يحصل ذلك في معتقد الإباحة وإذا لم يجب عليه وجب على السيد لأنه آلة لا يمكن ايجاب القصاص عليه فوجب على المتسبب به كما لو أنهشه

(9/341)


حية فقتلته أو ألقاه في زبية أسد فأكله، ويفارق هذا ما إذا علم خطر القتل فالقصاص على العبد لامكان إيجابه عليه وهو مباشر له فانقطع حكم الآمر كالدافع مع الحافر، ولو أمر صبياً لا يميز أو مجنوناً أو أعجمياً لا يعلم خطر القتل فقتل فالحكم فيه كالحكم في العبد يقتل الأمر دون المباشر، فأما إن أمره بزنا أو سرقة ففعل لم يجب الحد على الآمر لأن الحد لا يجب إلا على المباشر والقصاص يجب بالتسبب ولذلك وجب على المكره والشهود في القصاص (مسألة) (وإن أمر كبيراً عاقلاً عالماً بتحريم القتل به فقتل فالقصاص على القاتل) لا نعلم فيه خلافاً لأنه قاتل ظلماً فوجب عليه القصاص كما لو لم يؤمر (مسألة) (وإن أمر السلطان بقتل إنسان بغير حق من يعلم ذلك فالقصاص على القاتل وإن لم يعلم فعلى الآمر) إذا كان المأمور يعلم أن المأمور بقتله لا يستحق القتل فالقصاص عليه لأنه غير معذور في فعله فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال " من أمركم من الولاة بمعصية الله فلا تطيعوه " فلزم القصاص كما لو أمره غير السلطان وإن لم يعلم ذلك فالقصاص على الآمر دون المأمور لأن المأمور معذور لوجوب طاعة الإمام في غير المعصية، والظاهر أنه لا يأمر إلا بالحق وإن كان الآمر غير السلطان فالقصاص على القاتل بكل حال علم أو لم يعلم لأنه لا يلزمه

(9/342)


طاعته وليس له القتل بحال بخلاف السلطان فإن إليه القتل في الردة والزنا وقطع الطريق إذا قتل القاطع ويستوفي القصاص للناس وهذا ليس اليه شئ من ذلك (فصل) إذا أكرهه السلطان على قتل أحد أو جلده بغير حق فمات فالقصاص عليهما وقد ذكرناه وإن وجبت الدية كانت عليهما فإن كان الإمام يعتقد جواز القتل دون المأمور كمسلم قتل ذمياً أو حر قتل عبداً فقتله فقال القاضي الضمان عليه دون الإمام لأن الإمام أمره بما أدى اجتهاده إليه والمأمور يعتقد تحريمه فلم يكن له أن يقبل أمره فإذا قبله لزمه الضمان لأنه قتل من لا يحل له قتله.
قال شيخنا
وينبغي أن يفرق بين العامي والمجتهد فإن كان مجتهداً فالحكم فيه على ما ذكره القاضي وإن كان مقلداً فلا ضمان عليه لأن له تقليد الإمام فيما رآه وإن كان الإمام يعتقد تحريمه والقاتل يعتقد حله فالضمان على الآمر كما لو أمر السيد عبده الذي لا يعتقد تحريم القتل به (مسألة) (وإن أمسك إنساناً لآخر فقتله قتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت في إحدى الروايتين) أما وجوب القصاص على القاتل فلا خلاف فيه لأنه قتل من يكافئه عمداً بغير حق وأما الممسك فإن لم يعلم أن القاتل بقتله فلا شئ لأنه متسبب والقاتل مباشر فيسقط حكم المتسبب، وإن أمسكه له ليقتله مثل أن أمسكه حتى ذبحه فاختلفت الرواية فيه عن احمد فروي عنه أنه يحبس حتى يموت وهذا قول عطاء وربيعة وروي ذلك عن

(9/343)


علي وروى عن أحمد أنه يقتل أيضاً وهو قول مالك قال سليمان بن موسى الاجتماع فينا أن يقتلا لأنه لو لم يمسكه ما قدر على قتله وبإمساكه تمكن من قتله فالقتل حاصل بفعلهما فيكونان شريكين فيه فيجب عليهما القصاص كما لو جرحاه، وقال أبو حنيفة والشافعي وابو ثور وابن المنذر يعاقب ويأثم ولا يقتل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله " والممسك غير قاتل ولان لامساك سبب غير ملجئ فإذا اجتمعت معه المباشرة كان الضمان على المباشر كما لو لم يعلم الممسك أنه يقتله ولنا ما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أمسك الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك لأنه حبسه إلى الموت فيحبس الآخر إلى الموت كما لو حبسه عن الطعام والشراب حتى مات فإنا نفعل به ذلك حتى يموت.
(فصل) فإن اتبع رجلاً ليقتله فهرب منه فأدركه آخر فقطع رجله ثم أدركه الثاني فقتله فإن كان الأول حبسه بالقطع ليأتيه الثاني فعليه القصاص في القطع وحكمه في القصاص في النفس حكم الممسك لأنه حبسه على القتل، وإن لم يقصد حبسه فعليه القطع دون القاتل كالذي أمسكه غير عالم وفيه وجه آخر ليس عليه إلا القطع بكل حال، والأول أصح لأنه الحابس له بفعله فأشبه الحابس بإمساكه، فإن قيل فلم أعتبرتم قصد لا مسك ههنا وأنتم لا تعتبرون إرادة القتل في الجارح قلنا إذا مات من الجرح فقد مات

(9/344)


من سرايته وأثره فيعتبر قصد الجرح الذي هو السبب دون قصد الأثر وفي مسئلتنا إنما كان موته بأمر غير السراية والفعل ممكن له فاعتبر قصده لذلك الفعل كما لو أمسكه.
(مسألة) (وإن كتفه وطرحه في أرض مسبعة أو ذات حيات فقتلته فحكمه حكم الممسك) ذكره القاضي وقد مضى الكلام فيه قال شيخنا والصحيح أنه لا قصاص فيه لأنه مما لا يقتل غالباً وتجب فيه الدية لأنه فعل به فعلاً متعمداً لا يقتل غالبا لتلف به فهو شبه عمد وهكذا ذكره في كتابه الكافي (فصل) وإن اشترك في القتل اثنان لا يجب القصاص على أحدهما كالأب والأجنبي في قتل الولد والحر والعبد في قتل العبد والخاطئ والعامد ففي وجوب القصاص على الشريك روايتان أظهرهما وجوبه على شريك الأب والعبد وسقوطه عن شريك الخاطئ ظاهر المذهب وجوب القصاص على شريك الأب وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور وعن أحمد رواية أخرى لا قصاص على واحد منهما وهو قول أصحاب الرأي لأنه قتل تركب من موجب وغير موجب فلم يوجب كقتل العامد والخاطئ والصبي والبالغ والمجنون والعاقل ولنا أنه شارك في القتل العمد العدوان فيمن يقتل به لو انفرد بقتله فوجب عليه القصاص كشريك الأجنبي وقولهم إن فعل الأب غير موجب ممنوع فإنه يقتضي الإيجاب لكونه تمحض عمداً

(9/345)


عدوانا والجناية أعظم اثماً وأكبر جرماً ولذلك خصه الله تعالى بالنهي فقال (ولا تقتلوا أولادكم) ثم قال (إن قتلهم كان خطأ كبيرا) ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أعظم الذنب قال " أن تجعل لله ندا وهو خلقك ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " فجعله أعظم الذنوب بعد الشرك ولأنه قطع للرحم التي أمر الله بوصلها ووضع الإساءة موضع الإحسان فهو أولى بإيجاب العقوبة والزجر عنه وإنما امتنع الوجوب في حق الأب لمعنى مختص بالمحل لا لقصور في السبب الموجب فلا يمنع عمله في المحل الذي لا مانع فيه واما شريك الخاطئ ففيه روايتان (إحداهما) يجب القصاص فهو كمسئلتنا ومع التسليم فامتناع الوجوب فيه لقصور السبب عن الإيجاب فان فعل الخاطئ غير موجب للقصاص ولا صالح له والقتل منه ومن شريكه غير متمحض عمد الوقوع الخطأ في الفعل الذي حصل به زهرق الروح بخلاف مسئلتنا وكذلك
كل شريكين امتنع القصاص في حق أحدهما لمعنى فيه من غير قصور في السبب فهو في وجوب القصاص على شريكه كالأب وشريكه كالمسلم والذمي في قتل ذمي والحر والعبد في قتل العبد إذا كان القتل عدواناً فإن القصاص لا يجب على المسلم ولا على الحر ويجب على الذمي والعبد إذا قلنا بوجوبه على شريك الأب لان امتناع القصاص عن المسلم لاسلامه وعن الحر لحريته وانتفاء مكافأة المقتول له وهذا المعنى لا يتعدى إلى فعل شريكه فلم يسقط القصاص عنه وقد روي عن أبي عبد الله أنه سئل عن حر وعبد قتلاً عبداً عمداً قال أما الحر فلا يقتل بالعبد والعبد إن شاء سيده أسلمه وإلا فداه

(9/346)


بنصف قيمة العبد وظاهر هذا ان لا قصاص على العبد فيخرج مثل هذا في كل قتل شارك فيه من لا يجب عليه القصاص (فصل) فان اشترك في القتل صبي ومجنون وبالغ فالصحيح من المذهب أنه لا قصاص على البالغ وبهذا قال الحسن والاوزاعي واسحاق وأبو حنيفة وأصحابه وهو أحد قولي الشافعي وعن أحمد رواية أخرى أن القود يجب على البالغ العاقل حكاه ابن المنذر عن أحمد وحكي ذلك عن مالك وهو القول الثاني للشافعي وروي عن قتادة والزهري وحماد لأن القصاص عقوبة يجب عليه جزاء لفعله فمتى كان فعله عمداً وعدواناً وجب عليه القصاص ولا نظر إلى فعل شريكه بحال ولأنه شارك في القتل عمداً عدواناً فوجب عليه القصاص كشريك الأجنبي وذلك لأن الإنسان إنما يؤخذ بفعل نفسه لا بفعل غيره فعلى هذا يعتبر فعل الشريك منفرداً فمتى تمحض عمداً عدواناً وكان المقتول مكافئاً له وجب عليه القصاص وبنى الشافعي قوله على أن عمد الصبي والمجنون إذا تعمداه عمد لأنهما يقصدان القتل وإنما سقوط القصاص عنهما لمعنى فيهما وهو عدم التكليف فلم يقتض سقوطه عن شريكهما كالأبوة ولنا أنه شارك من لا إثم عليه في فعله فلم يلزمه قصاص كشريك الخاطئ ولأن الصبي والمجنون ليس لهما قصد صحيح ولهذا لا يصح إقرارهما فكان حكم فعلها حكم الخطأ ولهذا تحمله العاقلة فيكون الأولى عدم وجوب القصاص

(9/347)


(فصل) ولا يجب القصاص على شريك الخاطئ في قول أكثر أهل العلم وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي وعن أحمد أن عليه القصاص وحكي عن مالك لأنه شارك في القتل عمداً عدواناً فأشبه شريك العامد ولأن مؤاخذته بفعله وفعله عمد عدوان ولنا أنه قتل لم يتمحض عمداً فلم يجب به القصاص كشبه العمد وكما لو قتله واحد بجرحين عمداً وخطأ ولأن كل واحد من الشريكين مباشر ومتسبب فإذا كانا عابدين فكل واحد متسبب إلى فعل موجب للقصاص فقام فعل شريكه مقام فعله لتسببه إليه وههنا إذا أقمنا فعل الخاطئ مقام فعل العامد صار كأنه قتله بعمد وخطأ وهذا غير موجب والله أعلم (مسألة) (وفي شريك السبع وشريك نفسه وجهان) وصورة ذلك أن يجرحه أسد أو نمر أو جرحه إنسان ثم جرح هو نفسه متعمداً فهل يجب على شريكه؟ قصاص فيه وجهان ذكرهما أبو عبد الله بن حامد واختلف فيه عن الشافعي وقال أصحاب الرأي لا قصاص عليه لأنه شارك من لا قصاص عليه فلم يلزمه القصاص كشريك الخاطئ ولأنه قتل تركب من يوجب وغير موجب فلم يوجب كالقتل الحاصل من عمد وخطأ ولأنه إذا لم يجب على شريك الخاطئ وفعله مضمون فلأن لا يجب على شريك من لا يضمن فعله أولى (والوجه الثاني) عليه القصاص وهو قول أبي بكر، وروى عن أحمد أنه قال إذا جرحه رجل ثم جرح الرجل نفسه فمات فعلى شريكه

(9/348)


القصاص لأنه قتل عمد متمحض فوجب القصاص على الشريك فيه كشريك الأب فأما إن جرح الرجل نفسه خطأ منه كأن أراد ضرب غيره فأصاب نفسه فلا قصاص على شريكه في أصح الوجهين وفيه وجه آخر أن عليه القصاص بناء على الروايتين في شريك الخاطئ (مسألة) (ولو جرحه إنسان عمداً فداوى جرحه بسم أو خاطه في اللحم أو فعل ذلك وليه أو الإمام فمات ففي وجوب القصاص على الجارح وجهان) إذا جرحه إنسان فتداوى بسم وكان سم ساعة يقتل في الحال فقد قتل نفسه وقطع سراية الجرح وجرى مجرى من ذبح نفسه بعد أن جرح وينظر في الجرح فإن كان موجباً للقصاص فلوليه استيفاؤه وإن لم
يكن موجباً فلوليه الأرش وإن كان السم لا يقتل غالباً وقد يقتل ففعل الرجل في نفسه عمد خطأ والحكم في شريكه كالحكم في شريك الخاطئ وإذا لم يجب القصاص فعلى الجارح نصف الدية وإذا كان السم يقتل غالباً بعد مدة احتمل أن يكون عمد الخطأ أيضاً لأنه لم يقصد القتل إنما قصد التداوي فيكون كالذي قبله واحتمل أن يكون في حكم العمد فيكون في شريكه الوجهان المذكوران في المسألة قبلها وإن جرح رجلاً فخاط جرحه أو أمر غيره فخاطه له وكان ذلك مما يجوز أن يقتل فحكمه حكم ما لو شرب سماً يجوز أن يقتل على ما مضى فيه، وإن خاطه غيره بغير إذنه كرهاً فهما قاتلان عليهما القود وإن خاطه وليه والإمام وهو ممن لا ولاية عليه فهما كالأجنبي وإن كان لهما عليه ولاية فلا قود عليهما، لأن فعلهما جائز إذ لهما مداوته فيكون ذلك خطأ وهل على الجارح القود؟ فيه وجهان

(9/349)


باب شروط القصاص وهي أربعة (أحدهما) أن يكون الجاني مكلفاً فأما الصبي والمجنون فلا قصاص عليهما، لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا قصاص على صبي ولا مجنون وكذلك كل زائل العقل بسبب يعذر فيه كالنائم والمغمى عليه ونحوها لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق " ولأن القصاص عقوبة مغلظة فلم تجب على الصبي وزائل العقل كالحدود ولأنهم ليس لهم قصد صحيح فهم كالعقل خطأ (فصل) فان اختلف الجاني وولي الجناية فقال الجاني كنت صبياً حال الجناية، وقال ولي الجناية كنت بالغاً فالقول قول الجاني مع يمينه إذا احتمل الصدق، لأن الاصل الصغر وبراءة ذمته من القصاص وإن قال قتلته وأما مجنون وأنكر الولي جنونه فإن عرف له حال جنون فالقول قوله مع يمينه أيضاً لذلك، وإن لم يعرف له حال جنون فالقول قول الولي لأن الأصل السلامة وكذلك إن عرف له حال جنون ثم عرف زواله قبل القتل وإن ثبت لأحدهما بما ادعاه بينة حكم له وإن أقاما بينتين تعارضتا فإن شهدت البينة أنه كان زائل العقل فقال الولي كنت سكران وقال القاتل كنت مجنوناً فالقول قول القاتل مع يمينه لأنه أعرف بنفسه، ولأن الأصل براءة ذمته واجتناب المسلم فعل ما يحرم عليه فأما إن قتله وهو عاقل ثم جن لم

(9/350)


يسقط عنه سواء ثبت ذلك ببينة أو إقرار، لأن رجوعه غير مقبول ويقتص منه في حال جنونه ولو ثبت عليه الحد بإقراره ثم جن لم يقم عليه حال جنونه لأن رجوعه يقبل فيحتمل أنه لو كان صحيحاً رجع (مسألة) (وفي السكران وشبهه روايتان (أصحهما) وجوبه عليه) إذا قتل السكران وجب عليه القصاص، ذكره القاضي وذكر أبو الخطاب أن وجوب القصاص عليه مبني على طلاقه وفيه روايتان فيكون في وجوب القصاص عليه وجهان (أحدهما) لا يجب عليه لأنه زائل العقل أشبه المجنون ولأنه غير مكلف فأشبه الصبي.
ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم أقاموا سكره مقام قذفه فأجبوا عليه حد القاذف فلولا أن قذفه موجب للحد عليه لما وجب الحد بمظنته واذا وجب الحد فالقصاص المتمحض حق آدمي أولى ولأنه حكم لو لم يوجب عليه القصاص والحد لأفضى إلى أن من أراد أن يعصي الله تعالى شرب ما يسكره ثم يقتل ويزني ويسرق ولا يلزمه عقوبة ولا مأثم ويصير عصيانه سبباً لسقوط عقوبة الدنيا والآخرة عنه ولا وجه لهذا وفارق الطلاق لأنه قول يمكن الغاؤه بخلاف القتل فإن شرب أو أكل ما يزيل عقله غير الخمر على وجه محرم فإن زال عقله بالكلية بحيث صار مجنوناً فلا قصاص عليه وإن كان يزول قريباً ويعود من غير تداو فهو كالسكران على ما فصل فيه (فصل) (الثاني) أن يكون المقتول معصوماً فلا يجب القصاص بقتل حربي لا نعلم فيه خلافاً ولا

(9/351)


يجب بقتله دية ولا كفارة لأنه مباح الدم على الإطلاق أشبه الخنزير، ولأن الله تعالى أمر بقتله فقال تعالى (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وسواء كان القاتل مسلماً أو ذمياً لما ذكرنا وكذلك المرتد لا يجب بقتله قصاص ولا دية ولا كفارة وإن قتله ذمي، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم يجب القصاص على الذمي بقتله والدية إذا عفي عنه لأنه لا ولاية له في قتله، وقال بعضهم يجب القصاص دون الدية لأنه لا قيمة له.
ولنا أنه مباح الدم أشبه الحربي ولأن من لا يضمنه المسلم لا يضمنه الذمي كالحربي وليس على
قاتل الزاني المحض قصاص ولا دية ولا كفارة، وهذا ظاهر مذهب الشافعي وحكى بعضهم وجهاً أن على قاتله القود ان قتله إلى الأمام فيجب القتل على من قتله سواه كمن عليه القصاص إذا قتله غير مستحقه ولنا أنه مباح الدم قتله متحتم فلم يضمن كالحربي وببطل ما قاله بالمرتد وفارق القاتل فإن قتله غير متحتم وهو مستحق على طريق المعاوضة فاختص بمستحقه وههنا يجب قتله لله تعالى فأشبه المرتد وكذلك الحكم في المحارب الذي تحتم قتله (مسألة) (وإن قطع مسلم أو ذمي يد مرتد أو حربي فأسلم ثم مات فلا شئ على القاطع لأنه لم يجن على معصوم وإن رمى حربياً فأسلم قبل، أن يقع السهم فلا شئ عليه لأنه رمى رميا مأمورا به

(9/352)


وإن رمى مرتداً فأسلم قبل وقوع السهم به فلا قصاص لأنه رمى من ليس بمعصوم أشبه الحربي وفي وجوب الدية وجهان) (أحدهما) لا تجب قياساً على الحربي (والثاني) تجب لأن الذمي ههنا محرم لما فيه من الافتيات على الإمام.
(مسألة) (ولو قطع يد مسلم فارتد ثم مات فلا شئ على القاطع في أحد الوجهين) لأنها نفس مرتد غير معصوم ولا مضمون وكذلك لو قطع يد ذمي فصار حربياً ثم مات من جراحه وأما اليد فالصحيح أنه لا قصاص فيها، وذكر القاضي وجها في وجوب القصاص فيها، لأن القطع مستقر حكمه بانقطاع حكم سرايته فأشبه ما لو قطع طرفه ثم قتله أو جاء آخر فقتله وللشافعي في وجوب القصاص قولان.
ولنا أنه قطع صار قتلاً لم يجب به القتل فلم يجب به القطع كما لو قطع من غير مفصل، وفارق ما قاسوا عليه فإن القطع لم يصر قتلاً وهل تجب دية الطرف؟ فيه وجهان (أحدهما) لا ضمان فيه لانه قتل لغير معصوم (والثاني) يجب لأن سقوط حكم سراية الجرح لا يسقط ضمانة كما لو قطع طرف رجل ثم قتله آخر، فعلى هذا هل يجب ضمانه بدية المقطوع أو بأقل الأمرين من ديته أو دية النفس فيه وجهان

(9/353)


(أحدهما) تجب دية المقطوع فلو قطع يديه ورجليه ثم ارتد ومات ففيه ديتان، لأن الردة قطعت
حكم السراية فأشبه انقطاع حكمها باندمالها أو بقتل الآخر له (والثاني) يجب أقل الأمرين لأنه لو لم يرتد، لم يجب أكثر من دية النفس فمع الردة أولى ولانه قطع صار قتلاً فلا يوجب أكثر من دية كما لو لم يرتد وفارق الوجه الأول فإنه لم يصر قتلاً، ولأن الاندمال والقتل منع وجود السراية والردة منعت ضمانها ولم يمنع جعلها قتلا وللشافعي من التفصيل نحو ما قلنا (مسألة) (وإن عاد إلى الإسلام ثم مات وجب القصاص على قاتله) نص عليه أحمد في رواية محمد بن الحكم وقال القاضي يتوجه عندي أن زمن الردة إن كان مما تسري فيه الجناية لم يجب القصاص في النفس: وهل يجب في الطرف الذي قطع في إسلامه؟ على وجهين وهذا مذهب الشافعي لأن القصاص يجب بالجناية والسراية كلها فإذا لم يوجد جميعها في الإسلام لم يجب القصاص كما لو جرحه أحدهما في الإسلام والآخر في الردة فمات منهما ولنا أنه مسلم حال الجناية والموت فوجب القصاص بقتله كما لو لم يرتد واحتمال السراية حال الردة لا يمنع لأنها غير معلومة فلا يجوز ترك السبب المعلوم احتمال المانع كما لو لم يرتد فإنه يحتمل أن يموت بمرض أو سبب آخر أو بالجرح مع شئ آخر يؤثر في الموت، فأما الدية فتجب كاملة ويحتمل وجوب نصفها لأنه مات من جرح مضمون وسراية غير مضمونة فيوجب نصف الدية كما لو جرحه إنسان

(9/354)


وجرح نفسه فمات منهما، فأما إن كان زمن الردة لا تسري في مثله الجناية ففيه الدية والقصاص وقال الشافعي في أحد قوليه لا قصاص فيه لأنه انتهى إلى حال لو مات لم يجب القصاص ولنا أنهما متكافئان في حال الجناية والسراية والموت فأشبه ما لو لم يرتد، وإن كان الجرح خطأ وجبت الكفارة بكل حال لأنه فوت نفساً معصومة (فصل) وإن جرحه وهو مسلم فارتد ثم جرحه جرحاً آخر ثم اسلم ومات منهما فلا قصاص فيه لأنه مات من جرحين مضمون وغير مضمون ويجب فيه نصف الدية لذلك، وسواء تساوى الجرحان أو زاد أحدهما مثل ان قطع يديه وهو مسلم فارتد فقطع رجله أو كان بالعكس لأن الجرح في الحالين كجرح رجلين، وهل يجب القصاص في الطرف الذي قطعه في حال إسلامه؟ يحتمل وجهين بناء على من قطع طرفه
وهو مسلم فارتد ومات في ردته، ولو قطع طرفه في ردته أولاً فأسلم ثم قطع طرفه الآخر ومات منهما فالحكم فيها كالتي قبلها (فصل) وإن قطع مسلم يد نصراني فتمجس وقلنا لا يقر فهو كما لو جنى على مسلم فارتد وإن قلنا يقر عليه وجبت دية مجوسي وإن قطع يد مجوسي فتنصر ثم مات وقلنا يقر وجبت دية نصراني، ويجئ على قول أبي بكر والقاضي أن تجب دية نصراني في الأولى ودية مجوسي في الثانية كقولهم فيمن جنى على عبد ذمي فأسلم وعتق ثم مات من الجناية ضمة بقيمة عبد ذمي اعتباراً بحال الجناية وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى

(9/355)


(فصل) الثالث أن يكون عليه مكافئاً للجاني وهو أن يساويه في الدين والحرية أو الرق فيقتل الحر المسلم بالحر المسلم ذكراً كان أو أنثى لقول الله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد) (مسألة) (ويقتل العبد المسلم بالعبد المسلم تساوت قيمتهما أو اختلفت) هذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وسالم والنخعي والشعبي والزهري وقتادة والثوري ومالك والشافعي وأبي حنيفة وعن أحمد رواية أخرى أن من شرط القصاص تساوي قيمتهم وإن اختلفت قيمتهم لم يجر بينهم قصاص، وينبغي أن يختص هذا بما إذا كانت قيمة القاتل أكثر فان كانت أقل فلا وهذا قول عطاء وقال ابن عباس ليس في العبيد قصاص في نفس ولا جرح لأنهم أموال ولنا قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد) وهذا نص الكتاب فلا يجوز خلافه ولأن تفاوت القيمة كتفاوت الدية والفضائل فلا يمنع القصاص كالعلم والشرف والذكورية والأنوثية (فصل) ويجري القصاص بينهم فيما دون النفس به قال عمر بن عبد العزيز وسالم والزهري وقتادة ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وعن أحمد رواية أخرى لا يجري القصاص بينهم فيما دون النفس وهو قول الشعبي والنخعي والثوري وأبي حنيفة لان الاطرف مال فلا يجري القصاص فيها كالبهائم ولأن التساوي في الأطراف معتبر في جريان القصاص بدليل أنه لا يأخذ الصحيحة بالشلاء
ولا كاملة الأصابع بالناقصة وأطراف العبيد لا تتساوى

(9/356)


ولنا قول الله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين) الآية ولأنه أحد أنواع القصاص فجرى بين العبيد كالقصاص في النفس (فصل) واذا وجب القصاص في طرف العبيد فللعبد استيفاؤه والعفو عنه دون السيد (فصل) ويقتل البعد القن بالمكاتب والمكاتب به ويقتل كل واحد منهما بالمدبر وأم الولد ويقتل المدبر وأم الولد بكل واحد منهم لأن الكل عبيد فيدخلون في قوله تعالى (والعبد بالعبد) وقد دل على كون المكاتب عبداً قول النبي صلى الله عليه وسلم " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم " وسواء كان قد أدى من كتابته شيئاً أو لم يؤد وسواء ملك ما يؤدي أو لم يملك إلا إذا قلنا إنه إذا ملك ما يؤدي صار حراً فلا يقتل بالعبد لأن الحر لا يقتل بالعبد وإن أدى ثلاثة أرباع الكتابة لم يقتل أيضاً أذا قلنا إنه يصيرا حراً ومن لم يحكم بحريته إلا بأداء جميع الكتابة قال يقتل به، وقال أبو حنيفة اذا قتل العبد مكاتب له وفا ووارث سوى مولاه لم يقتل به لأنه حين الجرح كان المستحق المولى وحين الموت الوارث ولا يجب القصاص إلا لمن يثبت حقه في الطرفين ولنا قوله تعالى (النفس بالنفس) وقوله (العبد بالعبد) ولأنه لو كان قتل لوجب بقاء القصاص فإذا كان مكاتباً كان أولى كما لو لم يخلف وارثاً وما ذكروه فشئ بنوه على أصولهم ولا نسلمه (فصل) إذا قتل الكافر الحر عبداً مسلماً لم يقتل لأن الحر لا يقتل بالعبد لعدم التكافؤ ولأنه

(9/357)


لا يحد بقذفه فلا يقتل به كالأب مع الابن وعليه قيمته ويقتل لنقض العهد إن قلنا ينتقض عهده وفيه روايتان ذكرناهما في موضع ذلك وعلى الرواية الأخرى لا يقتل وعليه قيمته ويؤدب بما يراه الإمام أو نائبه (فصل) وان قتل عبد مسلم حراً كافراً لم يقتل به لأن المسلم لا يقتل بالكافر وان قتل من نصفه حر عبداً لم يقتل به لانا لا يقتل نصف الحر بعبد وإن قتله حر لم يقتل به لأن النصف الرقيق لا يقتل به الحر وان قتل من نصفه حر مثله قتل به لأن القصاص يقع بين الجمعتين من غير تفصيل وهما متساويان (مسألة) ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر)
هذا قول عامة أهل العلم أنهم النخعي والشعبي والزهري وعمر بن عبد العزيز ومالك وأهل المدينة والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي وغيرهم وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال يقتل الرجل بالمرأة ويعطى أولياؤه نصف الدية رواه سعيد وروي نحوه عن أحمد وحكي ذلك عن الحسن وعطاء وحكي عنهما مثل قوله الجماعة ولعل من ذهب إلى القول الثاني يحتج بقول علي ولنا قول الله تعالى (النفس بالنفس) وقوله (الحر بالحر) مع عموم سائر النصوص وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يهودياً رض رأس جارية من الانصار وروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن وأن الرجل يقتل بالمرأة وهو كتاب مشهور عند أهل العلم متلقى بالقبول عندهم، ولأنهما شخصان يحد كل واحد منهما بقذف صاحبه فقتل كل واحد منهما بالآخر كالرجلين ولا يجب مع القصاص شئ لأنه قصاص

(9/358)


واجب فلم يجب معه شئ على المقنص كسائر القصاص واختلاف الأبدال لا عبرة به في القصاص بدليل أن الجماعة يقتلون بالواحد والنصراني مؤخذ بالمجوسي مع اختلاف دينهما ويؤخذ العبد بالعبد مع اخلاف قيمتهما وقتل كل واحد من الرجل والمرأة بالخنثى ويقتل بهما لأنه لا يخلو إما أن يكون رجلاً أو امرأة (مسألة) (وعن أحمد لا يقتل العبد بالعبد لا أن تستوي قيمتهما، ولا عمل عليه وقد ذكرناه) (مسألة) (ويقتل الكافر بالمسلم) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل اليهودي الذي رض رأس جارية من الأنصار على ارضاح لها ولأنه إذا قتل بمثل فيمن هو فوفه أولى وكذلك يقتل العبد بالحره المرتد بالذمي وإن عاد إلى لاسلام نص عليه لذلك (فصل) ويقتل المرتد بالذمي ويقدم القصاص على القتل بالردة لأنه حق آدمي وإن عفا عنه لي القصاص فله دية المقتول فإن أسلم المرتد فهو في ذمته وإن قتل بالردة أو مات تعلقت بماله وإن قطع طرفاً من مسلم أو ذمي فعليه القصاص فيه أيضاً وقال بعض أصحاب الشافعي لا يقتل المرتد بالذمي ولا يقطع طرفه بطرفه لأن أحكام الاسلام في حقه باقية بدليل وجوب العبادات عليه ومطالبته بالإسلام

(9/359)


ولنا أنه كافر فيقتل بالذمي الأصلي وقولهم أن أحكام باقية غير صحيح فإنه قد زالت عصمته وحرمته وحل نكاح المسلمات وشراء العبيد المسلمين وصحة العبادات وغيرهما، وأما مطالبته بالإسلام فهو حجة عليهم لأنه يدل على تغليظ كفره وأنه لا يقر على ردته لسوء حاله فإذا قال بالذمي مثله فمن هو دونه أولى ولا يمنع إسلامه وجوب القصاص عليه لأنه بعد استقرار وجوب القصاص عليه والأصل في كل واجب بقاؤه فأشبه ما لو قتله وهو عاقل ثم جن (مسألة) (ولا يقتل مسلم بكافر أي كافر كان) هذا قول أكثر أهل العلم وروى ذلك عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت ومعاوية رضي الله عنهم وبه قال عمر بن عبد العزيز وعطاء والحسن وعكرمة والزهري وابن شبرمة ومالك والثوري والاوزاعي والشافعي واسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر، وقال النخعي والشعبي وأصحاب الراي يقتل المسلم بالذمي خاصة قال أحمد الشعبي والنخعي قالا: دية المجوسي والنصراني مثل دية المسلم وإن قتله يقتل به سبحان الله هذا عجب يصير المجوسي مثل المسلم ما هذا القول؟ واستبشعه وقال: النبي صلى الله عليه وسلم يقول " لا يقتل مسلم بكافر " وهو يقول يقتل بكافر فاي شئ أشد من هذا؟ واحتجوا بالعمومات التي ذكرناها لقول تعالى (النفس بالنفس) وقوله (الحر بالحر) وبما روى ابن البيلماني أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد مسلماً بذمي وقال " أنا أحق من وفى بذمته " ولأنه معصوم عصمة مؤبدة فيقتل به قاتله كالمسلم

(9/360)


ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " المسلمون متكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم لا يقتل مؤمن بكافر " رواه أحمد وابو داود وفي لفظ " لا يقتل مسلم بكافر " رواه البخاري وأبو داود وعن علي أنه قال من السنة أن لا يقتل مؤمن بكافر رواه الإمام أحمد ولانه منقوص بالكفر فلا يقتل به المسلم كالمستأمن والعمومات مخصوصات بحديثنا وحديثهم ليس له إسناد قاله أحمد وقال الدارقطني: يرويه ابن البيلماني وهو ضعيف إذا أسند فكيف إذا ارسل؟ والمعنى في المسلم أنه مكافئ للمسلم بخلاف الذمي ووافق أبو حنيفة الجماعة في المستأمن أن المسلم لا يقاد به وهو المشهور عن أبي يوسف وعنه يقتل به لما سبق في الذمي
ولنا أنه ليس بمحقون الدم على التأبيد فأشبه الحربي مع ما ذكرنا من الأدلة في الأدلة التي قبلها (فصل) ويقتل الذمي بالذمي سواء اتفقت أديانهم أو اختلفت فيقتل النصراني باليهودي والمجوسي نص عليه أحمد في النصراني يقتل بالمجوسي إذا قتله قتل فكيف يقتل به وأديانهما مختلفة؟ قال أذهب الى أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجل بامرأة يعني أنه قتله بها مع اختلاف دينهما ولأنهما تكافآ في العصمة بالذمة ونقيصه الكفر فجرى مجرى القصاص بينهما كما لو تساوى دينهما وهذا مذهب الشافعي (مسألة) (ولا يقتل حر بعبد) روي هذا عن ابي بكر وعمر وعلي وزيد وابن الزبير رضي الله عنهم وبه قال الحسن وعطاء وعمر بن عبد العزيز وعكرمة وعمر وبن دينار ومالك والشافعي اسحاق وأبو ثور وروي ذلك عن الشعبي وروي عن سعيد بن

(9/361)


المسيب والنخعي وقتادة والثوري وأصحاب الرأي أنه يقتل به لعموم الآيات والأخبار لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون تتكافأ دماؤهم " ولأنه آدمي معصوم أشبه الحر ولنا ما روى الإمام أحمد بإسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال من السنة أن لا يقتل حر بعبد وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يقتل حر بعبد " رواه الدارقطني ولأنه لا يقطع طرفه بطرفه مع التساوي في السلامة فلا يقتل به كالأب مع ابنه ولأن العبد منقوص بالرق فلم يقتل به كالمكاتب إذا ملك ما يؤدي والعمومات مخصوصة بهذا فنقيس عليه (مسألة) (إلا أن يجرجه وهو مثله أو يقتله ثم يسلم القاتل أو الجارح أو يعتق فيموت المجروح فإنه يقتل به) وجملة ذلك أن الاعتبار في التكافؤ بحالة الوجوب كالحد فعلى هذا إذا قتل ذمي ذمياً أو جرحه ثم أسلم الجارح ومات المجروح أو قتل عبد عبداً أو جرحه ثم عتق القاتل أو الجارح ومات المجروح وجب القصاص لأنهما متكافئان حال الجناية ولأن القصاص قد وجب فلا يسقط بما طرأ كما لو جن (فصل) ولا يقتل السيد بعبده في قول أكثر أهل العلم وحكي عن النخعي وداود أنه يقتل به لما روى قتادة عن الحسن عن سمرة قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قتل عبده قتلناه ومن جدعه
جدعناه " رواه سعيد والامام أحمد والترمذي وقال حديث حسن غريب مع العمومات والمعنى في التي قبلها

(9/362)


ولنا ما ذكرناه في التي قبلها وعن عمر رضي الله عنه أنه قال لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يقاد الملوك من مولاه والوالد من ولده لأقدته منك " رواه النسائي وعن علي رضي الله عنه أن رجلاً قتل عبده فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة ونفاه عاماً ومحي اسمه من المسلمين رواه سعيد والخلال قال أحمد ليس بشئ من قبل إسحاق بن أبي فروة وراه عمر وابن شعيب عن أبيه عن جده عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قالا " من قتل عبده جلد مائة وحرم سهمه مع المسلمين " فأما حديث سمرة فلم يثبت قال أحمد: الحسن لم يسمع من سمرة إنما هي صحيفة وقال غيره: إنما سمع الحسن من سمرة ثلاثة أحاديث ليس هذا منها ولأن الحسن أفتى بخلافه فإنه يقول لا يقتل الحر بالعبد وقال إذا قتل السيد عبده يضرب ومخالفته له تدل على ضعفه (فصل) ولا يقطع طرف الحر بطرف العبد بغير خلاف علمناه بينهم ويقتل العبد بالحر وسيده لأنه إذا قتل بمثله هو أكمل منه أولى مع عموم النصوص الواردة في ذلك ومتى وجب القصاص على العبد فعفا ولي الجناية إلى المال فله ذلك ويتعلق أرشها برقبته لأنه موجب جنايته فتعلق برقبته كالقصاص فإن شاء سيده إن يسلمه إلى ولي الجناية لم يلزمه أكثر من ذلك لأنه سلم إليه ما تعلق حقه به وإن قال ولي الجناية معه وادفع إلي ثمنه لم يلزمه ذلك لأنه لم يتعلق بذمته شئ وإنما يتعلق بالرقبة التي سلمها فبرئ منها وفيه وجه آخر أنه يلزمه ذلك كما لو يلزمه بيع الرهن، وإن امتنع من تسليمه

(9/363)


واختار فداءه فهل تلزمه قيمته أو أرش الجناية؟ على روايتين تذكران في غير هذا الموضع (مسألة) (وإن جرح مسلم كافراً فأسلم المجروح ثم مات مسلماً بسراية الجرح لم يقتل به قاتله لعدم التكافؤ حال الجناية وعليه دية مسلم لأن اعتبار الأرش بحال استقرار الجناية وهذا قول ابن حامد بدليل ما لو قطع يدي رجل ورجليه فسرى إلى نفسه ففيه دية واحدة ولو اعتبر حال الجناية وجب ديتان ولو قطع حر يد عبد ثم عتق مات لم يجب القود لعدم التكافؤ حال الجناية وعلى الجاني دية حر
اعتباراً بحال الاستقرار وهو قول ابن حامد كالمسألة قبلها ومذهب الشافعي وللسيد أقل الأمرين من نصف قيمته أو نصف دية حر والباقي لورثته لأن نصف قيمته إن كانت أقل فهي التي وجدت في ملكه فلا يكون له أكثر منها لأن الزائد حصل بحريته ولا حق له فيما حصل بها وإن كان الأقل الدية لم يستحق أكثر منها لأن نقص القيمة حصل بسبب من جهة السيد وهو العتق وذكر القاضي أن أحمد نص في رواية حنبل فيمن فقأ عيني عبد ثم عتق ومات أن على الجاني قيمته للسيد وهذا يدل على ان الاعتبار بحال الجناية وهو اختيار أبي بكر والقاضي وأبي الخطاب قال أبو الخطاب من قطع يد ذمي ثم اسلم ومات ضمنه بدية ذمي ولو قطع يد عبد فأعتقه سيده ومات فعلى الجاني قيمته للسيد لأن حكم القصاص معتبر بحال الجناية دن حال السراية

(9/364)


وكذلك الدية والأول أصح إن شاء الله تعالى قاله شيخنا لأن سراية الجرح مضمونة فإذا اتلفت حراً مسلماً وجب ضمانه بدية كاملة كما لو قتله بجرح ثان وقول أحمد فيمن فقأ عيني عبد عليه قيمته للسيد لا خلاف فيه وإنما الخلاف في وجوب الزائد على القيمة من دية الحر للورثة ولم يذكره أحمد ولأن الواجب مقدر بما تقضي إليه السراية دون ما تتلفه الجناية بدليل أن من قطعت يداه ورجلاه فسرى القطع إلى نفسه لم يلزم الجاني أكثر من دية ولو قطع أصبعاً فسرى إلى نفسه لوجبت الدية كاملة فكذلك إذا سرت إلى نفس حر مسلم تجب دية كاملة فأما إن قطع يد مرتد أو حربي فسرى ذلك الى نفسه لم يجب قصاص ولا دية ولا كفارة سوا أسلم قبل السراية أو لم يسلم لان الجراح غير مضمون فلم تضمن سرايته بخلاف التي قبلها (مسألة) (وإن رمى مسلم ذمياً عبداً فلم يقع السهم به حتى عتق وأسلم فلا قود وعليه دية حر مسلم إذا مات من الرمية) هذا قول ابن حامد ومذهب الشافعي وقال أبو بكر يجب القصاص لأنه قتل مكافئاً له عمداً عدواناً فوجب القصاص كما لو كان حراً مسلما كذلك حال الرمي يحقفه ان الاعتبار بحال الإصابة بدليل ما لو رمى فلم يصبه حتى ارتد أو مات لم يلزمه شئ، ولو رمى عبداً كافراً فعتق أو أسلم
غرمه بدية حر مسلم.

(9/365)


ولنا على درء القصاص أنه لم يقصد إلى نفس مكافئه فلم يجب عليه قصاص كما لو رمى حربياً أو مرتداً فأسلم وقال أبو حنيفة يلزمه في العبد دية عبد لمولاه لأن الإصابة ناشئة عن إرسال السهم فكان الاعتبار بها كحالة الجرح ولنا أن الاصابة حصلت في حر فكان ضمانه ضمان الأحرار كما لو قصد هدفاً أو طائراً فأصاب حراً ثم يبطل، بما إذا رمى حياً فأصابه ميتاً أو عبداً صحيحاً فأصابه بعد قطع يديه لم تجب ديته لورثته وعنده تجب لمولاه ولو رمى كافراً فأصابه السهم بعد أن أسلم كانت ديته لورثته المسلمين وعند أبي حنيفة لورثته الكفار ولنا أنه مات مسلماً حراً فكانت ديته للمسلمين كما لو كان حال الرمي فوجوب المال معتبر بحال الإصابة لأنه يدل على المحل فيعتبر عن المحل الذي فات بها فيجب بقدره وقد فات بها نفس مسلم حر والقصاص جزء الفعل فيعتبر الفعل فيه والإصابة معاً لأنهما طرفاه فلذلك لم يجب القصاص بقتله (فصل) ولو قطع يد عبد ثم عتق ومات أو يد ذمي ثم اسلم ومات ففيه وجهان (أحدهما) الواجب دية حر مسلم لورثته ولسيده منها أقل الأمرين من ديته أو أرش جنايته اعتباراً بحال استقرار الجناية وقال القاضي وأبو بكر تجب قيمة العبد بالغة ما بلغت مصروفة إلى السيد اعتباراً بحال الجناية لأنها الموجب للضمان فاعتبرت حال وجودها ومقتضى قولهما ضمان الذمي الذي أسلم بدية ذمي ويلزمها على هذا أن يصرفاها إلى ورثته من أهل الذمة وهو غير صحيح لأن الدية

(9/366)


لا تخلو من أن تكون مستحقة للمجني عليه أو لورثته فإن كانت له وجب أن تكون لورثته المسلمين كسائر أمواله وأملاكه كالذي كسبه بعد جرحه، وإن كانت تحدث على ملك ورثته فورثته هم المسلمون دون الكفار (فصل) وإن قطع ألف عبد قيمته ألف دينار فاندمل ثم أعتقه السيد وجبت قيمته بكمالها للسيد، وإن اعتقه ثم اندمل فكذلك لأنه إنما استقر بالاندمال ما وجب بالجناية والجناية كانت في ملك سيده
وإن مات من سراية الجرح فكذلك في قول أبي بكر والقاضي وهو قول المزني لأن الجناية يراعى فيها حال وجودها وذكر القاضي أن أحمد نص عليه في رواية حنبل فيمن فقأ عيني عبد ثم أعتق ومات ففيه قيمته لا الدية ومقتضى قول الخرقي أن الواجب فيه دية حر وهو مذهب الشافعي لأن اعتبار الجناية بحالة الاستقرار وقد ذكرناه (فصل) فإن قطع يد عبد فأعتق عاد فقطع رجله واندمل القطعان فلا قصاص في اليد لأنها قطعت في حال رقه ويجب فيها نصف قيمته أو ما نقصه العبد لسيده إذ فلما إن العبد يضمن بما نقصه ويجب القصاص في الرجل التي قطعها حال حريته أو نصف الدية إن عفا عن القصاص لورثته وإن اندمل قطع اليد وسرى قطع الرجل إلى نفسه ففي الولد نصف القيمة لسيده وعلى القاطع القصاص في النفس أو الدية كاملة لورثته وان اندمل لرجل وسرى قطع اليد ففي الرجل القصاص بقطعها أو نصف الدية لورثته ولا قصاص في اليد ولا في سرايتها وعلى الجاني دية حر لسيده منها قل لامرين من أرش القطع أو دية الحر على قول ابن حامد وعلى قول أبي بكر والقاضي تجب قيمة العبد لسيده

(9/367)


اعتباراً بحال جنايته وإن سرى الجرحان لم يجب القصاص في النفس ولا اليد لأنه مات من جرحين موجب وغير موجب فلم يجب القصاص كما لو جرحه جرحين خطأ وعمداً ولكن يجب القصاص في الرجل لأنه قطعها من حر فإن قتص منه وجب نصف الدية لأنه مات من جنايته وقد استوفي منه ما يقابل نصف الدية وللسيد أقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية فإن زاد نصف الدية على نصف القيمة كان الزائد للورثة وإن عفا ورثته عن القصاص فلهم أيضاً نصف الدية فإن كان قاطع الرجل غير قاطع اليد واندمل الجرحان فعلى قاطع اليد نصف القيمة لسيده وعلى قاطع الرجل القصاص فيها أو نصف الدية وإن سرى الجرحان إلى نفسه فلا قصاص على الأول لأنه قطع يد عبد وعليه نصف دية حر لأن المجني عليه حر في حال استقرار الجناية وعلى الثاني القصاص في النفس إذا كانا عمدا القطع لأنه شارك في القتل عمداً عدواناً فهو كشريك الأب ويتخرج أن لا قصاص عليه في النفس لأن الروح خرجت من سراية قطعين موجب وغير موجب بناء على شريك الأب وإن عفا
عنه إلى الدية فعليه نصف دية حر وإن قلنا بوجوب القصاص في النفس خرج في وجوبه في الطرف روايتان وإن قلنا لا يجب في النفس وجب في الرجل (فصل) وإن قطع عين عبد ثم عتق قطع آخر يده ثم قطع آخر رجله فلا قوه على الاول سواه اندمل جرحه أو سرى وأما الآخران فعليهما القصاص في الطرفين إن وقف قطعهما أو ديتهما

(9/368)


إن عفا عنهما، وإن سرت الجراحات كلها فعليهما القصاص في النفس لأن جنايتهما صارت أنفسا وفي ذلك وفي القصاص في الطرف اختلاف ذكرناه وإن عفا عنهما فعليمهما الدية أثلاثاً وفيما يستحقه السيد وجهان (أحدهما) أقل الأمرين من نصف القيمة أو ثلث الدية على قياس قول أبي بكر لأنه بالقطع استحق نصف القيمة فإذا صارت نفساً وجب فيها ثلث الدية فكان له أقل الأمرين (والثاني) له أقل الأمرين من ثلث القيمة أو ثلث الدية لأن الجناية إذا صارت نفساً كان الاعتبار بما آلت إليه ألا ترى أنه لو جنى الجانيان الآخران قبل العتق أيضاً لم يكن على الأول إلا ثلث القيمة ولا يزيد حقه بالعتق كما لو قلع رجل عينه ثم باعه سيده ثم قطع آخر يده وآخر رجله ثم مات فإنه يكون للأول ثلث القيمة وإن كان أرش الجناية نصف القيمة فإذا قلنا بالوجه الأول قطع أصبعه أو هشمه، أو الجانيان في الحرية قطعا يديه فالدية عليهم أثلاثاً للسيد منها أقل الأمرين من أرش الإصبع وهو عشر القيمة أو ثلث الدية، ولو كان الجاني في حال الرق قطع يديه والجانيان في الحرية قطعا رجليه وجبت الدية أثلاثاً وكان للسيد منها أقل الأمرين من جميع قيمته أو ثلث الدية وعلى الوجه الآخر يكون له في الفرعين أقل الأمرين من ثلث القيمة أو ثلث الدية (فصل) فإن كان الجانيان في حال الرق والواحد في حال الحرية فمات فعليهم الدية وللسيد من ذلك من أحد الوجهين أقل الأمرين من أرش الجنايتين أو ثلثي الدية وعلى الآخر أقل الأمرين من ثلثي القيمة أو ثلثي الدية.
(فصل) فإن كان الجناة أربعة واحد في الرق وثلاثة في الحرية ومات كان للسيد في أحد الوجهين

(9/369)


الأقل من أرش الجناية أو ربع الدية، وان كان الثلاثة في الرق والواحد في الحرية كان للسيد أقل الأمرين من أرش الجنايات أو ثلاثة أرباع الدية في أحد الوجهين وفي الآخر الأقل من ثلاثة أرباع القيمة أو ثلاثة أرباع الدية، ولو كانوا عشرة واحد في الرق وتسعة في الحرية فالدية عليهم فللسيد فيها بحساب ما ذكرنا على اختلاف الوجهين (فصل) وإن قطع يده ثم عتق فقطع آخر رجله ثم عاد الأول فقتله بعد الاندمال فعليه القصاص للورثة ونصف القيمة للسيد وعلى الآخر القصاص للورثة في الرجل أو نصف الدية فإن كان قبل الاندمال فعلى الجاني الأول القصاص في النفس دون اليد لأنه قطعها في رقه، فإن اختار الورثة القصاص في النفس سقط حق السيد لأنه لا يجوز أن يستحق عليه النفس وأرش الطرف قبل الاندمال فإن الطرف داخل في النفس في الأرش، فإن اختاروا العفو فعليه الدية دون أرش الطرف لأن أرش الطرف يدخل في النفس، وللسيد أقل الأمرين من نصف القيمة أو أرش الطرف والباقي للورثة، وأما الثاني فعليه القصاص في الرجل لأن القتل قطع سرايتها فصار كما لو اندملت، فإن عفا عنه فعليه نصف الدية وإن كان الثاني هو الذي قتله قبل الاندمال فعليه القصاص في النفس وهل يقطع طرفه؟ على روايتين فإن عفا الورثة فعليه دية واحدة وأما الأول فعليه نصف القيمة للسيد ولا قصاص عليه، وإن كان القاتل ثالثاً فقد استقر القطعان ويكون على الأول نصف القيمة لسيده وعلى الثاني القصاص في الرجل أو نصف الدية لورثته وعلى الثالث القصاص في النفس أو الدية (فصل) وإذا قطع رجل يد عبد ثم أعتقه ثم اندمل جرحه فلا قصاص عليه ولا ضمان لأنه انما

(9/370)


قطع يد عبده وإنما استقر بالاندمال ما وجب بالجراح، وإن مات بعد العتق بسراية الجرح فلا قصاص فيه لأن الجناية كانت على مملوكه، وفي وجوب الضمان وجهان (أحدهما) لا يجب شئ لأنه مات بسراية جرح غير مضمون أشبه ما لو مات بسراية القطع في الحد وسراية القود، ولأننا تبينا أن القطع كان قتلاً فيكون قاتلاً لعبده فلا يلزمه ضمانة كما لو يعتقه، وهذا مقتضى قول أبي بكر (والثاني) يضمنه بما زاد على ارش القطع من الدية لأنه مات وهو حر بسراية قطع عدوان فيضمن كما لو كان القاطع
أجنبياً لكن يسقط أرش القطع لأنه في ملكه ويجب الزائد لورثته فإن لم يكن وارث سواه وجب لبيت المال ولا يرث السيد شيئاً لأن القاتل لا يرث (مسألة) (ولو قتل من يعرفه ذمياً عبداً فبان أنه قد عتق وأسلم فعليه القصاص) لأنه قتل من يكافئه بغير حق أشبه ما لو علم حاله (مسألة) (وإن كان يعرفه مرتداً فكذلك عند أبي بكر) لما ذكرنا قال ويحتمل أن لا يلزمه إلا الدية لأنه لم يقصد قتل معصوم فلم يلزمه قصاص كما لو قتل في دار الحرب من يظنه حربياً فبان أنه بعد أن أسلم (فصل) (الرابع أن لا يكون اباً للمقتول فلا يقتل الوالد بولده وإن سفل والأب والأم في ذلك سواء) وجملة ذلك أن الأب لا يقتل بولده ولا بولد ولده وإن نزلت درجته وسواء في ذلك ولد البنين

(9/371)


وولد البنات، وممن نقل عنه أن الوالد لا يقتل بولده ولده عمر بن الخطاب وبه قال ربيعة والثوري والاوزاعي والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي، وقال ابن نافع وابن عبد الحكم وابن المنذر يقتل به لظاهر آي الكتاب والأخبار الموجبة للقصاص، ولأنهما حران مسلمان من أهل القصاص فوجب أن يقتل كما واحد منهما بصاحبه كالاجنببين، وقال ابن المنذر قد رووا في هذا الباب أخباراً وقال مالك إن قتله حذفاً بالسيف ونحوه لم يقتل به، وإن ذبحه أو قتله قتلاً لا يشك في أنه عمد إلى قتله دون تأديبه أقيد به.
ولنا ما روى عمر بن الخطاب وان عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يقتل والد بولده " أخرج النسائي حديث عمر ورواهما ابن ماجة وذكرهما ابن عبد البر وقال هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق مستفيض عندهم يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الاسناد فيه حتى يكون الاسناد في مثله مع شهرته تكلفاً ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أنت ومالك لأبيك " وقضية هذه الإضافة تمليكه إياه فإذا لم تثبت حقيقة الملكية ثبتت الاضافة شبهة في درء القصاص لأنه يدرأ بالشبهات ولأنه سبب ايجاده فلا ينبغي أن يتسلط بسببه على إعدامه وما ذكرناه يخص العمومات، ويفارق الاب سائر
الناس فإنهم لو قتلوا بالخذف بالسيف وجب عليهم القصاص والأب بخلافه.

(9/372)


(فصل) والجد إن علا كالأب في هذا وسواء كان من قبل الأب أو من قبل الأم في قول أكثر مسقطي القصاص عن الاب، وقال الحسن بن حي يقتل به ولنا أنه والد فيدخل في عموم النص ولأن ذلك حكم يتعلق بالولادة فاستوى فيه القريب والبعيد كالمحرمية والعتق إذا تملكه، والجد من قبل الأم كالذي من قبل الأب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن ابني هذا سيد " (فصل) ويستوي في ذلك الأب والأم في الصحيح من المذهب وعليه العمل عند مسقطي القصاص عن الأب، وعن أحمد ما يدل على أنه لا يسقط عن الأم فإن مهنا نقل عنه في أم ولد قتلت سيدها عمداً تقتل قال من يقتلها؟ قال ولدها وخرجها أبو بكر على روايتين (إحداهما) إن الأم تقتل بولدها لأنها لا ولاية لها عليه أشبه الأخ، والصحيح الأول لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقتل والد بولده ولأنها أحد الأبوين فأشبهت الأب ولأنها أولى بالبر فكانت أولى بنفي القصاص عنها والولاية غير معتبرة بدليل انتفاء القصاص عن الاب بقتل ولده الكبير الذي لا ولاية له عليه وعن الأب المخالف في الدين أو الرقيق، والجدة وإن علت في ذلك كالأم وسواء في ذلك من قبل الأب أو من قبل الأم لما ذكرنا في الجد (فصل) وسواء في ذلك اتفاقهما في الدين والحرية واختلافهما فيه لأن انتفاء القصاص لشرف

(9/373)


الأبوة وهو موجود في كل حال فلو قتل الكافر ولده المسلم أو قتل المسلم أباه الكافر أو قتل العبد ولده الحر أو قتل الحر ولده العبد لم يجب القصاص لشرف الأبوة فيما إذا قتل ولده وانتفاء المكافأة فيما إذا قتل والده (فصل) إذا تداعى نفسان نسب صغير مجهول النسب ثم قتلاه قبل الحاقة بواحد منهما فلا قصاص عليهما لأنه يجوز أن يكون ابن كل واحد منهما أو ابنهما وإن ألحقه القافة بأحدهما ثم قتلاه لم يقتل
أبوه وقتل الآخر لأنه شريك الأب في قتل الابن، وإن رجعا جميعا عن الدعوى لم يقبل رجوعهما لأن النسب حق للولد فلم يقبل رجوعهما عن إقرارهما به كما لو أقرا له بحق سواه أو كما لو ادعاه واحد فألحق به ثم جحده، وإن رجع أحدهما صح رجوعه وثبت نسبه من الآخر لأن رجوعه لا يبطل نسبه ويسقط القصاص عن الذي لم يرجع ويجب على الراجع لأنه شارك الأب، وإن عفا عنه فعليه نصف الدية، ولو اشترك رجلان في وطئ امرأة في طهر واحد وأتت بولد يمكن أن يكون منهما فقتلاه قبل إلحاقه بأحدهما لم يجب القصاص، وإن نفيا نسبه لم ينتف بقوله لأنه لحق بالفراش فلا ينتفي إلا باللعان وفارق التي قبلها من وجهين (أحدهما) أن أحدهما إذا رجع عن دعواه لحق الآخر وههنا لا يلحق بذلك

(9/374)


(والثاني) أن ثبوت نسبه ثم بالاعتراف فيسقط بالجحد وههنا ثبت بالاشتراك فلا ينتفي بالجحد ومذهب الشافعي في هذا الفصل كما قلنا سواء (مسألة) (ويقتل الولد بكل واحد منهما في أظهر الروايتين) هذا قول جماعة أهل العلم منهم مالك والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي، وحكى بعض اصحابنا عن أحمد أن الابن لا يقتل بأبيه لأنه لا تقبل شهادته له بحق النسب فلا يقتل به كالأب مع ابنه، والصحيح أنه يقتل به للآيات والأخبار وموافقة القياس ولأن الأب أعظم حرمة وحقاً من الأجنبي فإذا قتل بالأجنبي فبالأب أولى ولانه يجد بقذفه فيقتل به كالأجنبي، ولا يصح قياس الابن على الأب لأن حرمة الوالد على الولد آكد والابن مضاف إلى أبيه بلام التمليك بخلاف الولد مع الوالد، وقد ذكر أصحابنا حديثين متعارضين عن سراقة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يقاد الأب من ابنه ولا الابن من أبيه " والثاني: أنه كان يقيد الأب من ابنه ولا يقيد لابن من أبيه، وهذا الحديث لا نعرفه ولم تجده في كتاب السنن المشهورة ولا ظن له اصلاً فهما متعارضان ومتدافعان يجب اطراحهما والعمل بالنصوص الواضحة الثابتة والإجماع الذي لا تجوز مخالفته (مسألة) (ومتى ورث ولده القصاص أو شيئاً منه أو ورث القاتل شيئاً من دمه سقط القصاص
فلو قتل أحد الزوجين صاحبه ولهما ولد لم يجب القصاص)

(9/375)


لأنه لو وجب لوجب لولده ولا يجب للولد قصاص على أبيه لأنه إذا لم بالجناية عليه فلأن لا يجب له بالجناية على غيره أولى وسواء كان الولد ذكرا أو انثى أو كان لعقول ولد سواه أو من يشاركه في الميراث أو لم يكن لأنه لو ثبت القصاص لوجب له جزء منه ولا يمكن وجوبه وإذا لم يثبت بعضه سقط كله لأنه لا يتبعض وصار كما لو عفا بعض مستحقي القصاص عن نصيبه منه، فإن لم يكن للمقتول ولد منهما وجب القصاص في قول أكثر أهل العلم منهم عمر بن عبد العزيز والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وقال الزهري لا يقتل الزوج بامرأته لأنه ملكها بعقد النكاح أشيه الأمة ولنا عموم النصوص ولأنهما شخصان متكافئان يحد كل واحد منهما بقذف صاحبه فقتل به كالاجنبين، قوله إنها ملكه غير صحيح فإنها حرة وإنما ملك منفعة الاستمتاع فأشبه المستأجرة ولهذا تجب عليه ديتها ويرثها ورثتها ولا يرث منها إلا قدر ميراثه ولو قتلها غيره كانت ديتها أو القصاص لورثتها بخلاف الأمة (مسألة) (ولو قتل رجل أخا زوجته فورثته ثم ماتت فورثها ولده سقط عنه القصاص وسواء كان لها ولد من غيره أو لا) لأن القصاص فيما ورثه ولده فيسقط جميعه لأن القصاص لا يتبعض فأشبه ما لو عفا أحد الشريكين وكذلك لو قتلت المرأة أخا زوجها فصار القصاص أو جزء منه لابنها سقط القصاص سواء صار إليه ابتداء أو انتقل إليه من أبيه أو من غيره لما ذكرنا

(9/376)


(فصل) ولو قتل رجل أخاه فورثه ابن القاتل أو أحد يرث ابنه منه شيئاً لم يجب القصاص لما ذكرنا (فصل) وإذا قتل أحد أبوي المكاتب المكاتب أو عبداً له لم يجب القصاص لأن الوالد لا يقتل بولده ولا يثبت للولد على والد قصاص، وإن اشترى المكاتب أحد أبويه ثم قتله لم يجب القصاص لأن السيد لا يقتل بعبده
(مسألة) (ولو قتل أباه أو أخاه فورثه أخواه ثم قتل أحدهما صاحبه سقط القصاص عن الأول لأنه ورث بعض دم نفسه) (مسألة) (وإن قتل أحد الابنين اباه والآخر أمه وهي زوجة الأب سقط القصاص عن الأول لذلك وله أن يقتص من أخيه ويرثه لأن القتل بحق لا يمنع الميراث) إذا قتل أحد الابنين اباه والآخر أمه ولزوجية بينهما موجودة حال قتل الأول فالقصاص على القاتل الثاني دون الأول لأن القتيل الثاني ورث جزء من دم الأول فلما قتل ورثه قاتل الأول فصار له جزء من دم نفسه فسقط القصاص ووجب له القصاص على أخيه فإن قتله ورثه إن لم يكن له وارث سواه لأنه قتل بحق وإن عفا عنه إلى الدية وجبت وتقاصا بما بينهما وما فضل لأحدهما فهو على أخيه

(9/377)


(فصل) وإن لم تكن زوجة الأب فعلى كل واحد منهما القصاص لأخيه لأنه ورث الذي قتله أخوه وحده دون قاله، فإن بادر أحدهما فقتل أخاه فقد استوفى حقه وسقط عنه القصاص لأنه يرث اخاه لكونه فلا يحق فلا يمنع الميراث إلا أن يكون للمقتول ابن أو ابن ابن يحجب القاتل فيكون له قتل عمه ويرثه إن لم يكن له وارث سواه فان تشاحاني المبتدئ منهما بالقتل احتمل أن يبدأ بقتل القاتل الأول لأنه أسبق واحتمل أن يقرع بينهما وهو قول القاضي ومذهب الشافعي لأنهما تساويا في الاستحقاق فصرنا إلى القرعة وأيهما قتل صاحبه أولا إما بمبادرة أو قرعة ورثه في قياس المذهب إن لم يكن له وارث سواه وسقط عنه القصاص وإن كان محجوباً عن ميراثه كله فلو ارث القتيل قتل الآخر وان عفى أحدهما عن الآخر ثم قتل المعفو عنه العافي ورثه أيضاً وسقط عنه ما وجب عليه من الدية وإن تعافيا جميعاً على الدية تقاصا بما استويا فيه ووجب لقاتل الأم الفضل على قاتل الأب لأن عقلها نصف عقل الأب ويتخرج أن يسقط القصاص عنهما في استحقاقه كسقوط الديتين إذا تساوتا ولأنه لا سبيل إلى استيفائهما معاً واستيفاء أحدهما دون الآخر حيف لا يجوز فتعين السقوط وإن كان لكل واحد منهما ابن يحجب عمه عن ميراث ابيه فإذا قتل أحدهما صاحبه ورثه ابنه وللان أن يقتل عمه ويرثه ابنه ويرث كل واحد من الابنين مال أبيه ومال جده الذي قتله عمه دون الذي قتله أبوه وإن كان لكل واحد منهما بنت
فقتل أحدهما صاحبه سقط القصاص عنه لأنه ورث نصف مال اخيه ونصف قصاص نفسه فسقط عنه

(9/378)


القصاص وورث مال أبيه الذي قتله أخره ونصف مال أخته ونصف مال أبيه الذي قتله هو وورثت البنت التي قتل أبوها نصف مال أبيها ونصف مال جدها الذي قتله عمها ولها على عمها نصف دية قتيله (فصل) أربعة أخوة قتل الأول والثاني والثالث والرابع فالقصاص على الثالث لأنه لما قتل الرابع لم يرثه وورثه الأول وحده وقد كان للرابع نصف قصاص الأول فرجع نصف قصاصه إليه فسقط ووجب الثالث نصف الدية وكان للأول قتل الثالث لأنه لم يرث من دم نفسه شيئاً فإن قتله ورثه في ظاهر المذهب ويرث ما يرثه عن أخيه الثاني فإن عفا عنه إلى الدية وجبت عليه بكمالها يقاصه بنصفها وإن كان لهما ورثه كل فيها من التفصيل مثل الذي في التي قبلها (مسألة) (وان قتل من لا يعرفه وادعى كفره لم يقبل) لأنه محكوم بإسلامه بالدار ولهذا يحكم بإسلام اللقيط ويكون القول قول الولي وكذلك إن ادعى رقه لأن الأصل الحرية والرق طارئ وكذلك لو ضرب ملفوفاً فقده وادعى أنه كان ميتاً لم يقبل لأن الأصل الحياة وإن قطع طرف إنسان وادعى شلله لم يقبل لأن الأصل السلامة (مسألة) (وان قتل رجلاً في داره وادعى أنه دخل يكابره على أهله أو ماله فقتله دفعاً عن نفسه وأنكر وليه فالقول قول الولي)

(9/379)


وجملة ذلك أنه إذا قتل رجلاً وادعى أنه وجده مع امرأته أو أنه قتله دفعاً عن نفسه أو أنه دخل منزله يكابره على ماله فلم يقدر على دفعه إلا بقتله لم يقبل قولا إلا ببينة ولزمه القصاص إذا أنكر وليه روي نحو ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال الشافعي وابو ثور وابن المنذر ولا أعلم فيه مخالفاً وسواء وجد في دار القاتل أو في غيرها وجد معه سلاح أو لم يوجد لما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عمن وجد مع امرأته رجلاً فقتله فقال ان يأت بأربعة شهداء فليعط برمته ولأن الأصل عدم ما يدعيه فلا يثبت بمجرد الدعوى فأما إن اعترف الولي بذلك فلا قصاص عليه ولا دية لما روي عن عمر رضي
الله عنه أنه كان يوما يتغدى إذ جاء رجل يعدو وفي يده سيف ملطخ بالدم ووراءه قوم يعدون خلفه فجاء حتى جلس مع عمر فجاء الآخرون فقالو يا أمير المؤمنين أن هذا قتل صاحبنا فقال له عمر ما يقولون؟ فقال يا أمير المؤمنين إني ضربت فخذي امرأتي فإن كان بينهما أحد فقد قتلته فقال عمر ما يقول؟ قالوا يا أمير المؤمنين إنه ضرب بالسيف فوقع في وسط الرجل وفخذي المرأة فأخذ عمر سيفه فهذه ثم دفعه إليه وقال ان عادوا فعد رواه سعيد في سننه وروي عن الزبير أنه كان يوماً قد تخلف عن الجيش ومعه جارية له فأتاه رجلا ن فقالا أعطنا شيئاً فأعطاهما طعاماً كان معه فقالا خل عن الجارية فضربهما بسيفه فقطعهما بضربة واحدة ولأن الخصم اعترف بما يبيح قتله فسقط حقه كما لو أقر بقتله قصاصاً أو في حد يوجب قتله وإن ثبت فكذلك

(9/380)


(مسألة) (وان تخارج اثنان وادعى كل واحد منهما أنه جرح صاحبه دفعاً عن نفسه وانكر الآخر وجب القصاص والقول قول المنكر) لأن سبب القصاص قد وجد وهو الجرح والأصل عدم ما يدعيه الآخر وقال شيخنا يجب الضمان لذلك والقول قول كل واحد منهما مع يمينه في نفي القصاص لأن ما يدعيه محتمل فيندرئ به القصاص لأنه يندرئ بالشبهات هذا الذي ذكره في كتاب الكافي والأول أقيس لأنه لو كان دعوى ما يمنع القصاص إذا احتمل مانع منه لما وجب القصاص في المسائل المتقدمة والحكم بخلافه والله أعلم (فصل) أجمع أهل العلم على أن القود لا يجب إلا بالعمد ولا نعلم في وجوبه بقتل العمد إذا اجتمعت شروطه وانتفت الموانع خلافاً وقد دل عليه الآيات والأخبار بعمومها فقال تعالى ومن (قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه طعاما فلا يسرف في القتل) وقال تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى) وقال تعالى (ولكم في القصاص حياة) يريد والله أعلم أن وجوب القصاص يمنع الإقدام على القتل خوفاً على نفسه من القتل فتبقى الحياة فيمن أريد قتله، وقال تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يفدي " متفق عليه وروى أبو شريح الخزاعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أصيب بدم فهو بالخيار بين إحدى ثلاث فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه
أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية " رواه أبو داود (فصل) وأجمع أهل العلم على أن الحر المسلم يقاد به قاتله وإن كان مجدع الأطراف معدوم الحواس

(9/381)


والقاتل صحيح سوي الخلق أو كان بالعكس وكذلك إن تفاوتا في العلم والشرف والغنى والفقر والصحة والمرض والقوة والضعف والكبر والصغر ونحو ذلك لا يمنع القصاص بالاتفاق وقد دلت عليه العمومات التي تلوناها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون تتكافأ دماؤهم " ولأن اعتبار التساوي في الصفات والفضائل يفضي الى اسقاط القصاص بالكلية وفوات حكمه الردع والزجر فوجب أن يسقط اعتباره كالطول والقصر والسواد والبياض.
(فصل) ويجري القصاص بين الولاة والعمال وبين رعيتهم لعموم الآيات والأخبار التي ذكرناها لا نعلم في هذا خلافاً وثبت عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه عاملاً أنه قطع يده ظلماً لئن كنت صادقاً لأقدتك منه وثبت أن عمر كان يقيد من نفسه وروى أبو داود قال خطب عمر فقال إني لم أبعث عما لي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم فمن فعل به ذلك فليرفعه إلي أقصه منه فقال عمرو بن العاص لو أن رجلا أدب بعض رعيته أتقصه منه؟ قال أي والذي نفسي بيده أقصه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقص من نفسه ولأن المؤمنين تتكافأ دماؤهم وهذان حران مسلمان ليس بينهما إيلاد فيجرى القصاص بينهما كسائر الرعية (فصل) ولا يشترط في وجوب القصاص كون القتل في دار الإسلام بل متى قتل في دار الحرب مسلماً عالماً بإسلامه عامداً فعليه القود سواء كان قد هاجر أو لم يهاجر، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة

(9/382)


لا يجب القصاص بالقتل في غير دار الإسلام فإن لم يكن المقتول هاجر لم يضمنه بقصاص ولا دية عمداً قتله أو خطأ، وإن كان قد هاجر ثم عاد إلى دار الحرب كرجلين مسلمين دخلا دار الحرب بأمان فقتل أحدهما صاحبه ضمنه بالدية ولم يجب القود وحكي عن أحمد رواية كقوله ولو قتل رجل أسيراً مسلماً في دار الحرب لم يضمنه إلا بالدية ولم يجب القود عمداً قتله أو خطأ
ولنا ما ذكرنا من الآيات والأخبار ولأنه قتل من يكافئه عمداً ظلماً فوجب عليه القود كما لو قتله في دار الإسلام ولأن كل دار يجب فيها القصاص إذا كان فيها إمام يجب وإن لم يكن إمام كدار الإسلام (فصل) وقتل الغيلة وغيره سواء في القصاص والعفو وذلك للولي دون السلطان، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وابن المنذر، وقال مالك الأمر عندنا ان يقتل به وليس لولي الدم أن يعفو عنه وذلك إلى السلطان والغلية عنده أن يخدع الإنسان فيدخل بيتاً أو نحوه فيقتل أو يؤخذ ماله ولعله يحتج بحديث عمر رضي الله عنه في الذي قتل غيلة لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به وبقياسه على المحارب ولنا عموم قوله تعالى (فقد جعلنا لوليه سلطانا) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " فأهله بين خيرتين " ولأنه قتيل في غير المحاربة فكان أمره إلى وليه كسائر القتلى، وقول عمر لأقدتهم به أي أمكنت الولي من استيفاء القود منهم.
باب استيفاء القصاص ويشترط له ثلاثة شروط (أحدهما) أن يكون من يستحقه مكلفاً فإن كان صبياً أو مجنوناً لم يجز استيفاؤه ويحبس القاتل حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون إذا كان من يستحق القصاص واحداً غير مكلف صغيراً أو مجنوناً كصبي قتلت أمه وليست زوجة لأبيه فالقصاص له وليس لأبيه ولا لغيره استيفاؤه وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك له استيفاؤه وكذلك الحكم في الوصي والحاكم في الطرف دون النفس، وذكر أبو الخطاب في موضع في الأب روايتين وفي موضع وجهين (أحدهما) كقولهما ولأن القصاص أحد بدلي النفس فكان للأب استيفاؤه كالدية

(9/383)


ولنا أنه لا يملك ايقاع الطلاق بزوجته فلا يملك استيفاء القصاص له كالوصي ولأن القصد التشفي ودرك الغيظ ولا يحصل ذلك باستيفاء الولي ويخالف الدية فإن الغرض يحصل باستيفاء الأب فافترقا ولأن الدية إنما يملك استيفاءها إذا تعينت والقصاص لا يتعين فإنه يجوز العفو إلى الدية والصلح إلى مال أكثر منها أو أقل والدية بخلاف ذلك (فصل) وكل موضع يجب تأخير الاستيفاء فإن القاتل يحبس حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون ويقدم
الغائب، وقد حبس معاوية هدية بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل في عصر الصحابة فلم ينكر ذلك وبذل الحسن والحسين وسعيد بن العاص لابن القتيل سبع ديات فلم يقبلها فإن قيل فلم لا يخلى سبيله كالعسر بالدين قلنا لأن في تخليته تضييعاً للحق لأنه لا يؤمن هربه والفرق بينه وبين المعسر من وجوه (أحدهما) أن قضاء الدين لا يجب مع الإعسار فلا يحبس بما لا يجب والقصاص ههنا واجب وإنما تعذر المستوفي (الثاني) أن المعسر إذا حبسناه تعذر الكسب لقضاء الدين فلا يفيد بل يضر من الجانبين وههنا الحق نفسه يفوت بالتخلية لا بالحبس (الثالث) أنه قد استحق قتله وفيه تفويت نفسه ونفعه فإذا تعذر تفويت نفسه جاز تفويت نفعه لامكانه فان قبل فلم يحبس من أجل الغائب وليس للحاكم عليه ولاية إذا كان مكلفاً رشيداً ولذلك لو وجد بعض ماله مغصوباً لم يملك انتزاعه؟ قلنا لأن في القصاص حقاً للميت وللحاكم عليه ولاية ولهذا ينفذ وصاياه من الدية ويقضي ديونه منها فنظيره أن يجد الحاكم من تركة

(9/384)


الميت في يد إنسان شيئاً غصباً والوارث غائب فإنه يأخذه، ولو كان القصاص لحي في طرفه لم يتعرض لمن هو عليه فان أقام القاتل كفيلاً بنفسه ليخلي سبيله له لم يجز لأن الكفالة لا تصح في القصاص فإن فائدتها استيفاء الحق من الكفيل، فإن تعذر إحضار المكفول به فلا يمكن استيفاؤه من غير القاتل فلم تصح الكفالة به كالحد ولأن فيه تغريراً بحق المولى عليه فإنه ربما خلى سبيله فهرب فضاع الحق (مسألة) (وإن كانا محتاجين إلى النفقة فهل لوليهما الفعو إلى الدية؟ يحتمل وجهين) إذا وجب القصاص لصغير أو مجنون فليس لوليه العفو عن القصاص إلى غير مال لأنه لا يملك اسقاط حقه وكذلك إن عفا إلى مال وكان الصبي في كفاية وقد ذكرناه، فإن كان فقيراً محتاجاً إلى النفقة جاز ذلك في أحد الوجهين، قال القاضي وهو الصحيح (والثاني) لا يجوز لأنه لا يملك اسقاط قصاصه ونفقته في بيت المال، والصحيح الأول فإن وجوب النفقة في بيت المال لا يغنيه إذا لم يحصل، وأما إذا كان مستحق القصاص مجنوناً فقيراً فلوليه العفو إلى المال لأنه ليست له حالة معتادة ينتظر فيها اباقته ورجوع عقله بخلاف الصبي (مسألة) (فإن قتلا قاتل أبيهما أو قطعا قاطعهما قهراً احتمل أن يسقط حقهما واحتمل أن تجب
دية أبيهما لهما في مال الجاني ويرجع ورثة الجاني على عاقلتهما) إذا وثب الصبي أو المجنون على القاتل فقتله أو على القاطع فقطعه ففيه وجهان:

(9/385)


(أحدهما) يصير مستوفياً لحقه لأنه عين حقه أتلفه فأشبه ما لو كانت وديعة عند رجل (والثاني) لا يصير مستوفياً لحقه لأنه ليس من أهل الاستيفاء فتجب له دية أبيه في مال الجاني لأن عمد الصبي خطأ وعلى عاقلته دية القاتل كما لو اتلف أجنبياً بخلاف الوديعة فإنها لو تلفت من غير تعد برئ منها المودع ولو هلك من غير فعل لم يبرأ من الجناية (مسألة) (وإن اقتصا ممن لا تحمل ديته العاقلة كالعبد سقط حقهما وجهاً واحداً لأنه لا يمكن ايجاب ديته على العاقلة فلم يكن إلا سقوطه (فصل) الثاني اتفاق جميع الأولياء على استيفائه وليس لبعضهم الاستيفاء دون بعض) لأنه يكون مستوفياً لحق غيره بغير إذنه ولا ولاية عليه فأشبه الدين (مسألة) (فان فعل فلا قصاص عليه) وبه قال أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي والقول الآخر عليه القصاص لأنه ممنوع من قتله وبعضه غير مستحق له وقد يجب القصاص بإتلاف بعض النفس بدليل ما لو اشترك الجماعة في قتل واحد ولنا أنه مشارك في استحقاق القتل فلم يجب عليه القصاص كما لو كان مشاركاً في ملك الجارية ووطئها ولأنه محل يملك بعضه فلم تجب العقوبة المقدرة باستيفائه كالأصل، ويفارق إذا قتل الجماعة واحد فإنا لم نوجب القصاص بقتل بعض النفس وإنما نجعل كل واحد منهم قاتلاً لجميعها وإن سلمنا وجوبه

(9/386)


عليه لقتل بعض النفس فمن شرطه المشاركة لمن فعله كفعله في العمد والعدوان ولا يتحقق ذلك ههنا (مسألة) (وعليه لشركائه حقهم من الدية ويسقط عن الجاني في أحد الوجهين وفي الآخر لهم ذلك في تركة الجاني ويرجع ورثة الجاني على قاتله) وجملة ذلك أنه يجب للولي الذي لم يقتل قسطه من الدية لأن حقه من القصاص سقط بغير اختياره
فأشبه ما لو مات القاتل أو عفا بعض الأولياء، وهل يجب ذلك على قاتل الجاني أو في تركة الجاني؟ فيه وجهان وللشافعي قولان (أحدهما) يرجع على قاتل الجاني لأنه أتلف محل حقه فكان الرجوع عليه بعض نصيبه كما لو كانت له وديعة فأتلفها (والثاني) يرجع في تركة الجاني كما لو أتلفه أجنبي أو عفا شريكه عن القصاص، وقولنا أتلف محل حقه يبطل بما إذا أتلف مستأجره أو غريمه أو امرأته أو كان المتلف أجنبياً، ويفارق الوديعة فإنها مملوكة لهما فوجب عوض ملكه أما الجاني فليس بمملوك للمجني عليه وانما عليه حق فأشبه ما لو أتلف غريمه، فعلى هذا يرجع ورثة الجاني على قاتله بدية مورثهم إلا قدر حقه منها، فعلى هذا لو كان الجاني أقل دية من قاتله مثل امرأة قتلت رجلاً له ابنان قتلها أحدهما بغير إذن الآخر فللآخر نصف دية أبيه في تركة المرأة التي قتلته ويرجع ورثتها بنصف ديتها على قاتلها وهو ربع دية الرجل وعلى الوجه الأول يرجع الابن الذي لم يقتل على أخيه بنصف دية المرأة لأنه لم يفوت على أخيه إلا نصف

(9/387)


المرأة ولا يمكن أن يرجع على ورثة المرأة بشئ لأن أخاه الذي قتلها أتلف جميع الحق، وهذا يدل على ضعف هذا الوجه، ومن فوائده أيضاً صحة إبراء من حكمنا بالرجوع عليه وملك مطالبته وإن قلنا يرجع على ورثة الجاني صح ابراؤهم وملكوا الرجوع على قاتل موروثهم بقسط أخيه العافي وإن قلنا يرجع على شريكه ملك مطالبته وصح ابراؤهم ولم يكن لورثة الجاني مطالبته بشئ (ومنها) أننا إذا قلنا يرجع على تركة الجاني وله تركة فله الاخذ منها سواء أمكن ورثته أن يستوفوا من الشريك أو لم يمكنهم وإن قلنا يرجع على شريكه لم يكن له مطالبته ورثة الجاني سواء كان شريكه موسراً أو معسراً (فصل) وان عفا سقط القصاص وإن كان العافي زوجاً أو زوجة، أجمع أهل العلم على إجازة العفو عن القصاص وأنه أفضل لما نذكره.
والقصاص حق لجميع الورثة من ذوي الأنساب والأسباب الرجال والنساء والصغار والكبار فمن عفا منهم صح عفوه وسقط القصاص ولم يكن لأحد عليه سبيل وهذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء والنخعي والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة والشافعي وروي معنى ذلك عن عمر وطاوس والشعبي وقال الحسن وقتادة والزهري وابن شبرمة والليث
والاوزاعي ليس للنساء عفو والمشهور عن مالك أنه موروث للعصبات خاصة وهو وجه لأصحاب الشافعي لأنه ثبت لدفع النار فاختص به العصبات كولاية النكاح ولهم وجه ثالث أنه لذوي الأنساب دون الزوجين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يقتلوا أو يأخذوا العقل "

(9/388)


وأهله ذوو رحمة وذهب بعض أهل المدينة إلى أن القصاص لا يسقط بعفو بعض الشركاء وقيل هو رواية عن مالك لأن حق غير العافي لم يرض باسقاطه وقد تؤخذ النفس ببعض النفس بدليل قتل الجماعة بالواحد ولنا عموم قوله عليه الصلاة والسلام " فأهله بين خيرتين " وهذا عام في جميع أهله والمرأة من أهله بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهلي وما علمت على أهلي إلا خيراً وما كان يدخل على أهلي إلا معي " يريد عائشة وقال له أسامة يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيراً وروى زيد بن وهب أن عمر اتى برجل قتل قتيلاً فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت امرأة المقتول وهي أخت القاتل قد عفوت عن حقي فقال عمر الله أكبر عتق القتيل رواه أبو داود، وفي رواية عن زيد قال دخل رجل على امرأته فوجد عندها رجلاً فقتلها فقال بعض إخوتها قد تصدقت فقضى لسائرهم بالدية وروى قتادة أن عمر رفع إليه رجل قتل رجلاً فجاء أولاد المقتول وقد عفا بعضهم فقال عمر لابن مسعود ما تقول؟ فقال إنه قد أحرز من القتل فضرب على كتفه فقال كتيف ملئ علماً، والدليل على أن القصاص لجميع الورثة ما ذكرناه في مسألة القصاص بين الصغير والكبير ولأن من ورث الدية ورث القصاص كالعصبة وإذا عفا بعضهم صح عفوه كعفوه عن سائر حقوقه، وزوال الزوجية لا يمنع استحقاق القصاص كما لو يمنع استحقاق الدية وسائر حقوقه الموروثة، ومتى ثبت أنه حق مشترك بين جميعهم سقط بإسقاط من كان من أهل الإسقاط

(9/389)


منهم لأن حقه منه له فينفذ تصرفه فيه فإذا سقط سقط جميعه لأنه مما لا يتبعض كالطلاق والعتقاق ولأن القصاص حق مشترك بينهم لا يتبعض مبناه على الدور والإسقاط فإذا اسقط بعضهم سرى إلى الباقي كالعتق، والمرأة أحد المستحقين فسقط بإسقاطها كالرجل، ومتى عفا أحدهم فللباقين حقهم من الدية سواء عفا مطلقاً أو إلى الدية وبه قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم لهم مخالفا ممن قال بسقوط القصاص وذلك
لأن حقه من القصاص سقط بغير رضاه فيثبت له البدل كما لو ورث القاتل بعض دمه أو مات ولما ذكرنا من خبر عمر رضي الله عنه (مسألة) (وإن قتله الباقون عالمين بالعفو وسقوط القصاص به فعليهم القود وإلا فلا قود وعليهم ديته) وجملة ذلك أنه إذا قتله الشريك الذي لم يعف عالماً بعفو شريكه وسقوط القصاص به فعليه القصاص سواء حكم به الحاكم أو لم يحكم وبهذا قال أبو حنيفة وأبو ثور وهو الظاهر من مذهب الشافعي وقيل له قول آخر لا يجب القصاص لأن فيه شبهة لوقوع الخلاف فيه.
ولنا أنه قتل معصوماً مكافئاً له عمداً يعلم أن لا حق له فيه فوجب عليه القصاص كما لو حكم بالعفو حاكم والاختلاف لا يسقط القصاص فإنه لو قتل مسلماً بكافر قتلناه به مع الاختلاف في قتله، فأما إن قتله قبل العلم بالعفو فلا قصاص عليه وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه عليه القصاص

(9/390)


لأنه قتل عمد عدوان لمن لا حق له في قتله ولنا أنه معتقد ثبوت حق فيه مع أن الأصل بقاؤه فلم يلزمه قصاص كالوكيل إذا قتل بعد عفو الموكل قبل علمه بعفوه، ولا فرق بين أن يكون الحاكم قد حكم بالعفو أو لم يحكم به لأن الشبهة موجودة مع انتفاء العلم معدومة عند وجوده، وقال الشافعي متى قتله بعد حكم الحاكم لزمه القصاص علم بالعفو أو لم يعلم وقد بينا الفرق بينهما، ومتى حكمنا عليه بوجوب الدية إما لكونه معذوراً وإما للعفو عن القصاص فإنه يسقط عنه منها ما قابل حقه على القاتل قصاصاً ويجب عليه الباقي، فإن كان الولي عفا إلى غير مال فالواجب لورثة القاتل ولا شئ عليه وإن كان عفا إلى الدية فالواجب لورثة القاتل وعليهم نصيب العافي من الدية وقيل فيه إن حق العافي من الدية على القاتل ولا يصح لأن الحق لم يبق متعلقاً بعينه وإنما الدية واجبة في ذمته فلم تنقل إلى القاتل كما لو قتل غريمه (مسألة) (وسواء كان الجميع حاضرين أو بعضهم غائب لما ذكرناه) (فصل) فإن كان القاتل هو العافي فعليه القصاص سواء عفا مطلقاً أو إلى مال وبهذا قال عكرمة
والثوري ومالك والشافعي وابن المنذر وروي عن الحسن تؤخذ منه الدية ولا يقتل وقال عمر بن عبد العزيز الحكم فيه إلى السلطان ولنا قوله تعالى (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) قال ابن عباس وعطاء والحسن وقتادته في

(9/391)


تفسيرها أي بعد أخذه الدية وعن الحسن عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا أعفي من قتل بعد أخذه الدية " ولأنه قتل معصوماً مكافئاً فوجب عليه القصاص كما لو لم يكن قتل (فصل) وإذا عفا عن القاتل مطلقاً صح ولم يلزمه عقوبة وبهذا قال الشافعي وإسحاق وابن المنذر وأبو ثور وقال مالك والليث والاوزاعي يضرب ويحبس سنة ولنا أنه إنما كان عليه حق واحد وقد أسقطه مستحقه فلم يجب عليه شئ آخر كما لو أسقط الدية عن القاتل خطأ (مسألة) (وإن كان بعضهم صغيراً أو مجنوناً فليس للبالغ العاقل استيفاء حتى يصيرا مكلفين في المشهور وعنه له ذلك) وجملة ذلك أن ورثة القتيل إذا كانوا أكثر من واحد لم يجز لبعضهم استيفاء القود إلا بإذن الباقين فإن كان بعضهم غائباً انتظر قدومه ولم يجز للحاضر الاستقلال بالاستيفاء بغير خلاف علمناه وإن كان بعضهم صغيراً أو مجنوناً فظاهر مذهب أحمد أنه ليس لغيرهما الاستيفاء حتى يبلغ الصغير ويفيق المجنون وبه قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى والشافعي وأبو يوسف واسحاق ويروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وعن أحمد رواية أخرى للكبار والعقلاء استيفاؤه وبه قال حماد ومالك والاوزاعي والليث وابو حنيفة لأن الحسن بن علي رضي الله عنهما قتل ابن ملجم قصاصاً

(9/392)


وفي الورثة صغار فلم ينكر ذلك ولان ولاية القصاص هي استحقاق استيفائه وليس للصغير هذه الولاية ولنا أنه قصاص غير متحتم ثبت لجماعة معينين فلم يجز لأحدهم استيفاؤه استقلالاً كما لو كان لحاضر وغائب ولأنه أحد بدلي النفس فلم ينفرد به بعضهم كالدية والدليل على أن للصغير والمجنون فيه حقاً اربعة أمور
(أحدهما) أنه لو كان منفرداً لاستحقه ولو نافاه الصغر مع غيره لنافاه منفرداً كولاية النكاح (الثاني) أنه لو بلغ لاستحق ولو لم يكن مستحقاً عند الموت لم يكن مستحقاً بعده كالرقيق إذا أعتق بعد موت أبيه (الثالث) أنه لو صار الأمر الى المال لاستحق ولو لم يكن مستحقاً للقصاص لما استحق بدله كالأجنبي (الرابع) أنه لو مات الصغير لاستحق ورثته ولو لم يكن حقاً له لم يرثه كسائر ما لا يستحقه وأما ابن ملجم فقد قيل إنه قتله لكفره لأنه قتل علياً مستحلاً لدمه معتقداً كفره متقرباً إلى الله تعالى بذلك وقيل قتله لسعيه في الارض بالفساد وإظهار السلاح فيكون كقاطع الطريق إذا قتله وقتله متحتم وهو إلى الإمام والحسن هو الإمام ولذلك لم ينتظر الغائبين من الورثة ولا خلاف بيننا في وجوب انتظارهم وإن قدرنا أنه قتله قصاصاً فقد اتفقنا على خلافه فكيف يحتج به بعضنا على بعض؟ (مسألة) (وكل من ورث المال ورث القصاص على حسب ميراثه من المال حتى الزوجين وذوي الأرحام) لأنه حق يستحقه الوارث من جهة مورثه فأشبه المال

(9/393)


(مسألة) (ومن لا وارث له وليه الإمام إن شاء اقتص وإن شاء عفا فله أن يفعل من ذلك ما يرى فيه المصلحة للمسلمين فإن أحب القصاص فله ذلك وإن أحب العفو إلى مال فله ذلك وان أحب العفو إلى غير مال لم يملكه لأن ذلك للمسلمين ولا حظ لهم في هذا، وهذا قول أصحاب الرأي لأنهم لا يرون العفو إلى مال الا برضى الجاني (فصل) وإذا اشترك جماعة في قتل واحد فعفي عنهم إلى الدية فعليهم دية واحدة وإن عفي عن بعضهم فعلى العفو عنه قسطه من الدية لأن الدية بدل المحل وهو واحد فتكون ديته واحدة سواء أتلفه واحد أو جماعة وقال ابن أبي موسى فيه رواية أخرى أن على كل واحد دية كاملة لأن له قتل كل واحد منهم فكان على كل واحد منهم دية نفس كاملة كما لو قلع الأعور عين صحيح فانه يجب عليه دية عينه وهو دية كاملة والصحيح الأول لأن الواجب بدل المتلف ولا يختلف باختلاف المتلف
ولذلك لو قتل عبد قيمته الفان حرا لم يملك العفو على أكثر من الدية وأما القصاص فهو عقوبة على الفعل فيتعدد بعدده (فصل) قال الشيخ رحمه الله (الثالث) أن يؤمن في الاستيفاء التعدي إلى غير القاتل فلو وجب القصاص على حامل أو حملت بعد وجوبه لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبن لا نعلم في ذلك خلافاً وسواء كان القصاص في النفس أو في الطرف أما في النفس فلقول الله تعالى (فلا يسرف في القتل) وقتل

(9/394)


الحامل قتل لغير الحامل اسرافا وروى ابن ماجة باسناده عن عبد الرحمن بن غنم قال حدثنا نساء ومعاذ بن جبل وأبو عبيدة بن الجراح وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس قالوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا قتلت المرأة عمداً لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملاً وحتى تكفل ولدها وإن زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها " وهذا نص ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للغامدية المقرة بالزنا " ارجعي حتى تضعن ما في بطنك - ثم قال لها - ارجعي حتى ترضيعه " ولأن هذا إجماع من أهل العلم لا نعلم فيه اختلافا وأما لا قصاص في الطرف فلا لنا منعنا الاستيفاء فيه خشية السراية إلى الجاني وإلى زيادة في حقه فلأن تمنع منه خشية السراية إلى غير الجاني وتفويت نفس معصومة أولى وأحرى ولان في القصاص منها قتلاً لغير الجاني وهو حرام وإذا وضعت لم تقتل حتى تسقي الولد اللبن لأن الولد يتضرر لتركه ضرراً كبيراً ثم إن لم يكن للولد من يرضعه لم يجز قتلها حتى يجئ أو ان فطامه لما ذكرنا من الخبرين ولأنه لما أخر الاستيفاء لحفظه وهو حمل فلأن يؤخر لحفظه بعد وضعه أولى إلا أن يكون القصاص فيما دون النفس ويكون الغالب بقاؤها وعدم ضرر الاستيفاء منها فيستوفى وإن وجد له مرضعة راتبة جاز الاستيفاء منها لأنه يستغني عنها بلبن المرضعة وكذلك إن كانت مترددة أو نساء يتناوبنه يرضعنه أو أمكن أن يسقى من لبن شاة أو نحوها ويستحب للولي تأخيرها لما على الولد من الضرر في اختلاف اللبن عليه وشرب لبن البهيمة

(9/395)


(مسألة) (وحكم الحد في ذلك حكم القصاص لما ذكرنا من الحديث ولأنه في معنى القصاص
(مسألة) وإن ادعت الحمل ففيه وجهان (أحدهما) تحبس حتى يبين حملها لأن للحمل امارات خفية تعلمها من نفسها ولا يعلمها غيرها فوجب أن يحتاط للحمل حتى يتبين انتفاء ما ادعته ولأنه امر يختصها فقبل قولها فيه كالحيض (والثاني) أنها ترى أهل الخبرة ذكره القاضي فان شهدن بحملها أخرت وان شهدن ببراءتها لم تؤخر لأن الحق حال عليها فلا يؤخر بمجرد دعواها فإن أشكل على القوابل أو لم يوجد من يعرف ذلك أخرت حتى يتبين لأننا إذا أسقطنا القصاص من خوف الزيادة فتأخيره أولى (مسألة) (وإن اقتص من حامل وجب ضمان جنبيها على قاتلها) وقال أبو الخطاب يجب على السلطان الذي مكنه من الاستيفاء وعليهما الإثم إن كانا عالمين أو كان منهما تفريط وإن علم أحدهما أو فرط فالإثم عليه فإن لم تلق الولد فلا ضمان فيه لأنا لا نعلم وجوده وحياته وإن انفصل ميتاً أو حياً لوقت لا يعيش فيه مثله ففيه غرة وإن انفصل حياً لوقت يعيش مثله فيه ثم مات من الجناية وجبت ديته وينظر فإن كان الإمام والولي عالمين بالحمل وتحريم الاستيفاء أو جاهلين بالأمرين أو بأحدهما أو كان الولي عالماً بذلك دون الممكن له من الاستيفاء فالضمان عليه وحده لأنه مباشر والحاكم الذي مكنه صاحب سبب فكان الضمان على المباشر دون المسيب كالحافر مع الدافع

(9/396)


فإن علم الحاكم دون الولي فالضمان على الحاكم وحده لأن المباشر معذور فكان الضمان على المسبب كالسيد إذا امر عبده الأعجمي الذي لا يعرف تحريم القتل به وكشهود القصاص إذا ارجعوا عن الشهادة بعد الاستيفاء وقال القاضي إن كان أحدهما عالماً وحده فالضمان عليه وحده وإن كانا غير عالمين فالضمان على الحاكم لأنه الذي يعرف الأحكام والولي إنما يرجع إلى حكمه واجتهاده وإن كانا جاهلين ففيه وجهان (أحدهما) الضمان على الإمام كما لو كانا عالمين (والثاني) على الولي وهو مذهب الشافعي وقال أبو الخطاب الضمان على الحاكم ولم يفرق وقال المزني الضمان على الولي في كل حال لأنه المباشر والسبب غير ملجئ فكان الضمان عليه كالدافع مع الحافر وكما لو أمر من يعلم تحريم القتل به فقتل وقد ذكرنا ما يقتضي التفريق وهو اختيار شيخنا
(فصل) قال الشيخ رحمه الله ولا يستوفي القصاص إلا بحضرة السلطان وحكاه عن أبي بكر وهو مذهب الشافعي لأنه أمر يفتقر إلى الاجتهاد ويحرم الحيف فيه فلا يؤمن الحيف مع قصد التشفي فإن استوفاه من غير حضرة السلطان وقع الموقع ويعزر لافتياته بفعل ما منع فعله ويحتمل أن يجوز الاستيفاء بغير حضور السلطان إذا كان القصاص في النفس لأن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل يقوده بنسعة فقال أن هذا قتل أخي فاعترف بقتله فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اذهب فاقتله " رواه مسلم بمعناه ولان اشتراط حضور السلطان لا يثبت إلا بنص أو إجماع أو قياس ولم يثبت ذلك ويستحب أن يحضر شاهدين لئلا يجحد المجني عليه الاستيفاء (مسألة) (وعليه تفقد الآلة فإن كانت كالة منعه الاستيفاء بها لئلا يعذب المقتول) وقد روى شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله كتب الاحسان على كل شئ

(9/397)


فاذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فاحسنوا الذبحة ليحد أحدكم شفرته وليرح ذبحته " رواه مسلم ويمنعه من الاستيفاء بآلة مسمومة لأنها تفسد البدن وربما منعت غسله فإن عجل فاستوفى بآلة كالة أو مسمومة عزر لفعله ما لا يجوز (مسألة) (وبنظر السلطان في الولي فان كان يحسن الاستيفاء ويقدر عليه بالقوة والمعرفة مكنه منه) لقول الله تعالى (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل) وقال عليه الصلاة والسلام " من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية " ولأنه حق له متميز فكان له استيفاؤه بنفسه إذا أمكنه كسائر الحقوق ولأن المقصود التشفي وتمكينه منه أبلغ في ذلك (مسألة) (وإن كان الولي لا يحسن الاستيفاء أمره بالتوكيل) لأنه عاجز عن استيفاء حقه فيوكل من يحسن فإن ادعى الولي المعرفة بالاستيفاء فأمكنه السلطان من ضرب عنقه فضرب عنقه فأبانه فقد استوفى حقه وإن أصاب غيره وأقر بتعمد ذلك عزر فإن قال أخطأت وكانت الضربة قريباً من العنق كالرأس والمنكب قبل قوله مع يمينه لأن هذا مما يجوز الخطأ في مثله وإن كان بعيداً كالوسط والرجلين لم يقبل قوله لأن مثل هذا لا يقع الخطأ فيه ثم إن أراد العود
ففيه وجهان (أحدهما) لا يمكن منه لأنه ظهر منه أنه لا يحسن الاستيفاء ويحتمل إن يعود إلى مثل فعله (والثاني) يمكن منه قاله القاضي لأن الظاهر تحرزه عن مثل ذلك ثانياً

(9/398)


(مسألة) (فإن احتاج الوكيل إلى أجرة فمن مال الجاني فقد قيل يؤخذ العوض من بيت المال) قال بعض أصحابنا يرزق من بيت المال رجل يستوفي الحدود والقصاص لأن هذا من مصالح العامة فان لم يحصل ذلك فالأجرة على الجاني لأنها أجرة لايفاء الحق الذي عليه فكانت الأجرة عليه كأجرة الكيال في بيع المكيل ويحتمل أن تكون على المقتص لأنه وكيله فكانت الأجرة على موكله كسائر الموضع والذي على الجاني لتمكين دون الفعل ولهذا لو أراد ان يقتص منه نفس لم يمكن منه ولأنه لو كانت عليه أجرة الوكيل الزمته أجرة الولي إذا استوفى بنفسه وإن قال الجاني أنا أقتص لك من نفسي لم يلزم تمكينه ولم يجز له ذلك قال الله تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم) ولأن معنى القصاص أن يفعل به كما فعل ولأن القصاص حق عليه لغيره فلم يكن هو المستوفي له كالبائع لا يستوفى من نفسه (مسألة) (والولي مخير بين الاستيفاء بنفسه إن كان يحسن وبين التوكيل) لأن الحق له فيتصرف فيه على حسب اختياره كسائر الحقوق وقيل ليس له أن يستوفي في الطرف بنفسه بحال لأنه لا يؤمن أن يجني عليه بما لا يمكن تلافيه وقال القاضي ظاهر كلام أحمد أنه يمكن منه لأنه أحد نوعي القصاص فيمكن منه كالقصاص في النفس (مسألة) (وإن تشاح أولياء المقتول في الاستيفاء قدم أحدهم بالقرعة) إذا تشاح الأولياء في المتولي للاستيفاء أمروا بتوكيل واحد منهم أو من غيرهم ولم يجز أن يتولاه

(9/399)


جميعهم لما فيه من تعذيب الجاني وتعدد أفعالهم فإن لم يتفقوا على أحد وتشاحوا وكان كل واحد منهم يحسن الاستيفاء اقرع بينهم لأن الحقوق إذا تساوت وعدم الترجيح صرنا إلى القرعة كما لو تشاحوا في تزويج موليتهم فمن خرجت له القرعة أمر الباقون بتوكيله ولا يجوز له الاستيفاء بغير أذنهم فإن لم يتفقوا على التوكيل منعوا الاستيفاء حتى يوكلوا
(فصل) قال رحمه الله ولا يستوفي القصاص في النفس إلا بالسيف في إحدى الروايتين والأخرى يفعل به كما فعل فلو قطع يديه ثم قتله فعل به كذلك وإن قتله بحجر أو غرقة أو غير ذلك فعل به مثل فعله وإن قطع يده من مفصل أو غيره أو أوضحه فمات فعل به كفعله فإن مات وإلا ضربت عنقه وقال القاضي يقتل ولا يزاد على ذلك رواية واحدة وجملة ذلك أن الرجل إذا جرح رجلاً ثم ضرب عنقه فالكلام في المسألة في حالين أحدهما أن يختار لمولي القصاص فاختلفت الرواية عن أحمد في كيفية الاستيفاء فروي عنه لا يستوفى إلا بالسيف في العنق وبه قال عطاء والثوري وأبو يوسف ومحمد لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا قود إلا بالسيف " رواه ابن ماجه ولأن القصاص أحد بدلي النفس فدخل الطرف في حكم الجملة كالدية فإنه لو صار الأمر الى الدية لم يجب إلا دية النفس ولأن القصد من القصاص في النفس تعطيل وإتلاف الجملة وقد أمكن هذا بضرب العنق فلا يجوز تعذيبه بإتلاف أطرافه كما لو قتله بسيف كال فانه لا يقتل بمثله (والرواية الثانية) عن أحمد أنه قال إنه لا حل أن يفعل به كما فعل

(9/400)


يعني أن للمستوفي أن يقطع أطرافه ثم يقتله وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي وأبي حنيفة وأبي ثور لقول الله تعالى (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) وقوله سبحانه (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رض رأس يهودي لرضه رأس جارية من لا يصار بين حجرين ولأن الله تعالى قال (والعين بالعين) وهذا قد قلع عينه فيجب أن يقلع عينه للآية وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه " ولأن القصاص موضوع على المماثلة ولفظه مشعر به فيجب ان يستوفى منه مثل ما فعل كما لو ضرب العنق آخر غيره فأما حديث " لا قود لا بالسيف " فقال أحمد ليس اسناده بجيد (الحال الثاني) أن يصير الأمر الى الدية اما بعفو الولي أو كون الفعل خطأ أو شبه عمد أو غير ذلك فالواجب دية واحد وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم تجب دية الأطراف المقطوعة ودية النفس لأنه لما قطع سراية الجرح بقتله صار كالمستقر فأشبه ما لو قتله غيره ولنا أنه قاتل قبل استقرار الجرح فدخل أرش الجراحة في أرش النفس كما لو سرت إلى نفسه
والقصاص في الأطراف لا يجب على إحدى الروايتين وإن وجب فإن القصاص لا يشبه الدية لأن سراية الجرح لا تسقط القصاص فيه وتسقط ديته

(9/401)


(فصل) وإذا قلنا للولي أن يستوفي مثل ما فعل بوليه فأحب أن يقتصر على ضرب عنقه فله ذلك وهو أفضل وإن قطع أطرافه التي قطعها الجاني أو بعضها ثم عفا عن قتله جاز لأنه تارك بعض حقه وان قطع بعض أطرافه ثم عفا إلى الدية لم يكن له ذلك لأن جميع ما فعل به لم يجب به إلا دية واحدة فلا يجوز أن يستوفي بعضه ويستحق كمال الدية، فإن فعل فله ما بقي من الدية فإن لم يبق منها شئ فلا شئ له وإن قلنا ليس له أن يستوفي إلا بضرب العنق فاستوفى بمثل ما فعل فقد أساء ولا شئ عليه سوى المأثم لأن فعل الجاني في الأطراف لم يوجب شيئاً يختص بها فكذلك فعل المستوفي وإن قطع طرفاً واحداً ثم عفا إلى الدية لم يكن له إلا تمامها وإن قطع ما يجب به أكثر من الدية ثم عفا احتمل أنه يلزمه ما زاد على الدية لأنه لا يستحق أكثر من الدية وقد فعل ما يوجب أكثر منها فكانت الزيادة عليه، واحتمل أن لا يلزمه شئ فإذا ترك قتله وعفا عنه فأولى أن لا يلزمه شئ ولأنه فعل بعض ما فعل موليه فلم يلزمه شئ لأنه لو قتله لم يلزمه شئ كما لو قلنا إن له أن يستوفي مثل ما فعل به (فصل) فإن قطع يديه أو رجليه أو جرحه جرحاً يوجب القصاص إذا انفرد فسرى الى النفس فله القصاص في النفس، وهل له أن يستوفي القطع قبل القتل؟ على روايتين ذكرهما القاضي وبناهما على الروايتين المذكورتين في المسألة (أحدهما) ليس له قطع الطرف وهو مذهب أبي حنيفة، لأن ذلك يفضي إلى الزيادة على جناية الأول والقصاص يعتمد المماثلة فمتى خيف فيه الزيادة سقط كما لو قطع يده

(9/402)


من نصف الذراع (والثانية) يجب القصاص في الطرف فإن مات وإلا ضربت عنقه، وهذا مذهب الشافعي لما ذكرناه في أول المسألة، وذكر أبو الخطاب أنه لا يقتص منه في الطرف رواية واحدة وأنه لا يصح تجرحه على الروايتين في المسألة لافضاء هذا إلى الزيادة بخلاف المسألة، قال شيخنا والصحيح تخريجه على الروايتين وليس هذا بزيادة لأن فوات النفس بسراية فعله وسراية فعله كفعله فأشبه ما لو
قطعه ثم قتله، ولأن زيادة الفعل في الصورة محتمل في الاستيفاء كما لو قتله بضربة فلم يمكن قتله في الاستيفاء إلا بضربتين.
(فصل) فإن جرحه جرحاً لا قصاص فيه ولا يلزم فوات الحياة به كالجائفة أو قطع اليد من نصف الذراع أو الرجل من نصف الساق فمات منه أو قطع يداً ناقصة الأصابع أو شلاء أو زائدة ويد القاطع أصلية صحيحة فالصحيح في المذهب أنه ليس له فعل ما فعل ولا يقتص إلا بالسيف في العنق ذكره أبو بكر والقاضي، وقال غيرهما فيه رواية أخرى أن له أن يقتص بمثل فعله لأنه صار قتلاً فكان له القصاص بمثل فعله كما لو رض رأسه بحجر فقتله به، والصحيح الأول لأن هذا لو انفرد لم يكن فيه قصاص فلم يجز القصاص فيه مع القتل كما لو قطع يمينه ولم يكن للقاطع يمين لم يكن له أن يقطع يساره، وفارق ما إذا رض رأسه فمات لأن ذلك الفعل قتل مفرد وههنا قطع وقتل والقطع لا يوجب قصاصاً فبقي مجرد القتل فإذا

(9/403)


جمع المستوفي بينهما فقد زاد قطعاً لم يرد الشرع باستيفائه فيكون حراماً وسواء في هذا ما إذا قطع ثم قتل عقيبه وبين ما إذا قطع فسرى الى النفس (فصل) فأما إن قطع اليمنى ولا يمنى للقاطع أو اليد ولا يد له أو قطع العين ولا عين له فمات المجني عليه فإنه يقتل بالسيف في العنق ولا قصاص في طرفه لا أعلم فيه خلافاً، لأن القصاص إنما يكون في مثل العضو المتلف وهو ههنا معدوم ولأن القصاص فعل مثل ما فعل الجاني ولا سبيل إليه ولأنه لو قطع ثم عفا عن القتل لصار مستوفياً رجلاً ممن لم يقطع له مثلها وهذا غير جائز (فصل) وإن قتله بغير السيف مثل أن قتله بحجر أو هدم أو تغريق أو خنق فهل يستوفى القصاص بمثل ما فعله على روايتين (إحدهما) يستوفى وهو قول مالك والشافعي (والثانية) لا يستوفى إلا بالسيف في العنق، وهو مذهب أبي حنيفة فيما إذا قتله بمثقل الحديد على إحدى الروايتين عنده أو جرحه فمات ووجه الروايتين ما تقدم في أول المسألة ولأن هذا لا يؤمن معه الزيادة على ما فعله القاتل فلا يجب القصاص بمثل آلته كما لو قطع الطرف بآلة كالة أو مسمومة أو بالسيف فانه لا يستوفى بمثله ولأن هذا لا يقتل به المرتد فلا يستوفى به القصاص كما لو قتله بتجريع الخمر أو السحر ولا تفريع على هذه
الرواية، فأما على الرواية الأخرى فإنه إذا فعل به مثل فعله فلم يمت قتله بالسيف، وهذا أحد قولي الشافعي (والقول الثاني) أنه يكرر عليه ذلك الفعل حتى يموت به لأنه قتله بذلك فله قتله بمثله

(9/404)


ولنا أنه قد فعل به مثل فعله فلم يزد عليه كما لو جرحه جرحاً أو قطع منه طرفاً فاستوفى منه الولي مثله فلم يمت به فإنه لا يكرر عليه الجرح بغير خلاف ويعدل إلى ضرب عنقه (مسألة) (فان قتله بمحرم في نفسه كتجريع الخمر واللواط ونحوه قتل بالسيف رواية واحدة) إذا قتله بما يحرم لعينه كتجريع الخمر واللواط أو سحره لم يقتل بمثله اتفاقاً ويقتل بالسيف، وحكى أصحاب الشافعي فيمن قتله باللواط وتجريع الخمر وجهاً أنه يدخل في دبره خشبة يقتله بها ويجرعه الماء حتى يموت ولنا أن هذا محرم لعينه فوجب العدول عنه إلى القتل بالسيف كما لو قتله بالسحر وإن حرقه فقال بعض أصحابنا لا يحرق لأن التحريق محرم لحق الله تعالى لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يعذب بالنار إلا رب النار " وهذا داخل في عموم الخبر وهذا مذهب أبي حنيفة وقال القاضي الصحيح أن فيه روايتين كالتغريق (إحداهما) يحرق وهو مذهب الشافعي لما روى البراء بن عازب قال من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه وحملوا الحديث الأول على غير القصاص (مسألة) (ولا يجوز الزيادة على ما أتى به رواية واحدة ولا قطع شئ من أطرافه فإن فعل فلا قصاص فيه وتجب فيه ديته سواء عفا عنه أو قتله) إذا زاد مستوفي القصاص في النفس على حقه مثل أن يقتل وليه فيقطع المقتص أطرافه أو بعضها

(9/405)


نظرنا فإن عفا عنه بعد قطع طرفه فعليه ضمان ما أتلف بديته وبهذا قال أبو حنيفة، وقال مالك والشافعي وابن المنذر وأبو يوسف ومحمد لا ضمان عليه ولكن قد أساء ويعزر وسواء عفا عن القاتل أو قتله لأنه قطع طرفاً من جملة استحق اتلافها فلم يضمنه كما لو قطع اصبعاً من يد استحق قطعها ولنا أنه قطع طرفا له قيمة حال القطع بغير حق فوجب عليه ضمانة كما لو عفا عنه ثم قطعه أو كما
لو قطعه أجنبي، فأما إن قطعه ثم قتله احتمل أن يضمنه أيضاً لأنه يضمنه إذا عفا عنه فكذلك إذا لم يعف لأن العفو إحسان فلا يكون موجباً للضمان واحتمل أن لا يضمنه وهو قول أبي حنيفة لأنه لو قطع متعدياً ثم قتل لم يضمن الطرف فلأن لا يضمنه إذا كان القتل مستحقاً أولى، فأما القصاص فلا يجب في الطرف بحال ولا نعلم فيه خلافا، لأن القصاص عقوبة تدرأ بالشبهات والشبهة ههنا متحققة لأنه مستحق لاتلاف هذا الطرف ضمناً لاستحقاقه اتلاف الجملة ولا يلزم من سقوط القصاص ان لا تجب الدية بدليل امتناعه لعدم المكافأة، فأما إن كان الجاني قطع طرفه ثم قتله فاستوفى منه بمثل فعله فقد ذكرناه فيما مضى وإن قطع طرفاً غير الذي قطعه الجاني كان الجاني قطع يده فقطع المستوفي رجله احتمل أن يكون بمنزلة ما لو قطع يده لاستواء ديتهما واحتمل أن تلزمه دية الرجل لأن الجاني لم يقطعها فأشبه ما لو لم يقطع يده.
(فصل) فأما إن كانت الزيادة في الاستيفاء من الطرف مثل أن يستحق قطع أصبع فقطع اثنتين

(9/406)


فحكمه حكم القاطع ابتداء إن كان عمداً من مفصل أو شجه يجب في مثلها القصاص فعليه القصاص في الزيادة وإن كان خطأ أو جرحاً لا يوجب القصاص مثل من يستحق موضحة فاستوفى هاشمة فعليه أرش الزيادة إلا أن يكون ذلك بسبب من الجاني كاضطرابه حال الاستيفاء فلا شئ على المقتص لأنه حصل بفعل الجاني، قال اختلفا هل فعله عمداً أو خطأ؟ فالقول قول المختص مع يمينه لأن هذا مما لا يمكن الخطأ فيه وهو أعلم بمقصده، وإن قال المقتص حصل هذا باضطرابك أو فعل من جهتك فالقول قول المقتص منه لأنه منكر فإن سرى الاستيفاء الذي حصلت فيه الزيادة إلى نفس المقتص منه أو الى بعض أعضائه مثل ان قطع اصبعه فسرى الى جميع يده أو اقتص منه بآلة كالة أو مسمومة أو في حال حر مفرط أو برد شديد فسرى فقال القاضي على المقتص نصف الدية لأنه تلف بفعلين جائز ومحرم ومضمون وغير مضمون فانقسم الواجب عليها نصفين كما لو جرحه جرحاً في ردته وجرحاً بعد إسلامه فمات منهما وهذا كله مذهب الشافعي.
قال شيخنا: ويحتمل أن يلزمه ضمان السراية كلها فيما إذا اقتص بآلة مسمومة أو كالة لأن الفعل كله محرم بخلاف قطع الأصبعين
(فصل) فأما إن قطع بعض أعضائه ثم قتله بعد أن برأت الجراح مثل من قطع يديه ورجليه فبرأت جراحته ثم قتله فقد استقر حكم القطع ولولي القتيل الخيار إن شاء عفا وأخذ ثلاث ديات لنفسه ويديه ورجليه لكل واحد دية وإن شاء قتله قصاصاً بالقتل وأخذ ديتين لأطرافه.
وإن أحب قطع اطرافه

(9/407)


الأربعة وأخذ دية لنفسه، وإن أحب قطع يديه وأخذ ديتين لنفسه ورجليه، وإن أحب قطع طرفاً واحداً وأخذ دية الباقي وكذلك سائر فروعها لأن حكم القطع استقر قبل القتل بالاندمال فلم يتغير حكمه بالقتل الحادث بعده كما لو قتله أجنبي ولا نعلم خلافاً في هذا (فصل) فان اختلف الجاني والولي في اندمال الجرح قبل القتل وكانت المدة بينهما يسيرة لا يحتمل اندماله في مثلها فالقول قول الجاني بغير يمين، وإن اختلفا في مضي المدة فالقول قول الجاني مع يمينه لأن الأصل عدم مضيها، وان كانت المدة مما يحتمل البرء فيها فالقول قول الولي مع يمينه لأنه قد وجد سبب وجوب دية اليدين بقطعهما والجاني يدعي سقوط ديتهما بالقتل والأصل عدم ذلك، فإن كانت للجاني بينة ببقاء المجني عليه ضمناً حتى قتله حكم له ببينته، وإن كانت للولي ببرئه حكم له أيضاً فإن تعارضتا قدمت بينة الولي لأنها مثبتة للبرء ويحتمل أن يكون القول قول الجاني إذا لم يكن لهما بينة لأن الأصل بقاء الجراحة وعدم اندمالها، وإن قطع أطرافه فمات واختلفا هل برأ قبل الموت أو مات بسراية الجرح أو قال الولي إنه مات بسبب آخر كأن لدغ أو ذبح نفسه أو ذبحه غيره فالحكم فيما إذا مات بغير سبب كالحكم فيما إذا قتله سواء، وأما إذا مات بقتل أو سبب آخر ففيه وجهان (أحدهما) تقديم قول الجاني لأن الظاهر ابقاء الجناية والأصل عدم سبب آخر فيكون الظاهر معه (والثاني) القول قول ولي الجناية لأن الأصل بقاء الديتين اللتين وجد سببهما حتى يوجد ما يزيلهما

(9/408)


فإن كانت دعواهما بالعكس فقال الولي مات من سراية قطعك فعليك القصاص في النفس فقال الجاني بل اندملت جراحته قبل موته أو ادعى موته بسبب آخر فالقول قول الولي مع يمينه لأن الجرح سبب للموت وقد تحقق والأصل عدم الاندمال وعدم سبب آخر يحصل الزهوق به وسواء كان الجرح
مما يجب به القصاص في الطرف كقطع اليد من مفصل أو لا يوجبه كالجائفة والقطع من غير مفصل وهذا كله مذهب الشافعي (فصل) فإن قتل واحد جماعة فرضوا بقتله قتل لهم ولا شئ لهم سواه وجملة ذلك أنه إذا قتل واحد اثنين أو أكثر فاتفق أولياؤهم على قتله بهم قتل لهم لأن الحق لهم وقد رضوا به ولا شئ لهم سواه لأن الحق لا يتسع لأكثر من واحد فإن أراد أحدهم القود والآخرون الدية قتل لمن اختار القود وأعطي الباقون دية قتلاهم من مال القاتل سواء كان المختار للقود الأول أو الثاني أو من بعده وسواء قتلهم دفعة واحدة أو دفعتين أو دفعات فإن بادر أحدهم فقتله وجب للباقين دية قتلاهم في ماله أيهم كان وقال أبو حنيفة ومالك يقتل بالجماعة وليس لهم إلا ذلك فإن طلب بعضهم الدية فليس له وإن بادر أحدهم فقتله سقط حق الباقين لأن الجماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به فكذلك إذا قتلهم واحد قتل بهم كالواحد بالواحد وقال الشافعي لا يقتل إلا بواحد سواء

(9/409)


اتفقوا على الطلب للقصاص أو لم يتفقوا لأنه إذا كان لكل واحد استيفاء القصاص فاشتراكهم في المطالبة لا يوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق ولنا على أبي حنيفة قول النبي صلى الله عليه وسلم " فمن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقد " فظاهر هذا أن أهل كل قتيل يستحقون ما اختاروه من القتل أو الدية فإذا اتفقوا على القتل وجب لهم وإن اختار بعضهم الدية وجبت له بظاهر الخبر ولا نهما جنايتان لا تتداخلان إذا كانتا خطأ أو إحداهما فلم تتداخل في العمد كالجناية على الأطراف وقد سلموها ولنا على الشافعي أنه محل تعلقت به حقوق لا يتسع لها مع رضى المستحقين به عنها فيكتفى به كما لو قتل عبد عبيدا خطأ فرضي سيدهم بأخذه عنهم ولأنهم رضوا بدون حقهم فجاز كما لو رضي صاحب الصحيحة بالشلاء وولي الحر بالعبد والمسلم بالكافر وفارق ما إذا كان القتل خطأ فإن أرش الجناية يجب في الذمة والذمة تتسع لحقوق كثيرة وما ذكره أبو حنيفة ومالك فلا يصح لأن الجماعة إنما قتلوا بالواحد لئلا يؤدي الاشتراك إلى إسقاط القصاص تغليظاً للقصاص ومبالغة في الزجر وفي مسئلتنا
ينعكس هذا فإنه إذا علم أن القصاص واجب عليه بقتل واحد ولا يزاد بقتل الثاني والثالث بادر إلى قتل من يريد قتله فيصير هذا كإسقاط القصاص عنه ابتداء مع الدية (مسألة) (وإن تشاحوا فيمن يقتله منهم على الكمال اقيد للأول)

(9/410)


لأن حقه أسبق ولأن المحل صار مستحقاً له بالقتل الاول فان عفى ولي الأول فلولي الثاني قتله وإن طالب ولي الثاني قبل طلب الأول بعث الحاكم إلى ولي الأول فأعلمه، وإن بادر الثاني فقتله فقد أساء وسقط حق الأول إلى الدية فإن كان ولي الأول غائباً أو صغيراً أو مجنوناً انتظر، وإن عفى أولياء الجميع إلى الديات فلهم ذلك فإن قتلهم دفعة واحدة وتشاحوا في المستوفي أقرع بينهم فيقدم من تقع له القرعة لتساوي حقوقهم فإن بادر غيره فقتله استوفى حقه وسقط حق الباقين إلى الدية فإن قتلهم متفرقاً وأشكل الأول وادعى ولي كل واحد أنه الأول ولا بينة لهم فأقر القاتل لأحدهم قدم باقراره وإلا أقرعنا بينهم لاستواء حقوقهم.
(مسألة) (وان قتل وقطع طرفاً قطع طرفه أولاً ثم قتل لولي المقتول سواء تقدم القتل أو تأخر) وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك يقتل ولا يقطع لأنه إذا قتل تلف الطرف فلا فائدة في القطع فأشبه ما لو كان لواحد ولنا أنهما جنايتان على رجلين فلم تداخلا كقطع يدي رجلين وما ذكره من القياس لا يصح فإنه قد قال لو قطع يد رجل ثم قتله يقصد المثلة به قطع ونحن نوافقه على هذا في رواية فقد حصل الإجماع منا ومنه على التفاء التداخل في الأصل فكيف نقيس عليه؟ ولكنه ينقلب دليلاً عليه فنقول قطع وقتل فيستوفي منه مثل ما فعل كما لو فعله برجل واحد يقصد المثلة ويثبت الحكم في محل

(9/411)


النزاع بطريق التنبيه فإنه إذا لم يتداخل حق الواحد فحق الإثنين أولى ويبطل بهذا فانه ما فانه من المعنى (فصل) فأما إن قطع يد رجل ثم قتل آخر ثم سرى القطع إلى نفس المقطوع فمات فهو قاتل لهما فإذا تشاحنا في المستوفي لقتل قتل بالذي قتله لأن وجوب القتل عليه به أسبق فإن القتل بالذي قطعه
إنما وجب عند السراية وهي متأخرة عن قتل الآخر وأما القطع فان قلنا انه يستوفى منه مثل ما فعل فإنه يقطع له أولاً ثم يقتل للذي قتله ويجب للأول نصف الدية وإن قلنا لا يستوفى القطع وجبت له الدية كاملة ولم يقطع طرفه ويحتمل أن يجب له القطع على كل حال لأن القطع إنما يدخل في القتل عند استيفاء القتل فإذا تعذر استيفاء القتل وجب استيفاء الطرف لوجود مقتضيه وعدم المانع من استيفائه كما لو لم يسرف (فصل) وإن قطع أصبعا من يمين لرجل ويميناً لآخر وكان قطع الإصبع أسبق قطعت أصبعه قصاصاً وخير الآخر بين العفو إلى الدية وبين القصاص وأخذ دية الأصبع، ذكره القاضي وهو اختيار ابن حامد ومذهب الشافعي لأنه وجد بعض حقه فكان له استيفاء الموجود وأخذ بدل المفقود كمن أتلف مثلياً لرجل فوجد بعض المثل وقال أبو بكر يتخير بين القصاص ولا شئ له معه وبين الدية هذا قياس قوله وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يجمع في عضو واحد بين قصاص ودية كالنفس، وإن كان قطع اليد سابقاً على قطع الإصبع قطعت يمينه قصاصاً ولصاحب الإصبع أرشها ويفارق هذا ما إذا قتل رجلاً ثم قطع يد آخر حيث قدمنا استيفاء القطع مع تأخره لأن قطع اليد لا يمنع التكافؤ في النفس

(9/412)


بدليل أننا نأخذ كامل الأطراف بناقصها فإن ديتهما واحدة وبعض الإصبع يمنع التكافؤ في اليد بدليل أنا لا نأخذ الكاملة بالناقصة واختلاف ديتهما، وإن عفا صاحب اليد قطعت الاصبع لصاحبها إن اختار قطعها (مسألة) (وان قطع أيدي جماعة فحكمهم حكم القتل على ما ذكرنا من التفصيل والاختلاف) إلا أن أصحاب الراي قالوا إذا قطع يميني رجلين يقاد لهما جميعاً ويغرم لهما دية اليد في ماله نصفين وهذا لا يصح لأنه يفضي إلى إيجاب القود في بعض العضو والدية في بعضه والجمع بين البدل والمبدل في محل واحد ولم يرد الشرع به ولا نظير له يقاس عليه باب العفو عن القصاص أجمع أهل العلم على إجازة العفو عن القصاص وأنه أفضل والأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى في سياق قوله (كتب عليكم القصاص في القتلى) (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) وقال تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) الآية إلى قوله
(فمن تصدق به فهو كفارة له) قيل في تفسيره فهو كفارة للجاني بعفو صاحب الحق عنه وقيل فهو كفارة للعافي بصدقته.
وأما السنة فان أنس بن مالك قال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه من شئ فيه قصاص إلا أمر

(9/413)


فيه بالعفو رواه أبو داود، وفي حديثه في قصة الربيع بنت النضر حين كسرت سن جارية فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص فعفا القوم (مسألة) (والواجب بقتل أحد شيئين القصاص أو الدية في ظاهر المذهب والخيرة في ذلك إلى الولي إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا إلى غير شئ والعفو أفضل لما ذكرنا) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في موجب العمد فروي عنه أن موجبه القصاص عيناً لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من قتل عمداً فهو قود " ولقوله سبحانه (كتب عليكم القصاص) والمكتوب لا يتخير فيه ولأنه متلف يجب به البدل فكان معينا كسائر أبدال التلفات وبه قال النخعي ومالك وأبو حنيفة، قالوا ليس للأولياء إلا القتل إلا أن يصطلحا على الدية برضي الجاني، والمشهور في المذهب أن الواجب أحد شيئين وأن الخيرة في ذلك الى الولي إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن شاء قتل البعض إذا كان القاتلون جماعة لأن كل من لهم قتله فلهم العفو عنه كالمنفرد ولا يسقط القصاص عن البعض بعفو البعض لأنهما شخصان فلا يسقط القصاص عن أحدهما بإسقاطه عن الآخر كما لو قتل واحد رجلاً، ومتى اختار الأولياء أخذ الدية من القاتل أو من بعض القتلة فإن لهم هذا متى رضي الجاني وبهذا قال سعيد بن المسيب وابن سيرين وعطاء ومجاهد والشافعي واسحاق وأبو ثور وابن المنذر وهي رواية عن مالك لقول الله تعالى (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء

(9/414)


إليه بإحسان) قال ابن عباس كان في بني اسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية فانزل الله تعالى هذه الآية (كتب عليكم القصاص في القتلى) الآية، (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) والعفو أن يقبل في العمد الدية فاتباع بالمعروف يتبع الطالب بمعروف ويؤدى اليه المطلوب
بإحسان (ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) مما كتب على من قبلكم رواه البخاري، وروي أبو هريرة قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودى وإما أن يقاد " متفق عليه.
وروى أبو شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل " وأنا والله عاقله، فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية " رواه أبو داود وغيره ولأن القتل المضمون إذا سقط فيه القصاص من غير ابراء ثبت المال كما لو عفا بعض الورثة ويخالف سائر المتلفات لأن بدلها يجب من جنسها وههنا يجب في الخطأ وعمد الخطأ من غير الجنس فإذا رضي في العمد ببدل الخطأ كان له ذلك لأنه أسقط بعض حقه، ولأن القاتل أمكنه إحياء نفسه ببذل الدية فلزمة وينتقض ما ذكروه بما إذا كان رأس الشاج أصغر أو يد القاطع أنقص فإنهم سلموا فيهما، وأما الخبر الذي ذكروه فالمراد به وجوب القود ونحن نقول به وللشافعي قولان كالروايتين فإذا قلنا موجبه القصاص فله العفو إلى الدية والعفو مطلقاً فإذا عفا مطلقاً لم يجب شئ وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم تجب الدية لئلا يطل الدم وليس بشئ لأنه لو عفا عن الدية بعد وجوبها صح عفوه فمتى عفا عن القصاص مطلقاً إلى غير مال لم يجب شئ إذا قلنا الواجب القصاص عيناً، فإن عفا عن الدية لم يصح عفوه لأنها لم تجب وإن قلنا الواجب أحد شيئين لا بعينه فعفا عن

(9/415)


القصاص مطلقاً أو إلى الدية وجبت الدية لأن الواجب غير معين، فإذا ترك أحدهما تعين الآخر وان اختار الدية سقط القصاص ولم يملك طلبه لأن الواجب أحد شيئين فإذا تعين أحدهما سقط الآخر فان اختار القصاص تعين لذلك فإن اختار بعد ذلك العفو إلى الدية فله ذلك ذكره القاضي لأن القصاص أعلى فكان له الانتقال الى الأدنى ويكون بدلاً عن القصاص وليست التي وجبت بالقتل كما قلنا في الرواية الأولى أن الواجب القصاص عيناً وله العفو إلى الدية ويحتمل أنه ليس له ذلك لأنه أسقطها باختياره القود فلم يعد إليها عنه أن الواجب القصاص عيناً وله العفو الى الدية وإن سخط الجاني لما ذكرنا (فصل) إذا جنى عبد على حر جناية موجبة للقصاص فاشتراه المجني عليه بأرش الجناية سقط القصاص لأن عدو له الى الشراء اختيار للمال ولا يصح الشراء لأنهما إن لم يعرفا قدر الأرش فالثمن
مجهول وإن عرفا عدد الإبل وأسنانها فصفتها مجهولة والجهل بالصفة كالجهل بالذات في فساد البيع، ولذلك لو باعه شيئاً بحمل جذع غير معروف الصفة لم يصح فإن قدر الأرش بذهب أو فضة فباعه به صح (فصل) ومتى كان القصاص لمجنون أو لصغير لم يجز العفو إلى غير مال للولي لأنه لا يملك اسقاط حقه وقد ذكرناه.
(فصل) ويصح عفو المفلس والمحجور عليه لسفه عن القصاص لأنه ليس بمال، وإن أراد المفلس

(9/416)


القصاص لم يكن.
لغرمائه إجباره على تركه، وإن أحب العفو عنه الى مال فله ذلك لأن فيه حظاً للغرماء وإن اراد العفو إلى غير مال انبنى على الروايتين إن قلنا إن الواجب القصاص عيناً فله ذلك لأنه لم يثبت له مال يتعلق به حق الغرماء، وإن قلنا الواجب أحد شيئين لم يملكه لأن المال يجب بقوله عفوت عن القصاص فقوله على غير مال إسقاط له بعد وجوبه وتعينه ولا يملك ذلك وهكذا الحكم في السفيه ووارث المفلس، وإن عفا المريض على غير مال فذكر القاضي في موضع أنه يصح سواء خرج من الثلث أو لم يخرج وذكر أن أحمد نص على ذلك وقال في موضع يعتبر خروجه من ثلثه ولعله ينبني على الروايتين في موجب العمد على ما مضى (مسألة) (وإن مات القاتل وجبت الدية في تركته) لأنه تعذر استيفاء القصاص من غير إسقاط فوجبت الدية كقتل غير المكافئ وإن لم يخلف تركه سقط الحق لتعذر استيفائه (مسألة) (وان قطع أصبعا عمداً فعفا عنه ثم سرت إلى الكف أو النفس وكان العفو على مال فله تمام الدية وإن عفا على غير مال فلا شئ له على ظاهر كلامه ويحتمل أن له تمام الدية وإن عفا مطلقاً انبنى على الروايتين في موجب العمد)

(9/417)


وجملة ذلك أنه إذا جنى على إنسان فيما دون النفس جناية توجب القصاص كالأصبع فعفا عن القصاص ثم سرت الجناية الى نفسه فمات لم يجب القصاص وبه قال أبو حنيفة والشافعي وحكي عن مالك أن
القصاص يجب لأن الجناية صارت نفساً ولم يعف عنها ولنا أنه يتعذر استيفاء القصاص في النفس دون ما عفا عنه فسقط في النفس كما لو عفا بعض الأولياء ولأن الجناية إذا لم يكن فيها قصاص مع إمكانه لم يجب في سرايتها كما لو قطع يد مرتد فأسلم ثم مات منها ثم ينظر فإن كان عفا على مال فله الدية كاملة وإن عفا على غير مال وجبت الدية إلا أرش الجرح الذي عفا عنه وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة تجب الدية كاملة لأن الجناية صارت نفساً وحقه في النفس لا فيما عفا عنه وإنما سقط القصاص للشبهة، وإن قال عفوت عن الجناية لم يجب شئ لأن الجناية لا تختص القطع وقال القاضي فيما إذا عفا عن القطع ظاهر كلام أحمد ال لا يجب شئ وبه قال أبو يوسف ومحمد لأنه قطع غير مضمون فكذلك سرايته ولنا أنها سراية جناية أوجبت الضمان فكانت مضمونة كما لو لم يعف وإنما سقطت دينها بعفوه عنها فيختص السقوط بما عفا عنه دون غيره والعفو عنه عشر الدية لأن الجناية أوجبته فإذا عفا سقط ما وجب دون ما لم يجب فإذا صارت نفسا وجب بالسراية ما لم يعف عنه ولم يسقط أرش الجرح إذا لم يعف وإنما تكملت الدية بالسراية

(9/418)


(فصل) فإن كان الجرح لا قصاص فيه كالجائفة ونحوها فعفا عن القصاص فيه ثم سرى إلى النفس فلوليه القصاص لأن القصاص لم يجب في الجرح فلم يصح العفو عنه وإنما وجب القصاص بعد عفوه وله العفو عن القصاص وله كمال الدية، وان عفا عن دية الجرح صح وله بعد السراية دية النفس الارش الجرح، ولا يمتنع وجوب القصاص في النفس مع انه لا يجب كمال الدية بالعفو عنه كما لو قطع يداً فاندملت واقتص منها ثم انتقضت وسرت الى النفس فله القصاص في النفس وليس له العفو إلا على نصف الدية، فإن قطع يده من نصف الساعد فعفا عن القصاص ثم سرى فعلى قول أبي بكر لا يسقط قصاص في النفس لأن القصاص لم يجب فهو كالجائفة ومن جزر القصاص من الكوع اسقط القصاص في النفس كما لو كان القطع من الكوع، وقال المزني لا يصح العفو عن دية الجرح قبل اندماله فلو قطع يداً فعفا عن ديتها وقصاصها ثم اندملت لم تسقط ديتها وسقط قصاصها لأن القصاص قد وجب فيها فصح العفو
عنه بخلاف الدية ولا يصح لأن دية الجرح إنما وجبت بالجناية إذ هي السبب ولهذا لو جنى على طرف عبد ثم باعه قبل برثه كان أرش الطرف لبائعه لا لمشتريه وتأخير المطالبة به لا يلزم منه عدم الوجوب وامتناع صحة العفو كالدين المؤجل لا يملك المطالبة به ويصح اسقاطه كذا ههنا (فصل) وان قطع اصبعاً فعفا المجني عليه عن القصاص ثم سرت إلى الكف ثم اندمل لم يجب القصاص لما ذكرنا في النفس ولأن القصاص سقط في الاصبع بالعفو فصارت اليد ناقصة لا تؤخذ بها

(9/419)


الكاملة ثم إن كان العفو الى الدية وجبت دية اليد كاملة، وان كان على غير مال خرج فيه من الخلاف ما ذكرنا فيما إذا سرت الى النفس، فعلى هذا يجب ههنا دية الكف إلا دية الاصبع ذكره أبو الخطاب وهو مذهب الشافعي، وقال القاضي ظاهر كلام أحمد أنه لا يجب شئ وهو قول أبي يوسف ومحمد لأن العفو عن الجناية عفو عما يحدث منها وقد قال القاضي إن القياس فيما إذا قطع اليد ثم سرى إلى النفس أن يجب نصف الدية فيلزمه أن يقول مثل ذلك ههنا (فصل) فإن قال عفوت عن الجناية وما يحدث منها صح ولم يكن له في سرايتها قصاص، ولا دية في كلام أحمد (مسألة) (وإن قال الجاني عفوت مطلقاً أو عفوت عنها وعن سرايتها قال بل عفوت الى مال أو عفوت عنها دون سرايتها فالقول قول المجني عليه أو وليه إن كان الخلاف معه) لأن الأصل عدم العفو عن الجميع وقد ثبت العفو عن البعض باقراره فيكون القول في عدم سواء قوله (مسألة) (وإن قتل الجاني العافي عمداً فلوليه القصاص أو الدية كاملة وقال القاضي له القصاص أو تمام الدية) إذا قطع يده فعفا عنه ثم عاد الجاني فقتل العافي فلو ليه القصاص وهو ظاهر مذهب الشافعي، وقال بعضهم لا قصاص لان العفو حصل عن بعضه فلا يقتل به كما لو سرى القطع الى نفسه ولنا أن القتل انفرد عن القطع فعفوه عن القطع لا يمنع ما وجب بالقتل كما لو كان القاطع غيره

(9/420)


وان اختار الدية فقال القاضي إن كان العفو عن الطرف الى غير دية فله بالقتل نصف الدية وهو ظاهر
مذهب الشافعي لأن القتل إذا تعقب الجناية قبل الاندمال كان كالسراية ولذلك لو لم يعف لم يجب أكثر من دية والقطع يدخل في القتل في الدية دون القصاص، ولذلك لو أراد القصاص كان له أن يقطع ثم يقتل ولو صار الأمر الى الدية لم يجب إلا دية واحدة وقال أبو الخطاب له العفو الى دية كاملة وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن القطع منفرد عن القتل فلم يدخل حكم أحدهما في الآخر كما لو اندمل ولأن القتل موجوب للقتل فأوجب الدية كاملة كما لو لم يتقدمه عفو، وفارق السراية فإنها لم توجب قتلاً ولأن السراية عفي عن سببها والقتل لم يعف عن شئ منه ولا عن سببه وسواء فيما ذكرنا كان العافي عن الجرح أخذ دية طرفه أو لم يأخذها (مسألة) (وإذا وكل رجلا في القصاص ثم عفا ولم يعلم الوكيل حتى اقتص فلا شئ.
عليه وهل يضمن العافي؟ يحتمل وجهين ويتخرج أن يضمن الوكيل ويرجع به على الموكل في أحد الوجهين لأنه غره والآخر لا يرجع به ويكون الواجب حالاً في ماله، وقال أبو الخطاب يكون على عاقلته) إذا وكل من يستوفي القصاص صح نص عليه أحمد فإن وكله ثم غاب وعفا الموكل عن القصاص واستوفى الوكيل نظرنا فإن كان عفوه بعد القتل لم يصح لأنه حقه قد استوفي وإن كان قبله وقد علم الوكيل به فقد قتله ظلماً فعليه القود كما لو قتله ابتداء وإن كان قتله قبل العلم بعفو الموكل فقال أبو بكر لا ضمان

(9/421)


على الوكيل فإنه لا تفريط منه فإن العفو حصل على وجه لا يمكن الوكيل استدراكه فلم تلزمه ضمان كما لو عفا بعد ما رماه وهل يلزم الموكل الضمان؟ فيه قولان (أحدهما) لا ضمان عليه لأن عفوه لم يصح لما ذكرنا من حصوله في حال لا يمكنه استدراك الفعل فوقع القتل مستحقاً له فلم يلزمه ضمان ولأن العفو إحسان فلا يقتضي وجوب والضمان (والثاني) عليه الضمان لأن قتل المعفو عنه حصل بأمره وتسليطه على وجه لا ذنب المباشر فيه فكان الضمان على الآمر كما لو أمره عبده الأعجمي بقتل معصوم، وقال غير أبي بكر يخرج في صحة العفو وجهاز بناء على الروايتين وهل تعزل بعزل الموكل قبل علمه أو لا؟ وللشافعي قولان كالوجهين، فإن قلنا لا يصح العفو فلا ضمان على أحد لأنه قتل من يجب قتله بأمر مستحقه وإن قلنا يصح العفو فلا قصاص فيه لأن الوكيل
قتل من يعتقد إباحة قتله بسبب هو معذور فيه فأشبه ما لو قتل في دار الحرب من يعتقده حربيا وتجب الدية على الوكيل لأنه لو علم لوجب عليه القصاص فاذا لم يعلم تعلق به الضمان كما لو قتل مرتداً قبل علمه بإسلامه ويرجع بها على الموكل لأنه غره بتسليطه على القتل وتفريطه في ترك إعلامه بالعفو فيرجع عليه كالغار في النكاح بحرية أمه ويحتمل أن لا يرجع عليه، لأن العفو إحسان منه فلا يقتضي الرجوع عليه بخلاف الغار بالحرية، فعلى هذا تكون الدية في مال الوكيل اختاره القاضي وتكون حالة لأنه متعمد للقتل لكونه قصده وإنما سقط عنه القصاص لمعنى آخر فهو كقتل الأب، وقال أبو الخطاب

(9/422)


تكون على عاقلته لأنه أجري مجرى الخطا فأشبه ما لو قتل في دار الحرب مسلماً يعتقده حربياً، وهذا ظاهر كلام الخرقي لأنه ليس بعمد محض ولهذا لم يجب به القصاص فيكون عمدا لخطأ فتحمله العاقلة وهذا اختيار شيخنا وقد دل على ذلك خبر المرأة التي قتلت جارتها وجنينها بمسطح فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالدية على عاقلتها، فعلى قول القاضي أن كان الموكل عفا الى الدية فله الدية في تركة الجاني ولورثة الجاني مطالبة الوكيل بديته وليس للموكل مطالبة الوكيل بشئ، فإن قيل فلم قلتم فيما إذا كان القصاص لأخوين فقتله أحدهما فعليه نصف الدية ولأخيه مطالبته به في وجه؟ قلنا ثم أتلف حقه فرجع ببدله عليه ههنا أتلفه بعد سقوط حق الموكل عنه فافترقا، وإن قلنا أن الوكيل يرجع على الموكل احتمل أن يسقط الديتان لأنه لا فائدة في أن يأخذها الورثة من الوكيل ثم يدفعوها إلى الموكل ثم يردها الموكل الى الوكيل فيكون تكليفاً لكل واحد منهم بغير فائدة ويحتمل أن يجب ذلك، لأن الدية الواجبة في ذمة الوكيل لغير من للوكيل الرجوع عليه وإنما يتساقط الديتان إذا كان لكل واحد من الغريمين على صاحبه مثل ما له عليه ولأنه قد يكون الديتان مختلفتين بأن يكون أحد المقتولين رجلاً والآخر امرأة، فعلى هذا يأخذ ورثة الجاني ديته من الوكيل ويدفعون إلى الموكل دية وليه ثم يرد الموكل الى الوكيل قدر ما غرمه، وإن أحال ورثة الجاني على الوكيل صح فإن كان الجاني أقل دية مثل أن يكون امرأة قتلت رجلاً فقتلها الوكيل فلورثتها إحالة الموكل بديتها لأنه القدر الواجب لهم على الوكيل فيسقط عن الوكيل والموكل جميعاً

(9/423)


ويرجع الموكل على ورثتها بنصف دية وليه وإن كان الجاني رجلاً قتل امرأة فقتله الوكيل فلورثة الجاني إحالة الموكل بدية المرأة، لأن الموكل لا يستحق عليهم أكثر من ديتها ويطالبون الوكيل بنصف دية الجاني ثم يرجع به على الموكل.
(مسألة) (وإن عفا قاتله بعد الجرح صح وسواء عفا بلفظ العفو أو الوصية) لأن الحق له فصح العفو عنه كما له وممن قال بصحة عفو المجروح عن دمه مالك وطاوس والحسن وقتادة والاوزاعي فإن قال عفوت عن الجناية وما يحدث منها ولم يكن له في سرايتها قصاص ولا دية في كلام أحمد، وقال أصحاب الشافعي إذا قال عفوت عن الجناية وما يحدث منها ففيه قولان (أحدهما) أنه وصية فينبني على الوصية للقاتل وفيه قولان (أحدهما) لا يصح فتجب دية النفس إلا دية الجرح (والثاني) يصح فإن خرج من الثلث سقطت وإلا سقط منها بقدر الثلث ووجب الباقي (والقول الثاني) ليس بوصية لأنه إسقاط في الحياة فلم يصح ويلزمه دية النفس إلا دية الجرح ولنا أنه أسقط حقه بعد انعقاد سببه فسقط كما لو أسقط الشفعة بعد البيع، إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يخرج من الثلث أو لا يخرج لأن موجب العمد القود في إحدى الروايتين أو أحد شيئين في الرواية الأخرى فما تعينت الدية ولا تعينت الوصية بمال ولذلك صح العفو من المفلس إلى غير مال، وأما جناية الخطأ فإذا عفا عنها ويحدث منها اعتبر خروجها من الثلث سواء عفا بلفظ العفو أو الوصية أو

(9/424)


الابراء أو غير ذلك، فإن خرجت من الثلث صح عفوه عن الجميع وإن لم تخرج من الثلث سقط عنه من ديتها ما احتمله الثلث وبهذا قال مالك والثوري وأصحاب الرأي ونحوه قال عمر بن عبد العزيز والاوزاعي وإسحاق لأن الوصية ههنا بمال (مسألة) (وإن ابرأه من الدية أو وصي له بها فهي وصية لقاتل هل تصح لقاتل؟ على روايتين) (إحداهما) تصح لكونها له لأنها بدل عنه وتعتبر من الثلث كبقية أمواله هكذا ذكره في كتاب المقنع ولم يفرق بين العمد والخطأ والذي ذكره في كتاب المغني ما ذكر في التي قبل هذه المسألة (مسألة) (ولا يحتمل أن يصح عفوه عن المال ولا وصية، به لقاتل ولا غيره إذا قلنا انه
يحدث على ملك الورثة لأنه يكون مال غيره فلم يكن له التصرف فيه كسائر أموال الورثة) (مسألة) (وإن أبرأه القاتل من الدية الواجبة على عاقلته أو العبد من الجناية المتعلق أرشها برقبته لم يصح) لأنه أبرأه من حق على غيره أشبه ما لو أبرأ زيداً من دين على عمرو، وإن أبرأ العاقلة أو السيد صح لأنه أبرأهما من حق عليهما فصح كالدين الواجب عليهما (مسألة) (وان وجب لعبد قصاص في الطرف أو جرح أو تعزير قذف فله طلبه والعفو عنه) لأنه مختص به وليس ذلك لسيده لانه ليس يحق له إلا أن يموت العبد فإذا مات العبد انتقل عنه إلى السيد وصح عفوه عنه.

(9/425)


باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس كل من أقيد بغيره في النفس أقيد به فيما دونها ومن لا فلا لأن النفس أعلى فإذا أقيد في الأعلى ففي الأدنى بطريق الاولى وعنه لا قصاص بين العبيد في الأطراف لأنها أموال وقد ذكرناه والمذهب الأول، ومن لا يجري القصاص بينهما في الطرف كالأب مع ابنه والحر مع العبد والمسلم مع الكافر فلا يقطع طرفه بطرفه لعدم المكافأة فيقطع الحر المسلم بالحر المسلم والعبد بالعبد والذمي بالذمي والذكر بالأنثى والأنثى بالذكر ويقطع الناقص بالكامل كالعبد بالحر والكافر بالمسلم وبهذا قال مالك والثوري والشافعي وأبو ثور وإسحاق وابن المنذر وقال أبو حنيفة لا قصاص في الطرف بين مختلفي البدل فلا يقطع الكامل بالناقص والا الناقص بالكامل ولا الرجل بالمرأة ولا المرأة بالرجل ولا الحر بالعبد ولا العبد بالحر ولا العبد بالعبد ويقطع المسلم بالكافر والكافر بالمسلم لأن التكافؤ معتبر في الأطراف بدليل أن الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء ولا الكاملة بالناقصة فلذا لا يؤخذ طرف الرجل بطرف المرأة ولا طرفها بطرفه كما لا تؤخذ اليسرى باليمنى ولنا أن من جرى القصاص بينهما في النفس جرى في الطرف كالحرين وما ذكروه يبطل بالقصاص في النفس فإن التكافؤ معتبر بدليل أن المسلم لا يقتل بمستأمن يلزمه أن يأخذ الناقصة بالكاملة لأن

(9/426)


المماثلة قد وجدت وزيادة فوجب أخذها بها إذا رضي المستحق كما تؤخذ ناقصة الأصابع بكاملة الأصابع
وأما اليسار واليمنى فيجريان مجرى النفسين لاختلاف محلبهما ولهذا يستوي بدلهما فعلم أنها ليست بناقصة عنها شرعاً ولا العلة فيهما ذلك (مسألة) (ولا يجب إلا بمثل الموجب في النفس وهو العمد المحض كما لا يجب في النفس إلا بذلك ووجوب القصاص فيما دون النفس والأطراف إذا أمكن ثابت بالنص والإجماع) أما النص فقول الله تعالى (والجروح قصاص) وقوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين) الآية.
وروى أنس بن مالك أن الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية فعرضوا عليهم الإرش فأبوا إلا القصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال يا رسول الله نكسر ثنية الربيع؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " يا أنس كتاب الله القصاص " فإن فعفا القوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " متفق عليه.
وأجمع المسلمون على جريان القصاص فيما دون النفس إذا أمكن ولأن ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى حفظه بالقصاص فكان كالنفس في وجوبه.
(فصل) فأما الخطأ فلا قصاص فيه إجماعاً لأنه لا يوجب القصاص في النفس وهي الأصل ففيما

(9/427)


دونها أولى ولا يجب في شبه العمد وهو أن يقصد ضربه بما لا يفضي إلى ذلك غالباً مثل أن يضربه بحصاة لا يوضح مثلها فتوضحه فلا يجب به القصاص لأنه شبه عمد ولا يجب القصاص إلا بالعمد المحض وقال أبو بكر يجب به القصاص ولا يراعى فيه ذلك لعموم الآية والصحيح الأول والآية مخصوصة بالخطأ فكذلك هذا ولأنه لا يجب به القصاص في النفس فكذلك الجراح (مسألة) (وهو نوعان) (أحدهما) الأطراف فتؤخذ العين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجفن بالجفن والشفة بالشفة واليد باليد والرجل بالرجل أجمع أهل العلم على جريان القصاص في الأطراف وقد ثبت ذلك بالآية وبخبر الربيع الذي ذكرناه (مسألة) (ويشترط للقصاص في الطرف ثلاثة شروط (أحدهما) أن يكون القطع من مفصل أو له حد ينتهي إليه كما أن الأنف وهو ما لان منه فإن قطع القصبة أو قطع من نصف الساعد أو الساق فلا
قصاص في أحد الوجهين وفي الآخر يقتص من حد المارن ومن الكوع والكعب وهل يجب له أرش الباقي؟ على وجهين أجمعوا على جريان القصاص في الأنف للآية والمعنى ويؤخذ الكبير بالصغير والاقنى بالأفطس وأنف الأشم بأنف الأخشم الذي لا شم له لأن ذلك لعلة في الدماغ والأنف صحيح كما تؤخذ أذن السميع بأذن الأصم فإن

(9/428)


كان بأنفه جذام أخذ به الأنف الصحيح ما لم يسقط منه شئ لأن ذلك مرض فإن سقط منه شئ لم يؤخذ به الصحيح إلا أن يكون من أحد جانبيه فيؤخذ من الصحيح مثل ما بقي منه أو يأخذ أرش ذلك والذي يجب فيه القصاص أو الدية هو المارن وهو ما لان منه دون القصبة لأن ذلك حد ينتهي إليه فهو كاليد يجب القصاص فيما انتهى الى الكوع فإن قطع الأنف كله مع القصبة فعليه القصاص في المارن وحكومة للقصبة هذا قول ابن حامد ومذهب الشافعي، وفيه وجه آخر انه لا يجب مع القصاص حكومة كيلا يجمع في عضو واحد بين قصاص ودية وقياس قول أبي بكر أنه لا يجب القصاص ههنا لأنه يضع الحديدة في غير الموضع الذي وضعها الجاني فيه فلم يملك ذلك لقوله فيمن قطع اليد من نصف الذراع أو الكف: وذكر القاضي ههنا كقول ابي بكر وفي نظائره مثل قول ابن حامد ولا يصح التفريق مع التساوي، وان قطع بعض الأنف قدر بالأجزاء وأخذ منه بقدر ذلك ولا يؤخذ بالمساحة لئلا يفضي إلى قطع جميع أنف الجاني ببعض أنف المجني عليه لكبره ويؤخذ المنخر الأيمن بالأيمن والأيسر بمثله ويؤخذ الحاجز بالحاجز لأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى حد (فصل) وتؤخذ العين بالعين للآية ولا يشترط التساوي في الصغر والكبر والصحة والمرض لأن اعتبار ذلك يفضي إلى سقوط القصاص بالكلية

(9/429)


(فصل) وتؤخذ الأذن بالأذن، أجمع أهل العلم على أن الأذن تؤخذ بالأذن وقد دلت الآية على ذلك ولأنها تنتهي إلى حد فاصل فاشبهت اليد وتؤخذ الكبيرة بالصغيرة وتؤخذ أذن السميع بمثلها وبأذن الأصم وتؤخذ أذن الأصم بكل واحد منهما لتساويهما فإن ذهاب السمع نقص في الرأس لأنه
محله وليس بنقص فيهما وتؤخذ الصحيحة بالمثقوبة لأن الثقب ليس بعيب وإنما يفعل في العادة للقرط والتزين به فإن كان الثقب في غير محله أو كانت مخرومة أخذت بالصحيحة ولم تؤخذ الصحيحة بها لأن الثقب إذا انخرم صار نقصاً فيها والثقب في غير محله عيب ويخير المجني عليه بين أخذ الدية إلا قدر النقص وبين أن يقتص فيما سوى المعيب ويتركه من أذن الجاني وقد وجوب الحكومة له في قدر النقص وجهان، وإن قطعت بعض اذنه فله أن يقتص من أذن الجاني بقدر ما قطع من أذنه ويقدر ذلك بالأجزاء فيؤخذ النصف بالنصف وعلى حسب ذلك، وقال بعض أصحاب الشافعي لا يجري القصاص في البعض لأنه لا ينتهي الى حد ولنا أنه يمكن تقدير المقطوع وليس فيها كسر عظم فجرى القصاص في بعضها كالذكر وبهذا ينتقض ما ذكروه (فصل) ونؤخذ الاذن المستخشفة بالصحيحة، وهل تؤخذ الصحيحة بها؟ فيه وجهان (أحدهما) لا تؤخذ بها لأنها ناقصة معيبة فلم تؤخذ بها الصحيحة كاليد الشلاء وسائر الاعضاء

(9/430)


(والثاني) تؤخذها بها لأن المقصود منها جمع الصوت وحفظ محل السمع والجمال، وهذا يحصل بها كحصوله بالصحيحة بخلاف سائر الأعضاء (فصل) فإن قطع أذنه فأبانها فألصقها صاحبها فالتصقت وثبتت فقال القاضي يجب القصاص وهو قول الثوري والشافعي وإسحاق لأنه وجب بالإبانة وقد وجدت، وقال أبو بكر لا قصاص فيها وهو قول مالك لا نها لم تبن على الدوام فلم يستحق إبانة أذن الجاني دواماً فإن سقطت بعد ذلك قريباً أو بعيداً فله القصاص ويرد ما أخذ وعلى قول أبي بكر إذا لم تسقط له دية الأذن وهو قول أصحاب الرأي، وكذلك قول الأولين إذا اختار الدية وقال مالك لا عقل لها إذا عادت مكانها فأما إن قطع بعض أذنه فالتصق فله أرش الجرح ولا قصاص فيه، وإن قطع أذن إنسان فاستوفى منه فألصق الجاني أذنه فالتصقت فطلب المجني عليه إبانتها لم يكن له ذلك لأن الإبانة قد حصلت والقصاص قد استوفى فلم يبق قبله حق فأما إن كان المجني عليه لم يقطع جميع الأذن إنما قطع بعضها فالتصق كان للمجني عليه قطع جميها لأنه استحق إبانة جميعها ولم يكن أبانه والحكم في السن كالحكم في الأذن
(فصل) ومن ألصق أذنه بعد إبانتها أو سنة فهل تلزم إبانتها؟ فيه وجهان مبنيان على الروايتين فيما بإن من الآدمي هل هو نجس أو طاهر؟! إن قلنا هو نجس لزمته إزالتها ما لم يخف الضرر بذلك كما لو جبر ساقه بعظم نجس، وإن قلنا بطهارتها لم تلزمه إزالتها اختاره أبو بكر.
وهو قول عطاء بن

(9/431)


أبي رباح وعطاء الخراساني وهو الصحيح لأنه جزء آدمي طاهر في حياته وموته فكان طاهراً كحالة اتصاله فأما إن قطع بعض أذنه فالتصقت لم يلزمه إبانتها على الروايتين جميعاً لأنها لم تصر ميتة لعدم إبانتها ولا قصاص فيها قاله القاضي وهذا مذهب الشافعي لأنه لا تمكن المماثلة في المقطوع منها (مسألة) (وتقطع العين بالعين) إجتمع أهل العلم على القصاص في العينين يروي ذلك عن مسروق والحسن وابن سيرين والشعبي والزهري والثوري ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي، وروي عن علي رضي الله عنه لقول الله تعالى (والعين بالعين) ولأنها تنتهي إلى مفصل فجرى القصاص كاليد وتؤخذ عين الشاب بعين الشيخ المريضة وعين الكبير بعين الصغير والأعمش ولا تؤخذ الصحيحة بالقائمة لأنه يأخذ أكثر من حقه وتؤخذ القائمة بالصحيحة لأنها دون حقه كما تؤخذ الشلاء بالصحيحة ولا أرش له معها لأن التفاوت في الصفة (فصل) فإن قلع عينه بأصبعه لم يجز أن يقتص بأصبعه لأنه لا تمكن المماثلة فيه فإن لطمه فأذهب ضوء عينه لم يجز أن يقتص منه باللطمة لأن المماثلة فيها غير ممكنة ولهذا لو انفردت من إذهاب الضوء لم يجب فيها قصاص ويجب القصاص في البصر فيعالجه بما يذهب بصره من غير أن يقلع عينه وسنذكر ذلك وذكر القاضي أنه يقتص منه بالطمة فيلطمه المجني عليه مثل لطمته فإن ذهب ضوء عينه وإلا كان له أن يذهبه بما نذكره وهو مذهب الشافعي ولا يصح هذا فإن اللطمة لا يقتص منها منفردة فلا يقتص منها

(9/432)


إذا سرت إلى العين كالشجة دون الموضحة ولان الطمة إذا لم تكن في العين لا يقتص منها بمثلها مع الأمن من إفساد العضو ففي العين مع وجود ذلك أولى ولأنه قصاص فيما دون النفس فلم يجز بغير الآلة المعدة له كالموضحة، وقال القاضي لا يجب القصاص إلا أن تكون اللطمة تذهب بذلك غالباً فإن كانت
لا تذهب بالنظر غالباً فذهبت بها فهو شبه عمد لا قصاص فيه وهو قول الشافعي لأنه فعل لا يفضي إلى الفوات غالباً فلم يجب به القصاص بكل حال لعموم قوله تعالى (والعين بالعين) ولان الطمة إذا أسالت العين كانت بمنزلة الجرح ولا يعتبر فيه الإفضاء الى التلف غالباً (فصل) فإن لطم عينه فذهب بصرها أو ابيضت وشخصت فإن أمكن معالجة عين الجاني حتى يذهب بصرها وتبيض وتشخص من غير جناية على الحدقة فعل ذلك وإن لم يمكن إلا ذهاب بعض ذلك مثل ذهاب البصر دون أن تبيض وتشخص فعليه حكومة للذي لم يمكن القصاص فيه كما لو جرحه هاشمة فإنه يقتص موضحة ويأخذ ارش باقي جرحه، وعلى قول أبي بكر لا يستحق مع القصاص أرش قال القاضي إذا لطمه مثل لطمته فذهب ضوء عينه ولم تبيض ولم تشخص فإن أمكن معالجتها حتى تبيض وتشخص من غير ذهاب الحدقة فعله فإن تعذر ذلك فلا شئ عليه كما لو اندملت موضحة المجني عليه وحشة قبيحة وموضحة الجاني حسنة جميلة لم يجب شئ كذلك ههنا وبناء هذا على أن اللطمة حصل بها القصاص كما حصل بجرح الموضحة وقد بينا فساد هذا

(9/433)


(مسألة) (ويؤخذ السن بالسن) وهو إجتماع أهل العلم للآية وحديث الربيع ولأن القصاص فيها ممكن لأنها محدودة في نفسها وتؤخذ الصحيحة بالصحيحة والمكسورة بالصحيحة لأنه يأخذ بعض حقه وهل له أرش الباقي؟ فيه وجهان ذكرناهما (فصل) ولا يقتص إلا من سن من اثغر أي سقطت رواضعه ثم نبتت يقال لمن سقطت رواضعه ثغر فهو مثغور فإذا نبتت قيل اثغر واتغر لغتان، وإن قلع سن من لم يثغر لم يقتص من الجاني في الحال وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الراي لأنها تعود بحكم العادة فلا يقتص منها كالشعرة، فإن عاد بدل السن في محلها مثلها على صفتها فلا شئ على الجاني كما لو قلع شعره ثم نبت، وإن عادت مائلة عن محلها او متغيرة عن صفتها كان عليه حكومة لأنها لو لم تعد ضمن السن فإذا عادت ناقصة ضمن ناقص وإن عادت قصيرة ضمن ما نقص بالحساب ففي ثلثها ثلث ديتها وعلى هذا الحساب، وإن عادت والدم يسيل ففيها حكومة لأنه نقص
حصل بفعله، وإن مضى زمن عودها ولم تعد سئل أهل العلم بالطب فإن قالوا قد يئس من عودها فالمجني عليه مخير بين القصاص أو الدية، فإن مات المجني عليه قبل الإياس من عودها فلا قصاص لأن الاستحقاق له غير متحقق فيكون ذلك شبهة في درئه وتجب الدية لأن القلع موجود والعود مشكوك فيه ويحتمل أنه إذا مات قبل مجئ وقت عودها أن لا يجب شئ لأن العادة عودها فأشبه ما لو حلق شعره فمات قبل

(9/434)


نباته، فأما ان قلع سن من قد أثغر وجب القصاص له في الحال لأن الظاهر عدم عودها وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وقال القاضي يسئل أهل الخبرة فإن قالوا لا تعود فله القصاص في الحال وإن قالوا يرجى عودها إلى وقت ذكروه لم يقتص حتى يأتي ذلك الوقت وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لأنها تحتمل العود فأشبهت سن من لم يثغر.
إذا ثبت هذا فإنها إن لم تعد فلا كلام وإن عادت لم يجب قصاص ولا دية وهذا قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يسقط الأرش لأن هذه السن لا تستخلف عادة فإذا عادت كانت هبة مجددة ولذلك لا ينتظر عودها في الضمان ولنا أنها سن عادت فسقط الأرش كسن من لم يثغر وندرة وجودها لا يمنع ثبوت حكمها إذا وجدت فعلى هذا إن كان أخذ الأرش رده وإن كان استوفى القصاص لم يجز قلع هذه قصاصاً لأنه لم يقصد العدوان، وإن عادت سن الجاني دون من المجني عليه لم تقلع في أحد الوجهين لئلا يأخذ سنين بسن وإنما قال الله تعالى (السن بالسن) والثاني تقلع وإن عادت مرات اعدم سنه بالقلع فكان له اعدام سنة ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين (فصل) فإن قلع سنا فاقتص منه ثم عادت سن المجني عليه فقلعها الجاني ثانية فلا شئ عليه لأن سن المجني عليه لما عادت وجب للجاني عليه دية سنة فلما قلعها وجب على الجاني ديتها للمجني عليه فقد وجب لكل واحد منهما دية سن فيتقاصان

(9/435)


(مسألة) (ويؤخذ الجفن بالجفن) لقوله تعالى والجروح قصاص ولأنه يمكن الاقتصاص فيه لانتهائه إلى مفصل وهذا مذهب الشافعي
ويؤخذ جفن البصير بمثله وبجفن الضرير ويؤخذ جفن الضرير بمثله وبجفن البصير لأنهما تساويا في السلامة من النقص وعدم البصير نقص في غيره لا يمنع أخذ أحدهما بالآخر كأذن الأصم (مسألة) (وتؤخذ الشفة بالشفة) وهي ما جاوز الذقن والخدين علواً وسفلاً لقول الله تعالى والجروح قصاص ولأن لها حداً تنتهي اليه يمكن القصاص منه فوجب كاليدين (فصل) ويؤخذ اللسان باللسان للآية ولأن له حدا ينتتهي اليه فاقتص منه كالعين ولا نعلم في هذا خلافاً ولا يؤخذ لسان ناطق بأخرس لأنه أفضل منه ويؤخذ الأخرس بالناطق لأنه دون حقه ويؤخذ بعض اللسان بالبعض لأنه أمكن القصاص في جميعه فأمكن في بعضه كالسن ويقدر ذلك بالأجزاء ويؤخذ منه بالحساب (مسألة) (وتؤخذ اليد باليد) لقول الله تعالى (والجروح قصاص) وقد أجمع أهل العلم على جريان القصاص في الأطراف للآية ولحديث الربيع ويشترط لذلك ثلاثة شروط

(9/436)


(أحدها) (1) الأمن من الحيف وهو أن يكون القطع من مفصل فإن كان من غير مفصل فلا قصاص فيه من موضع القطع بغير خلاف نعلمه لما روى نمر بن جابر عن أبيه أن رجلاً ضرب رجلاً على ساعده بالسيف فقطعها من غير مفصل فاستعدى عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأمر له بالدية فقال أني أريد القصاص فقال " خذ الدية بارك الله لك فيها " ولم يقض له بالقصاص رواه ابن ماجه.
وفي قطع اليد ثمان مسائل (أحدها) قطع الأصابع من مفاصلها فالقصاص واجب فيها لأن لها مفاصل ويمكن القصاص فيها من غير حيف وان اختار الدية فله نصفها لأن في كل اصبع عشر الدية (الثانية) قطعها من نصف الكف فليس له القصاص من موضع القطع لأنه ليس بمفصل فلا يؤمن الحيف فيه، وإن أراد قطع الأصابع ففيه وجهان (أحدهما) ليس له ذلك اختاره أبو بكر لأنه يقتص من غير موضع الجناية فلم يجز كما لو كان
القطع، من الكوع، يحققه أن امتناع قطع الأصابع إذا قطع من الكوع إنما كان لعدم المقتضي أو وجود مانع وايهما كان فهو متحقق إذا كان القطع من نصف الكف (والثاني) له قطع الأصابع ذكره أصحابنا وهو مذهب الشافعي لأنه يأخذ دون حقه لعجزه عن استيفاء حقه فأشبه ما لو شجه هاشمة فاستوفى موضحة، ويفارق ما إذا قطع من الكوع لأنه أمكنه استيفاء حقه فلم يجز العدول الى غيره وهل له حكومة في نصف الكف؟ فيه وجهان

(9/437)


(أحدهما) ليس له ذلك لأنه يجمع بين القصاص والأرش في عضو واحد فلم يجز كما لو قطع من الكوع (والثاني) له أرش نصف الكف لانه حق تعذر استيفاؤه فوجب ارشه كسائر ما هذا حاله، وان اختار الدية فله نصفها لأن قطع اليد من الكوع لا يوجب أكثر من نصف الدية فما دونه أولى (الثالثة) قطع من الكوع فله قطع يده من الكوع لأنه مفصل وليس له قطع الأصابع لأنه غير محل الجناية ولا يستوفى منه مع امكان الاستيفاء من محلها (الرابعة) قطع من نصف الذارع فليس له أن يقطع من ذلك الوضع ليس بمفصل وقد ذكرنا الخبر الوارد فيه وله نصف الدية وحكومة في المقطوع من الذراع وهل له القطع من الكوع؟ فيه وجهان كما ذكرنا فيمن قطع من نصف الكف، ومن جوز القطع من الكوع فعنده في وجوب الحكومة لما قطع من الذراع وجهان، ويخرج أيضاً في جواز قطع الأصابع وجهان فإن قطع منها لم يكن له حكومة في الكف لأنه أمكنه أخذه قصاصاً فلم يكن له طلب أرشه كما لو كانت الجناية من الكوع (الخامسة) قطع من المرفق فله القصاص منه لأنه مفصل وليس له القطع من الكوع لأنه أمكنه استيفاء حقه بكماله والاقتصاص من محل الجناية عليه فلم يجز العدول الى غيره، وان عفا الى الدية فله دية اليد وحكومة للساعد (السادسة) قطعها من العضد فلا قصاص فيها في أحد الوجهين وله دية اليد وحكومة للساعد

(9/438)


وبعض العضد (والثاني) له القصاص من المرفق وهل له حكومة في الزائد؟ على وجهين، وهل له القطع من الكوع؟ يحتمل وجهين
(السابعة) قطع من المنكب فالواجب القصاص لأنه مفصل إذا لم يخف جائفة وان اختار الدية فله دية اليد وحكومة لما زاد (الثامنة) خلع عظم المنكب ويقال له مشط الكتف فيرجع فيه إلى اثنين من ثقات أهل الخبرة فإن قالوا، يمكن الاستيفاء من غير أن تصير جائفة استوفى وإلا صار الأمر إلى الدية وفي جواز الاستيفاء من المرفق أو إما دونه مثل ما ذكرنا في نظائره، ومثل هذه المسائل في الرجل فالساق كالذراع، والفخذ كالعضد والورك كعظم الكتف، والقيام كالكف، فتقاس عليها للنص والمعنى (مسألة) (ويؤخذ كل واحد من الأصابع والكف والمرفق والذكر والانثيين بمثله) لقوله تعالى (والجروح قصاص) ولما ذكرنا في اليد باليد ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في ان القصاص يجري في الذكر ولأن له حداً ينتهي اليه ويمكن القصاص فيه من غير حيف فوجب فيه القصاص كالأنف ويستوي في ذلك ذكر الصغير والكبير والشيخ والشاب والذكر والكبير والصغير والصحيح والمريض لأن ما وجب فيه القصاص من الأطراف لم يختلف بهذه المعاني كذلك الذكر، ويؤخذ كل واحد من المجبوب والأغلف بصاحبه لأن الغلفة زيادة يستحق إزالهتا فهي كالمعدومة ويؤخذ كل واحد من الخصي

(9/439)


والعنين بمثله التساويهما كما يؤخذ العبد بالعبد والذمي بالذمي، ويؤخذ بعضه ببعض ويعتبر بالأجزاء دون المساحة فيؤخذ النصف بالنصف وما زاد ونقص فحساب ذلك كالأنف والأذن على ما ذكرناه (مسألة) (ويجري القصاص في الانثيين لما ذكرنا من النص والمعنى) ولا نعلم فيه خلافا فإن قطع احداهما وقال اهل الخبرة أنه يمكن أخذها مع سلامة الأخرى جاز وان قالوا لا يؤمن تلف الأخرى لم يقتص منها خشية الحيف ويجب فيها نصف الدية وإن أمن تلف الأخرى أخذت اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى كاليدين (مسألة) (وهل يجري القصاص في الالية والشفر؟ على وجهين) يجب في القصاص الأليين النابتين بين الفخذ والظهر بجانبي الدبر في أحد الوجهين وهو ظاهر مذهب الشافعي والوجه الثاني لا يجب وهو قول المزني لأنهما لحم متصل بلحم.
أشبه لحم الفخذ، ووجه الأول
قوله تعالى (والجروح قصاص) ولأن لهما حداً ينتهيان إليه فجرى القصاص فيهما كالذكر (مسألة) (وفي القصاص في شفري المرأة وجهان) (أحدهما) لا قصاص فيهما لأنه لحم لا مفصل له ينتهي اليه فأشبه لحم الفخذين وهو قول القاضي (والثاني) فيهما القصاص لأن انتهاءهما معروف فأشبها الشفتين وجفني العينين وهو قول أبي الخطاب ولا أصحاب الشافعي وجهان كهذين

(9/440)


(فصل) فإن قطع ذكر خنثى مشكل أو أنثييه أو شفريه فطلب القصاص لم يجب إليه في الحال ونقف الأمر حتى تبين حاله لأننا لا نعلم أن المقطوع عضو أصلي وان اختار الدية وكان يرجى انكشاف حاله أعطيناه اليقين وتكون له حكومة في المقطوع وإن كان قطع جميعها فله دية امرأة في الشفرين وحكومة في الذكر والأنثيين وإن يئس من انكشاف حاله أعطي نصف دية الذكر والأنثيين ونصف دية الشفرين وحكومة في نصف ذلك كله (مسألة) (وإذا وضح إنساناً فذهب ضوء عينه أو سمعه أو شمه فإنه يوضحه فإنه جرح يمكن الاقتصاص منه من غير حيف) لانه له حداً ينتهي اليه ثم إن ذهب ذلك والا استعمل فيه ما يذهبه من غير أن يجني على حدقته أو أذنه او أنفه لأنه يستوفي حقه من غير زيادة فيعالج بما يذهب بصره من غير أن يقلع عينه كما روى يحيى بن جعدة أن أعرابياً قدم بجلوبة له الى المدينة فساومه فيها مولى لعثمان رضي الله عنه فنازعه فلطمه ففقأ عينه فقال له عثمان: هل لك أن اضعف لك الدية وتعفو عنه؟ فأبى فرفعهما إلى علي رضي الله عنه فدعا علي بمرآة فأحماها ثم وضع القطن على عينه الأخرى ثم أخذ المرآة بكلبتين فأدناها حتى سال إنسان عينه، وإن وضع فيها كافوراً يذهب بضوئها من غير أن يجبني على الحدقة جاز، وكذلك السمع والشم، وإن لم يمكن الا بالجناية على هذه الأعضاء سقط القصاص لتعذر المماثلة ولأن توهم الزيادة يسقط القود فحقيقته أولى

(9/441)


(فصل) وإن شجه دون الموضحة فأذهب ضوء عينه لم يقتص منه مثل شجته بغير خلاف علمناه لأنها لا قصاص فيها إذا لم يذهب ضوء العين فكذلك إذا ذهب ويعالج ضوء العين بمثل لما ذكرنا فإن كانت الشجة فوق الموضحة فله أن يقتص موضحة فإن ذهب ضوء العين والا استعمل فيه ما يزيله من غير أن يجبني على الحدقة، واختلف أصحاب الشافعي في القصاص في البصر في هذه المواضع فقال بعضهم لا قصاص فيه لأنه لا يجب بالسراية عندهم كما لو قطع اصبعه فسرى القطع إلى التي تليها فأذهبها وقال بعضهم يجب القصاص ههنا قولاً واحداً لأن ضوء العين لا تمكن مباشرته بالجناية فيقتص منه بالسراية كالنفس فيقتص من البصر بما ذكرنا في مثل هذا (فصل) (الشرط الثاني في المماثلة في الموضع) فيؤخذ كل واحدة من اليمنى واليسرى والعليا والسفلى من الشفتين والاجفان بمثلها لأن القصاص يعتمد المماثلة هذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وحكى عن ابن سيرين وشريك أن احداهما تؤخذ بالأخرى لاستوائهما في الخلقة والمنفعة ولنا أن كل واحدة منهما تختص باسم فلا تؤخذ احداهما بالأخرى كاليد مع الرجل، وكذلك كل ما انقسم الى يمين ويسار كاليدين والرجلين والاذنين والمنخرين والثديين والاليتين والانثيين لا تؤخذ احداهما بالأخرى، وكذلك كل ما انقسم الى أعلى وأسفل كالجفنين والشفتين لا يؤخذ الأعلى بالأسفل ولا الأسفل بالأعلى لذلك

(9/442)


(مسألة) (وتؤخذ الأصبع والسن والأنملة بمثلها في الموضع والاسم ولا تؤخذ أنملة بأنملة إلا أن يتفقا في الموضع والاسم) ولا تؤخذ عليا بسفلى ولا وسطى والوسطى والسفلى لا تؤخذان بغيرهما (مسألة) فلو قطع أنملة رجل العليا وقطع الوسطى من آخر ليس له عليا فصاحب الوسطى مخير بين أخذ عقل أنملة وبين أن يصبر حتى تقطع العليا ثم يقتص من الوسطى) لأنه يستوفي حقه بذلك (فصل) فإن قطع من ثالث السفلى فلاول أن يقتص من العليا ثم للثاني أن يقتص من الوسطى ثم للثالث أن يقتص من السفلى سواء جاءوا جميعاً أو واحداً بعد واحد، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا قصاص إلا في العليا لأنه لم يجب في غيرها حال الجناية لتعذر استيفائه فلم يجب بعد ذلك
كما لو كان غير مكافئ حال الجناية صار مكافئاً بعده ولنا أن تعذر القصاص لاتصال محله بغيره لا يمنعه إذا زال الاتصال كالحامل إذا جنث ثم وضعت ويفارق عدم التكافؤ لأنه تعذر لمعنى فيه ههنا تعذر لاتصال غيره به فأما إن جاء صاحب الوسطى أو السفلى يطلب القصاص قبل صاحب العليا لم يجب إليه لأن في استيفائه إتلاف أنمله لا يستحقها وقيل لهما إما أن تصبرا حتى تعلما ما يكون من الأول فإن اقتص فلكما القصاص، وإن عفا فلا قصاص لكما وإما أن ترضيا بالعقل فإن جاء صاحب العليا فاقتص فللثاني الاقتصاص وحكم الثالث مع الثاني حكم الثاني مع الأول فإن عفا فلكما العقل وإن قالا نحن نصبره وتنتظر بالقصاص ان تسقط العليا بمرض أو

(9/443)


نحوه ثم نقتص لم يمنعا من ذلك فإن قطع صاحب الوسطى الوسطى والعليا فعليه دية لعليا تدفع إلى صاحب العليا، وإن قطع الاصبع كلها فعليه القصاص في الانملة الثالثة وعليه أرش العليا للأول وارش السفلى على الجاني لصاحبها، وإن عفا الجاني عن قصاصها وجب أرشها يدفعه إليه ليدفعه إلى المجني عليه (فصل) فإن قطع أنملة رجل العليا ثم قطع أنملتي آخر العليا والوسطى من تلك الاصبع فللأول قطع العليا لأن حقه أسبق ثم يقطع الثاني الوسطى ويأخذ أرش العليا من الجاني فإن بادر الثاني فقطع الانملتين فقد استوفى حقه وتعذر استيفاء القصاص للأول وله الأرش على الجاني، وإن كان قطع الأنملتين أولاً قدمنا صاحبهما في القصاص ووجب لصاحب العليا أرشها، وإن بادر صاحبها فقطعها فقد استوفى حقه وتقطع الوسطى للأول ويأخذ الأرش للعليا ولو قطع أنملة رجل العليا ولم يكن للقاطع عليا فاستوفى الجاني من الوسطى فإن عفا إلى الدية تقاضا وتساقطا لأن ديتهما واحدة، وإن اختار الجاني القصاص فله ذلك ويدفع ارش العليا ويجئ على قول أبي بكر أن لا يجب القصاص لأن ديتهما واحدة واسم الانملة يشملهما فتساقطا كقوله في إحدى اليدين بدلاً عن الأخرى (مسألة) (ولا تؤخذ أصلية بزائدة ولا زائدة بأصلية ولا زائدة بزائدة في غير محلها لعدم التماثل وإن تراضيا عليه لم يجز) وجملة ذلك أن ما لا يجوز أخذه قصاصاً لا يجوز بتراضيهما لان الدماء لا تستباح بالإباحة

(9/444)


والبذل ولذلك لو بذلها ابتداء لم يحل له أخذها ولا يحل لأحد قتل نفسه ولا قطع طرفه فلا يحل لغيره ببذله (مسألة) (فلو تراضيا على قطع إحدى اليدين بدلاً عن الأخرى فقطعها المقتص سقط القود) لان القود سقط في الأولى باسقاط صاحبها وفي الثانية بإذن صاحبها في قطعها وديتهما متساوية وهذا قول أبي بكر وكذلك لو قطعها تعدياً سقط القصاص لأنهما تساويا في الدية والألم والاسم فتقاصا وتساقطا ولأن ايجاب القصاص يفضي الى قطع يدي كل واحد منهما واذهاب منفعة الجنس والحاق الضرر العظيم بهما جميعاً ولا تفريع على هذا القول لوضوحه وكل واحد من القطعين مضمون سرايته لانه عدوان وقال ابن حامد إن كان أحدهما عدواناً فلكل واحد منهما القصاص على صاحبه وإن أخذها بتراضيهما فلا قصاص في الثانية لرضى صاحبها ببذلها وإذنه في قطعها وفي وجوبه في الأولى وجهان (أحدهما) يسقط لما ذكرناه (والثاني) لا يسقط لأنه رضي بتركه بعوض لم يثبت له فكان له الرجوع إلى حقه كما لو باعه سلعة بخمر وقبضه اياه فعلى هذا له القصاص بعد اندمال الأخرى وللجاني دية يده فإذا وجب للمجني عليه دية يده وكانت الديتان واحدة تقاصا وإن كانت إحداهما أكثر من الأخرى كالرجل مع المرأة وجب الفضل لصاحبه (مسألة) (وإن قال له أخرج يمينك فاخرج يساره فقطعها أجزأت على قول أبي بكر سواء قطعها عالماً بها أو جاهلاً)

(9/445)


وعلى قول ابن حامد، وإن أخرجها عمداً عالماً أنها يساره وأنها لا تجزئ فلا ضمان على قاطعها ولا قود لأنه بذلها باخراجه لها لا على سبيل العوض وقد يقوم الفعل في ذلك مقام النطق بدليل أنه لا فرق بين قوله خذ هذا فكله وبين استدعاء ذلك منه فيعطيه إياه ويفارق هذا ما إذا قطع يد انسان وهو ساكت لأنه لم يوجد منه البذل وينظر في المقتص فان فعل ذلك عالماً بالحال عزر لأنه ممنوع منه لحق الله تعالى وهل يسقط القصاص في اليمنى؟ على وجهين (أحدهما) يسقط لأن قاطع اليسار تعدى بقطعها فلم يملك قطع اليد الأخرى كما لو قطع يد السارق اليسرى مكان يمينه فإنه لا يملك قطع يمينه
(والوجه الثاني) لا يسقط وهو مذهب الشافعي وفرقوا بين القصاص وقطع السارق من وجوه ثلاثة (أحدها) أن الحد مبني على الإسقاط بخلاف القصاص (الثاني) أن اليسار لا تقطع في السرقة وإن عدمت يمينه لأنه يفوت منفعة الجنس بخلاف القصاص (الثالث) أن اليد لو سقطت بأكلة أو قصاص سقط القطع في السرقة فجاز أن يسقط بقطع اليسار بخلاف القصاص فإنه لا يسقط وينتقل الى البدل ولكن لا تقطع يمينه حتى تندمل يساره لئلا يؤدي الى ذهاب نفسه فان قيل أليس لو قطع يمين رجل ويسار آخر لم يؤخر أحدهما الى اندمال الآخر؟ قلنا الفرق بينهما أن القطعين مستحقان قصاصاً فلهذا جمعنا بينهما وفي مسئلتنا أحدهما غير مستحق فلا نجمع بينهما فإذا اندملت اليسار قطعنا اليمين فإن سرى قطع اليسار الى نفسه كانت هدراً ويجب في تركته دية اليمنى لتعذر الاستيفاء فيها بموته

(9/446)


(مسألة) (وإن أخرجها دهشة أو ظناً منه أنها تجزئ فعلى القاطع ديتها إن علم أنها يسار وأنها لا تجزئ ويعزر) وقال بعض الشافعية عليه القصاص لأنه قطعها مع العلم أنه ليس له قطعها ولنا أنه قطعها ببذل صاحبها فلم يجب عليه القصاص كما لو علم باذلها وإن كان جاهلاً فلا تعزير عليه وعليه الضمان بالدية لأنه بذلها له على وجه البذل فكانت مضمونة عليه لأنه كان عالماً بها كانت مضمونة عليه وما وجب ضمانه في العمد وجب في الخطأ كإتلاف المال والقصاص باق له في اليمين ولا يقتص حتى تندمل اليسار فإن عفا وجب بدلها ويتقاصان وإن سرت اليسار الى نفسه كانت مضمونة بدية كاملة وقد تعذر قطع اليمنى ووجب له نصف الدية فيتقاصان به ويبقى نصف الدية لورثة الجاني، فإن اختلفا في بذلها فقال الجاني إنما بذلها بدلاً عن اليمين، وقال المجني عليه بذلتها بغير عوض أو قال أخرجتها دهشة قال بل عالماً فالقول قول الجاني لأنه أعلم بنيته، ولأن الظاهر أن الإنسان لا يبذل طرفه للقطع تبرعاً مع أن عليه قطعاً مستحقاً، وهذا مذهب الشافعي.
(مسألة) (وإن كان من عليه القصاص مجنوناً مثل من يجن بعد وجوب القصاص عليه

(9/447)


فعلى قاطعها القود إن كان عالماً بها وأنها لا تجزئ لأنه قطعها تعدياً بغير حق وإن جهل أحدهما فعليه الدية لأن بذل المجنون ليس بشبهة) (مسألة) (وإن كان من له القصاص مجنوناً ومن عليه القصاص عاقلاً فأخرج إليه يساره أو يمينه فقطعها ذهبت هدراً) لأنه لا يصح منه الاستيفاء ولا يجوز البذل له ولا ضمان عليه لأنه اتلفها ببذل صاحبها لكن إن كان المقطوع اليمنى فقد تعذر استيفاء القصاص فيها لتلفها فتكون المجنون ديتها (فصل) فإن وثب المجنون عليه فقطع يده التي لا قصاص فيها فعلى عاقلته ديتها وله القصاص في الأخرى وان قطع الأخرى فهو مستوف حقه في أحد الوجهين، لأن حقه متعين فيها فإذا اخذها قهراً سقط حقه كما لو أتلف وديعته (والثاني) لا يسقط حقه وله عقل يده وعقل يد الجاني على عاقلته لأن المجنون لا يصح منه الاستيفاء ويفارق الوديعة إذا أتلفها لأنها تلفت بغير تفريط وليس لها بدل إذا تلفت بذلك واليد بخلافه فإنها لو تلفت بغير تفريط كانت عليه ديتها وكذلك الحكم في الصغير فإن اقتصا مما لا تحمله العاقلة سقط حقهما وجهاً واحداً وقد ذكرناه (فصل) الثالث استواؤهما في الصحة والكمال لأن القصاص يعتمد المماثلة فلا تؤخذ صحيحة بشلاء

(9/448)


ولا كاملة الأصابع بناقصة ولا ذات أظفار بما لا أظفار لها ولا عين صحيحة بقائمة ولا لسان ناطق بأخرس، لا نعلم أحدا من أهل العلم قال بوجوب قطع يد أو رجل أو لسان صحيح بأشل إلا ما حكي داود أنه أوجب ذلك لاشتراكهما في الاسم فأخذ به كالأذنين ولنا ان الشلاء لا نفع فيها سوى الجمال فلا تؤخذ بما فيه نفعة كالعين الصحيحة لا تؤخذ بالقائمة وما ذكر له قياس وهو لا يقول بالقياس وإذا لم يوجب القصاص في العينين مع قوله تعالى (والعين بالعين) لأجل تفاوتهما في الصحة والعمى فلأن لا يوجب ذلك فيما لا نص فيه أولى (فصل) ولا تؤخذ يد كاملة الأصابع بناقصة الأصابع فلو قطع من له خمس أصابع يد من له أربع أو ثلاث أو قطع من له أربع أصابع يد من له ثلاث لم يجب القصاص لأنها فوق حقه، وهل له أن يقطع
من أصابع الجاني بعدد أصابعه؟ فيه وجهان ذكرناهما فيما إذا قطع من نصف الكف، وان قطع ذو اليد الكاملة يداً فيها اصبع شلاء وباقيها صحاح لم يجز أخذ الصحيحة بها لأنه أخذ كامل بناقص، وفي الاقتصاص مع الأصابع الصحاح وجهان؟ فإن قلنا له أن يقتص فله الحكومة في الشلاء وأرش ما تحتها من الكف وهل يدخل ما تحت الأصابع الصحاح في قصاصها أو تجب به حكومة؟ فيه وجهان:

(9/449)


(فصل) وإن قطع اليد الكاملة ذو يد فيها اصبع زائدة وجب القصاص فيها ذكره ابن حامد لأن الزائدة عيب ونقص في المعنى فلم يمنع وجودها القصاص منها كالسلعة فيها والجراح، واختار القاضي أنها لا تقطع بها وهو مذهب الشافعي لأنها زيادة، فعلى هذا إن كان للمجني عليه أيضاً أصبع زائدة في محل الزائدة من الجاني وجب القصاص لاستوائهما وإن كانت في غير محلها ولم يكن للمجني عليه اصبع زائدة لم تؤخذ يد الجاني وهل يملك قطع الأصابع؟ ينظر فإن كانت الزائدة ملصقة بإحدى الأصابع فليس له قطع تلك الاصبع لأن في قطعها إضراراً بالزائدة وهل له قطع الأصابع الأربع؟ على وجهين وإن لم تكن ملصقة بواحدة منهن فهل له قطع الخمس؟ على وجهين، وإن كانت الزائدة نابتة في اصبع في انملتها العليا لم يجز قطعها وإن كانت نابتة في السفلى أو الوسطى فله قطع ما فوقها من الأنامل في أحد الوجهين ويأخذ ارش الأنملة التي تعذر قطعها في أحد الوجهين ويتبع ذلك خمس الكف

(9/450)


(فصل) وإن قطع ذو يد لها أظفار يد من لا أظفار له لم يجز القصاص لأن الكاملة لا تؤخذ بالناقصة وإن كانت المقطوعة ذات أظفار إلا أنها خضراء أو مستحشفة أخذت بها السليمة لأن ذلك علة ومرض والمرض لا يمنع القصاص بدليل أنا نأخذ الصحيح بالسقيم (مسألة) (ولا تؤخذ عين صحيحة بقائمة ولا لسان ناطق بأخرس ولا ذكر صحيح بأشل) لأنها ليست مماثلة لها ولأنه يأخذ أكثر من حقه فاشبهت اليد الصحيحة بالشلاء لا تؤخذ بها (مسألة) (ولا يؤخذ ذكر فحل بذكر خصي ولا عنين) ذكره الشريف وهو قول مالك لأنه لا منفعة فيهما فإن ذكر العنين لا يوجد منه وطئ ولا انزال
والخصي لا يولد له ولا يكاد يقدر على الوطئ ولا ينزل فهما كالأشل، ولأن كل واحد منهما ناقص فلا يؤخذ به الكامل كاليد الناقصة بالكاملة، ويحتمل أن يؤخذ بهما قال أبو الخطاب يؤخذ غيرهما بهما في أحد الوجهين وهو مذهب الشافعي لأنهما عضوان صحيحان ينقبضان به وينبسطان فيؤخذ بهما غيرهما كذكر الفحل غير العنين وإنما عدم الإنزال لذهاب الخصية والعنة لعلة في الظهر فلم يمنع ذلك

(9/451)


من القصاص بهما كأذن الأصم وأنف الأخشم، وقال القاضي لا يؤخذ ذكر الفحل بالخصي لتحقق نقصه والاياس من برئه وفي أخذ بذكر العنين وجهان (أحدهما) يؤخذ به الصحيح لأنه غير مأيوس من زوال عنته ولذلك يؤجل سنة بخلاف الخطأ، والصحيح الأول لأنه إذا ترددت الحال بين كونه مساوياً للآخر وعدمه لم يجب القصاص لأن الأصل عدمه فلا يجب بالشك سيما وقد حكمنا بانتفاء التساوي لقيام الدليل على عنته وثبوت عنته، ويؤخذ كل واحد من الخصي والعنين بمثله لتساويهما كما يؤخذ العبد بالعبد والذمي بالذمي (مسألة) (إلا مارن الأشم الصحيح فإنه يؤخذ بأنف الأخشم الذي لا يشم) لأن ذلك لعلة في الدماغ والأنف صحيح كما تؤخذ أذن السميع بأذن الأصم لكون ذهاب السمع نقص في الرأس لأنه محله وليس بنقص في الأذن، ويؤخذ الصحيح بالمحروم والمستحشف لأن كونه مستحشفاً مرض فلا يمنع من أخذه به لأنه يقوم مقام الصحيح (مسألة) (وتؤخذ أذن السميع بأذن الأصم لما ذكرنا) وتؤخذ الأذن المستحشفة بالصحيحة وهل تؤخذ بها الصحيحة؟ كاليد الشلاء وسائر الأعضاء والثاني تؤخذ بها لأن المقصود جمع الصوت وحفظ محل السمع والجمال وهذا يحصل بها كحصوله بالصحيحة بخلاف سائر الأعضاء

(9/452)


(مسألة) (ويؤخذ المعيب من ذلك كله بالصحيح وبمثله إذا أمن من قطع الشلاء التلف) إذا كان القاطع أشل والمقطوعة سالمة فإن شاء المجني عليه أخذ الدية فله أخذ دية لا نعلم فيه خلافا
لأنه عجز عن استيفاء حقه على الكمال بالقصاص فكانت له الدية كما لو لم يكن للقاطع يد وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، وان اختار القصاص سئل أهل الخبرة فإن قالوا إنه إذا قطع لم تنسد العروق، ويدخل الهواء الى البدن فيفسده سقط القصاص لأنه لا يجوز أخذ نفس بطرف، وإن أمن هذا فله القصاص لأنه رضي بدون حقه فكان له ذلك كما لو رضي المسلم القصاص من الذمي والحر من العبد ولا يجب له مع القصاص أرش لأن الشلاء كالصحيحة في الخلقة وإنما نقصت في الصفة فلم يكن له أرش كالصورتين المذكورتين.
واختار أبو الخطاب أن له الأرش مع القصاص على قياس قوله في عين الأعور إذا قلعت لأنه أخذ الناقص بالزائد والأول أصح، وهو اختيار الخرقي فإن الحاق هذا الفرع بالأصول المتفق عليها أولى من الحاقه بفرع مختلف فيه خارج عن الأصول مخالف للقياس (فصل) تؤخذ الشلاء بالشلاء إذا أمن في الاستيفاء الزيادة، وقال أصحاب الشافعي لا تؤخذ بها في أحد الوجهين لأن الشلل علة والعلل يختلف تأثيرها في البدن فلا تتحقق المماثلة بينهما ولنا أنهما متماثلان في ذات العضو وصفته فجاز أخذ إحداهما بالأخرى كالصحيحة بالصحيحة

(9/453)


(مسألة) (وتؤخذ الناقصة بالناقصة إذا تساويا فيه بأن يكون المقطوع من يد الجاني كالمقطوع من يد المجني عليه) لأنهما تساوتا في الذات والصفة، فإن اختلفا فكان المقطوع من يد أحدهما الابهام ومن الأخرى أصبع غيرها لم يجب القصاص لأن فيه أخذ اصبع بغيرها وإن كانت إحداهما ناقصة أصبعاً والأخرى ناقصة تلك الاصبع وغيرها جاز أخذ الناقصة أصبعين بالناقصة اصبعاً وهل له أخذ اصبعه الزائد؟ فيه وجهان، ولا يجوز أخذ الأخرى بها لأن الكاملة لا تؤخذ بالناقصة (مسألة) (وتؤخذ الناقصة بالكاملة لأنها دون حقه وهل له أخذ دية الأصابع الناقصة؟ على وجهين) (إحداهما) له ذلك وهو قول الشافعي واختيار ابن حامد (والثاني) ليس له مع القصاص أرش، وهو مذهب أبي حنيفة وقياس قول أبي بكر لئلا يفضي إلى الجمع بين قصاص ودية في عضو واحد وقال القاضي قياس قوله سقوط القصاص كقوله فيمن قطعت يده من نصف الذراع وليس هذا
كذلك لأنه يقتص من موضع الجناية ويضع الحديدة في موضع وضعها الجاني فملك ذلك كما لو جنى عليه فوق الموضحة أو كان رأس الشاج أصغر أو أخذ الشلاء بالصحيحة، ويفارق القاطع من نصف الذراع لأنه لا يمكنه القصاص من موضع الجناية هكذا حكاه الشريف عن أبي بكر

(9/454)


(فصل) وإن كانت يد القاطع والمجني عليه كاملتين وفي يد المجني عليه اصبع زائدة فعلى قول ابن حامد لا عبرة بالزائدة لأنها بمنزلة الخراج والسلعة وعلى قول غيره له قطع يد الجاني وله حكومة في الزائدة؟ على وجهين، وإن قطع من له خمس أصابع اصلية كف من له أربع أصابع اصلية وأصبع زائدة أو قطع من له أربع أصابع اصلية وأصبع زائدة كف من له خمس أصابع أصلية فلا قصاص في الصورة الأولى لأن الأصلية لا تؤخذ بالزائدة وله القصاص في الصورة الثانية في قول ابن حامد لأن الزائدة لا عبرة بها، وقال غيره إن لم تكن الزائدة في محل الأصلية فلا قصاص أيضاً لأن الأصبعين مختلفان، وإن كانت في محل الأصلية فقال القاضي يجري القصاص وهو مذهب الشافعي ولا شئ له لنقص الزائدة، قال شيخنا وهذا فيه نظر لأنها متى كانت في محل الأصلية كانت أصلية لأن الزائدة هي التي زادت عن عدد الاصابع أو كانت في غير محل الأصابع وهذا له خمس أصابع في محلها فكانت كلها أصلية، فإن قالوا معنى كونها زائدة أنها ضعيفة مائلة عن سمت الأصابع، قلنا ضعفها لا يوجب كونها زائدة كذكر العنين وأما ميلها عن سمت الأصابع فإنها إن لم تكن نابتة من محل الاصبع المعدونة فسد قولهم أنها في محلها وإن كانت نابتة في موضعها وإنما مال راسها أو اعوجت فهو مرض لا يخرجها عن كونها أصلية (فصل) إذا قطع أصبعه فأصابه من جرحها أكلة في يده وسقطت من مفصل ففيها القصاص على ما نذكره في سراية الجناية وإن بادر صاحبها فقطعها من الكوع لئلا تسري الى سائر جسده ثم اندمل

(9/455)


جرحه فعليى الجاني القصاص في الأصبع والحكومة فيما تأكل من الكف ولا شئ عليه فيما قطعه المجني عليه لأنه تلف بفعله، وإن لم تندمل ومات من ذلك فالجاني شريك نفسه فيحتمل وجوب القصاص عليه ويحتمل أن لا يجب بحال لأن فعل المجني عليه إنما قصد به المصلحة فهو عمد الخطأ وشريك الخاطئ لا قصاص عليه
ويكون عليه نصف الدية، وإن قطع المجني عليه موضع الأكلة نظرت فإن قطع لحماً ميتاً ثم سرت الجناية فالقصاص على الجاني لأنه سراية جرحه خاصة وإن كان في لحم حي فمات فهو كما لو قطعها خوفاً من سرايتها وقد ذكرناه (فصل) إذا قطع أنملة لها طرفان إحداهما زائدة والأخرى أصلية فإن كانت أنملة القاطع ذات طرفين أيضاً أخذت بها وإن لم تكن ذات طرفين قطعت وعليه حكومة في الزائدة وإن كانت المقطوعة ذات طرف واحد وأنملة القاطع ذات طرفين أخذت بها في قول ابن حامد، وعلى قول غيره لا قصاص فيها وله دية أنملة وإن ذهب الطرف الزائد فله الاستيفاء وإن قال أنا أصبر حتى يذهب الزائد ثم اقتص فله ذلك لأنه القصاص حقه فلا يجبر على تعجيل استيفائه (مسألة) (وإن اختلفا في شلل العضو وصحته فالقول قول المجني عليه في أحد الوجهين) لأن الظاهر من الناس سلامة الأعضاء وخلق الله تعالى لهم بصفة الكمال، والثاني القول قول الجاني لأن الأصل براءة ذمته من دية عضو سالم ولأنه لو كان سالما يخف لأنه يظهر فيراه الناس

(9/456)


(فصل) قال رحمه الله وان قطع بعض لسانه أو مارنه أو شفته أو حشفته أو أذنه أخذ مثله يقدر بالأجزاء كالنصف والثلث والربع لقول الله تعالى (والجروح قصاص) وقال أبو الخطاب لا يؤخذ بعض اللسان بالبعض ذكره صاحب المحرر ولنا أنه يؤخذ جميعه بجميعه فأخذ بعضه ببعضه كالأنف ولا يؤخذ بالمساحة لأنه يفضي إلى أخذ لسان الجاني جميعه ببعض لسان المجني عليه (مسألة) (وإن كسر بعض سنه برد من سن الجاني مثله إذا أمن قلعها) يجري القصاص في بعض السن لحديث الربيع حين كسرت سن جارية فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص ويقدر بذلك بالأجزاء النصف بالنصف وكل جزء بمثله ولا يؤخذ بالمساحة لئلا يفضيي الى أخذ جميع سن الجاني ببعض سن المجني عليه ويكون القصاص بالمبرد لتؤمن الزيادة فإما لو أخذناها بالكسر لم نأمن أن ينصدع أو ينقلع أو ينكسر من غير موضع القصاص ولا يقتص حتى يقول أهل الخبرة انه
يؤمن انقلاعها أو السواد فيها لأن توهم الزيادة يمنع القصاص في الأعضاء كما لو قطعت يده من غير مفصل فإن قيل فقد أجزتم القصاص في الأطراف مع توهم سرايتها الى النفس فلم منعتم منها لتوهم السراية منه الى بعض العضو قلنا وهم السراية الى النفس لا سبيل إلى التحرز منه فلو اعتبرناه في المنع افضى الى

(9/457)


سقوط القصاص في الأطراف بالكلية فسقط اعتباره أما السراية الى بعض العضو فتارة نقول انما يمنع القصاص فيها إحتمال الزيادة في الفعل لا في السراية مثل من يستوفي من بعض الذراع فإنه يحتمل أكثر مما فعل به وكذلك من كسر سناً ولم يصدعها فكسر المستوفي سنه وصدعها أو قطعها أو كسر أكثر مما كسر من سنه فقد زاد على المثل والقصاص يعتمد المماثلة وتارة نقول إن السراية في بعض العضو إنما تمنع إذا كانت ظاهرة ومثل هذا يمنع في النفس ولهذا منعناه من الاستيفاء بآلة كالة أو مسمومة وفي وقت افراط الحر والبرد تحرزاً من السراية (فصل) وإن قلع سناً زائدةً وهي التي تنبت فضلة في غير سمت الأسنان خارجة عنها الى داخل الفم أو الى الشفة وكانت للجاني مثلها في موضعها فللمجني عليه القصاص أو حكومة في سنه وإن لم لم يكن له مثلها في محلها فليس له إلا الحكومة وان كانت احدى الزائدتين أكبر من الأخرى ففيه وجهان (أحدهما) لا تؤخذ بها لأن الحكومة فيها أكثر فلا يقلع بها ما هو أقل قيمة منها (والثاني) تؤخذ بها لأنهما سنان متساويتان في الموضع فتؤخذ كل واحدة منهما بالأخرى كالاصلتين ولأن الله تعالى قال (والسن بالسن) وهو عام فيدخل فيه محل النزاع وإن قلنا يثبت القياس في الزائدتين بالاجتهاد فالثابت بالاجتهاد معتبر بما ثبت بالنص واختلاف القيمة لا يمنع القصاص بدليل جريانه بين العبد وبين الذكر والأنثى في النفس والأطراف على أن كبر السن لا يوجب كبر قيمتها فإن السن الزائدة نقص

(9/458)


وعيب وكثرة العيب زيادة في النقص لا في القيمة ولأن كبر السن الأصلية لا يزيد في قيمتها فالزائدة كذلك (مسألة) (ولا يقتص من السن حتى ييئس من عودها وهي سن من قد اثغر أي سقطت رواضعه ثم نبتت فإن قلع سن من لم يثغر لم يقتص من الجاني في الحال لأنها تعود بحكم العادة فلم يجب ضمانها كالشعر
(مسألة) (فإن عاد بدل السن على صفتها في موضعها فلا شئ على الجاني وإن مضى زمن عودها ولم تعد سئل أهل الخبرة فإن قالوا قد يئس من عودها خير المجي عليه بين القصاص وبين دية السن (مسألة) (وإن مات المجني عليه قبل الإياس من عودها فلا قصاص) لأن الاستحقاق غير متحقق فيكون ذلك شبهة في درء القصاص وتجب الدية لأن القطع موجود والعود مشكوك فيه (مسألة) (فإن قطع سن كبير فقال القاضي يسأل أهل الخبرة) فإن قالوا لا تعود فله القصاص في الحال وإن قالوا يرجى عودها الى وقت معلوم لم يقتص حتى يأتي ذلك الوقت فإن لم تعد وجب القصاص (مسألة) (وإن اقتص من سن فعادت غرم سن الجاني لأنه قد تبين أن القصاص لم يكن يجب ويضمنها بالدية دون القصاص لأنه لم يقصد التعدي وإن عادت سن الجاني رد ما أخذ إذا لم تعد سن المجني عليه (مسألة) (وإن عادت سن المجني عليه قصيرة أو معيبة فعلى الجاني أرش نقصها بالحساب)

(9/459)


ففي نصفها نصف ديتها ونحو ذلك وإن عادت والدم يسيل منها أو مائلة عن محلها ففيها حكومة لأنه نقص حصل بفعله، وقد ذكرنا هذه المسائل في مسألة ويؤخذ السن بالسن (فصل) قال رحمه الله النوع الثاني الجراح فيجب القصاص في كل جرح ينتهي الى عظم كالموضحة وجرح العضد والفخذ الساق والقدم لقول الله تعالى (والجروح قصاص) فيجب في كل جرح ينتهي الى عظم يمكن استيفاؤه من غير زيادة كالموضحة في الرأس والوجه وذلك لأن الله تعالى نص على القصاص في الجروح فلو لم يجب ههنا لسقط حكم الآية وفي معنى الموضحة كل جرح ينتهي الى عظم فيما سوى الرأس والوجه كالساعد والعضد والفخذ والساق يجب فيه القصاص في قول أكثر أهل العلم وهو منصوص الشافعي وقال بعض أصحابه لا قصاص فيها لأنه لا مقدر فيها وهو غير صحيح لمخالفته قول تعالى (والجروح قصاص) ولأنه أمكن استيفاؤه بغير حيف ولا زيادة لكونه ينتهي الى عظم فأشبه الموضحة والتقدير في الموضحة ليس هو المقتضي للقصاص ولا عدمه
مانعاً وإنما كان التقدير في الموضحة لكثرة شينها وشرف محلها ولهذا قدر ما فوقها من شجاج الرأس والوجه ولا قصاص فيه.
(فصل) ولا يستوفى القصاص فيما دون النفس بالسيف ولا بآلة يخشى منها الزيادة سواء كان الجرح بها أو بغيرها، لأن القتل إنما استوفي بالسيف لأنه آلته وليس ثم شئ يخشى التعدي اليه

(9/460)


فيجب أن يستوفى فيما دون النفس بآلته ويتوقى ما يخشى منه الزيادة الى محل لا يجوز استيفاؤه ولأنا منعنا القصاص بالكلية فيما تخشى الزيادة في استيفائه فلأن نمنع الآلة التي يخشى منها ذلك أولى فإن كان الجرح موضحة أو ما أشبهها فبالموسى أو حديدة ماضية معدة لذلك ولا يستوفي إلا من له علم بذلك كالجرائحي ومن أشبهه، فإن لم يكن للولي علم بذلك أمر بالاستنابة، وإن كان له علم فقال القاضي ظاهر كلام أحمد أنه يمكن منه لأنه أحد نوعي القصاص فيمكن من استيفائه إذا كان يحسن كالقتل ويحتمل أن لا يمكن من استيفائه بنفسه ولا يليه إلا نائب الإمام أو من يستنيبه ولي الجناية وهو مذهب الشافعي لأنه لا يؤمن مع العداوة وقصد التشفي أن يحيف في الاستيفاء بما لا يمكن تلافيه وربما أفضى إلى النزاع والاختلاف بأن يدعي الجاني الزيادة وينكرها المستوفي (مسألة) (ولا يجب القصاص فيما سوى ذلك من الشجاج والجروح كما دون الموضحة أو أعظم منها وممن روي عنه منع القصاص فيما دون الموضحة الحسن وأبو عبيد وأصحاب الرأي ومنعه فيما فوقها عمر بن العزيز وعطاء والنخعي والزهري والحكم وإبن شبرمة والثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم أحداً أوجب القصاص فيما فوق الموضحة إلا ما روي عن ابن

(9/461)


الزبير أنه اقاد من المنقلة وليس بثابت عنه، قال إبن المنذر ولا أعلم أحداً خالف ذلك ولأنها جراحات لا تؤمن الزيادة فيها فأشبه الجائفة وأما دون الموضحة فقد روي عن مالك أن القصاص يجب في الدامية والباضعة والسمحاق وروي نحوه عن أصحاب الرأي ولنا أنها جراحة لا تنتهي الى عظم فلم يجب فيما قصاص كالجائفة ولأنه لا يؤمن فيما الزيادة
فأشبه كسر العظام وبيان ذلك أنه إن اقتص من غير تقدير أفضى إلى أن يأخذ أكثر من حقه وإن اعتبر مقدار العمق أفضى إلى أن يقتص من الباضعة والسمحاق موضحة ومن الباضعة سمحاقاً لأنه قد يكون لحم المشجوج كثيراً بحيث يكون عمق باضعته كعمق موضحة الشاج أو سمحاقة ولأننا لم نعتبر في الموضحة قدر عمقا فكذلك في غيرها (فصل) ولا قصاص في المأمومة من شجاج الرأس ولا في الجائفة، والمأمومة هي التي تصل الى جلدة الدماغ والجائفة هي التي تصل الى الجوف وليس فيهما قصاص عند أحد من أهل العلم نعلمه إلا ما روي عن ابن الزبير انه أقص من المأمومة فأنكر الناس عليه وقالوا ما سمعنا أحداً أقص منها قبل ابن الزبير، وروي عن علي رضي الله عنه لا قصاص في المأمومة وهو قول مكحول والزهري والشعبى وقال عطاء والنخعي لا قصاص في الجائفة، وروى ابن ماجة في سننه عن العباس بن عبد المطلب

(9/462)


عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا قود في المأمومة ولا في الجائفة ولا في المنقلة " ولأنهما جرحان لا تؤمن الزيادة فيهما فلم يجب فيهما قصاص ككسر العظام " (مسألة) (إلا أن تكون أعظم من الموضحة كالهاشمة والمنقلة والمأمومة فله أن يقتص موضحة بغير خلاف بين أصحابنا) .
وهو مذهب الشافعي لأنه يقتصر على بعض حقه ويقتص من محل جنايته فإنه إنما وضع السكين في موضع وضعها الجاني، لأن سكين الجاني وصلت الى العظم ثم تجاوزته بخلاف قاطع الساعد فإنه لم يضع سكينه في الكوع.
(مسألة) (ولا شئ له مع القصاص على قول أبي بكر) لأنه جرح واحد فلا يجمع فيه بين قصاص ودية كما لو قطع الشلاء بالصحيحة وكما في الأنفس إذا قتل الكافر بالمسلم والعبد بالحر، وقال ابن حامد له ما بين دية موضحة ودية تلك الشجة، وهو مذهب الشافعي لأنه تعذر القصاص فيه فانتقل الى البدل كما لو قطع أصبعيه فلم يمكن الاستيفاء إلا من واحدة وفارق الشلاء بالصحيحة فإن الزيادة ثم من حيث المعنى وليست مميزة بخلاف مسئلتنا
فيأخذ في الهاشمة خمساً من الإبل وفي المنقلة عشراً (مسألة) (ويعتبر قدر الجرح بالمساحة فلو أوضح إنساناً في بعض رأسه، مقدار ذلك البعض جميع رأس الشاج وزيادة كان له أن يوضحه في جميع رأسه وفي الأرش للزائد وجهان)

(9/463)


وجملة ذلك أنه أراد الاستيفاء من موضحة وشبهها فإن كان على موضعها شعر أزاله ويعمد إلى موضع الشجة من رأس المشجوج فيعلم طولها وعرضها بخشبة أو خيط ويضعها على راس الشاج ويعلم طرفيه بسواد أو غيره ويأخذ حديدة عرضها كعرض الشجة فيضعها في أول الشجة ويجرها الى آخرها فيأخذها مثل الشجة طوعلا وعرضاً ولا يراعي العمق لأن حده العظم ولو روعي لتعذر الاستيفاء، لأن الناس يختلفون في قلة اللحم وكثرته وهذا كما يستوفى الطرف بمثله وإن اختلفا في الصغر والكبر والرقة والغلظة فإن كان رأس الشاج والمشجوج سواء استوفى قدر الشجة وإن كان رأس الشاج أصغر لكنه يتسع للشجة استوفيت وإن استوعبت رأس الشاج كله لأنه استوفاها بالمساحة ولا يمنع الاستيفاء زيادتها على مثل موضعها من رأس الجاني لأن الجميع رأس وإن كان قدر الشجة يزيد على رأس الجاني فإنه يستوفي الشجة في جميع رأس الشاج ولا يجوز أن تنزل إلى جبهته لأنه يقتص في عضو آخر غير العضو المجني عليه ولا ينزل الى قفاه لما ذكرنا ولا يستوفي بقية الشجة في موضع آخر من رأسه لأنه يكون مستوفياً موضحتين واضعاً للحديدة في غير الموضع الذي وضعها فيه الجاني واختلف أصحابنا فيماذا يصنع؟ فذكر القاضي أن ظاهر كلام أبي بكر أنه لا أرش له فيما بقي كيلا يجمع بين قصاص ودية في جرح واحد، وهذا مذهب أبي حنيفة فعلى هذا يتخير بين الاستيفاء في جميع رأس الشاج ولا أرش له وبين العفو الى دية موضحة، وقال ابن حامد وبعض أصحابنا

(9/464)


له أرش ما بقي وهو مذهب الشافعي، لأن القصاص تعذر فيما جنى عليه فكان له أرش كما لو تعذر في الجميع، فعلى هذا تقدر شجة الجاني من الشجة في رأس المجني عليه ويستوفي أرش الباقي فإن كانت بقدر ثلثيها فله أرش ثلث موضحة وإن زادت على هذا أو نقصت فبالحساب من أرش الموضحة
ولا يجب له أرش موضحة كاملة لئلا يفضي إلى إيجاب القصاص ودية موضحة وإن أوضحه في جميع رأسه ورأس الجاني أكبر فللمجني عليه أن يوضح منه بقدر مساحة موضحة من أي الطرفين شاء لأنه جنى عليه في ذلك الموضع كله وإن استوفى قدر موضحته ثم تجاوزها واعترف أنه عمد ذلك فعليه القصاص في ذلك القدر، فإذا اندملت موضحته استوفى منه القصاص في موضع الاندمال لأنه موضع الجناية، وان ادعى الخطأ فالقول قوله لأنه محتمل وهو أعلم بقصده وعليه أرش موضحة، فإن قيل فهذه الموضحة كلها لو كانت عدواناً لم يجب فيها إلا دية موضحة فكيف يجب في بعضها دية موضحة قلنا لأن المستوفى لم يكن جناية إنما الجناية الزائد، والزائد لو انفرد لكان موضحة فكذلك إذا كان معه ما ليس بجناية بخلاف ما إذا كانت كلها عدواناً فإن الجميع جناية واحدة (فصل) إذا أوضحه في جميع رأسه ورأس الجاني أكبر فأراد أن يستوفي القصاص بعضه من مقدم الرأس وبعضه من مؤخرة منع ذلك لأنه يأخذ موضحتين بواحدة وديتهما مختلفة، ويحتمل

(9/465)


الجواز لأنه لا يجاوز موضع الجناية ولا قدرها، فإن أهل الخبرة إن في ذلك زيادة ضرر أو شين لم يجز ولأصحاب الشافعي كهذين القولين، فإن كان رأس المجني عليه أكبر فأوضحه الجاني في مقدمه ومؤخره موضحتين قدرهما جميع رأس الجاني فله الخيار بين أن يوضحه موضحة واحدة في جميع رأسه أو يوضحه موضحتين يقتصر في كل واحدة منهما على قدر موضحته ولا أرش لذلك وجها واحدة لأنه ترك استيفاء مع امكانه، وان عفا الى الأرش فله أرش موضحتين، وإن شاء اقتص من احداهما وأخذ أرش الأخرى (فصل) فإن كانت الجناية في غير الرأس والوجه وكانت في ساعد فزادت على ساعد الجاني لم ينزل الى الكف ولم يصعد الى العضد وإن كانت في الساق لم ينزل الى القدم ولم يصعد الى الفخذ لأنه عضو آخر فلا يقتص منه كما لم ينزل من الرأس الى الوجه ولم يصعد من الوجه الى الرأس (فصل) إذا شج في مقدم رأسه أو مؤخره عرضاً شجه لا يتسع لها مثل موضعها من رأس الشاج فأراد أن يستوفي من وسط الرأس فيما بين الاذنين لكونه يتسع لمثل تلك الشجة ففيه وجهان
(أحدهما) لا يجوز لأنه غير الموضع الذي شجه فيه فلم يجز له الاستيفاء منه كما لو أمكنه استيفاء حقه من محل الشجة، واحتمل الجواز لأن الرأس عضو واحد فإذا لم يمكنه استيفاء حقه من محل شجته

(9/466)


جاز من غيره كما لو شجه في مقدم رأسه شجة قدرها جميع رأس الشاج جاز إتمام استيفائها من مؤخر رأس الجاني، وهذا منصوص الشافعي وهكذا يخرج فيما إذا كان الجرح في موضع من الساق والقدم والذراع والعضد، وإن أمكن الاستيفاء من محل الجناية لم يجز العدول عنه وجهاً واحداً (فصل) قال (وإذا اشترك جماعة في قطع طرف أو جرح موجب للقصاص وتساوت أفعالهم مثل أن يضعوا الحديدة على يده ويتحاملوا عليها جميعاً حتى تبين فعلى جميعهم القصاص في أشهر الروايتين وهي التي ذكرها الخرقي) وبذلك قال مالك وأبو ثور وقال الحسن والزهرى والثوري وأصحاب الرأي وابن المنذر لا يقطع يدان بيد واحدة وهي الرواية الأخرى لأنه روي عنه أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، وهذا تنبيه على أن الأطراف لا تؤخذ بطرف واحد لأن الأطراف يعتبر التساوي فيها بدليل أنا لا نأخذ الصحيحة بالشلاء ولا كاملة الأصابع بناقصة ولا أصلية بزائدة ولا يميناً بيسار ولا يساراً بيمين، ولا تساوي بين الطرف والأطراف فوجب امتناع القصاص بينهما ولا يعتبر التساوي في النفس فإنا نأخذ الصحيح بالمريض وصحيح الأطراف بمقطوعها وأشلها ولأنه يعتبر في القصاص في الأطراف التساوي في نفس

(9/467)


القطع بحيث لو قطع كل واحد من جانب الآخر لم يجب القصاص بخلاف النفس ولأن الاشتراك الموجب للقصاص في النفس يقع كثيراً فوجب القصاص زجراً عنه كي لا يتخذ وسيلة إلى كثرة القتل والاشتراك المختلف فيه ولا يقع إلا في غاية الندرة فلا حاجة الى الزجر عنه، ولأن إيجاب القصاص على المشتركين في النفس يحصل به الزجر عن كل اشتراك أو عن الاشتراك المعتاد وإيجابه على المشركين في الطرف لا يحصل به الزجر عن الاشتراك المعتاد ولا عن شئ من الاشتراك إلا عن صورة نادرة الوقوع بعيدة الوجود يحتاج في وجودها إلى تكلف فإيجاب القصاص الزجر عنها يكون منعا لشئ لا يكاد يقع
لصعوبته وإطلاقاً في القطع السهل المعتاد بنفي القصاص عن فاعله وهذا لا فائدة فيه بخلاف الاشتراك في النفس، يحققه أن وجوب القصاص في الطرف والنفس على الجماعة بواحد على خلاف الأصل لكونه أخذ في الاستيفاء زيادة على ما فوت عليه ويخل بالتماثل المنصوص على النهي عما عداه، وإنما خولف هذا الأصل زجراً عن الاشتراك الذي يقع القتل به غالباً ففيما عداه يجب البقاء على أصل التحريم ولأن النفس أشرف من الطرف ولا يلزم من المحافظة عليها بأخذ الجماعة بالواحد المحافظة على ما دونها بذلك ولنا ما روى أن شاهدين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل بالسرقة فقطع يده ثم جاءا بآخر فقالا

(9/468)


هو السارق وأخطأنا في الأول فرد شهادتهما على الثاني وغرمهما دية يد الأول وقال لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما فأخبر أن القصاص على كل واحد منهما لو تعمدا قطع يد واحدة، ولأنه أحد نوعي القصاص فيؤخذ فيه الجماعة بالواحد كالأنفس، وأما اعتبار التساوي فمثله في الأنفس فإنا نعتبر التساوي فيها فلا نأخذ مسلماً بكافر ولا حراً بعبد، وأما أخذ صحيح الأطراف بمقطوعها فلأن الطرف ليس هو من النفس المقتص منها وإنما يؤخذ تبعاً ولذلك كانت ديتهما واحدة بخلاف اليد الناقصة والشلاء مع الصحيحة فإن ديتهما مختلفة، وأما اعتبار التساوي في الفعل فإنما اعتبر في اليد لأنه يمكن مباشرتهما بالقطع فإذا قطع كل واحد منهما من جانب فإن فعل كل واحد منهما متميزاً عن فعل الآخر فلا يجب على انسان قطع محل لم يقطع مثله، وأما النفس فلا يمكن مباشرتها بالفعل وإنما أفعالهم في البدن فيفضي ألمه اليها فيزهق ولا تميز ألم فعل أحدهما من ألم فعل الآخر فكانا كالقاطعين في محل واحد ولذلك لا يستوفى من الطرف إلا في المفصل الذي قطع الجاني منه ولا يجوز تجاوزه في النفس لو قتله بجرح في جنبه أو بطنه أو غير ذلك كان الاستيفاء من العنق دون المحل الذي وقعت الجناية فيه.
إذا

(9/469)


ثبت هذا فإن الجناية إنما تجب على المشتركين في الطرف إذا اشتركوا فيه على وجه لا يتميز فعل أحدهم من فعل الآخر إما بأن شهدوا عليه بما يوجب قطعه فيقطع ثم يرجعوا عن الشهادة أو يكرهوا انساناً على قطع طرف فيجب قطع المكرهين والمكره أو يلقوا صخرة على طرف انسان فيقطعه أو يقطعوا يداً
أو يقلعوا عيناً بضربة واحدة أو يضعوا حديدة على مفصل ويتحاملوا عليها جميعاً أو يمدوها فتبين ونحو ذلك (مسألة) (وإن تفرقت أفعالهم أو قطع كل واحد من جانب فلا قصاص عليهم رواية واحدة) لأن كل واحد منهم لم يقطع اليد ولم يشارك في قطع جميعها وإن كان فعل كل واحد منهم يمكن الاقتصاص بمفرده اقتص منه وهذا مذهب الشافعي (مسألة) (وسراية الجناية مضمونة بالقصاص أو الدية) سراية الجناية مضمونة بغير خلاف لأنها أثر جناية والجناية مضمونة فكذلك أثرها ثم ان سرت الى النفس أو ما لا يمكن مباشرته بالاتلاف مثل ان هشمه في راسه فيذهب ضوء عينه وجب القصاص فيه ولا خلاف في ذلك في النفس، وفي ضوء العين خلاف ذكرناه فيما مضى، وإن سرت الى ما يمكن مباشرته بالاتلاف مثل ان قطع اصبعاً فتأكلت أخرى وسقطت ففيه القصاص أيضا في قول امامنا

(9/470)


وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وقال أكثر الفقهاء لا قصاص في الانية وتجب ديتها لأن ما أمكن مباشرته بالجناية لا يجب القود فيه بالسراية كما لو رمى سهماً الى شخص فمرق منه الى آخر ولنا أن ما وجب فيه القود بالجناية وجب بالسراية كالنفس ولأنه أحد نوعي القصاص فأشبه ما ذكرنا، وفارق ما ذكروه فإن ذلك فعل وليس بسراية ولأنه لو قصد ضرب رجل فأصاب آخر لم يجب القصاص ولو قصد قطع إبهامه فقطع سبابته وجب القصاص، ولو ضرب ابهامه فمرق الى سبابته وجب القصاص فيها فافترقا، ولأن الثانية تلفت بفعل أوجب القصاص فوجب القصاص فيها كما لو رمى أحدهما فمرق الى الأخرى (مسألة) (وان شل ففيه ديته) وبهذا قال الشافعي قالوا يجب الأرش في الثانية التي شلت والقصاص في الأولى، وقال

(9/471)


أبو حنيفة لا يجب القصاص فيها ويجب أرشهما جميعاً لأن الحكم السراية لا ينفرد عن الجناية بدليل ما لو سرت الى النفس فاذا لم يجب القصاص في إحداها لم يجب في الأخرى.
ولنا أنها جناية موجبة
للقصاص لو لم تسرفا وجبته إذا سرت كالتي تسري الى سقوط أخرى وكما قطع يد حبلى فسرى الى جنينها وبهذا يبطل ما ذكره، وارق الأصل لأن السراية مقتضية للقصاص كاقتضاء الفعل له فاستوى حكمهما وههنا بخلافه ولأن ما ذكره غير صحيح فإن القطع إذا سرى إلى النفس وجب القصاص في النفس وسقط في القطع فخالف حكم الجناية حكم السراية فسقط ما قاله.
إذا ثبت ذلك فإن الأرش يجب في ماله فلا تحمله العاقلة لأنه جناية عمد وإنما لم يجب القصاص فيه لعدم المماثلة في القطع فإذا قطع اصبعه فشلت أصابعه الباقية وكفه فعفا عن القصاص وجب له نصف الدية وإن اقتص من الأصبع فله في الأصابع الباقية أربعون من الإبل ويتبعها ما حاذاها من الكف وهو أربعة أخماسه فيدخل أرشه فيها ويبقى خمس الكف فيه وجهان (أحدهما) يتبعها في الارش فلا شئ له فيه (والثاني)

(9/472)


فيه الحكومة لأن ما يقابل الأربع يتبعها في الأرش لاستوائهما في الحكم وحكم التي اقتص منها مخالف لحكم الأرش فلم يتبعها (مسألة) (وسراية القود غير مضمونة فلو قطع اليد قصاصاً فسرى الى النفس فلا شئ على القاطع) وبهذا قال الحسن وإبن سيرين ومالك والشافعي واسحاق وأبو يوسف ومحمد وإبن المنذر وري ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وقال عطاء وطاوس وعمرو بن دينار والحادث العكلي والشعبي والنخعي والزهري وأبو حنيفة: عليه الضمان قال أبو حنيفة عليه كمال الدية في ماله، وقال غيره هي على عاقلته لأنه فوت نفسه ولا يستحق إلا طرفه فلزمته ديته كما لو ضرب عنقه

(9/473)


ولأنها سراية قطع مضمون فكانت مضمونة كسراية الجناية والدليل على أنه مضمون أنه مضمون بالقطع الأول لأنه في مقابلته ولنا أن عمر وعلياً رضي الله عنهما قال من مات من حد أو قصاص لا دية له الحق قتله رواه سعيد بمعناه ولأنه قطع مستحق مقدر فلا تضمن سرايته كقطع السارق وفارق ما قاسوا عليه فإنه ليس ما فعله مستحقاً: إذا ثبت هذا فلا فرق بين سرايته الى النفس بأن يموت منها أو ألى ما دونها مثل أن يقطع
أصبعاً فتسري الى كفه (مسألة) (ولا يقتص في الطرف إلا بعد برئه) في قول أكثر أهل العلم منهم النخعي والثوري وأبو حنيفة ومالك وإسحاق وأبو ثور وروي ذلك عن عطاء والحسن قال إبن المنذر كل من أحفظ عنه من أهل العلم يرى الانتظار بالجرح حتى يبرأ ويتخرج لنا أنه يجوز الاقتصاص قبل البرء وبناء على قولنا إنه إذا سرى إلى النفس يفعل به كما لو

(9/474)


فعل وهذا قول الشافعي قال ولو سأل القود ساعة قطعت أصبعه أقدته لما روى جابر أن رجلاً طعن رجلاً بقرن في ركبته فقال يا رسول الله أقدني قال " حتى تبرأ " فأني وعجل فاستقاد له رسول الله صلى الله عليه وسلم فعييت رجل المستقيد وبرأت رجل المستقيد منه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " ليس لك شئ إنك عجلت " رواه سعيد مرسلاً ولأن القصاص في الطرف لا يسقط بالسراية فوجب أن يملكه في الحال كما لو برأ ولنا ما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستقاد من الحرج حتى يبرأ المجروح رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأن الجرح لا يدرى أقتل هو أو لا فينبغي أن ينتظر ليعلم ما حكمه فقد رواه وفي سياقه فقال يا رسول الله عرجت فقال " قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك " ثم نهى أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه وهذه زيادة يجب قبولها وهي متأخرة

(9/475)


عن الاقتصاص فتكون ناسخة له وفي نفس الحديث ما يدل على أن استقادته قبل البرء معصية لقوله " قد نهيتك فعصيتني " وما ذكروه ممنوع وهو مبنى الخلاف (مسألة) (فان فعل ذلك سقط حقه من سرايته فلو سرى إلى نفسه كان هدراً ولو سرى القصاص الى نفس الجاني كان هدراً أيضاً وقال الشافعي هي مضمونة لأنها سراية جناية فكانت مضمونة كما لو لم يقتص) ولنا الخبر المذكور ولأنه استعجل ما لم يكن له إستعجاله فبطل حقه كقاتل موروثه.
وبهذا فارق من لم يقتص فعلى هذا لو سرى القطعان جميعاً فمات الجاني والمستوفي فهما هدر.
وقال أبو حنيفة يجب ضمان كل واحد
منهما لأن سراية كل واحد منهما مضمونة ثم يتقاصان وقال الشافعي إن مات المجني عليه أولا ثم مات الجاني كان قصاصاً به لأنه مات من سراية القطع فقد مات بفعل المجني عليه وإن مات الجاني فكذلك في أحد الوجهين وفي الآخر يكون موت الجاني هدراً ولولي المجني عليه نصف الدية فلما إن

(9/476)


سرى أحد القطعين دون صاحبه فعندنا هو هدر لا ضمان فيه وعند أبي حنيفة يجب ضمان سرايته وعند الشافعي أن سرت الجناية فهي مضمونة وإن سرى الاستيفاء لم يجب ضمانه ومبنى ذلك على ما تقدم من الخلاف (فصل) وإن اندمل جرح الجناية فاقتص منه ثم انتقض فسرى فسرايته مضمونة وسراية الاستيفاء غير مضمونة لأنه إقتص بعد جواز القصاص فعلى هذا لو قطع يدي رجل فبرأ فاقتص ثم انتقض جرح المجني عليه فمات فلوليه الجاني لأنه مات من جنايته وقال ابن أبي موسى إذا جرحه فبرأ ثم انتقض فمات فلا قود فيه ولنا أن الجناية لو سرت إلى النفس قبل الاندمال وجب القصاص فكذلك بعده وان عفا الى الدية فلا شئ له لأنه استوفى بالقطع ما قيمته دية وهو يداه وإن سرى الاستيفاء لم يجب ايضاً شئ لأن القصاص قد سقط بموته والدية لا يمكن ايجابها لما ذكرنا وإن كان المقطوع بالجناية يدا قوليه بالخيار

(9/477)


بين القصاص في النفس وبين العفو الى نصف الدية ومتى سقط القصاص بموت الجاني أو غيره وجب نصف الدية في تركة الجاني أو ماله إن كان حياً (فصل) ولو قطع كتابي يد مسلم فبرأ واقتص ثم انتقض جرح المسلم ومات فلوليه قتل الكتابي والعفو الى أرش الجرح وفي قدره وجهان: (احدهما) نصف الدية لأنه قد استوفى بدل يده بالقصاص وبدلها نصف ديته فبقي له نصفها كما لو كان القاطع مسلماً (والثاني) له ثلاثة أرباعها لأن يد اليهودي تعدل نصف ديته وذلك ربع دية المسلم فقد استوفى
ربع ديته وبقي له ثلاثة أرباعها وإن كان قطع يدي المسلم فاقتص منه ثم مات المسلم فعفا وليه الى مال انبنى على الوجهين وإن قلنا تعتبر قيمة يد اليهودي فله ههنا نصف الدية وإن قلنا الاعتبار بقيمة يد المسلم فلا شئ له ههنا لأنه قد استوفى بدل يديه وهما جميع ديته ولو كان القطع في يديه ورجليه فعفا الى

(9/478)


الدية لم يكن له شئ وجهان واحداً لأن دية لك دية المسلم ولو كان الجاني امرأة فالحكم على ما ذكرنا سواء لأن ديتها نصف دية الرجل (فصل) إذا قطع يد رجل من الكوع ثم قطعها آخر من المرفق فمات بسرايتهما فللولي قتل القاطعين وليس له أن يقطع طرفيهما في أحد الوجهين وفي الآخر له قطع يد القاطع من الكوع فإن قطعها ثم عفا عنه فله نصف الدية، وأما الآخر فإن كانت يده مقطوعة من الكوع قطعها من

(9/479)


المرفق ثم عفا فله دية إلا قدر الحكومة في الذراع ولو كانت يد القاطع من المرفق صحيحة لم يجز قطعها رواية واحدة لأنه يأخذ صحيحة بمقطوعة وإن قطع أيديهما وهما صحيحان أو قطع رجلان يديه فقطع أيديهما ثم سرت الجناية فمات من قطعهما فليس لوليهما العفو إلى الدية لأنه قد استوفى ما قيمته دية وإن اختار قتلهما فله ذلك