الشرح
الكبير على متن المقنع كتاب الجهاد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا
جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسولي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو
أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة) متفق عليه
ولمسلم (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم) وعن أنس رضي الله
عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لغدوة أو روحة في سبيل الله خير
من الدنيا وما فيها) رواه البخاري (مسألة) (وهو فرض كفاية إذا قام به قوم
سقط عن الباقين) معنى فرض الكفاية الذي اذا قام به من يكفي سقط عن سائر
الناس وإن لم يقم به من يكفي أثم الناس كلهم فالخطاب في ابتدائه يتناول
الجميع كفرض الأعيان ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط بفعل البعض وفرض
الأعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره، والجهاد من فروض الكفايات في قول
عوام أهل العلم، وحكي عن ابن المسيب أنه فرض عين لقوله تعالى (انفروا خفافا
وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله - ثم قال - إلا تنفروا
يعذبكم عذابا أليما) وقال سبحانه (كتب
(10/364)
عليكم القتال) وروى أبو هريرة أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من
النفاق) رواه أبو داود ولنا قول الله تعالى (لا يستوي القاعدون من المؤمنين
غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله
المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى) وهذا
يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، وقال تعالى (وما كان
المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ولأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا ويقيم هو وأصحابه.
فأما الآية التي احتجوا بها فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما نسخها قوله
تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) رواه الاثرم وأبو داود.
ويحتمل أنه أراد حين استنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم الى غزوة تبوك
وكانت إجابتهم إلى ذلك واجبة عليهم ولذلك هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب
بن مالك وأصحابه الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم، وكذلك يجب على من استنفره
الإمام لقول النبي صلى الله عليه وسلم (وإذا استنفرتم فانفروا) متفق عليه
ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم إما أن يكونوا
جنداً لهم دواوين من أجل ذلك أو يكونوا قد أعدوا أنفسهم له تبرعاً بحيث إذا
قصدهم العدو حصلت المنعة بهم ويكون في الثغور من يدفع العدو عنها ويبعث في
كل سنة جيش يغيرون على العدو
(10/365)
(مسألة) (ولا يجب إلا على ذكر حر مكلف
مستطيع وهو الصحيح الواجد لزاده وما يحمله إذا كان بعيداً) يشترط لوجوب
الجهاد سبعة شروط: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكورية والسلامة من
الضرر ووجود النفقة، فأما الإسلام والبلوغ والعقل فهي شروط لوجوب سائر
الفروع، ولأن
الكافر غير مأمون في الجهاد، والمجنون لا يتأتى منه الجهاد، والصبي ضعيف
البنية، وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: عرضت على النبي صلى الله
عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في المقاتلة: متفق عليه،
وأما الحرية فتشترط لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع الحر
على الإسلام والجهاد ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد، ولأن الجهاد
عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم تجب على العبد كالحج، وأما الذكورية فتشترط لما
روت عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ فقال
(جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة) ولأنها ليست من أهل القتال لضعفها وخورها
ولذلك لا يسهم لها، ولا يجب على خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه ذكراً فلا يجب
عليه مع الشك في شرطه، وأما السلامة من الضرر فمعناه السلامة من العمى
والعرج والمرض وذلك شرط لقول الله سبحانه (ليس على الأعمى حرج ولا على
الأعرج حرج ولا على المريض حرج) ولأن هذه الأعذار يمنعه من الجهاد، فأما
العمى فمعروف، وأما العرج فالمانع منه هو الفاحش الذي يمنع المشي الجيد
(10/366)
والركوب كالزمانة ونحوها، اما اليسير الذي
يتمكن معه من الركوب والمشي وإنما يتعذر عليه شدة العدو فلا يمنع وجوب
الجهاد لأنه ممكن منه فأشبه الأعور، والمرض المانع هو الشديد، فأما اليسير
الذي لا يمنع الجهاد كوجع الضرس والصداع الخفيف فلا يمنع الوجوب كالعور،
وأما وجود النفقة فيشترط لقول الله تعالى [ليس على الضعفاء ولا على المرضى
ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله] ولأن الجهاد
لا يمكن إلا بآلة فاعتبرت القدرة عليها، فإن كان الجهاد على مسافة قريبة
اشترط أن يجد الزاد ونفقة عياله في مدة غيبته وسلاحا يقاتل به، ولا تعتبر
الراحلة لقرب السفر، وإن كانت المسافة تقصر فيها الصلاة اعتبر مع ذلك
الراحلة لقول الله تعالى [ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما
أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناألا يجدوا ما ينفقون] (مسألة)
(وأقل ما يفعل مرة في كل عام إلا أن تدعو الحاجة إلى تأخيره) أقل ما يفعل
الجهاد في كل عام مرة لأن الجزية تجب على أهل الذمة مرة في كل عام وهي بدل
عن النصرة فكذلك مبدلها وهو الجهاد فإن دعت الحاجة إلى تأخيره مثل أن يكون
بالمسلمين ضعف في عدد أو
عدة أو يكون متنظرا لمدد يستعين به أو يكون في الطريق إليهم مانع أو ليس
فيها علف أو ماء أو يعلم من عدوه حسن الرأي في الإسلام ويطمع في إسلامهم إن
أخر قتالهم ونحو ذلك مما يرى المصلحة معه في ترك القتال فيجوز تركه بهدنة
وبغير هدنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد صالح قريشاً عشر سنين وأخر
(10/367)
قتالهم حتى نقضوا عهده وأخر قتال قبائل من
العرب بغير هدنة، وإن دعت الحاجة الى القتال في عام أكثر من مرة وجب لأنه
فرض كفاية فوجب منه ما تدعو الحاجة اليه (فصل) (ومن حضر الصف من أهل فرض
الجهاد أو حضر العدو بلده تعين عليه) وجملة ذلك أن الجهاد يتعين في ثلاثة
مواضع (أحدها) إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان يحرم على من حضر الانصراف
ويتعين عليه المقام لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة
فاثبتوا - وقوله - يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروازحفا فلا
تولوهم الأدبار) الآية (الثاني) إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم
ودفعهم (الثالث) إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير معه لقول الله تعالى
(يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى
الأرض؟) الآية ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (وإذا استنفرتم فانفروا)
متفق عليه (مسألة) (وأفضل ما يتطوع به الجهاد) قال أحمد رحمه الله لا أعلم
شيئاً من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد روى ذلك عنه جماعة من أصحابه
قال الأثرم قال أحمد لا نعلم شيئاً من أبواب البر أفضل من السبيل وقال
الفضل بن زياد سمعت أبا عبد الله وذكر له أمر الغزو فجعل يبكي ويقول ما من
أعمال البر أفضل منه وقال عنه غيره ليس يعدل لقاء العدو شئ ومباشرة القتال
بنفسه أفضل الأعمال والذين يقاتلون العدو هم الذين
(10/368)
يدفعون عن الإسلام وعن حريمهم فأي عمل أفضل
منه؟ الناس آمنون وهم خائفون قد بذلوا مهج أنفسهم، وقد روى ابن مسعود رضي
الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال
(الصلاة بمواقيتها - قلت ثم أي؟ قال - بر الوالدين - قلت - ثم أي؟ قال -
الجهاد في سبيل الله) متفق على معناه
وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى أبو هريرة قال سئل رسول الله صلى الله
عليه وسلم أي الاعمال افضل؟ اواي الأعمال خير؟ قال (الإيمان بالله ورسوله -
قيل ثم أي شئ؟ قال - الجهاد سنام العمل - قيل ثم أي قال - حج مبرور) قال
الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى أبو سعيد قال قيل يا رسول الله أي الناس
أفضل قال (من يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله) متفق عليه وعن ابن عباس أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال (ألا أخبركم بخير الناس؟ رجل ممسك بعنان فرسه
في سبيل الله) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى الخلال بإسناده عن الحسن
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده مابين السماء
والأرض من عمل أفضل من جهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لارفث فيها ولافسوق
ولا جدال) ولأن الجهاد بذل المهجة والمال ونفعه يعم المسلمين كلهم صغيرهم
وكبيرهم وقويهم وضعيفهم ذكرهم وأنثاهم وغيره لا يساويه في نفعه وخطره فلا
يساويه في فضله
(10/369)
(مسألة) [وغزو البحر أفضل من البر] غزو
البحر مشروع وفضله كبير قال أنس بن مالك نام رسول الله؟ صلى الله عليه وسلم
ثم استيقظ وهو يضحك قالت أم حرام فقلت ما يضحكك يارسول الله؟ قال (ناس من
أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبح هذا البحر ملوكاً على الأسرة
- أو - مثل الملوك على الأسرة) متفق عليه قال ابن عبد البر: أم حرام بنت
ملحان أخت أم سليم خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة أرضعته
أخت لهما ثالثة ولم يرو هذا عن أحد سواه وأظنه إنما قال هذا لأن النبي صلى
الله عليه وسلم كان ينام في بيتها وينظر إلى شعرها ولعل هذا كان قبل نزول
الحجاب وروى أبو داود باسناده عن أم حرام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال (المائد في البحر الذي يصيبه القئ له أجر شهيد والغرق له أجر شهيدين)
وروى ابن ماجة بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (شهيد البحر
مثل شهيدي البر والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر وما بين الموجتين
كقاطع الدنيا في طاعة الله وإن الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد
البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين
ويغفر لشهيد البحر الذنوب والدين) ولأن البحر اعظم خطراومشقة فإنه بين خطر
العدو وخطر الغرق ولا يتمكن من الفرار إلا مع
أصحابه فكان أفضل من غيره [فصل] وقتال أهل الكتاب أفضل من قتال غيرهم وكان
ابن المبارك رضي الله عنه يأتي من مرو لغزو الروم فقيل له في ذلك فقال إن
هؤلاء يقاتلون على دين وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأم
خلاد (إن ابنك له أجر شهيدين) قالت ولم ذاك يا رسول الله؟ قال (لأنه قتله
أهل الكتاب) رواه أبو داود
(10/370)
(مسألة) (ويغزى مع كل بر وفاجر) يعني مع كل
إمام براً كان أو فاجراً وقد سئل أحمد عن الرجل يقول أنا لا أغزو ويأخذه
ولد العباس إنما يوفر الفئ عليهم فقال سبحان الله هؤلاء قوم سوء هؤلاء
القعدة مثبطون جهال فيقال أرأيتم لو أن الناس كلهم قعدوا كما قعدتم من كان
يغزو؟ أليس كان قد ذهب الإسلام؟ ما كانت تصنع الروم؟ وقد روى أبو داود
بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً) وبإسناده عن أنس رضي
الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاث من أصل الإيمان الكف
عمن قال لا إله الا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل والجهاد
ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا
عدل عادل والإيمان بالأقدار) ولأن ترك الجهاد مع الفاجر يفضي إلى قطعه
وظهور الكفار على المسلمين واستئصالهم وظهور كلمة الكافر وفيه فساد عظيم،
قال الله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) (فصل) قال
أحمد لا يعجبني أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع
المسلمين وإنما يغزو مع من له شفقة وحيطة على المسلمين فإن كان يعرف بشرب
الخمر والغلول يغزى معه إنما ذلك في نفسه ويروى عن النبي صلى الله عليه
وسلم (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) (مسألة) (ويقاتل كل قوم من
يليهم من العدو) .
(10/371)
الأصل في هذا قول الله تعالى (يا أيها
الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ولأن الأقرب أكثر ضرراً وفي
قتاله دفع ضرره عن المقاتل له وعمن وراءه ولأن الأشتغال بالبعيد عنه
يمكنه من انتهاز الفرصة في المسلمين لاشتغالهم عنه قيل لأحمد رحمه الله:
يحكون عن ابن المبارك أنه قيل له تركت قتال العدو عندك وجئت إلى ههنا قال؟
هؤلاء أهل كتاب؟ فقال أبو عبد الله سبحان الله ما أدري ما هذا القول يترك
العدو عنده ويجئ إلى ههنا؟ أفيكون هذا؟ أو يستقيم هذا؟ وقد قال الله تعالى
[قاتلوا الذين يلونكم من الكفار] ولو أن أهل خراسان كلهم عملوا على هذا لم
يجاهد الترك أحد وهذا والله أعلم إنما فعله ابن المبارك لكونه متبرعا
بالجهاد والكفاية حاصلة بغيره من أهل الديوان واجناد المسلمين والمتبرع له
ترك الجهاد بالكلية فكان له أن يجاهد حيث شاء ومع من شاء.
إذا ثبت هذا فإن كان له عذر في البداية بالأبعد لكونه أخوف أو لمصلحة في
البداية به لقربه وامكان الفرصة منه أو لكون الأقرب مهادناً أو يمنع مانع
من قتاله فلا بأس بالبداية بالأبعد للحاجة.
(فصل) وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فيما يراه
من ذلك وينبغي أن يبتدئ بترتيب قوم في أطراف البلاد يكفون من بازائهم من
المشركين ويأمر بعمل حصونهم وحفر خنادقم وجميع مصالحهم ويؤمر في كل ناحية
أميراً يقلدهم أمر الحرب وتدبير الجهاد ويكون ممن له رأي وعقل ونجدة وبصر
بالحرب ومكايدة العدو مع أمانة ورفق بالمسلمين ونصح لهم وإنما يبدأ
(10/372)
بذلك لأنه لا يأمن عليها من المشركين،
ويغزو كل قوم من يليهم إلا أن يكون في بعض الجهات من لا يكفيه من يليه
فينجدهم بقوم آخرين ويكونون معهم ويوصي من يؤمره أن لا يحمل المسلمين على
مهلكة ولا يأمرهم بدخول مطمورة يخاف أن يقتلوا تحتها فان فعل ذلك فقد أساء
ويستغفر الله تعالى ولا عقل عليه ولا كفارة إذا أصيب واحد منهم بطاعته لأنه
فعل ذلك باختياره، فإن عدم الإمام لم يؤخر الجهاد لأن مصلحته تفوت بتأخيره،
وإن حصلت غنيمة قسموها على موجب الشرع، قال القاضي وتؤخر قسمه الإماء حتى
يقوم إمام احتياطاً للفروج فإن بعث الإمام جيشاً وأمر عليهم أميراً فقتل أو
مات فللجيش أن يؤمروا أحدهم كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في جيش
مؤتة لما قتل أمراؤهم أمروا عليهم خالد بن الوليد فبلغ النبي صلى الله عليه
وسلم فرضي أمرهم وصوب رأيهم وسمى خالداً يومئذ (سيف الله) [فصل] قال أحمد
قال عمر رضي الله عنه وفروا الأظفار في أرض العدو فإنه سلاح قال أحمد
يحتاج إليها في أرض العدو ألا ترى أنه إذا أراد أن يحل الحبل أو الشئ فإذا
لم يكن له اظفار لم يستطع وقال عن الحكم بن عمرو أمرنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن لا نحفي الأظفار في الجهاد فإن القوة الأظفار [فصل] قال أحمد
يشيع الرجل إذا خرج ولا يتلقونه شيع علي رضي الله عنه إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم في غزوة تبوك ولم يتلقه، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله
عنه أنه شيع يزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام ويزيد راكب وأبو بكر رضي
الله عنه يمشي فقال
(10/373)
له يزيد يا خليفة رسول إما أن تركب وإما أن
أنزل انا فامشي معك فقال لا أركب ولا تنزل إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله
تعالى، وشيع أبو عبد الله أبا الحارث الصائغ ونعلاه في يديه وذهب إلى فعل
أبي بكر رضي الله عنه أراد أن تغبر قدماه في سبيل الله وقال عن عوف بن مالك
الخثعمي عن النبي صلى الله عليه وسلم (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه
الله على النار) قال أحمد ليس للخثعمي صحبة وهو قديم (مسألة) (وتمام الرباط
أربعون يوما وهو لزوم الثغر للجهاد) معنى الرباط الإقامة بالثغر مقويا
للمسلمين على الكفار والثغر كل مكان يخيف أهل العدو ويخيفهم وأصله من رباط
الخيل لأن هؤلاء يربطون خيولهم وهؤلاء يربطون خيولهم كل يعد لصاحبه فسمي
المقام بالثغر رباطاً وإن لم يكن خيل، وفيه فضل عظيم وأجر كبير قال أحمد
ليس يعدل الجهاد والرباط شئ والرباط دفع عن المسليمن وعن حريمهم وقوة لأهل
الثغر ولأهل الغزو فالرباط عندي أصل الجهاد وفرعه والجهاد أفضل منه للعناء
والتعب والمشقة وقد روي في فضل الرباط أخبار منها ما روى سلمان رضي الله
عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (رباط ليلة في سبيل الله
خير من صيام شهر وقيامه فإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل وأجري عليه
رزقه وأمن الفتان) رواه مسلم وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال (كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله
فإنه
(10/374)
ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من
فتان القبر) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن
صحيح وعن عثمان بن عثمان رضي الله عنه أنه قال على المنبر: إني كنت كتمتكم
حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية تفرقكم عني ثم بدا لي
أن أحدثكموه ليختار أمرؤ منكم لنفسه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول (رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل) رواه
أبو داود والاثرم وغيرهما.
إذا ثبت هذا فإن الرباط يقل ويكثر فكل مدة أقامها بنية الرباط فهي رباط قلت
أو كثرت ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (رباط يوم - ورباط ليلة) قال
أحمد يوم رباط وليلة رباط وساعة رباط وقال عن أبي هريرة رضي الله عنه من
رابط يوما في سبيل الله كتب له أجر الصائم القائم ومن زاد زاده الله، وروى
سعيد بإسناده عن أبي هريرة قال رباط يوم في سبيل الله أحب إلي من أن أوافق
ليلة القدر في أحد المسجدين مسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم ومن رابط أربعين يوما فقد استكمل الرباط وتمام الرباط أربعون يوماً
روى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وقد ذكرنا خبر أبي هريرة، وروى أبو
الشيخ في كتاب الثواب بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (تمام
الرباط أربعون يوما) وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قدم على عمر
بن الخطاب من الرباط فقال له كم رابطت قال ثلاثين يوماً قال عزمت عليك إلا
رجعت حتى تتمها أربعين يوماً فإن رابط أكثر فله أجره كما قال أبو هريرة ومن
زاد زاده الله (فصل) وأفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفاً لأنهم أحوج
ومقامه به أنفع قال أحمد رحمه
(10/375)
الله: أفضل الرباط أشدهم كلبا وقيل لأبي
عبد الله فأين أحب إليك أن ينزل الرجل بأهله؟ قال كل مدينة معقل للمسلمين
مثل دمشق وقال أرض الشام أرض المحشر ودمشق موضع يجتمع الناس إليه إذا غلبت
الروم، قيل لأبي عبد الله فهذه الأحاديث التي جاءت (إن الله تكفل لي بأهل
الشام) ونحو هذا قال ما أكثر ما جاء فيه، وقيل له إن هذا في الثغور فأنكره
وقال أرض القدس أين هي ولا يزال أهل الغرب ظاهرين؟ هم أهل الشام ففسر أحمد
الغرب في هذا الحديث بالشام وهو صحيح رواه مسلم وإنما فسره بذلك لأن الشام
يسمى مغرباً لأنه مغرب للعراق كما يسمى العراق مشرقاً ولهذا قيل ولأهل
المشرق ذات عرق وقد جاء في حديث مصرحاً به (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين
على الحق لا يضرهم
من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم بالشام) وفي حديث مالك بن يخامر عن معاذ
رضي الله عنه قال (وهم بالشام) رواه البخاري وروى في تاريخه عن أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تزال طائفة بدمشق
ظاهرين) وقد روي في الشام أخبار كثيرة منها حديث عبد الله بن حوالة الأزدي
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ستجندون أجناداً جنداً
بالشام وجندا بالعراق وجنداً باليمن فقلت خرلي يا رسول الله قال عليك
بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده فمن أبى فليلحق
باليمن ويشق من غدره فإن الله تكفل لي بالشام وأهله) رواه أبو داود بمعناه
وكان أبو إدريس إذا روى هذا الحديث قال ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه
وروي عن الأوزاعي قال أتيت المدينة فسألت من
(10/376)
بها من العلماء؟ فقيل محمد بن المنكدر
ومحمد بن كعب القرظي ومحمد بن علي بن عبد الله بن العباس ومحمد بن علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب فقلت والله لأبدأن بهذا قبلهم فدخلت إليه فأخذ
بيدي وقال من أي إخواننا أنت؟ قلت من أهل الشام قال من أيهم؟ قلت من أهل
دمشق قال حدثني أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (يكون
للمسلمين ثلاث معاقل فمعقلهم في الملحمة الكبرى التي تكون بعمق أنطاكية
دمشق، ومعقلهم من الدجال بيت المقدس، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج طور سيناء))
رواه أبو نعيم في الحلية وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال (إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة
يقال لها دمشق من خير مدائن الشام) رواه أبو داود (مسألة) (ولا يستحب نقل
أهله إليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رباط يوم في سبيل الله خير
من ألف يوم فيما سواه من المنازل) قد ذكرنا هذا الحديث وهو صحيح رواه أبو
داود وغيره واراد بالثغر ههنا الثغر المخوف وهذا قول الحسن والاوزاعي لما
روى يزيد بن عبد الله قال قال: عمر رضي الله عنه لا تنزلوا المسلمين ضفة
البحر رواه الأثرم، ولأن الثغور المخوفة لا يؤمن ظفر العدو بها وبمن فيها
واستيلاؤهم على الذرية والنساء
(10/377)
قيل لأبي عبد الله رحمه الله فتخاف على
المنتقل بعياله إلى الثغر الإثم؟ قال كيف لا أخاف الأثم وهو يعرض ذريته
للمشركين؟ وقال كنت آمر بالتحول بالأهل والعيال إلى الشام قبل اليوم فأنا
أنهى عنه الآن لأن الأمر قد اقترب، وقال لابد لهؤلاء القوم من يوم قيل فذلك
في آخر الزمان قال فهذا آخر الزمان قيل له فالنبي صلى الله عليه وسلم كان
يقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها قال هذا للواحدة ليس الذرية قال
الشيخ رحمه الله وهذا من كلام أحمد محمول على أن غير أهل الثغر لا يستحب
لهم الانتقال بأهلهم إلى ثغر مخوف فأما أهل الثغر فلابد لهم من السكنى
بأهلهم لولا ذلك لخربت الثغور وتعطلت وخص الثغر المخوف بالكراهة لأن الخوف
عليها أكثر ولأن الغالب من غير المخوفة سلامتها وسلامة أهلها (فصل) ويستحب
لأهل الثغر أن يجتمعوا في مسجد واحد بحيث إذا حضر النفير صادفهم مجتمعين
فيبلغ الخبر جميعهم ويراهم عين الكفار فيعلم كثرتهم فيخوف بهم لأنهم إذا
كانوا متفرقين رأى الجاسوس قلتهم، وروي عن الأوزاعي أنه قال في المساجد
التي بالثغر لو أن لي عليها ولاية لسمرت أبوابها حتى تكون صلاتهم في مسجد
واحد حتى إذا جاء النفير وهم متفرقون لم يكونوا مثلهم إذا كانوا في موضع
واحد (فصل) في الحرس في سبيل الله وفيه ثواب عظيم وفضل كبير قال ابن عباس
رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقول عينان لا تمسهما
النار عين بكت من حشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله) رواه الترمذي
وقال حديث حسن غريب وعن سهل بن الحنظلية أنهم سارو مع رسول
(10/378)
الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فأطنبوا
السير حتى كان عشية قال من يحرسنا الليلة؟) قال أنس بن أبي مرثد الغنوي أنا
يا رسول الله قال (فاركب) فركب فرساً له وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال له (استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغرن من قبلك
الليلة) فلما أصبحنا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الى مصلاه فركع
ركعتين ثم قال (هل أحسستم فارسكم؟) قالوا لا فثوب بالصلاة فجعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال (ابشروا قد جاء فارسكم) فإذا هو قد جاء حتى إذا وقف علي
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إني انطلفت حتى كنت في أعلى هذا الشعب
حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما
فنظرت فلم أر أحداً فقال له
رسول الله (هل نزلت الليلة؟) قال لا إلا مصلياً أو قاضي حاجة فقال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم (قد أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها) رواه أبو
داود، وعن عثمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول (حرس
ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة قيام ليلها وصيام نهارها) رواه ابن
سنجر (مسألة) (وتجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه في دار الحرب وتستحب
لمن قدر عليه) الهجرة هي الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام قال الله
تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا
مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟) الآيات.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أنا برئ من مسلم بين مشركين)
(10/379)
رواه أبو داود والنسائي والترمذي، ومعناه
لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت في آي وأخبار سوى هذين كثير
(فصل) وحكم الهجرة باق لا ينقطع إلى يوم القيامة في قول عامة أهل العلم،
وقال قوم قد انقطعت الهجرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لاهجرة بعد
الفتح) وقال (قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية) وروى أن صفوان بن أمية لما
أسلم قيل له لا دين لمن لم يهاجر فأتى المدينة فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم (ما جاء بك أبا وهب؟) قال قيل إنه لا دين لمن لم يهاجر قال (ارجع أبا
وهب إلى أباطح مكة أقروا على مساكنكم فقد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية)
روى ذلك كله سعيد ولنا ما روى معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة
حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه أبو داود، وروي عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال (لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد) رواه سعيد وغيره مع إطلاق الآيات
والأخبار الدالة عليها، وتحقق المعنى المقتضي لها في كل زمان وأما الاحاديث
الأول فأراد بها لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح، وقوله لصفوان (إن الهجرة
قد انقطعت) يعنى من مكة لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار فإذا فتح لم يبق
بلد الكفار فلا تبقى منه هجرة، وهكذا كل بلد فتح لا تبقى منه هجرة إنما
الهجرة النية
(10/380)
(فصل) والناس في الهجرة على ثلاثة أضرب
[أحدها] من تجب عليه وهو ممن يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه أو لا يمكنه
إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه الهجرة لقول الله
تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا
مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك
مأواهم جهنم وساءت مصيرا) وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام
بواجب دينه واجب على من قدر عليه والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته وما لا
يتم الواجب إلا به فهو واجب [الثاني] من لاهجرة عليه وهو من يعجز عنها إما
لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف من النساء والولدان وشبههم فهذا لا هجرة
عليه لقول الله تعالى (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا
يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله
عفوا غفورا) فهذه لا توصف باستحباب لعدم القدرة عليها (الثالث) من تستحب له
ولا تجب عليه وهو من يقدر عليها لكنه يتمكن من إظهار دينه مع إقامته في دار
الكفار فيستحب له ليتمكن من جهادهم وتكثير المسلمين ومعونتهم ويتخلص من
تكثير الكفار ومخالطتهم ورؤية المنكر بينهم، ولا تجب عليه لإمكان إقامة
واجب دينه بدون الهجرة وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم رضي
الله عنه مقيما بمكة مع إسلامه
(10/381)
وروي أن نعيم النحام حين أراد أن يهاجر
جاءه قومه بنو عدي فقالوا له أقم عندنا وأنت على دينك ونحن نمنعك ممن يريد
أذاك واكفنا ما كنت تكفينا وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم فتخلف عن
الهجرة مدة ثم هاجر بعد وقال له النبي صلى الله عليه وسلم (قومك كانوا
خيراً لك من قومي لي: قومي أخرجوني وأرادوا قتلي وقومك حفظوك ومنعوك) فقال
يا رسول الله قومك أخرجوك إلى طاعة الله وجهاد عدوه وقومي ثبطوني عن الهجرة
وطاعة الله أو نحو هذا القول (مسألة) (ولا يجاهد من عليه دين لا وفاء له،
ومن أحد أبويه مسلم إلا بإذن غريمه وأبيه إلا
أن يتعين عليه الجهاد فإنه لا طاعة لهما في ترك فريضة من كان عليه دين حال
أو مؤجل لم يجز له الخروج إلى الغزو إلا بإذن غريمه إلا أن يترك وفاء أو
يقيم به كفيلاً أو يوثقه برهن وبهذا قال الشافعي، ورخص مالك في الغزو لمن
لا يقدر على قضاء دينه لأنه لا تتوجه عليه المطالبة به ولا حبسه من أجله
فلم يمنع من الغزو كما لو لم يكن عليه دين ولنا أن الجهاد تقصد منه الشهادة
التي تفوت بها النفس فيفوت الحق بفواتها، وقد روي أن رجلا جاء إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله صابراً
محتسباً يكفر عني خطاياي؟ قال (نعم إلا الدين فإن جبريل قال لي ذلك) وأما
إذا تعين عليه الجهاد فلا إذن لغريمه لأنه تعلق بعينه فكان مقدماً على ما
في ذمته كسائر فروض الأعيان، ولكن يستحب له أن لا يتعرض لمظان القتل من
المبارزة والوقوف في أول المقاتلة لأن فيه تغريراً
(10/382)
بتفويت الحق، فإن ترك وفاء أو أقام كفيلاً
فله الغزو بغير إذن نص عليه أحمد فيمن ترك وفاء لأن عبد الله بن عمرو بن
حرام خرج إلى أحد وعليه دين كثير فاستشهد وقضاه عنه ابنه جابر بعلم النبي
صلى الله عليه وسلم ولم يلمه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينكر
فعله بل مدحه وقال (مازالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه) وقال لابنه
جابر (أشعرت أن الله أحيا أباك وكلمه كفاحا) (فصل) ومن كان أبواه مسلمين لم
يجاهد بغير إذنهما تطوعاً روى نحو ذلك عمر وعثمان رضي الله عنهما وبه قال
مالك والاوزاعي والثوري والشافعي وسائر أهل العلم لما روى عبد الله بن عمرو
بن العاص رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
يا رسول الله أجاهد؟ قال (ألك أبوان؟) قال نعم قال (ففيهما فجاهد) وروى ابن
عباس نحوه قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وفي رواية قال: جئت أبايعك على
الهجرة وتركت أبوي يبكيان قال (ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) وعن أبي
سعيد أن رجلا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم (هل لك باليمن أحد؟) قال نعم أبواي، قال (أذنا لك؟) قال لا،
قال (فارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما) رواهن أبو داود،
ولأن
بر الوالدين فرض عين والجهاد فرض كفاية وفرض العين يقدم وكذلك إن كان
أحدهما مسلماً لم يجاهد بغير إذنه لأن بره فرض عين فقدم على الجهاد
كالأبوين، فأما إن كانا غير مسلمين فلا إذن لهما وهذا قول الشافعي وقال
الثوري لا يغزو إلا بإذنهما لعموم الأخبار
(10/383)
ولنا أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
كانوا يجاهدون وفيهم من أبواه كافران ولم يستأذنهما منهم أبو بكر الصديق
وأبو حذيفة بن عتبة كان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وأبوه رئيس
المشركين يومئذ وأبو عبيدة قتل أباه في الجهاد فأنزل الله تعالى (لا تجد
قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر) الآية وهذا يخص عموم الأخبار فإن كانا
رقيقين فعموم كلامه ههنا يقتضي وجوب استئذانهما وهو ظاهر كلام الخرقي لظاهر
الأخبار ولأنهما مسلمان أشبها الحرين ويحتمل أن لا يعتبر إذنهما لأنه لا
ولاية لهما فإن كانا مجنونين فلا إذن لهما لعدم اعتبار قولهما.
(فصل) فإن تعين عليه الجهاد سقط إذنهما وكذلك كل فرائض الأعيان لا طاعة
لهما في تركها لأن تركها معصية ولاطاعة لأحد في معصية الله وكذلك كل ما وجب
كالحج وصلاة الجماعة والجمع والسفر للعلم الواجب لأنها فرض عين فلم يعتبر
إذن الأبوين فيها كالصلاة ولأن الله تعالى قال (ولله على الناس حج البيت من
استطاع إليه سبيلا) ولم يشترط إذن الوالدين.
(فصل) فإن خرج في جهاد تطوع بإذنهما فمنعاه منه بعد سيره وقبل تعينه عليه
فعليه الرجوع لأنه معنى لو وجد في الابتداء منع فمنع إذا وجد في أثنائه
كسائر الموانع إلا أن يخاف على نفسه في الرجوع أو يحدث له عذر من مرض أو
نحوه فإن أمكنه الإقامة في الطريق وإلا مضى مع الجيش وإذا حضر الصف تعين
عليه لحضوره وسقط إذنهما وإن كان رجوعهما عن الأذن بعد تعين الجهاد عليه لم
يؤثر
(10/384)
شيئاً وإن كانا كافرين فأسلما ومنعاه كان
كمنعهما بعد إذنهما سواء، وحكم الغريم يأذن في الجاد ثم يمنع منه حكم
الوالد على ما فصلناه، فأما إن حدث للإنسان في نفسه مرض أو عمى أو عرج فله
الانصراف سواء التقى الصفان أو لا لأنه لا يمكنه القتال فلا فائدة في
مقامه.
(فصل) فإن أذن له والداه في الجهاد وشرطا عليه أن لا يقاتل فحضر القتال
تعين عليه وسقط شرطهما كذلك قال الاوزاعي وابن المنذر لأنه صار واجباً عليه
فلم يبق لهما في تركه طاعة ولو خرج بغير إذنهما فحضر القتال ثم بدا له
الرجوع لم يجز له ذلك.
(مسألة) (ولا يجوز للمسلمين الفرار من ضعفهم إلا متحرفين لقتال أو متحيزين
إلى فئة فإن زاد الكفار فلهم الفرار ألا أن يغلب على ظنهم الظفر) وجملة ذلك
أنه إذا التقى المسلمون والكفار وجب الثبات وحرم الفرار لقوله تعالى (يا
أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا) وقوله سبحانه (يا أيها الذين
آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار) الآية، وقد عد النبي
صلى الله عليه وسلم الفرار من الزحف من الكبائر وحكي عن الحسن والضحاك أن
هذا كان يوم بدر خاصة ولا يجب في غيرها.
(10/385)
ولنا أن الأمر مطلق والخبر عام فلا يجوز
التقييد والتخصيص إلا بدليل، وإنما يجب الثبات بشرطين (أحدهما) أن لا يزيد
الكفار على ضعف المسلمين فإن زادوا جاز الفرار لقول الله تعالى (الآن خفف
الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) وهذا
وإن كان لفظة لفظ الخبر فهو أمر بدليل قوله (الآن خفف الله عنكم) ولو كان
خبراً على حقيقته لم يكن ردنا من غلبة الواحد للعشرة إلى غلبة الاثنين
تخفيفاً ولأن خبر الله تعالى صدق لا يقع بخلاف مخبره وقد علم أن الظفر
والغلبة لا يحصل للمسلمين في كل موطن يكون العدو فيه ضعف المسلمين فما دون
فعلم أنه أمر وفرض ولم يأت شئ ينسخ هذه الآية في كتاب ولا سنة فوجب الحكم
بها، قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا
مائتين) فشق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ثم جاء
تخفيف فقال (الآن خفف الله عنكم - إلى قوله - يغلبوا مائتين) فلما خفف الله
عنهم من العدد نقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد، رواه أبو دواد وقال ابن
عباس من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فما فر (الثاني) أن لا يقصد
بفراره التحيز إلى فئة ولا التحرف لقتال فإن قصد أحد هذين أبيح له لأن الله
تعالى قال (إلا متحرفا
لقتال أو متحيزا إلى فئة) ومعنى التحرف للقتال أن ينحاز إلى موضع يكون
القتال فيه أمكن مثل أن ينحاز من مواجهة الشمس أو الريح إلى استدبارهما أو
من نزول إلى علو أو من معطشة إلى موضع
(10/386)
ماء أو يفر بين أيديهم لتنتقض صفوفهم أو
تنفرد خيلهم من رجالتهم أو ليجد فيهم فرصة أو ليستند إلى جبل ونحو ذلك مما
جرت به عادة أهل الحرب، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يوماً في
خطبته إذا قال يا سارية بن زنيم الجبل ظلم الذئب من استرعاه الغنم فأنكرها
الناس، فقال علي رضي الله عنه دعوه فلما نزل سألوه عما قال لهم فلم يعترف
به وكان بعث سارية إلى ناحية العراق لغزوهم فلما قدم ذلك الجيش أخبروا أنهم
لقوا عدوهم يوم الجمعة فظفر عليهم فسمعوا صوت عمر فتحيزوا إلى الجبل فنجوا
من عدوهم وانتصروا عليهم وأما التحيز إلى فئة فهو أن يصير إلى فئة من
المسلمين ليكون معهم فيقوى بهم على عدوه وسواء بعدت المسافة أو قربت قال
القاضي لو كانت الفئة بخراسان والفئة بالحجاز جاز التحيز إليها ونحوه ذكر
أصحاب الشافعي لأن ابن عمر رضي الله عنهما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (إني فئة لكم) كانوا بمكان بعيد عنه وقال عمر رضي الله عنه أنا فئة كل
مسلم وكانوا بالمدينة وجيوشه بمصر والشام والعراق وخراسان رواهما سعيد،
وقال عمر رضي الله عنه رحم الله أبا عبيد لو كان تحيز إلي لكنت له فئة.
وإذا خشي الأسر فالأولى أن يقاتل حتى يقتل ولا يسلم نفسه للأسر لأنه يفوز
بالثواب والدرجة الرفيعة ويسلم من تحكم الكفار عليه بالتعذيب والاستخدام
والفتنة، فإن استأسر جاز لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم بعث عشرة عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت فنفرت
(10/387)
إليهم هذيل بقريب من مائة رجل رام فلما أحس
بهم عاصم وأصحابه لجؤا إلى فدفد فقالوا لهم انزلوا فأعطونا أيديكم ولكم
العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحداً فقال عاصم أما أنا فلا أنزل في ذمة
مشرك فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما مع سبعة معه ونزل إليهم ثلاثة على العهد
والميثاق منهم خبيب وزيد بن الدثنة فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم
فربطوهم بها متفق عليه فعاصم أخذ بالعزيمة وخبيب
وزيد أخذا بالرخصة وكلهم محمود غير مذموم ولا ملوم (فصل) فإن كان العدو
أكثر من ضعف المسلمين فغلب عن ظن المسلمين الظفر فالأولى لهم الثبات لما في
ذلك من المصلحة ويجوز لهم الانصراف لأنهم لا يأمنون العطب والحكم علق على
مظنته وهو كونهم أقل من نصف عدوهم ولذلك لزمهم الثبات إذا كانوا أكثر من
النصف وإن كان غلب عل ظنهم الهلاك فيه، ويحتمل أن يلزمهم الثبات إذا غلب
على ظنهم الظفر لما فيه من المصلحة فإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة
والسلامة في الانصراف فالأولى لهم الانصراف وإن ثبتوا جاز لأن لهم غرضاً في
الشهادة مع جواز الغلبة أيضاً وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة
والانصراف فالأولى لهم الثبات لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال
محتسبين فيكونوا أفضل من المولين ولأنه يجوز أن يغلبوا أيضاً فقد قال تعالى
(كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) الآية ولذلك صبر عاصم وأصحابه
فقاتلوا حتى أكرمهم الله بالشهادة
(10/388)
[فصل] فان جاء العدو بلداً فلأهله التحصن
منهم وإن كانوا أكثر من نصفهم ليلحقهم مدد أو قوة ولا يكون ذلك توليا ولا
فراراً إنما التولي بعد اللقاء فإن لقوهم خارج الحصن فلهم التحيز إلى الحصن
لأنه بمنزلة التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة، وان غزوا فذهبت دوابهم فليس
ذلك عذرا في الفرار لأن القتال ممكن للرجالة وإن تحيزو إلى جبل ليقاتلوا
فيه رجالة فلا بأس لأنه تحرف للقتال وإن ذهب سلاحهم فتحيزوا إلى مكان
يمكنهم القتال فيه بالحجارة والتستر بالشجر ونحوه أولهم في التحيز إليه
فائدة جاز (فصل) وإن فروا قبل إحراز الغنيمة فلا شئ لهم إذا أحرزها غيرهم
لأن ملكها لمن أحرزها وإن ادعوا أنهم فروا متحيزين إلى فئة أو متحرفين
للقتال فلا شئ لهم أيضاً لذلك وإن فروا بعد إحراز الغنيمة لم يسقط سهمهم
منها لأنهم ملكوا الغنيمة بحيازتها فلم يزل ملكهم عنها بفرارهم (مسألة)
(فإن ألقي في مركبهم نار فاشتعلت فيه فالذي يغلب على ظنهم السلامة فيه من
المقام أو إلقاء أنفسهم في الماء فالأولى لهم فعله وإن استوى عندهم الأمران
فقال أحمد رحمه الله كيف شاء صنع)
قال الأوزاعي هما موتتان فاختر أيسرهما وعنه يلزمهم المقام ذكرها أبو
الخطاب لأنهم إذا رموا أنفسهم بالماء كان موتهم بفعلهم وإذا أقاموا فموتهم
بفعل غيرهم (فصل) قال رضي الله عنه (ويجوز تبييت الكفار ورميهم بالمنجنيق
وقطع المياه عنهم وهدم حصونهم) معنى تبييت الكفار كبسهم ليلا وقتلهم وهم
غارون قال أحمد لا بأس بالبيات وهل غزو
(10/389)
الروم إلا بالبيات؟ قال ولا نعلم أحداً كره
بيات العدو وذلك لما روى الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه قال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يسئل عن الديار من ديار المشركين يبيتون فيصيبون
من نسائهم وذراريهم فقال (هم منهم) متفق عليه وقد قال سلمة بن الأكوع رضي
الله عنه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه فغزونا
ناساً من المشركين فبيتناهم رواه أبو داود، فإن قيل فقد نهى النبي صلى الله
عليه وسلم عن قتل النساء والذرية، قلنا هذا محمول على التعمد قتلهم
(لقتلهم) قال أحمد أما أن يتعمد قتلهم فلا قال وحديث الصعب بعد نهيه وعن
قتل النساء لأن نهيه عن قتل النساء حين بعث إلى ابن أبي الحقيق وعلى أن
الجمع بينهما يحمل النهي على التعمد والإباحة على ما عداه ويجوز رميهم
بالمنجنيق لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف،
وظاهر كلامه ههنا أنه يجوز مع الحاجة وعدمها للحديث وممن رأى ذلك الثوري
والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وقد روي عن عمرو بن العاص أنه نصب
المنجنيق على الإسكندرية ولأن القتال به معتاد أشبه الرمي بالسهام وبجوز
رميهم بالنار وهدم حصونهم وقطع المياه عنهم وإن تضمن ذلك إتلاف النساء
والصبيان لحديث الصعب بن جثامة في البيات وهذا في معناه ولأن النبي صلى
الله عليه وسلم نصب المنجنيق وهو يهدم الحصون عادة (مسألة) (ولا يجوز إحراق
نحل ولا تغريقه) هذا قول عامة أهل العلم منهم الأوزاعي والليث والشافعي
وقيل لمالك أنحرق بيوت نحلهم؟ فقال
(10/390)
ما النحل فلا أدري ما هو؟ ومقتضى مذهب أبي
حنيفة إباحته لأن فيه غيظا لهم واضعافا فأشبه قتل بهائمهم حال قتالهم
ولنا ماروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه انه قال ليزيد بن أبي سفيان حين
بعثه اميرا على على القتال بالشام ولا تحرقن نحلا ولا تغرقنه وروي عن ابن
مسعود رضي الله عنه أنه قدم عليه ابن اخيه من غزاة غزاها فقال لعلك حرقت
حرثا؟ قال نعم قال لعلك حرقت نحلا؟ قال نعم قال لعلك قتلت صبيا قال نعم قال
ليكن غزوك كفافا أخرجهما سعيد ونحو ذلك عن ثوبان ولأن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن قتل النحلة ولأنه إفساد فيدخل في عموم قوله تعالى (وإذا تولى
سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يجب الفساد) ولأنه
حيوان ذو روح فلم يجز قتله ليغيظهم كنسائهم وصبيانهم فأما أخذ العسل وأكله
فمباح لأنه من الطعام المباح، وهل يجوز أخذ الشهد كله؟ فيه روايتان
[إحداهما] لا يجوز لأن فيه هلاك النحل [والثانية] يجوز لأن هلاكه إنما يحصل
ضمنا غير مقصود فأشبه قتل النساء في البيات (مسألة) (ولا يجوز عقر دابة ولا
ذبح شاة إلا لأكل يحتاج إليه) أما عقر دوابهم في غير حال الحرب لمغايظتهم
والافساد عليهم فلا يجوز سواء خفنا أخذهم لها أو
(10/391)
لم نخف وبهذا قال الليث والاوزاعي والشافعي
وأبو ثور وقال أبو حنيفة ومالك يجوز لأن فيه غيظا لهم واضعافا لقوتهم فأشبه
قتلها حال قتالهم ولنا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في وصيته ليزيد
حين بعثه أميراً: يا يزيد لا تقتل صبياً ولا امرأة ولا هرماً ولا تخربن
عامراً ولا تعقرن شجراً مثمراً ولا دابة عجماء ولا شاة إلا لمأكلة ولا
تحرقن نحلا ولا تغرقنه ولا تغلل ولا تجبن فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن قتل شئ من الدواب صبراً، ولانه حيوان ذوحرمة فأشبه قتل النساء والصبيان،
فأما حال الحرب فيجوز فيها قتل المشركين كيف أمكن بخلاف حالهم إذا قدر
عليهم ولهذا جاز قتل النساء والصبيان في البيات وفي المطمورة وإذا لم يتعمد
قتلهم منفردين بخلاف حالة القدرة عليهم، وقتل بهائمهم حال القتال يتوصل به
إلى قتلهم وهزيمتهم وقد روي أن حنظلة بن الراهب عقر فرس أبي سفيان به يوم
أحد فرمت به فخلصه ابن شعوب وليس في هذا خلاف
(فصل) فأما عقرها للآكل فإن كانت الحاجة داعية إليه ولابد منه فمباح لأن
الحاجة تبيح مال المعصوم فمال الكفار أولى، وإن لم تكن الحاجة داعية وكان
الحيوان لا يراد إلا للأكل كالدجاج والحمام وسائر الطير والصيود فحكمه حكم
الطعام في قول الجميع لأنه لا يراد لغير الأكل وتقل قيمته فأشبه الطعام،
وإن كان مما يحتاج إليه في القتال كالخيل لم يجز ذبحه للأكل في قولهم
جميعاً وإن كان غير
(10/392)
ذلك كالبقر والغنم لم يبح وهذا ظاهر كلام
الخرقي وقال القاضي ظاهر كلام أحمد إباحته لأن هذا الحيوان في باب الأكل
مثل الطعام فكان مثله في إباحته كالطير وإذا ذبح الحيوان أكل لحمه وليس له
الانتفاع بجلده لأنه إنما أبيح له ما يأكله دون غيره قال عبد الرحمن بن
معاذ كلوا لحم الشاة وردوا إهابها إلى المغنم.
ووجه الاول ماروى سعيد عن أبي الاحوص عن سماك بن حرب عن ثعلبة بن الحكم قال
أصبنا غنما للعدو فانتهبناها فنصبنا قدورنا فمر النبي صلى الله عليه وسلم
بالقدور وهي تغلي فأمر بها فاكفئت ثم قال لهم (إن النهبة لا تحل) ولأن هذه
الحيوانات تكثر قيمتها وتشح بها أنفس الغانمين ويمكن حملها إلى دار الإسلام
بخلاف الطير والطعام لكن إن أذن الأمير فيها جاز لما روى عطية بن قيس قال
كنا إذا خرجنا في سرية فأصبنا غنماً نادى منادي الإمام ألا من أراد أن
يتناول شيئاً من هذه الغنم فليتناول إنا لا نستطيع سياقتها رواه سعيد وكذلك
قسمها لما روى معاذ رضي الله عنه قال غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم
خيبر فأصبنا غنما فقسم بيننا النبي صلى الله عليه وسلم طائفة وجعل بقيتها
في المغنم رواه أبو داود وروى سعيد بإسناده أن رجلاً نحر جزوراً بأرض الروم
فلما بردت قال أيها الناس خذوا من لحم هذا الجزور فقد أذنا لكم فقال مكحول
يا غساني ألا تأتينا من لحم هذا الجزور فقال يا أبا عبد الله ألا ترى ما
عليها من النهي؟ قال محكول لا نهي في المأذون فيه
(10/393)
قال شيخنا ولم يفرق أصحابنا بين جميع
البهائم في هذ المسألة، ويقوى عندي أن ما عجز المسلمون عن سياقته وأخذه إن
كان مما يستعين به الكفار كالخيل جاز عقره وإتلافه لأنه مما يحرم إيصاله
إلى الكفار بالبيع فتركه لهم بلا عوض أولى بالتحريم، وإن كان مما يصلح
للأكل فللمسلمين ذبحه والأكل منه مع
الحاجة وعدمها، وما عدا هذين القسمين لا يجوز إتلافه لأنه مجرد إفساد
وإتلاف وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان لغير مأكله
(مسألة) (وفي حرق شجرهم، وزرعهم وقطعه روايتان (إحداهما) يجوز إن لم يضر
بالمسلمين (والثانية) لا يجوز إلا أن لا يقدر عليهم إلا به أو يكونوا
يفعلونه بنا وكذلك رميهم بالنار وفتح الماء ليغرقهم وجملة ذلك أن الزرع
والشجر ينقسم ثلاثة أقسام (أحدها) ما تدعو الحاجة إلى إتلافه كالذي يقرب من
حصونهم ويمنع من قتالهم أو يستترون به من المسلمين أو يحتاج إلى قطعه
لتوسعة الطريق أو تمكن من قتال أو سد شئ أو اصلاح طريق أو ستارة منجنيق أو
غيره أو لا يقدر عليهم إلا به أو يكونوا يفعلون ذلك بنا فيفعل ذلك بهم
لينتهوا فهذا يجوز بغير خلاف نعلمه (الثاني) ما يتضرر المسلمون بقطعه
لكونهم ينتفعون ببقائه لعلوفهم أو يستظلون به أو يأكلون
(10/394)
من ثمرة أو تكون العادة لم تجر بذلك بيننا
وبين عدونا فإذا فعلناه بهم فعلوه بنا فهذا يحرم لما فيه من الاضرار
بالمسلمين (الثالث) ما عدا هذين القسمين مما لا ضرر فيه بالمسلمين فلا نفع
سوى غيظ الكفار والاضرار بهم ففيه روايتان (إحداهما) لا يجوز لحديث أبي بكر
رضي الله عنه ووصيته وقد روي نحو ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ولأن فيه إتلافاً محضاً فلم يجز كعقر الحيوان، وبه قال الأوزاعي والليث
وأبو ثور (والرواية الثانية) يجوز به قال مالك والشافعي وإسحاق وابن
المنذر، قال إسحاق التحريق سنة إذا كان أنكى في العدو ولقول الله تعالى (ما
قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين]
وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني
النضير وقطعه وهي البويرة فأنزل الله تعالى (ما قطعتهم من لينة) ولها يقول
حسان وهان على سراة بني لؤي * حريق بالبويرة مستطير متفق عليه.
وعن الزهري قال: فحدثني عروة قال فحدثني أسامة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان عهد إليه
فقال (أغر على أبناء صباحا وحرق) رواه أبو داود، قيل لأبي مسهر ابناء؟ قال
نحن أعلم هي ببنا فلسطين والصحيح أنها ابناء كما جاءت الرواية وهي قريبة من
أرض الكرك في أطراف الشام في الناحية التي قتل فيها أبوه، فأما ببنا فهي من
أرض فلسطين ولم يكن أسامة ليصل إليها ولا أمره النبي صلى الله عليه وسلم
(10/395)
بالإغارة عليها لبعدها والخطر بالمصير
إليها لتوسطها في البلاد وبعدها من أطراف الشام، فما كان النبي صلى الله
عليه وسلم ليأمره بالتغرير بالمسلمين فكيف يحمل الخبر عليها مع مخالفة لفظ
الرواية وفساد المعنى؟ (فصل) ومتى قدر على العدو لم يجز تحريقه بالنار بغير
خلاف نعلمه وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأمر بتحريق أهل الردة
بالنار وفعله خالد بن الوليد بأمره.
فأما اليوم فلا نعلم فيه خلافاً بين الناس، وقد روى حمزة الأسلمي أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمره على سرية قال فخرجت فيها فقال إن أخذتم فلانا
فاحرقوه بالنار فوليت فناداني فرجعت فقال (إن أخذتم فلانا فاقتلوه ولا
تحرقوه فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار) رواه أبو داود وسعيد، وروي
البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث
حمزة فأما رميهم بالنار قبل أخذهم فإن أمكن أخذهم بدونها لم يجز لأنهم في
معنى المقدور عليه وأما عند العجز عنهم بغيرها فجائز في قول أكثر أهل العلم
منهم الاوزاعي والثوري والشافعي وقد روى سعيد بإسناده عن صفوان بن عمرو
وجرير بن عثمان أن جنادة بن ابي أمية الازدي وعبد الله بن قيس الفزاري
وغيرهما من ولاة البحر ومن بعدهم كانوا يرمون العدو من الروم وغيرهم بالنار
ويحرقونهم هؤلاء لهؤلاء وهؤلاء لهؤلاء، قال عبد الله بن قيس ولم يزل أمر
المسلمين على ذلك
(10/396)
وكذلك الحكم في فتح البثوق عليهم لغرقهم
وإن قدر عليهم بغيره لم يجز إذا تضمن ذلك إتلاف النساء والذرية الذين يحرم
إتلافهم قصداً، وإن لم يقدر عليهم إلا به جاز كما يجوز البيات المتضمن لذلك
(فصل) قال الأوزاعي: إذا كان العدو في المطمورة فعلمت أنك تقدر عليهم بغير
النار فأحب إلي أن يكف عن النار وإن لم يمكن ذلك وأبوا أن يخرجوا فلا أرى
بأساً وإن كان معهم ذرية قد كان
المسلمون يقاتلون بها ونحو ذلك قال سفيان وهشام ويدخن عليهم قال أحمد أهل
الشام أعلم بهذا (مسألة) (وإذا ظفر بهم لم يقتل صبي ولا امرة ولا راهب ولا
شيخ فان ولا أعمى، لا رأي لهم إلا أن يقاتلوا) إذا ظفر بالكفار لم يجز قتل
صبي لم يبلع بغير خلاف لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان، متفق عليه ولأن الصبي يصير رقيقاً
بنفس السبي ففي قتله إتلاف المال وإذا سبي منفرداً صار مسلماً فإتلافه
إتلاف من يمكن جعله مسلماً، والبلوغ يحصل بثلاثة أشياء الاحتلام وهو خروج
المني من ذكر الرجل أو قبل المرأة في يقظة أو منام ولا خلاف فيه وقد دل
عليه قوله تعالى (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين
من قبلهم) وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ (خذ من كل حالم ديناراً) وقال (لا
يتم بعد احتلام) رواهما أبو داود (الثاني) نبات الشعر الخشن حول القبل وهو
علامة على البلوغ لما روى عطية القرظي قال: كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون
فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل فكنت فيمن لم
(10/397)
ينبت رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وعن
كثير بن السائب قال حدثني أبناء قريظة أنهم عرضوا على النبي صلى الله عليه
وسلم فمن كان منهم محتلماً أو نبتت عانته قتل، ومن لا ترك اخرجه الأثرم
وحكي عن الشافعي أن هذا بلوغ في حق الكفار لأنه لا يمكن الرجوع إلى قولهم
في الإحتلام وعدد السنين وليس بعلامة عليه في المسلمين لإمكان ذلك فيهم
ولنا قول أبي بصرة وعقبة بن عامر رضي الله عنهما حين اختلف في بلوغ قرع
المهري: انظروا فإن كان قد أشعر فاقسموا له فنظر إليه بعض القوم فإذا هو قد
أنبت فقسموا له ولم يظهر خلافه فكان أجماعاً، ولأن ما كان علما على البلوغ
في حق الكفار كان علما عليه في حق المسلم كالاحتلام والسن وقولهم أنه يتعذر
في حق الكافر معرفة الاحتلام والسن.
قلنا لا يتعذر معرفة السن في الذمي الناشئ بين المسلمين ثم تعذر المعرفة لا
يوجب جعل ما ليس بعلامة علامة بغير الإثبات (الثالث) بلوغ خمس عشرة سنة لما
روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: عرضت على النبي
صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه
وأنا ابن خمس عشرة فأجازني في المقاتلة قال نافع فحدثت عمر بن عبد العزيز
بهذا الحديث فقال هذا فصل ما بين الرجل وبين الغلمان متفق عليه وهذه
العلامات الثلاث في حق الذكر والأنثى وتزيد الأنثى بالحمل والحيض فمن لم
يوجد فيه علامة منهن فهو صبي يحرم قتله
(10/398)
(فصل) ولا تقتل امرأة ولاشيخ فان وبذلك قال
مالك وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق ومجاهد، وروي عن ابن عباس
في قوله تعالى (ولا تعتدوا) يقول تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير،
وقال الشافعي في أحد قوليه وابن المنذر يجوز قتل الشيوخ لقول النبي صلى
الله عليه وسلم (اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم) رواه أبو داود
والترمذي وقال حديث حسن صحيح ولأنه يدخل في عموم قوله تعالى (اقتلوا
المشركين) ولأنه كافر لا نفع في حياته فيقتل كالشاب ولنا أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال (لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا امرأة) رواه أبو
داود، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه انه أوصى يزيد حين وجهه إلى
الشام فقال: لا تقتل امرأة ولا صبياً ولاهرما، وعن عمر رضي الله عنه أنه
أوصى سلمة بن قيس فقال لا تقتل امرأة ولا صبياً ولا شيخاً هرماً رواهما
سعيد ولأنه ليس من أهل القتال فلا يقتل كالمرأة، وقد أومأ النبي صلى الله
عليه وسلم إلى هذه العلة في المرأة فقال (ما بالها قتلت وهي لا تقاتل؟)
والآية مخصوصة بما روينا ولأنه قد خرج عن عمومها المرأة والشيخ الهرم في
معناها وحديثهم أراد به الشيوخ الذين فيهم قوة على القتال ومعونة عليه برأي
أو تدبير جمعاً بين الأحاديث، ولأن حديثنا خاص في الشيخ الهرم، وحديثم عام
في الشيوخ والخاص يقدم على العام.
وقياسهم ينتقض بالعجوز التي لا نفع فيها، ولا يقتل خنثى مشكل لأنه لا يعلم
كونه رجلاً
(10/399)
(فصل) ولا يقتل زمن ولا أعمى ولا راهب
والخلاف فيهم كالخلاف في الشيخ وحجتهم فيه ولنا أن الزمن والأعمى ليسا من
أهل القتال أشبها المرأة ولأن في حديث أبي بكر الصديق رضي الله
عنه وستمرون على أقوام في صوامع لهم احتبسوا أنفسهم فيها فدعهم يحتى يميتهم
الله على ضلالتهم ولانهم لا يقاتلوه تديناً فأشبهوا من لا يقدر على القتال
(فصل) ولا يقتل العبيد وبه قال الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم
(أدركوا خالداً فمروه أن لا يقتل ذرية ولاعسيفا وهم العبيد) ولانهم يصيرون
رقيقاً للمسلمين بنفس السبي أشبهوا النساء والصبيان (فصل) ومن قاتل مما
ذكرنا جميعهم جاز قتله.
لا نعلم فيه خلافا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم قريظة امرأة ألقت
رحى على محمود بن سلمة وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي صلى
الله عليه وسلم بامرأة مقتولة يوم الخندق فقال (من قتل هذه؟) قال رجل أنا
يارسول الله قال (ولم؟) قال نازعتني قائم سيفي قال فسكت ولأن النبي صلى
الله عليه وسلم وقف على امرأة مقتولة فقال (ما بالها قتلت وهي لا تقاتل؟)
وفيه دليل على أنه إنما نهى عن قتل المرأة اذالم تقاتل وكذلك من كان من
هؤلاء الرجال المذكورين ذا رأي يعين به في الحرب جاز قتله لأن دريد بن
الصمة قتل يوم حنين وهو شيخ لا قتال فيه وكانوا خرجوا به معهم
(10/400)
يتيمنون به ويستعينون برأيه فلم ينكر النبي
صلى الله عليه وسلم قتله ولأن الرأي من أعظم المعونة في الحرب وربما كان
أبلغ من القتال كما قال المتنبي الرأي قبل شجاعة الشجعان * هو أول وهي
المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس مرة * بلغت من العلياء كل مكان ولربما
طعن الفتى أقرانه * بالرأي قبل تطاعن الفرسان وقد جاء عن معاوية رضي الله
عنه انه قال لمروان والأسود أمددتما عليا بقيس بن سعد وبرأيه ومكايدته
فوالله لو أنكما أمددتماه بثمانية آلاف مقاتل ما كان بأغيظ لي من ذلك، فأما
المريض فيقتل إذا كان ممن لو كان صحيحاً قاتل لأنه كالاجهاز على الجريح فان
كان مأيوساً من برئة فهو بمنزلة الزمن فلا يقتل لأنه لا يخاف منه أن يصير
إلى حال يقاتل فيها (فصل) فأما الفلاح الذي لا يقاتل فينبغي أن لا يقتل لما
روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال
(اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب) وقال الأوزاعي لا يقتل
الحراث إذا علم أنه ليس من المقاتلة وقال الشافعي يقتل إلا أن يؤدي الجزية
لدخوله في عموم المشريكن ولنا قول عمر ولأن الصحابة رضي الله عنهم لم
يقتلوهم حين فتحوا البلاد ولأنهم لا يقاتلون أشبهوا الشيوخ والرهبان
(10/401)
(مسألة) (فإن تترسوا بهم جاز رميهم ويقصد
المقاتلة) إذا تترسوا في الحرب بالنساء والصبيان ومن لا يجوز قتله جاز
رميهم ويقصد المقاتلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماهم بالمنجنيق ومعهم
النساء والصبيان ولأن كف المسلمين عنهم يفضي إلى تعطيل الجهاد لأنهم متى
علموا ذلك تترسوا بهم عند خوفهم وسواء كانت الحرب ملتحمة أو لا لأن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحين بالرمي حال التحام الحرب (فصل) ولو وقفت
امرأة في صف الكفار أو على حصنهم فشتمت المسلمين أو تكشفت لهم جاز رميها
قصداً لما روى سعيد حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال لما حاصر رسول
الله صلى الله عليه وسلم الطائف أشرفت امرأة فكشفت عن قبلها فقالت (ها
دونكم فارموا) فرماها رجل من المسلمين فما أخطأ ذاك منها ويجوز النظر إلى
فرجها للحاجة إلى رميها لأنه من ضرورته وكذلك يجوز رميها إذا كانت تلتقط
لهم السهام أو تسقيهم الماء أو تحرضهم على القتال لأنها في معنى المقاتل
وكذلك الحكم في الصبي والشيخ وسائر من منعنا قتله منهم (مسألة) (وإن تترسوا
بالمسلمين لم يجز رميهم إلا أن يخاف على المسلمين فيرميهم ويقصد الكفار)
إذا تترسوا بمسلم ولم تدع حاجة إلى رميهم لكون الحرب غير قائمة أو لإمكان
القدرة عليهم بدونه أو للأمن من شرهم لم يجز رميهم فإن رماهم فأصاب مسلما
فعليه ضمانه وإن دعت الحاجة إلى
(10/402)
رميهم للخوف على المسلمين جاز رميهم
للضرورة ويقصد الكفار فإن لم يخف على المسلمين لكن لم يقدر عليهم إلا
بالرمي فقال الاوزاعي والليث لا يجوز رميهم وهو ظاهر كلامه في هذا الكتاب
لقول
الله تعالى (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات) الآية قال الليث ترك فتح حصن
يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق وقال القاضي يجوز رميهم حال قيام
الحرب لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد فعلى هذا إن قتل مسلماً فعليه
الكفارة وفي وجوب الدية على العاقلة روايتان ووجههما يذكر في موضعه وقال
أبو حنيفة لا دية ولا كفارة فيه لأنه رمي أبيح مع العلم بحقيقة الحال فلم
يوجب شيئاً كرمي من أبيح رميه ولنا قوله تعالى (وإن كان من قوم عدو لكم وهو
مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) ولأنه قتل معصوماً بالإيمان وهو من أهل الضمان
أشبه مالو لم يتترس به (مسألة) (ومن أسر أسيراً لم يجز له قتله حتى يأتي به
الإمام إلا أن يمتنع من السير معه ولا يمكنه إكراهة) لا يجوز لمن أسر أسيرا
قتله حتى يأتي به الإمام فيرى فيه رأيه لأنه إذا صار أسيراً فالخيرة فيه
إلى الإمام وقد روي عن أحمد كلام يدل على إباحة قتله فإنه قال لا يقتل أسير
غيره إلا أن يشاء الوالي
(10/403)
فمفهومة أن له قتل أسيره بغير إذن الوالي
لأن له أن يقتله ابتداء فكان له قتله دواماً كما لو هرب منه أو قاتله، فإن
امتنع الأسير أن ينقاد معه فله إكراهه بالضرب وغيره فإن لم يمكن إكراهة فله
قتله وكذلك إن خافه أو خاف هربه وإن امتنع من الإنقياد معه بجرح أو مرض فله
قتله وتوقف أحمد عن قتله والصحيح الأول كالتذفيف على الجريح ولأن تركه حياً
ضرر على المسلمين وتقوية للكفار فتعيين القتل كحالة الابتداء وكجريحهم إذا
لم يأسره.
فأما أسير غيره فلا يجوز قتله إلا أن يصير إلى حال يجوز قتله لمن أسره وقد
روى يحيى بن أبي بكير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يتعاطين أحدكم
أسير صاحبه إذا أخذه فيقتله) رواه سعيد فإن قتل أسيره أو أسير غيره قبل ذلك
أساء ولا ضمان عليه وبه قال الشافعي وقال الأوزاعي إن قتله قبل أن يأتي به
الإمام لم يضمنه وإن قتله بعد ذلك ضمنه لأنه أتلف من الغنيمة ماله قيمة
فضمنه بقيمته كما لو قتل امرأة ولنا أن عبد الرحمن بن عوف أسر أمية بن خلف
وابنه علياً يوم بدر فرآهما بلال فاستصرخ
الأنصار عليهما حتى قتلوهما ولم يغرموا شيئاً ولأنه أتلف ما ليس بمال فلم
يغرمه كما لو أتلفه قبل أن يأتي به الإمام ولأنه أتلف ما لا قيمة له قبل أن
يأتي به الإمام فلم يغرمه كما لو اتلف كلباً فأما إن قتل امرأة أو صبياً
ضمنه لانه صار رقيقاً بنفس السبي
(10/404)
(فصل) ومن أسر أسيراً فادعى أنه كان مسلماً
لم يقبل قوله إلا ببينة لأنه يدعي أمراً الظاهر خلافه يتعلق به اسقاط حق
تعلق برقبته، فإن شهد له واحد حلف معه وخلي سبيله وقال الشافعي لا يقبل إلا
شهادة عدلين لأنه ليس بمال ولا يقصد منه المال ولنا ما روى عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر (لا يبقى منهم
أحد إلا أن يفدي أو يضرب عنقه) فقال عبد الله بن مسعود إلا سهيل بن بيضاء
فإني سمعته يذكر الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إلا سهيل بن
بيضاء) فقبل شهادة عبد الله وحده (مسألة) (ويخير الأمير في الأسرى بين
القتل والاسترقاق والمن والفداء بمسلم أو بمال وعنه لا يجوز بمال إلا غير
الكتابي ففي استرقاقه روايتان ولايجوز أن يختار إلا الأصلح للمسلمين) وجملة
ذلك أن من أسر من دار الحرب على ثلاثة أضرب (أحدها) النساء والصبيان فلا
يجوز قتلهم بغير خلاف ويصيرون رقيقاً للمسلمين بنفس السبي لأن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والولدان متفق عليه وكان عليه الصلاة
والسلام يسترقهم إذا سباهم (الثاني) الرجال من أهل الكتاب والمجوس الذين
يقرون بالجزية فيتخير الإمام فيهم بين أربعة أشياء القتل والمن بغير عوض
والمفاداة بهم واسترقاقهم (الثالث) الرجال ممن لايقر بالجزية فيخير الإمام
فيهم بين القتل والمن والفداء ولايجوز
(10/405)
استرقاقهم في إحدى الروايتين اختارها
الخرقي وهو قول الشافعي [والثانية] يجوز استرقاقهم لأنه كافر أصلي أشبه أهل
الكتاب ويحتمل أن يكون جواز استرقاقهم مبنياً على أخذ الجزية منهم فإن قلنا
بجوازها جاز استرقاقهم وإلا فلا وقال أبو حنيفة يجوز في العجم دون العرب
بناء على قوله في
أخذ الجزية منهم ولنا أنه كافر لا يقر بالجزية فلم يجز استرقاقه كالمرتد،
والدليل على أنه لا يقر بالجزية يذكر في باب عقد الذمة إن شاء الله تعالى
(فصل) وبما ذكرنا في أهل الكتاب قال الاوزاعي والشافعي وأبو ثور وعن مالك
كمذهبنا وعنه لا يجوز المن بغير عوض لأنه لا مصلحة فيه وإنما يجوز للإمام
فعل ما فيه المصلحة وحكي عن الحسن وعطاء وسعيد بن جبير كراهية قتل الأسرى
وقالوا لو من عليه أو فاداه كما صنع بأسارى بدر ولأن الله تعالى قال (فشدوا
الوثاق فإما منا بعد وإما فداء) فخيره بعد الاسربين هذين لا غير وقال أصحاب
الرأي إن شاء قتلهم وإن شاء استرقهم لاغير ولافداء لأن الله تعالى قال
(اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) بعد قوله (فإما منا بعد وإما فداء) وكان
عمر بن عبد العزيز وعياض بن عقبة يقتلان الأسارى ولنا على جواز المن
والفداء الآية المذكورة وأن النبي صلى الله عليه وسلم من على ثمامة بن أثال
وأبي عزة الشاعر وأبي العاص بن الربيع وقال في أسارى بدر (لو كان مطعم بن
عدي حياً ثم سألني هؤلاء
(10/406)
النتنى لا طلقتهم له) وفادى أسرى بدر وفادى
يوم أحد رجلاً برجلين وصاحب العضباء برجلين وأما القتل فإن النبي صلى الله
عليه وسلم قتل رجال بني قريظة وقتل يوم بدر النضر بن الحارث وعقبة بن أبي
معيط صبرا وقتل أبا عزة يوم أحد وهذه قصص اشتهرت وعلمت وفعلها النبي صلى
الله عليه وسلم مرات وهو دليل على جوازها، ولأن كل خصلة من هذه الخصال قد
تكون أصلح في بعض الأسرى فإن فيهم من له قوة ونكاية في المسلمين فقتله
أصلح، ومنهم الضعيف الذي له مال كثير ففداؤه أصلح ومنهم حسن الرأي في
المسلمين يرجى اسلامه بالمن عليه أو معونته للمسلمين بتخليص أسراهم أو
الدفع عنهم فالمن عليه أصلح ومنهم من ينتفع بخدمته ويؤمن شره فاسترقاقه
أصلح كالنساء والصبيان والإمام أعلم بالمصلحة ففوض ذلك إليه.
إذا ثبت ذلك فإن هذا تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة فمتى رأى المصلحة
في خصلة لم يجز اختيار غيرها لأنه يتصرف لهم على سبيل النظر لهم فلم يجز له
ترك
ما فيه الحظ كولي اليتيم ومتى حصل عنده تردد في هذه الخصال فالقتل أولى قال
مجاهد في اميرين (أحدهما) يقتل الأسرى وهو أفضل وكذلك قال مالك وقال إسحاق
الإثخان أحب إلي إلا أن يكون معروفاً يطمع به في الكثير فمتى رأى القتل ضرب
عنقه بالسيف لقول الله تعالى [فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب] ولأن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر بضرب أعناق الذين قتلهم ولا يجوز التمثيل به
لما روى بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر رجلاً على جيش أو
سرية قال (اغزوا
(10/407)
بسم الله قاتلوا من كفر بالله ولا تعذبوا
ولا تمثلوا) وإن اختار الفداء جاز أن يفدي بهم أسارى المسلمين وجاز بالمال
لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين وفيه رواية أخرى أنه لا يجوز
بمال كمالا يجوز بيع رقيق المسلمين للكفار في إحدى الروايتين ولأنه إذا لم
يجز أن نبيعهم السلاح لما فيه من تقويتهم على المسلمين فبيع أنفسهم أولى
ومنع أحمد رحمه الله من فداء النساء بالمال لأن في بقائهن تعريضاً لهن
للإسلام لبقائهن عند المسلمين وجوز أن يفادى بهن أسارى المسلمين لأن النبي
صلى الله عليه وسلم فادى بالمرأة التي أخذها من سلمة بن الاكوع ولأن في ذلك
استنقاذ مسلم متحقق اسلاما فاحتمل تفويت غرضية الإسلام من أجله ولا يلزم من
ذلك احتمال فدائها لتحصيل المال فأما الصبيان فقال أحمد لا يفادى بهم لأن
الصبي يصير مسلما باسلام سابيه فلا يجوز رده إلى المشركين وكذلك المرأة إذا
أسلمت لا يجوز ردها إلى الكفار لقول الله تعالى (فلا ترجعوهن إلى الكفار لا
هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) وإن كان الصبي غير محكوم باسلامه كمن سبي مع
أبويه فلا يجوز فداؤه بمال كالمرأة ويجوز فداؤه بمسلم في أحد الوجهين (فصل)
ومن استرق منهم أو بلغ فودي بمال وكان الرقيق والمال للغانمين حكمه حكم
الغنيمة.
لا نعلم في هذا خلافاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قسم فداء أسارى بدر
بين الغانمين ولأنه مال غنمه المسلمون أشبه الخيل والسلاح، فإن قيل فالأسير
لم يكن للغانمين فيه حق فكيف تعلق حقهم ببدله؟
(10/408)
قلنا إنما يفعل الإمام في الأسير ما يرى
فيه المصلحة لأنه لم يصر مالا فإذا صار مالا تعلق حق الغانمين به لأنهم
أسروه وقهروه وهذا غير ممتنع الا ترى أن من عليه دين إذا قتل قتلاً يوجب
القصاص كان لورثته الخيار بين القتل والعفو إلى الدية فإذا اختاروا الدية
تعلق حق الغرماء بها (فصل) فإن سأل الأسارى من أهل الكتاب تخليتهم على
إعطاء الجزية لم يجز ذلك في صبيانهم ونسائهم لأنهم صاروا غنيمة بالسبي
ويجوز في الرجال ولا يزول التخيير الثابت فيهم قال أصحاب الشافعي يحرم
قتلهم كما لو أسلموا ولنا أنه بدل تجوز الإجابة إليه فلم يحرم قتلهم كبدل
عبدة الأوثان (فصل) وإذا أسر العبد صار رقيقاً للمسلمين لأنه مال لهم
استولي عليه فكان للغانمين كالبهيمة فإن رأى الإمام قتله لضرر في إبقائه
جاز لأن مثل هذا لا قيمة له فهو كالمرتد، وأما من يحرم قتلهم غير النساء
والصبيان كالشيخ والزمن والأعمى والراهب فلا يحل سبيهم لأن قتلهم حرام ولا
نفع في اقتنائه (فصل) ذكر أبو بكر إن الكافر إذا كان مولى مسلم لم يجز
استرقاقه لأن في استرقاقه تفويت ولاء المسلم المعصوم، وعلى قوله لا يسترق
ولده أيضاً إذا كان عليه ولاء لذلك، وإن كان معتقه ذمياً
(10/409)
جاز استرقاقه لأن سيده يجوز استرقاقه
فاسترقاق مولاه أولى وهذا مذهب الشافعي، وظاهر كلام الخرقي جواز استرقاقه
لأنه لا يجوز قتله وهو من أهل الكتاب فجاز استرقاقه كغيره، ولأن سبب جواز
الاسترقاق قد تحقق فيه وهو الاستيلاء عليه مع كون مصلحة المسلمين في
استرقاقه ولأنه إن كان السبي امرأة أو صبياً لم يجز فيه سوى الاسترقاق
فيتعين ذلك فيه، وما ذكروه يبطل بالقتل فإنه يفوت الولاء وهو جائز فيه،
وكذلك يجوز استرقاق من عليه ولاء الذمي وقوله إن سيده الذمي يجوز استرقاقه
غير صحيح فإن الذمي لا يجوز استرقاقه ولا تفويت حقوقه وقد قال علي رضي الله
عنه إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كاموالنا (مسألة)
(فإن اسلموا رقوا في الحال) يعني إذا أسلم الاسير صار رقيقاً في الحال وزال
التخيير فيه وصار حكمه حكم النساء وبه قال
الشافعي في أحد قوليه لأنه أسير يحرم قتله فصار رقيقا كالمرأة وفيه قول آخر
إنه يحرم قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا
باحدى ثلاث) ويتخير بين الخصال الثلاث الباقية المن والفداء والاسترقاق وهو
القول الثاني للشافعي لأنه إذا جاز المن عليه في حال كفره ففي حال إسلامه
أولى لأن الإسلام حسنه يقتضي إكرامه والإنعام عليه لا منع ذلك في حقه وهذا
هو الصحيح إن شاء الله تعالى، ولا يجوز رده إلى الكفار إلا أن يكون له من
يمنعه من المشركين
(10/410)
من عشيرة أو نحوها، وإنما جاز فداؤه لأنه
يتخلص به من الرق، فأما إن أسلم قبل أسره حرم قتله واسترقاقه والمفاداة به
سواء أسلم وهو في حصن أو جوف أو مضيق أو غير ذلك لأنه لم يحصل في أيدي
الغانمين (مسألة) (ومن سبي من أطفالهم منفرداً أو مع أحد أبويه فهو مسلم.
ومن سبي مع أبويه فهو على دينهما) المسبي من أطفال المشركين ينقسم ثلاثة
أقسام (أحدها) أن يسبى منفرداً عن أبويه فيصير مسلما بالإجماع لأن الدين
إنما يثبت له تبعاً، وقد انقطعت تبعيته لأبويه لانقطاعه عنهما وإخراجه عن
دارهما ومصيره إلى دار الإسلام تبعاً لسابيه المسلم فكان تابعاً له في دينه
(الثاني) أن يسبى مع أحد أبويه فيحكم باسلامه أيضاً وبه قال الأوزاعي وقال
أبو الخطاب يتبع أباه، وقال القاضي فيه روايتان أشهرهما أنه يحكم بإسلامه
[والثانية يتبع أباه، وقال أبو حنيفة والشافعي يكون تابعاً لأبيه في الكفر
لأنه لم ينفرد عن أحد أبويه فلم يحكم بإسلامه كما لو سبي معهما وقال مالك
إن سبي مع أبيه تبعه لأن الولد يتبع أباه في الدين كما يتبعه في النسب وإن
سبي مع أمه فهو مسلم لأنه لا يتبعها في النسب فكذلك في الدين
(10/411)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (كل
مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) رواه
مالك فمفهومه انه لا يتبع أحدهما لأن الحكم متى علق بشيئين لا يثبت بأحدهما
ولأنه يتبع سابيه منفردا فيتبعه مع أحد أبويه قياسا على مالو أسلم أحد
الأبوين، تحقيقه أن كل شخص غلب حكم اسلامه منفرداً غلب مع أحد الأبوين
كالمسلم من الأبوين (الثالث) أن يسبى مع أحد أبويه فيكون على دينهما وبه
قال أبو حنيفة ومالك والشافعي، وقال الأوزاعي يكون مسلماً لأن السابي أحق
به لكونه ملكه بالسبي وزالت ولاية أبويه عنه وانقطع ميراثهما منه وميراثه
منهما فكان أولى به منهما ولنا قوله عليه الصلاة والسلام (فأبواه يهودانه
وينصرانه ويمجسانه) وهما معه وملك السابي له لا يمنع اتباعه لابويه بدليل
مالو ولد في ملكه من عبده وأمته الكافرين (مسألة) (ولا ينفسخ النكاح
باسترقاق الزوجين وإن سبيت المرأة وحدها انفسخ نكاحها وحلت لسابيها) إذا
سبي المتزوج من الكفار لم يخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يسبى الزوجان معاً
فلا ينفسخ نكاحهما وبهذا قال أبو حنيفة والاوزاعي ويحتمل أن ينفسخ وبه قال
مالك والثوري والليث والشافعي
(10/412)
وأبو ثور لقول الله تعالى (والمحصنات من
النساء إلا ما ملكت أيمانكم) والمحصنات المتزوجات [إلا ما ملكت أيمانكم]
بالسبي قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه نزلت هذه الآية في سبي أوطاس،
وقال ابن عباس رضي الله عنهما إلا ذوات الأزواج من المسبيات ولأنه استولى
على محل حق الكافر فزال ملكه كما لو سباها وحدها ولنا أن الرق معنى لا يمنع
ابتداء النكاح فلا يقطع استدامته كالعتق، والآية نزلت في سبايا أو طاوس
وكانوا أخذوا النساء دون أزواجهن، وعموم الآية مخصوص بالمملوكة المزوجة في
دار الإسلام فيخص منه محل النزاع بالقياس عليه (الحال الثاني) أن تسبى
المرأة وحدها فينفسخ النكاح بلا خلاف علمناه والآية دالة عليه وقد روي أبو
سعيد الخدري قال أصبنا سبايا يوم أوطاس ولهن أزواج في قومهن فذكروا ذلك
لرسول
الله صلى الله عليه وسلم فنزلت [والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم]
رواه الترمذي وقال حديث حسن إلا أن أبا حنيفة قال إذا سبيت المرأة وحدها ثم
سبي زوجها بعدها بيوم لم ينفسخ النكاح، ولنا أن السبي المقتضي للفسخ وجد
فانفسخ النكاح كما لو سبيت قبله بشهر (الحال الثالث) سبي الرجل وحده فلا
ينفسخ النكاح لأنه لانص فيه ولا القياس يقتضيه وقد سبى النبي صلى الله عليه
وسلم سبعين رجلا من الكفار يوم بدر فمن على بعضهم وفادى بعضاً فلم يحكم
عليهم بفسخ
(10/413)
أنكحتهم، ولأننا إذا لم نحكم بفسخ النكاح
فيما إذا سبيا معاً مع الاستيلاء على محل حقه فلأن لا ينفسخ نكاحه مع عدم
الاستيلاء عليه أولى وقال أبو الخطاب إذا سبي أحد الزوجين انفسخ النكاح ولم
يفرق وبه قال أبو حنيفة لأن الزوجين افترقت بهما الدار وطرأ الملك على
أحدهما فانفسخ النكاح كما لو سبيت المرأة وحدها، وقال الشافعي إن سبي
واسترق انفسخ نكاحه وإن من عليه أو فودي لم ينفسخ، ولنا ما ذكرناه وأن
السبي لم يزل ملكه عن ماله في دار الحرب فلم يزل عن زوجته كما لو لم يزل عن
أمته (فصل) ولم يفرق أصحابنا في سبي الزوجين بين أن يسبيهما رجل واحد أو
رجلان وينبغي أن يفرق بينهما فإنهما إذا كانا مع رجلين كان مالك المرأة
منفرداً بها ولا زوج معها فتحل له لقوله تعالى (إلا ما ملكت أيمانكم) وذكر
الأوزاعي أن الزوجين إذا سبيا فهما على النكاح في المقاسم فإن اشتراهما رجل
فله أن يفرق بينهما إن شاء أو يقرهما على النكاح ولنا أن تجدد الملك في
الزوجين لرجل لا يقتضي جواز الفسخ كما لو اشترى زوجين مسلمين، إذا ثبت هذا
فإنه لا يحرم التفريق بينهما في القسمة والبيع لأن الشرع لم يرد بذلك
(10/414)
(مسألة) (وهل يجوز بيع من استرق منهم
للمشركين؟ على روايتين) لا يجوز بيع شئ من رقيق المسلمين لكافر سواء كان
مسلماً أو كافراً وهذا قول الحسن، وقال
أحمد ليس لأهل الذمة أن يشتروا مما سبى المسلمون قال وكتب عمر بن الخطاب
ينهى عنه أمراء الأمصار هكذا حكى أهل الشام، وعنه أنه يجوز ذلك وهو قول أبي
حنيفة والشافعي لأنه لا يمنع من إثبات يده عليه فلا يمنع من ابتدائه
كالمسلم، ولأنه رد الكافر إلى الكفار فجاز كالمفاداة بهم قبل الاسترقاق
والأول أولى لأنه قول عمر رضي الله عنه ولم ينكره منكر فكان إجماعاً ولأن
فيه تفويتاً للاسلام الذي يظهر وجوده فإنه إذا بقي رقيقاً للمسلمين الظاهر
أنه يسلم فيفوت ذلك ببيعه لكافر بخلاف ما إذا كان رقيقاً لكافر في ابتدائه
فإنه لم تثبت له هذه الغرضية (مسألة) (ولا فرق في البيع بين ذي رحم محرم
إلا بعد البلوغ على إحدى الروايتين) أجمع أهل العلم على أن التفريق بين
الأم وولدها الطفل غير جائز منهم مالك والاوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور
وأصحاب الرأي وغيرهم لما روى أبو أيوب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول (من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة)
قال الترمذي هذا حديث حسن غريب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا توله
والدة عن ولدها) قال أحمد لا يفرق بين الأم وولدها وإن
(10/415)
رضيت وذلك والله أعلم لما فيه من الأضرار
بالولد ولأن المرأة قد ترضى بما فيه ضررها ثم يتغير قلبها فتندم، ولا يجوز
التفريق بين الأب وولده هذا قول أصحاب الرأي والشافعي وقال مالك والليث
يجوز وبه قال بعض الشافعية لأنه ليس من أهل الحضانة بنفسه ولأنه لا نص فيه
ولا هو في معنى المنصوص عليه لأن الأم أشفق منه ولنا أنه أحد الأبوين أشبه
الأم ولا نسلم أنه ليس من أهل الحضانة، ولا فرق بين أن يكون الولد بالغاً
أو طفلاً في ظاهر كلام الخرقي وإحدى الروايتين عن أحمد لعموم الخبر ولأن
الوالدة تتضرر بمفارقة ولدها الكبير ولهذا حرم عليه الجهاد إلا بإذنها
(والثانية) يختص تحريم التفريق بالصغير وهو قول الأكثرين منهم مالك
والاوزاعي والليث وأبو ثور وهو قول الشافعي لأن سلمة بن الأكوع أتى بامرأة
وابنتها فنفله أبو بكر ابنتها فاستوهبها منه النبي صلى الله عليه وسلم
فوهبها له ولم ينكر التفريق بينهما ولأن الأحرار يتفرقون بعد الكبر فإن
المرأة تزوج ابنتها وتفارقها فالعبيد أولى، واختلفوا في حد
الكبر الذي يجوز التفريق فعن أحمد رحمه الله حده بلوغ الولد وهو قول سعيد
بن عبد العزيز وأصحاب الرأي وقول للشافعي، وقال مالك إذا أثغر وقال
الأوزاعي والليث إذا استغنى عن أمه ونفع نفسه وللشافعي قول إذا صار ابن سبع
أو ثمان، وقال أبو ثور إذا كان يلبس وحده ويتوضأ وحده لأنه
(10/416)
إذا كان كذلك استغنى عن أمه ولذلك خير
الغلام بين أمه وأبيه إذا كان كذلك ولأنه جاز التفريق بينهما بتخييره فجاز
ببيعه وقسمته ولنا ما روى عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (لا يفرق بين الوالدة وولدها) فقيل إلى متى؟ قال (حتى يبلغ الغلام
وتحيض الجارية) ولأن من دون البلوغ يولى عليه أشبه الطفل (فصل) فإن فرق
بينهما بالبيع فالبيع فاسد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يصح البيع لأن
النهي لمعنى في غير المعقود عليه فأشبه البيع في وقت النداء ولنا ماروى أبو
داود في سننه عن علي رضي الله عنه أنه فرق بين الأم وولدها فنهاه رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن ذلك ورد البيع والأصل ممنوع وما ذكروه لا يصح فإنه
نهي عنه لما يلحق المبيع من الضرر فهو لمعنى فيه (فصل) والجد والجدة في
تحريم التفريق بينهما وبين ولد ولدهما كالابوين لأن الجد أب والجدة أم
ولذلك يقومان مقام الأبوين في استحقاق الحضانة والميراث والنفقة فقاما
مقامهما في تحريم التفريق ويستوي في ذلك الجد والجدة من قبل الأب والأم لأن
لهم ولادة ومحرميه فاستووا في ذلك كاستوائهم في منع شهادة بعضهم لبعض (فصل)
ويحرم التفريق بين الأخوة في القسمة والبيع أيضاً كما يحرم بين الولد
ووالده وبهذا
(10/417)
قال أصحاب الرأي وقال مالك والليث والشافعي
وابن المنذر لا يحرم لأنها قرابة لا تمنع قبول شهادته فلم يحرم التفريق
كابن العم ولنا ما روى عن علي رضي الله عنه قال وهب لي رسول الله صلى الله
عليه وسلم غلامين أخوين فبعت أحدهما فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم
(ما فعل غلامك؟) فأخبرته فقال (رده رده) رواه الترمذي
وقال حديث حسن غريب، وروى عبد الرحمن بن فروخ عن أبيه قال كتب إلينا عمر بن
الخطاب رضي الله عنه: لا تفرقوا بين الأخوين ولا بين الأم وولدها في البيع،
ولأنه ذو رحم محرم فحرم التفريق بينهما كالوالد والولد وانما يحرم التفريق
بينهما في حال الصغر وما بعده فيه الروايتان كالأصل والأولى الجواز لأن
النبي صلى الله عليه وسلم أهديت له مارية وأختها سيرين فأمسك مارية ووهب
سيرين لحسان بن ثابت.
(فصل) فأما سائر الأقارب فظاهر كلام الخرقي جواز التفريق بينهم وقال غيره
من أصحابنا لا يجوز التفريق بين ذوي رحم محرم كالعمة مع ابن أخيها والخالة
مع ابن أختها لما ذكرنا من القياس والأولى جواز التفريق لأن الأصل حل البيع
والتفريق ولا يصح القياس على الإخوة لأنهم أقرب
(10/418)
ولذلك يحجبون غيرهم عن الميراث وهم أقرب
فيبقى من عداهم على الأصل، فأما من ليس بينهما رحم محرم فلا يمنع من
التفريق بينهما عند أحد علمناه لعدم النص فيهم وامتناع قياسهم على المنصوص
وكذلك يجوز التفريق بين الأم من الرضاع وولدها والأخت وأخيها لما ذكرنا
ولأن قرابة الرضاع لا توجب عتق أحدهما على الآخر ولا نفقة ولا ميراثا
فاشبهت الصداقة (مسألة) (وإذا حصر الإمام حصناً لزمه مصابرته إذا رأى
المصلحة فيها) إذا حصر الإمام حصناً لزمه مصابرته ولا ينصرف عنه إلا بخصلة
من خصال خمس (أحدها) أن يسلموا فيحرزوا بالاسلام دماءهم وأموالهم لقول
النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها) (الثانية) أن يبذلوا
مالا على الموادعة فيجوز قبوله منهم سواء أعطوه جملة أو جعلوه خراجا مستمرا
يؤخذ منهم كل عام، فإن كانوا ممن تقبل منهم الجزية فبذلوها لزم قبولها منهم
وحرم قتالهم لقوله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) فان بذلوا
مالا على غير وجه الجزية فرأى المصلحة في قبوله له قبله ولا يلزمه إذا لم
ير المصلحة (الثالثة) أن يفتحه (الرابعة) أن يرى المصلحة في الانصراف إما
لضرر في الإقامة وإما لليأس منه أو لغير ذلك فينصرف عنهم لما روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم حاصر
أهل الطائف فلم ينل منهم شيئاً فقال (إنا قافلون إن شاء الله غداً) فقال
المسلمون أنرجع ولم نفتحه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اغدوا على
القتال) فغدوا عليه فأصابهم الجراح، فقال لهم
(10/419)
رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنا قافلون
غداً) فأعجبهم، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه (الخامسة) أن
ينزلوا على حكم حاكم وسنذكره في موضعه إن شاء الله (مسألة) (ومن أسلم منهم
أحرز دمه وماله وأولاده الصغار) متى أسلم أهل الحصن أو بعضهم أحرز دمه
وماله وأولاده الصغار كما ذكر لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث
المذكور (فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها) ويحرز أولاده الصغار من
السبي لأنهم تبع له ولذلك يحكم بإسلامهم تبعاً لاسلامه وكذلك كل من أسلم في
دار الحرب وإن دخل دار الإسلام فأسلم وله أولاد صغار في دار الحرب صاروا
مسلمين ولم يجز سبيهم وبه قال مالك والشافعي والاوزاعي وقال أبو حنيفة ما
كان في يده من ماله ورقيقه ومتاعه وولده الصغار ترك له وما كان من أولاده
وأمواله بدار الحرب جاز سبيهم لأنهم لم يثبت إسلامهم بإسلامه لاختلاف
الدارين بينهم ولهذا إذا سبي الطفل وأبواه في دار الكفر لم يتبعهما وتبع
سابيه في الإسلام وما كان من أرض أو دار فهو فئ وكذلك زوجته إذا كانت كافرة
وما على بطنها فئ ولنا ان اولاده أولاد مسلم فوجب أن يتبعوه في الإسلام كما
لو كانوا معه في الدار ولأن ماله مال مسلم ولايجوز اغتنامه كما لو كان في
دار الإسلام، وبذلك يفارق مال الحربي وأولاده وما ذكره أبو حنيفة لا يلزم
فانا تجعله تبعاً للسابي لأنا لا نعلم بقاء أبويه فأما أولاده الكبار فلا
يعصمهم لأنهم لا يتبعونه ولا يعصم
(10/420)
زوجته لذلك فإن سبيت صارت رقيقة ولم ينفسخ
نكاحه برقها ولكن يكون حكمها في النكاح وفسخه حكم مالو لم تسب على ما نذكر
في نكاح أهل الشرك فإن كانت حاملاً من زوجها لم يجز استرقاق الحمل وكان
حراً مسلماً وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يحكم برقه مع امه لأن ما سرى
إليه العتق سرى إليه الرق كسائر أعضائها
ولنا أنه محكوم بحريته وإسلامه فلم يجز استرقاقه كالمنفصل بخلاف الأعضاء
فإنها لا تنفرد عن حكم الأصل (فصل) إذا أسلم الحربي في دار الحرب وله مال
وعقار أو دخل إليها مسلم فابتاع عقاراً ومالاً فظهر المسلمون على ماله
وعقاره لم يملكوه وكان له وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يغنم
العقار وأما غيره فما كان في يده أو يد مسلم لم يغنم، واحتج بأنها بقعة من
دار الحرب فجاز اغتنامها كما لو كانت لحربي.
ولنا أنه مال مسلم فأشبه مالو كانت في دار الإسلام (فصل) إذا استأجر المسلم
أرضاً من حربي ثم استولى عليها المسلمون فهي غنيمة ومنافعها للمستأجر لأن
المنافع ملك المسلم، فإن قيل فلم أجزتم استرقاق الكفارة الحربية إذا كان قد
أسلم زوجها وفي استرقاقها ابطال حق زوجها؟ قلنا يجوز استرقاقها لأنها كافرة
ولا أمان لها فجاز استرقاقها كما لو لم تكن زوجة مسلم ولا يبطل نكاحة بل هو
باق ولأن منفعة النكاح لا تجري مجرى الأموال بدليل أنها لا تضمن باليد فلا
يجوز أخذ العوض عنها بخلاف حق الإجارة (فصل) إذا أسلم عبد الحربي أو أمته
وخرج إلينا فهو حر وإن أسر سيده وأولاده وخرج إلينا
(10/421)
فهو حر والمال له والسبي رقيقة، وإن أسلم
وأقام بدار الحرب فهو على رقة، وإن أسلمت أم ولد الحربي وخرجت الينا عتقت
واستبرأت نفسها وهذا قول أكثر العلماء، قال إبن المنذر وقال به كل من نحفظ
عنه من أهل العلم إلا أن أبا حنيفة قال في أم الولد تزوج إن شاءت من غير
استبراء وأهل العلم على خلافه لأنها أم ولد عتقت فلم يجز أن تزوج قبل
الاستبراء كما لو كانت لذمي، وروى سعيد بن منصور بإسناده عن ابن عباس قال
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق العبيد إذا جاءوا قبل مواليهم وعن
أبي سعيد الاعسم قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد وسيده
قضيتين قضى أن العبد إذا خرج من دار الحرب قبل سيده أنه حر فإن خرج سيده
بعد لم يرد عليه، وقضى أن السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد رد على
سيده رواه سعيد، وعن الشعبي عن رجل من ثقيف قال سألنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يرد علينا أبا بكرة وكان عبداً لنا أتى إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو محاصر ثقيف فأسلم فأبى أن يرده علينا وقال (هو طليق
الله ثم طليق رسوله) فلم يرده علينا
(مسألة) (وإن سألوا الموادعة بمال أو غيره جاز إن كانت المصلحة فيه) وقد
ذكرنا ذلك (مسألة) (وإن نزلوا على حكم حاكم جاز إذا كان حراً مسلما بالغا
عاقلاً من أهل الإجتهاد) إذا نزل أهل الحصن على حكم حاكم جاز لأن النبي صلى
الله عليه وسلم لما حاصر بني قريظة ورضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ
فأجابهم إلى ذلك، والكلام فيه في فصلين (أحدهما) في صفة
(10/422)
الحاكم (والثاني) في صفة الحكم، فأما
الحاكم فيتعين فيه سبعة أوصاف: الاسلام والحرية والذكورية والعقل والبلوغ
والعدالة والاجتهاد كما يشترط في حاكم المسلمين، ولا يشترط البصر لأن عدمه
لا يضر في مسئلتنا لان لمقصود (المقصود) رأيه ومعرفته المصلحة في أحد أقسام
الحكم وهذا لا يضر عدم البصر فيه بخلاف القضاء فإنه لا يستغني عن البصر
ليعرف المدعي من المدعي عليه والشاهد من المشهود عليه والمقر من المقر له
ويعتبر من الفقه ما يتعلق به هذا الحكم مما يجوز فيه ويعتبر له ويجوز ذلك
ولا يحتاج أن يكون مجتهداً في جميع الاحكام التي لا تعلق لها بهذا وقد حكم
سعد ابن معاذ ولم يثبت أنه كان عالماً بجميع الأحكام، فإن حكم رجلين جاز
ويكون الحكم ما اجتمعا عليه وإن جعلوا الحكم إلى رجل يعينه الإمام جاز لأنه
لا يختار إلا من يصلح وإن نزلوا على حكم رجل منهم أو جعلوا التعيين إليهم
لم يجز لأنهم ربما اختاروا من لا يصلح، وإن عينوا رجلا يصلح.
فرضيه الإمام جاز لأن بني قريظة عينوا سعد بن معاذ فرضيه النبي صلى الله
عليه وسلم واجاز حكمه وتدل (لقد حكمت بحكم الله) وإن مات من انفقوا عليه
فاتفقوا على غيره ممن يصلح قام مقامه وإن لم يتفقوا وطلبوا حكما لا يصلح
ردهم إلى مأمنهم وكانوا على الحصار حتى يتفقوا وكذلك إن رضوا باثنين فمات
أحدهما فاتفقوا على من يقوم مقامه جاز وإلا ردوا إلى مأمنهم وكذلك إذا رضوا
بتحكيم من لا تجتمع الشرائط فيه ووافقهم الامام عليه ثم بان أنه لا يصلح لم
يحكم ويردون إلى مأمنهم كما كانوا
(10/423)
(مسألة) (ولا يحكم إلا بما فيه الحظ
للمسلمين من القتل والسبي والفداء فإن حكم بالمن لزم قبوله في أحد الوجهين)
إذا حكم بقتل مقاتلهم وسبي ذراريهم نفذ حكمه لأن سعد بن معاذ حكم في قريظة
بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة
أرقعة) وإن حكم بالفداء جاز لأن الإمام يخير في الأسرى بين القتل والمن
والفداء والاسترقاق فكذلك الحاكم، وإن حكم عليهم باعطاء الجزية لم يلزم
حكمه لأن عقد الذمة عقد معاوضة فلا يثبت إلا بالتراضي ولذلك لا يملك الإمام
إجبار الأسير على إعطاء الجزية، وإن حكم بالمن على المقاتلة وسبي الذرية
فقال القاضي يلزم حكمه وهو مذهب الشافعي لأن الحكم إليه فيما يرى المصلحة
فيه فكان له المن كالامام في الاسرى واختار أبو الخطاب أن حكمه لا يلزم لأن
عليه أن يحكم بما فيه الحظ ولا حظ في المن، وإن حكم بالمن على الذرية
فينبغي أن لا يجوز لأن الامام لا يملك المن على الذرية إذا سبوا فكذلك
الحاكم ويحتمل الجواز لأن هؤلاء لا يتعين السبي فيهم بخلاف من سبي فإنه
يصير رقيقاً بنفس السبي (مسألة) (وإن حكم بقتل أو سبي فأسلموا عصموا دماءهم
وفي استرقاقهم وجهان) إذا حكم عليهم بالقتل والسبي جاز للإمام المن على
بعضهم لأن ثابت بن قيس سأل في الزبير ابن باطا من قريظة وماله وأولاده رسول
الله صلى الله عليه فأجابه، ويخالف مال الغنيمة إذا حازه الإمام لأن ملكهم
قد استقر عليه ومتى أسلموا قبل الحكم عليهم عصموا دماءهم وأموالهم لانهم
(10/424)
فلم يجز استرقاقهم بخلاف الأسير، وإن
اسلموا بعد الحكم عليهم بالقتل سقط لأن من أسلم فقد عصم دمه ولم يجز
استرقاقهم لأنهم أسلموا قبل استرقاقهم قال أبو الخطاب ويحتمل أن يجوز كما
لو أسلموا بعد الأسر ويكون المال على ما حكم فيه وإن حكم بأن المال
للمسلمين كان غنمية لأنهم أخذوه بالقهر والحصر (باب ما يلزم الإمام والجيش)
(مسألة) (يلزم الإمام عند مسير الجيش تعاهد الخيل والرجال فما لا يصلح
للحرب يمنعه من الدخول) يستحب للإمام أو الأمير إذا أراد الغزو أن يعرض
الجيش ويتعاهد الخيل والرجال فلا يدع فرساً حطماً وهو الكسير ولا قحماً وهو
الكبير ولا ضرعاً وهو الصغير ولا هزيلاً يدخل معه أرض
العدو لئلا ينقطع فيها وربما كان سببا للهزيمة (مسألة) (ويمنع المخذل
والمرجف) والمخذل هو الذي يفند الناس عن الغزو ويزهدهم في الخروج إليه
والقتال ومثل من يقول الحر أو البرد شديد والمشقة شديدة ولا يؤمن هزيمة هذا
الجيش ونحو هذا والمرجف هو الذي يقول قد هلكت سرية المسلمين ومالهم مدد ولا
طاقة لهم بالكفار والكفار لهم قوة ومدد وصبر ولا يثبت
(10/425)
لهم أحد وأشباه هذا ولا يأذن لمن يعين على
المسلمين بالتجسس للكفار واطلاعهم على عورات المسلمين ولا لمن يوقع العداوة
بين المسلمين ويسعى بالفساد بينهم ولا لمن يعرف بالنفاق والزندقة لقول الله
تعالى (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي
أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا - وقوله تعالى - ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم
وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا
خلالكم يبغونكم الفتنة) قيل معناه لأوقعوا بينكم الاختلاف وقيل لأسرعوا في
تفريق جمعكم ولأن في حضورهم ضرراً فيجب صيانة المسلمين عنه ولا يأذن لطفل
ولا مجنون لأن دخولهم تعرض للهلاك بغير فائدة ويجوز أن يأذن لمن اشتد من
الصبيان لأن فيهم معونة ونفعا (مسألة) (ويمنع النساء إلا طاعنة في السن
لسقي الماء ومعالجة الجرحى) يكره دخول النساء الشواب أرض العدو لأنهن لسن
من أهل القتال وقلما ينتفع بهن فيه لاستيلاء الجبن والخور عليهن ولا يؤمن
ظفر العدو بهن فيستحلون ما حرم الله منهن وقد روى حشرج بن زياد عن جدته أم
أبيه أنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر سادسة ست
نسوة فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلينا فجئنا فرأينا فيه الغضب
فقال) (مع من خرجتن؟) فقلنا يارسول الله خرجنا نغزل الشعر ونعين به في سبيل
الله ومعنا دواء للجرحى ونناول
(10/426)
السهام ونسقي السويق فقال (قمن) حتى إذا
فتح الله خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال، قلت لها يا جدة
ماكان ذاك؟ قالت تمراً قيل للاوزاعي هل كانوا يغزون معهم بالنساء في
الصوائف؟ قال لا إلا بالجواري، فأما المرأة الطاعنة في السن وهي الكبيرة
إذا كان فيها نفع مثل سقي الماء ومعالجة الجرحى فلا بأس به لما روينا من
الخبر وقد كانت أم سليم ونسيبة بنت كعب تغروان مع النبي صلى الله عليه وسلم
فأما نسيبة فكانت تقاتل وقطعت يدها يوم اليمامة وقالت الربيع كنا نغزو مع
النبي صلى الله عليه وسلم لسقي الماء ومعالجة الجرحى.
وقال أنس كان رسول الله (ص) يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار يسقين
الماء ويداوين الجرحى قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، فإن قيل فقد كان
النبي (ص) يخرج معه من تقع عليه القرعة من نسائه، قلنا تلك امرأة واحدة
يأخذها للحاجة إليها ويجوز مثل ذلك للأمير عند حاجته، ولا يرخص لسائر
الرعية لئلا يفضي إلى ما ذكرنا (مسألة) (ولا يستعين بمشرك إلا عند الحاجة
إليه) لما روت عائشة قالت خرج رسول الله (ص) إلى بدر حتى إذا كان بحرة
الوبر أدركه رجل من المشركين كان يذكر منه جراءة ونجدة فسر المسلمون به
فقال يا رسول الله جئت لأتبعك وأصيب
(10/427)
معك فقال له رسول الله (ص) (أتؤمن بالله
ورسوله؟) قال لا قال (فارجع فإنا لا نستعين بمشرك) ثم مضى رسول الله (ص)
حتى إذا كان بالبيداء أدركه ذلك الرجل فقال له رسول الله (ص) (أتؤمن بالله
ورسوله؟) قال نعم قال (فانطلق) متفق عليه وروى الإمام أحمد بإسناده عن عبد
الرحمن بن حبيب قال أتيت رسول الله (ص) وهو يريد غزوة أنا ورجل من قومي ولم
نسلم فقلنا إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهداً لا نشهده معهم قال (فأسلمتما؟)
قلنا لا قال (فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين) قال فأسلمنا وشهدنا
معه، وهذا اختيار ابن المنذر والجوزجاني في جماعة من أهل العلم وعن أحمد ما
يدل على جواز الاستعانة بهم، وكلام الخرقي يدل على جواز الاستعانة بهم عند
الحاجة وهو الذي ذكره شيخنا في هذا الكتاب وبه قال الشافعي لما روى الزهري
أن رسول الله (ص) استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم رواه سعيد، وروي
أن صفوان بن أمية خرج مع النبي (ص) يوم حنين وهو على شركه فأسهم له وأعطاه
من سهم المؤلفة، وذكر الحديث إذا ثبت هذا فيشترط أن يكون من يستعان به حسن
الرأي في المسلمين فإن كان غير مأمون عليهم لم تجز الاستعانة بهم لأننا إذا
منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين كالمخذل والمرجف فالكافر أون
(10/428)
(فصل) ويستحب أن يخرج يوم الخميس لما روى
كعب بن مالك قال قلما كان رسول الله [ص] يخرج في سفر إلا يوم الخميس
(مسألة) (ويرفق بهم في المسير فيسير بهم سير أضعفهم لئلا يشق عليهم فان دعت
الحاجة إلى الجد في السير جاز) لأن النبي [ص] جد في السير حين بلغه قول عبد
الله بن أبي ليخرجن الأعز منها الأذل ليشغل الناس عن الخوض فيه، ويعدلهم
الزاد لانه لابد منه في الغزو وفي غيره وبه قوامهم ويقوي نفوسهم بما يخيل
إليهم من أسباب النصر لأنه مما يطمعهم في عدوهم، ويعرف عليهم العرفاء وهو
أن يكون لكل طائفة من يكون كالمقدم عليهم ينظر في حالهم ويفتقدهم ويعقد لهم
الألوية والرايات، ويجعل لكل طائفة لواء لما روى ابن عباس أن أبا سفيان حين
أسلم قال النبي (ص) للعباس إحبسه على الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها
قال فحبسته حيث أمرني رسول الله [ص [ومرت به القبائل على راياتها وهو مخير
في ألوانها لكنه يغاير ألوانها ليعرف كل قوم رايتهم ويجعل لكل طائفة شعاراً
يتداعون به عند الحرب لئلا يقع بعضهم على بعض وهي علامة بينهم يعرفونها،
ويتخير لهم من المنازل أصلحها لهم ويتتبع مكانها فيحفظها لئلا يؤتوا منها،
ولا يغفل الحرس والطلائع ليحفظهم من البيات، ويبعث العيون على العدو حتى لا
يخفي عليه أمرهم فيحترز منهم ويتمكن
(10/429)
من الفرصة فيهم، ويمنع جيشه من الفساد
والمعاصي ومن التجارة المانعة لهم من القتال، ولأن
المعاصي من أسباب الخذلان، ويعد ذا الصبر بالاجر والنفل ترغيباً في الجهاد،
ويخفي من أمره ما أمكن اخفاؤه لئلا يعلم به عدوه فقد كان النبي صلى الله
عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها ويشاور ذا الرأي منهم لقول الله تعالى
(وشاورهم في الأمر) وكان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس مشاورة
لأصحابه (فصل) واذا وجد رجل رجلاً قد أصيبت فرسه ومعه فرس فضل استحب حمله
ولم يجب نص عليه فإن خاف تلفه فقال القاضي يجب عليه بذل فضل مركوبه ليحيى
به صاحبه كما يلزمه بذل فضل طعامه للمضطر إليه وتخليصه من عدوه، ويصف جيشه
لقول الله تعالى (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان
مرصوص) ويجعل في كل جنبة كفؤاً لما روى أبو هريرة قال كنت مع النبي صلى
الله عليه وسلم فجعل خالداً على إحدى الجنبتين وجعل الزبير على الأخرى وجعل
أبا عبيدة على الساقة، ولأن ذلك أحوط للحرب وأبلغ في إرهاب العدو، ولا يميل
مع قريبة وذي مذهبه على غيره لئلا تنكسر قلوبهم فيخذلوه عند الحاجة ويراعي
أصحابه ويرزق كل واحد بقدر حاجته (فصل) ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى
يسلموا أو يعطوا الجزية لقول الله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا
باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من
(10/430)
الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد
وهم صاغرون) والمجوس حكمهم في قبول الجزية منهم حكم أهل الكتاب لقول النبي
صلى الله عليه وسلم (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) ولا نعلم بين أهل العلم
خلافاً في هذين القسمين.
فأما من سواهم من الكفار كعبدة الأوثان ونحوهم فلا يقبل منهم إلا الإسلام
في ظاهر المذهب وفيه اختلاف يذكر في باب عقد الذمة إن شاء الله تعالى (فصل)
ومن بلغته الدعوة من الكفار يجوز قتاله من غير دعاء ومن لم تبلغه الدعوة
يدعى قبل القتال، ولا يجوز قتالهم قبل الدعاء لما روى بريدة قال: كان النبي
صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أمره بتقوى الله في
خاصته وبمن معه من المسلمين، وقال (إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى
إحدى ثلاث خصال فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم
إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء
الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم)
رواه مسلم وهذا والله أعلم كان في بدء الأمر قبل انتشار الدعوة وظهور
الإسلام فأما اليوم فقد انتشرت الدعوة واستغنى بذلك عن الدعاء عند القتال
قال أحمد إن الدعوة قد بلغت وانتشرت لكن إن جاز أن يكون قوم خلف الروم وخلف
الترك بهذه الصفة لم يجز قتالهم قبل الدعوة، ومن بلغته الدعوة يجوز قتالهم
قبل ذلك، وإن دعاهم فحسن لما ذكرنا من الحديث
(10/431)
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
علياً حين أعطاه الراية يوم خيبر وأمره بقتالهم أن يدعوهم وهم ممن قد بلغته
الدعوة رواه البخاري ودعا خالد بن الوليد طليحة حين ادعى النبوة فلم يرجع
فأظهره الله عليه ودعا سلمان أهل فارس (مسألة) (ويجوز أن يبذل جعلا لمن
يدله على طريق أو قلعه أو ماء ويجب أن يكون معلوماً إلا أن يكون من مال
الكفار فيجوز أن يكون مجهولاً) لا نعلم خلافاً في أنه يجوز للامام ونائبه
أن يبذل جعلاً لمن يدله على ما فيه مصلحة للمسلمين مثل طريق سهل أو ماء في
مغازة (مفازة) أو قلعة يفتحها أو مال يأخذه أو عدو يغير عليه أو ثغرة يدخل
منها.
لا نعلم في هذا خلافاً لأنه جعل في مصلحة فجاز كأجرة الدليل، وقد استأجر
النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في الهجرة من دلهم على
الطريق، ويستحق الجعل بفعل ما جعل له فيه سواء كان مسلماً أو كافراً من
الجيش أو من غيره، فإن جعل له الجعل مما في يده وجب أن يكون معلوماً لأنها
جعالة بعوض من مال معلوم فوجب أن يكون معلوماً كالجعالة في رد الآبق، فإن
كان الجعل من مال الكفار جاز أن يكون مجهولاً لا يمنع التسليم ولا يفضي إلى
التنازع لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للسرية الثلث والربع مما غنموه
وهو مجهول لأن الغنيمة كلها مجهولة ولأنه مما تدعو الحاجة إليه، والجعالة
إنما تجوز بحسب الحاجة
(10/432)
(مسألة) (فإن شرط له جارية معينة على قلعة
يفتحها نحو أن يشرط له بنت فلان من أهل القلعة لم يستحق شيئاً حتى يفتح
القلعة) لأن جعالة شئ منها اقتضت اشتراط فتحها فمتى فتحت القلعة عنوة سلمت
إليه فإن ماتت قبل الفتح أو بعده فلا شئ له لأنه تعلق حقه بمعين وقد تلفت
بغير تفريط فسقط حقه كالوديعة، وإن أسلمت قبل الفتح فله قيمتها لانها عصمت
نفسها باسلامها فتعذر دفعها إليه فاستحق القيمة لأن النبي صلى الله عليه
وسلم لما صالح أهل مكة عام الحديبية على أن من جاءه مسلما رده إليهم فجاءه
نساء مسلمات فمنعه الله من ردهن وكذلك لو كان الجعل رجلا فأسلم قبل الفتح
لأنه عصم نفسه فلم يجز دفعه إليه وله قيمته كالجارية وإن كان اسلامهما بعد
الفتح سلما إليه إن كان مسلماً لأنهما أسلما بعد أسرهما فصارا رقيقين، وإن
كان كافراً فله قيمتهما لأنه لا يجوز للكفار أن يبتدئ الملك على المسلم
وإنما لم.
تجب له القيمة إذا ماتا وتجب إذا أسلما لأن تسليمهما ممكن إذا أسلما لكن
منع الشرع منه (مسألة) (وإن فتحت صلحاً ولم يشترطوا الجارية فله قيمتها إن
رضي بها وإن أبى إلا الجارية وأبى صاحب القلعة تسليمها فقال القاضي يفسخ
الصلح)
(10/433)
لأنه قد تعذر امضاء الصلح لأن حق صاحب
الجعل سابق ولا يمكن الجمع بينه وبين الصلح ونحو هذا مذهب الشافعي ولصاحب
القلعة أن يحصنها مثلما كانت من غير زيادة ويحتمل أن لا يكون له إلا قيمتها
ويمضي الصلح لأنه تعذر دفعها إليه مع بقائها فدفعت إليه القيمة كما لو
أسلمت قبل الفتح قولهم إن حق صاحب الجعل سابق قلنا إلا أن المفسدة في فسخ
الصلح أعظم لأن ضرره يعود على الجيش كله وربما تعدى إلى غيره من المسلمين
في كون هذه القلعة يتعذر فتحها بعد ذلك ويبقى ضررها على المسلمين ولا يجوز
تحمل هذه المضرة لدفع ضرر يسير عن واحد فإن ضرر صاحب الجعل إنما هو في فوات
عين الجعل وتفاوت ما بين عين الشئ وقيمته يسير لا سيما وهو في حق شخص واحد
ومراعاة حق المسلمين بدفع الضرر الكثير عنهم أولى من دفع الضرر اليسير عن
واحد منهم أو من غيرهم ولهذا قلنا لمن وجد ماله قبل قسمه أنه أحق به فإن
وجده بعد قسمه لم يأخذه إلا بثمن
لئلا يؤدي الى الضرر بنقض القسمة أو حرمان من وقع ذلك في سهمه (مسألة) وله
أن ينفل في البداءة الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث بعده وذلك أنه إذا
دخل الجيش بعث سرية تغير وإذا رجع بعث أخرى فما أتت به أخرج خمسه وأعطى
السرية ما جعل لها وقسم الباقي للجيش والسرية معاً) النفل الزيادة على
السهم المستحق ومنه نفل الصلاة وهو ما زيد على الفرض وقول الله تعالى
(10/434)
(ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة) كأنه سأل
الله ولداً فأعطاه ما سأل وزاده الله ولد الولد، والمراد بالبداءة هنا
ابتداء دخول دار الحرب والرجعة رجوعه عنها، والنفل في الغزو ينقسم ثلاثة
أقسام (أحدها) هذا وهو أن الإمام أو نائبه إذا دخل دار الحرب غازياً بعث
بين يديه سرية تغير على العد ويجعل لهم الربع بعد الخمس فما قدمت به السرية
أخرج خمسة ثم أعطى السرية ما جعل لهم وهو ربع الباقي ثم قسم ما بقي في
الجيش والسرية معاً فإذا قفل بعث سرية تغير وجعل لهم الثلث بعد الخمس فما
قدمت به السرية أخرج خمسة ثم أعطى السرية ثلث ما بقي ثم قسم سائره في الجيش
والسرية معه وبهذا قال حبيب بن مسلمة والحسن والاوزاعي وجماعة من أهل العلم
وروى عن عمرو بن شعيب أنه لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعله
احتج بقوله تعالى (قل الأنفال لله والرسول) فخصه بها، وكان ابن المسيب
ومالك يقولان: لا نفل إلا من الخمس.
وقال الشافعي يخرج من خمس الخمس لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعث سرية فيها عبد الله بن عمر فغنموا إبلا كثيراً فكانت سهمانهم
اثني عشر بعيراً ونفلوا بعيرا بعيراً متفق عليه.
ولو أعطاهم من أربعة أخماس الغنيمة التي هي لهم لم يكن نفلا وكان من
سهمانهم ولنا ما روى حبيب بن مسلمة الفهري قال شهدت رسول الله (ص) نفل
الربع في البداءة والثلث
(10/435)
في الرجعة، وفي لفظ أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس إذا قفل.
رواهما أبو داود
وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البداءة
الربع وفي القفول الثلث، رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب، وروى الأثرم
باسناده عن جرير بن عبد الله البجلي أنه لما قدم على عمر في قومه قال له
عمر هل لك أن تأتي الكوفة ولك الثلث بعد الخمس من كل أرض وشئ؟ فأما قول
عمرو بن شعيب فإن مكحولا قال له حين قال لا نفل بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم وذكر له حديث حبيب بن سلمة: شغلك أكل الزبيب بالطائف، وما ثبت
للنبي صلى الله عليه وسلم ثبت للأئمة بعده ما لم يقم على تخصيصه به دليل
وأما حديث ابن عمر فهو حجة عليهم فإن بعيراً على اثني عشر يكون جزءاً من
ثلاثة عشر، وخمس الخمس جزء من خمسة وعشرين جزءاً وجزء من ثلاثة عشر أكثر
فلا يتصور أخذ الشئ من أقل منه فيتعين أن يكون من غيره أو أن النفل كان
للسرية دون سائر الجيش، على أن ما رويناه صريح في الحكم ولا يعارض بشئ
مستنبط يحتمل غير ما حمله عليه من استنبطه إذا ثبت هذا فظاهر كلام أحمد
أنهم إنما يستحقون هذا بالشرط السابق فإن لم يكن شرطه لهم
(10/436)
فلا، قيل له أليس قد نفل النبي صلى الله
عليه وسلم في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث؟ قال نعم ذاك إذا نفل وتقدم
القول فيه، فعلى هذا إن رأى الإمام أن لا ينفلهم فله ذلك، وان رأى أن
ينفلهم دون الثلث والربع فله ذلك لأنه إذا جاز ترك النفل كله جاز ترك البعض
ولا يجوز أن ينفل أكثر من الثلث نص عليه أحمد وهذا قول مكحول والاوزاعي
وجمهور العلماء، وقال الشافعي لا حد للنفل بل هو موكول إلى اجتهاد الإمام
لأن النبي (ص) نفل مرة الثلث ومرة الربع، وفي حديث ابن عمر نفل نصف السدس
فهذا يدل على أنه ليس للنفل حد لا يتجاوزه الإمام فينبغي أن يكون موكولاً
إلى اجتهاده ولنا أن نفل النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى الثلث فينبغي
أن لا يتجاوزه، وما ذكره الشافعي يدل على أنه ليس لأقل النفل حد وأنه يجوز
أن ينفل أقل من الثلث والربع ونحن نقول به، على أن هذا القول مع قوله أن
النفل من خمس الخمس تناقض، فإن شرط لهم الإمام زيادة على الثلث ردوا إليه
وقال الأوزاعي لا ينبغي أن يشترط النصف فإن زادهم على ذلك فليف لهم به
ويجعل ذلك من الخمس وإنما زيد في الرجعة على البداءة في النفل لمشقتها فإن
الجيش في البداءة ردء للسرية تابع لها والعدو خائف وربما كان غارا وفي
الرجعة لا ردء للسرية لأن الجيش منصرف عنهم والعدو مستيقظ كلب قال أحمد في
البداءة إذا كان ذاهباً الربع في القفلة إذا كان في الرجوع الثلث لأنهم
يشتاقون إلى أهليهم فهنا (فهذا) أكثر
(10/437)
(القسم الثاني) أن ينفل الإمام بعض الجيش
لغنائه وبأسه وبلائه أو لمكروه تحمله دون سائر الجيش قال أحمد في الرجل
يأمره الأمير يكون طليعة أو عنده يدفع إليه رأساً من السبي أو دابة قال إذا
كان رجل له غناء أو يقاتل فلا بأس ذلك أنفع لهم يحرض هو وغيره ويقاتلون
ويغنمون وقال إذا نفذ الإمام صبيحة المغار الخيل فيصيب بعضهم وبعضهم لا
يأتي بشئ فللوالي أن يخص بعض هؤلاء الذين جاءوا بشئ دون هؤلاء وظاهر هذا أن
له إعطاء من هذا حاله من غير شرط وحجة هذا حديث سلمة بن الاكوع أنه قال غار
عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعتهم فذكر
الحديث فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل رواه مسلم
وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر قال فبيتنا عدونا فقتلت
ليلتئذ تسعة أهل أبيات وأخذت منهم امرأة فنفلنيها أبو بكر فلما قدمت
المدينة استوهبنيها النبي صلى الله عليه وسلم فوهبتها له رواه مسلم (القسم
الثالث) أن يقول الأمير من طلع هذا الحصن أو هدم هذا السور أو نقب هذا
النقب أو فعل كذا فله كذا أو من جاء بأسير فله كذا فهذا جائز في قول أكثر
أهل العلم منهم الثوري قال أحمد إذا قال من جاء بعشر دواب أو بقر أو غنم
فله واحد فمن جاء بخمسة أعطاه نصف ما قال لهم ومن جاء بشئ أعطاه بقدره قيل
له إذا قال من جاء بعلج فله كذا وكذى فجاء بعلج يطيب له ما يعطى؟ قال نعم
وكره مالك هذا القسم ولم يره وقال قتالهم على هذا الوجه إنما هو للدنيا
وقال هو وأصحابه
(10/438)
لا نفل إلا بعد إحراز الغنيمة وقال مالك:
ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا فله سلبه) إلا
بعد أن برد القتال ولنا ما تقدم من حديث حبيب وعبادة وما شرطه عمر لجرير بن
عبد الله وقول النبي صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا فله سلبه) ولأن فيه
تحريضاً على القتال فجاز كاستحقاق الغنيمة وزيادة السهم للفارس واستحقاق
السلب وما ذكره يبطل بهذه المسائل، وقوله أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما
جعل السلب للقاتل بعد أن برد القتال قلنا قوله ذلك ثابت الحكم فيما يأتي من
الغزوات بعد قوله فهو بالنسبة إليها كالمشروط في أول الغزاة، قال القاضي لا
يجوز هذا إلا إذا كان فيه مصلحة للمسلمين فإن لم تكن فيه فائدة لم يجز لأنه
إنما يخرج على وجه المصلحة فاعتبرت الحاجة فيه كأجرة الحمال والحافظ.
إذا ثبت هذا فإن النفل لا يختص بنوع من المال وذكر الخلال أنه لا نفل في
الدراهم والدنانير وهو قول الأوزاعي لأن القاتل لا يستحق شيئاً منها فكذلك
غيره لنا حديث حبيب بن مسلمة وعبادة فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لهم
الثلث والربع وهو عام في كل ما غنمره ولأنه نوع مال فجاز النفل فيه كسائر
الأموال وأما القاتل فإنما نفل السلب وليست الدراهم والدنانير من السلب فلم
يستحق غير ما جعل له (فصل) نقل أبو داود عن أحمد أنه قال له: إذا قال من
رجع إلى الساقة فله دينار والرجل
(10/439)
يعمل في سياقة الغنم قال لم يزل أهل الشام
يفعلون هذا وقد يكون في رجوعهم إلى الساقة وسياقة الغنم منفعة، قيل له فإن
أغار على قرية فنزل فيها والسبي والدواب والخرثي معهم في القرية ويمنع
الناس من جمعه الكسل لا يخافون عليه العدو فيقول الإمام من جاء بعشرة أثواب
فله ثوب ومن جاء بعشرة رؤوس فله رأس قال أرجو أن لا يكون به بأس، قيل له
فإن قيل من جاء بعدل من دقيق الروم فله دينار يريده لطعام السبي ما ترى في
أخذ الدينار؟ فما رأى به بأساً، قيل فالامام يخرج السرية وقد نفلهم جميعاً
فلما كان يوم المغار نادى من جاء بعشرة رؤوس فله رأس ومن جاء بكذا فله كذا
فذهب الناس فطلبوا فما ترى في هذا النفل؟ قال لا بأس به إذا كان يحرضهم على
ذلك ما لم يستغرق الثلث قلت لا بأس بنفلين في شئ واحد قال نعم ما لم يستغرق
الثلث سمعته غير مرة يقول ذلك
(فصل) قال أحمد والنفل من أربعة أخماس الغنيمة، هذا قول أنس بن مالك وفقهاء
الشام منهم رجاء بن حيوة وعبادة بن نسي وعدي بن عدي ومكحول والقاسم بن عبد
الرحمن ويزيد بن أبي مالك ويحيى بن جابر والاوزاعي وبه قال إسحاق وأبو عبيد
قال أبو عبيد والناس اليوم على هذا، قال أحمد وكان سعيد بن المسيب ومالك بن
أنس يقولان لا نفل إلا من الخمس فكيف خفي عنهما هذا مع علمهما؟ وقال النخعي
وطائفة إن شاء الإمام نفلهم قبل الخمس وإن شاء بعده وقال أبو ثور إنما
النفل قبل الخمس واحتج من ذهب إلى هذا بحديث ابن عمر الذي أوردناه
(10/440)
ولنا ماروى معن بن يزيد السلمي قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا نفل إلا بعد الخمس) رواه أبو داود
وابن عبد البر وهذا صريح وحديث حبيب بن أبي مسلمة أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس وحديث جرير حين قال له عمر
لك الثلث بعد الخمس ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نفل الثلث ولا يتصور
إخراجه من الخمس ولأن الله تعالى قال (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله
خمسه) يقتضي أن يكون الخمس خارجاً من الغنيمة كلها وأما حديث ابن عمر فقد
رواه شعيب عن نافع عن ابن عمر قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في
جيش قبل نجد وابتعث سرية من الجيش فكان سهمهمان الجيش اثني عشر بعيراً ونفل
أهل السرية بعيراً بعيراً فكانت سهمانهم ثلاثة عشر بعيرا فهذا يمكن أن يكون
نفلهم من أربعة أخماس الغنيمة دون بقية الجيش كما يفعل السرايا ويتعين حمل
هذا الخبر على هذا لأنه لو أعطى جميع الجيش لم يكن ذلك نفلا وكان قد قسم
لهم أكثر من أربعة الاخماس وخو خلاف الآية والأخبار (فصل) وكلام أحمد في أن
النفل من أربعة الأخماس عام لعموم الخبر فيه ويحتمل أن يحمل على
(10/441)
القسمين الأولين من النفل، فأما القسم
الثالث وهو أن يقول من جاء بشئ فله كذا أو من جاء بعشرة رؤوس فله رأس منها
فيحتمل أن يستحق ذلك من الغنيمة كلها لأنه ينزل منزلة الجعل فأشبه السلب
فإنه غير مخموس ويحتمل في القسم الثاني وهو زيادة بعض الغانمين على سهمه أن
يكون
من خمس الخمس المعد للمصالح لأن عطية هذا من المصالح والمذهب الأول لأن
عطية سلمة بن الأكوع سهم الفارس زيادة على سهمه إنما كان من أربعة الأخماس
(فصل) قال الخرقي ويرد من نفل على من معه في السرية إذ بقوتهم صار إليه
ومعناه إذا بعث سرية ونفلها الثلث أو الربع فخص به بعضهم أو جاء بعضهم بشئ
فنفله ولم يأت بعضهم بشئ فلم ينفله شارك من نفل من لم ينفل، وقد نص أحمد
على هذا لأن هؤلاء إنما أخذوا بقوة هؤلاء ولأنهم استحقوا النفل على وجه
الإشاعة بينهم بالشرط السابق فلم يختص به واحد منهم كالغنيمة، فأما النفل
في القسمين الأخيرين مثل أن يخص بعض الجيش بنفل لغنائه أو يجعله له كقوله
من جاء بعشر رؤوس فله رأس فجاء واحد بعشرة دون سائر الجيش فيختص بنفله دون
غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خص من قتل بسلب قتيله اختص به ولما
خص سلمة بن الأكوع بسهم الفارس والراجل اختص به ولذلك اختص بالمرأة التي
نفلها إياه أبو بكر دون الناس ولأن هذا جعل تحريضاً على القتال وحثاً على
فعل ما يحتاج المسلمون إليه لتحمل فاعله كلفة فعله رغبة فيما جعل له فلو لم
يختص به فاعله ما خاطر أحد بنفسه فيه ولا حصلت مصلحة النفل فوجب أن يختص
الفاعل لذلك بنفله كثواب الآخرة
(10/442)
(فصل) قال رضي الله عنه ويلزم الجيش طاعة
الأمير والنصح له والصبر معه لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (من
أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله
ومن عصى أميري فقد عصاني) رواه النسائي.
(مسألة) (ولا يجوز لأحد أن يتعلف ولا يحتطب ولا يبارز ولا يخرج من العسكر
ولا تحدث حدثا إلا بإذن الأمير) يعني لا يحرج لتعلف وهو تحصيل العلف ولا
احتطاب ولا غيره إلا بإذن الأمير لقول الله تعالى (إنما المؤمنون الذين
آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه)
ولأن الأمير أعرف بحال الناس وحال العدو ومكامنهم وقربهم وبعدهم فإذا خرج
أحد بغير إذنه
لم يأمن أن يصادف كميناً للعدو أو طليعة لهم فيأخذوه أو يرحل الأمير ويدعه
فيهلك فإذا كان بإذن الأمير لم يأذن لهم إلا إلى مكان آمن وربما يبعث معهم
من الجيش من يحرسهم (فصل) فأما المبارزة فتجوز بإذن الأمير في قول عامة أهل
العلم إلا الحسن فإنه كرهها.
ولنا أن حمزة وعلياً وعبيدة بن الحارث بارزوا يوم بدر بإذن النبي صلى الله
عليه وسلم وبارز على عمرو بن عبدود في غزوة الخندق وبارز مرحباً يوم خيبر
وقيل بارزه محمد بن مسلمة وبارز البراء بن مالك مرزبان المرازبة فقتله
(10/443)
وأخذ سلبه فبلغ ثلاثين ألفاً، وروي عنه أنه
قال قتلت تسعة وتسعين رئيساً من المشركين مبارزة سوى من شاركت فيهم ولم يزل
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبارزون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم
ومن بعده لم ينكره منكر فكان إجماعاً وكان أبو ذر يقسم أن قوله تعالى (هذان
خصمان اختصموا في ربهم) نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر وهم حمزة وعلي
وعبيدة، بارزوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة رواه البخاري.
إذا ثبت هذا فإنه ينبغي أن يستأذن الأمير في المبارزة إذا أمكن وبه قال
الثوري وإسحاق ورخص فيها مالك والشافعي وابن المنذر لأن أبا قتادة قال
بارزت رجلاً يوم حنين وقتلته ولم يعلم أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم
وكذلك أكثر من حكينا عنهم المبارزة لم نعلم منهم استئذاناً ولنا أن الإمام
أعلم بفرسانه وفرسان عدوه، ومتى برز الإنسان لمن لا يطيقه كان معرضاً نفسه
للهلاك فتنكسر قلوب المسلمين فينبغي أن يفوض ذلك إلى الإمام ليختار
للمبارزة من يرضاه لها فيكون أقرب إلى الظفر وجبر قلوب المسلمين وكسر قلوب
الكافرين، فإن قيل فقد أبحتم له أن ينغمس في الكفار وهو سبب قتله قلنا إذا
كان مبارزاً تعلقت قلوب الجيش به وارتقبوا ظفره، فإن ظفر جبر قلوبهم وسرهم
وكسر قلوب الكافرين وإن قتل كان بالعكس والمنغمس يطلب الشهادة لا يترقب منه
ظفره ولا مقاومته
(10/444)
فافترقا وأمبارزة (وأما مبارزة) أبي قتادة
فغير لازمة فإنها كانت بعد التحام الحرب رأى رجلاً يريد أن يقتل مسلماً
فضربه أبو قتادة فالتفت إلى أبي قتادة فضمه ضمه كاد يقتله وليس هذا هو
المبارزة المختلف فيها بل المبارزة المختلف فيها أن يبرز رجل بين الصفين
قبل التحام الحرب يدعو إلى المبارزة فهذا هو الذي
يتعين له إذن الإمام لأن أعين الطائفتين تمتد إليهما وقلوب الفريقين تتعلق
بهما بخلاف غير ذلك.
(مسألة) (فإن دعي كافر إلى البراز استحب لمن يعلم من نفسه القوة والشجاعة
أن يبارزه بإذن الأمير) .
المبارزة تنقسم ثلاثة أقسام مستحبة ومباحة ومكروهة (فالمستحبة) إذا خرج
كافر يطلب البراز فيستحب لمن يعلم من نفسه القوة والشجاعة أن يبارزه بإذن
الأمير، لأن فيه رداً عن المسلمين وإظهارا لقوتهم (والمباحة) أن يبتدئ
الرجل الشجاع فيطلبها فتباح ولا تستحب لأنه لا حاجة إليها ولا يؤمن أن يغلب
فيكسر فلوب المسلمين إلا أنه لما كان شجاعاً واثقاً من نفسه أبيحت له لأنه
بحكم الظاهر غالب، (والمكروهة) أن يبرز الضعيف البنية الذي لا يثق من نفسه
فتكره له المبارزة لما فيه من كسر قلوب المسلمين بقتله ظاهرا.
(مسألة) (فإن شرط الكافر أن لا يقاتله غير الخارج إليه فله شرطه) إذا خرج
كافر يطلب البراز فشرط أن لا يعين الذي يبارزه غيره فله شرطه لقول الله
تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم
(المؤمنون عند شروطهم) ويجوز رميه وقتله قبل المبارزة لأنه كافر لاعهد له
ولا أمان فأبيح قتله كغيره إلا أن تكون العادة جارية بينهم أن من خرج يطلب
المبارزة لا يعرض له فيجري ذلك مجرى الشرط.
(10/445)
(مسألة) (فإن انهزم المسلم أو أثخن بالجراح
جاز الدفع عنه) إذا انهزم المسلم تاركاً للقتال أو مثخناً بالجراح جاز لكل
أحد قتال الكافر لأن المسلم إذا صار إلى هذه الحال فقد انقضى قتاله والأمان
إنما كان حال القتال وقد زال وإن كان المسلم شرط عليه أن لا يقاتل حتى يرجع
إلى صفة وفي له بالشرط إلا أن يترك قتاله أو يثخنه بالجراح فيتبعه ليقتله
أو يجهز عليه فيجوز أن يحولوا بينه وبينه، وإن قاتلهم قاتلوه لأنه إذا
منعهم انقاذه فقد نقض أمانه وإن أعان الكفار صاحبهم فعلى المسلمين أن
يعينوا صاحبهم ويقاتلوا من أعان عليه ولا يقاتلون المبارز لأنه ليس بسبب من
جهته فإن كان قد استنجدهم أو علم منه الرضا بفعلهم انتقض أمانه وجاز قتله
وذكر
الأوزاعي أنه ليس للمسلمين معاونة صاحبهم وإن أثخن بالجراح قيل له فخاف
المسلمون على صاحبهم قال وإن، لأن المبارزة إنما تكون هكذا ولكن لو حجزوا
بينهما وخلوا سبيل العلج قال فإن أعان العدو صاحبهم فلا بأس أن يعين
المسلمون صاحبهم ولنا أن حمزة وعلياً أعانا عبيدة بن الحارث على قتل شيبة
بن ربيعة حين ثخن عبيدة.
(فصل) وتجوز الخدعة في الحرب للمبارز وغيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (الحرب خدعة وهو حديث حسن صحيح، وروي أن عمرو بن عبدود لما بارز علياً
رضي الله عنه قال علي ما برزت لا قاتل اثنين فالتفت عمرو فوثب عليه فضربه
فقال عمرو خدعتني فقال الحرب خدعة.
(10/446)
(فصل قال أحمد وإذا غزوا في البحر فأراد
رجل أن يقيم بالساحل يستأذن الوالي الذي هو على جميع المراكب ولا يكفيه أن
يستأذن الوالي الذي في مركبه.
(مسألة) (وإن قتله المسلم فله سلبه) .
أما استحقاق سلب القتيل في الجملة فلا نعلم فيه خلافاً وقد دل عليه قول
النبي صلى الله عليه وسلم من قتل كافراً فله سلبه، رواه جماعة عن النبي صلى
الله عليه وسلم منهم أنس وسمرة بن جندب وغيرهما، وروي أبو قتادة قال خرجنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين فلما التقينا رأيت رجلا من
المشركين قد علا رجلاً من المسلمين فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته
بالسيف على حبل عاتقه ضربة فأدركه الموت ثم إن الناس رجعوا وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلاً له عليه بينه فله سلبه) قال فقمت فقلت
من يشهد لي؟ فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (مالك يا أبا قتادة،
فاقتصصت عليه القصة فقال رجل من القوم صدق يا رسول سلب ذلك القتيل عندي
فارضه منه فقال أبو بكر الصديق لاها الله إذا تعمد إلى أسد من أسد الله
يقاتل عن الله وعن رسول الله يعطيك سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(صدق فأسلمه إليه) قال فأعطانيه متفق عليه، وعن أنس قال قال رسول
(10/447)
الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين (من قتل
قتيلا فله سلبه) فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا
فأخذ أسلابهم، رواه أبو داود.
(مسألة) (وكل من قتل قتيلا فله سلبه غير مخموس إذا قتله حال الحرب منهمكا
على القتال غير مثخن وغرر بنفسه في قتله وعنه لا يستحقه إلا من شرط له) .
الكلام في هذه المسألة في فصول (إحداها) في أن القاتل يستحق السلب وقد
ذكرناه (الثاني) أن السلب لكل قاتل يستحق السهم أو الرضخ كالعبد والمرأة
والصبي والمشرك وقال ابن أبي موسى من بارز بغير إذن الإمام لم يستحق السلب
ذكره في الإرشاد وروي عن ابن عمر أن العبد إذا بارز بإذن مولاه لم يستحق
السلب ويرضخ له منه وللشافعي فيمن لا سهم له قولان (أحدهما) لا يستحق السلب
لأن السهم آكد منه للإجماع عليه فإذا لم يستحقه فالسلب أولى ولنا عموم
الخبر ولأنه قاتل من أهل الغنيمة فاستحق السلب كذي السهم ولأن الأمير لو
جعل جعلا لمن منع شيئاً فيه نفع للمسلمين لاستحقه فاعله من هؤلاء فالذي
جعله النبي صلى الله عليه وسلم أولى وفارق السهم لأنه علق على المظنة ولهذا
يستحق بالحضور ويستوي فيه الفاعل وغيره والسلب يستحق بحقيقة الفعل وقد وجد
منه ذلك فاستحقه كالمجعول له جعلا على فعل إذا فعله فإن كان القاتل ممن لا
يستحق سهما ولا رضخاً كالمرجف والمخذل والمعين على المسلمين لم يستحق السلب
وإن قل وهو قول الشافعي لأنه
(10/448)
ليس من أهل الجهاد وكذلك إن بارز العبد
بغير إذن مولاه لا يستحق السلب لأنه عاص وكذلك كل عاص مثل من دخل بغير إذن
الأمير وعن أحمد فيمن دخل بغير إذن أنه يؤخذ منه الخمس وباقيه له كالغنيمة
ويخرج مثل ذلك في العبد المبارز بغير إذن سيده ويحتمل أن يكون سلب قتيل
العبد له على كل حال لأن ما كان له فهو لسيد ففي حرمانه حرمان سيده ولم يعص
(الفصل الثالث) السلب للقاتل في كل حال إلا أن ينهزم العدو وبه قال الشافعي
وابو ثور وداود وابن المنذر وقال مسروق إذا التقى الزحفان فلا سلب له إنما
النفل قبل وبعد ونحوه قول نافع وكذلك قال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز
وأبو بكر بن أبي مريم: السلب للقاتل ما لم تمتد الصفوف بعضها إلى بعض فإذا
كان كذلك فلا سلب لأحد
ولنا عموم قوله عليه السلام من قتل قتيلا فله سلبه ولأن أبا قتادة إنما قتل
الذي أخذ سلبه في حال التقاء الزحفين ألا تراه يقول فلما التقينا رأيت رجلا
من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين؟ وكذلك قول أنس قتل أبو طلحة يومئذ
عشرين رجلا وأخذ أسلابهم وكان ذلك بعد التقاء الزحفين لأن هوازن لقوا
المسلمين فجأة فألحموا الحرب قبل تقدم مبارزة
(10/449)
(الفصل الرابع) أنه إنما يستحق السلب بشروط
أربعة [أحدها] أن يكون المقتول من المقاتلة الذين يجوز قتلهم فأما إن قتل
امرأة أو صبياً أو شيخا فاينا أو ضعيفاً مهيناً ونحوهم ممن لا يقاتل لم
يستحق سلبه لا نعلم فيه خلافاً وإن كان أحد هؤلاء يقاتل استحق قاتله سلبه
لجواز قتله ومن قتل أسيراً له أو لغيره لم يستحق سلبه لذلك [الثاني] أن
يكون المقتول فيه منعه غير مثخن بالجراح فإن كان مثخناً فليس لقاتله شئ من
سلبه وبهذا قال مكحول وجرير بن عثمان والشافعي لأن معاذ بن عمرو بن الجموح
أثبت أبا جهل وذفف عليه ابن مسعود فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه
لمعاذ بن عمرو بن الجموح ولم يعط ابن مسعود شيئاً [الثالث] أن يقتله أو
يثخنه بالجراح فيعجله في حكم المقتول فيستحق سلبه لحديث معاذ ابن عمرو بن
الجموح [الرابع] أن يغرر بنفسه في قتله فإن رماه بسهم من صف المسلمين فقتله
فلا سلب له قال أحمد السلب للقاتل إنما هو في المبارزة لا يكون في الهزيمة
وإن حمل جماعة من المسلمين على واحد فقتلوه فسلبه غنيمة لأنهم لم يغرروا
بأنفسهم في قتله (فصل) وإنما يستحق السلب إذا قتله حال الحرب فإن انهزم
الكفار كلهم فأدرك انسانا منهزما
(10/450)
فقتله فلا سلب له لأنه لم يغرر في قتله،
وإن كانت الحرب قائمة فانهزم أحدهم فقتله انسان فله سلبه لان الحرب كروفر
وقد قتل سلمة بن الأكوع طليعة للكفار وهو منهزم وقال النبي صلى الله عليه
وسلم (من
قتله؟) قالوا ابن الأكوع قال (له سلبه أجمع) وبهذا قال الشافعي وقال أبو
ثور وداود وابن المنذر السلب لكل قاتل لعموم الخبر واحتجاجا بحديث سلمة هذا
ولنا أن ابن مسعود ذفف على أبي جهل فلم يعطه النبي صلى الله عليه وسلم سلبه
وأمر بقتل عقبة بن أبي معيط والنضر ابن الحارث صبراً ولم يعط سلبهما من
قتلهما وقتل بني قريظة صبراً فلم يعط من قتلهم أسلابهم وإنما أعطي السلب من
قتل مبارزاً وكفى المسلمين شره وغرر في قتله والمنهزم بعد انقضاء الحرب قد
كفى المسلمين شر نفسه ولم يغرر قاتله بنفسه في قتله فهو كالأسير وأما الذي
قتله سلمة فكان متحيزاً إلى فئة وكذلك من قتل حال قيام الحرب فإنه وإن كان
منهزماً فهو متحيز إلى فئة وراجع إلى القتال فأشبه الكار فان القتال كر
وفر.
إذا ثبت هذا فانه لا يشترط في استحقاق السلب أن تكون المبارزة بإذن الأمير
لأن كل من قضي له بالسلب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من نقل
إلينا أنه أذن له في المبارزة مع أن عموم الخبر يقتضي استحقاق السلب لكل
قاتل إلا من خصه الدليل (الفصل الخامس) أن السلب لا يخمس روى ذلك عن سعد بن
أبي وقاص رضي الله عنه وبه قال الشافعي وابن المنذر وقال ابن عباس يخمس وبه
قال الأوزاعي ومكحول لعموم قوله تعالى (واعلموا
(10/451)
أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) وقال إسحاق
أن استكثر الإمام السلب خمسه وذلك إليه لما روى ابن سيرين أن البراء ابن
مالك بارز مرزبان المرازبه بالبحرين فطعنه فدق صلبه وأخذ سواريه وسلبه،
فلما صلى عمر الظهر أتى أبا طلحة في داره فقال إنا كنا لا نخمس السلب وإن
سلب البراء قد بلغ مالا وأنا خامسة، فكان أول سلب خمس في الإسلام سلب
البراء.
رواه سعيد في السنن وفيها أن سلب البراء بلغ ثلاثين ألفاً ولنا ماروى عوف
بن مالك وخالد بن الوليد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في السلب للقاتل
ولم يخمس السلب.
رواه أبو داود، وخبر عمر حجة لنا فإنه قال إنا كنا لا نخمس السلب وقول
الراوي كان أول سلب خمس في الإسلام يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا
بكر وعمر صدراً من خلافته لم يخمسوا سلباً واتباعهم أولى، قال الجوزجاني:
لا أظنه يجوز لأحد في شئ سبق فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ
إلا اتباعه ولا حجة في قول أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما
ذكرناه يصلح أن يخصص به عموم الآية إذا ثبت هذا فإن السلب من أصل الغنيمة،
وقال مالك يحسب من خمس الخمس ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى به
للقاتل مطلقاً ولم ينقل عنه أنه احتسب به من خمس الخمس، ولأنه لو احتسب به
من خمس الخمس احتيج إلى معرفة قيمته وقدره ولم ينقل ذلك، ولأن سببه لا
يفتقر إلى اجتهاد الإمام فلم يكن من خمس الخمس كسهم الراجل والفارس
(10/452)
(الفصل السادس) أن القاتل يستحق السلب قال
الإمام ذلك أو لم يقله وبه قال الأوزاعي والليث والشافعي واسحاق وأبو عبيد
وأبو ثور وقال أبو حنيفة والثوري لا يستحقه إلا أن يشرطه الإمام وكذلك قال
مالك ولم ير أن يقول الإمام ذلك إلا بعد انقضاء الحرب على ما تقدم من مذهبه
في النفل وجعلوا السلب ههنا من جملة الأنفال، وقد روي عن أحمد مثل قولهم
وهو اختيار أبي بكر لما روى عوف بن مالك أن مددياً تبعهم فقتل علجاً فأخذ
خالد بعض سلبه وأعطاه بعضه فذكر ذلك لرسول الله (ص) فقال (لا تعطه يا خالد)
رواه سعيد وأبو داود بمعناه بأطول من هذا وروينا بإسنادهما عن شبر بن علقمة
قال بارزت رجلا يوم القادسية فقتلته وأخذت سلبه فأتيت به سعداً فخطب سعد
أصحابه وقال إن هذا سلب شبر خير من اثني عشر ألفاً وإنا قد نفلناه إياه ولو
كان حقاً لم يحتج أن ينفله ولأن عمر أخذ الخمس من سلب البراء ولو كان حقاً
له لم يجز أن يأخذ منه شيئاً ولان النبي (ص) دفع سلب أبي قتادة إليه من غير
بينة ولا يمين ولنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا فله
سلبه) وهذا من قضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهورة التي عمل بها
الخلفاء بعده، وأخبارهم التي احتجوا بها تدل على ذلك فإن عوف بن مالك احتج
على خالد حين أخذ بعض سلب المددي فقال له عوف أما تعلم أن النبي صلى الله
عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال
(10/453)
بلى، وقول عمر إنا كنا لا نخمس السلب يدل
على أن هذه قضية عامة في كل غزوة وحكم مستمر
لكل قاتل وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم خالداً أن لا يرد على المددي
عقوبة حين أغضبه عوف بتقريعه خالداً بين يديه وقوله قد أنجزت لك ما ذكرت لك
من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما خبر شبر فإنما أنفذ له سعد ما
قضى له به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه نفلا لأنه في الحقيقة نفل
لأنه زيادة على سهمه، وأما أبو قتادة فإن خصمه اعترف له به وصدقه فجرى مجرى
البينة ولأن السلب مأخوذ من الغنيمة بغير تقدير الإمام واجتهاده فلم يفتقر
إلى شرطه كالسهم إذا ثبت هذا فإن أحمد قال لا يعجبني أن يأخذ السلب إلا
بإذن الإمام وهو قول الأوزاعي، وقال ابن المنذر والشافعي له أخذه بغير إذن
لأنه استحقه بجعل النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك ولا يأمن أن أظهره عليه
أن لا يعطاه ووجه قول أحمد أنه فعل مجتهد فيه فلم ينفذ أمره فيه إلا بإذن
الإمام كأخذ سهمه، ويحتمل أن يكون هذا من حمد على سبيل الاستحباب ليخرج من
الخلاف لا على سبيل الإيجاب، فعلى هذا إن أخذه بغير إذن ترك الفضيلة وله ما
أخذه (مسألة) (وان قطع أربعته وقتله آخر فسلبه للقاطع دون القاتل) لان
القاطع هو الذي كفى المسلمين شره ولأن معاذ بن عمرو بن الجموح أثبت أبا جهل
وذفف عليه ابن مسعود فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ
(10/454)
(مسألة) (وإن قتله اثنان فسلبه غنيمة) هذا
ظاهر كلام أحمد فإنه قال في رواية حرب له السلب إذا انفرد بقتله.
وقال القاضي إنهما يشتركان في سلبه لقوله (من قتل قتيلا فله سلبه) وهو
يتناول الاثنين، ولأنهما اشتركا في السبب فاشتركا في السلب ولنا أن السلب
إنما يستحق بالتغرير في قتله ولا يحصل ذلك بقتل الاثنين أشبه مالو قتله
جماعة ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شرك بين اثنين في سلب، فإن
اشترك اثنان في ضربه وكان أحدهما أبلغ في قتله من الآخر فالسلب له لأن معاذ
بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء ضربا أبا جهل وأتيا النبي
صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال (كلاكما قتله) وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو
بن الجموح (مسألة) (وإن أسره وقتله الإمام فسلبه غنيمة) إذا أسر رجلا لم
يستحق سلبه سواء قتله الإمام أو لم يقتله، وقال مكحول: لا يكون السلب إلا
لمن أسر علجاً أو قتله وقال القاضي إذا أسر رجلا فقتله الإمام صبراً فسلبه
لمن اسره لان الأسر أصعب من القتل فإذا استحق سلبه بالقتل كان تنبيها على
استحقاقه بالأسر قال وان استبقاه الإمام كان له فداؤه أو رقبته وسلبه لأنه
كفى المسلمين شره ولنا أن المسلمين أسروا أسرى يوم بدر فقتل النبي صلى الله
عليه وسلم عقبة والنضر بن الحارث
(10/455)
واستبقى سائرهم فلم يعط من أسرهم أسلابهم
ولا فداءهم وكان فداؤهم غنيمة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل
السلب للقاتل وليس الأسر بقتل ولأن الإمام مخير في الاسرى ولو كان لمن أسره
كان أمره إليه دون الإمام (مسألة) (وان قطع يده ورجله وقتله آخر فسلبه
غنيمة وقيل هو للقاتل) إذا قطع يده ورجله وقتله آخر فالسلب للقاطع في أحد
الوجهين لأنه عطله فأشبه الذي قتله (والثاني) هو غنيمة لأنه لم ينفرد
أحدهما بقتله ولا يستحقه القاتل لأنه مثخن بالجراح وقيل هو للقاتل لعموم
الخبر وكذلك إن قطع يديه أو رجليه وإن قطع إحدى يديه أو إحدى رجليه ثم قتله
آخر احتمل أن يكون سلبه غنيمية لأنهما اشتركا في قتله فلم ينفرد به أحدهما
واحتمل أنه للقاتل لأنه قتل من لم يكتف المسلمون شره وإن عانق رجلاً فقتله
آخر فالسلب للقاتل وبهذا قال الشافعي وقال الأوزاعي هو للمعانق ولنا قول
النبي صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا فله سلبه) ولأنه كفى المسلمين شره
أشبه ما لو لم يعانقه الآخر وكذلك لو كان الكافر مقبلاً على رجل يقاتله
فجاء آخر من ورائه فضربه فقتله فسلبه لقاتله بدليل قصة قتيل أبي قتادة
(10/456)
(فصل) ولا تقبل دعوى القتل إلا ببينة وقال
الأوزاعي يعطي السلب إذا قال أنا قتلته ولا يسأل بينه لأن النبي صلى الله
عليه وسلم قبل قول أبي قتادة ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من قتل
قتيلاً له عليه بينه فله سلبه) متفق عليه وأما أبو قتادة فإن خصمه اعترف له
فاكتفى بإقراره قال أحمد لا يقبل إلا شاهدان وقالت طائفة من أهل الحديث
يقبل شاهد ويمين لأنها دعوى في المال ويحتمل أن يقبل شاهد بغير يمين لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قبل قول الذي شهد لابي قتادة من غير يميز ووجه
الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر البينة واطلاقها ينصرف إلى شاهدين
ولأنها دعوى للقتل فاعتبر شاهدان كدعوى قتل العمد (مسألة) (والسلب ما كان
عليه من ثياب وحلي وسلاح والدابة بآلتها وعنه أن الدابة ليست من السلب
ونفقته وخيمته ورحله غنيمة) سلب القتيل ما كان لابسه من ثياب وعمامة
وقلنسوة ومنطقة ودرع ومغفر وبيضة وتاج وأسورة وران وخف بما في ذلك من حلية
لأن المفهوم من السلب اللباس وكذلك السلاح من السيف والرمح واللت والقوس
ونحوه لأنه يستعين به في قتال فهو أولى بالأخذ من اللباس فأما المال الذي
معه في هميانه وخريطته فليس بسلب لأنه ليس من الملبوس ولا مما يستعين به في
الحرب وكذلك
(10/457)
رحله وإناؤه وما ليست يده عليه من ماله وبه
قال الأوزاعي ومكحول والشافعي إلا أن الشافعي قال مالا يحتاج إليه في الحرب
كالتاج والسوار والطوق والهميان الذي للنفقة ليس من السلب في أحد القولين
لأنه مما لا يستعان به في الحرب فأشبه المال الذي في خريطته ولنا أن البراء
بارز مرزبان المرازبة فقتله فبلغ سواره ومنطقته ثلاثين ألفاً فخمسه عمر
ودفعة إليه وفي حديث عمرو بن معدي كرب أنه حمل على سوار فطنعه فدق صلبه
فصرعه فنزل إليه فقطع يده وأخذ سوارين كانا عليه ويلقاً من ديباج وسيفاً
ومنطقة فسلم ذلك إليه ولأنه من ملبوسة أشبه ثيابه ولأنه داخل في اسم السلب
أشبه الثياب والمنطقة ويدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم (فله سلبه)
واختلفت
الرواية عن أحمد رحمه الله في الدابة فنقل عنه أنها ليست من السلب اختاره
أبو بكر لأن السلب ما كان على بدنه والدابة ليست كذلك فلا تدخل في الخبر
وذكر أبو عبد الله حديث عمرو بن معدي كرب فأخذ سواريه ومنطقته يعني ولم
يذكر الدابة ونقل عنه أنها من السلب وهو ظاهر المذهب وبه قال الشافعي لما
روى عوف بن مالك قال خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مددي من
أهل اليمن فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس أشقر عليه سرج مذهب وسلاح
مذهب فجعل يغري بالمسلمين وقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب
فرسه فعلاه ققتله وحاز فرسه وسلاحه فلما فتح الله للمسلمين بعث إليه خالد
بن الوليد فأخذ من السلب قال عوف فأتيته فقلت يا خالد أما علمت أن
(10/458)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب
للقاتل؟ قال بلى رواه الأثرم وفي حديث شبر بن علقمة أنه أخذ فرسه كذلك قال
أحمد كقوله فيه ولأن الفرس يستعان بها في الحرب فأشبهت السلاح وما ذكروه
يبطل بالرمح والقوس واللت فإنها من السلب وليست ملبوسة إذا ثبت هذا فإن
الدابة وما عليها من سرجها ولجامها وتحقيبها وحلية إن كانت عليه وجميع
آلتها من السلب لأنه تابع لها ويستعان به في الحرب وإنما تكون من السلب إذا
كان راكباً عليها فإن كانت في منزلة أو مع غيره أو منقلبة لم تكن من السلب
كالسلاح الذي ليس معه وإن كان عليها فصرعه عنها أو أشعره عليها ثم قتله بعد
نزوله عنها فهي من السلب وهذا قول الأوزاعي وإن كان ممسكاً بعنانها غير
راكب عليها فعن أحمد فيها روايتان (إحداهما) هي سلب وهو قول الشافعي لأنه
متمكن من القتال عليها فأشبهت سيفه ورمحه في يده (والثانية) ليست من السلب
وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه ليس براكب عليها فاشبه مالو كانت مع غلامه وان
كان على فرس وفي يده جنيبه لم تكن الجنيبة من السلب لان لا يمكنه ركوبهما
معاً (فصل) ويجوز سلب القتلى وتركهم عراة وهذا قول الأوزاعي وكرهه الثوري
وابن المنذر لما فيه من كشف عوراتهم ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في
قتيل سلمة بن الاكوع له سلبه أجمع وقال (من قتل قتيلا فله سلبه) وهذا
يتناول جميعه
(فصل) ويكره نقل رؤوس المشركين من بلد إلى بلد والمثلة بقتلاهم وتعذيبهم
لما روى سلمة
(10/459)
ابن جندب قال كان النبي صلى الله عليه وسلم
يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة وعن عبد الله قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم (أن أعف الناس قتلة أهل الإيمان) رواهما أبو داود وعن شداد
بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الله كتب الاحسان على كل
شئ فاذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) رواه النسائي وعن
عقبة بن عامر أنه قدم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه برأس بباق البطريق
فأنكر ذلك فقال يا خليفة رسول فإنهم يفعلون ذلك بنا قال (فاستنان بفارس
والروم) لا يحمل إلي رأس فإنما يكفي الكتاب والخبر وقال الزهري لم يحمل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم رأس قط وحمل إلى أبي بكر فأنكره وأول من حملت
إليه الرؤوس عبد الله بن الزبير ويكره رميها في المنجنيق نص عليه أحمد وإن
فعلوا ذلك لمصلحة جاز لما روينا أن عمرو بن العاص حين حاصر الاسكندرية ظفر
أهلها برجل من المسلمين فأخذوا رأسه فجاء قومه عمراً متعصبين فقال لهم عمرو
خذوا رجلاً منهم فاقطعوا رأسه فارموا به إليهم في المنجنيق ففعلوا ذلك فرمى
أهل الاسكندرية رأس المسلم إلى قومه (فصل) ولا يجوز الغزو إلا بإذن الأمير
إلا أن يفجأهم عدو يخافون كلبه) إذا جاء العدو لزم جميع الناس ممن هو من
أهل القتال الخروج إليهم إذا احتيج إليهم ولا يجوز لأحد التخلف إلا من
يحتاج إلى التخلف لحفظ المكان والأهل والمال ومن يمنعه الأمير الخروج ومن
لا قدرة له على الخروج لقول الله تعالى (انفروا خفافا وثقالا) وقول النبي
صلى الله عليه وسلم (إذا استنفرتم فانفروا) وقد ذم الله
(10/460)
تعالى الذين أرادوا الرجوع إلى منازلهم يوم
الأحزاب فقال (ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وماهي بعورة
إن يريدون إلا فرارا) ولأنهم يصير الجهاد عليهم فرض عين إذا جاء العدو فلا
يجوز لأحد التخلف عنه.
إذا ثبت هذا فانهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير لأن أمر الحرب موكول إليه وهو
أعلم بقلة العدو وكثرتهم ومكامنهم وكيدهم فينبغي أن يرجع إلى رأيه لأنه
أحوط للمسلمين إلا أن يتعذر استئذانه لمفاجأة عدوهم فلا يجب استئذانه حينئذ
لأن المصلحة تتعين في قتالهم
والخروج إليهم لتعين الفساد في تركهم ولذلك لما أغار الكفار على لقاح النبي
صلى الله عليه وسلم فصادفهم سلمة ابن الأكوع خارجاً من المدينة تبعهم
فقاتلهم من غير إذن فمدحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال (خير رجالنا سلمة
بن الاكوع) وأعطاه سهم فارس وراجل وكذلك إن عرضت لهم فرصة يخافون فوتها إن
تركوها حتى يستأذنوا الأمير فلهم الخروج بغير إذنه لئلا تفوتهم (فصل) وسئل
أحمد عن الإمام إذا غضب على الرجل فقال أحرج عليك أن لا تصحبني فنادى
بالنفير يكون اذنا له؟ قال لا إنما قصد له وحده فلا يصحبه حتى يأذن له، قال
وإذا نودي بالصلاة والنفير فإن كان العدو بالبعد إنما جاءهم طليعة العدو
صلوا ونفروا إليهم وإذا استغاثوهم وقد جاء العدو أغاثوا ونصروا وصلوا على
ظهور دوابهم ويؤمون الغياث عندي أفضل من صلاة الجماعة والطالب والمطلوب في
هذا الموضع يصلي على ظهر دابته وهو يسير إن شاء الله وإذا سمع النفير وقد
أقيمت الصلاة يصلي ويخفف ويتم الركوع والسجود ويقرأ بسور قصار وقد نفر من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو جنب
(10/461)
يعني حنظلة بن الراهب غسيل الملائكة قال
ولا يقطع الصلاة إذا كان فيها، وإذا جاء النفير والإمام يخطب يوم الجمعة لا
نرى أن ينفروا قال ولا تنفر الخيل الا على حقيقة ولا تنفر على الغلام إذا
أبق إذا نفروهم ولا يكون هلاك الناس بسبب غلام وإذا نادى الإمام الصلاة
جامعة لأمر يحدث فيشاور فيه لم يتخلف عنه أحد إلا لعذر (فصل) وسئل أحمد عن
الرجلين يشتريان الفرس بينهما يغزوان عليه يركب هذا عقبة وهذا عقبة فقال ما
سمعت فيه بشئ وأرجو أن لا يكون به بأس قيل له أيما أحب إليك يعتزل الرجل في
الطعام أو يرافق؟ قال يرافق هذا أرفق يتعاونون وإذا كنت وحدك لم يمكنك
الطبخ ولا غيره ولا بأس بالنهد قد تناهد الصالحون كان الحسن إذا سافر ألقى
معهم ويزيد أيضاً بعدما يلقي ومعنى النهد أن يخرج كل واحد من الرفقة شيئاً
من النفقة يدفعونه إلى رجل ينفق عليهم منه ويأكلون جميعاً وكان الحسن يدفع
إلى وكيلهم مثل واحد منهم ثم يعود فيأتي سراً بمثل ذلك يدفعه إليه قال احمد
ما أرى أن يغزو ومعه مصحف يعني لا يدخل به أرض العدو لقول النبي صلى الله
عليه وسلم (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو
رواه أبو داود والاثرم.
(فصل) ومن أعطي شيئاً يستعين به في غزاته فما فضل فهو له إذا كان قد أعطي
لغزوة بعينها
(10/462)
هذا قول عطاء ومجاهد وسعيد بن المسيب وكان
ابن عمر إذا أعطي شيئاً في الغزو يقول لصاحبه إذا بلغت وادي القرى
فشأنك به ولأنه أعطاه على سبيل المعاونة والنفقة لا على سبيل الإجارة
فكان الفاضل له كما لو وصى له أن يحج عنه فلان حجة بألف وإن أعطاه
شيئاً لينفقه في سبيل الله أو في الغزو مطلقاً ففضل منه فضل أنفقه في
غزاة أخرى لأنه أعطاه الجميع لينفقه في جهة قربة فلزمه انفاق الجميع
فيها كما لو وصى أن يحج عنه بألف.
(فصل) ومن أعطي شيئاً يستعين به في الغزو فقال أحمد لا يترك لأهله منه
شيئاً لأنه ليس بملكه إلا أن يصير إلى رأس مغزاة فيكون كهيئة ماله
فيبعث إلى عياله منه ولا يتصرف فيه قبل الخروج لئلا يتخلف عن الغزو فلا
يكون مستحقاً لما أنفقه إلا أن يشتري منه سلاحاً أو آلة الغزو فإن قصد
اعطاءه لمن يغزو به فقال أحمد لا يتخذ منها سفرة فيها طعام فيطعم منها
أحداً لأنه إنما أعطيها لينفقها في جهة مخصوصة وهي الجهاد.
(فصل) وإذا أعطي الرجل دابة ليغزو عليها فإذا غزا عليها ملكها كما يملك
النفقة المدفوعة إليه إلا أن تكون عارية فتكون لصاحبها أو حبساً فيكون
حبساً بحاله قال عمر رضي الله عنه حملت على فرس عتيق في سبيل الله
فأضاعه صاحبه الذي كان عنده فأردت أن اشتريه وظنت أنه بائعه برخص فسألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن
أعطاكه بدرهم فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه) متفق عليه،
وهذا يدل على أنه ملكه لولا ذلك ما باعه
(10/463)
ويدل على أنه ملكه بعد الغزو لأنه أقامه
للبيع بالمدينة ولم يكن ليأخذه من عمر ثم يقيمه للبيع في الحال فدل على
أنه أقامه للبيع بعد غزوه عليه ذكر أحمد نحو هذا الكلام وسئل متى تطيب
له الفرس؟ قال إذا غزا عليه قيل له فإن العدو جاءنا فخرج على هذا الفرس
في الطلب إلى خمس فراسخ ثم رجع؟
قال لا حتى يكون غزا قيل له فحديث ابن عمر إذا بلغت وادي القرى فشأنك
به قال ابن عمر كان يضع ذلك في ماله وروي أنه إنما يستحقه إذا غزا عليه
وهذا قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن المسيب ومالك وسالم والقاسم
والانصاري والليث والثوري ونحوه عن الأوزاعي قال إبن المنذر ولم أعلم
أن أحداً قال له أن يبيعه في مكانه وكان مالك لا يرى أن ينتفع بثمنه في
غير سبيل الله إلا أن يقول له شأنك به ما أردت.
ولنا أن حديث عمر ليس فيه ما اشترط مالك فأما إن قال هي حبس فلا يجوز
بيعها وسنذكر ذلك في الوقف إن شاء الله تعالى، (فصل) قال أحمد لا يركب
دواب السبيل في حاجة ويركبها ويستعملها في سبيل الله ولا يركب في
الأمصار والقرى ولا بان يركبها ويعلفها وأكره سباق الرمك على الفرس
الحبس وسهم الفرس الحبيس لمن غزا عليه، وإذا أراد أن يشتري فرساً ليحمل
عليه فقال أحمد يستحب شراؤها من غير الثغر ليكون توسعه على أهل الثغر
في الجلب
(10/464)
(مسألة) (وإن دخل قوم لا منعه لهم دار
الحرب بغير إذن الإمام فغنموا فعن أحمد فيها ثلاث روايات) [إحداهن] أن
غنيمتهم كغنيمة غيرهم يخمسه الإمام ويقسم باقيه بينهم هذا قول أكثر أهل
العلم منهم الشافعي لعموم قوله سبحانه (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن
لله خمسه) الآية، والقياس على ما إذا دخلوا بإذن الإمام [والثانية] هو
لهم من غير أن يخمس وهو قول أبي حنيفة لأنه اكتساب مباح من غير جهاد
فأشبه الاحتطاب فإن الجهاد بإذن الإمام أو من طائفة لهم منعه وقوة،
فأما هذا فتلصص وسرقة ومجرد اكتساب [الثالثة] أنه لا حق لهم فيه قال
أحمد في عبد أبق إلى الروم ثم رجع ومعه متاع: العبد لمولاه وما معه من
المتاع والمال فهو للمسلمين، لأنهم عصاة بفعلهم فلم يكن لهم فيه حق
والأولى أولى
قال الأوزاعي لما أقفل عمر بن عبد العزيز الجيش الذين كانوا مع مسلمة
كسر مركب بعضهم فأخذ المشركون ناساً من القبط فكانوا خدماً لهم فخرجوا
يوما إلى عيد لهم وخلفوا القبط في مركبهم وشرب الآخرون ورفع القبط
القلع وفي المركب متاع الآخرين وسلاحهم فلم يضعوا قلعهم حتى
(10/465)
أتوا بيروت فكتب في ذلك إلى عمر بن عبد
العزيز فكتب عمر نفلوهم القلع وكل شئ جاءوا به إلا الخمس، رواه سعيد
والاثرم، فإن كانت الطائفة ذات منعه غزوا بغير إذن الإمام ففيهم
روايتان (إحداهما) لا شئ لهم وهو فئ المسلمين (والثانية) يخمس والباقي
لهم وهي أصح، ووجه الروايتين ما تقدم ويخرج فيه وجه كالرواية الثالثة
وهو أن الجميع لهم لكونه اكتساباً مباحاً من غير جهاد (فصل) قال الخرقي
ولا يتزوج في أرض العدو إلا أن تغلب عليه الشهوة فيتزوج مسلمة ويعزل
عنها ولا يتزوج منهم ومن اشترى جارية لم يطأها في الفرج وهو في أرضهم
قال شيخنا رحمه الله تعالى يريد والله أعلم من دخل أرض العدو بأمان،
فأما إن كان في جيش المسلمين فله أن يتزوج لما روي عن سعيد عن أبي هلال
أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج أسماء بنت عميس أبا بكر
وهم تحت الرايات، أخرجه سعيد ولأن الكفار لا يد لهم عليه أشبه من في
دار الإسلام، وأما الأسير فظاهر كلام أحمد أنه لا يحل له التزوج ما دام
أسيراً لأنه منعه من وطئ امرأته إذا أسرت معه مع صحة نكاحهما وهذا قول
الزهري فإنه قال لا يحل للأسير أن يتزوج ما كان في أرض المشركين ولأن
الأسير إذا ولد له ولد كان رقيقاً لهم ولا يأمر أن يطأ امرأته غيره
منهم، وسئل أحمد عن أسير أسرت معه امرأته أيطؤها؟ فقال كيف يطؤها ولعل
غيره منهم يطؤها؟ قال الأثرم قلت له فلعلها تعلق بولد فيكون معهم فقال
وهذا أيضاً وأما الذي يدخل إليهم بأمان كالتاجر ونحوه فهو الذي أراد
الخرقي إن شاء الله تعالى فلا ينبغي
(10/466)
له أن يتزوج لأنه لا يأمن أن تأتي امرأته
بولد فيستولي عليه الكفار وربما نشأ بينهم فيصير على دينهم فإن غلبت
عليه الشهوة أبيح له نكاح مسلمة لأنه حال ضرورة ويعزل عنها كيلا تأتي
بولد
ولا يتزوج منهم لأنها تغلبه على ولدها فيتبعها على دينها قال القاضي
قول الخرقي هذا نهي كراهة لا نهي تحريم لأن الله تعالى قال (وأحل لكم
ما وراء ذلكم) ولأن الأصل الحل فلا يحرم بالشك والتوهم وإنما كرهنا له
التزوج منهم مخافة أن يغلبوا على ولده فيسترقوه ويعلموه الكفر ففي
تزويجه تعريضه لهذا الفساد العظيم وازدادت الكراهة إذا تزوج منهم لأن
الظاهر أن امرأته تغلبه على ولدها فتكفره كما أن حكم الإسلام يغلب
للإسلام فيما إذا أسلم أحد الأبوين أو تزوج مسلم ذمية، وإذا اشترى منهم
جارية لم يطأها في الفرج في أرضهم مخافة أن يغلبوه على ولدها فيسترقوه
ويكفروه (مسألة) (ومن أخذ من دار الحرب طعاماً أو علفاً فله أكله وعلف
دابته بغير إذن وليس له بيعه فإن باعه رد ثمنه في المغنم) أجمع أهل
العلم إلا من شذ منهم على أن للغزاة إذا دخلوا أرض الحرب أن يأكلوا ما
وجدوا من الطعام ويعلفوا دوابهم من علفهم منهم سعيد بن المسيب وعطاء
والحسن والشعبي والقاسم وسالم والثوري والاوزاعي ومالك والشافعي وأصحاب
الرأي، وقال الزهري لا يؤخذ إلا بإذن الإمام وقال سليمان بن موسى لا
يترك إلا أن ينهى عنه الإمام فيتبع نهيه
(10/467)
ولنا ما روى عبد الله بن أبي أوفى قال
أصبنا طعاماً يوم خيبر فكان الرجل يأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف.
رواه سعيد وأبو داود وروي أن صاحب جيش الشام كتب الى عمر إنا أصبنا
أرضاً كثيرة الطعام والعلف وكرهت أن أتقدم في شئ من ذلك فكتب إليه دع
الناس يأكلون ويعلفون فمن باع منهم شيئاً بذهب أو فضة ففيه خمس الله
وسهام المسلمين، رواه أبو سعيد وقد روى عبد الله بن مغفل قال دلي جراب
من شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت والله لا أعطي أحداً منه شيئاً فالتفت
فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فاستحييت منه، متفق عليه، ولأن
الحاجة تدعو إلى هذا وفي المنع منه مضرة بالجيش وبدوابهم فإنه يعسر
عليهم نقل الطعام والعلف من دار
الإسلام ولا يجدون بدار الحرب ما يشترونه ولو وجدوه لم يجدوا ثمنه ولا
يمكن قسمه ما يأخذه الواحد منهم ولو قسم لم يحصل للواحد منهم شئ ينتفع
به ولا يدفع به حاجته فأبيح لهم ذلك فمن أخذ من الطعام شيئاً مما يقتات
أو يصلح به القوت من الأدم أو غيره أو العلف لدابته فهو أحق به سواء
كان له ما يستغني به عنه أولا.
ويكون أحق بما يأخذه من غيره فإن فضل منه مالا حاجة به اليه رده على
المسلمين لأنه إنما أبيح له ما يحتاج إليه، وإن أعطاه أحد من أهل الجيش
ما يحتاج إليه جاز له أخذه وصار أحق به من غيره
(10/468)
وإن باع شيئاً من الطعام أو العلف رد قيمته
في الغنيمة لما ذكرنا من حديث عمر وبه قال سليمان بن موسى والثوري
والشافعي، وكره القاسم وسالم ومالك بيعه، وقال القاضي لا يخلو إما أن
يبيعه من غاز أو غيره فإن باعه لغيره فالبيع باطل لأنه باع مال الغنيمة
بغير ولاية ولا نيابة فيجب رد المبيع ورفض البيع فإن تعذر رده رد قيمته
أو ثمنه إن كان أكثر من قيمته إلى المغنم وإن باعه لغاز لم يخل من أن
يبدله بطعام أو علف مما له الانتفاع به أو بغيره فإن باعه بمثله فليس
هذا بيعاً في الحقيقة إنما سلم إليه مباحاً وأخذ مثله مباحاً، ولكل
واحد منهما الانتفاع بما أخذه وصار أحق به من غيره لثبوت يده عليه،
فعلى هذا لو باع صاعاً بصاعين أو افترقا قبل القبض جاز، وإن باعه به
نسيئة أو أقرضه إياه فأخذه فهو أحق به ولا يلزمه ايفاؤه فإن وفاه ورده
إليه عادت اليد إليه وإن باعه بغير الطعام والعلف فالبيع غير صحيح
ويصير المشتري أحق به لثبوت يده عليه ولا ثمن عليه وإن أخذه منه وجب
رده إليه (فصل) (وإن وجد دهنا فهو كسائر الطعام) لما ذكرنا من حديث عبد
الله بن مغفل ولأنه طعام فأشبه البر والشعير وإن كان غير مأكول فاحتاج
أن يدهن به أو يدهن دابته فظاهر كلام أحمد جوازه إذا كان من حاجة قال
في زيت الروم إذا كان من ضرورة أو صداع فلا بأس فأما التزين فلا يعجبني
وقال الشافعي ليس له دهن دابته من جرب إلا بالقيمة لأن ذلك لا تعم
الحاجة إليه ويحتمل
(10/469)
كلام أحمد مثل هذا لأنه ليس بطعام ولا علف
ووجه الأول أن هذا مما يحتاج إليه لاصلاح نفسه ودابته أشبه الطعام
والعلف وله أكل ما يتداوى به ويشرب الشراب من الجلاب والسكنجبين
وغيرهما عند الحاجة إليه لأنه من الطعام وقال أصحاب الشافعي ليس له
تناوله لأنه ليس من القوت ولا يصلح به القوت ولأنه لا يباح مع عدم
الحاجة إليه فلم يبح مع الحاجة كغير الطعام ولنا أنه طعام احتيج إليه
أشبه الفواكه وما ذكروه يبطل بالفاكهة وإنما اعتبرنا الحاجة ههنا لأن
هذا لا يتناول في العادة إلا عند الحاجة إليه (فصل) وللغازي أن يطعم
دوابه ورقيقه مما يجوز له الأكل منه سواء كانوا للقنية أو للتجارة قال
أبو داود قلت لأبي عبد الله يشتري الرجل السبي في بلاد الروم يطعمهم من
طعام الروم؟ قال نعم وروى عنه ابنه عبد الله أنه قال سألت أبي عن الرجل
يدخل بلاد الروم ومعه الجارية والدابة للتجارة أيطعمها يعني الجارية
وعلف الدابة؟ قال لا يعجبني ذلك فإن لم يكن للتجارة فلم ير به بأساً
فظاهر هذا أنه لا يجوز إطعام ما كان للتجارة لأنه ليس مما يستعين به
على الغزو وقال الخلال رجع أحمد عن هذه الرواية وروى عنه جماعة بعد هذا
أنه لا بأس به وذلك لأن الحاجة داعية إليه فاشبه مالا يراد به التجارة
(فصل) قال أحمد ولا يغسل ثوبه بالصابون لأن ذلك ليس بطعام ولا علف
ويراد للتحسين والزينة ولا يكون في معناهما ولو كان مع الغازي فهد وكلب
للصيد لم يكن له إطعامه من الغنيمة
(10/470)
فإن أطعمه غرم قيمة ما أطعمه لأن هذا يراد
للتفرج والزينة وليس مما يحتاج إليه في الغزو بخلاف الدواب (فصل) ولا
يجوز لبس الثياب ولا ركوب دابة من دواب المغنم لما روى رويفع بن ثابت
الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (من كان يؤمن بالله
واليوم الآخر فلا يركب دابة من فئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه
ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فئ المسلمين حتى إذا
اخلقه رده فيه) رواه سعيد (فصل) ولا يجوز الانتفاع بجلودهم واتخاذ
النعل والجرب (والجورب) منها ولا الخيوط ولا الحبال وبهذا
قال ابن محيريز ويحيى بن أبي كثير واسماعيل بن عياش والشافعي ورخص في
اتخاد الجرب من جلود الغنم سليمان بن موسى ورخص مالك في الإبرة وفي
الحبل يتخذ من الشعر والنعل والخف يتخذ من جلود البقر.
ولنا ماروى قيس بن أبي حازم أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بكمنة شعر من المغنم فقال يا رسول الله إنا نعمل الشعر فهبها لي فقال
(نصيبي منها لك) رواه سعيد وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
(أدوا الخيط والمخيط فإن الغلول نار وشنان يوم القيامة) ولأن ذلك من
الغنيمة ولا تدعو إلى أخذه حاجة عامة فأشبه الثياب (فصل) فأما كتبهم
فإن كانت مما ينتفع به ككتب الطب واللغة والشعر فهي غنيمة وإن كانت
(10/471)
مما لا ينتفع به ككتب التوراة والانجيل
وأمكن الانتفاع بجلودها أو ورقها بعد غسله غسل وهو غنيمة وإلا فلا ولا
يحوز بيعها (فصل) وإن أخذوا من الكفار جوارح للصيد كالفهد والبزاة فهي
غنيمة تقسم وإن كانت كلابا لم يجز بيعها وإن لم يردها أحد من الغانمين
جاز إرسالها وإعطاوها غير الغانمين وإن رغب فيها بعض الغانمين دون بعض
دفعت إليه ولم تحسب عليه لأنها لا قيمة لها وإن رغب فيها الجميع أو
جماعة كثيرة فأمكن قسمتها قسمت عدداً من غير تقويم، وإن تعذر ذلك أو
تنازعوا في الجيد منها فطلبه كل واحد منهم أقرع بينهما وإن وجدوا
خنازير قتلوها لأنها مؤذية ولا نفع فيها وإن وجدوا خمراً أراقوه فان
كان في أوعيته نفع للمسلمين أخذوها وإلا كسروها لئلا يعودوا إلى
استعمالها (مسألة) فإن فضل معه منه شئ فأدخله البلد رده في الغنيمة إلا
أن يكون يسيراً فله أكله في إحدى الروايتين) أما الكثير فيجب رده بغير
خلاف علمناه لأن ما كان مباحا له في حال الحرب فإذا أخذه على وجه ففضل
منه كثير إلى دار الإسلام فقد أخذ مالا يحتاج إليه فيلزمه رده لأن
الأصل تحريمه لكونه مشتركا بين الغانمين فهو كسائر المال وإنما أبيح
منه ما دعت الحاجة إليه فما زاد يبقى على أصل التحريم
ولهذا لم يبح بيعه وأما اليسير ففيه روايتان
(10/472)
(إحداهما) يجب رده أيضاً اختاره أبو بكر
وهو قول أبي حنيفة وابن المنذر وأبي ثور وهو أحد قولي الشافعي لما
ذكرنا في الكثير ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أدوا الخيط
والمخيط) ولأنه من الغنيمة ولم يقسم فلم يبح في دار الإسلام كالكثير
وكما لو أخذه في دار الإسلام (والثانية) يباح وهو قول مكحول وخالد بن
معدان وعطاء الخراساني ومالك والاوزاعي، قال أحمد أهل الشام يتساهلون
في هذه وقد روى القاسم بن عبد بن الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم قال كنا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه حتى إن كنا لنرجع إلى
رحالنا وأخرجتنا منه مملوءة رواه أبو داود وسعيد، وعن عبد الله بن يسار
السلمي قال دخلت على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم
إلى تميراً من تمير الروم فقلت لقد سبقت الناس بهذا؟ قال ليس هذا من
العام هذا من العام الأول رواه الأثرم في سننه، وقال الأوزاعي أدركت
الناس يقدمون بالقديد فيهديه بعضهم إلى بعض لا ينكره إمام ولا عامل ولا
جماعة، وهذا نقل للإجماع ولأنه أبيح إمساكه عن القسمة فأبيح في دار
الإسلام كمباحات دار الحرب التي لا قيمة لها فيها ويفارق الكثير لأنه
لا يجوز إمساكه عن القسمة ولأن اليسير تجري فيه المسامحة ونفعه قليل
بخلاف الكثير
(10/473)
(فصل) وإذا جمعت المغانم وفيها طعام أو علف
لم يجز لأحد أخذه إلا للضرورة لأننا إنما أبحنا أخذه قبل جمعه لأنه لم
يثبت فيه ملك المسلمين بعد فأشبه المباحات من الحطب والحشيش فإذا جمعت
ثبت ملك المسلمين فيها فخرجت عن حيز المباحات وصارت كسائر أملاكهم فلم
يجز الأكل منها إلا لضرورة وهو أن لا يجدوا ما يأكلونه فحينئذ يجوز لأن
حفظ نفوسهم ودوابهم أهم وسواء حيزت في دار الحرب أو في دار الإسلام،
وقال القاضي يجوز الأكل منها ما كانت في دار الحرب، وإن حيزت لأن دار
الحرب مظنة الحاجة لعسر نقل الميرة إليها بخلاف دار الإسلام والأولى
أولى لأن ما ثبت عليه أيدي المسلمين وتحقق ملكهم له لا ينبغي أن يؤخذ
إلا برضاهم كسائر أملاكهم ولأن
حيازته في دار الحرب تثبت الملك فيه بدليل يجواز قسمته وثبوت أحكام
الملك فيه بخلاف ما قبل الحيازة فإن الملك لم يثبت فيه بعد (مسألة)
(ومن أخذ سلاحاً فله أن يقاتل به حتى تنقضي الحرب ثم يرده وليس له ركوب
الفرس في إحدى الروايتين) إذا دعت الحاجة الى القتال بسلاحهم فلا بأس
قال أحمد إذا كان أبلى فيهم أو خاف على نفسه فنعم وذكر ما روي عن عبد
الله بن مسعود قال انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وقد ضربت رجله
(10/474)
فقلت الحمد لله الذي أخزاك يا أبا جهل
فأضربه بسيف معي غير طائل فوقع سيفه من يده فأخذت سيفه فضربته به حتى
برد رواه الأثرم ولأنهم أجمعوا على أنه يجوز أن يلتقط النشاب ثم يرمي
به العدو وهذا أبلغ من الذي يقاتل بسيف ثم يرده إلى المغنم أو يطعن
برمح ثم يرده لأن النشاب يرمي به فلا يرجع إليه والسيف يرده في الغنيمة
وفي ركوب الفرس للجهاد عليه روايتان (إحداهما) يجوز كالسلاح (والثانية)
لا يجوز لحديث رويفع بن ثابت ولأنها تتعرض للعطب غالباً وقيمتها كثيرة
بخلاف السلاح والله تعالى أعلم (باب قسمة الغنائم) الغيمة كل ما أخذ من
المشركين قهراً بالقتال واشتقاقها من الغنم وهي الفائدة وخمسها لأهل
الخمس وأربعة أخماسها للغانمين لقول الله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من
شئ فأن لله خمسه) فأضافها إليهم ثم جعل خمسها لله فدل على أن أربعة
أخماسها لهم ثم قال (فكلوا مما غنتم حلالا طيبا) ولأن النبي صلى الله
عليه وسلم قسم الغنائم كذلك (فصل) ولم تكن الغنائم تحل لمن مضى بدليل
قوله عليه السلام (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي) فذكر منها (أحلت لي
الغنائم) متفق عليه وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم
(10/475)
(لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤوس غيركم
كانت تنزل نار من السماء تأكلها) متفق عليه ثم كانت في أول
الإسلام لرسول الله بقوله تعالى (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله
والرسول) ثم صار أربعة أخماسها للغانمين وخمسها لغيرهم لما ذكرنا وقال
تعالى (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) (مسألة) (وإن أخذ منهم مال مسلم
فأدركه صاحبه قبل قسمه فهو أحق به، وإن أدركه مقسوماً فهو أحق به بثمنه
وعنه لا حق لهم فيه، وإن أخذه منهم أحد الرعية بثمن فصاحبه أحق به
بثمنه وإن أخذه بغير عوض فصاحبه أحق به بغير شئ) إذا أخذ الكفار أموال
المسلمين ثم أخذها المسلمون منهم قهراً فإن علم صاحبها قبل قسمها ردت
إليه بغير شئ في قول عامة أهل العلم منهم عمر رضي الله عنه وسلمان بن
ربيعة وعطاء والنخعي والليث والثوري ومالك والاوزاعي والشافعي وأصحاب
الرأي وقال الزهري لا يرد إليه وهو للجيش ونحوه عن عمرو بن دينار لأن
الكفار ملكوه باستيلائهم فصار غنيمة كسائر أموالهم ولنا ما روى بن
عمران غلاماً له أبق إلى العدو فظهر عليه المسلمون فرده النبي صلى الله
عليه وسلم الى ابن عمر ولم يقسم وعنه قال ذهب فرس له فأخذها العدو فظهر
عليه المسلمون فرد عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رواهما أبو
داود وعن رجاء بن حيوة أن أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب فيما أحرز
المشركون من المسلمين ثم ظهر المسلمون عليه بعد قال من وجد ماله بعينه
فهو أحق به ما لم يقسم رواه سعيد والاثرم
(10/476)
وكذلك إن علم الإمام بمال مسلم قبل قسمه
فقسمه وجب رده وصاحبه أحق به بغير شئ لأن قسمته كانت باطلة من أصلها
فهو كما لو لم يقسم فأما إن أدركه بعد القسم ففيه روايتان (إحداهما)
يكون صاحبه أحق به بالثمن الذي حسب به على آخذه وكذلك إن بيع ثم قسم
ثمنه فهو أحق به بالثمن وهذا قول أبي حنيفة والثوري والاوزاعي ومالك
لما روى ابن عباس أن رجلا وجد بعيراً له كان المشركون أصابوه فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم (إن أصبته قبل أن نقسمه فهو لك وإن أصبته بعد
ما قسم أخذته بالقيمة) ولأنه إنما امتنع أخذه له بشئ كيلا يفضي إلى
حرمان آخذه من الغنيمة أو تضييع الثمن على المشتري وحقهما ينجبر بالثمن
فيرجع صاحب المال في عين ماله بمنزلة مشتري الشقص المشفوع إلا أن
المحكي عن مالك وأبي حنيفة أنه يأخذه بالقيمة ونحوه عن مجاهد
(والرواية الثانية أنه لا حق له فيه بعد القسم بحال نص عليه أحمد في
رواية أبي داود وغيره وهو قول عمر وعلي وسلمان بن ربيعة وعطاء والنخعي
والليث قال أحمد أما قول من قال فهو أحق به بالقيمة فهو قول ضعيف عن
مجاهد وقال الشافعي وابن المنذر يأخذه صاحبه قبل القسمة و؟ ويعطي
مشتريه ثمنه من خمس المصالح لأنه لم يزل عن ملك صاحبه فوجب أن يستحق
أخذه بغير شئ كما قبل القسمة ويعطي من حسب عليه القيمة لئلا يفضي إلى
حرمان أخذه حقه من الغنيمة وجعل من بهم؟ المصالح لأن هذا منها
(10/477)
ولنا ما روى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى
السائب أيما رجل من المسلمين أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من
غيره، وإن أصابه في أيدي التجار بعدما اقتسم فلا سبيل إليه وقال سلمان
بن ربيعة إذا قسم فلا حق له فيه رواهما سعيد في سننه ولأنه إجماع قال
أحمد إنما قال الناس فيها قولين إذا اقتسم فلا شئ له وقال قوم إذا
اقتسم فهو له بالثمن فأما أن يكون له بعد القسمة بغير ذلك فلم يقله أحد
ومتى انقسم أهل العصر على قولين في حكم لم يجز إحداث قول ثالث لمخالفته
الإجماع وقد روى أصحابنا عن ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال (من أدرك ماله قبل أن يقسم فهو له) وإن أدركه بعد أن قسم فليس له
فيه شئ والمعول على ما ذكرنا من الإجماع وقولهم لم يزل ملك صاحبه ممنوع
(فصل) فإن أخذه أحد من الرعية بهبة أو سرقة أو بغير شئ فصاحبه أحق به
بغير شئ وقال أبو حنيفة لا يأخذه إلا بقيمة لأنه صار ملكاً لواحد بعينه
أشبه ما لو قسم ولنا ما روى أن قوماً أغاروا على سرح النبي صلى الله
عليه وسلم فأخذوا ناقة وجارية من الأنصار فأقامت عندهم أياماً ثم خرجت
في بعض الليل قالت فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت حتى وضعتها على ناقة
ذلول فامتطيتها ثم توجهت إلى المدينة ونذرت إن نجاني الله عليها أن
انحرها فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة فإذا هي ناقة رسول الله صلى
الله عليه وسلم فاخذها فقلت يا رسول الله إني نذرت إن أنحرها
(10/478)
قال (بئس ما جازيتها لا نذر في معصية الله)
وفي رواية (لا نذر فيما لا يملك ابن آدم) أخرجه مسلم
ولأنه لم يحصل في يده بعوض فكان صاحبه أحق به بغير شئ كما لو أدركه في
الغنيمة قبل القسمة فأما إن اشتراه رجل من العدو فليس لصاحبه أخذه إلا
بثمنه وقال القاضي وما حصل في يده بهبة أو سرقة أو شراء فهو كما لو
وجده صاحبه بعد القسمة هل يكون صاحبه أحق به بالقيمة؟ على روايتين ولنا
الحديث المذكور وما روى سعيد بإسناده قال أغار أهل ماه وجلولا على
العرب فأصابوا شيئاً من سبايا العرب ورقيقاً ومتاعاً ثم أن السائب بن
الأكوع عامل عمر غزاهم ففتح ماه فكتب إلى عمر في سبايا المسلمين
ورقيقهم ومتاعهم قد اشتراه التجار من أهل ماه فكتب اليه عمر ان المسلم
أخو المسلم لا يحزنه ولا يخذله فأيما رجل من المسلمين أصاب رقيقه
ومتاعه بعينه فهو أحق به وإن أصابه في أيدي التجار بعد ما انقسم فلا
سبيل إليه وأيما حر اشتراه التجار فإنه يرد عليهم رؤوس أموالهم فإن
الحر لا يباع ولا يشترى (فصل) وحكم أموال أهل الذمة إذا استولى عليها
الكفار ثم قدر عليها حكم أموال المسلمين فيما ذكرنا قال علي رضي الله
عنه إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا ولأن
أموالهم معصومة فأشبهت أموال المسلمين
(10/479)
(فصل) فإن غنم المسلمون من المشركين شيئاً
عليه علامة المسلمين ولم يعلم صاحبه فهو غنيمة قال أحمد في مركب يجئ من
مصر يقطع عليها الروم فيأخذونها ثم يأخذها المسلمون منهم إن عرف صاحبها
فلا يؤكل منها وهذا يدل على جواز الأكل منها إذا لم يعرف صاحبها ونحو
هذا قول الثوري والاوزاعي قال في المصحف يحصل في الغنائم يباع وقال
الشافعي يوقف حتى يجئ صاحبه وإن وجد شئ موسوم عليه حبس في سبيل الله رد
كما كان نص عليه أحمد وبه قال الأوزاعي والشافعي وقال الثوري يقسم ما
لم يأت صاحبه ولنا أن هذا قد عرف هذا مصرفه وهو الحبس فهو بمنزلة مالو
عرف صاحبه قيل لأحمد فالجواميس تدرك قد ساقها العدو للمسلمين وقد ردت
يؤكل منها؟ قال إذا عرف لمن هي فلا يوكل منها قيل فما حازه العدو
للمسلمين فأصابه المسلمون أعليهم أن يقفوه حتى يبين صاحبه؟ قال إذا عرف
فقيل هذا لفلان وكان صاحبه بالقرب
قيل له أصيب غلام في بلاد الروم فقال أنا لفلان رجل بمصر؟ قال إذا عرف
الرجل لم يقسم ورد على صاحبه قيل له أصبنا مركباً في بلاد الروم فيها
النواتية قالوا هذا لفلان وهذا لفلان؟ قال هذا قد عرف صاحبه لا يقسم.
(مسألة) (وبذلك الكفار أموال المسلمين بالقهر ذكره القاضي وقال أبو
الخطاب ظاهر كلام أحمد انهم لا يملكونها، وروى عن أحمد في ذلك روايتان)
.
(10/480)
(إحداهما) أن الكفار يملكون أموال المسلمين
بالقهر هذا قول مالك وأبي حنيفة.
(والرواية الثانية) لا يملكونها وهو قول الشافعي لحديث ناقة النبي صلى
الله عليه وسلم قال أبو الخطاب وهو ظاهر كلام أحمد حيث قال إن أدركه
صاحبه قبل القسم فهو أحق به قال إنما منعه أخذه بعد القسمة لأن قسمة
الإمام له تجري مجرى الحكم ومتى صادف الحكم أمراً مجتهداً فيه نفذ حكمه
ولأنه مال معصوم طرأت عليه يد عادية فلم يملك بها كالغصب ولأن من لا
يملك رقبة غيره بالقهر لا يملك ماله به كالمسلم مع المسلم.
ووجه الأول أن القهر سبب يملك به المسلم مال الكافر فملك به الكفار مال
المسلم كالبيع، فأما الناقة فإنما أخذها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه
أدركها غير مقسومة ولا مشتراة فعلى هذا يملكونها قبل حيازتها إلى دار
الكفر وهو قول مالك، وذكر القاضي أنهم إنما يملكونها بالحيازة إلى
دارهم وهو قول أبي حنيفة وحكي عن أحمد في ذلك روايتان: ووجه الأول أن
الاستيلاء سبب للملك فيثبت قبل الحيازة إلى الدار كاستيلاء المسلمين
على مال الكافر، ولأن ما كان سببا للملك أثبته حيث وجد كالهبة والبيع،
وفائدة الخلاف في ثبوت الملك وعدمه أن من أثبت الملك للكافر في أموال
المسلمين أباح للمسلمين إذا ظهروا عليها قسمتها والتصرف فيها ما لم
يعلم صاحبها وأن الكافر إذا أسلم وهي في يده فهو أحق بها، ومن لم يثبت
الملك اقتضى مذهبه عكس ذلك، قال الشيخ رحمه الله ولا أعلم خلافاً
(10/481)
في أن الكافر الحربي إذا أسلم أو دخل إلينا
بأمان بعد أن استولى على مال مسلم فاتلفه أنه لا يلزمه ضمانه فإن أسلم
وهو في يده فهو له بغير خلاف في المذهب لقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم (من أسلم على شئ فهو له) وإن كان أخذه من المستولى
عليه بهبة أو سرقة أو شراء فكذلك لأنه استولى عليه في حال كفره فأشبه
ما لو استولى عليه بقهره المسلم، وعن أحمد أن صاحبه يكون أحق به
بالقيمة وإن استولى على جارية مسلم فاستولدها ثم اسلم فهي له وهي أم
ولده، نص عليه أحمد لأنها مال فأشبهت سائر الاموال وإن غنمها المسلمون
وأولادها قبل إسلام سابيها فعلم صاحبها ردت إليه وكان أولادها غنيمة
لأنهم أولاد كافر حدثوا بعد ملك الكافر لها.
(فصل) وإن استولوا على حر لم يملكوه مسلما كان أو ذمياً، لا نعلم فيه
خلافا لأنه لا يضمن بالقيمة ولا تثبت عليه اليد بحال، وإذا قدر
المسلمون على أهل الذمة بعد ذلك وجب ردهم إلى ذمتهم ولم يجز استرقاقهم
في قول عامة العلماء منهم الشعبي ومالك والليث والاوزاعي والشافعي
واسحاق ولا نعلم لهم مخالفا لان ذمتهم باقية ولم يوجد منهم ما يوجب
نقضها وكلما يضمن بالقيمة كالعروض يملكونه بالقهر وكذلك العبد القن
والمدبر والمكاتب وأم الولد، وقال أبو حنيفة لا يملكون المكاتب وأم
الود لأنه لا يجوز نقل الملك فيهما فهما كالحر.
ولنا أنهما يضمنان بالقيمة فملكوهما كالقن ويحتمل أن لا يملكوا أم
الولد لأنها لا يجوز نقل الملك فيها ولا يثبت فيها لغير سيدها، وفائدة
الخلاف أن من قال بثبوت الملك فيهما قال متى قسما أو
(10/482)
اشتراهما انسان لم يكن لسيدهما أخذهما إلا
بالثمن قال الزهري في أم الولد يأخذها سيدها بقيمة عدل وقال مالك
يفديها الإمام فان لم يفعل يأخذها سيدها بقيمة عدل ولا يدعها يستحل
فرجها من لا تحل له، ومن قال لا يثبت الملك فيهما ردا إلى ما كانا عليه
على كل حال كالحر وإن اشتراهما انسان فالحكم فيهما كالحكم في الحر إذا
اشتراه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(فصل) وإذا ابق عبد المسلم إلى دار الحرب فأخذوه ملكوه كالدابة وهو قول
مالك وأبي يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يملكونه وعن أحمد مثل ذلك لأنه
إذا صار في دار الحرب زالت يد مولاه عنه وصار في يد نفسه فلم يملك
كالحر.
ولنا أنه مال لو أخذوه من دار الإسلام ملكوه فإذا أخذوه من دار الحرب
ملكوه كالبهيمة (مسألة) (وما أخذوا من دار الحرب من ركاز أو مباح له
قيمة فهو غنيمة)
أما الركاز إذا وجده في موضع يقدر عليه بنفسه فهو له كما لو وجده في
دار الإسلام فيه الخمس وباقيه له، وإن لم يقدر عليه إلا بجماعة من
المسلمين فهو غنيمة، ونحو هذا قول مالك والاوزاعي والليث وقال الشافعي
إن وجده في مواتهم فهو كما لو وجده في دار الإسلام.
ولنا ما روى عاصم بن كليب عن أبي الجوين الحرمي قال لقيت بأرض الروم
جرة فيها ذهب في
(10/483)
إمرة معاوية وعلينا معن بن يزيد السلمي
فأتيته بها فقسمها بين المسلمين وأعطاني مثل ما أعطى رجلا منهم ثم قال
لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا نفل إلا بعد
الخمس لأعطيتك) ثم أخذ يعرض علي من نصيبه فأبيت أخرجه أبو داود ولأنه
مال مشترك مظهور عليه بقوة جيش المسلمين فكان غنيمة كأموالهم الظاهرة.
(فصل) ومن وجد في دارهم لقطة فإن كانت من متاع المسلمين فهو كما وجده
في غير دار الحرب وإن كانت من متاع المشركين فهي غنيمة، وإن احتمل
الأمرين عرفها حولا ثم جعلها في الغنيمة نص عليه أحمد، ويعرفها في بلد
المسلمين لأنها تحتمل الأمرين فغلب فيها حكم مال المسلمين في التعريف
وحكم مال أهل الحرب في كونها غنيمة احتياطاً (فصل) وأما غير الركاز من
المباح فما كان له قيمة في دار الحرب كالصيود والحجارة والخشب
فالمسلمون شركاؤه فيه وبه قال أبو حنيفة والثوري.
وقال الشافعي ينفرد آخذه بملكه لأنه لو أخذه من دار الإسلام ملكه فكذلك
إذا أخذه من دار الحرب كالشئ التافه وهذا قول مكحول والاوزاعي ونقل ذلك
عن القاسم وسالم
(10/484)
ولنا أنه مال ذو قيمة مأخوذ من دار الحرب
بقوة المسلمين فكان غنيمة كالمطعومات، وفارق ما أخذه من دار الإسلام
لأنه لا يحتاج إلى الجيش في أخذه فإن احتاج إلى أكله والانتفاع به فله
أكله ولا يرده لأنه لو وجد طعاماً مملوكاً للكافر كان له أكله إذا
احتاج إليه فما أخذه من الصيود والمباحات فهو أولى (فصل) فإن أخذ ما لا
قيمة له في أرضهم كالمسن والأقلام والأدوية فله أخذه وهو أحق به وإن
صارت له قيمة بمعالجته أو نقله نص أحمد رحمه الله على نحو هذا وبه قال
مكحول والاوزاعي
والشافعي، وقال الثوري إذا جاء به إلى دار الإسلام رده في المقسم وإن
عالجه فصار له ثمن أعطي بقدر علمه فيه وبقيته في المقسم، ولنا أن
القيمة إنما صارت له بعمله أو بنقله فلم يكن غنيمة كما لو لم تصر له
قيمة (فصل) وإن ترك صاحب المقسم شيئاً من الغنيمة عجزاً عن حمله فقال
من أخذ شيئاً فهو له فمن أخذ شيئاً ملكه نص عليه أحمد، وسئل عن قوم
غنموا غنائم كثيرة فبقي خرثي المتاع مما لا يباع ولا يشتري فيدعه
الوالي بمنزلة الفخار وما أشبه ذلك أيأخذه الإنسان لنفسه؟ قال نعم إذا
ترك ولم يشتر ونحو هذا قول مالك، ونقل عنه أبو الخطاب في المتاع لا
يقدرون على حمله إذا حمله رجل: يقسم وهذا قول ابراهيم، قال الخلال روى
أبو طالب هذه في ثلاثة مواضع في موضع منها وافق أصحابه وفي موضع خالفهم
قال ولا اشك أن أبا عبد الله قال هذا أولا ثم تبين له بعد ذلك أن
للإمام أن يبيحه وأن يحرمه وإن لهم أن يأخذوه إذا تركه الإمام إذا لم
يجد من يحمله لأنه إذا لم يجد من يحمله ولم يقدر على حمله بمنزلة ما لا
قيمة له فصار كالذي ذكرناه في الفصل قبل هذا
(10/485)
(مسألة) وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في
دار الحرب ويجوز قسمها فيها) والدليل على ثبوت الملك عليها في دار
الحرب ثلاثة أمور [أحدها] أن سبب الملك الاستيلاء التام وقد وجد فإن
أيدينا قد ثبتت عليها حقيقة وقهرناهم ونفيناهم عنها والاستيلاء يدل على
حاجة المستولي فيثبت به الملك كما في المباحات [الثاني] أن ملك الكفار
قد زال عنها بدليل أنه لا ينفذ عتقهم في العبيد الذين حصلوا في الغنيمة
ولا ينفذ تصرفهم فيها ولا يزول ملكهم إلى غير مالك إذ ليست في هذه
الحال مباحة علم أن ملكهم زال إلى الغانمين [الثالث] أنه لو اسلم عبد
الحربي ولحق بجيش المسلمين صار حراً وهذا يدل على زوال ملك الكافر
وثبوت الملك لمن قهره (فصل) وإذا ثبت الملك فيها جازت قسمتها وبهذا قال
مالك والاوزاعي والشافعي وأبو ثور وابن المنذر، وقال أصحاب الرأي لا
يقسم الا في دار الإسلام لأن الملك لا يتم عليها إلا بالاستيلاء
التام ولا يحصل إلا باحرازها في دار الإسلام فإن قسمت أساء قاسمها
وجازت قسمته لأنها مسألة مجتهد فيها فإذا حكم فيها الإمام بما يوافق
قول بعض المجتهدين نفذ حكمه ولنا ماروى أبو إسحاق الفزاري قال قلت
للاوزاعي هل قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من الغنائم
بالمدينة؟ قال لا أعلمه إنما كان الناس يبتغون غنائمهم ويقسمونها في
أرض عدوهم ولم يقفل
(10/486)
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غزاة قط
أصاب فيها غنيمة إلا خمسه وقسمه من قبل أن يققل، ومن ذلك غزوة بني
المصطلق وهوازن وخيبر، ولأن كل دار صحت القسمة فيها جارت كدار الإسلام
ولأن الملك ثبت فيها بالقهر بما ذكرنا من الأدلة فصحت قسمتها كما لو
أحرزت بدار الإسلام، وبهذا يحصل الجواب عما ذكروه (مسألة) (وهي لمن شهد
الوقعة من أهل القتال، قاتل أو لم يقاتل من تجار العسكر وأجرائهم الذين
يستعدون للقتال) قوله: وأجرائهم يعني أجراء التجار، وإنما كانت الغنيمة
لمن شهد الوقعة وإن لم يقاتل لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال:
الغنيمة لمن شهد الوقعة ولأن غير المقاتل ردء له معين فشاركه كردء
المحارب فصل والتاجر والصانع كالخياط والخباز والبيطار ونحوهم يسهم لهم
إذا حضروا نص عليه أحمد قال أصحابنا قاتلوا أو لم يقاتلوا وبه قال في
التاجر الحسن وابن سيرين والثوري والاوزاعي والشافعي وقال مالك وابو
حنيفة لا يسهم لهم إلا أن يقاتلوا، وعن الشافعي لا يسهم لهم بحال
(10/487)
قال القاضي في التاجر والأجير إذا كانا مع
المجاهدين وقصدهما الجهاد وإنما معه المتاع أن طلب؟ منه باعه والأجير
قصده الجهاد أيضاً فهذان يسهم لهما لأنهما غازيان والصناع بمنزلة
التجار متى كانوا مستعدين للقتال ومعهم السلاح فمتى عرض اشتغلوا به
أسهم لهم لما ذكرنا من حديث عمر ولأنهم في الجهاد بمنزلة غيرهم وإنما
يشتغلون بغيره عند فراغهم منه، وإن لم يكونوا مستعدين للقتال لم يسهم
لهم لأنهم لا نفع في حضورهم أشبهوا المخذل (مسألة) (فأما المريض العاجز
عن القتال والمخذل والمرجف والفرس الضعيف العجيف فلا حق له) أما المريض
الذي لا يتمكن من القتال فإن خرج بمرضه عن أهلية الجهاد كالزمن والأشل
والمفلوج فلا سهم له لأنه لم يبق من أهل الجهاد، وإن لم يخرج بمرضه عن
ذلك كالمحموم ومن به الصداع فإنه يسهم له ويعين برأيه وتكثيره ودعائه
وكذلك المخذل والمرجف ومن في معناه ممن يدل على عوارات المسلمين وبؤوي
جواسيس الكفار ويوقع بينهم العداوة لا يسهم له وإن قاتل لأن ضرره أكثر
من نفعه، وكذلك لا يسهم لفرس ينبغي للإمام منعه كالحطم والصدع والأعجف
وإن شهد عليه الوقعة وبهذا قال مالك وقال الشافعي يسهم له كما يسهم
للمريض ولنا أنه لا ينتفع به فلم يسهم له كالمخذل والمرجف ولأنه حيوان
يتعين منعه من الدخول فلم يسهم له كالمرجف وأما المريض فإنه يعين برأيه
وتكثيره ودعائه بخلاف الفرس
(10/488)
(مسألة) (وإذا ألحق مدد وهرب أسير فأدركوا
الحرب قبل تقضيها أسهم لهم، وإن جاءوا بعد إحراز الغنيمة فلا شئ لهم)
وجملة ذلك أن الغنيمة إنما هي لمن شهد الوقعة لما ذكرنا من قول عمر رضي
الله عنه لأنهم إذا قدموا قبل انقضاء الحرب فقد شاركوا الغانمين في
السبب فشاركوهم في الاستحقاق كما لو قدموا قبل الحرب فمن تجدد بعد ذلك
من مدد يلحق بالمسلمين أو أسير ينفلت من الكفار فيلحق بجيش المسلمين أو
كافر يسلم فلا حق له فيها وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة في المدد
يلحقهم قبل القسمة أو إحرازها بدار الإسلام: شاركهم لأن ملكها لا يتم
إلا بتمام الاستيلا وهو الإحراز إلى دار الإسلام أو قسمها فمن جاء قبل
ذلك فقد أدركها قبل ملكها فاستحق منها كما لو جاء في أثناء الحرب، وإن
مات أحد من العسكر قبل ذلك فلا شئ له لما ذكرنا وقد روى الشعبي أن عمر
رضي الله عنه كتب إلى سعد أسهم لمن أتاك قبل أن تتفقا قتلى فارس.
ولنا ما روى أبو هريرة أن أبان بن سعيد بن العاص وأصحابه قدموا علي
رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر
بعد أن فتحها فقال أبان أقسم لنا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم (اجلس يا أبان) ولم يقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم
رواه أبو داود وعن طارق بن شهاب أن أهل البصرة غزوا نهاوند فأمدهم أهل
الكوفة فكتب في ذلك الى عمر رضي الله عنه فكتب عمر أن الغنيمة لمن شهد
الوقعة، رواه سعيد
(10/489)
في سننه وروي نحوه عن عثمان رضي الله عنه
في غزوة أرمينية ولأنه مدد لحق بعد تقضي الحرب أشبه ما لو جاء بعد
القسمة أو بعد إحرازها بدار الإسلام وقولهم إن ملكها باحرازها إلى دار
الإسلام ممنوع بل هو بالاستيلاء وقد استولى عليها الجيش قبل المدد
وحديث الشعبي مرسل يرويه مجالد وقد تكلم فيه ثم هم لا يعملون به ولا
نحن فقد حصل الإجماع على خلافه فكيف يحتج به؟ (فصل) وحكم الأسير يهرب
إلى المسلمين حكم المدد سواء قاتل أو لم يقاتل في أنه يستحق من الغنيمة
إذا هرب قبل تقضي الحرب، وقال أبو حنيفة لا يسهم له إلا أن يقاتل لأنه
لم يأت للقتال بخلاف المدد.
ولنا أن من استحق إذا قاتل إستحق وإن لم يقاتل كالمدد وسائر من حضر
الوقعة.
(فصل) فإن لحقهم المدد بعد تقضي الحرب وقبل إحراز الغنيمة أو جاءهم
الأسير فظاهر كلام الخرقي أنه يشاركهم لأنه جاء قبل إحرازها، وقال
القاضي تملك الغنيمة بانقضاء الحرب قبل حيازتها فعلى هذا لا يسهم لهم،
وإن حازوا الغنيمة ثم جاءهم قوم من الكفار يقاتلونهم فأدركهم المدد
فقاتلوا معهم فقد قال أحمد إذا غنم المسلمون غنيمة فلحقهم العدو وجاء
المسلمين مدد فقاتلوا العدو معهم حتى سلموا الغنيمة فلا شئ لهم في
الغنيمة لأنهم إنما قاتلوا عن أصحابهم دون الغنيمة لأن الغنيمة قد صارت
في أيديهم وحووها قيل له فإن أهل المصيصة غنموا ثم استنقذه منهم العدو
فجاء أهل طرسوس فقاتلوا معهم حتى استنقذوه فقال أحب إلي (إلي) أن
يصطلحوا، أما في الصورة الأولى فإن الأولين
(10/490)
قد أحرزوا الغنيمة وملكوها بحيازتها فكانت
لهم دون من قاتل معهم وأما في الصورة الثانية فإنما حصلت الغنيمة بقتال
الذين استنقذوها في المرة الثانية فينبغي أن يشتركوا فيها لأن الإحراز
الأول
قد زال باخذ الكفار لها ويحتمل أن الأولين قد ملكوها بالحيازة الأولى
ولم يزل ملكهم باخذ الكفار لها منهم فلهذا أحب أحمد أن يصطلحوا على
هذا.
(فصل) ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش مثل الرسول والدليل والجاسوس
وأشباههم فإنه يسهم له وإن لم يحضر لأنه في مصلحه الجيش أشبه السرية
ولأنه إذا أسهم للمتخلف عن الجيش فهؤلاء أولى وبهذا قال أبو بكر بن أبي
مريم وراشد بن سعد وعطية بن قيس قالوا وقد تخلف عثمان رضي الله عنه يوم
بدر فأجرى له رسول الله صلى الله عليه وسلم سهماً من الغنيمة ويروى عن
عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يعني يوم بدر
فقال (إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله وإني أبايع له) فضرب له
رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه ولم يضرب لأحد غاب غيره رواه أبو
داود وعن ابن عمر قال إنما تغيب عثمان عن بدر لأنه كانت تحته ابنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
(إن لك أجر رجل ممن شهد بدار وسهمه) رواه البخاري (فصل) وسئل أحمد عن
قوم خلفهم الأمير في بلاد العدو وغزا وغنم ولم يمر بهم فرجعوا هل يسهم
لهم؟ قال نعم يسهم لهم لأن الأمير خلفهم قيل له وإن نادى الأمير من كان
صبياً فليتخلف فتخلف قوم
(10/491)
فصاروا إلى لؤلؤة وفيها المسلمون فأقاموا
حتى فصلوا فقال إذا كانوا قد التجئوا إلى مأمن لهم لم يسهم لهم، ولو
تخلفوا وأقاموا في موضع خوف أسهم لهم، وقال في قوم خلفهم الأمير وأغار
في جلد الخيل فقال إن أقاموا في بلد العدو حتى رجع أسهم لهم، وإن رجعوا
حتى صاروا إلى مأمنهم فلا شئ لهم قيل له فإن اعتل رجل أو اعتلت دابته
وقد أدرب فقال له الأمير أقم أسهم لك أو انصرف إلى أهلك أسهم لك فكرهه
وقال هذا ينصرف إلى أهله فكيف يسهم له؟ (مسألة) (وإذا أراد القسمة بدأ
بالأسلاب فدفعها إلى أهلها) وإن كان فيها مال لمسلم أو لذمي دفع إليه
لأن صاحبه متعين ولأنه استحقه بسبب سابق ثم بمؤنة الغنيمة من أجرة
النقال والجمال والحافظ والمخزن والحاسب لأنه لمصلحة الغنيمة ثم بالرضخ
في أحد الوجهين لانه استحق بالمعاونة في تحصيل الغنيمة أشبه أجرة
النقالين والحافظين في الآخر يبدأ
بالخمس قبله لأنه استحق بحضور الوقعة فأشبه سهام الغانمين وهذا اقيس
وللشافعي قولان كالروايتين (مسألة) (ثم يخمس الباقي فيقسم خمسه على
خمسة أسهم سهم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم يصرف مصرف الفئ
وسهم لذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطالب حيث كانوا للذكر مثل حظ
الأنثيين غنيهم وفقيرهم فيه سواء وسهم لليتامى الفقراء وسهم للمساكين
وسهم لأبناء السبيل من المسلمين) لا خلاف بين أهل العلم في أن الغنيمية
مخموسة بقوله تعالى (واعلموا ان ما غنمتم من شئ فأن لله
(10/492)
خمسه) الآية لكن اختلف في اشياء منها سلب
القاتل والأكثرون على أنه مخموس ومنها إذا قال الإمام من جاء بعشرة
رؤوس فله رأس ومن طلع الحصن فله كذا والظاهر أن هذا غير مخموس لأنه في
معنى السلب وقد ذكرنا الاختلاف في السلب ومنها إذا قال الإمام من أخذ
شيئاً فهو له وقلنا بجواز ذلك فقد قيل لا خمس فيه لأنه في معنى ما قبله
قال شيخنا والصحيح أن الخمس لا يسقط ههنا لدخوله في عموم الآية وليس هو
في معنى السلب والنفل لأن ترك تخميسها لا يسقط خمس الغنيمة بالكلية
وهذا يسقطه بالكلية فلا يكون تخصيصاً للآية بل نسخا لحكمها ونسخا
بالقياس غير جائز اتفاقاً ومنها إن دخل قوم لا منعه لهم دار الحرب
فغنموا بغير إذن الإمام وقد ذكرناه (فصل) والخمس مقسوم على خمسة أسهم
كما ذكرنا ههنا وبه قال عطاء ومجاهد والشعبي والنخعي وقتادة وابن جريج
والشافعي وقيل يقسم على ستة أسهم سهم لله تعالى وسهم لرسوله لظاهر قوله
تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى
واليتامى والمساكين وابن السبيل) فعد ستة وجعل الله تعالى لنفسه سهما
سادساً وهو مردود على عباد الله أهل الحاجة، وقال أبو العالية سهم الله
عزوجل هو أنه إذا عزل الخمس ضرب بيده فيه فما قبض عليه من شئ جعله
للكعبة فهو الذي سمى الله لا تجعلوا لله نصبيا فإن لله الدنيا والآخرة
ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة أسهم وروي عن الحسن وقتادة في
سهم ذوي القربى: كانت طعمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته
فلما توفي حمل عليه أبو بكر وعمر في سبيل الله وروى ابن عباس أن أبا
بكر وعمر رضي الله عنهما قسما الخمس على ثلاثة أسهم وهو قول أصحاب
الرأي قالوا يقسم الخمس على ثلاثة اليتامى والمساكين وابن السبيل
(10/493)
واسقطوا سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
بموته وسهم قرابته أيضا وقال مالك الفيئ والخمس واحد يجعلان في بيت
المال قال ابن القاسم وبلغني عن من أثق به أن مالكاً قال يعطي الإمام
أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يرى وقال الثوروي الخمس
يضعه الإمام حيث أراه الله ولنا قوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شئ
فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)
وسهم الله والرسول واحد كذا قال عطاء والشعبي، وقال الحسن بن محمد ابن
الحنيفة وغيره قوله (فأن لله خمسه) افتتاح كلام يعني أن ذكر الله تعالى
لافتتاح الكلام باسمه تبركا به لا لافراده بسهم فإن لله تعالى الدنيا
والآخرة وقد روي عن ابن عمر وابن عباس قالا كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقسم الخمس على خمسة، وما ذكره أبو العالية فشئ لا يدل عليه
رأي ولا يقتضيه قياس فلا يصار إليه إلا بنص صحيح ولا نعلم في ذلك أثراً
صحيحاً سوى قوله، فلا يترك له ظاهر النص وقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم وفعله من أجل قول أبي العالية، وما قاله أبو حنيفة فمخالف لظاهر
الآية فإن الله تعالى سمى لرسوله وقرابته شيئاً وجعل لهما في الخمس
حقاً كما سمى الثلاثة الأصناف الباقية فمن خالف ذلك فقد خالف نص
الكتاب، وأما حمل ابي بكر وعمر رضي الله عنهما سهم ذي القربى في سبيل
الله فقد ذكر لأحمد فسكت ولم يذهب إليه ورأى أن قول ابن عباس ومن وافقه
أولى لموافقته كتاب الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم فإن ابن
عباس لما سئل عن سهم ذي القربى فقال إنا كنا نزعم أنه لنا فأبى ذلك
علينا قومنا، ولعله أراد
(10/494)
بقوله أبى ذلك علينا قومنا فعل ابي بكر
وعمر في حملهما عليه في سبيل الله ومن تبعهما على ذلك، ومتى اختلف
الصحابة وكان قول بعضهم يوافق الكتاب والسنة كان أولى وقول ابن عباس
موافق للكتاب والسنة فإن جبير بن مطعم روي أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من الخمس شيئاً كما كان يقسم
لبني هاشم وبني المطلب، وإن أبا بكر كان يقسم الخمس نحو قسم رسول الله
صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله صلى الله عليه
وسلم كما كان يعطيهم وكان عمر يعطيهم
وعثمان من بعده، رواه أحمد في مسنده وقد تكلم في رواية ابن عباس عن أبي
بكر وعمر أنهما حملا على سهم ذي القربى في سبيل الله فقيل إنه يرويه
محمد بن مروان وهو ضعيف عن الكلبي وهو ضعيف أيضاً ولا يصح عند أهل
النقل فإن قالوا فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس بباق فكيف يبقى سهمه؟
قلنا جهة صرفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مصلحة المسلمين والمصالح
باقية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما يحل لي مما أفاء الله
عليكم ولا مثل هذه إلا الخمس وهو مردود عليكم) رواه سعيد (فصل) فسهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف في مصالح المسلمين لما روى جبير بن
مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول بيده وبرة من بعير ثم قال
(والذي نفسي بيده مالي مما أفاء الله إلا الخمس، والخمس مردود عليكم)
فجعله لجميع المسلمين ولا يمكن صرفه إلى جميعهم إلا بصرفه في مصالحهم
من سد الثغور
(10/495)
وكفاية أهلها وشراء الكراع والسلاح ثم
الأهم فالأهم على ما نذكره في الفيئ إن شاء الله تعالى ونحوه قول
الشافعي فإنه قال أختار أن يضعه الإمام في كل أمر خص به الإسلام وأهله
من سد ثغر وإعداد كراع وسلاح وإعطائه أهل البلاء في الإسلام نفلا عند
الحرب وغير الحرب وعن أحمد أن سهم الرسول الله صلى الله عليه وسلم يختص
بأهل الديوان لأن النبي صلى الله عليه وسلم استحقه بحصول النصرة فيكون
لمن يقوم مقامه في النصرة، وعنه أنه يصرف في الكراع والسلاح لأن ذلك
يروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهذا السهم كان لرسول الله صلى
الله عليه وسلم من الغنيمة حضر أو لم يحضر كما ان بقية أصحاب الخمس
يستحقون وان لم يحضروا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع به ما
شاء فلما توفي وليه أبو بكر ولم يسقط بموته، وقد قيل إنما أضافه الله
تعالى إلى نفسه وإلى رسوله ليعلم أن جهته جهة المصلحة وانه ليس بمختص
بالنبي صلى الله عليه وسلم فيسقط بموته وقد زعم قوم أنه سقط بموته ويرد
على الانصباء الباقية من الخمس لأنهم شركاؤه، وقال آخرون بل يرد على
الغانمين لأنهم استحلوها بقتالهم وحرمت منها سهام منها سهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ما دام حياً فلما مات وجب رده إلى من وجد فيه سبب
الاستحقاق كما أن تركه الميت إذا خرج منها سهم بوصية ثم بطلت الوصية رد
إلى التركة،
وقالت طائفة هو للخليفة بعده لأن أبا بكر رضي الله عنه روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا أطعم الله نبياً طعمة ثم قبضه فهي
للذي يقوم بها من بعده وقد رأيت أن أرده على المسلمين) والصحيح أنه باق
وأنه يصرف في مصالح المسلمين لكن الإمام يقوم مقام النبي صلى الله عليه
وسلم في صرفه فيما يرى فإن أبا بكر
(10/496)
قال لا أدع أمراً رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يصنعه فيه إلا صنعته، متفق عليه، واتفق هو وعمر والصحابة رضي
الله عنهم على وضعه في الخيل والعدة في سببل الله، هكذا روي عن الحسن
بن محمد بن الحنفية (فصل) وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من
المغنم الصفي وهو شئ يخناره من المغنم قبل القسمة كالجارية والعبد
والثوب والسيف ونحوه هذا قول محمد بن سيرين والشعبي وقتادة وغيرهم من
أهل العلم وقال أكثرهم إن ذلك انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم قال
أحمد الصفي إنما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصاً لم يبق بعده
لا نعلم مخالفاً لهذا إلا أبا ثور فإنه قال كان الصفي ثابتاً للنبي صلى
الله عليه وسلم فللامام أن يأخذه على نحو ماكان يأخذه النبي صلى الله
عليه وسلم ويجعله مجعل سهم النبي صلى الله عليه وسلم من خمس الخمس فجمع
بين الشك فيه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومخالفة الإجماع في
ابقائه بعد موته، قال إبن المنذر لا أعلم أحداً سبق أبا ثور إلى هذا
القول وقد أنكر قوم كون الصفي لرسول الله صلى الله عليه وسلم واحتجوا
بحديث جبير بن مطعم وقد روى أبو داود بإسناده عن النبي صلى الله عليه
وسلم نحوه ولأن الله تعالى قال (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله
خمسه) فمفهومه إن باقيها للغانمين ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم
كتب إلى بني زهير بن قيس (إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمداً
رسول الله وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم الصفي إنكم آمنون
بأمان الله ورسوله)) رواه
(10/497)
أبو داود، وفي حديث وفد عبد القبيس (عبد
القيس) الذي رواه ابن عباس (وإن تعطوا سهم النبي صلى الله عليه وسلم
والصفي) وقالت عائشة رضي الله عنها كانت صفية من الصفي رواه أبو داود،
وأما انقطاعه بعد النبي صلى الله عليه وسلم فثابت بإجماع الأمة قبل أبي
ثور وبعده وكون الخلفاء الراشدين ومن بعدهم لم يأخذوه ولا يجمعون
الاعلى الحق (فصل) (والسهم الثاني) لذي القربى وهم بنو هاشم وبنو
المطلب حيث كانوا غنيهم وفقيرهم
فيه سواء للذكر مثل حظ الأنثيين وسهم ذوي القربى ثابت بعد موت النبي
صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا ذلك والخلاف فيه وقد دل عليه ماروى
جبيربن مطعم قال وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى في
بني هاشم وبني المطلب وذكر الحديث وهو حديث صحيح رواه أبو داود ولم يأت
لذلك نسخ ولا تغيير فوجب القول به والعمل بحكمه (فصل) وهم بنو هاشم
وبنو المطلب ابنا عبد مناف دون غيرهم لما روى جبير بن مطعم قال لما قسم
رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى من حنين بين بني هاشم
وبني المطلب أتيت أنا وعثمان بن عفان فقلنا يارسول الله أما بنو هاشم
فلا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم فما بال إخواننا من بني
المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال (إنهم لم
يفارقوني في
(10/498)
جاهلية ولا إسلام، وإنما بنو هاشم وبنو
المطلب شئ واحد) وشبك بين أصابعه رواه أحمد وروى البخاري فراعى لهم
النبي صلى الله عليه وسلم نصرتهم وموافقتهم بني هاشم، ولا يستحق من
كانت أمه منهم وأبوه من غيرهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفع
إلى أقارب أمه وهو بنو زهرة شيئاً ولم يدفع أيضاً إلى بني عماته
كالزبير بن العوام وعبد الله بن جحش ونحوهم (فصل) ويستوي فيه الذكر
والأنثى لدخولهم في اسم القرابة واختلفت الرواية في قسمه بينهم فعن
أحمد أنه يقسم للذكر مثل حظ الأنثيين هذا اختيار الخرقي ومذهب الشافعي
لأنه سهم استحق بالقرابة من الأب شرعاً ففضل فيه الذكر على الأنثى
كالميراث ويفارق الوصية وولد الأم لأن الوصية استحقت بقول الموصي وولد
الأم استحقوا الميراث بقرابة الأم وعنه أنه يساوي بين الذكر والأنثى
وهو قول أبي ثور والمزني وابن المنذر لأنهم أعطوا باسم القرابة والذكر
والأنثى فيها سواء فاشبه مالو وقف على قرابة فلان الا ترى أن الجد يأخذ
مع الأب وابن الأب يأخذ مع الابن وهذا يدل على مخالفة المواريث ولأنه
سهم من خمس الخمس لجماعة فاستوى فيه الذكر والأنثى كسهم اليتامى ويسوى
بين الصغير والكبير على الروايتين لاستوائهم في القرابة وقياساً على
الميراث (فصل) ويفرق فيهم حيث كانوا ويجب تعميمهم به حسب الإمكان وهذا
قول الشافعي وقال
قوم يختص كل أهل ناحية بخمس مغزاها الذي ليس لهم مغزى سواه فما يوجد من
مغزى الروم لأهل الشام والعراق وما يوجد من مغزى الترك لمن في خراسان
من ذوي القربى لما يلحق من المشقة في نقله ولأنه بتعذر تعميمهم فلم يجب
كأصناف الزكاة ووجه الأول أنه سهم مستحق بقرابة الأب فوجب
(10/499)
دفعه إلى كل المستحقين كالميراث فعلى هذا
يبعث الإمام إلى عماله في الأقاليم وينظر كم حصل من ذلك فإن استوت فيه
فرق كل خمس خمس فيمن قاربه وإن اختلفت أمر بحمل الفضل ليدفع إلى مستحقه
كالميراث وفارق الصدقة حيث لا تنقل لأن كل بلد لا يكاد يخلو من صدقة
تفرق على فقراء أهله والخمس يوجد في بعض الأقاليم فلو لم ينقل لأدى إلى
إعطاء البعض وحرمان البعض قال شيخنا والصحيح إن شاء الله أنه لا يجب
التعميم لأنه يتعذر فلم يجب كتعميم المساكين وما ذكر من بعث الإمام
عماله فهو متعذر في زماننا لأن الإمام لم يبق له حكم إلا في بعض بلاد
الإسلام ولم يبق له جهة في الغزو ولا له فيه أمر ولان هذا سهم من سهام
الخمس فلم يجب تعميمه كسائر سهامه فعلى هذا يفرقه كل سلطان فيما أمكن
من بلاده (فصل) ويستوي فيه غنيهم وفقيرهم، وهذا قول الشافعي وأبي ثور.
وقيل يختص بالفقير كبقية السهام.
ولنا عموم قوله تعالى (ولذي القربى) وهو عام لا يجوز تخصيصه بغير دليل
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي أقاربه كلهم وفيهم الغني
كالعباس وغيره ولم ينقل عنه تخصيص الفقراء منهم ولأنه مال مستحق
بالقرابة فاستوى فيه الغني والفقير كالميراث والوصية للأقارب ولأن
عثمان وجبيراً طلبا حقهما وسألا عن علة المنع لهما ولأقاربهما وهما
موسران فعلله النبي صلى الله عليه وسلم بنصرة بني المطلب دونهم
(10/500)
وكونهم مع بني هاشم كالشئ الواحد ولو كان
اليسار مانعا والفقر شرطاً لم يطلبا مع عدمه ولعل النبي صلى الله عليه
وسلم منعهما بيسارهما وانتفاء فقرهما (فصل) والسهم الثالث لليتامى
واليتيم الذي لا أب له ولم يبلغ الحلم لقول النبي (لايتم بعد
احتلام) قال بعض أصحابنا لا يستحقون إلا مع الفقر وهو المشهور من مذهب
الشافعي لأن ذا الأب لا يستحق والمال أنفع من وجود الأب، ولأنه صرف
إليهم لحاجتهم فإن اسم اليتيم يطلق عليهم في العرف للرحمة ومن كان
اعطاؤه لذلك اعتبرت الحاجة وفارق ذوي القربى فإنهم استحقوا لقربهم من
رسول الله صلى الله عليه وسلم تكرمة لهم والغني والفقير في القرب سواء
فاستويا في الاستحقاق.
قال شيخنا: ولم أعلم هذا نصاً عن أحمد والآية تقتضي تعميمهم وقال بعض
أصحاب الشافعي له قول آحر أنه للغني والفقير لعموم النص في كل يتيم
ولأنه لو خص به الفقير لكان داخلاً في جملة المساكين الذين هم أصحاب
السهم الرابع وكان يستغني عن ذكرهم وتسميتهم، وقال أصحابنا ويفرقه
الإمام في جميع الأقطار ولا يختص به أهل ذلك المغزى، والقول فيه كالقول
في سهم ذي القربى وقد تقدم القول فيه: (فصل) والسهم الرابع للمساكين
للآية وهم أهل الحاجة فيدخل فيهم الفقراء فالفقراء والمساكين صنفان في
الزكاة وصنف واحد ههنا وفي سائر الأحكام وإنما يقع التميز بينهما إذا
جمع بينهما بلفظين ولم يرد ذلك إلا في الزكاة، وقد ذكرناهم في اصنافها.
قال أصحابنا: ويعم بها جميعهم في جميع
(10/501)
البلاد كقولهم في سهم ذي القربى واليتامى
وقد تقدم القول في ذلك ولأن تعميمهم يتعذر فلم يجب كما لا يجب تعميمهم
في الزكاة (فصل) والسهم الخامس لأبناء السبيل وقد ذكرناه في الزكاة
ويعطي كل واحد منهم قدر ما يصل به إلى بلده كما ذكرنا في الزكاة فإن
اجتمع في واحد اسباب كالمسكين واليتيم وابن السبيل استحق بكل واحد
منهما لأنها اسباب لأحكام فوجب أن تثبت أحكامها كما لو انفردت، فإن
أعطاه ليتمه فزال فقره لم يعط لفقره شيئاً (فصل) ولا حق في الخمس لكافر
لانه عطية من الله تعالى فلم يكن لكافر فيه حق كالزكاة ولا لعبد لأن ما
يعطاه لسيده فكانت العطية لسيده دونه (مسألة) (ثم يعطي النفل بعد ذلك)
لأنه حق ينفرد به بعض الغانمين فقدم على القسمة كالاسلاب والنفل من
أربعة أخماس الغنيمة وفيه اختلاف ذكرناه فيما مضى (مسألة) (ويرضخ لمن
لا سهم له وهم العبيد والنساء والصبيان) ومعنى الرضخ أن يعطوا شيئاً من
الغنيمة دون السهم ولا تقدير لما يعطونه بل ذلك إلى اجتهاد الإمام فإن
رأي التسوية بينهم سوى، وإن رأى التفضيل فضل وهذا قول أكثر العلماء
منهم سعيد ابن المسيب والثوري والليث واسحاق والشافعي وبه قال مالك في
المرأة والعبد وروي عن ابن عباس
(10/502)
وقال أبو ثور يسهم للعبد، وروي عن عمر بن
عبد العزيز والحسن والنخعي لما روي عن الأسود بن يزيد أنه شهد فتح
القادسية عبيد فضرب لهم سهامهم ولأن حرمه العبد في الدين كحرمة الحر
وفيه من الغناء مثل ما فيه فوجب أن يسهم له كالحر وحكي عن الأوزاعي ليس
للعبيد سهم ولا رضخ إلا أن يجيئوا بغنيمة أو يكون لهم غناء فيرضخ لهم
قال ويسهم للمرأة لما روى جبير بن زياد عن جدته أنها حضرت فتح خيبر
قالت فأسهم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أسهم للرجال وأسهم
أبو موسى في غزوة تستر لنسوة معه، وقال أبو بكر بن أبي مريم أسهم
للنساء يوم اليرموك، وروى سعيد بإسناده عن ابن شبل أن النبي صلى الله
عليه وسلم ضرب لسهلة بنت عاصم يوم حنين فقال رجل من القوم أعطيت سهلة
مثل سهمي.
ولنا ماروى ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوا
بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما سهم فلم يضرب لهن رواه
مسلم، وروى سعيد عن يزيد بن هارون أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن
المرأة والمملوك يحضران الفتح ألهما من الغنيمة شئ؟ وفي رواية ليس لهما
سهم وقد يرضخ لهما وعن عمير مولى أبي اللحم قال شهدت خيبر مع سادتي
فكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أبي مملوك فأمر لي بشئ
من خرثي المتاع رواه أبو داود واحتج به أحمد ولانهما ليسا من أهل وجوب
القتال أشبها الصبي فأما ما روي في سهام النساء فيحتمل أن الراوي سمى
الرضخ سهما بدليل أن في حديث حشرج أنه جعل لهن نصيباً تمراً ولو كان
سهما ما اختص التمر ولأن خيبر قسمت على أهل
(10/503)
الحديبية نفر مخصوصين في غير حديثها ولم
يذكرن منهم ويحتمل أنه أسهم لهن مثل سهم الرجال من التمر خاصة أو من
المتاع دون الأرض وأما حديث سهلة فإن في الحديث أنها ولدت فأعطاها
النبي صلى الله عليه وسلم لها ولولدها فبلغ رضخهما سهم رجل ولذلك عجب
الرجل فقال أعطيت سهلة مثل سهمي ولو كان هذا مشهورا من فعل النبي صلى
الله عليه وسلم ما عجب منه (فصل) والمدبر والمكاتب كالقن لأنهم عبيد
فمن عتق منهم قبل تقضي الحرب أسهم له وكذلك إن قتل سيد المدبر قبل تقضي
الحرب فخرج من الثلث فأما من بعضه حر فقال أبو بكر يرضخ له بقدر ما فيه
من الرق ويسهم له بقدر ما فيه من الحرية فإذا كان نصفه حرا أعطي نصف
سهم ونصف رضخ لأن هذا مما يمكن تبعيضه فقسم على قدر ما فيه من الحرية
والرق كالميراث وظاهر كلام أحمد أنه يرضخ له لأنه ليس من أهل وجوب
القتال فأشبه الرقيق (فصل) والخنثى المشكل يرضخ له لأنه لم يثبت أنه
رجل فيسهم له ولأنه ليس من أهل وجوب الجهاد فأشبه المرأة ويحتمل أن
يقسم له نصف سهم ونصف الرضخ كالميراث فإن انكشف حالة فتبين أنه رجل أتم
له سهم رجل سواء انكشف قبل تقضي الحرب أو بعد أو قبل القسمة أو بعدها
لأنا تبينا أنه كان مستحقاً للسهم وأنه أعطي دون حقه قأشبه مالو أعطى
بعض الرجال دون حقه غلطاً (فصل) والصبي يرضخ له وبه قال الثوري والليث
وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وعن القاسم في الصبي يغزو أنه ليس له شئ
وقال مالك يسهم له إذا قاتل وأطاق ذلك ومثله قد بلغ القتال لأنه حر
(10/504)
ذكر مقاتل فيسهم له كالرجل وقال الأوزاعي
يسهم له وقال أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للصبيان بخيبر وأسهم
أئمة المسلمين لكل مولود ولد في أرض الحرب وروى الجوزجاني بإسناده عن
الوضين بن عطاء قال حدثتني جدتي قالت كنت مع حبيب بن سلمة وكان يسهم
لأمهات الأولاد لما في بطونهن ولنا ما روى عن سعيد بن المسيب قال كان
الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو في صدر هذه الأمة
وروى الجوزجاني بإسناده أن تميم بن قرع المهري كان في الجيش الذي فتح
الاسكندرية في المرة الأخيرة قال فلم يقسم لي عمرو من الفئ شيئاً وقال
غلام لم يحتلم حتى كاد يكون بين قومي وبين أناس من قريش لذلك ثائرة
فقال بعض القوم فيكم أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاسألوهم فسألوا أبا نضرة الغفاري وعقبة بن عامر فقالوا انظروا فإن كان
قد أشعر فاقسموا له فنظر إلي بعض القوم فإذا أنا قد انبت فقسم لي قال
الجوزجاني هذا من مشاهير حديث مضر وجيدة ولأنه ليس من أهل القتال فلم
يسهم له كالعبد ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم لصبي بل كان
لا يجيزهم في القتال قال ابن عمر عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم
وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة
فأجازني وما ذكروه يحتمل أن الراوي سمى الرضخ سهما بدليل ما ذكرناه
(فصل) فان انفرد بالغنيمة من لا يسهم له مثل عبيد دخلوا دار الحرب
فغنموا أو صبيان أو
(10/505)
عبيد وصبيان أخذ خمسه وما بقي لهم فيحتمل
أن يقسم بينهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم لأنهم تساووا فاشبهوا
الرجال الأحرار ويحتمل أن يقسم بينهم على ما يراه الإمام من المفاضلة
لأنه لا تجب التسوية بينهم مع غيرهم فلا تجب مع الانفراد قياساً لاحدى
الحالتين على الأخرى، وإن كان فيهم رجل حر أعطي سهما وفضل عليهم بقدر
ما يفضل الأحرار على العبيد والصبيان في غير هذا الموضع ويقسم الباقي
بين من بقي على ما يراه الإمام من التفضيل لان فيهم من له سهم بخلاف
التي قبلها (مسألة) (وفي الكافر روايتان إحداهما يرضخ له والأخرى يسهم
له) اختلفت الرواية في الكافر يغزو مع الإمام بإذنه فروي عن أحمد أنه
يسهم له كالمسلم وبهذا قال الزهري والاوزاعي والثوري واسحاق قال
الجوزجاني هذا قول أهل الثغور وأهل العلم بالصوائف والبعوث وعن أحمد لا
يسهم له وهو مذهب مالك وابي حنيفة والشافعي لأنه من غير أهل الجهاد فلم
يسهم له ولكن يرضخ له كالعبد ولنا ماروى الزهري أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم رواه سعيد في سننه
وروي أن صفوان بن أمية خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين وهو
على شركه فأسهم له وأعطاه من سهم المؤلفة ولأن الكفر نقص في الدين فلم
يمنع استحقاق السهم كالفسق وبهذا فارق
العبد فإن نقصه في دنياه وأحكامه، وإن غزا بغير إذن الإمام فلا سهم له
لأنه غير مأمون على الدين فهو كالمرجف وشر منه وإن غزا جماعة من الكفار
وحدهم فغنموا احتمل أن تكون غنيمتهم لهم لا خمس
(10/506)
فيها لأن هذا اكتساب مباح لم يوجد على وجه
الجهاد فكان لهم لا خمس فيه كالاحتشاش والاحتطاب ويحتمل أن يؤخذ خمسة
والباقي لهم لائه غنيمة قوم من أهل دار الاسلام فاشبهت غنيمة المسلمين
(مسألة) (ولا يبلغ بالرضخ للراجل سهم راجل ولا للفارس سهم فارس) كما لا
يبلغ بالتعزير الحد ولا بالحكومة دية العضو، ويقسم الإمام بين أهل
الرضخ كما يرى فيفضل العبد المقاتل ذو البأس على من ليس مثله ويفضل
المرأة المقاتلة والتي تسقي الماء وتداوي الجرحى وتنفع على غيرها، فإن
قيل هلا سويتم بينهم كما سويتم بين أهل السهمان؟ قلنا السهم منصوص عليه
غير موكول إلى الاجتهاد فلم يختلف كالحد ودية الحر، والرضخ غير مقدر بل
هو مجتهد فيه مردود إلى اجتهاد الإمام فاختلف كالتعزير وقيمة العبد
والرضخ بعد الخمس في أحد الوجهين، وفيه وجه آخر أنه من أصل الغنيمة وقد
ذكرناه (مسألة) (فإن تغيرت حالهم قبل تقضي الحرب أسهم لهم) يعني إن بلغ
الصبي أو عتق العبد أو أسلم الكافر أسهم لهم لأنهم شهدوا الوقعة وهم من
أهل القتال فأسهم لهم كغيرهم ولقول عمر رضي الله عنه: الغنيمة لمن شهد
الوقعة (مسألة) (وإن غزا العبد على فرس لسيده قسم لفرس ورضخ للعبد) أما
الرضخ للعبد فلما تقدم.
وأما الفرس الذي تحته فيستحق مالكها سهمها، فإن كان معه فرسان
(10/507)
أو أكثر أسهم لفرسين كما لو كانتا مع
السيد.
ويرضخ للعبد نص على هذا أحمد، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يسهم للفرس
لأنه تحت من لا يسهم له فلم يسهم له كما لو كان تحت مخذل ولنا أنه فرس
حضر الوقعة وقوتل عليه فأسهم له كما لو كان السيد راكبه.
إذا ثبت هذا فإن سهم الفرس ورضخ العبد لسيده لأنه مالكه ومالك فرسه
وسواء حضر السيد القتال أو غاب عنه،
وفارق فرس المخذل لأن الفرس له فإذا لم يستحق شيئاً بحضوره فلأن لا
يستحق بحضور فرسه أولى (فصل) فإن غزا الصبي على فرس أو المرأة أو
الكافر إذا قلنا لا يسهم له لم يسهم للفرس في ظاهر قول أصحابنا لأنهم
قالوا لا يبلغ بالرضخ للفرس سهم فارس وظاهر هذا أنه يرضخ له ولفرسه ما
لم يبلغ سهم الفارس، ولأن سهم الفرس له فإذا لم يستحق السهم بحضوره
فبفرسه أولى بخلاف العبد فإن الفرس لغيره (فصل) وإن غزا المخذل أو
المرجف على فرس فلا شئ له ولا للفرس لما ذكرنا، وإن غزا العبد بغير إذن
سيده لم يرضخ له لأنه عاص بغزوه فهو كالمخذل والمرجف، وإن غزا الرجل
بغير إذن والدية أو بغير إذن غريمه استحق السهم لأن الجهاد تعين عليه
بحضور الصف فلا يبقى عاصياً به بخلاف العبد (فصل) ومن استعار فرساً
ليغزو عليه فسهم الفرس للمستعير وبهذا قال الشافعي لأنه متمكن
(10/508)
من الغزو عليه بإذن صحيح شرعي أشبه مالو
استأجره وعن أحمد أن سهم الفرس لمالكه لأنه من نمائه فأشبه ولده وبهذا
قال بعض الحنفية، وقال بعضهم لا سهم للفرس لأن مالكه لم يستحق سهما فلم
يستحق الفرس شيئاً كالمخذل والمرجف، والأول أصح لأنه فرس قاتل عليه من
يستحق سهما وهو مالك نفعه فاستحق سهم الفرس كالمستأجر ولأن سهم الفرس
مستحق بمنفعته وهي للمستعير بإذن المالك فيها، وفارق النماء فإنه غير
مأذون فيه، فأما إن استعاره لغير الغزو ثم غزا عليه فهو كالفرس المغصوب
عليه ما سنذكره إن شاء الله تعالى (فصل) فإن استأجر فرساً للغزو فغزا
عليه فسهم الفرس له، لا نعلم فيه خلافاً لأنه مستحق لنفعه استحقاقاً
لازماً أشبه المالك وإن كان المستأجر والمستعير ممن لا سهم له إما
لكونه لا شئ له كالمخذل والمرجف أو ممن يرضخ له كالصبي فحكمه حكم فرسه
على ما ذكرنا، وإن غزا على فرس حبيس فسهم الفرس له كما لو استأجره
(فصل) ينبغي أن يقدم قسم اربعة الأخماس على قسم الخمس لأن أهلها حاضرون
وأهل الخمس غائبون ولأن رجوع الغانمين إلى أوطانهم يقف على قسمه
الغنيمة وأهل الخمس في أوطانهم، ولأن
الغنيمة حصلت بتحصيل الغانمين وتعبهم وأهل الخمس بخلاف ذلك فكان
الغانمون أولى بالتقديم، ولأن الغنيمة إذا قسمت بين الغانمين أخذ كل
واحد نصيبه فكفي الإمام همه ومؤنته بخلاف الخمس
(10/509)
فإن الإمام لا يكتفي مؤنته بقسمه فلا تحصل
الفائدة به، ولأن الخمس لا يمكن قسمه بين أهله كلهم لأنه يحتاج إلى
معرفتهم وعددهم ولا يمكن ذلك مع غيبتهم، ولأن الغانمين ينتفعون بسهامهم
ويتمكنون من التصرف فيها والله تعالى أعلم (مسألة) (ثم يقسم باقي
الغنيمة للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه) أجمع أهل
العلم على أن للغانمين أربعة أخماس الغنيمة، وقد دل النص على ذلك بقوله
تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) يفهم منه أن أربعة
أخماسها الباقية لهم لأنه أضافها إليهم ثم أخذ منها سهما لغيرهم فبقي
سائرها لهم كقوله تعالى (وورثه أبواه فلأمه الثلث) ففهم منه أن الباقي
للأب وقال عمر رضي الله عنه الغنيمة لمن شهد الوقعة (فصل) (ويقسم بينهم
للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه) هذا قول أكثر أهل
العلم أن الغنيمة تقسم للفارس ثلاثة أسهم له سهم ولفرسه سهمان وللراجل
سهم، قال إبن المنذر هذا مذهب عمر بن عبد العزيز والحسن وابن سيرين
وحبيب بن أبي ثابت وعوام علماء الإسلام قي القديم والحديث منهم مالك
ومن تبعه من أهل المدينة والثوري ومن وافقه من أهل العراق والليث ومن
تبعه من أهل مصر والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد، وقال
أبو حنيفة للفرس سهم واحد لما روى مجمع بن حارثة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قسم خيبر على أهل الحديبية فأعطى الفارس
(10/510)
سهمين وأعطى الراجل سهما، رواه أبو داود
ولأنه حيوان ذو سهم فلم يزد على سهم كالآدمي ولنا ما روى ابن عمر أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم سهمان
لفرسه وسهم له متفق عليه وعن أبي رهم وأخيه أنهما كانا فارسين يوم خيبر
فأعطيا ستة أسهم أربعة أسهم لفرسيهما وسهمين لهما رواه سعيد بن منصور
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الفارس ثلاثة
أسهم وأعطى الرجال سهما وقال خالد الحذاء لا يختلف فيه عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه أسهم هكذا للفرس سهمين ولصاحبه سهما وللراجل سهما،
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن: أما بعد فإن
سهمان الخيل فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين للفرس وسهما
للراجل ولعمري لقد كان حديثا ما أشعر أن أحداً من المسلمين هم بانتقاص
ذلك والسلام عليك رواهما سعيد والاثرم وهذا يدل على ثبوت سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم بهذا وأنه أجمع عليه فلا يعول على ما خالفه، فأما
حديث مجمع فيحتمل أنه أراد أعطى الفارس سهمين لفرسه وأعطى الراجل سهما
يعني صاحبه فيكون ثلاثة أسهم على أن حديث ابن عمر أصح منه وقد وافقه
حديث أبي رهم وأخيه وابن عباس وهؤلاء أحفظ وأعلم وابن عمر وأبورهم
وأخوه ممن شهدوا وأخذوا السهمان وأخبروا عن أنفسهم فلا يعارض ذلك بخبر
شاذ تعين غلطه أو حمله على ما ذكرنا وقياس الفرس على الآدمي لا يصح لأن
أثرها في الحرب أكثر وكلفتها أعظم فينبغي أن يكون سهما أكثر
(10/511)
(مسألة) (إلا أن يكون فرسه هجينا أو برذونا
فيكون له سهم وعنه له سهمان كالعربي) الهجين الذي أبوه عربي وأمه
برذونه والعربي بالعكس قالت هند بنت النعمان ابن (1) بشير وما هند إلا
مهرة عربية سليلة أفراس تحللها بغسل فإن ولدت مهراً كريماً فبالحري وإن
يك أقراف فما اتجب الفحل وقد حكي عن أحمد أنه قال الهجين البرذون
واختلفت الرواية عنه في سهمانها فقال الخلال تواترت الروايات عن أبي
عبد الله في سهام البرذون أنه سهم واحد واختاره أبو بكر والخرقي وهو
قول الحسن، قال الخلال وروى عنه ثلاثة منقطعون أنه يسهم للبرذون سهم
العربي اختاره الخلال وبه قال عمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي
والثوري لأن الله تعالى قال (والخيل والبغال) وهذا من الخيل، ولأن
الرواة رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للفرس سهمين ولصاحبه
سهما وهذا عام في كل فرس ولأنه حيوان ذو سهم فاستوى فيه العربي وغيره
كالآدمي وحكى أبو بكر عن أحمد رواية ثالثة ان البرازين إن أدركت إدراك
العراب أسهم لها سهم العربي وإلا فلا وهذا قول ابن أبي شيبة وابن
ابي خثيمة وأبي ايوب ولجوزجاني لأنها من الخيل وقد عملت عمل العراب
فأعطيت سهما كالعربي وحكي القاضي رواية رابعة أنها لا سهم لها وهو قول
مالك بن عبد الله الخثعمي لأنه حيوان لا يعمل عمل الخيل العراب فأشبه
البغال ويحتمل أن تكون هذه الرواية فيما لا يقارب العتاق منها لما روى
الجوزجاني بإسناده عن أبي موسى أنه كتب إلى عمر بن الخطاب إنا وجدنا
بالعراق خيلا عرابا دكنا فما
__________
(1) لعله ابن المنذر
(10/512)
ترى يا أمير المؤمنين في سهمانها؟ فكتب
إليه تلك البراذين بما قارب العتاق منها فاجعل له سهما واحداً وألغ ما
سوى ذلك ووجه الأولى ما روى سعيد بإسناده عن أبي الأقمر قال أغارت
الخيل على الشام فأدركت العراب من يومها وأدركت الكوادن صحي الغدو على
الخيل رجل من همدان يقال له المنذر ابن أبي حميضة فقال لا أجعل الذي
أدرك من يومه مثل الذي لم يدرك ففضل الخيل العراب فقال عمر هبلت
الوادعي أمه أمضوها على ما قال ولم يعرف عن الصحابة خلاف هذا القول
وروى مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الفرس العربي سهمين وأعطى
الهجين سهما رواه سعيد ولأن نفع العربي وأثره في الحرب أكثر فيكون سهمه
أرجح كتفاضل من يرضخ له وأما قولهم إنه من الخيل قلنا الخيل في أنفسها
تتفاضل فتتفاضل سهامها وقولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم للفرس
سهمين من غير تفريق قلنا هذه قضية في عين لا عموم لها فيحتمل أنه لم
يكن فيها برذون وهو الظاهر فإنها من خيل العرب ولا براذين فيها ويدل
على صحة ذلك أنهم لما وجدوا البراذين في العراق أشكل عليهم أمرها وإن
عمر فرض لها سهماً واحداً وأمضى ما قال المنذر بن أبي حميضة في تفضيل
العراب عليها ولو خالفه لما سكت الصحابة عن انكاره عليه سيما وابنه هو
راوي الخبر فكيف يخفى عليه ذلك؟ ويحتمل أنه فضل العراب فلم يذكر الرواي
ذلك لغلبة العراب وقلة البراذين وقد دل على ذلك التأويل خبر مكحول الذي
رويناه
(10/513)
وقياسها على الآدمي لا يصح لأن العربي منهم
لا أثر له في الحرب زيادة على غيره بخلاف العربي من الخيل فإنه يفضل
على غيره والله أعلم
(فصل) ويعطى الراجل سهما بغير خلاف لما ذكرنا من الأخبار ولأن الراجل
لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الفارس من النفقة ولا يغني كغنائة فاقتضى
ان ينقص سهمه عن سهمه وسواء كانت الغنيمة من فتح مدينة أو حصن وبه قال
الشافعي وقال الوليد بن مسلم سألت الأوزاعي عن إسهام الخيل من غنائم
الحصون فقال كانت الولاة قبل عمر بن عبد العزيز لا يسهمون للخيل من
الحصون ويجعلون الناس كلهم رجالة حتى ولي عمر فأنكر ذلك وأمر باسهام
الخيل من الحصون والمدائن ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم
خيبر ففضل الفارس وهي حصون ولأن الخيل ربما احتيح إليها إن خرج أهلا
الحصن ويلزم صاحبه مؤنة له فأشبه الغنيمة من غير الحصن (مسألة) (ولا
يسهم لأكثر من فرسين) .
يعني إذا كان مع الرجل خيل أسهم لفرسين أربعة أسهم ولصاحبهما سهما ولم
يزد على ذلك، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لا يسهم لأكثر من فرس واحد
لأنه لا يمكن أن يقاتل على أكثر منها فلم يسهم لما زاد عليها كالزائد
على الفرسين.
ولنا ما روى الأوزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم للخيل
وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين
(10/514)
وإن كانت معه عشرة أفراس، وعن أزهر بن عبد
الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح إن
يسهم للفرس سهمين وللفرسين أربعة أسهم ولصاحبها سهما فذلك خمسة أسهم
وما كان فوق الفرسين فهي جنائب رواهما سعيد ولأن به إلى الثاني حاجة
فإن إدامة ركوب واحد تضعفه وتمنع القتال عليه فيسهم له كالأول بخلاف
الثالث فإنه مستغنى عنه.
(مسألة) (ولا يسهم لغير الخيل، وقال الخرقي من غزا على بعير لا يقدر
على غيره قسم له ولبعيره سهمان) .
أما ما عدا الخيل والإبل من البغال والحمير والفيلة وغيرها فلا سهم لها
وإن عظم غناؤها وقامت مقام الخيل، وذكر القاضي أن الفيلة حكمها حكم
الهجين لها سهم ذكره في الأحكام السلطانية والأول أولى لأن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يسهم لها ولا أحد من خلفائه ولأنها مما لا تجوز
المسابقة عليه بعوض فلم
يسهم لها كالبقر، وأما الابل فقدروي عن أحمد أنه يسهم للبعير سهم ولم
يشترط عجز صاحبه عن غيره وحكي نحو هذا عن الحسن لأن الله تعالى قال
(فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) ولأنه خيل تجوز المسابقة عليه بعوض
فيسهم له كالفرس.
يحققه أن تجويز المسابقة بعوض إنما أبيح في ثلاثة أشياء دون غيرها
لأنها آلات الجهاد فأبيح أخذ الرهن في المسابقة بها تحريضاً على رباطها
وتعلم الاتقان فيها، وروى عن أحمد مثل ما ذكر الخرقي وظاهر ذلك أن لا
يسهم للبعير مع إمكان الغزو
(10/515)
على فرس إذا ثبت ذلك فلا يزاد على سهم
البرذون لأنه دونه ولا يسهم له إلا أن يشهد الوقعة عليه ويكون مما يمكن
القتال عليه فأما هذه الإبل الثقيلة التي لا تصلح إلا للحمل فلا تستحق
شيئاً لأن راكبها لا يكر ولا يفر فهو أدنى حالا من الراجل، واختار أبو
الخطاب أنه لا سهم له وهو قول الأكثرين قال إبن المنذر أجمع كل من تحفظ
عنه من أهل العلم أن من غزا على بعير فله سهم راجل كذلك قال الحسن
ومكحول والثوري والشافعي وأصحاب الراي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه أسهم لغير الخيل من
البهائم وقد كان معه يوم بدر سبعون بعيراً ولم تخل غزوة من غزواته من
الابل بل هي كانت غالب دوابهم فلم ينقل أنه أسهم لها ولو اسهم لها لنقل
وكذلك من بعد النبي صلى الله عليه وسلم من خلفائه وغيرهم مع كثرة
غزواتهم لم ينقل عن أحد منهم فيما علمناه أنه أسهم لبعير ولو أسهم لم
يخف ذلك ولأنه لا يمكن صاحبه الكر والفر فلم يسهم له كالبغل.
(مسألة) (ومن دخل دار الحرب راجلاً ثم ملك فرسا أو استعاره أو أستأجره
فشهد به الوقعة فله سهم فارس ومن دخل فارسا فنفق فرسه أو شرد حتى تقضي
الحرب فله سهم راجل) .
قال أحمد أرى أن كل من شهد الوقعة على أي حالة كان يعطى إن كان فارسا
ففارس وإن كان راجلا فراجل لأن عمر رضي الله عنه قال الغنيمة لمن شهد
الوقعة، وبهذا قال الأوزاعي والشافعي وابو ثور وإسحاق ونحوه قال ابن
عمر وقال أبو حنيفة الاعتبار بدخول دار الحرب فإن دخل
(10/516)
فارسا فله سهم فارس وإن نفق فرسه قبل
القتال وإن دخل راجلا فله سهم الرجال وإن استفاد فرسا
فقاتل عليه وعنه رواية أخرى كقولنا قال أحمد كان سليمان بن موسى يعرضهم
إذا أدركوا الفارس فارس والراجل راجل لأنه دخل في الحرب بنية القتال
فلا يتغير سهمه بذهاب دابته أو حصول دابة له كما لو كان بعد القتال
وقال الخرقي الاعتبار بحال إحراز الغنيمة فإن احرزت الغنيمة وهو راجل
فله سهم راجل وإن أحرزت وهو فارس فله سهم فارس فيحتمل أنه أراد بحيازة
الغنيمة الاستيلاء عليها فيكون كما ذكرنا ويحتمل أن يكون أراد جمع
الغنيمة وضمها وإحرازها وقد ذكرنا فيما إذا لحق مدد أو هرب أسير بعد
تقضي الحرب وقبل إحراز الغنيمة هل يسهم له منها؟ على وجهين فيخرج ههنا
مثل ذلك والله أعلم.
ولنا أن الفرس حيوان يسهم له فاعتبر وجوده حالة القتال فيسهم له مع
الوجود فيه ولا يسهم له مع العدم كالآدمي والأصل في هذا أن حالة
استحقاق السهم حال تقضي الحرب بدليل قول عمر الغنيمة لمن شهد الوقعة
ولأنها الحال التي يحصل فيها الاستيلاء الذي هو سبب الملك بخلاف ما قبل
ذلك فإن الأموال في أيدي أصحابها فلا ندري هل يظفر بهم أولى ولأنه لو
مات بعض المسلمين قبل الاستيلاء لم يستحق شيئاً ولو وجد مدداً في تلك
الحال استحقوا السهم فدل على أن الاعتبار بحالة الاستيلاء فوجب اعتباره
دون غيره
(10/517)
(مسألة) (ومن غصب فرسا فقاتل عليه فسهم
الفرس لمالكه) نص عليه أحمد وقال بعض الحنفية لا سهم للفرس وهو وجه
لأصحاب الشافعي وقال بعضهم سهم الفرس للغاصب وعليه أجرته لمالكه لأنه
آلة فكان الحاصل بها لمستعملها كما لو غصب منجلا فاحتش بها أو سيفاً
فقاتل به.
ولنا أنه فرس قاتل عليه من يستحق السهم فاستحق السهم كما لو كان مع
صاحبه فإذا ثبت أن له سهما كان لمالكه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم
جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما وما كان للفرس كان لصاحبه وفارق ما يحتش
به فإنه لا شئ له ولأن السهم مستحق بنفع الفرس ونفعه لمالكه فوجب أن
يكون ما يستحق به له.
(فصل) فإن الغاصب ممن لا سهم له إما لكونه لا شئ له كالمخذل أو ممن
يرضخ له كالصبي احتمل أن يكون حكم فرسه حكمه على ما ذكرنا لان الفرس
تتبع الفارس في حكمه فتتبعه إذا كان مغصوباً قياساً على فرسه واحتمل أن
يكون سهم الفرس لمالكه لأن الجناية من راكبه والنقص فيه فيخص المنع به
وبما هو تابع له وفرسه تابعه له لأن ما كان لها فهو له والفرس ههنا
لغيره وسهمها لمالكها فلا ينقص سهمها بنقص سهمه كما لو قاتل العبد على
فرس لسيده ولو قاتل العبد بغير إذن سيده على فرس لسيده خرج فيه
الاحتمالان اللذان ذكرناهما فيما إذا غصب فرساً فقاتل عليه لأنه ههنا
بمنزلة المغصوب.
(10/518)
(مسألة) (وإذا قال الإمام من أخذ شيئاً فهو
له أو فضل بعض الفانمين على بعض لم يجز في إحدى الروايتين ويجوز في
الأخرى) إذا قال الإمام من أخذ شيئاً فهو له جاز في إحدى الروايتين وبه
قال أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي، قال أحمد في السرية تخرج فيقول
الوالي من جاء بشئ فهو له ومن لم يجئ بشئ فلا شئ له: الأنفال إلى
الإمام ما فعل من شئ جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يوم بدر
(من أخذ شيئاً فهو له) ولانهم على هذا غزوا ورضوا به (والثانية) لا
يجوز وهو القول الثاني للشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم
الغنائم والخلفاء بعده ولأن ذلك يفضي إلى اشتغالهم بالنهب عن القتال
وظفر العدو بهم فلا يجوز ولأن الاغتنام سبب لاستحقاقهم لها على سبيل
التساوي فلا يزول ذلك بقول الإمام كسائر الاكتساب فأما قضية بدر فإنها
منسوخة فإنهم اختلفوا فيها فأنزل الله تعالى (يسألونك عن الأنفال قل
الأنفال لله والرسول) الآية (فصل) فأما تفضيل بعض الغانمين على بعض فإن
كان على سبيل النفل لبعضهم زيادة على سهمه فقد ذكرناه في الأنفال فأما
غير ذلك فلا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم للفارس ثلاثة أسهم
وللراجل سهما وسوى بينهم ولأنهم اشتركوا في الغنيمة على سبيل التسوية
فتجب التسوية بينهم كسائر الشركاء ولأنه يفضي إلى إيقاع العداوة بينهم
وافساد قلوبهم
(10/519)
(مسألة) (ومن استؤجر للجهاد ممن لا يلزمه
من العبيد والكفار فليس له إلا الأجرة إذا استأجر الإمام قوما يغزون مع
المسلمين لم يسهم لهم وأعطوا ما استؤجروا به نص عليه أحمد في رواية
جماعة فقال في رواية عبد الله وحنبل في الإمام يستأجر قوما يدخل بهم في
بلاد العدو: لا يسهم لهم ويوفي لهم بما استؤجروا عليه وقال القاضي هذا
محمول على استئجار من لا يجب عليه الجهاد كالعبيد والكفار، اما الرجال
المسلمون الأحرار فلا يصح استئجارهم على الجهاد لأن الغزو يتعين بحضوره
على من كان من أهله، فإذا تعين عليه الفرض لم يجز أن يفعله عنه غيره
كمن عليه حجة الإسلام لا يجوز أن يحج عنه غيره، وهذا مذهب الشافعي قال
شيخنا ويحتمل أن يحمل كلام أحمد على ظاهره في صحة الاستئجار على الغزو
لمن لم يتعين عليه وهو ظاهر ما ذكره الخرقي لما روى أبو داود بإسناده
عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للغازي أجره
وللجاعل أجره وأجر الغازي وروى سعيد بن منصور عن جبير بن نفير قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم (مثل الذين يغزون من أمتى ويأخذون الجعل
ويتقوون به على عدوهم مثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها) ولأنه أمر
لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة فصح الاستئجار عليه كبناء المساجد
أو لم يتعين عليه الجهاد فصح أن يؤجر نفسه عليه كالعبد، ويفارق الحج
حيث انه
(10/520)
ليست بفرض عين وإن الحاجة داعية إليه، وفي
المنع من أخذ الجعل عليه تعطيل له ومنع له مما للمسلمين فيه نفع وبهم
إليه حاجة فينبغي أن يجوز بخلاف الحج إذا ثبت هذا فإن قلنا بالأول
فالإجارة فاسدة وعليه رد الأجرة وله سهمه لأن غزوة بغير أجرة وإن قلنا
بصحة الإجارة فظاهر كلام أحمد والخرقي انه لا يسهم له لما روى أبو داود
بإسناده عن يعلى ابن منير قال أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغزو
وأنا شيخ كبير ليس لي خادم فالتمست أجيراً يكفيني وأجري له سهمه فوجدت
رجلا فلما دنى الرحيل قال ما أدري ما السهمان؟ وما يبلغ سهمي؟ فسم لي
شيئاً
كان السهم أو لم يكن فسميت له ثلاثة دنانير فلما حضرت غنيمة أردت أن
أجري له سهمه فذكرت الدنانير فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت
له أمره فقال (ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره
التي سمى) ولأن غزوه بعوض فكأنه واقع من غيره فلم يستحق شيئاً ويحتمل
أن يسهم له وهذا اختيار الخلال قال وروى جماعة عن أحمد أن للأجير السهم
إذا قاتل وروي عنه جماعة أن كل من شهد القتال فله السهم إذا قاتل قال
وهذا اعتمد عليه من قول أبي عبد الله ووجهه ما تقدم من حديث عبد الله
بن عمرو وحديث جبير بن نفير وقول عمر الغنيمة لمن شهد الوقعة ولأنه حضر
الوقعة وهو من أهل القتال فيسهم له كغير الأجير
(10/521)
فأما الذين يعطون حقهم من الفئ فلهم سهامهم
لأن ذلك حق جعله الله لهم ليغزوا ولأنه عوض عن جهادهم بل نفع جهادهم
لهم لا لغيرهم، وكذلك من يعطى من الصدقات للغزو فإنهم يعطون معونة لهم
لاعوضا، وكذلك إذا دفع دافع إلى الغزاة ما يتقوون به ويستعينون به كان
له فيه الثواب ولم يكن عوضا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من جهز
غازياً كان له مثل أجره) (فصل) فأما الأجير للخدمة في الغزو والذي يكري
دابة له ويخرج معها ويشهد الوقعة فعن أحمد فيه روايتان (إحداهما) لا
سهم له وهو قول الأوزاعي وإسحاق قالا: المستأجر على خدمة القوم لا سهم
له لحديث يعلى بن منبه (والثانية) يسهم له إذا شهد القتال مع المسلمين
وهو قول مالك وابن المنذر وبه قال الليث إذا قاتل، وإن اشتغل بالخدمة
فلا سهم له واحتج ابن المنذر بحديث سلمة بن الأكوع أنه كان أجيراً
لطلحة حين أدرك عبد الرحمن بن عيينه حين أغار على سرح النبي صلى الله
عليه وسلم فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل وقال
القاضي يسهم له إذا كان مع المجاهدين وقصد الجهاد فأما لغير ذلك فلا،
وقال الثوري يسهم له إذا قاتل ويرفع عمن استأجره نفقة ما اشتغل عنه
(فصل) ومن أجر نفسه بعد أن غنموا على حفظ الغنيمة وحملها وسوق الدواب
ورعيها أبيح له
(10/522)
أخذ الأجرة على ذلك ولم يسقط من سهمه شئ
لأن ذلك من مؤنة الغنيمة فهو كعلف الدواب وطعام السبي يجوز للإمام بذله
ويباح للأجير أخذ الأجرة عليه لأنه أجر نفسه لفعل بالمسلمين إليه حاجة
فحلت له الأجرة كالدلالة على الطريق ولا يجوز له أن يركب من دواب
المغنم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر فلا يركب دابة من فيئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها) قال أحمد لا
بأس أن يؤجر الرجل نفسه على دابته وكره أن يستأجر القوم على سباق الرمك
على فرس حبس لأنه يستعمل الفرس الموقوفه للجهاد فيما يختص نفعه بنفسه
فإن آجر نفسه فركب الدابة الحبيس أو دابة من المغنم لم تطب له أجرة لأن
المعين له على العمل يختص نفع نفسه فلا يجوز أن يستعمل فيه دواب المغنم
ولا دواب الحبس وينبغي أن يلزمه بقدر أجره الدابة ترد في الغنيمة إن
كانت من الغنيمة أو تصرف في نفقة دواب الجيش إن كانت جيشاً فإن شرط في
الإجارة ركوب دابة من الحبس لم يجز لأنها إنما حبست على الجهاد وليس
هذا بجهاد وإنما هو نفع لأهل الغنيمة وإن شرط ركوب دابة من الغنيمة جاز
لأن ذلك بمنزلة أجرة تدفع إليه من المغنم ولو أجر نفسه بدابة معينه من
المغنم صح فإذا جعلت أجرته ركوبها كان أولى ويشترط أن يكون العمل
معلوما فإن كان مجهولا لم يجز لأن من شرط صحة إجارتها كون عوضها معلوما
(10/523)
(مسألة) (ومن مات بعد انقضاء الحرب فسهمه
لوارثه) إذا مات الغازي أو قتل قبل حيازة الغنيمة فلا سهم له في ظاهر
كلام الخرقي لأنه مات قبل ثبوت ملك المسلمين عليها وسواء مات حال
القتال أو قبله وإن مات بعد ذلك فسهمه لورثته لأنه مات بعد ثبوت ملكه
عليها فكان سهمه لورثته كسائر أمواله، وإن مات بعد انقضاء الحرب وقبل
حيازة الغنيمة فقال الشافعي وأبو ثور متى حضر القتال اسهم سواء مات قبل
حيازة الغنيمة أو بعدها وإن لم يحضر فلا سهم له ونحوه قال مالك والليث،
والذي ذكر شيخنا في هذا الكتاب أنه إذا مات بعد انقضاء الحرب أنه يستحق
السهم ويقتضيه كلام القاضي لأنه قال في الأسير يهرب بعد انقضاء الحرب
وقبل حيازة الغنيمة لا يستحق شيئاً فدل على أنهم بملكونها بالاستيلاء
عليها ونفي الكفار عنها
ووجه الأول أنه إذا مات قبل حيازتها فقد مات قبل ثبوت اليد عليها فلم
يستحق شيئاً كما لو مات قبل انقضاء الحرب، وقال أبو حنيفة إن مات قبل
إحراز الغنيمة في دار الإسلام أو قسهما (قسمها) في دار الحرب فلا شئ له
لأن ملك المسلمين لا يتم عليها إلا بذلك، وقال الأوزاعي إن مات بعد ما
يدرب فاصلا في سبيل الله قبل أو بعد أسهم له ولنا على أبي حنيفة أنه
مات بعد الاستيلاء عليها في حال لو قسمت صحت قسمتها وكان له سهمه منها
فيجب أن يستحق سهمه فيها كما لو مات بعد إحرازها في دار الإسلام وعلى
الأوزاعي أنه مات
(10/524)
قبل الاستيلاء عليها فلم يتسحق شيئاً كما
لو مات قبل دخول الدرب وإن أسر أو مات أو قتل قبل تقضي الحرب فلا شي له
بغير خلاف في المذهب لأنه لم يملك شيئاً والله أعلم (مسألة) (ويشارك
الجيش سراياه فيما غنمت ويشاركونه فيما غنم) وجملة ذلك أن الجيش إذا
فصل غازياً فخرجت منه سرية أو أكثر فأيهما غنم شاركه الآخر في قول عامة
العلماء منهم مالك والثوري والاوزاعي والليث وحماد والشافعي واسحق وأبو
ثور وأصحاب الرأي وقال النخعي إن شاء الإمام خمس ما تأتي به السرية وإن
شاء نفلهم إياه كله ولنا ماروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما غزا
هوازن بعث سرية من الجيش قبل أوطاس فغنمت السرية فأشرك بينها وبين
الجيش قال إبن المنذر روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (وترد
سراياهم على قعدهم) رفي وفي تنفيل النبي صلى الله عليه وسلم في البداءة
الربع وفي الرجعة الثلث دليل على اشتراكهم فيما سوى ذلك لأنهم لو
اختصوا بما غنموه لما كان ثلثه نفلا ولأنهم جيش واحد وكل واحد منهم ردء
لصاحبه فيشتركون كما لو غنم أحد جانبي الجيش وان أقام الأمير ببلاد
الإسلام وبعث سرية أو جيشا فما غنمت السرية فهو لها وحدها لأنه إنما
يشترك المجاهدون والمقيم في بلد الإسلام ليس بمجاهد، وإن نفذ من بلد
الإسلام جيشين أو سريتين فكل واحدة تنفرد بما غنمته لأن كل واحدة منهما
انفردت بالغزو فانفردت بالغنيمة بخلاف ما إذا فصل الجيش فدخل بجملته
بلاد الكفار فان جميعهم اشتركوا في الجهاد فاشتركوا في الغنيمة
(10/525)
(مسألة) (وإذا قسمت الغنيمة في أرض الحرب
فتبايعوها ثم غلب عليها العدو فهي مال المشتري في إحدى الروايتين
اختارها الخلال وصاحبه والأخرى هي من مال البائع اختارها الخرقي) يجوز
للأمير البيع في الغنيمة قبل القسمة للغانمين ولغيرهم إذا رأى المصلحة
فيه لأن الولاية ثابتة له عليها وقد تدعوا الحاجة إلى ذلك لإزالة كلفة
نقلها أو تعذر قسمتها بعينها ويجوز لكل واحد من الغانمين بيع ما يحصل
له بعد القسم والتصرف فيه كيف شاء لأن ملكه ثابت فيه فإن باع الأمير أو
بعض الغانمين في دار الحرب شيئاً فغلب عليه العدو قبل إخراجه إلى دار
الإسلام فإن كان التفريط من المشتري مثل أن يخرج به منه العسكر ونحو
ذلك فضمانه عليه لان ذهابه حصل بتفريطه فكان من ضمانة كما لو أتلفه وإن
كان بغير تفريطه ففيه روايتان (إحداهما) ينفسخ البيع ويرد الثمن إلى
المشتري من الغنيمة إن باعه الإمام أو من مال البائع وإن كان الثمن لم
يؤخذ من المشتري سقط عنه وهي اختيار الخرقي لأن القبض لم يكمل لكون
المال في دار الحرب غير محرز وكونه على خطر من العدو فأشبه الثمر
المبيع على رؤوس النخل إذا تلف قبل الجذاذ (والثانية) هو من ضمان
المشتري وعليه ثمنه وهذا أكثر الروايات عن أحمد رحمه الله واختاره
الخلال وصاحبه أبو بكر وهو مذهب الشافعي لأنه مال مقبوض أبيح لمشتريه
فكان عليه ضمانة كما لو أحرز إلى دار الإسلام ولأن أخذ العدو له تلف
فلم يضمنه البائع كسائر أنواع التلف ولأن
(10/526)
نماءه للمشتري فكان ضمانه عليه لقول النبي
صلى الله عليه وسلم (الخراج بالضمان) وإن اشتراه مشتر من المشتري الأول
وقلنا هو من ضمان البائع رجع البائع الثاني على البائع الأول بما رجع
به عليه (فصل) قال أحمد في الرجل يشتري الجارية من المغنم معها الحلي
في عنقها والثياب: يرد ذلك في المغنم إلا شيئاً تلبسه من قميص ومقنعة
وإزار وهذا قول حكيم بن حزام ومكحول ويزيد بن أبي مالك وإسحاق وابن
المنذر ويشبه قول الشافعي واحتج إسحاق بقول النبي صلى الله عليه وسلم
(من باع عبداً وله مال فماله للبائع) وقال الشعبي يجعله في بيت المال
وكان مالك يرخص في اليسير كالقرطين وأشباههما ولا
يرد ذلك في الكثير، قال شيخنا ويمكن التفصيل في ذلك فيقال ما كان
ظاهراً يشاهده البائع والمشتري كالقرط والخاتم والقلادة فهو للمشتري
لأن الظاهر أن البائع إنما باعها بما عليها والمشتري اشتراها بذلك
فيدخل في البيع كثياب البذلة وحلية السيف، وما خفي فلم يعلم به البائع
رده لأن البيع وقع عليها بدونه فلم يدخل في البيع كجارية أخرى.
(فصل) قال أحمد لا يجوز لأمير الجيش أن يشتري من مغنم المسلمين شيئاً
لأنه يحابي ولأن عمر رضي الله عنه رد ما اشتراه ابنه في غزوة جلولاء
وقال أنه يحابى احتج به أحمد ولأنه هو البائع أو وكيله فكأنه يشتري من
نفسه أو من وكيله قال أبو داود قيل لأبي عبد الله إذا قوم أصحاب
المغانم شيئاً معروفاً فقالوا في جلود المعاعز بكذا وفي جلود الخرفان
بكذا يحتاج إليه يأخذه بتلك القيمة ولا يأتي المغانم فرخص فيه
(10/527)
لأنه يشق الاستئذان فيه فسومح فيه كما سومح
في دخول الحمام وركوب سفينة الملاح من غير تقدير أجرة (فصل) ومن اشترى
من المغنم اثنين أو أكثر أو حسبوا عليه بنصيبه بناء على أنهم أقارب
يحرم التفريق بينهم فبان أنه لا نسب بينهم رد الفضل الذي فيهم على
المغنم لأن قيمتهم تزيد بذلك فإن من اشترى اثنتين بناء على أن إحداهما
أم الأخرى لا يحل له الجمع بينهما في الوطئ ولا بيع إحداهما دون الأخرى
كانت قيمتهما قليلة لذلك فإذا أبان أن إحداهما أجنبية من الأخرى أبيح
له وطؤهما وبيع إحداهما فتكثر قيمتهما فيجب رد الفضل كما لو اشتراهما
فوجد معهما حلياً أو ذهباً وكما لو أخذ دراهم فبانت أكثر مما حسب عليه.
(مسألة) .
(وإن وطئ جارية من المغنم ممن له فيها حق أو لولده أدب ولم يبلغ به
الحد وعليه مهرها إلا أن تلد منه فيكون عليه قيمتها وتصير أم ولد له
والولد حر ثابت النسب) .
إذا وطئ جارية من المغنم وكان له في الغنيمة حق أو لولده أدب لأنه فعل
ما لا يحل له ولم يبلغ به الحد، لأن الملك ثبت للغانمين في الغنيمة
فيكون للواطئ حق في الجارية الموطوءة وإن قل فيدرأ عنه الحد للشبهة،
وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك وابو ثور عليه الحد لقول الله
تعالى (الزانية
والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وهذا زان ولأنه وطئ في غير
ملك عامداً عالماً بالتحريم
(10/528)
فلزمه الحد كما لو وطئ جارية غيره وقال
الأوزاعي كل من سلف من علمائنا يقول عليه أدنى الحدين مائة جلدة ومنع
بعض الفقهاء ثبوت الملك في الغنيمة وقال إنما يثبت بالاحتياز بدليل أن
أحدهم لو قال اسقطت حقي سقط ولو ثبت ملكه لم يزل بذلك كالوارث.
ولنا ان له فيها شبهة ملك فلم يجب عليه الحد كوطئ جارية له فيها شرك
والآية مخصوصة بوطئ الجارية المشتركة وجارية ابنه فنقيس عليه هذا ومنع
الملك لا يصح لأن ملك الكفار قد زال ولا يزول إلا إلى مالك ولأنه تصح
قسمته ويملك الغانمون طلب قسمتها فأشبهت حال الوارث وإنما كثر الغانمون
فقل نصيب الواطئ ولم يستقر في شئ بعينه وكان للإمام تعيين نصيب كل واحد
بغير اختياره فلذلك جاز أن يسقط بالإسقاط بخلاف الميراث وضعف الملك لا
يخرجه عن كونه شبهة في الحد الذي يدرأ بالشبهات ولهذا أسقط الحد بادنى
شئ وإن لم يكن حقيقة الملك فهو شبهة.
إذا ثبت هذا فإنه يعزر ولا يبلغ بالتعزير الحد على ما نذكره إن شاء
الله تعالى ويؤخذ منه مهرها فيطرح في المغنم، وبهذا قال الشافعي وقال
القاضي إنه يسقط عنه من المهر قدر حصته منها وتجب عليه بقيته كالجارية
المشتركة بينه وبين غيره ولا يصح ذلك لأننا إذا أسقطنا عنه حصته وأخذنا
الباقي فطرحناه في المغنم ثم قسمناه على الجميع وهو فيهم عاد إليه سهمه
من حصة غيره ولأن حصته قد لا تمكن معرفتها
(10/529)
لقلة المهر وكثرة الغانمين ثم إذا أخذناه
فإن قسمناه مفرداً على من سواه لم يمكن وإن خلطناه بالغنيمة ثم قسمنا
الجميع أخذ سهما مما ليس فيه حقه فإن ولدت منه فالولد حر يلحقه نسبه،
وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة هو رقيق لا يلحقه نسبه، لأن الغانمين
إنما يملكون بالقسمة فقد صادف وطؤه غير ملكه ولنا أنه وطئ سقط فيه الحد
بشبهة الملك فيلحق فيه النسب كوطئ جارية ابنه وما ذكره غير مسلم ثم
يبطل بوطئ جارية ابنه وفارق الزنا فإنه يوجب الحد، وإذا ثبت ذلك فإن
الأمة تصير أم ولد
له في الحال وقال الشافعي لا تصير أم ولد له في الحال لأنها ليست ملكاً
له فإذا ملكها بعد ذلك فهل تصير أم ولد له؟ فيها قولان ولنا أنه وطئ
يلحق به النسب لشبهة الملك فتصير به أم ولد كوطئ جارية ابنه وبه يبطل
ما ذكروه ولا نسلم أنه ليس له فيها ملك فإنا قد تبينا أن الملك قد ثبت
في الغنيمة بمجرد الاغتنام وعليه قيمتها تطرح في المغنم لأنه فرتها؟
عليهم بفعله فلزمته قيمتها كما لو قتلها فإن كان معسراً كان في ذمته
قيمتها وقال القاضي إن كان معسراً حسب قدر حصته من الغنيمة فصارت أم
ولد وباقيها رقيق للغانمين لأن كونها أم ولد إنما يثبت بالسراية إلى
ملك غيره فلم يسر في حق المعسر كالاعتاق.
(10/530)
ولنا أنه استيلاء جعل بعضها أم ولد فيجعل
جميعها أم ولد كاستيلاء جارية الابن وفارق العتق لأن الاستيلاء أقوى
لكونه فعلاً وينفذ من المجنون فأما قيمة الولد فقال أبو بكر فيها
روايتان (إحداهما) تلزمه قيمته حين وضعه تطرح في المغنم لأنه فوت رقه
فأشبه ولد المغرور (والثانية) لا تلزمه لأنه ملكها حين علقت ولم يثبت
ملك الغانمين في الولد بحال فأشبه ولد الأب من جارية ابنه إذا وطئها
ولأنه يعتق حين علوقها به ولا قيمة حينئذ وقال القاضي إذا صار نصفها أم
ولد يكون الولد كله حراً وعليه قيمة نصفه (مسألة) (ومن أعتق منهم عبداً
عتق عليه قدر حصته وقوم عليه باقيه إن كان موسراً وكذلك إن كان فيهم من
يعتق عليه) إذا أعتق بعض الغانمين أسيراً من الغنيمة وكان رجلاً لم
يعتق لأن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وعم علي وعقيلاً أخا علي
كانا في أسرى بدر فلم يعتقا عليهما ولأن الرجل لا يصير رقيقاً بنفس
السبي وإن استرق وقلنا بجواز استرقاقه أو كان امرأة أو صبياً عتق منه
قدر نصيبه وسرى إلى باقيه إن كان موسراً وإن كان معسراً لم يعتق عليه
إلا ما ملكه منه ويؤخذ منه قيمة باقيه تطرح في المغنم إذا كان موسراً
فإن كان بقدر حقه من الغنيمة عتق ولم يأخذ شيئاً وإن كان دون حقه أخذ
باقي حقه فإن أعتق عبداً ثانياً وفضل من حقه عن الاول شئ عتق بقدره من
الثاني وإن لم يفضل شئ لم يعتق
من الثاني شئ وكذلك الحكم اذا كان فيهم من يعتق عليه لأنه نسب إلى ملكه
أشبه مالو اشتراه
(10/531)
وقال ابن أبي موسى في الإرشاد لا يعتق إلا
أن يحصل في سهمه أو بعضه وقال الشافعي لا يعتق منه شئ وهذا مقتضى قول
أبي حنيفة لأنه لا يملكه بمجرد الاغتنام ولو ملك لم يتعين ملكه فيه وإن
قسم وحصل في نصيبه واختار تملكه عتق عليه وإلا فلا وإن جعل له بعضه
فاختار تملكه عتق عليه وقوم عليه الباقي ولنا ما بيناه من أن الملك
يثبت للغانمين لكون الاستيلاء التام وجد منهم وهو سبب للملك ولأن ملك
الكفار زال ولا يزول إلا إلى المسلمين (مسألة) (والغال من الغنيمة يحرق
رحله كله إلا السلاح والمصحف والحيوان) الغال الذي يكتم ما يأخذه من
الغنيمة ولا يطلع الإمام عليه ولا يطرحه في الغنيمة فحكمه أن يحرق رحله
كله وبه قال الحسن وفقهاء الشام منهم مكحول والاوزاعي والوليد بن هشام
ويزيد بن يزيد بن جابر وأني سعيد بن عبد الملك بغال فجمع ماله وأحرقه
وعمر بن عبد العزيز حاضر فلم يعبه وقال يزيد بن يزيد بن جابر السنة في
الذي يغل أن يحرق رحله رواهما سعيد في سننه وقال مالك والليث والشافعي
وأصحاب الرأي لا يحرق لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرق فإن عبد
الله بن عمرو روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب غنيمة
أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه فجاء رجل بعد
ذلك بزمام من شعر فقال يا رسول الله هذا فيما كنا أصبنا من الغنيمة
فقال (سمعت بلالاً ينادي
(10/532)
ثلاثاً قال نعم قال (فما منعك ان تجئ به)
فاعتذر فقال (كن انت تجئ به يوم القيامة فلن أقبله منك) رواه أبو داود
ولأن إحراق المتاع إضاعة له وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة
المال ولنا ماروى صالح بن محمد بن زائدة قال دخلت مع مسلمة أرض الروم
فأتي برجل قد غل فسأل سالماً عنه فقال سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا وجدتم الرجل قد غل
فأحرقوا متاعه واضربوه) قال فوجدنا في متاعه مصحفاً فسأل سالماً عنه
فقال
بعه وتصدق بثمنه رواه سعيد وابو داود والاثرم وروى عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر أحرقوا
متاع الغال رواه أبو داود فإما حديثهم فلا حجة لهم فيه فإن الرجل لم
يعترف أنه أخذ ما أخذ على سبيل الغلول ولا أخذه لنفسه وإنما توانى في
المجئ به وليس الخلاف فيه ولأن الرجل جاء به من عند نفسه تائباً
معتذراً والتوبة تجب ما قبلها وأما النهي عن إضاعة المال فإنما نهي عنه
إذا لم يكن فيه مصلحة فأما إذا كان فيه مصلحة فلا بأس ولا يعد تضييعاً
كإلقاء المتاع في البحر عند خوف الغرق وقطع يد العبد السارق مع أن
المال لا تكاد المصلحة تحصل به إلا بذهابه فأكله إتلافه وإيقافه اذهابه
ولا يعد شئ من ذلك تضييعاً ولا إفساداً ولا ينهى عنه.
إذا ثبت ذلك فإن السلاح لا يحرق لأنه يحتاج إليه في القتال ولا نفقته
لأنه مما لا يحرق عادة ولا يحرق المصحف لحرمته ولما ذكرنا من حديث سالم
فيه فعلى هذا يحتمل أن يباع ويتصدق بثمنه لما ذكرنا
(10/533)
من حديث سالم ويحتمل أن يكون له كالحيوان
والسلاح وكذلك الحيوان لا يحرق لنهي النبي صلى الله عليه وسلم إن يعذب
بالنار إلا ربها ولحرمة الحيوان في نفسه ولأنه لا يدخل في اسم المتاع
المأمور بإحراقه وهذا لا خلاف فيه ولا تحرق آلة الدابة أيضاً نص عليه
أحمد لأنه يحتاج إليها للانتفاع بها ولأنها تابعة لما لا يحرق أشبه جلد
المصحف وكيسه وقال الأوزاعي يحرق سرجه واكافه ولنا أنه ملبوس حيوان فلا
يحرق كثياب الغال فانه لا تحرق ثيابه التي عليه لأنه لا يجوز أن يترك
عرياناً ولا يحرق ما غل لأنه من غنيمة المسلمين قيل لأحمد فالذي أصاب
في الغلول أي شئ يصنع به قال يرفع إلى المغنم وكذلك قال الأوزاعي وجميع
ما لا يحرق وما أبقت النار من حديد أو غيره فهو لصاحبه لأن ملكه كان
ثابتاً عليه ولم يوجد ما يلزمه وإنما عوقب بإحراق متاعه فما لم يحترق
يبقى على ما كان، وإن كان معه شئ من كتب العلم والحديث فينبغي أن لا
يحرق أيضاً لأن نفع ذلك يعود إلى الدين وليس المقصود الإضرار به في
دينه وإنما القصد الإضرار به في بعض دنياه (فصل) فإن لم يحرق رحله حتى
استحدث متاعاً آخر أو رجع إلى بلده أحرق ما كان معه حال الغلول، نص
عليه أحمد في الذي يرجع إلى بلده قال ينبغي أن يحرق ما كان معه في أرض
العدو فإن
مات قبل إحراق رحله لم يحرق نص عليه لأنه عقوبة فيسقط بالموت كالحدود
ولأنه بالموت انتقل إلى ورثته وإحراقه عقوبة لغير الجاني
(10/534)
وإن باع متاعه أو وهبه احتمل أن لا يحرق
لأنه صار لغيره أشبه انتقاله بالموت واحتمل أن ينقض البيع والهبة ويحرق
لأنه تعلق به حق سابق على البيع والهبة فوجب تقديمه كالقصاص في حق
الجاني (فصل) وإن كان العال صبياً لم يحرق متاعه وبه قال الأوزاعي لان
الاحراق عقوبة وليس هو من أهلها فأشبه الحد، وإن كان عبداً لم يحرق
متاعه لأنه لسيده فلا يعاقب سيده بجناية عبده، وإن استهلك ما غله فهو
في رقبته لأنه من جنايته وإن غلت المرأة أو ذمي أحرق متاعهما لأنهما من
أهل العقوبة ولذلك يقطعان في السرقة ويحدان في الزنا، وإن أنكر الغلول
وذكر أنه ابتاع ما بيده لم يحرق متاعه حتى يثبت غلوله ببينة أو إقرار
لأنه عقوبة قلا يجب قبل ثبوته بذلك كالحد ولا يقبل في بينته إلا عدلان
لذلك (فصل) ولا يحرم الغال سهمه، وقال أبو بكر في ذلك روايتان
(إحداهما) يحرم سهمه لأنه قد جاء في الحديث يحرم سهمه فإن صح فالحكم
له، وقال الأوزاعي في الصبي يغل يحرم سهمه ولا يحرق متاعه ولنا أن سبب
الاستحقاق موجود فيستحق كما لو لم يغل ولم يثبت حرمان سهمه في خبر ولا
يدل عليه قياس فيبقى بحاله ولا يحرق سهمه لأنه ليس من رحله (فصل) إذا
تاب الغال قبل القسمة رد ما أخذه في المقسم بغير خلاف لأنه حق تعين رده
إلى أهله فإن تاب بعد القسمة فمقتضى المذهب أن يؤدي خمسه إلى الإمام
ويتصدق بالباقي وهذا قول
(10/535)
الحسن والزهري ومالك والاوزاعي والثوري
والليث.
وقال الشافعي لا أعرف للصدقة وجهاً، وحديث الغال أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال له (لا أقبله منك حتى تجئ به إلى يوم القيامة) ولنا
ماروى سعيد بن منصور عن عبد الله بن المبارك عن صفوان بن عمرو عن حوشب
بن سيف قال غزا الناس الروم وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فغل
رجل مائة دينار فلما قسمت الغنيمة
وتفرق الناس ندم فأتى عبد الرحمن فقال قد غللت مائة دينار فامضها فقال
قد تفرق الناس فلن أقبضها منك حتى توافي الله بها يوم القيامة، فأتى
معاوية فذكر ذلك له فقال له مثل ذلك فخرج وهو يبكي فمر بعبد الله بن
الشاعر السكسكي فقال ما يبكيك؟ فأخبره فقال إنا لله وإنا إليه راجعون
أمطيع أنت يا عبد الله؟ قال نعم قال فانطلق إلى معاوية فقل له خذ مني
خمسك فأعطه عشرين ديناراً وانظر إلى الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك
الجيش فإن الله تعالى يعلم أسماءهم ومكانهم وإن الله يقبل التوبة عن
عبادة، فقال معاوية: أحسن والله لأن أكون أنا أفتيته بهذا أحب إلي من
أن يكون لي مثل كل شئ امتلكت وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى أن
يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه فقد قال به ابن مسعود ومعاوية ومن
بعدهم ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم فيكون إجماعاً، ولأن تركه تضييع له
وتعطيل لمنفعته التي خلق لها ولا يتخفف به شئ من إثم الغال، وفي الصدقة
به نفع لمن يصل إليه من
(10/536)
المساكين، وما يحصل من أجر الصدقة يصل إلى
صاحبه فيذهب به الإثم عن الغال فيكون أولى (مسألة) (وما أخذ من الفدية
أو أهداه الكفار إلى أمير الجيش أو بعض قواده فهو غنيمة) ما أخذ من
فدية الأسارى فهو غنيمة، لا نعلم فيه خلافا فإن النبي صلى الله عليه
وسلم قسم فداء أسارى بدر بين الغانمين ولأنه مال حصل بقوة الجيش أشبه
الخيل والسلاح وأما الهدية للإمام والقواد فان كان في حال الغزو فهي
غنيمة وهكذا ذكر أبو الخطاب لأن الظاهر أنه لا يفعل ذلك إلا لخوف من
المسلمين فظاهر هذا يدل على أن ما أهدي لآحاد الرعية فهو له، وقال
القاضي هو غنيمة لما ذكرنا، وإن كانت الهدية من دار الحرب إلى دار
الإسلام فهي لمن أهديت له سواء كان الإمام أو غيره لأن النبي صلى الله
عليه وسلم قبل هدية المقوقس فكانت له دون غيره، وهذا قول الشافعي ومحمد
بن الحسن، وقال أبو حنيفة هو للمهدي له بكل حال لأنه خص بها أشبه ما
إذا كان في دار الإسلام، وحكي ذلك رواية عن أحمد ولنا أنه أخذ ذلك بظهر
الجيش أشبه مالو أخذه قهراً ولأنه إذا أهدى إلى الإمام أو أمير فالظاهر
أنه يداري عن نفسه به فأشبه ما أخذ منه قهراً، وأما الهدية لآحاد
المسلمين فلا يقصد بها ذلك في الظاهر لعدم الخوف منه فيكون كما لو أهدى
إليه إلى دار الإسلام، ويحتمل أن ينظر فإن كانت بينهما مهاداة قبل ذلك
فله ما أهدى إليه.
وان تجدد ذلك بالدخول إلى دارهم فهو للمسلمين كقولنا في الهدية إلى
القاضي
(10/537)
(باب حكم الأرضين المغنومة) وهي على ثلاثة
أضرب (أحدها) ما فتح عنوة وهي ما أجلي عنها أهلها بالسيف فيخير الإمام
بين قسمها ووقفها للمسلمين ويضرب عليها خراجا مستمراً يؤخذ ممن هي في
يده يكون أجرة لها.
وعنه تصير وقفاً بنفس الاستيلاء وعنه تقسم بين الغانمين الأرضون
المغنومة تنقسم قسمين عنوة وصلح (فالعنوة) ما أجلي عنها أهلها بالسيف
وهي نوعان (أحدهما) ما فتح ولم يقسم بين الغانمين فتصير وقفاً للمسلمين
يضرب عليها خراج معلوم يؤخذ منها في كل عام يكون أجرة لها وتقر بأيدي
أربابها ما دامو يؤدون خراجها مسلمين كانوا أو من أهل الذمة لا يسقط
خراجها بإسلام أربابها ولا بانتقالها إلى مسلم لأنه بمنزلة أجرتها ولم
نعلم أن شيئاً مما فتح عنوة قسم بين الغانمين إلا خيبر فإن النبي صلى
الله عليه وسلم قسم نصفها فصار لأهله لاخراج عليه وسائر ما فتح عنوة
مما فتحه عمر رضي الله عنه ومن بعده كأرض الشام والعراق ومصر وغيرها لم
يقسم منه شئ فروى أبو عبيد في كتاب الاصول أن عمر رضي الله عنه قدم
الجابية فأراد قسم الأرض بين المسلمين فقال له معاذ رضي الله عنه والله
إذاً ليكونن ما تكره إنك إن قسمتها اليوم صار الريع العظيم في أيدي
القوم ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد والمرأة ثم يأتي من بعدهم
قوم يمدون من الإسلام
(10/538)
الإسلام مسداهم لا يجدون شيئاً فانظر أمراً
يسع أولهم وآخرهم فصار عمر إلى قول معاذ وروي أيضاً قال قال: الماجشون
قال بلال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في القرى التي افتتحوها عنوة
اقسمها بيننا وخذ خمسها فقال عمر لا هذا عن المال ولكني أحبسه فيئاً
يجري عليهم وعلى المسلمين فقال بلال
وأصحابه اقسمها بيننا فقال عمر اللهم اكفني بلالاً وذويه قال فما جاء
الحول وفيهم عين تطرف وروى بإسناده عن سفيان بن وهب الخولاني قال لما
افتتح عمرو بن العاص مصر قال الزبير يا عمرو بن العاص اقسمها فقال عمرو
لاأقسمها فقال الزبير لتقسمنها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم
خيبر فقال عمرو لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين فكتب إلى عمر
فكتب إليه دعها حتى يغزو منها حبل الحبلة قال القاضي ولم ينقل عن النبي
صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أنه قسم أرضاً عنوة إلا خيبر
(فصل) قال أحمد ومن يقوم على أرض الصلح وأرض العنوة؟ ومن أين هي؟ وإلى
أين هي؟ وقال أرض الشام عنوة إلا حمص وموضعاً آخر وقال ما دون النهر
صلح وما وراء عنوة وقال فتح المسلمون السواد عنوة إلا ما كان منه صلح
وهي أرض الحيرة وأرض بانقيا وقال أرض الري خلطوا في أمرها فأما ما فتح
عنوة فمن نهاوند وطبرستان خراج وقال أبو عبيد أرض الشام عنوة ما خلا
مدنها فإنها فتحت صلحاً إلا قيسارية افتتحت عنوة وأرض السواد والجبل
ونهاوند والأهواز ومصر والمغرب وقال موسى بن علي بن رباع عن أبيه:
المغرب كله عنوة فأما أرض الصلح فأرض هجر والبحر بن
(10/539)
وأيله ودومه الجندل وأذرح فهذه القرى التي
أدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية ومدن الشام ما خلا أرضيها
إلا قيسارية وبلاد الجزيرة كلها وبلاد خراسان كلها أو أكثرها صلح وكل
موضع فتح عنوة فإنه وقف على المسلمين (النوع الثاني) ما استأنف
المسلمون فتحه عنوة ففيه ثلاث روايات (إحداهما) أن الامام مخير بين
قسمها على الغانمين وبين وقفها على جميع المسلمين ويضرب عليها خراجا
مستمراً على ما ذكرنا هذا ظاهر المذهب لأن كلا الأمرين قد ثبت فيه حجة
عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم نصف
خيبر ووقف نصفها لنوائبه ووقف عمو الشام والعراق ومصر وسائر ما فتحه
وأقره على ذلك علماء الصحابة وأشاروا عليه به، وكذلك من بعده من
الخلفاء ولم نعلم أن أحداً منهم قسم شيئاً من الأرض التي افتتحوها
(والثانية) أنها تصير وقفا بنفس الاستيلاء عليها لاتفاق الصحابة رضي
الله عنهم عليه وقسمة النبي صلى الله عليه وسلم خيبر كانت قي بدء
الإسلام وشدة الحاجة وكانت المصلحة فيه وقد تعينت المصلحة فيما بعد ذلك
في وقف الأرض فكان هو الواجب (والثالثة) أن الوجب قسمها وهو قول مالك
وأبي ثور لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وفعله أولى من فعل غيره
مع عموم قوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه يفهم من
ذلك أن أربعة أخماسها للغانمين
(10/540)
(والرواية الأولى) أولى لما ذكرنا من فعل
النبي صلى الله عليه وسلم ولأن عمر رضي الله عنه قال لولا آخر الناس
لفسمت الأرض كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر فقد وقف الأرض مع
علمه بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن فعله ذلك لم يكن
متعيناً كيف والنبي صلى الله عليه وسلم قد وقف نصف خيبر ولو كانت
للغانمين لم يكن له وقفها، قال أبو عبيد تواترت الأخبار في افتتاح
الارض عنوة بهذين الحكمين، حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر
حين قسمها، وبه أشار بلال وأصحابه على عمر في أرض الشام والزبير في أرض
مصر وحكم عمر في أرض السواد وغيره حين وقفه، وبه أشار علي ومعاذ على
عمر وليس فعل النبي صلى الله عليه وسلم راداً لفعل عمر لأن كل واحد
منهما اتبع آية محكمة قال الله تعالى (واعلموا أنما غنمتم منه شئ فأن
لله خمسه - وقال - ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) الآية فكان كل
واحد من الأمرين جائزاً والنظر في ذلك إلى الامام فما رأى منه ذلك
فعليه وهذا قول الثوري وأبي عبيد.
إذا ثبت هذا فإن التخيير المفوض إلى الإمام تخيير مصلحة لا تخيير تشهي
فيلزمه فعل ما يرى فيه المصلحة لا يجوز له العدول عنه كالخيرة في
الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء ولا يحتاج إلى النطق بالوقف
بل تركه لها من غير قسمه وقف لها كما أن قسمتها بين الغانمين لا يحتاج
معه إلى لفظ ولأن عمر وغيره لم ينقل عنهم في وقف الأرض لفظ بالوقف ولأن
معنى وقفها
(10/541)
هاههنا أنها باقية لجميع المسلمين يؤخذ
خراجها يصرف في مصالحهم ولا يخص أحد بملك شئ منها وهذا حاصل بتركها
(فصل) وكلما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من وقف وقسمه أو فعله
الأئمة بعده فليس لأحد نقضه ولا تغييره وإنما الروايات فيما استؤنف
فتحه على ما ذكرنا والذي قسم بين الغانمين ليس عليه خراج، وكذلك ما
أسلم أهله عليه كالمدينة ونحوها فهي ملك لأربابها لهم التصرف فيها كيف
شاؤا، وكذلك ما صولح أهله على أن الأرض لهم كأرض اليمن والحيرة وبانقيا
وما أحياه المسلمون كأرض البصرة كانت سبخة أحياها عتبة بن غزوان وعثمان
بن أبي العاص (مسألة) (الضرب الثاني) ما جلا عنها أهلها خوفاً وفزعاً
فهذه تصير وقفاً بنفس الظهور عليها لأن ذلك يتعين فيها لأنها ليست
غنيمة فنقسم فكان حكمها حكم الفيئ يكون للمسلمين كلهم، وعنه يكون حكمها
حكم العنوة قياساً عليها، فعلى هذا لا تصير وقفا حتى يقفها الإمام لأن
الوقف لا يثبت بنفسه (الضرب الثالث) ما صولحوا عليه وهو قسمان (أحدهما)
أن يصالحهم على أن الأرض لنا ونقرها معهم بالخراج فهذه تصير وقفاً
أيضاً حكمها حكم ما ذكرنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر وصالح
أهلها على أن يعمروا أرضها ولهم نصف ثمرتها فكانت للمسلمين دونهم،
وصالح بني النضير على أن يجليهم من المدينة
(10/542)
ولهم ما أقلت الابل من المتعة والأموال إلا
الحلقة يعني السلاح وكانت مما أفاء الله على رسوله (القسم الثاني) أن
يصالحم على الارض لهم ويؤدون إلينا خراجها معلوماً فهذه ملك لأربابها
وهذا الخراج في حكم الجزية متى أسلموا اسقط عنهم لأن الخراج الذي ضرب
عليها إنما كان من أجل كفرهم فهو كالجزية على رؤوسهم فإذا أسلموا سقط
كما تسقط الجزية وتبقى الأرض ملكاً لهم لا خراج عليها يتصرفون فيها كيف
شاءوا بالبيع والهبة والرهن، وإن انتقل إلى مسلم فلا خراج عليه لما
ذكرنا (مسألة) (ويقرون فيها بغير جزية) لأنهم في غير دار الإسلام بخلاف
التي قبلها (مسألة) (والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام في
الزيادة والنقصان على قدر الطاقة وعنه يرجع إلى ما ضربه عمر رضي الله
عنه لا يزاد ولا ينقص وعنه تجوز الزيادة دون النقص) ظاهر المذهب أن
المرجع في الخراج إلى اجتهاد الإمام وهو اختيار الخلال وعامة شيوخنا
لأنه أجرة فلم يقدر بمقدار لا يختلف كأجرة المساكن وفيه رواية ثانية
أنه يرجع إلى ما ضربه عمر رضي
الله عنه لا يزاد عليه ولا ينقص منه لأن اجتهاد عمر أولى من قول غيره
كيف ولم ينكره أحد من الصحابة مع شهرته فكان إجماعاً؟ وعنه رواية ثالثة
أن الزيادة تجوز دون النقص لما روى عمر بن ميمون أنه سمع عمر يقول
لحذيفة وعثمان بن حنيف لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق فقال عثمان
والله لو زدت عليهم فلا تجهدهم فدل على إباحة الزيادة ما لم تجهدهم
وأما الجزية فتذكر في باب عقد الذمة إن شاء الله تعالى
(10/543)
قال أحمد رضي الله عنه وأبو عبيد القاسم بن
سلام: أعلى وأصح حديث في أرض السواد حديث عمرو بن ميمون، ويعني أن عمر
رضي الله عنه وضع على كل جريب درهما وقفيزاً، وقدر القفيز ثمانية أرطال
يعني بالمكي، نص عليه أحمد واختاره القاضي فيكون ستة عشر رطلاً
بالعراقي، وقال أبو بكر قد قيل أن قدره ثلاثون رطلاً وينبغي أن يكون من
جنس ما تخرجه الأرض لأنه روي عن عمر أنه ضرب على الطعام درهما وقفيز
حنطة وعلى الشعير درهماً وقفيز شعير ويقاس عليه غيره من الحبوب.
والجريب عشر قصبات في عشر قصبات والقصبة ستة أذرع بذراع عمر وهو ذراع
وسط لا أطول ذراع ولا أقصرها وقبضة وإبهام قائمة، وما بين الشجر من
بياض الأرض تبع لها، فان ظلم في خراجه لم يحتسبه من العشر لانه ظلم فلم
يحتسب به من العشر كالغصب، وعنه يحتسبه من العشر لأن الأخذ لهما واحد
اختاره أبو بكر وقد اختلف عن عمر رضي الله عنه قي قدر الخراج فروى أبو
عبيد بإسناده عن الشعبي أن عمر بعث ان حنيف إلى السواد فضرب الخراج على
جريب الشعير درهمين وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب القضب وهو
الرطبة ستة دراهم وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب الكرم عشرة
دراهم وعلى جريب الزيتون أثني عشر درهماً، هذا ذكره أبو الخطاب في كتاب
الهداية وذكر بعده حديث عمرو بن ميمون الذي ذكرناه وهو اصح على ما ذكره
أحمد وأبو عبيد
(10/544)
(مسألة) (وما لا يناله الماء مما لا يمكن
زرعه فلا خراج عليه) لأن الخراج أجرة الأرض وما لا منفعة فيه لا أجرة
له، وعنه يجب فيه الخراج إذا كان على صفة
يمكن إحياؤه ليحييه من هو في يده أو يرفع يده عنه فيحييه غيره وينتفع
به (مسألة) (فإن أمكن زرعه عاماً بعد عام وجب نصف خراجه في كل عام) لأن
نفع هذه الأرض على النصف فكذلك الخراج لكونه في مقابلة النفع (مسألة)
(ويجب الخراج على المالك دون المستأجر) لأنه يجب على رقبة الأرض فكان
على مالكها كما تجب الفطرة على مالك العبد وعنه أنه على المستأجر
كالعشر والأول أصح (مسألة) (والخراج كالدين يحبس به الموسر وينظر
المعسر) لأنه أجرة أشبه أجرة المساكن (مسألة) (ومن عجز عن عمارة أرضه
أجبر على إجارتها أو رفع يده عنها) من كانت في يده أرض فهو أحق بها
بالخراج كالمستأجر وتنتقل إلى وارثه بعده على الوجه الذي كانت في يد
موروثه فإن آثر بها أحداً صار الثاني أحق بها، فإن عجز من هي في يده عن
عمارتها
(10/545)
وأداء خراجها أجبر على رفع يده عنها بإجارة
أو غيرها ويدفعها إلى من يعمرها ويقوم بخراجها لأن الأرض للمسلمين فلا
يجوز تعطيلها عليهم (فصل) ويكره للمسلم أن يشتري من أرض الخراج المزارع
لأن في الخراج معنى الذلة وبهذا وردت الأخبار عن عمر رضي الله عنه
وغيره ومعنى الشراء ههنا ان يتقبل الأرض بما عليها من خراجها لأن شراء
هذه الأرض غير جائز أو يكون على الرواية التي أجازت شراءها لكونه
استنقاذا لها فهو كاستنقاذ الأسير (فصل) ويجوز لصاحب الأرض أن يرشو
العامل ليدفع عنه الظلم في خراجه لأنه يتوصل بماله إلى كف اليد العادية
عنه ولا يجوز له ذلك ليدفع له شيئاً من خراجه لأنه رشوة لابطال حق
فحرمت على الآخذ والمعطي كرشوة الحاكم ليحكم له بغير الحق (مسألة) (وإن
رأى الإمام المصلحة في إسقاط الخراج أو تخفيفه عن إنسان جاز لانه فيئ
فكان النظر فيه إلى الإمام) ولأنه لو أخذ الخراج وصار في يده جاز له أن
يخص به شخصاً إذا رأى المصلحة فيه فجاز له تركه بطريق الأولى
(10/546)
باب الفيئ وهو ما أخذ من مال المشركين بغير
قتال كالجزية والخراج والعشر وما تركوه فزعا وخمس الغنيمة ومال من مات
لا وارث له فهو معروف في مصالح المسلمين لهم كلهم فيه حق غنيهم وفقيرهم
إلا العبيد هذا ظاهر كلام أحمد والخرقي وذكر أحمد رحمه الله الفيئ فقال
فيه حق لكل المسلمين وهو بين الغني والفقير وقال عمر رضي الله عنه ما
من أحد من المسلمين إلا له في هذا المال نصيب إلا العبيد ليس لهم فيه
شئ وقرأ عمر (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى - حتى بلغ - والذين
جاءوا من بعدهم) فقل استوعبت المسلمين عامة ولان عشت ليأتين الراعي
بستر وحمير نصيبه منها لم تعرق فيه جبينه وذكر القاضي أن الفيئ مختص
بأهل الجهاد من المرابطين في الثغور وجند المسلمين ومن يقوم بمصالحهم
لأن ذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته لحصول النصرة والمصلحة
به فلما مات صارت مختصة بالجند ومن يحتاج إليه المسلمون فصار لهم ذلك
دون غيرهم فأما الأعراب ونحوهم ممن لا يعد نفسه للجهاد فلا حق لهم فيه
والذين يعرضون إذا نشطوا يعطون من سهم سبيل الله من الصدقة قال القاضي
ومعنى كلام أحمد أنه بين الغني والفقير يعني الذي فيه مصلحة للمسلمين
من المجاهدين والقضاة والفقهاء قال ويحتمل أن يكون معنى كلامه أن لجميع
المسلمين الانتفاع بذلك المال لكونه يصرف إلى من يعود نفعه إلى جميع
المسلمين وكذلك ينتفعون بالعبور على القناطر والجسور المعقودة بذلك
المال وبالأنهار
(10/547)
والطرقات التي أصلحت به وسياق كلام أحمد
يدل على أنه غير مختص بالجند وإنما هو معروف في مصالح المسلمين لكن
يبدأ بجند المسلمين لأنهم أهم المصالح لكونهم يحفظون المسلمين فيعطون
كفاياتهم فما فضل قدم الأهم فالأهم من عمارة الثغور وكفايتها بالكراع
والسلاح وما يحتاج إليه ثم الأهم فالأهم من عمارة المساجد والقناطر
وإصلاح الطرق وكراء الأنهار وسد بثوقها وأرزاق القضاه والأئمة
والمؤذنين والفقهاء وما يحتاج إليه المسلمون وكلما يعود نفعه على
المسلمين ثم يقسم ما فضل على المسلمين لما ذكرنا من الآية وقول عمر رضي
الله عنه وللشافعي قولان كنحو ما ذكرناه
واستدلوا على أن أربعة أخماس الفيئ كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم
في حياته بما روى مالك بن أوس بن الحدثان قال سمعت عمر بن الخطاب
والعباس وعليا يختصمان إليه في أموال النبي صلى الله عليه وسلم فقال
عمر كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه
بخيل ولا ركاب وكانت لرسول صلى الله عليه وسلم خالصاً دون المسلمين
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق منها على أهله نفقة سنة فما
فضل جعله في الكراع والسلاح ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
فوليها أبو بكر بمثل ماوليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وليتها
بمثل ماوليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر متفق عليه إلا أن
فيه فيجعل ما بقي أسوة المال قال شيخنا وظاهر أخبار عمر تدل على أن
لجميع المسلمين في الفيئ حقاً وهو ظاهر الآية فانه لما قرأ الآية التي
في سورة الحشر قال هذه استوعبت جميع المسلمين وقال ما أحد إلا له في
هذا المال نصيب فأما أموال
(10/548)
بني النضير فيحتمل أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان ينفق منها على أهله لأن ذلك من أهم المصالح فبدأ بهم ثم جعل
باقيه أسوة المال ويحتمل أن تكون أموال بني النضير اختص بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم من الفيئ وترك سائرة لمن سمي في الآية وهذا مبين في
قول عمر كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصاً دون المسلمين
(مسألة) (ولا يخمس وقال الخرقي يخمس فيصرف خمسه إلى أهل الخمس وباقيه
في المصالح) ظاهر المذهب أن الفيئ لا يخمس نقلها أبو طالب فقال إنما
تخمس الغنيمة وعنه يخمس كما تخمس الغنيمة اختارها الخرقي وهو قول
الشافعي لقول الله تعالى (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله
وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) فظاهر هذا أن
جميعه لهؤلاء وهو أهل الخمس وجاءت الأخبار دالة على اشتراك جميع
المسلمين فيه عن عمر رضي الله عنه مستدلاً بالآيات التي بعدها فوجب
الجمع بينهما كيلا تتناقض الآية والاخبار وتتعارض وفي إيجاب الخمس فيه
جمع بينهما وتوقيف فإن خمسه لمن سمي في الآية وسائره يصرف إلى ما ذكر
في الآيتين الآخيرتين والأخبار وقد روى البراء بن عازب قال لقيت خالي
ومعه الراية فقلت إلى أين؟ قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم الى
رجل عرس بامرأة أبيه أن أضرب عنقه وأخمس ماله والرواية الأولى هي
المشهورة قال القاضي لم أجد بما قال الخرقي من أن الفيئ مخموس نصاً
فأحكيه وإنما نص على أنه غير
(10/549)
مخموس وهذا قول أكثر أهل العلم قال ابن
المنذر لانحفظ عن أحد قبل الشافعي في أن في الفيئ خمساً كخمس الغنيمة
والدليل على ذلك قوله تعالى (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم
عليه من خيل ولا ركاب) الآيات إلى قوله (والذين جاءوا من بعدهم) فجعله
كله لهم ولم يذكر خمساً ولما قرأ عمر هذه الآية قال هذه استوعبت جميع
المسلمين (فصل) فان قلنا إنه يخمس صرف خمسه إلى أهل الخمس في الغنيمة
عند من يرى تخميس الفيئ من أصحابنا وأصحاب الشافعي وحكمهما واحد
لااختلاف بينهم في هذا لأنه في معنى خمس الغنيمة ثم يصرف الباقي في
مصالح المسلمين على ما ذكرنا ويبدأ بالأهم فالأهم من سد الثغور وأرزاق
الجند ونحو ذلك.
(مسألة) (فإن فضل منه فضلة قسمه بين المسلمين ويبدأ بالمهاجرين ويقدم
الأقرب فالأقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
ينبغي أن يبدأ في القسمة بالمهاجرين ويقدم الأقرب فالأقرب من رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما روى أبو هريرة قال قدمت على عمر رضي الله عنه
ثمانمائة ألف درهم فلما أصبح أرسل إلى نفر من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال لهم قد جاء الناس مال لم يأتهم مثله منذ كان الإسلام
أشيروا علي بمن أبدأ؟ قالوا بك يا أمير المؤمنين إنك ولي ذلك قال لا
ولكن أبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم الاقرب فالاقرب
(10/550)
فوضع الديوان على ذلك وينبغي للإمام أن يضع
ديوانا يكتب فيه أسماء المقاتلة وقدر أرزاقهم ويجعل لكل طائفة عريفاً
يقوم بأمرهم ويجمعهم وقت العطاء ووقت الغزو لأنه يروى أن النبي صلى
الله عليه وسلم جعل عام خيبر على كل عشرة عريفاً ويجعل العطاء في كل
عام مرة أو مرتين ولا يجعل في أقل من ذلك لئلا يشغلهم عن الغزو ويبدأ
ببني هاشم لأنهم أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكرنا من خبر
عمر ثم ببني المطلب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (انما بنوا هاشم
وبنوا المطلب شئ واحد) وشبك بين أصابعه ثم ببني عبد شمس لأنه أخو هاشم
لأبيه وأمه ثم بني نوفل لأنه أخو هاشم لأبيه ثم يعطي بني عبد الدار
وعبد العزى ويقدم عبد العزى لأن فيهم أصهار رسول الله صلى الله عليه
وسلم فإن خديجة منهم وعلى هذا يعطى الأقرب فالأقرب حتى تنقضي قريش وهم
بنو النضر بن كنانة وقيل بنو فهر بن مالك (مسألة) (ثم الأنصار ثم سائر
المسلمين وهل يفاضل بينهم؟ على روايتين) .
يقدم الأنصار بعد قريش لفضلهم وسابقتهم وآثارهم الجميلة ثم سائر العرب
ثم العجم والموالي فإن استوى اثنان في الدرجة قدم أسنهما ثم أقدمهما
هجرة وسابقة ويخص في كل ذا الحاجة.
(فصل) واختلف الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم في قسم الفئ بين أهله
فذهب ابو بكر رضي الله عنه إلى التسوية بينهم وهو المشهور عن علي رضي
الله عنه فروي أن أبا بكر سوى بين الناس في العطاء وأدخل فيه العبيد
فقال له عمر يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أتجعل الذين جاهدوا
في سبيل
(10/551)
الله بأموالهم وأنفسهم وهجروا ديارهم له
كمن إنما دخلوا في الإسلام كرهاً؟ فقال أبو بكر إنما عملوا لله وإنما
أجورهم على الله وانما الدنيا بلاغ فلما ولي عمر رضي الله عنه فاضل
بينهم وأخرج العبيد فلما ولي علي رضي الله عنه سوى بينهم وأخرج العبيد
وذكر عن عثمان رضي الله عنه أنه فضل بينهم في القسمة فعلى هذا مذهب
اثنين منهم أبي بكر وعلي التسوية ومذهب اثنين عمر وعثمان التفضيل وقد
روي عن أحمد رحمه الله فروى عنه الحسن بن (علي) بن الحسن أنه قال
للإمام أن يفضل قوماً على قوم لأن عمر قسم بينهم على السوابق وقال لا
أجعل من قاتل على الإسلام كمن قوتل عليه، ولأن النبي صلى الله عليه
وسلم قسم النفل بين أهله متفاضلاً على قدر غنائهم وهذا في معناه وروي
عنه أنه لا يجوز التفضيل قال أبو بكر اختار أبو عبد الله أن لا يفضلوا
وهو قول الشافعي لما ذكرنا من فعل أبي بكر رضي الله عنه قال الشافعي
إني رأيت أنه قسم المواريث على العدد يكون الأخوة متفاضلين في الغناء
عن الميت والصلة في الحياة والحفظ بعد الموت فلا يفضلون وقسم رسول الله
صلى الله عليه وسلم أربعة أخماس الغنيمة على العدد ومنهم من يغني غاية
الغناء ويكون الفتح على يديه ومنهم من يكون محضره إما غير نافع وإما
ضرر ابا لجبن والهزيمة وذلك إنهم استووا في سبب الاستحقاق وهو انتصابهم
للجهاد فصاروا كالغانمين، قال شيخنا والصحيح إن شاء الله أن ذلك مفوض
إلى اجتهاد الإمام يفعل ما يراه
من تسوية وتفضيل لما ذكرنا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الأنفال
وهذا في معناه وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه فرض للمهاجرين من أهل
بدر خمسة آلاف خمسة آلاف ولأهل بدر من الأنصار أربعة آلاف أربعة آلاف
وفرض لأهل الحديبية ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف ولاهل الفتح ألفين ألفين.
(فصل) قال القاضي ويتعرف قدر حاجة أهل العطاء وكفايتهم ويزيد ذا الولد
من أجل ولده
(10/552)
وذا الفرس من أجل فرسه وإن كان له عبيد في
مصالح الحرب حسبت مؤنتهم في كفايتهم وإن كانوا لزينة أو تجارة لم تحسب
مؤنتهم وينظر في أسعارهم في بلدانهم لأن أسعار البلاد تختلف والغرض
الكفاية ولهذا تعتبر الذرية والولد فيختلف عطاؤهم لاختلاف ذلك وإن
كانوا سواء في الكفاية لا يفضل بعضهم على بعض وإنما تتفاضل كفايتهم
ويعطون قدر كفايتهم في كل عام مرة وهذا والله أعلم على قول من رأى
التسوية، فأما من رأى التفضيل فإنه يفضل أهل السوابق والغناء في
الإسلام على غيرهم بحسب ما يراه كما فعل عمر رضي الله عنه ولم يقدر ذلك
بالكفاية والعطاء الواجب لا يكون إلا لبالغ يطيق مثله القتال ويكون
عاقلاً حراً بصيراً صحيحاً ليس به مرض يمنعه القتال فإن مرض الصحيح
مرضاً غير مرجو الزوال كالزمانة ونحوها خرج من المقاتلة وسقط سهمه فإن
كان مرضاً مرجو الزوال كالحمى والصداع والبرسام لم يسقط عطاؤه لأنه في
حكم الصحيح ولذلك لا يستنيب في الحج كالصحيح.
(مسألة) (ومن مات بعد حلول وقت العطاء دفع إلى ورثته حقه لأنه مات بعد
الاستحقاق فانتقل حقه إلى وارثه كسائر الموروثات) (مسألة) (ومن مات من
أجناد المسلمين دفع إلى امرأته وأولاده الصغار ما يكفيهم) لان فيه
تطييب قلوب المجاهدين فمتى علموا أن عيالهم يكفون المؤنة بعد موتهم
توفروا على
(10/553)
الجهاد وإذا علموا خلاف ذلك توفروا على
الكسب وآثروه على الجهاد مخافة الضيعة على عيالهم ولهذا قال أبو خالد
الهناي:
لقد زاد الحياة إلي حباً بناتي أنهن من الضعاف مخافة أن يرين الفقر
بعدي وأن يشربن رنقا بعد صافي وأن يعرين إن كسي الجواري فتنبو العين عن
كرم عجاف ولولا ذاك قد سومت مهري وفي الرحمن للضعفاء كافي ومتى تزوجت
المرأة سقط حقها لأنها خرجت عن عيال الميت (مسألة) (فإذا بلغ ذكورهم
فاختاروا أن يكونوا في المقاتلة فرض لهم وإن لم يختاروا تركوا سقط حقهم
من عطاء المقاتلة
(10/554)
(باب الأمان) يصح أمان المسلم المكلف ذكراً
كان أو أنثى حراً أو عبداً مطلقاً أو أسيراً، وفي أمان الصبي المميز
روايتان) وجملة ذلك أن الأمان إذا أعطي أهل الحرب حرم قتلهم ومالهم
والتعرض لهم، ويصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار ذكراً كان أو انثى حرا
أو عبدا وبهذا قال الثوري والشافعي والاوزاعي واسحاق وابن القاسم وأكثر
أهل العلم وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يصح أمان العبد إلا أن يكون مأذوناً له
في القتال لأنه لا يجب عليه الجهاد فلا يصح أمانة كالصبي ولأنه مجلوب
من دار الحرب فلا يؤمن أن ينظر لهم في تقديم مصلحتهم ولنا ما روى علي
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ذمة المسلمين واحدة
يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس
أجمعين لا يقبل منهم صرف ولا عدل) رواه البخاري والعبد إما أن يكون
أدناهم فيصح أمانه بالحديث أو يكون غيره أدنى منه فيصح أمانة بطريق
التنبيه.
وروى فضيل بن يزيد الرقاشي قال جهز عمر بن الخطاب جيشاً فكنت فيهم
فحضرنا موضعاً فرأينا أنا نستفتحها اليوم وجعلنا نقبل ونروح وبقي عبد
منا فراطنهم وراطنوه فكتب لهم الأمان في صحيفة وشدها على سهم ورمى بها
إليهم فأخذوها وخرجوا فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب فقال:
العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم، رواه سعيد ولأنه مسلم مكلف
فصح أمانه كالحر والمرأة، وما ذكروه من التهمة يبطل بما إذا أذن له في
القتال فإنه يصح أمانه وبالمرأة.
(10/555)
(فصل) ويصح أمان المرأة في قول الجميع.
قالت عائشة رضي الله عنها ان كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز وعن
أم هانئ أنها قالت يارسول الله قد أجرت أحمائي وأغلقت عليهم وإن ابن
أمي أراد قتلهم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (قد أجرنا من
أجرت يا أم هانئ إنما يجير على المسلمين أدناهم) رواهما سعيد.
وأجارت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا العاص بن الربيع
فأمضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم (فصل) ويصح أمان الأسير إذا عقده
غير مكره لدخوله في عموم الخبر، ولأنه مسلم مكلف مختار أشبه غير
الأسير، وكذلك يصح أمان الأجير والتاجر في دار الحرب وبهذا قال
الشافعي، وقال الثوري لا يصح أمان أحد منهم ولنا عموم الحديث والقياس.
فأما الصيي المميز ففيه روايتان (إحداهما) لا يصح أمانه وهو قول أبي
حنيفة والشافعي لأنه غير مكلف ولا يلزمه بقوله حكم فلا يلزم غيره
كالمجنون (والثانية) يصح أمانه وهو قول مالك.
قال أبو بكر يصح أمانه رواية واحدة وحمل رواية المنع على غير المكلف
واحتج بعموم الحديث ولأنه مسلم عاقل فصح أمانه كالبالغ بخلاف المجنون
فإنه لا قول له أصلاً (فصل) ولا يصح أمان كافر وإن كان ذمياً لأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) فجعل
الذمة للمسلمين فلا تحصل لغيرهم، ولانه تهم على الإسلام وأهله فأشبه
الحربي ولا يصح أمان مجنون ولا طفل لأن كلامه غير معتبر فلا يثبت به
حكم.
ولا يصح أمان زائل العقل بنوم أو سكر أو إغماء لذلك ولانه لايعرف
المصلحة من غيرها أشبه المجنون.
ولا يصح من مكره لانه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح كالاقرار (مسألة)
(ويصح أمان الإمام لجميع الكفار وآحادهم)
(10/556)
لأن ولايته عامة على المسلمين.
ويصح أمان الأمير لمن جعل باذائه من الكفار فأما في حق
غيرهم فهو كآحاد المسلمين لأن ولايته على قتال أولئك دون غيرهم، ويصح
أمان أحد الرعية للواحد والعشرة والقافلة الصغيرة والحصن الصغير لأن
عمر رضي الله عنه أجاز أمان العبد لأهل الحصن الذي ذكرنا حديثه ولا يصح
امانه لاهل بلدة ورستاق وجمع كثير لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الجهاد
والافتيات على الإمام.
ويصح أمان الإمام للأسير بعد الاستيلاء عليه لأن عمر رضي الله عنه أمن
الهرمزان وهو أسير.
رواه سعيد.
ولأن الأمان دون المن عليه وقد جاز المن عليه.
فأما أحد الرعية فليس له ذلك وهذا مذهب الشافعي وذكر أبو الخطاب أنه
يصح أمانه لأن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أجارت زوجها أبا
العاص بعد أسره فأمضاه النبي صلى الله عليه وسلم وحكي عن الأوزاعي ولنا
أن أمر الأسير مفوض إلى الإمام فلم يجز الافتيات عليه بما يمنعه ذلك
كقتله.
وحديث زينب رضي الله عنها في أمانها إنما صح بإجازة النبي صلى الله
عليه وسلم (فصل) وإذا شهد للأسير اثنان أو أكثر من المسلمين أنهم أمنوه
قبل إذا كانوا بصفة الشهود وقال الشافعي لاتقبل شهادتهم لانهم يشهدون
على فعل أنفسهم ولنا أنهم عدول من المسلمين غير متهمين شهدوا بأمانه
فوجب أن يقبل كما لو شهدوا على غيرهم أنه أمنه وما ذكره لا يصح لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة المرضعة على فعلها في حديث عقبة بن
الحارث فإن شهد واحد: إني أمنته فقال القاضي قياس قول أحمد أنه يقبل
كما لو قال الحاكم بعد عزله كنت حكمت لفلان على فلان بحق فإنه يقبل
قوله وعلى قول أبي الخطاب يصح امانه فقبل خبره لانه كالحاكم
(10/557)
في حال ولايته وهو قول الأوزاعي ويحتمل أن
لا يقبل لأنه ليس له أن يؤمنه في الحال فلم يقبل إقراره به كما لو اقر
بحق على غيره وهذا قول الشافعي (مسألة) (ومن قال لكافر أنت آمن أو لا
بأس عليك أو اجرتك أوقف أو ألق سلاحك أو مترس نفذ أمنه) قد ذكرنا من
يصح امانه وقد ذكرنا ههنا صفة الأمان والذي ورد به الشرع لفظتان أجرتك
وأمنتك قال الله تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) وقال النبي
صلى الله عليه وسلم (قد أجرنا من
أجرت وأمنا من أمنت - وقال - من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) وفي معنى
ذلك قوله (لا تخف لا تذهل لا تخش لاخوف عليك لا بأس عليك) وقد روي عن
عمر أنه قال إذا قلتم لا بأس أو لا تذهل أو مترس فقد أمنتموهم فإن الله
تعالى يعلم الألسنة وروي عن عمر رضي الله عنه انه قال للهرمزان تكلم
ولا بأس عليك فلما تكلم أمر عمر بقتله فقال أنس بن مالك ليس لك إلى ذلك
سبيل قد أمنته قال عمر كلا قال الزبير إنك قد قلت تكلم ولا بأس عليك
فدرأ عنه عمر القتل رواه سعيد وغيره ولا نعلم في هذا كله خلافاً وأما
إن قال له قف أو قم أو ألق سلاحك فقال أصحابنا هو أمان أيضاً لأن
الكافر يعتقد هذا أماناً فأشبه قوله أمنتك وقال الأوزاعي إن ادعى
الكافر أنه أمان وقال
(10/558)
إنما وقفت لذلك فهو آمن وإن لم يدع ذلك فلا
يقبل قال شيخنا ويحتمل أن هذا ليس بأمان لان لفظه لايشعر به وهو يستعمل
للارهاب والتخويف فأشبه قوله لاقتلنك لكن يرجع إلى القائل فإن قال نويت
به الأمان فهو أمان وإن قال لم أرد أمانه نظرنا في الكافر فإن قال
اعتقدته أماناً رد إلى مأمنه ولم يجز قتله وإن لم يعتقده أماناً فليس
بأمان كما لو أشار إليهم بما اعتقدوه أماناً (فصل) فإن أشار إليهم بما
اعتقدوه أماناً وقال أردت به الأمان فهو أمان، وإن قال لم أرد به
الأمان فالقول قوله لأنه أعلم بنيته فإن خرج الكفار من حصنهم بناء على
أن هذه الإشارة أمان لم يجز قتلهم ويردون إلى مأمنهم فقد قال عمر رضي
الله عنه والله لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل
بأمانة فقتله لقتلته به رواه سعيد وإن مات المسلم أو غاب فإنهم يردون
إلى مأمنهم وبهذا قال مالك والشافعي وابن المنذر فإن قيل فكيف صححتم
الأمان بالإشارة مع القدرة على النطق بخلاف البيع والطلاق والعتق؟ قلنا
تغليباً لحقن الدم كما حقن دم من له شبهة كتاب تغليباً لحقن دمه ولان
الكفار في الغالب لا يفهمون كلام المسلمين ولا يفهم المسلمون كلامهم
فدعت الحاجة إلى الاشار بخلاف غيره ومن قال لكافر أنت آمن فرد الأمان
لم ينعقد لأنه إيجاب حق بقد (بعقد) فلم يصح مع الرد كالبيع وإن قبله ثم
رده انتقض لأنه حق له فسقط بإسقاطه كالرق (فصل) إذا سبيت كافرة وجاء
ابنها يطلبها وقال ان عندي أسيراً مسلماً فاطلقوها حتى أحضره
فقال الإمام أحضره فأحضره لزم إطلاقها لأن المفهوم من هذا إجابته إلى
ما سأل فإن قال الامام لم
(10/559)
أراد إجابته لم يجبر على ترك أسيره ورد إلى
مأمنه وقال أصحاب الشافعي يطلق الأسير ولا تطلق المشركة لأن المسلم حر
لا يجوز أن يكون ثمن مملوكة ويقال إن اخترت شراءها فائت بثمنها ولنا أن
هذا يفهم منه الشرط فوجب الوفاء به كما لو صرح به ولأن الكافر فهم منه
ذلك وبنى عليه فأشبه ما لو فهم الأمان من الإشارة وقولهم لا يكون الحر
ثمن مملوكة قلنا لكن يصلح أن يفادى بها فقد فادى النبي صلى الله عليه
وسلم بالأسيرة التي أخذها من سلمة بن الاكوع برجلين من المسلمين وفادى
برجلين من المسلمين بأسير من الكفار ووفي لهم برد من جاء مسلماً وقال
(إنه لا يصلح في ديننا الغدر) وإن كان رد المسلم إليهم ليس بحق لهم،
ولأنه التزم اطلاقها فلزمه ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام (المسلمون
على شروطهم - وقوله - إنه لا يصلح في ديننا الغدر) (مسألة) (ومن جاء
بمشرك فادعى أنه أمنه فأنكره فالقول قوله وعنه القول قول الأسير وعنه
قول من يدل الحال على صدقة) إذا جاء المسلم بمشرك فادعى المشرك أنه
أمنه وادعى المسلم أسره ففيه ثلاث روايات (إحداهن) القول قول المسلم
لأن الأصل إباحة دم الكافر وعدم الأمان (والثانية) القول قول الأسير
لأن صدقة محتمل فيكون ذلك شبهة تمنع قتله وهذا اختيار أبي بكر
(والثالثة) يرجع إلى قول من يدل ظاهر الحال على صدقة فإن كان الكافر ذا
قوة معه سلاحه فالظاهر صدقه وإن كان ضعيفاً مسلوب السلاح فالظاهر كذبه
فلا يلتفت الى قوله وقال أصحاب
(10/560)
الشافعي لا يقبل قوله وإن صدقه المسلم لأنه
لا يقدر على أمانه فلم يقبل إقراره به ولنا أنه كافر لم يثبت أسره ولا
نازعه فيه منازع فقبل قوله في الأمان كالرسول (فصل) ومن طلب الامان
ليسمع كلام الله تعالى ويعرف شرائع الاسلام لزمه اجابتهم ثم يرد إلى
مأمنه لا نعلم فيه خلافاً وبه قال قتادة ومكحول والاوزاعي والشافعي
وكتب بذلك عمر بن عبد العزيز إلى الناس لقول الله تعالى (وإن أحد من
المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام
الله ثم أبلغه مأمنه) قال الأوزاعي هي إلى يوم القيامة (مسألة) (ومن
أعطي أماناً ليفتح حصناً ففتحه واشتبه علينا حرم قتلهم واسترقاقهم) .
إذا حصر المسلمون حصناً فناداهم رجل أمنوني افتح لكم الحصن جاز أن
يعطوه أماناً فإن زياد بن لبيد لما حصر النحير قال الأشعث بن قيس
أعطوني الأمان لعشرة افتح لكم الحصن ففعلوا فإن أشكل عليهم وادعى كل
واحد من الحصن أنه الذي أمنوه لم يجز قتل واحد منهم، لأن كل واحد منهم
يحتمل صدقه وقد اشتبه المباح بالمحرم فيما لاضرورة إليه فحرم الكل كما
لو اشتبهت ميته بمذكاة وأخته بأجنبيات أو زان محصن بمعصومين، وبهذا قال
الشافعي ولا نعلم فيه خلافا ويحرم استرقاقهم أيضاً في أحد الوجهين وذكر
القاضي أن أحمد نص عليه وهو مذهب الشافعي لما ذكرنا في تحريم
(10/561)
القتل فإن استرقاق من لا يحل استرقاقه محرم
(والوجه الثاني) يقرع فيخرج صاحب الأمان بالقرعة ويسترق الباقون، قاله
أبو بكر لأن الحق لواحد منهم غير معلوم فأخرج بالقرعة كما لو أعتق
عبداً من عبيده وأشكل ويخالف القتل فإنه إراقة دم يندرئ بالشبهات بخلاف
الرق، ولهذا يمتنع القتل في النساء والصبيان دون الاسترقاق، وقال
الأوزاعي إذا أسلم واحد من أهل الحصن قبل فتحه أشرف علينا ثم أشكل
فادعى كل واحد منهم أنه الذي أسلم سعى كل واحد منهم في قيمة نفسه ويترك
له عشر قيمته وقياس المذهب أن فيها وجهين كالتي قبلها.
(فصل) قال أحمد إذا قال الرجل كف عني حتى أدلك على كذا فبعث معه قوماً
ليدلهم فامتنع من الدلالة فلهم ضرب عنقه لأن أمانه بشرط ولم يوجد.
قال أحمد إذا لقي علجاً وطلب منه الأمان فلا يؤمنه لأنه يخاف شره وإن
كانوا سرية فلهم أمانه يعني أن السرية لا يخافون من غدر العلج بخلاف
الواحد وإن لقيت السرية اعلاجا فادعوا أنهم جاءوا مستأمنين فإن كان
معهم سلاح لم يقبل منهم لأن حملهم السلاح يدل على محاربتهم وإن لم يكن
معهم سلاح قبل قوله لأنه دليل على صدقهم.
(مسألة) (ويجوز عقد الأمان للرسول والمستأمن ويقيمون مدة الهدنة بغير
جزية وعند أبي
الخطاب لا يقيمون سنة إلا بجزية) .
(10/562)
يجوز عقد الأمان للرسول والمستأمن، لأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمن رسل المشركين ولما جاءه رسولا
مسليمة (مسيلمة) قال لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما ولأن الحاجة تدعو
إلى ذلك لأننا لو قتلنا رسلهم لقتلوا رسلنا فتفوت مصلحة المراسلة ويجوز
عقد الأمان لكل واحد منهما مطلقاً ومقيداً بمدة سواء كانت طويلة أو
قصيرة بخلاف الهدنة فإنها لا تجوز إلا مقيدة لأن في جوازها مطلقة ترك
للجهاد وهذا بخلافه ويجوز أن يقيموا مدة الهدنة بغير جزية، ذكره
القاضي، قال أبو بكر هذا ظاهر كلام أحمد.
وقال أبو الخطاب عندي أنه لا يجوز أن يقيم سنة بغير جزية وهو قول
الأوزاعي والشافعي لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون) ووجه الأول أنه كافر أبيح له الاقامة في دار الإسلام من غير
التزام جزية فلم يلزمه كالنساء والصبيان ولأن الرسول لو كان مما لا
يجوز أخذ الجزية منه لاستوى في حقه السنة وما دونها في أن الجزية لا
تؤخذ منه في المدتين فإذا جازت له الإقامة في إحداهما جازت في الأخرى
قياساً لها عليها وقوله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهو صاغرون) أي
يلتزمونها ولم يرد حقيقة الإعطاء وهذا مخصوص منها بالاتفاق فإنه تجوز
له الإقامة من غير التزام لها ولأن الآية تخصصت بما دون الحول فنقيس
على المحل المخصوص.
(10/563)
(مسألة) (ومن دخل دار الإسلام بغير أمان
وادعى أنه رسول أو تاجر معه متاع يبيعه قبل منه) .
إذا دخل حربي دار الإسلام بغير أمان وادعى أنه رسول قبل منه ولم يجز
التعرض له لقول النبي صلى الله عليه وسلم لرسولي مسيلمة (لولا أن الرسل
لا تقتل لقتلتكما) ولأن العادة جارية بذلك وإن ادعى أنه تاجر وقد جرت
العادة بدخول تجارهم إلينا لم يعرض له إذا كان معه ما يبيعه لأنهم
دخلوا يعتقدون الامان أشبه مالو دخلوا بإشارة مسلم.
قال أحمد إذا ركب القوم في البحر فاستقبلهم فيه تجار مشركون من أرض
العدو ويريدون بلاد الاسلام لم يعرضوا لهم ولم يقاتلوهم وكل من دخل
بلاد المسلمين من أرض الحرب بتجارة بويع ولم يسأل عن شئ وإن لم يكن معه
تجارة فقال جئت مستأمنا لم يقبل منه وكان الإمام فيه مخيراً ونحو هذا
قول الاوزاعي والشافعي وكذلك إن كان جاسوساً لأنه حربي أخذ بغير أمان
فأشبه المأخوذ في حال الحرب وإن كان ممن ضل الطريق أو حملته الريح في
مركب إلينا فهو لمن أخذه في إحدى الروايتين لأنه أخذ بغير قتال في دار
الإسلام فكان لآخذه كالصيد والحشيش والأخرى يكون فيئاً للمسلمين لأنه
أخذ بغير قتال أشبه مالو أخذ في دار الحرب، وقد روي عن أحمد رحمه الله
أنه سئل عن الدابة تخرج من بلد الروم أو تنفلت فتدخل القرية وعن القوم
يضلون عن الطريق فيدخلون القرية من
(10/564)
قرى المسلمين فيأخذونهم فقال يكون لأهل
القرية كلهم وسئل عن مركب بعث به ملك الروم وفيه رجاله فطرحته الريح
إلى طرسوس فخرج إليه أهل طرسوس فقتلوا الرجالة واخذوا الأموال فقال هذا
فيئ للمسلمين مما أفاء الله عليهم، وقال الزهري هو غنيمة وفيه الخمس.
(فصل) ومن دخل دار الحرب رسولاً أو تاجراً بأمانهم فخيانتهم محرمة عليه
لانهم إنما أعطوه الأمان مشروطاً بترك خيانتهم وأمنه إياهم من نفسه وإن
لم يكن ذلك مذكوراً في اللفظ فهو معلوم في المعنى وكذلك من جاءنا منهم
بأمان فخاننا فهو ناقض لأمانه ولأن خيانتهم غدر ولا يصلح في ديننا
الغدر فإن خانهم أو سرق منهم أو اقترض شيئاً وجب عليه رد ما أخذ إلى
أربابه فإن جاء أربابه إلى دار الإسلام بأمان أو إيمان رده إليهم وإلا
بعث به إليهم لأنه أخذه على وجه يحرم عليه أخذه فلزمه رده كما لو أخذه
من مال مسلم.
(مسألة) (وإذا أودع المستأمن ماله مسلماً أو أقرضه إياه ثم عاد إلى دار
الحرب بقي الأمان في ماله يبعث إليه إن طلبه) وجملة ذك (ذلك) أن من دخل
من أهل الحرب إلى دار الإسلام بأمان فأودع ماله مسلماً أو ذمياً أو
أقرضهما إياه ثم عاد إلى دار الحرب لحاجة يقضيها أو رسولاً ثم يعود إلى
دار الاسلام فهو على أمانه في
نفسه وماله لأنه لم يخرج بذلك عن نية الإقامة بدار الإسلام فأشبه الذمي
إذا دخل لذلك، وإن دخل مستوطناً
(10/565)
أو محارباً بطل الأمان في نفسه وبقي في
ماله لأنه بدخوله دار الإسلام بأمان ثبت الأمان لماله الذي معه تبعاً
فإذا بطل في نفسه بدخوله دار الحرب بقي في ماله لاختصاص المبطل في نفسه
فيختص البطلان به، فإن قيل إنما يثبت الأمان لماله تبعاً فإذا بطل في
المتبوع بطل في التبع قلنا بل يثبت له الامان لمعنى وجد فيه وهو إدخاله
معه وهذا يقتضي ثبوت الأمان له وإن لم يثبت في نفسه بدليل مالو بعثه مع
مضارب له أو وكيل فإنه يثبت له الأمان وإن لم يثبت في نفسه ولم يوجد
فيه ههنا ما يقتضي نقض الأمان فيه فبقي على ما كان عليه فإن أخذه معه
إلى دار الحرب انتقض الأمان فيه كما انتقض في نفسه لوجود المبطل فيهما.
إذا ثبت هذا فإذا طلبه صاحبه بعث إليه وإن تصرف فيه ببيع أو هبة أو
نحوهما صح تصرفه لأنه ملكه وإن مات في دار الحرب انتقل المال إلى وارثه
ولم يبطل الأمان فيه، وقال أبو حنيفة يبطل وهو قول الشافعي لأنه قد صار
لوارثه ولم يعقد فيه أماناً فوجب أن يبطل فيه كسائر أمواله ولنا أن
الأمان حق واجب لازم متعلق بالمال فإذا انتقل إلى الوارث انتقل بحقه
كسائر الحقوق من الرهن والضمين والشفعة وهذا اختيار المزني ولأنه مال
له أمان فينقل إلى وارثه مع بقاء الأمان فيه كالمال الذي مع مضاربه وإن
لم يكن له وارث صار فيئاً لبيت المال كمال الذمي إذا مات وليس له وارث
فإن كان له وارث في دار الإسلام لم يرثه ذكره القاضي لاختلاف الدارين
والأولى أنه يرثه
(10/566)
لأن ملتهما واحدة فورثه كالمسلمين فإن مات
المستأمن في دار الإسلام فهو كموته في دار الحرب سواء لأن المستأمن
حربي تجري عليه أحكامهم وإن رجع إلى دار الحرب فسبي واسترق فقال القاضي
يكون أمره موقوفاً حتى يعلم آخر أمره فإن مات كان فيئاً لأن الرقيق لا
يورث وإن عتق كان له وإن لم يسترق ولكن من عليه الإمام أو فاداه فماله
له وإن قتله فماله لورثته كما لو مات إن لم يسب لكن دخل دار الإسلام
بغير أمان ليأخذ ماله جاز قتله وسبيه لأن ثبوت الأمان لماله لا يثبت
الأمان لنفسه كما لو كان ماله وديعة بدار الإسلام وهو مقيم بدار الحرب
(فصل) وإن أخذ المسلم من الحربي في دار الحرب مالاً مضاربه أو وديعة
ودخل به دار الاسلام فهو في أمان حكمه حكم ما ذكرنا وإن أخذه ببيع في
الذمة أو قرض فالثمن في ذمته عليه أداؤه إليه وإن اقترض حربي من حربي
مالاً ثم دخل الينا فأسلم فعليه رد البدل لأنه أخذه على سبيل المعاوضة
فأشبه ما لو تزوج حربية ثم أسلم لزمه مهرها (فصل) وإذا سرق المستأمن في
دار الإسلام أو قتل أو غصب ثم عاد إلى دار الحرب ثم خرج مستأمناً مرة
ثانية استوفي منه ما لزمه في أمانه الأول كما لو لم يدخل دار الحرب وإن
اشترى عبداً مسلماً فخرج به إلى دار الحرب ثم قدر عليه لم يغنم لأنه لم
يثبت ملكه عليه لكون الشراء باطلاً
(10/567)
ويرد بائعه الثمن إلى الحرب لأنه حصل في
أمان فإن كان العبد تالفاً فعلى الحربي قيمته ويترادان الفضل (فصل)
وإذا دخلت الحربية إلينا بأمان فتزوجت ذمياً في دارناً ثم أرادت الرجوع
لم تمنع إذا رضي زوجها أو فارقها وقال أبو حنيفة تمنع ولنا أنه عقد لا
يلزم الرجل به المقام فلا يلزم المرأة كعقد الاجارة (مسألة) (وإذا أسر
الكفار مسلماً فأطلقوه بشرط أن يقيم عندهم مدة لزمه الوفاء لهم ولم يكن
له أن يهرب) نص عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمنون عند
شروطهم) وقال الشافعي لا يلزمه، وإن أطلقوه وأمنوه صاروا في أمان منه
لأن أمانهم له يقتضي سلامتهم منه فإن أمكنه المضي إلى دار الإسلام لزمه
وإن تعذر عليه أقام وكان حكمه حكم من أسلم في دار الحرب فإن خرج
فأدركوه وتبعوه قاتلهم وبطل الأمان لأنهم طلبوا منه الأمان وهو معصية
(مسألة) (فإن لم يشترطوا شيئاً أو شرطوا كونه رقيقاً فله أن يقتل ويسرق
ويهرب) أما إذا أطلقوه ولم يؤمنوه فله أن يأخذ منهم ما قدر عليه ويسرق
ويهرب لم يؤمنهم ولم يؤمنوه وكذلك إن شرطوا كونه رقيقاً فرضي بذلك أولم
يرض لأن كونه رقيقاً حكم شرعي لا يثبت عليه بقوله ولو ثبت لم يقتض
أماناً له منهم ولا لهم منه وهذا مذهب الشافعي وإن أحلفوه على ذلك وكان
مكرهاً لم تنعقد يمينه وإن كان مختاراً انعقدت يمينه ويحتمل أن تلزمه
الإقامة إذا قلنا يلزمه
الرجوع إليهم على ما نذكره في المسألة التي بعدها وهو قول الليث
(10/568)
(مسألة) (وإن أطلقوه بشرط أن يبعث إليهم
مالاً وإن عجز عنه عاد إليهم لزمه الوفاء لهم إلا أن تكون امرأة فلا
ترجع إليهم وقال الخرقي لا يرجع الرجل أيضاً) وجملة ذلك أن الأسير إذا
أطلقه الكفار وشرطوا عليه أن يبعث إليهم بفدائه أو يعود إليهم واحلفوه
فإن كان مكرهاً لم يلزمه الوفاء لهم برجوع ولا فداء لقول النبي صلى
الله عليه وسلم (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهو عليه، وإن لم
يكره وقدر على الفداء الذي شرط على نفسه لزمه أداؤه وبه قال الحسن
وعطاء والزهري والنخعي والثوري والاوزاعي ونص الشافعي على أنه لا يلزمه
لأنه حر لا يستحقون بدله ولنا قول الله تعالى (وأوفو بعهد الله إذا
عاهدتم) ولما صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية على رد من
جاءه مسلما وفي لهم وقال (إنا لا يصلح في ديننا الغدر) ولأن في الوفاء
مصلحة للأسارى وفي الغدر مفسدة في حقهم لأنهم لا يأمنون بعده والحاجة
داعية إليه فلزمه الوفاء كما يلزمه الوفاء بعقد الهدنة ولأنه عاهدهم
على أداء مال فلزمه الوفاء لهم كثمن المبيع والمشروط في عقد الهدنة في
موضع يجوز شرطه فإن عجز عن الفداء وكانت امرأة لم ترجع إليهم ولم يحل
لها ذلك لقول الله تعالى (فلا ترجعونهن إلى الكفار) ولأن في رجوعها
تسليطاً لهم على وطئها حراماً وقد منع الله رسوله رد النساء إلى الكفار
(10/569)
بعد صلحه على ردهن في قضية الحديبية وفيها
فجاء نسوة مؤمنات فنهاهم الله أن يردوهن رواه أبو دواد وغيره وإن كان
المفادى رجلا فقيه روايتان (إحداهما) لا يرجع اختاره الخرقي وهو قول
الحسن والنخعي والثوري والشافعي لأن الرجوع إليهم معصية فلم يلزم
بالشرط كما لو كان امرأة وكما لو شرط قتل مسلم أو شرب الخمر (والثانية)
يلزمه وهو قول عثمان والزهري والاوزاعي لما ذكرنا في بعث الفداء ولأن
النبي صلى الله عليه وسلم عاهد قريشاً على رد من جاءه مسلما فرد أبا
بصير وأبا جندل وقال (إنا لا يصلح في ديننا الغدر) وفارق
رد المرأة فإن الله تعالى فرق بينهما في هذا الحكم حين صالح النبي صلى
الله عليه وسلم قريشاً على رد من جاءه منهم مسلماً فأمضى الله سبحانه
ذلك في الرجال ونسخه في النساء وسنذكر الفرق بينهما في هذا الباب الذي
بعده انشاء الله تعالى (فصل) فإن اشترى الأسير شيئاً مختاراً أو اقترضه
فالعقد صحيح ويلزمه الوفاء لهم لأنه عقد معاوضة فأشبه مالو فعله غير
الأسير وإن كان مكرهاً لم يصح وإن أكرهوه على قبضه لم يضمنه ولكن عليه
رده إليهم إن كان باقيا لأنهم دفعوه إليه بحكم العقد وإن قبضه باختياره
ضمنه لأنه قبضه باختياره عن عقد فاسد وإن باعه والعين قائمة لزمه ردها
وإن عدمت رد قيمتها (فصل) وإذا اشترى المسلم أسيرا من أيدي العدو فإن
كان بإذنه لزمه أن يؤدي إلى الذي اشتراه ما أداه فيه بغير خلاف علمناه
لأنه إذا أذن فيه كان نائبه في شراء نفسه فكان الثمن على الآمر
كالوكيل، وإن كان بغير إذنه لزم الأسير الثمن أيضاً وبه قال الحسن
والزهري والنخعي
(10/570)
ومالك والاوزاعي، وقال الثوري والشافعي
وابن المنذر لا يلزمه لأنه تبرع بما لا يلزمه ولم يؤذن له فيه أشبه ما
لو عمر داره ولنا ما روى سعيد بن عثمان بن مطر ثنا أبو جرير عن الشبعي
(الشعبي) قال أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب فأصابوا سبايا العرب
فكتب السائب بن الأكوع إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم فكتب
عمر: أيما رجل أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره، وإن أصابه
في أيدي التجار بعد ما قسم فلا سبيل إليه.
وأيما حر اشتراه التجار فإنه يرد إليهم رؤوس أموالهم فإن الحر لا يباع
ولا يشترى.
فحكم للتجار برؤوس أموالهم، ولأن الأسير يجب عليه فداء نفسه ليتخلص من
حكم الكفار فإذا ناب عنه غيره في ذلك وجب عليه قضاؤه كما لو قضى الحاكم
عنه حقاً امتنع من أدائه، فعلى هذا إذا اختلفا في قدر الثمن فالقول قول
الأسير وهو قول الشافعي إذا أذن له، وقال الأوزاعي القول قول المشتري
لأنهما اختلفا في فعله وهو أعلم به ولنا ان الأسير منكر للزيادة والقول
قول المنكر ولأن الأصل براءة ذمته من الزيادة فيرجح قوله بالأصل
(فصل) ويجب فداء أسير المسلمين إذا أمكن وبه قال عمر بن عبد العزيز
ومالك وإسحاق.
ويروى عن ابن الزبير أنه سأل الحسن بن علي رضي الله عنهما على من فكاك
الأسير؟ قال على الأرض التي يقاتل عليها وقد قال النبي صلى الله عليه
وسلم (أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني)
(10/571)
وروى سعيد بإسناده عن حبان بن أبي جبلة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن على المسلمين في فيئهم أن يفادوا
أسيرهم ويؤدوا عن غارمهم) وفادي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من
المسلمين بالرجل الذي أخذه من بني عقيل، وفادى بالمرأة التي استوهب من
سلمة بن الاكوع رجلين.
ويجب فداء أسير أهل الذمة سواء كانوا في معونتنا أو لا هذا ظاهر كلام
الخرقي وهو قول عمر بن عبد العزيز والليث لأننا التزمنا حفظهم
بمعاهدتهم وأخذ جزيتهم فلزمنا المدافعة من ورائهم والقيام دونهم فإذا
عجزنا عن ذلك وأمكننا تخليصهم لزمنا ذلك كمن يحرم عليه إتلاف شئ فإذا
أتلفه ضمن غرمه وقال القاضي إنما يجب فداؤهم إذا استعان بهم الامام في
قتالهم فسبوا وجب عليه ذلك لأن أسرهم كان لمعنى من جهته وهو المنصوص عن
أحمد، ومتى وجب فداؤهم فإنه يبدأ بفداء المسلمين قبلهم لأن حرمة المسلم
أعظم والخوف عليه أشد وهو معرض لفتنته عن دينه الحق بخلاف أهل الذمة
(10/572)
(باب الهدنة) ومعناها أن يعقد الإمام أو
نائبه عقداً على ترك القتال مدة بعوض وبغير عوض ويسمى مهادنة وموادعة
ومعاهدة وهي جائزة لقوله تعالى (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم
من المشركين) وقوله تعالى (فإن جنحوا للسلم فاجنح لها) وروى مروان
والمسور بن مخرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح سهيل بن عمرو على
وضع القتال عشر سنين، ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف فيهادنهم حتى يقوى
المسلمون، وإنما تجوز للنظر للمسلمين أما لضعفهم عن القتال أو للطمع في
إسلامهم بهدنتهم أو في أدائهم الجزية أو غير ذلك من المصالح، وتجوز على
غير مال لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح يوم الحديبية على غير مال،
وتجوز على مال يأخذه منهم فإنها إذا جازت على غير مال فعلى مال أولى،
فأما إن
صالحهم على ما يبذله لهم فقد أطلق أحمد القول بالمنع منه وهو مذهب
الشافعي لأن فيه صغاراً للمسلمين قال شيخنا وهذا محمول على غير حال
الضرورة مثل أن يخاف على المسلمين الهلاك والاسر فيحوز لأنه يجوز
للأسير فداء نفسه بالمال كذا هذا.
ولأن بذل المال وإن كان صغارا ًفإنه يجوز تحمله لدفع صغار أعظم منه وهو
القتل والأسر وسبي الذرية الذين يفضي سبيهم إلى كفرهم
(10/573)
وقد روى عبد الرزاق في المغازي عن الزهري
قال أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبينة بن حصن وهو مع أبي
سفيان يعني يوم الأحزاب (أرأيت إن جعلت لك ثلث ثمر الأنصار أترجع بمن
معك من غطفان وتخذل بين الأحزاب؟) فأرسل إليه عبينة إن جعلت لي الشطر
فعلت قال فحدثني ابن أبي نجيح أن سعد بن معاذ وسعد بن عبادة قالا يا
رسول الله والله لقد كان يجر سرمه في الجاهلية في عام السنة حول
المدينة ما يطيق أن يدخلها فالآن حين جاء الله بالإسلام نعطيهم ذلك؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (فنعم إذا) ولولا أن ذلك جائز لما بذله
النبي صلى الله عليه وسلم (مسألة) (ولا يجوز عقد الهدنة إلا من الإمام
أو نائبه) لأنه عقد مع جملة الكفار وليس ذلك لغيره ولأنه يتعلق بنظر
الإمام وما يراد من المصلحة على ما قدمنا، ولأن تجويزه لغير الإمام
يتضمن تعطيل الجهاد بالكلية أو إلى تلك الناحية وفيه إفتيات على
الإمام، فإن هادنهم غير الإمام أو نائبه لم يصح، فإن دخل بعضم دار
الإسلام بهذا الصلح كان آمناً لأنه دخل معتقداً للأمان ويرد إلى دار
الحرب ولا يقر في دار الإسلام لأن الأمان لم يصح، وإن عقد الإمام
الهدنة ثم مات أو عزل لم ينتقض عهده وعلى من بعده الوفاء به لان الإمام
عقده باجتهاده فلم يجز نقضه اجتهاد غيره كما لا يجوز للحاكم نقض أحكام
من قبله باجتهاده، وإذا عقد الهدنة لزمه الوفاء بها لقول الله تعالى
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وقال تعالى (فأتموا إليهم عهدهم
إلى
(10/574)
مدتهم) ولأنه إذا لم يف بها لم يسكن إلى
عهده وقد يحتاج إلى عقدها (فصل) فان نقضوا العهد بقتال أو مظاهرة أو
قتل مسلم أو أخذ مال انتقض عهدهم لأن
الهدنة تقتضي الكف فانتقضت بتركه ولا يحتاج في نقضها إلى حكم الإمام
لأنه إنما يحتاج إلى حكمه في أمر محتمل وفعلهم لا يحتمل غير نقض العهد
وإذا انتقض جاز قتالهم لقول الله تعالى (وإن نكثوا أيمانهم من بعد
عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر) الآيتين.
وقال تعالى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ولما نقضت قريش عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم سار إليهم وقاتلهم وفتح مكة، وإن نقض بعضهم
دون بعض فسكت باقيهم عن الناقض ولم يوجد منهم انكار ولا مراسلة الإمام
ولا تبرؤ فالكل ناقضون لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما هادن قريشاً
دخلت خزاعة في حلف النبي صلى الله عليه وسلم وبنو بكر في حلف قريش فعدت
بنو بكر على خزاعة وأعانهم بعض قريش وسكت الباقون فكان ذلك نقص عهدهم
وسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلهم ولأن سكوتهم يدل على
رضاهم كما أن عقد الهدنة مع بعضهم يدخل فيه جميعهم لدلالة سكوتهم على
رضاهم كذلك في النقض، فإن أنكر من لم ينقض على الباقين بقول أو فعل
ظاهر أو اعتزال أو راسل الإمام بأني منكر لما فعله الناقض مقيم على
العهد لم ينتقض في حقه ويأمره الإمام بالتمييز ليأخذ الناقض وحده فإن
امتنع من التميز أو إسلام الناقض صار ناقضاً لأنه منع من أخذ الناقض
فصار بمنزلته، وإن
(10/575)
لم يمكنه التميز لم ينتقض عهده لأنه
كالأسير.
فإن أسر الإمام منهم قوماً فادعى الأسير أنه لم ينقض وأشكل ذلك عليه
قبل قول الأسير لأنه لا يتوصل إلى ذلك إلا من قبله (مسألة) (فمتى رأى
المصلحة جاز له عقدها مدة معلومة وإن طالت وعنه لا يجوز في زيادة على
العشر فإن زاد على عشر بطل في الزيادة وفي العشر وجهان) إذا رأى الإمام
المصلحة في عقد الهدنة جاز عقدها لما ذكرنا من أن النبي صلى الله عليه
وسلم هادن قريشاً ولا يجوز عقدها إذا لم يرى المصلحة فيه لأنه يتصرف
لهم على وجه النظر أشبه ولى اليتيم ولايجوز عقدها إلا على مدة معلومة
لأن مهادنتهم مطلقاً تفضي إلى تعطيل الجهاد بالكلية لكونها تقتضي
التأييد فلم يجز ذلك وتجوز على المدة القصيرة والطويلة على حسب ما يراه
الإمام من المصلحة في إحدى الروايتين وبهذا قال أبو حنيفة لأنه عقد
يجوز في العشر فجاز في الزيادة عليها كعقد الإجارة (والرواية
الثانية) لا يجوز على أكثر من عشر سنين قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد
واختاره أبو بكر وهو مذهب الشافعي لأن قوله تعالى (اقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم) عام خص منه مدة العشر لمصالحة النبي صلى الله عليه وسلم
قريشاً يوم الحديبية عشراً فما زاد يبقى على مقتضى العموم فعلى هذا إن
زاد على العشر يبطل في الزيادة وهل يبطل في العشر؟ على وجهين بناء على
تفريق الصفقة وكذلك إن هادنهم أكثر من قدر الحاجة
(10/576)
(مسألة) (وإن هادنهم مطلقاً لم يصح) لأن
ذلك يقتضي التأبيد فيفضي إلى ترك الجهاد بالكلية وذلك لا يجوز (مسألة)
(وإن شرط فيها شرطاً فاسداً كنقضها متى شاء أو رد النساء إليهم أو
صداقهن أو سلاحهم أو ادخالهم الحرم لم يصح الشرط وفي العقد وجهان)
الشروط في عقد الهدنة تنقسم قسمين صحيح وفاسد فالفاسد مثل أن يشترط
نقضها لمن شاء منهما فلا يصح ذلك لأنه يفضي الى ضد المقصود منها وإن
قال هادنتكم ما شئتم لم يصح لأنه جعل الكفار متحكمين على المسلمين، وإن
قال ما شئنا أو شاء فلان أو شرط ذلك لنفسه دونهم لم يجز أيضاً ذكره أبو
بكر لأنه ينافي مقتضى العقد فلم يصح كما لو شرط ذلك في البيع والنكاح
وقال القاضي يصح وهذا قول الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح
أهل خيبر على أن يقرهم ما أقرهم الله تعالى ولنا أنه عقد لازم فلم يجز
اشتراط نقضه كسائر العقود اللازمه ولم يكن بين النبي صلى الله عليه
وسلم وبين أهل خيبر هدنة فإنه فتحها عنوة وإنما ساقاهم وقال لهم ذلك
وإنما يدل ذلك على جواز المساقاة وليس هو بهدنة اتفاقاً، وقد واقفوا
الجماعة في أنه لو شرط في عقد الهدنة إني أقركم ما أقركم الله لم يصح
فكيف يصح منهم الاحتجاج به مع الإجماع على أنه لا يجوز اشتراط؟ وكذلك
إن شرط رد النساء المسلمات إليهم
(10/577)
أو مهورهن أو رد سلاحهم أو إعطائهم شيئاً
من سلاحنا أو من آلة الحرب أو يشرط لهم مالا في موضع لا يجوز بذله أو
يشترط رد الصبيان أو رد الرجال مع عدم الحاجة إليه فهذه كلها شروط
فاسدة
وكذلك إن شرط ادخالهم الحرم لقول الله تعالى (إنما المشركون نجس فلا
يقربو المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ولا يجوز الوفاء بشئ من هذه الشروط
وإنما لم يصح شرط رد النساء المسلمات لقول الله تعالى (يا أيها الذين
آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنونهن الله أعلم بإيمانهن فإن
علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) وقال النبي صلى الله عليه
وسلم (إن الله منع الصلح في النساء) وتفارق المرأة الرجل من ثلاثة أوجه
(أحدها) أنها لا تأمن أن تزوج كافراً يستحلها أو يكرهها من ينالها
واليه أشار الله سبحانه بقوله (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن)
(الثاني) إنها ربما فتنت عن دينها لأنها أضعف قلباً وأقل معرفة من
الرجل (الثالث) أن المرأة لا يمكنها الهرب عادة بخلاف الرجل ولا يجوز
رد الصبيان العقلاء إذا جاءوا مسلمين لانهم بمنزلة المرأة في ضعف العقل
والمعرفة والعجز عن التخلص والهرب، فأما الطفل الذي لا يصح اسلامه
فيجوز شرط رده لأنه ليس بمسلم وهل يفسد العقد بالشروط الفاسدة؟ على
وجهين بناء على الشروط الفاسدة في البيع إلا فيما إذا شرط أن لكل واحد
منهما نقضها متى شاء فينبغي أن لا يصح العقد وجهاً واحداً لأن طائفة
الكفار يبنون على هذا الشرط فلا يحصل الأمن منهم ولا أمنهم
(10/578)
منا فيفوت معنى الهدنة ومتى وقع العقد
باطلا فدخل بعض الكفار دار الإسلام معتقداً للأمان كان آمناً لأنه دخل
بناء على العقد ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الإسلام لأن الأمان
لم يصح (فصل) وإذا عقد الهدنة من غير شرط فجاءنا منهم إنسان مسلماً أو
بأمان لم يجب رده إليهم ولم يجز ذلك سواء كان حرا أو عبدا أو رجلاً أو
امرأة ولا يجب رد مهر المرأة، وقال أصحاب الشافعي إن خرج العبد إلينا
لم يصر حراً لأنهم في أمان منا والهدنة تمنع من جواز القهر وقال
الشافعي في قول له: إذا جاءت امرأة مسلمة وجب رد مهرها لقول الله تعالى
(وآتوهم ما أنفقوا) يعني رد المهر إلى زوجها إذا جاء يطلبها وإن جاء
غيره لم يرد اليه شئ ولنا أنه من غير أهل دار الإسلام خرج إلينا فلم
يجب رده ولا رد شئ عنه كالحر من الرجال
وكالعبد إذا خرج ثم أسلم، قولهم إنهم في أمان منا.
قلنا إنما أمناهم ممن هو في دار الإسلام الذين هم في قبضة الامام فأما
من هو في دارهم ومن ليس في قبضته فلا يمنع منه بدليل ما لو خرج العبد
قبل إسلامه ولهذا لما قتل أبو بصير الرجل الذي جاء ليرده لم ينكره
النبي صلى الله عليه وسلم ولم يضمنه ولما انفرد هو وأبو جندل وأصحابهما
عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية فقطعوا الطريق عليهم
وقتلوا من قتلوا منهم واخذوا المال لم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه
وسلم ولم يأمرهم برد ما أخذوه ولا غرامه ما أتلفوه وهذا الذي أسلم كان
في دارهم وقبضتهم وقهرهم على نفسه فصار حراً كما لو أسلم بعد خروجه
وأما المرأة فلا يجب رد مهرها لأنها لم تأخذ منهم شيئاً ولو أخذته كانت
قد قهرتهم عليه في
(10/579)
دار القهر، ولو وجب عليها عوضه لوجب مهر
المثل دون المسمى، وأما الآية فقد قال قتادة نسخ رد المهر، وقال عطاء
والزهري والثوري لا يعمل بها اليوم، وعلى أن الآية إنما نزلت في قضية
الحديبية حين كان النبي صلى الله عليه وسلم شرط رد من جاءه مسلما، فلما
منع الله رد النساء وجب رد مهورهن، وكلامنا فيما إذا وقع الصلح من غير
شرط فليس هو في معنى ما تناوله الأمر، وإن وقع الكلام فيما إذا شرط رد
النساء لم يصح أيضاً لأن الشرط الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم شرطه
كان صحيحاً وقد نسخ فإذا شرط الآن كان باطلاً ولا يجوز قياسه على
الصحيح والالحاق به.
(مسألة) (وإن شرط رد من جاء من الرجال مسلماً جاز ولا يمنعهم أخذه ولا
يجبره على ذلك وله أن يأمرهم بقتالهم والفرار منهم) .
قد ذكر قسم الشروط الفاسدة والشروط الصحيحة مثل أن يشترط عليهم مالاً
أو معونة المسلمين عند حاجتهم إليهم أو يشترط رد من جاء من الرجال
مسلماً أو بأمان فهذا صحيح وقال أصحاب الشافعي لا يصح شرط رد المسلم
إلا أن تكون له عشيرة تحميه وتمنعه ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم
شرط ذلك في صلح الحديبية ووفى لهم به فرد أبا جندل وأبا بصير ولم يخص
بالشرط ذا العشيرة ولأن ذا العشيرة إذا كانت عشيرته هي التي تفتنه
وتؤذيه فهو كمن لا عشيرة له لكن إنما يجوز هذا الشرط عند شدة الحاجة
إليه وتعين المصلحة فيه ومتى شرط لهم ذلك لزم الوفاء به
بمعنى أنهم إذا جاءوا في طلبه لم يمنعهم أخذه ولا يجبره عل المضي معهم،
وله أن يأمره سراً بالهرب.
(10/580)
منهم ومقاتلتهم فان أبا بصير لما جاء النبي
صلى الله عليه وسلم وجاء الكفار في طلبه قال له النبي صلى الله عليه
وسلم (إنا لا يصلح في ديننا الغدر وقد علمت ما عاهدناهم عليه ولعل الله
أن يجعل لك فرجاً ومخرجاً) فلما رجع مع الرجلين قتل أحدهما في طريقه ثم
رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول قد أوفى الله ذمتك قد
رددتني إليهم وأنجاني الله منهم فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه
وسلم ولم يلمه بل قال (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال) فلما سمع ذلك
أبو بصير لحق بساحل البحر وأنحاز إليه أبو جندل بن سهيل ومن معه من
المستضعفين بمكة، فجعلوا لا تمر عير لقريش إلا عرضوا لها فأخذوها
وقتلوا من معها، فارسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله
والرحم ان يضمهم إليه ولا يرد إليهم أحداً جاءه ففعل، فيجوز حينئذ لمن
أسلم من الكفار أن يتحيزوا ناحية ويقتلوا من قدروا عليه من الكفار
ويأخذوا أموالهم ولا يدخلون في الصلح، فإن ضمهم الإمام إليه بإذن
الكفار دخلوا في الصلح وحرم عليهم قتل الكفار وأخذ اموالهم، وروي عن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما جاء أبو جندل إلى النبي صلى الله
عليه وسلم هارباً من الكفار يرسف في قيوده قام إليه أبوه فلطمه وجعل
يرده قال عمر فقمت إلى جانب أبي جندل وقلت إنهم الكفار وإنما دم أحدهم
دم كلب وجعلت أدني منه قائم السيف لعله أن يأخذه فيضرب به أباه قال فضن
الرجل بأبيه، (فصل) وإذا طلبت امرأة أو صبية مسلمة الخروج من عند
الكفار جاز لكل مسلم إخراجها لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
خرج من مكة وقفت ابنة حمزة على الطريق فلما مر بها علي قالت يا ابن عم
إلى من تدعني فتناولها فدفعها إلى فاطمة حتى قدم بها المدينة.
(10/581)
(مسألة) (وعلى الامام حماية من هادنه من
المسلمين دون غيرهم وإن سباهم كفار آخرون لم يجز لنا شراؤهم) .
وذلك أن الإمام إذا عقد الهدنة لقوم فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل
الذمة، لأنه امنه ممن هو
في قبضته وتحت يده كما أمن من في قبضته منهم، ومن أتلف من المسلمين أو
من أهل الذمة عليهم شيئاً فعليه ضمانه ولا يلزمه حمايتهم من أهل الحرب
ولا حماية بعضهم من بعض، لأن الهدنة التزام الكف عنهم فقط، فإن أغار
عليهم قوم آخرون فسبوهم لم يلزمه استنقاذهم وليس للمسلمين شراؤهم لأنهم
في عهدهم ولا يجوز لهم شراؤهم ولا استرقاقهم، وذكر عن الشافعي ما يدل
على هذا ويحتمل جواز ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يجب عليه من يدفع
عنهم فلم يحرم استرقاقهم بخلاف أهل الذمة، فعلى هذا إن استولى المسلمون
على الذين اشتروهم وأخذوا اموالهم لم يلزم رده إليهم على هذا القول،
ومقتضى القول الأول وجوب رده كما يجب رد أموال أهل الذمة.
(مسألة) (وإن خاف نقض العهد منهم نبذ إليهم عهدهم لقول الله تعالى
(وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليم على سواء) .
أي أعلمهم بنقض عهدهم حتى تصير أنت وهم سواء في العلم، ولا يكفي وقوع
ذلك في قلبه حتى يكون عن امارة تدل عليه، ولا يفعل ذلك إلا الإمام لأن
نقضها لخوف الخيانة يحتاج إلى نظر واجتهاد فافتقر إلى الحاكم ومتى
(10/582)
نقضها وفي دارنا منهم أحد وجب ردهم إلى
مأمنهم لانهم دخلوا بأمان فوجب ردهم إلى مأمنهم كما لو أفردهم بالأمان،
وإن كان عليهم حق استوفي منهم، ولا يجوز أن يبدأهم بقتال ولا غارة قبل
إعلامهم بنقض العهد للآية، ولأنهم آمنون منه بحكم العهد فلا يجوز قتلهم
ولا أخذ مالهم، فإن قيل فقد قلتم أن الذمي إذا خيف منه الخيانة لم
ينتقض عهده؟ قلنا عقد الذمة آكد لأنه يجب على الإمام إجابتهم إليه وهو
نوع معاوضة وعقده مؤبد يخلاف الهدنة والأمان، ولهذا لو نقض بعض أهل
الذمة لم ينتقض عهد الباقين بخلاف الهدنة، ولأن أهل الذمة في قبضه
الإمام وتحت ولايته ولا يخشى الضرر كثيراً من نقضهم بخلاف أهل الهدنة
فإنه يخشى منهم الغارة والضرر الكثير (فصل) ومن أتلف منهم شيئاً على
مسلم فعليه ضمانه وإن قتله فعليه القصاص وإن قذفه فعليه الحد، لأن
الهدنة تقتضي أمان المسلمين منهم وأمانهم من المسلمين في النفس والمال
والعرض فلزمهم ما يجب في ذلك ومن شرب منهم خمراً أو زنى لم يحد لأنه حق
لله تعالى ولم يلتزموه بالهدنة، وإن سرق مال مسلم
ففيه وجهان (أحدهما) لا يقطع لأنه حد خالص لله تعالى أشبه حد الزنا
(والثاني) يقطع لأنه يجب صيانة لحق الآدمي فهو كحد القذف (فصل) وإذا
نقضوا العهد حلت دماؤهم وأموالهم وسبي ذراريهم لأن النبي صلى الله عليه
وسلم قتل رجال بني قريظة حين نقضوا عهدهم وسبى ذراريهم وأخذ أموالهم
ولما هادن قريشاً فنقضوا عهده حل له منهم ما كان حرم عليه منهم، ولأن
الهدنة عقد مؤقت ينتهي بانقضاء مدته فيزول بنقضه وفسخه كعقد الإجارة
بخلاف عقد الذمة
(10/583)
(باب عقد الذمة) لا يجوز عقد الذمة إلا من
الإمام أو نائبه وبهذا قال الشافعي، ولا نعلم فيه خلافاً لأن ذلك يتعلق
بنظر الإمام وما يراه من المصلحة، ولأنه عقد مؤبد فلم يجز أن يفتات به
على الإمام، فإن فعله غيرهما لم يصح لكن إن عقده على مال لا يجوز أن
يطلب منهم أكثر منه لزم الإمام إجابتهم إليه وعقدها عليه، والأصل في
جواز عقد الذمة وأخذ الجزية الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقول
الله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون
ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى
يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) وأما السنة فما روى المغيرة بن شعبة
رضي الله عنه انه قال لجند كسرى يوم نهاوند: أمرنا نبينا رسول ربنا أن
نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية رواه البخاري: وعن
بريدة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث
أميراً على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من
المسلمين خيراً وقال له إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى
خصال ثلاث ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن
أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منه وكف عنهم، فإن
أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) رواه مسلم في أخبار كثيرة وأجمع المسلمون
على جواز أخذ الجزية في الجملة (مسألة) (ولا يجوز عقدها إلا لأهل
الكتاب وهم اليهود والنصارى ومن يوافقهم في التدين
(10/584)
بالتوارة والإنجيل كالسامرة والفرنج ومن له
شبهة كتاب وهم المجوس وعنه يجوز عقدها لجميع الكفار إلا
عبدة الأوثان من العرب) وجملة ذلك أن الذين تقبل منهم الجزية صنفان أهل
كتاب ومن له شبهة كتاب في ظاهر المذهب فأهل الكتاب اليهود والنصارى ومن
دان بدينهم كالسامرة يدينون بالتوارة ويعملون بشريعة موسى وإنما
خالفوهم في فروع دينهم وفرق النصارى من اليعقوبية والنسطورية والملكية
والفرتج والروم والأرمن وغيرهم ممن دان بالأنجيل وانتسب إلى دين عيسى
والعمل بشريعته فكلهم من أهل الأنجيل ومن عدا هؤلاء من الكفار فليسوا
من أهل الكتاب بدليل قوله تعالى (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على
طائفتين من قبلنا) فأما أهل صحف إبراهيم وشيث وزبور داود فلا تقبل منهم
الجزية لأنهم من غير الطائفتين ولأن هذه الصحف لم تكن فيها شرائع إنما
هي مواعظ وأمثال كذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم صحف إبراهيم وزبور
داود في حديث أبي ذر، وأما الذين لهم شبهة كتاب فهم المجوس فإنه يروى
أنه كان لهم كتاب فرفع فصار بذلك شبهة أوجبت حقن دمائهم وأخذ الجزية
منهم ولم ينتهض في إباحة نكاح نسائهم ولا ذبائحهم هذا قول أكثر أهل
العلم ونقل عن أبي ثور أنهم من أهل الكتاب وتحل ذبائحهم ونساؤهم لما
روي عن علي رضي الله عنه أنه قال أنا أعلم الناس بالمجوس كان لهم علم
يعلمونه وكتاب يدرسونه وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع
عليه بعض أهل مملكته فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد فامتنع منهم ودعي
أهل مملكته وقال أتعلمون ديناً خيراً من دين آدم وقد أنكح بنيه بناته؟
فأنا على دين آدم قال فتابعه قوم وقاتلوا الذين يخالفونه حتى قتلوهم
فأصبحوا وقد أسري بكتابهم ورفع العلم الذي
(10/585)
في صدورهم فهم أهل كتاب وقد أخذ رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأبو بكر - وأراه قال - وعمر منهم الجزية رواه
الشافعي وسعيد وغيرهما ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال سنوا بهم سنة
أهل الكتاب ولنا قول الله تعالى (ان تقولوا إنما أنزل الكتاب على
طائفتين من قبلنا) والمجوس من غير الطائفتين، وقول النبي صلى الله عليه
وسلم (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) فدل على أنهم غيرهم وروى البخاري
بإسناده عن بجالة أنه قال: ولم يكن عمر رضي الله عنه أخذ الجزية من
المجوس
حتى قال له عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من
مجوس هجر ولو كانوا اهل كتاب لما وقف عمر في أخذ الجزية منهم مع أمر
الله تعالى بأخذ الجزية من أهل الكتاب.
وما ذكروه هو الذي صار لهم به شبهة كتاب.
وما رووه عن علي فقد قال أبو عبيد لا أحسبه محفوظاً ولو كان له أصل لما
حرم النبي صلى الله عليه وسلم نساءهم وهو كان أولى بعلم ذلك، ويحوز أن
يصح هذا الذي ذكر عن علي مع تحريم نسائهم لأن الكتاب المبيح لذلك هو
الكتاب المنزل على إحدى الطائفتين وليس هؤلاء منهم ولأن كتابهم رفع فلم
ينتهض للإباحة وثبت به حقن دمائهم، فأما قول أبي ثور في حل ذبائحهم
ونسائهم فيخالف الإجماع فلا يلتفت إليه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم
(سنو بهم سنة أهل الكتاب) أي في أخذ الجزية منهم إذا ثبت ذلك فإن أخذ
الجزية من أهل الكتابين والمجوس اذا لم يكونوا من العرب ثابت بالإجماع
لا نعلم فيه خلافا فان الصحابة رضي الله عنه أجمعوا على ذلك وعمل به
الخلفاء الراشدون ومن بعدهم مع دلالة الكتاب العزيز على أخذ الجزية من
أهل الكتابين ودلالة السنة المذكورة على أخذها من المجوس فإن كانوا من
العرب فحكمهم حكم العجم فيما ذكرنا وبه قال مالك والشافعي والاوزاعي
وأبو ثور وابن المنذر وقال أبو يوسف لا تؤخذ الجزية من العرب لأنهم
شرفوا بكونهم من رهط النبي صلى الله عليه وسلم
(10/586)
ولنا عموم الآية وأن النبي صلى الله عليه
وسلم بعث خالد بن الوليد إلى دومة الجندل فأخذ أكيدر دومة فصالحه على
الجزية وهو من العرب رواه ابودواد وأخذ الجزية من نصارى نجران وهم عرب
وبعث معاذاً إلى اليمن فقال إنك تأتي قوماً من أهل كتاب وأمره أن يأخذ
من كل حالم ديناراً ولو كانوا عرباً ولأن ذلك إجماع فإن عمر أراد أخذ
الجزية من نصارى بني تغلب وابوا ذلك وسألوه أن يأخذ منهم مثلما يأخذ من
المسلمين فأبى ذلك عليهم حتى لحقوا بالروم ثم صالحهم على ما يأخذ منهم
عوضاً عن الجزية فالمأخوذ منهم جزية غير أنه على غير صفة جزية غيرهم
ولم ينكر ذلك أحد فكان إجماعاً.
وقد ثبت بطريق القطع أن كثيراً من نصارى العرب ويهودهم كانوا في عصر
الصحابة في بلاد الإسلام ولايجوز إقرارهم
فيها بغير جزية فثبت يقيناً انهم أخذوا الجزية منهم (فصل) ولا يجوز عقد
الذمة المؤبدة إلا بشرطين (أحدهما) التزام إعطاء الجزية في كل حول
(والثاني) التزام أحكام الإسلام وهو قبول ما يحكم به عليهم من أداء حق
أو ترك محرم لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة (فادعهم إلى أداء الجزية
فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) ولا تعتبر حقيقة الإعطاء ولا جريان
الأحكام لأن الإعطاء إنما يكون في آخر الحول والكف عنهم في ابتدائه عند
البذل.
والمراد بقوله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد) أي يلتزموا وهذا كقوله
(فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) فإن المراد به
التزام ذلك فإن الزكاة إنما يجب أداؤها عند الحول
(10/587)
(فصل) فأما غير اليهود والنصارى والمجوس من
الكفار فلا تقبل منهم الجزية ولا يقرون بها ولا يقبل منهم إلا الإسلام
أو القتل هذا ظاهر المذهب.
وروى عنه الحسن بن ثواب أنها تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من
العرب لأن حديث بريدة يدل بعمومه على قبول الجزية من كل كافر إلا أنه
خرج منه عبدة الأوثان من العرب لتغليظ كفرهم من وجهين (أحدهما) دينهم
(والثاني) كونهم من رهط النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الشافعي لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس لكن في أهل
الكتب غير اليهود والنصارى مثل أهل صحف إبراهيم وشيث وزبور داود ومن
تمسك بدين آدم وجهان (أحدهما) يقرون بالجزية لأنهم أهل كتاب فأشبهوا
اليهود والنصارى.
وقال أبو حنيفة تقبل من جميع الكفار إلا العرب لأنهم رهط النبي صلى
الله عليه وسلم فلا يقرون على غير دينه وغيرهم يقر بالجزية لأنه يقر
بالاسترقاق فأقر بالجزية كالمجوس.
وعن مالك أنها تقبل من جميعهم إلا مشركي قريش لأنهم ارتدوا.
وعن الاوزاعي وسعيد بن عبد العزيز أنها تقبل من جميعهم وهو قول عبد
الرحمن ابن يزيد بن جابر لحديث بريدة ولأنه كافر فأقر بالجزية كأهل
الكتاب ولنا قول الله تعالى (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وقول
النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا
الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها) وهذا عام خص
منه جميع أهل الكتاب بالآية والمجوس بالسنة فمن عداهم من الكفار يبقى
على قضية العموم وقد بينا أن
أهل الصحف من غير أهل الكتاب المراد بالآية
(10/588)
(فصل) وإذا عقد الذمة لكفار زعموا انهم أهل
كتاب ثم تبين أنهم عبدة أوثان فالعقد باطل من أصله وإن شككنا فيهم لم
ينتقض عهدهم بالشك لأن الأصل صحته فإن أقر بعضهم بذلك دون بعض قبل من
المقر في نفسه فانتقض عهده وبقي فيمن لم يقر بحاله (مسألة) (فأما
الصابئ فينظر فيه فإن انتسب إلى أحد الكتابين فهو من أهله وإلا فلا)
اختلف أهل العلم في الصابئين فروي عن أحمد أنهم جنس من النصارى وقال في
موضع آخر بلغني أنهم يسبتون فإذا اسبتوا فهم من اليهود وروي عن عمر رضي
الله عنه أنه قال هم يسبتون وقال مجاهد هم بين اليهود والنصارى وقال
السدي والربيع هم بين أهل الكتاب وتوقف الشافعي في أمرهم والصحيح ما
ذكر ههنا من أنه ينظر فيهم فإن كانوا يوافقون أحد أهل الكتابين في
نبيهم وكتابهم فهم منهم، وإن خالفوهم في ذلك فليسوا منهم ويروى عنهم
أنهم يقولون الفلك حي ناطق وإن الكواكب السبعة آلهة فإن كانوا كذلك فهم
كعبدة الأوثان (مسألة) (ومن تهود أو تنصر بعد بعث نبينا محمد صلى الله
عليه وسلم أو ولد بين أبوين لا يقبل الجزية من أحدهما فعلى وجهين)
(أحدهما) أنه لا فرق بين من دخل في دينهم قبل تبديل كتابهم أو بعده ولا
بين أن يكون ابن كتابيين أو كتابي ووثني وهذا ظاهر كلام الخرقي وقال
أبو الخطاب من دخل في دينهم بعد تبديل كتابهم لم تقبل منهم الجزية لأنه
دخل في دين باطل ومن ولد بين أبوين احدهما تقبل من
(10/589)
الجزية والآخر لا تقبل منه ففيه وجهان وهذا
مذهب الشافعي والصحيح الأول لعموم النص فيهم ولأنهم من أهل دين تقبل
منه الجزية فيقرون بها كغيرهم وإنما تقبل منهم الجزية إذا كانوا مقيمين
على ما عوهدوا عليه من بذل الجزية والتزام أحكام الملة لأن الله تعالى
أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية أي يلتزموا أداءها فما لم يوجد ذلك يبقوا
على إباحة دمائهم وأموالهم
(مسألة) (ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب وتؤخذ الزكاة من أموالهم
مثلي ما تؤخذ من أموال المسلمين) بنو تغلب بن وائل من العرب من ولد
ربيعة بن نزار انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية فدعاهم عمر رضي الله
عنه إلى بذل الجزية فأبوا وأنفوا وقالوا نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم
من بعض باسم الصدقة فقال عمر لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم
فقال النعمان بن زرعة يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأس وشدة وهم عرب
يأنفون من الجزية فلا تعن عدوك عليك بهم وخذ منهم الجزية باسم الصدقة
فبعث عمر في طلبهم فردهم وضعف عليهم من الابل من كل خمس شاتين ومن كل
ثلاثين بقرة تبيعين ومن كل عشرين دينارا دينارا ومن كل مائتي درهم عشرة
دراهم وفيما
(10/590)
سقت السماء الخمس وفيما سقي بنضح أو غرب أو
دولاب العشر فاستقر ذلك من قول عمر ولم يخالفه أحد من الصحابة فكان
اجماعا وقال به العلماء بعد الصحابة منهم ابن أبي ليلى والحسن بن صالح
وابو حنيفة وأبو يوسف والشافعي ويروى عن عمر بن عبد العزيز أنه أبى على
نصارى بني تغلب الا الجزية وقال لا والله إلا الجزية وإلا فقد آذنتكم
بالحرب وحجته عموم الاية فيهم وروي عن علي رضي الله عنه انه قال لأن
تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي لاقتلن مقاتلتهم ولأسبين ذراريهم
فقد نقضوا العهد وبرئت منهم الذمة حين نصروا أولادهم وذلك أن عمر رضي
الله عنه صالحهم على أن لا ينصروا أولادهم والعمل على الأول لما ذكرنا
من الإجماع وأما الآية فإن هذا المأخوذ منهم جزية باسم الصدقة فإن
الجزية يجوز أخذها عروضا (مسألة) (ويؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم
ومجانينهم) كذلك قال أصحابنا تؤخذ الزكاة منهم مضاعفة من مال من تؤخذ
منه الزكاة لو كان مسلما وبه قال أبو حنيفة وأبو عبيد وذكر أنه قول أهل
الحجاز فعلى هذا تؤخذ من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم.
زمناهم ومكافيفهم وشيوخهم إلا أن أبا حنيفة لا يوجب الزكاة في مال صبي
ولا مجنون من المسلمين فكذلك الواجب في مال بني تغلب لا يجب على صبي
ولا مجنون إلا في الارض خاصة وذهب الشافعي إلى أن هذا جزية تؤخذ باسم
الصدقة فعنده لا تؤخذ ممن لا جزية عليه كالنساء
والصبيان والمجانين قال وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال هؤلاء
حمقى رضوا بالمعنى وأبوا الاسم
(10/591)
وقال النعمان بن زرعة خذ منهم الجزية باسم
الصدقة ولأنهم أهل ذمة فكان الواجب عليهم جزية لا صدقة كغيرهم من أهل
الذمة ولأنه مال يؤخذ من أهل الكتاب لحقن دمائهم فكان جزية كما لو أخذ
باسم الجزية، يحققه أن الزكاة طهرة وهؤلاء لاطهرة لهم قال شيخنا وهذا
أقيس وحجة أصحابنا أنهم سألوا عمر أن يأخذ منهم ما يأخذ بعضهم من بعض
فأجابهم عمر إليه بعد الامتناع منه والذي يأخذه بعضنا من بعض هو الزكاة
من كل مال زكوي لأي مسلم كان من صغير وكبير وصحيح ومريض كذلك المأخوذ
من بني تغلب ولأن نساءهم وصبيانهم صينوا عن السبي بهذا الصلح ودخلوا في
حكمه فجاز أن يدخلوا في الواجب به كالرجال والعقلاء وعلى هذا من كان
منهم فقيراً أو له مال غير زكوي كالرقيق والدور وثياب البذلة فلا شئ
عليه كما لا يجب ذلك على أهل الزكاة من المسلمين ولا تؤخذ من مال لم
يبلغ نصابا (مسألة) (ومصرفه مصرف الجزية اختاره القاضي) وهو مذهب
الشافعي لأنه مأخوذ من مشرك ولأنه جزية مسماة بالصدقة وقال أبو الخطاب
مصرفه مصرف الصدقات لأنه مسمى باسم الصدقة مسلوك به فيمن يؤخذ منه مسلك
الصدقة فيكون مصرفه مصرفها والأول أقيس وأصح لأن معنى الشئ أخص به من
اسمه ولهذا لو سمي رجل أسداً
(10/592)
لم يصر له حكم المسمى بذلك ولأنه لو كان
صدقة على الحقيقة لجاز دفعها إلى فقراء من أخذت منهم لقول النبي صلى
الله عليه وسلم في الصدقة (تؤخذ من اغنائهم فترد في فقرائهم) (فصل) فإن
بذل التغلبي أداء الجزية وتحط عنه الصدقة لم يقبل منه لأن الصلح وقع
على هذا فلا يغير، ويحتمل أن يقبل لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية
عن يد وهم صاغرون) أي يبذلوها وهذا قد أعطى الجزية وإن كان الذي بذلها
منهم حربياً قبلت منه للآية وخبر بريدة ولأنه لم يدخل في صلح الأولين
فلم يلزمه حكمه وهو كتابي باذل للجزية فيحقن بها دمه فإن أراد الإمام
نقض العهد
وتجديد الجزية عليهم كفعل عمر بن عبد العزيز لم يكن له ذلك لأن عقد
الذمة على التأبيد وقد عقده معهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يكن
لأحد نقضه ماداموا على العهد.
(مسألة) (ولا يؤخذ ذلك من كتابي غيرهم، وقال القاضي تؤخذ من نصارى
العرب ويهودهم) وجملته أن سائر أهل الكتاب من اليهود والنصارى العرب
وغيرهم تقبل منهم الجزية إذا بذلوها ولا يؤخذون بما يؤخذ به نصارى بني
تغلب، نص عليه أحمد رواه عن الزهري قال ونذهب إلى أن يأخذ من مواشي بني
تغلب خاصة الصدقة وتضعف عليهم كما فعل عمر رضي الله عنه وذكر القاضي
وابو الخطاب ان حكم من تنصر من تنوخ وبهرا وتهود من كنانة وحمير وتمجس
من
(10/593)
تميم حكم بني تغلب سواء وذكر أن الشافعي نص
عليه في تنوخ وبهرا لأنهم من العرب فأشبهوا بني تغلب.
ولنا عموم قوله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) وأن النبي
صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال (خذ من كل حالم دينارا)
وهم عرب وقبل الجزية من أهل نجران وكانوا نصارى وأخذ الجزية من اكيدر
دومة وهو عربي ولأن حكم الجزية ثابت بالكتاب والسنة في كل كتابي عربياً
كان أو غير عربي إلا ما خص به بنو تغلب لمصالحة عمر إياهم ففيما عداهم
يبقى الحكم على عموم الكتاب وشواهد السنة ولم يكن بين غير بني تغلب
وبين أحد من الأئمة صلح كصلح بني تغلب فيما بلغنا ولا يصح قياس غير بني
تغلب عليهم لوجوه (أحدها) أن قياس سائر العرب عليهم يخالف النصوص التي
ذكرناها ولا يصح قياس المنصوص عليه على ما يلزم منه مخالفة النص
(الثاني) أن العلة في بني تغلب الصلح ولم يوجد في غيرهم ولا يصح القياس
مع تخلف العلة (الثالث) أن بني تغلب كانوا ذوي قوة وشوكة لحقوا بالروم
وخيف منهم الضرر إن لم يصالحوا ولم يوجد هذا في غيرهم فإن وجد في غيرهم
فامتنعوا من أداء الجزية أو خيف الضرر بترك مصالحتهم فرأى الإمام
مصالحتهم على أداء الجزية باسم الصدقة جاز إذا كان المأخوذ منهم بقدر
ما يجب عليهم
(10/594)
من الجزية أو زيادة، وذكر هذا أبو إسحاق في
كتابه المهذب والحجة في هذا قصة بني تغلب وقياسهم عليهم قال علي بن
سعيد سمعت أحمد يقول أهل الكتاب ليس عليهم في مواشيهم صدقة ولا في
أموالهم إنما تؤخذ منهم الجزية، إلا أن يكونوا صولحوا على أن تؤخذ منهم
كما صنع عمر بنصارى بني تغلب حين أضعف عليهم الصدقة في صلحه إياهم إذا
كانوا في معناهم، أما قياس من لم يصالح عليهم في جعل جزيتهم صدقة فلا
يصح (مسألة) (ولا جزية على صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا زمن ولا أعمى
ولا عبد ولا فقير يعجز عنها) لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أن
الجزية لا تجب على صبي ولا امرأة ولا زائل العقل وهو قول مالك وأبي
حنيفة وأصحاب الشافعي وأبي ثور وقال ابن المنذر لا أعلم من غيرهم
خلافاً وقد دل على هذا أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد أن
اضربوا الجزية ولا تضربوها على النساء والصبيان ولا تضربوها إلا على من
جرت عليه الموسى رواه سعيد وابو عبيد والاثرم والمجنون كالصبي لأنه غير
ملكف وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ (خذ من كل حالم دينارا) دليل
على أنها لا تجب على غير بالغ ولأن الجزية تؤخذ لحقن الدم وهؤلاء
دماؤهم محقونة بدونها ولا تجب على خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه رجلاً
(فصل) فإن بذلت المرأة الجزية أخبرت أنها لا جزية عليها، فإن قالت أنا
أتبرع بها أو أنا أؤديها قبلت منها ولم تكن جزية بل هبة تلزم بالقبض
فإن شرطته على نفسها ثم رجعت فلها ذلك وإن بذلت
(10/595)
الجزية لتصير إلى دار الإسلام مكنت من ذلك
بغير شئ ولكن يشترط عليها التزام أحكام الإسلام وتعقد لها الذمة ولا
يؤخذ منها شئ إلا أن تتبرع به بعد معرفتها ان لا شئ عليها وإن أخذ منها
على غير ذلك رد إليها لأنها بذلته معتقدة أنه عليها وأن دمها لا يحقن
إلا به فأشبه من أدى مالاً إلى من يعتقد أنه له فتبين أنه ليس له.
ولو حاصر المسلمون حصناً ليس فيه إلا نساء فبذلن الجزية لتعقد لهن
الذمة عقدت لهن بغير شئ وحرم استرقاقهن كالتي قبلها سواء، فان كان في
الحصن رجال فسألوا الصلح لتكون الجزية على النساء والصبيان دون الرجال
لم يصح لأنهم جعلوها على غير من هي عليه
وبرءوا من تجب عليه، وان بذلوا جارية عن الرجال ويؤدوا عن النساء
والصبيان من أموالهم جاز وكان ذلك زيادة في جزيتهم وإن كان من أموال
النساء والصبيان لم يجز لأنهم يجعلون الجزية على من لا تلزمه فإن كان
القدر الذي بذلوه من أموالهم مما يجزئ في الجزية أخذوه وسقط الباقي
(فصل) ولا تجب على زمن ولا أعمى ولا شيخ فان ولا على من هو في معناهم
كمن به داء لا يستطيع معه القتال ولا يرجى برؤه وبه قال أبو حنيفة وقال
الشافعي في أحد قوليه تجب عليهم الجزية بناء على قتلهم وقد سبق قولنا
في أنهم لا يقتلون فلا تجب عليهم الجزية كالنساء والصبيان (فصل) وأما
العبد فإن كان لمسلم لم تجب عليه الجزية بغير خلاف علمناه لأنه يروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا جزية على العبد) وعن ابن عمر
مثله ولأن ما لزم العبد إنما يؤديه سيده فيؤدي إيجابها على
(10/596)
العبد المسلم إلى إيجابها على المسلم وإن
كان لكافر فكذلك نص عليه أحمد وهو قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر
أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنه لا جزية على العبد وذلك لما
ذكرنا من الحديث ولأنه محقون الدم أشبه النساء والصبيان، أو لا مال له
أشبه الفقير العاجز ويحتمل كلام الخرقي وجوب الجزية عليه وروي ذلك عن
أحمد لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لا تشتروا رقيق أهل الذمة
ولا مما في أيديهم لأنهم أهل خراج يبيع بعضهم بعضاً ولا يقرن أحدكم
بالصغار بعد إذا نفذه الله منه قال أحمد رضي الله عنه أراد عمر أن
تتوفر الجزية لأن المسلم إذا اشتراه سقط عنه أداء ما يؤخذ منه والذمي
يؤدي عنه وعن مملوكة خراج جماجمهم وروي عن علي مثل حديث عمر ولأنه ذكر
مكلف قوي مكتسب فوجبت عليه الجزية كالحر والأول أولى (فصل) واذا اعتق
لزمته الجزية لما يستقبل سواء كان معتقه مسلماً أو كافراً هذا الصحيح
عن أحمد وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وبه قال سفيان والليث والشافعي
وأبو ثور وأصحاب الرأي وعنه يقر بغير جزية وروي نحوه عن الشعبي لأن
الولاء شعبة كشعبة الرق وهو ثابت عليه ووهن الخلال هذه الرواية وقال
هذا قول قديم رجع عنه وعن مالك كقول الجماعة وعنه إن كان المعتق له
مسلماً فلا جزية عليه لأن عليه الولاء لمسلم أشبه ما لو كان عليه الرق
ولنا أنه حر مكلف موسر من أهل القتال فلم يقر في دارنا بغير جزية كالحر
الأصلي.
إذا ثبت
(10/597)
هذا فإن حكمه فيما يستقبل من جزيته حكم من
بلغ من صبيانهم أو أفاق من مجانينهم على ما ذكرناه (فصل) ومن بعضه حر
فقياس المذهب أن عليه من الجزية بقدر ما فيه من الحرية لأنه حكم يختلف
بالرق والحرية فينقسم على قدر ما فيه كالإرث ولا جزية على أهل الصوامع
من الرهبان ويحتمل أن تجب عليهم وهذا أحد قولي الشافعي وروي عن بن عبد
العزيز أنه فرض على رهبان الديارات الجزية على كل راهب ديناراً لعموم
النصوص ولأنه كافر صحيح حر قادر على أداء الجزية فأشبه الشماس.
ووجه الأول أنهم محقونون بدون الجزية فلم تجب عليهم كالنساء وقد ذكرنا
دليل تحريم قتلهم والنصوص مخصوصة بالنساء وهؤلاء في معناهن ولأنه لا
كسب له أشبه الفقير غير المعتمل (فصل) ولا تجب على فقير عاجز عنها وهذا
أحد قولي الشافعي وله قول أنها تجب عليه لقوله عليه السلام (خذ من كل
حالم ديناراً) ولأن دمه غير محقون فلا تسقط عنه الجزية كالقادر ولنا أن
عمر رضي الله عنه جعل الجزية على ثلاث طبقات جعل أدناها على الفقير
المعتمل فدل على أن غير المعتمل لا شئ عليه ولأن الله تعالى قال (لا
يكلف الله نفسا إلا وسعها) ولأنه مال يجب بحلول الحول فلم يلزم الفقير
العاجز كالزكاة ولأن الخراج ينقسم إلى خراج أرض وخراج رؤوس وقد ثبت أن
خراج الأرض على قدر طاقتها وما لا طاقة له لا شئ عليه كذلك خراج الرؤوس
وأما الحديث فيتناول الأخذ ممن يمكن الأخذ منه والأخذ ممن لا يقدر على
شئ مستحيل فكيف يؤمر به ويؤخذ منه بقدر ما أدرك؟
(10/598)
(مسألة) (ومن بلغ أو أفاق أو استغنى فهو من
أهلها بالعقد الأول ويؤخذ منه في آخر الحول بقدر ما أدرك) ولا يحتاج
إلى استئناف عقد له وقال القاضي في موضع هو مخير بين التزام العقد وبين
أن يرد
إلى مأمنه فيجاب إلى ما يختار وهو قول الشافعي ولنا أنه لم يأت عن
النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه تجديد عقد لهؤلاء ولأن
العقد يكون مع سادتهم فدخل فيه سائرهم ولأنه عقد مع الكفار فلم يحتج
إلى استئنافه كذلك كالهدنة ولأن الصغار والمجانين دخلوا في العقد فلم
يحتج إلى تجديده له عند تغير أحوالهم كغيرهم.
إذا ثبت هذا فإن كان البلوغ والافاقة في أول أحوال قومه أخذ منه في
آخره معهم، وإن كان في أثناء الحول أخذ منه عند تمام الحول بقسطه ولم
يترك حتى يتم لئلا يحتاج إلى أفراده بحول وضبط حول كل إنسان منهم وربما
أفضى إلى أن يصير لكل واحد حول مفرد وذلك يشق.
(مسألة) (ومن كان يجن ويفيق لفقت إفاقته فإذا بلغت حولاً أخذت منه
ويحتمل أن يؤخذ في آخر كل حول بقدر إفاقته منه) .
إذا كان يجن ويفيق لم يخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يكون غير مضبوط
مثل من يفيق ساعة من أيام أو من يوم أو يصرع ساعة من يوم أو من أيام
فهذا يعتبر حالة بالأغلب لأن هذه الإفاقة غير ممكن ضبطها فلم تمكن
مراعاتها.
(10/599)
(الثاني) أن يكون مضبوطاً مثل من يجن يوماً
ويفيق يومين أو أقل من ذلك أو أكثر إلا أنه مضبوط ففيه وجهان (أحدهما)
يعتبر الأغلب من حاله وهذا مذهب أبي حنيفة لأنه يجن ويفيق فاعتبر
الأغلب من حاله كالأول.
(والوجه الثاني) تلفق أيام إفاقته لأنه لو كان مفيقاً في الكل وجبت
الجزية فإذا وجدت الإفاقة في بعض الحول وجب فيه ما يجب به لو انفرد
فعلى هذا الوجه في أخذ الجزية وجهان (أحدهما) أن الأيام تلفق فإذا بلغت
حولاً أخذت منه لأن أخذها قبل ذلك أخذ لجزيته قبل كمال الحول فلم يجز
كالصحيح (والثاني) يؤخذ منه في آخر كل حول بقدر ما أفاق منه كما لو
أفاق في بعض الحول إفاقة مستمرة، وإن كان يجن ثلث الحول ويفيق ثلثيه أو
بالعكس ففيه الوجهان كما ذكرنا، فإن استوت إفاقته وجنونه مثل من يجن
يوماً ويفيق يوماً أو يجن نصف الحول ويفيق نصفه عادة لفقت إفاقته لأنه
تعذر
اعتبار الأغلب لعدمه فتعين الوجه الآخر.
(الحال الثالث) أن يجن نصف حول ثم يفيق إفاقة مستمرة أو يفيق نصفه ثم
يجن جنوناً مستمراً فلا جزية عليه في الثاني وعليه في الأول من الجزية
بقدر ما أفاق كما تقدم.
(10/600)
(مسألة) (وتقسم الجزية بينهم فيجعل على
الغني ثمانية وأربعون درهماً وعلى المتوسط أربعة وعشرون وعلى الفقير
اثنا عشر) .
الكلام في هذه المسألة في فصلين (أحدهما) في تقدير الجزية (والثاني) في
كمية مقدارها فأما الأول ففيه ثلاث روايات.
(إحداهن) أنها مقدرة بمقدار لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وهذا قول أبي
حنيفة والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها مقدرة بقوله لمعاذ
(خذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر) وفرضها عمر بمحضر من الصحابة فلم
ينكر فيكون إجماعاً.
[والثانية] أنها غير مقدرة بل يرجع فيها الى اجتهاد الإمام في الزيادة
والنقصان قال الأثرم قيل لأبي عبد الله فيزاد اليوم وينقص؟ يعني من
الجزية قال نعم يزاد فيها وينقص على قدر طاقتهم على قدر ما يرى الإمام
وذكر أنه زيد عليهم فيما مضى درهمان فجعله خمسين، قال الخلال العمل في
قول أبي عبد الله على ما رواه الجماعة بأنه لا بأس للإمام أن يزيد في
ذلك وينقص على ما رواه عنه أصحابه في عشرة مواضع فاستقر قوله على ذلك
وهو قول الثوري وابي عبيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذاً أن
يأخذ من كل حالم دينارا وصالح أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر
والنصف في رجب، رواهما أبو داود، وعمر رضي الله عنه جعل الجزية على
ثلاث طبقات على الغني ثمانية وأربعين درهماً وعلى المتوسط
(10/601)
اربعه وعشرين درهما وعلى الفقير اثني عشر
درهماً وصالح بني تغلب على مثلي ما على المسلمين من الزكاة وهذا يدل
على أنها إلى رأي الإمام لولا ذلك لكانت على قدر واحد في جميع هذه
المواضع ولم يجز أن يختلف فيها، قال البخاري قال ابن عيينة عن ابن أبي
نجيح قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم
أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال جعل ذلك من قبل اليسار
ولأنها عوض فلم تتقدر كالأجرة.
(والرواية الثالثة) إن أقلها مقدر بدينار وأكثرها غير مقدر وهو اختيار
أبي بكر فتجوز الزيادة ولا يجوز النقص لأن عمر زاد على ما فرض رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقص منه وروي أنه زاد على ثمانية وأربعين
فجعلها خمسين.
(والفصل الثاني) أننا إذا قلنا بالرواية الأولى وإنها مقدرة فقدرها في
حق الموسر ثمانية وأربعون درهماً وفي حق المتوسط أربعة وعشرون وفي حق
الفقير اثنا عشر وهذا قول أبي حنيفة، وقال مالك هي في حق الغني أربعون
درهماً أو أربعة دنانير وفي حق الفقير عشرة دراهم أو دينار وروي ذلك عن
عمر وقال الشافعي الواجب دينار في حق كل أحد لحديث معاذ إلا أن المستحب
جعلها على ثلاث طبقات كما ذكرناه لنخرج من الخلاف قالوا وقضاء النبي
صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع من غيره.
ولنا حديث عمر رضي الله عنه وهو حديث لا شك في صحته وشهرته بين الصحابة
رضي الله عنهم وغيرهم ولم ينكره منكر ولا خالف فيه وعمل به من بعده من
الخلفاء رحمة الله عليهم فكان
(10/602)
إجماعاً لا يجوز الخطأ عليه وقد وافق
الشافعي على استحباب العمل به وأما حديث معاذ فلا يخلوا من وجهين
(أحدهما) أنه فعل ذلك لغلبة الفقر عليهم بدليل قول مجاهد أن ذلك من أجل
اليسار (والوجه الثاني) أن يكون التقدير غير واجب بل هو موكول إلى
اجتهاد الإمام ولأن الجزية وجبت صغارا وعقوبة فتخلف (فتختلف) باختلاف
أحوالهم كالعقوبة في البدن منهم من يقتل ومنهم من يسترق ولا يصح كونها
عوضاً عن سكنى الدار لأنها لو كانت كذلك لوجبت على النساء والصبيان
والزمنى والمكافيف (مسألة) (والغني منهم من عده الناس غنياً في ظاهر
المذهب) وليس ذلك بمقدر لأن التقديرات بابها التوقيف ولا توقيف في هذا
فيرجع فيه إلى العادة والعرف (مسألة) (وإذا بذلوا الواجب عليهم لزم
قبوله وحرم قتالهم) لقول الله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا
باليوم الآخر) الآية إلى قوله (حتى يعطوا الجزية
عن يد وهم صاغرون) فجعل إعطاء الجزية غاية لقتالهم فمتى بذلوها لم يجز
قتادة (قتالهم) للآية ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة
(فادعهم إلى أداء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) فإن قلنا أن
الجزية غير مقدرة الأكثر لم يحرم قتالهم حتى يجيبوا إلى بذل مالا يجوز
طلب أكثر منه (فصل) وتجب الجزية في آخر كل حول وبه قال الشافعي وقال
أبو حنيفة تجب بأوله ويطالب بها عقيب العقد وتجب الثانية في أول الحول
الثاني لقول تعالى (حتى يعطوا الجزية) ولنا أنه مال يتكرر بتكرر الحول
أو يؤخذ في آخر كل حول فلم يجب بأوله كالزكاة والدية
(10/603)
وأما الآية فالمراد بها التزام إعطائها دون
نفس الإعطاء ولهذا يحرم قتالهم بمجرد بذلها قبل أخذها (فصل) وتؤخذ
الجزية مما يسر من أموالهم ولا يتعين أخذها من ذهب ولا فضة نص عليه
أحمد وهو قول الشافعي وأبي عبيد وغيرهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم
لما بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم
ديناراً أو عدله معافر وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ من نصارى
نجران ألفي حلة وكان عمر رضي الله عنه يؤتى بنعم كثيرة يأخذها من
الجزية وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان يأخذ الجزية من كل ذي صنعة من
متاعه من صاحب الإبر إبراً ومن صاحب المسال مسالاً ومن صاحب الحبال
حبالاً ثم يدعوا الناس فيعطيهم الذهب والفضة فيقتسمونه ثم يقول خذوا أو
اقتسموا فيقولون لا حاجة لنا فيه فيقول أخذتم خياره وتركتم شراره
لتحملنه.
إذا ثبت هذا فإنه يؤخذ بالقيمة لقوله عليه السلام (أو عدله معافر)
ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير منهم عن جزية رؤوسهم وخراج أرضهم لقول
عمر رضي الله عنه ولوهم ببيعها وخذوا أنتم من الثمن ولأنها من أموالهم
التي نقرهم على اقتنائها فجاز أخذ أثمانها كثيابهم (مسألة) (ومن أسلم
بعد الحول سقطت عنه الجزية وإن مات اخذت من تركته وقال القاضي تسقط)
إذا أسلم من عليه الجزية في أثناء الحول لم تجب الجزية عليه وإن أسلم
بعده سقطت عنه وهذا قول مالك والثوري وأبي عبيد وأصحاب الرأي وقال
الشافعي وأبو ثور وابن المنذر إن أسلم بعد الحول
(10/604)
لم تقسط لأنه دين استحقه صاحبه واستحق
المطالبة به في حال الكفر فلم يسقط بالاسلام كالخراج وسائر الديون
وللشافعي فيما إذا أسلم في أثناء الحول قولان (أحدهما) عليه من الجزية
بالقسط كما لو أفاق بعض الحول ولنا قول الله تعالى (قل للذين كفروا إن
ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال (ليس على المسلمين جزية) رواه الخلال وذكر أن أحمد سئل عنه
فقال ليس يرويه غير جرير قال وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال إن
أخذها في كفه ثم أسلم ردها عليه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال (لا ينبغي للمسلم أن يؤدي الخراج) يعني الجزية وروي أن ذمياً أسلم
فطولب بالجزية وقيل إنما أسلم تعوذا قال إن في الإسلام معاذا فرفع إلى
عمر فقال عمر إن في الإسلام معاذا وكتب أن لا تؤخذ منه الجزية رواه أبو
عبيد بنحو من هذا المعنى ولأن الجزية صغار فلا تؤخذ منه كما لو أسلم
قبل الحول ولأن الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر فيسقطها الإسلام كالقتل
وبهذا فارق الخراج وسائر الديون (فضل) فان مات بعد الحول لم تسقط عنه
الجزية في ظاهر كلام أحمد وهو مذهب الشافعي وحكي عن القاضي أنها تسقط
بالموت وهو قول أبي حنيفة ورواه أبو عبيد عن عمر بن عبد العزيز لأنها
عقوبة فتسقط بالموت كالحدود ولأنها تسقط بالإسلام فسقطت بالموت كما قبل
الحول ولنا أنه دين وجب عليه في حياته فلم يسقط بموته كديون الآدميين
والحد إنما سقط لفوات محله وتعذر استيفائه بخلاف الجزية وفارق الإسلام
فإنه الأصل والجزية بدل عنه فإذا أتى بالأصل استغنى
(10/605)
عن البدل كمن وجد الماء لا يحتاج معه إلى
التيمم بخلاف الموت ولأن الإسلام قربة وطاعة يصلح أن يكون معاذاً من
الجزية كما ذكر عمر رضي الله عنه والموت بخلافه (مسألة) (وإن اجتمعت
عليه جزية سنين استوفيت كلها ولم تتداخل) وبهذا قال الشافعي، وقال أبو
حنيفة تتداخل لأنها عقوبة فتتداخل كالحدود.
ولنا انها حق مال يجب في آخر كل حول فلم يتداخل كالدية
(مسألة) (وتؤخذ الجزية منهم في آخر الحول ويمتهنون عند أخذها ويطال
قيامهم وتجر أيديهم) وإنما تؤخذ منهم في آخر الحول لانه مال يتكرر
بتكرر الحول فلم يؤخذ قبل حولان الحول كالزكاة ويمتهنون عند أخذها منهم
وهكذا ذكر أبو الخطاب، ويطال قيامهم وتجر أيديهم عند أخذها لقول الله
تعالى (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) وقد قيل الصغار التزام
الجزية وجريان أحكامنا عليهم، ولا يقبل منهم إرسالها بل يحضر الذمي
بنفسه ويؤديها وهو قائم والآخذ جالس (فصل) ولا يعذبون في أخذها ولا يشط
عليهم فإن عمر رضي الله عنه أتي بمال كثير قال أبو عبيد أحسبه من
الجزية فقال إني لأظنكم قد أهلكتم الناس، قالوا لا والله ما أخذنا إلا
عفواً صفواً قال فلا سوط ولا بوط؟ قالوا نعم قال الحمد لله الذي لم
يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني، وقدم عليه سعيد بن عامر بن خريم فعلاه
عمر بالدرة فقال سعيد سبق سيلك مطرك إن تعاقب نصبر وإن
(10/606)
تعف نشكر وإن تستعتب نعتب فقال ما على
المسلمين إلا هذا مالك تبطئ بالخراج فقال أمرتنا أن لا نزيد الفلاحين
على اربعة دنانير فلسنا نزيدهم على ذلك ولكنا نؤخرهم إلى غلاتهم فقال
عمر: لا أعزلنك ماحييت.
رواهما أبو عبيد وقال إنما وجه التأخير إلى الغلة الرفق بهم، وقال ولم
نسمع في استيداء الجزية والخراج وقتاً غير هذا واستعمل علي بن أبي طالب
رضي الله عنه رجلا على عكبرى فقال له علي رءوس الناس لا تدعن لهم
درهماً من الخراج وشدد عليه القول ثم قال ائتني عند انتصاف النهار فأتا
فقال اتي كنت أمرتك بأمر وإني أتقدم إليك الآن فإن عصيتني نزعتك لا
تبيعن لم في خراجهم حماراً ولا بقرة ولا كسوة شتاء ولا صيف وارفق بهم
وافعل بهم (مسألة) (ويجوز أن يشترط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين
ويبين أيام الضيافة وقدر الطعام والادام والعلف وعدد من يضاف ولا يجب
ذلك من غير شرط وقيل يجب) يجوز أن يشترط في عقد الذمة ضيافة من يمر بهم
من المسلمين لما روى الإمام أحمد رضي الله عنه بإسناده عن الأحنف بن
قيس أن عمر شرط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة وأن يصلحوا
القناطر وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته قال إبن المنذر
وروي عن عمر أنه قضى على أهل الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين ثلاثة
أيام وعلف دوابهم وما يصلحهم.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب على نصارى أيلة ثلثمائة دينار
وكانوا
(10/607)
ثلثمائة نفس في كل سنة وأن يضيفوا من يمر
بهم من المسلمين ثلاثة أيام، ولأن في هذا ضربا من المصلحة لأنهم ربما
امتنعوا من مبايعة المسلمين إضراراً بهم فإذا شرطت عليهم الضيافة أمن
ذلك فإن لم يشرط عليهم الضيافة لم يجب ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي.
ومن أصحابنا من قال تجب بغير شرط لوجوبها على المسلمين والأول أصح لأنه
أداء مال لم يجب بغير رضاهم كالجزية، فإن شرطها عليهم فامتنعوا من
قبولها لم تعقد لهم الذمة، وقال الشافعي لا يجوز قتالهم عليها (فصل)
قال القاضي إذا شرط الضيافة فإنه يشترط أن يبين أيام الضيافة وعدد من
يضاف من الرجالة والفرسان فيقول تضيفون في كل سنة مائة يوم في كل يوم
عشرة من المسلمين من خبز كذا وادم كذا وللفرس من الشعير كذا ومن التبن
كذا لأنه من الجزية فاعتبر العلم به كالنقود فإن شرط الضيافة مطلقاً صح
في الظاهر لأن عمر رضي الله عنه شرط عليهم ذلك من غير عدد ولا تقدير
قال أبو بكر وإذا أطلق مدة الضيافة فالواجب يوم وليلة لأن ذلك الواجب
على المسلمين ولا يكلفون الذبيحة ولا أن يضيفوهم بأرفع من طعامهم لأنه
يروي عن عمر رضي الله عنه انه شكى إليه أهل الذمة أن المسلمين يكلفونهم
الذبيحة فقال أطعموهم مما تأكلون وقال الأوزاعي ولا يكلفون الذبيحة ولا
الشعير، وقال القاضي إذا وقع الشرط مطلقاً لم يلزمهم الشعير ويحتمل أن
يلزمهم ذلك للخيل لأن العادة جارية به فهو كالخبز للرجل.
وللمسلمين النزول في الكنائس والبيع فإن عمر رضي الله عنه صالح أهل
الشام على أن يوسعوا أبواب بيعهم وكنائسهم
(10/608)
لمن يجتاز بهم من المسلمين ليدخلوا ركبانا،
فإن لم يجدوا مكاناً فلهم النزول في الأفنية وفضول المنازل، وليس لهم
تحويل صاحب المنزل منه، والسابق إلى منزل أحق به ممن يأتي بعده فإن
امتنع
بعضهم من القيام بما يجب عليه أجبر عليه، فإن امتنع الجميع أجبروا، فإن
لم يكن إلا بالقتال قوتلوا فإن قاتلوا انتقض عهدهم (فصل) وتقسم الضيافة
بينهم على قدر جزيتهم فإن جعل الضيافة مكان الجزية جاز لما روي أن عمر
رضي الله عنه كتب لراهب من أهل الشام إني إن وليت هذه الأرض اسقطت عنك
خراجك فلما قدم الجابية وهو أمير المؤمنين جاءه بكتابة فعرفه وقال إني
جعلت لك ما ليس لي ولكن اختر إن شئت أداء الجزية وإن شئت أن تضيف
المسلمين فاختار الضيافة ويشترط أن تكون الضيافة يبلغ قدرها أقل الجزية
إذا قلنا مقدرة الأقل لئلا ينقص خراجه عن أقل الجزية وذكر أن من الشروط
الفاسدة لاكتفاء بضيافتهم عن جزيتهم لأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى
يعطوا الجزية فإذا لم يعطوها كان قتالهم مباحاً.
ولنا أن هذا اشتراط مال يبلغ قدر الجزية فجاز كما لو شرط عليهم عدل
الجزية معافر.
وإذا شرط في عقد الذمة شرطاً فاسداً مثل أن يشترط أن لا جزية عليهم أو
إظهار المنكر أو اسكانهم الحجاز أو إدخالهم الحرم أو نحو هذا فقال
القاضي يفسد به العقد لأنه شرط فعل محرم فأفسد العقد كما لو شرط قتال
المسلمين ويحتمل أن يبطل الشرط وحده بناء على الشروط الفاسدة في البيع
والمضاربة.
(10/609)
(مسألة) (وإذا تولى إمام فعرف قدر جزيتهم
وما شرط عليهم أقرهم عليه، فإن لم يعرف رجع إلى قولهم فإن بان كذبهم
رجع عليهم وعند أبي الخطاب أنه يسأنف العقد معهم) إذا مات الإمام أو
عزل وتولى غيره فإن عرف ما عقد عليه عقد الذمة الذي قبله وكان عقداً
صحيحاً أقرهم عليه ولم يحتج إلى تجديد عقد لأن الخلفاء رضي الله عنهم
أقروا عهد عمر ولم يجددوا عقداً سواه ولأن عقد الذمة مؤبد، وإن كان
فاسداً رده إلى الصحة وإن لم يعرف فشهد به مسلمان أو كان أمره ظاهراً
عمل به، وإن أشكل عليهم سألهم فإن ادعوا العقد بما يصلح أن يكون جزية
قبل قولهم وعمل به، وإن شاء استحلفهم استظهاراً فإن بان له بعد ذلك
انهم نقصوا من المشروط رجع
عليهم بما نقصوا، وإن قالوا كنا نؤدي كذا وكذا جزية وكذا كذا هدية
استحلفهم يميناً واحدة لأن الظاهر فيما يدفعونه أنه جزية وإن قال بعضهم
كنا نؤدي ديناراً وقال بعضهم كنا نؤدي دينارين أخذ كل واحد منهم
بإقراره ولم يقبل قول بعضهم على بعض لأن أقوالهم غير مقبولة واختار أبو
الخطاب أنه إذا لم يعرف ما عوهدوا عليه استأنف العقد معهم، لأن عقد
الاول لم يثبب عنده فصار كالمعدوم (فصل) وما يذكره بعض أهل الذمة من أن
معهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجزية عنهم لا يصح وسئل عن
ذلك أبو العباس بن سريج فقال ما نقل ذلك أحد من المسلمين وروي أنهم
طولبوا بذلك فأخرجوا كتاباً وذكروا أنه بخط علي كتبه عن النبي صلى الله
عليه وسلم كان فيه شهادة سعد بن معاذ
(10/610)
ومعاوية وتاريخه بعد موت سعد قبل إسلام
معاوية فاستدل بذلك على بطلانه ولأن قولهم غير مقبول ولم يرو ذلك من
يعتمد على روايته.
(مسألة) (وإذا عقد الذمة معهم كتب أسماءهم وأسماء آبائهم وعددهم وحلاهم
ودينهم) .
فيقول فلان بن فلان الفلاني طويل أو قصير أو ربعة أسمر أو أبيض أدعج
العين أقنى الأنف مقرون الحاجبين ونحو هذا من صفاتهم التي يتميز بها كل
واحد عن الآخر ويجعل لكل طائفة عريفاً يجمعهم عند أداء الجزية ويعرف من
يبلغ من غلمانهم ويفيق من مجانينهم ويقدم من غيابهم ومن يوت أو يسلم أو
يستغني أو يسافر لأنه أمكن لاستيفاء الجزية وأحوط ويبين حال من خرق
شيئاً من أحكام الذمة أو نقض العهد ليفعل فيه الإمام ما يجب عليه ومن
أخذت منه الجزية كتب له براءة لتكون له حجة إذا احتاج إليها.
(باب أحكام الذمة) يلزم الإمام أن يأخذهم بأحكام المسلمين في ضمان
النفس والمال والعرض وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه دون ما
يعتقدون حله.
لا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين بذل الجزية والتزام أحكام الملة من حقوق
الآدميين في العقود والمعاملات وأروش الجنايات وقيم المتلفات فإن عقد
على غير هذا من الشروط لم يصح لقول الله تعالى
(10/611)
(حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، قيل
الصغار جريان أحكام المسلمين عليهم وتلزمه إقامة الحدود عليهم فيما
يعتقدون تحريمه في دينهم كالزنا والسرقة والقتل والقذف سواء كان الحد
واجباً في دينهم أو لا لما روى أنس أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها
فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه وروى ابن عمر رضي الله
عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما
فرجمهما ولأنه محرم في دينه وقد التزم حكم الإسلام فأما ما يعتقدون حله
كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير ونكاح ذوات المحارم للمجوس فيقرون عليه
ولا حد عليهم فيه لأنهم يعتقدون حله ولأنهم يقرون على كفرهم وهو أعظم
إثماً من ذلك إلا أنهم يمنعون من إظهاره بين المسلمين لأنهم يتأذون
بذلك والمأخوذ من أحكام الذمة ينقسم خمسة أقسام.
(أحدهما) ما لا يتم العقد إلا بذكره وهو التزام الجزية وجريان أحكامنا
عليهم فإن أخل بذكر واحد منها لم يصح العقد لما ذكرنا وفي معنى ذلك ترك
قتال المسلمين فإنه وإن لم يذكر لفظه فذكر المعاهدة يقتضيه.
(القسم الثاني) ما فيه ضرر على المسلمين في أنفسهم وذلك ثمانية خصال
تذكر في نقض العهد إن شاء الله تعالى.
(القسم الثالث) ما فيه غضاضة على المسلمين وهو ذكر ربهم أو كتابهم أو
رسولهم بسوء (القسم الرابع) ما فيه إظهار منكر كإحداث الكنائس والبيع
ورفع أصواتهم بكتابهم وإظهار
(10/612)
الخمر والخنزير والضرب بالنواقيس وتعليه
البنيان على أبنيه المسلمين والإقامة بالحجاز ودخول الحرم فيلزمهم الكف
عنه سواء شرط عليهم أو لم يشرط في جميع هذه الأقسام الأربعة [القسم
الخامس] التميز عن المسلمين في أربعة أشياء لباسهم وشعورهم وركوبهم
وكناهم (مسألة) (ويلزمهم التميز عن المسلمين في شعورهم بحذف مقادم
رؤوسهم وترك الفرق وكناهم فلا يتكنون بكنى المسلمين كأبي القاسم وأبي
عبد الله وركوبهم بترك الركوب على السروج وركوبهم عرضاً على الأكف،
ولباسهم فيلبسون ثياباً تخالف ثيابهم كالعسلي والأدكن، وتشد الخرق
في قلانسهم وعمائمهم، ويؤمر النصارى بشد الزنار فوق ثيابهم ويجعل في
رقابهم خواتيم الرصاص وجلجل يدخل معهم الحمام) ينبغي للإمام إذا عقد
الذمة أن يشرط عليهم شروطاً نحو ما شرطه عمر رضي الله عنه، وقد رويت عن
عمر رضي الله عنه أخبار منها ما رواه الخلال باسناده عن إسماعيل بن
عياش قال حدثنا غير واحد من أهل العلم قالوا كتب أهل الجزيرة إلى عبد
الرحمن بن غنم: إنا حين قدمنا بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل
ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا وأهل ملتنا إنا لا نحدث في مدينتنا
كنيسة ولا فيما حولها ديراً ولا قلاية ولا صومعه راهب ولا نجدد ما خرب
من كنائسنا ولا ماكان منها في خطط المسلمين ولا نمنع كنائسنا من
المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار وإن نوسع أبوابها للمارة وابن
السبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً وأن لا نكتم أمر من غش
المسلمين وأن لا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا، ولا نظهر
علينا صليباً
(10/613)
ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في
كنائسنا فيما يحضره المسلمون ولا نخرج صليبنا ولا كتابنا في سوق
المسلمين وأن لا نخرج باعوثا ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع أمواتنا،
ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وأن لانجاورهم بالخنازير ولا
نبيع الخمور ولا نظهر شركاً ولا نرغب في ديننا ولا ندعوا إليه أحداً
ولا نتخذ شيئاً من الرقيق الذين جرت عليهم سهام المسلمين وأن لا نمنع
أحداً من أقربائنا إذا أرادوا الدخول في الإسلام، وأن نلزم زينا حيثما
كنا وأن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق
شعر ولا في مراكبهم ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنى بكناهم، وأن نجز مقادم
رؤوسنا ولا نفرق نواصينا ونشد الزنانير على اوساطنا ولاننقش خواتيمنا
بالعربية ولا نركب السروج ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله ولا
نتقلد السيوف وأن نوقر المسلمين في مجالسهم ونرشد الطريق ونقوم لهم عن
المجالس إذا أرادوا المجالس ولا نطلع عليهم في منازلهم ولا نعلم
أولادنا القرآن ولا يشارك أحد منا مسلماً في تجارة إلا أن يكون إلى
المسلم أمر التجارة، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من
أوسط ما نجد، ضمنا ذلك على أنفسنا
وذرارينا وأزواجنا ومساكننا، وأن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على
أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل لأهل
المعاندة والشقاق.
فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه عمر أن امض
لهم ما سألوا وألحق فيها حرفين اشترطها عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم
أن لا يشتروا من سبايانا شيئاً ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده.
فأنفذ عبد الرحمن بن غنم ذلك وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على
هذا الشرط
(10/614)
فهذه جملة شروط عمر رضي الله عنه فلذلك
يلزمهم التميز عن المسلمين في شعورهم بحذف مقادم رؤوسهم ويجزون شعورهم
ولا يفرقونها لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق شعره وأما في الكنى فلا
يتكنوا بكنى المسلمين كأبي القاسم وأبي عبد الله وأبي محمد وأبي بكر
وأبي الحسن وشبهها.
ولا يمنعون الكنى بالكلية فإن أحمد قال لطبيب نصراني يا أبا إسحاق وقال
أليس النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل على سعد بن عبادة قال (ألا ترى
ما يقول أبو الحباب؟) وقال لأسقف نجران (أسلم يا أبا الحارث) وقال عمر
لنصراني يا أبا حسان أسلم تسلم وأما الركوب فلا يركبون الخيل لأن
ركوبها عز، ولهم ركوب ما سواها، ولا يركبون السروج ويركبون عرضاً،
رجلاه إلى جانب وظهره إلى آخر لما روى الخلال أن عمر رضي الله عنه أمر
بجز نواصي أهل الذمة وإن يشدوا المناطق وأن يركبوا الأكف بالعرض وأما
في اللباس فهو أن يلبسوا ما يخالف لونه لون سائر الثياب فعاده اليهود
العسلي وعادة النصارى الأدكن وهو الفاختي وبكون هذا في ثوب واحد لا في
جميعها ليقع الفرق ويضيف إلى هذا شد الزنار فوق ثوبه إن كان نصرانياً
أو علامة أخرى إن لم يكن نصرانياً كخرقة يجعلها في عمامته أو قلنسوة
يخالف لونه لونها ويختم في رقبته خاتم رصاص أو حديد وجلجل يدخل معه
الحمام ليفرق بينه وبين
(10/615)
المسلمين، ويلبس نساؤهم ثوباً ملوناً وتشد
الزنار تحت ثيابها وتختم في رقبتها، ولا يمنعون فاخر الثياب ولا
العمائم ولا الطيلسان لحصول التميز بالغيار والزنار
(مسألة) (ولا يجوز تصديرهم في المجالس ولا بداءتهم بالسلام فإن سلم
أحدهم قيل له عليكم) لا يتصدرون في المجالس عند المسلمين لأن في كتاب
عبد الرحمن بن غنم وأن نوقر المسلمين في مجالسهم ونقوم لهم عن المجالس
إذا أرادوا المجالس ولا يبدؤون بالسلام وذلك لما روى أبو هريرة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا
لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقها) أخرجه الترمذي وقال حديث
حسن صحيح وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أنا غادون غداً
فلا تبدءوهم بالسلام وإن سلموا عليكم فقولوا وعليكم) رواه الإمام أحمد
بإسناده عن أنس رضي الله عنه أنه قال نهينا أو أمرنا أن لا نزيد أهل
الكتاب على وعليكم وقال أبو داود قلت لأبي عبد الله رحمه الله تكره أن
يقول الرجل للذمي كيف أصبحت؟ أو كيف؟ أنت أو كيف حالك؟ قال نعم أكرهه
هذا عندي أكثر من السلام وقال أبو عبد الله رحمه الله إذا لقيته في
طريق فلا توسع له لما تقدم من حديث أبي هريرة وروي عن ابن عمر أنه مر
على رجل فسلم عليه فقيل إنه كافر فقال رد علي ما سلمت عليك فرد عليه
فقال أكثر الله مالك وولدك ثم التفت إلى أصحابه فقال أكثر للجزية وقال
يعقوب بن يحيى سألت أبا عبد الله ققلت نعامل اليهود والنصارى ونأتيهم
في منازلهم وعندهم قوم
(10/616)
مسلمون انسلم عليهم قال نعم تنوي السلام
على المسلمين وسئل عن مصافحة أهل الذمة فكرهه (فصل) ولا يجوز تمكينهم
من شراء مصحف ولا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فقه وإن فعل
فالشراء باطل لأن ذلك يتضمن ابتذاله وكره أحمد بيعهم الثياب المكتوب
عليها ذكر الله تعالى قال منها سألت أبا عبد الله هل يكره للمسلم أن
يعلم غلاما مجوسيا شيئا من القرآن؟ قال إن أسلم فنعم وإلا فأكره أن يضع
القرآن في غير موضعه قلت فنعلمه أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم
قال نعم وقال الفضل ابن زياد سألت أبا عبد الله عن الرجل يرهن المصحف
عند أهل الذمة قال لا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر
بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (مسألة) (وفي تهنئتهم
وتعزيتهم وعيادتهم روايتان) تهنئتهم وتعزيتهم تخرج على عيادتهم فيها
روايتان (إحداهما) لا نعودهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن بداءتهم بالسلام وهذا في معناه (والثانية) تجوز لأن النبي صلى الله
عليه وسلم أتى غلاماً من اليهود كان مريضاً يعوده فقعد عند رأسه فقال
(له أسلم) فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال أطع أبا القاسم فأسلم فقام
النبي صلى الله عليه وسلم فقال (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)
رواه البخاري (مسألة) (ويمنعون من تعلية البنيان على المسلمين وفي
مساواتهم وجهان) لقولهم في شروطهم ولا نطلع عليهم في منازلهم ولما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الإسلام
(10/617)
يعلو ولا يعلى) ولأن في ذلك رتبة على
المسلمين فمنعوا منه كما يمنعون التصدير في المجالس وإنما يمنع من
تعليته على المسلم المجاور له ولا يمنع من تعليتها على من ليس بمجاور
له لأن الضرر إنما يحصل عليه دون غيره وفي المساواة وجهان (أحدهما)
يجوز لأنه لا يفضي إلى علو الكفر (والثاني) المنع لقوله عليه السلام
(الإسلام يعلو ولا يعلى) ولأنهم منعوا من مساواة المسلمين في لباسهم
وشعورهم وركوبهم وكذلك في بنيانهم فإن كان للذمي دار عالية فملك المسلم
داراً إلى جانبها أو بنى المسلم إلى جنب دار الذمي داراً دونها أو
اشترى ذمي داراً عالية من المسلم فله سكنى داره ولا يلزمه هدمها لأنه
ملكها على هذه الصفة ولأنه لم يعل على المسلمين شيئاً ويحتمل أن يلزمه
لقوله عليه السلام (الإسلام يعلو ولا يعلى) فإن انهدمت داره العالية ثم
جدد بناءه لم تجز له تعليته على بناء المسلمين وإن انهدم ما علا منها
لم تكن له اعادته فإن تشعث منه شئ ولم ينهدم فله رمه وإصلاحه لأنه ملك
استدامته فملك رم شعثه كالكنيسة (مسألة) (وإن ملكوا داراً عالية من
مسلم لم يجب نقضها لأنهم ملكوها على هذه الصفة) ويحتمل أن يجب لقولهم
فيما شرطوا على أنفسهم ولا نطلع عليهم في منازلهم ولقوله عليه السلام
(الإسلام يعلو ولا يعلى) (مسألة) (ويمنعون من إحداث الكنائس والبيع ولا
يمنعون رم شعثها وفي بناء ما استهدم منها روايتان) أمصار المسلمين
ثلاثة أقسام (أحدها) ما مصره المسلمون كالبصرة والكوفة وبغداد
وواسط فلا يجوز فيه إحداث كنيسة ولا بيعة ولا مجتمع لصلاتهم ولا يجوز
صلحهم على ذلك لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال أيما مصر
مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة ولا يضربوا فيه ناقوساً ولا
يشربوا فيه خمراً ولا يتخذوا فيه خنزيراً رواه الإمام أحمد واحتج
(10/618)
به ولأن هذا البلد ملك للمسلمين ولا يجوز
أن يبنوا فيه مجامع للكفر وما وجد في هذه البلاد من البيع والكنائس مثل
كنيسة الروم في بغداد فهذه كانت في قرى أهل الذمة فأقرت على ما كانت
عليه (القسم الثاني) ما فتحه المسلمون عنوة فلا يجوز احداث شئ من ذلك
فيه لأنها صارت ملكاً للمسلمين وما فيه من ذلك ففيه وجهان (أحدهما) يجب
هدما (هدمها) وتحرم تبقينه (تبقيته) لأنها بلاد مملوكة للمسلمين فلم
يجز أن تكون فيها بيعة كالبلاد التي اختطها المسلمون (والثاني) يجوز
لأن في حديث ابن عباس أيما مصر مصرته العجم ثم فتحه الله على العرب
فنزلوه فإن للعجم ما في عهدهم ولأن الصحابة رضي الله عنهم فتحوا كثيراً
من البلاد عنوة فلم يهدموا شيئاً من الكنائس ويشهد بصحة هذا وجود
الكنائس والبيع في البلاد التي فتحت عنوة ومعلوم أنها لم تحدث فلزم أن
تكون موجودة فأبقيت، وقد كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عماله
أن لا تهدموا بيعه ولا كنيسة ولا بيت نار ولأن الإجماع قد حصل على ذلك
فإنها موجودة في بلاد المسلمين من غير نكير (القسم الثالث) ما فتح
صلحاً وهو نوعان (أحدهما) أن يصالحهم على أن الأرض لهم، ولنا الخراج
عنها فلم احداث ما يخنارون لأن الدار لهم (الثاني) أن يصالحهم على أن
الدار للمسلمين فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح من
إحداث ذلك وعمارته لأنه إذا جاز أن يصالحهم على أن الكل لهم جاز أن
يصالحوا على أن بعض البلد لهم ويكون موضع الكنائس والبيع معنا والاولى
أن يصالحهم على ما صالحهم عليه عمر رضي الله
(10/619)
عنه ويشترط عليهم الشروط المذكورة في كتاب
عبد الرحمن بن غنم وفيه أن لا تحدثوا كنيسة ولا
بيعة ولا صومعة راهب ولا قلاية، وإن وقع الصلح مطلقاً من غير شرط عمل
على ما وقع عليه صلح عمر وأخذوا بشروطه، فأما الذين صالحهم عمر وعقد
معهم الذمة فهم على ما في كتاب عبد الرحمن بن غنم مأخوذون بشروطه كلها
وما وجدوا في بلاد المسلمين من الكنائس والبيع فهي على ما كانت عليه في
زمن من فتحها ومن بعدهم وكل موضع قلنا بجواز إقرارها لم يجز هدمها ولهم
رم ما تشعث منها وإصلاحها لأن المنع من ذلك يفضي إلى خرابها فجرى مجرى
هدمها فأما إن استهدمت كلها ففيها روايتان (إحداهما) لا يجوز وهو قول
بعض أصحاب الشافعي (والثانية) يجوز وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه
بناء لما استهدم أشبه بناء بعضها إذا انهدم ورم شعثها ولأن استدامتها
جائزة وبناؤها كاستدامتها وحمل الخلال قول أحمد لهم أن يبنوا ما انهدم
منها على ماذا انهدم بعضها ومنعه من بناء ما انهدم على ما إذا انهدمت
كلها فجمع بين الروايتين.
ووجه الرواية الأولى أن في كتاب أهل الجزيرة لعياض بن غنم ولا نجدد ما
خرب من كنائسنا، وروى كثير بن مرة قال علي سمعت عمر بن الخطاب رضي الله
عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تبنى الكنيسة في
الإسلام ولا يجدد ما خرب منها) ولأنه بناء كنيسة في دار الإسلام فلم
يجز كما لو ابتدأ بناءها وفارق رم ماشعث فإنه إبقاء واستدامة وهذا
إحداث (مسألة) (ويمنعون من إظهار المنكر وضرب الناقوس والجهر بكتابهم)
يمنعون من إظهار المنكر كالخمر والخنزير وضرب الناقوس ورفع أصواتهم
بكتابهم وإظهار أعيادهم
(10/620)
وصلبهم لأن في شروطهم لعبد الدحمن بن غنم
أن لا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا ولا نظهر عليها
صليبا ولا نرفع أصواتنا في صلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره
المسلمون وأن لا نخرج صليباً ولا كتابا في سوق المسلمين وأن لا نخرج
باعوثا ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع موتانا وأن لا نجاورهم
بالخنازير ولا نظهر شركا وقد ذكرنا بقية الكتاب (مسألة) (وإن صولحوا في
بلادهم على إعطاء الجزية لم يمنعوا شيئاً من ذلك ولم يؤخذوا بغيار ولا
زنار ولا تغيير شعورهم ولا مراكبهم) لأنهم في بلدانهم فلم يمنعوا من
إظهار دينهم كأهل
الحرب في الهدنة (مسألة) (ويمنعون من دخول الحرم) وبهذا قال الشافعي
وقال أبو حنيفة لهم دخوله كالحجاز ولا يستوطنون به ولهم دخول الكعبة
والمنع من الاستيطان لا يمنع الدخول والتصرف كالحجاز ولنا قوله تعالى
(إنما المشركون نجس فلا يقوبوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) والمراد
به الحرم بدليل قوله (سبحانه سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد
الحرام إلى المسجد الأقصى) وإنما أسري به من بيت أم هانئ وهو خارج
المسجد ويخالفه الحجاز لأن الله تعالى منع منه مع إذنه في الحجاز فإن
هذه الآية نزلت واليهود بخيبر والمدينة وغيرهما من الحجاز ولم يمنعوا
الإقامة به وأول من أجلاهم عمر رضي الله عنه ولأن الحرم أشرف لتعلق
النسك به ويحرم شجرة وصيده والملتجئ إليه فلا يصح قياس غيره عليه
(مسألة) (فإن قدم رسول لا بدله من لقاء الإمام خرج إليه ولم يأذن له
فإن دخل عزر وهدد وأخرج فإن مرض أو مات أخرج وإن دفن نبش وأخرج إلا أن
يكون قد بلي)
(10/621)
إذا أراد كافر الدخول إلى الحرم منع على ما
ذكرنا فإن كانت معه تجارة أو ميرة خرج إليه من يشتري منه ولم يمكن من
الدخول للآية وإن كان رسولا إلى الإمام بالحرم خرج إليه من يسمع رسالته
فإن قال لابد لي من لقاء الإمام خرج إليه الإمام ولم يأذن له فإن دخل
عالماً بالمنع عزر وإن دخل جاهلاً هدد وأخرج فإن مرض بالحرم أو مات
أخرج ولم يدفن به لأن حرمه الحرم أعظم ويفارق الحجاز من وجهين (أحدهما)
أن دخوله إلى الحرم حرام وإقامته به حرام بخلاف الحجاز (والثاني) أن
خروجه من الحرم سهل ممكن لقرب الحل منه وخروجه من الحجاز في مرضه صعب
ممتنع وإن دفن نبش وأخرج لأنه إذا لم يجز دخوله في حياته فدفن جيفته
أولى أن لا يجوز فإن كان قد بلي أو يصعب إخراجه لنتنه وتقطعه ترك
للمشقة فيه (فصل) فإن صالحهم الامام على دخول الحرم بعوض فالصلح باطل
فان دخلوا إلى الموضع
الذي صالحهم عليه لم يرد عليهم العوض لانهم قد استوفوا ما صالحهم عليه،
وان وصلوا إلى بعضه أخذ من العوض بقدره، ويحتمل أن يرد عليهم العوض بكل
حال لأن ما استوفوه لا قيمة له، والعقد لم يوجب العوض لبطلانه (مسألة)
(ويمنعون من الإقامة بالحجاز كالمدينة واليمامة وخيبر وفدك وما والاها)
وبهذا قال مالك والشافعي إلا أن مالكا قال أرى أن يجلوا من أرض العرب
كلها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يجتمع دينان في جزيرة
العرب) وروى أبو داود بإسناده عن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا
أترك فيها إلا مسلماً) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وعن ابن عباس
قال: أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشياء قال (أخرجوا
المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم) وسكت عن
الثالث رواه أبو داود
(10/622)
وجزيرة العرب مابين الوادي إلى أقصى اليمن
قاله سعيد بن عبد العزيز، وقال الاصمعي وابو عبيد هي من ريف العراق إلى
عدن طولا ومن تهامة وما وراها إلى أطراف الشام عرضاً وقال أبو عبيدة هي
من حفر أبي موسى إلى اليمن طولا ومن رمل تبرين إلى منقطع السماوة عرضا
وقال الخيل إنما قيل لها جزيرة العرب لأن بحر الحبش وبحر فارس والفرات
قد أحاطت بها ونسبت إلى العرب لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها.
قال أحمد جزيرة العرب المدينة وما والاها يعني أن الممنوع من سكنى
الكفار به المدينة وما والاها وهو مكة والمدينة وخيبر والينبع وقيل
ومخاليفها وما والاها وهو قول الشافعي لأنهم لم يجلوا من تيماء ولا من
اليمن، وقد روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال آخر ما تكلم به النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال (أخرجوا اليهود من الحجاز) وأما إخراج أهل
نجران منه فلأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على ترك الربا فنقضوا
عهده فكأن جزيرة العرب في تلك الأحاديث أريد بها الحجاز وإنما سمي
حجازا لأنه؟ حجز بين تهامة ونجد (مسألة) (فإن دخلوا بتجارة لم يقيموا
في موضع واحد أكثر من أربعة أيام)
يجوز لهم دخول الحجاز لتجارة لأن النصارى كانوا يتجرون إلى المدينة في
زمن عمر رضي الله عنه وأتاه شيخ بالمدينة وقال: أنا الشيخ النصراني وإن
عاملك عشرني مرتين فقال عمر وأنا الشيخ الحنيف، وكتب له عمر ألا يعشروا
في السنة إلا مرة فعلى هذا لا يأذن لهم في الإقامة أكثر من ثلاثة أيام
على ماروى عمر رضي الله عنه ثم ينتقل عنه، وقال القاضي يقيمون أربعة
أيام حد ما يتم المسافر الصلاة والحكم في دخولهم إلى الحجاز في اعتبار
الإذن كالحكم في دخول أهل الحرب دار الإسلام لا يجوز إلا بإذن الإمام
فيأذن لهم إذا رأى المصلحة فيه (مسألة) (فإن مرض لم يخرج حتى يبرأ وإن
مات دفن به) إذا مرض بالحجاز جازت له الإقامة لمشقة الانتقال على
المريض وتجوز الإقامة
(10/623)
لمن يمرضه لأنه لا يستغني عنه فإن كان له
دين حال أجبر غريمة على وفائه فإن تعذر لمطل أو تغيب فينبغي أن تجوز له
الاقامة ليستوفي دينه لأن التعدي من غيره، وفي إخراجه ذهاب ماله، وإن
كان الدين مؤجلاً لم يمكن من الإقامة ويوكل من يستوفيه له لأن التفريط
منه، وإن دعت الحاجة إلى الإقامة ليبيع بضاعته احتمل الجواز لأن في
تكليفه تركها وحملها معه ضياع ماله وذلك مما يمنع من الدخول إلى الحجاز
بالبضائع فتفوت مصلحتهم وتلحقهم المضرة بانقطاع الجلب عنهم، ويحتمل أن
يمنع من الإقامة لأن له من الإقامة بدا فإن أراد الانتقال إلى مكان آخر
من الحجاز جاز ويقيم فيه أيضاً ثلاثة أيام أو أربعة على الخلاف فيه
وكذلك إن انتقل منه الى مكان آخر، ولو حصلت الإقامة في الجميع شهراً،
وإذا مات بالحجاز دفن لأنه يشق نقله وإذا جازت الإقامة للمريض فدفن
الميت أولى (مسألة) (ولا يمنعون من تيماء وفيد ونحوهما) لأن عمر لم
يمنعهم من ذلك (مسألة) (وهل لهم دخول المساجد بإذن مسلم؟ على روايتين)
لا يجوز لهم دخول مساجد الحل بغير إذن المسلمين لما روت ام عراب قالت
رأيت علياً رضي الله عنه على المنبر وبصر بمجوسي فنزل فضربه وأخرجه من
أبواب كندة، فإن أذن لهم في دخولها جاز في الصحيح من المذهب لأن النبي
صلى الله عليه وسلم قدم عليه وفد من أهل الطائف فأنزلهم
في المسجد قبل إسلامهم وقال سعيد بن المسيب كان أبو سفيان يدخل مسجد
المدينة وهو على شركه وقدم عمير بن وهب فدخل المسجد والنبي صلى الله
عليه وسلم فيه ليفتك به فرزقه الله الإسلام وفيه رواية أخرى ليس لهم
دخوله بحال لأن أبا موسى دخل على عمر ومعه كتاب قد كتب فيه حساب عمله
فقال له عمر ادع الذي كتبه ليقرأه قال إنه لا يدخل المسجد قال ولم لا
يدخل المسجد؟ قال أنه نصراني فانتهره عمر وهذا اتفاق منهم على إنه لا
يدخل المسجد وفيه دليل على شهرة ذلك بينهم وتقريره عندهم لأن حدث الحيض
(10/624)
والجنابة والنفاس يمنع الإقامة في المسجد
فحدث الشرك أولى والأول أصح لأنه لو كان محرماً لما أقرهم عليه النبي
صلى الله عليه وسلم (فصل) قال أحمد في الرجل له المرأة النصرانية لا
يأذن لها أن تخرج إلى عيد أو تذهب إلى بيعه وله أن يمنعها ذلك وكذلك في
الأمة قيل له أله أن يمنعها من شرب الخمر؟ قال يأمرها فإن لم تقبل فليس
له منعها قيل له فإن طلبت منه أن يشتري لها زناراً قال لا يشتري
زناراً؟ تخرج هي تشتري لنفسها (فصل) قال رضي الله عنه وإن اتجر ذمي الى
غير بلده ثم عاد فعليه نصف العشر وقال الشافعي ليس عليه إلا الجزية إلا
أن يدخل أرض الحجاز فينظر في حاله فإن كان لرسالة أو نقل ميرة أذن له
بغير شئ وإن كان لتجارة لا حاجة بأهل الحجاز إليها لم يأذن له إلا أن
يشترط عليه عوضاً بحسب ما يراه.
والأولى أن يشترط نصف العشر لأن عمر شرط نصف العشر على من دخل الحجاز
من أهل الذمة ولنا ما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(ليس على المسلمين عشور إنما العشور على اليهود والنصارى) وعن أنس بن
سيرين قال بعثني أنس بن مالك إلى العشور فقلت بعثتني إلى العشور من بين
عمالك قال ألا ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب رضي الله
عنه أمرني إن أخذ من المسلمين ربع العشر ومن أهل الذمة نصف العشر رواه
الإمام أحمد وهذا كان بالعراق وروى أبو عبيد في كتاب الأموال بإسناده
عن لاحق بن عميد أن عمر بعث عثمان بن حنيف
إلى الكوفة فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كل
عشرين درهما درهما وهذا كان بالعراق واشتهرت هذه القصص وعمل بها
الخلفاء بعده ولم ينكر ذلك فكان إجماعاً ولم يأت تخصيص الحجاز بنصف
العشر في شئ من الأحاديث عن عمر ولا غيره فيما علمنا ولأن ما وجب في
الحجاز من الأموال وجب في غيره كالديون والصدقات إذا ثبت هذا فلا فرق
في ذلك بين بني تغلب ولا غيرهم.
وروى عن أحمد أن التغلبي يؤخذ منه العشر ضعف ما يؤخذ من أهل الذمة لما
روي بإسناده عن زياد بن حدير أن عمر رضي الله عنه
(10/625)
بعثه مصدقاً فأمره أن يأخذ من نصارى بني
تغلب العشر ومن نصارى أهل الذمة نصف العشر رواه أبو عبيد قال: والعمل
على حديث داود بن كردوس والنعمان بن زرعة وهو أن يكون عليهم الضعف مما
على المسلمين ألا تسمعه يقول من كل عشرين درهماً درهم؟ وإنما يؤخذ من
المسلمين من كل أربعين درهماً درهم فذلك ضعف هذا وهو ظاهر كلام الخرقي
وهو أقيس فإن الواجب في سائر أموالهم ضعف ما على المسلمين لا ضعف ما
على أهل الذمة (فصل) ولا يؤخذ من غير مال التجارة شئ فلو مر بالعاشر
منهم منتقل ومعه أمواله أو سائمة لم يؤخذ منه شئ نص عليه أحمد رحمه
الله إلا أن تكون الماشية للتجارة فيؤخذ منها نصف العشر (فصل) واختلفت
الرواية عن أحمد في العاشر يمر عليه الذمي بخمر أو خنزير فقال عمر: قال
في موضع ولو هم بيعها ولا يكون إلا على الأخذ منها وروي بإسناده عن
سويد بن غفلة في قول عمر ولو هم بيع الخمر والخنزير لعشرها قال أحمد
إسناده جيد، وممن رأى ذلك مسروق والنخعي وابو حنيفة وبه قال محمد بن
الحسن في الخمر خاصة وذكر القاضي أن أحمد نص على أنه لا يؤخذ وبه قال
عمر بن عبد العزيز وأبو عبيد وأبو ثور قال عمر بن عبد العزيز الخمر لا
يعشرها مسلم.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن عتبة بن فرقد بعث إليه بأربعين
ألف درهم صدقة الخمر فكتب إليه عمر بعث إلي بصدقة الخمر وأنت أحق بها
من المهاجرين فأخبر بذلك الناس
وقال والله لااستعملتك علي شئ بعدها قال فنزعه قال أبو عبيد معنى قول
عمر ولوهم بيعها وخذوا أنتم من الثمن أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل
الذمة الخمر والخنازير من جزيتهم وخراج أرضهم بقيمتها ثم يتولى
المسلمون بيعها فأنكره عمر ثم رخص لهم أن يأخذوا من أثمانها اذا كان
أهل الذمة المتولين لبيعها وروى بإسناده عن سويد بن غفلة أن بلالاً قال
لعمر إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج فقال لا تأخذوه ولكن
ولوهم بيعها وخذوا أنتم من الثمن
(10/626)
(فصل) وإذا مر الذمي بالعشر وعليه دين بقدر
ما معه أو ينقص ما معه عن النصاب فظاهر كلام أحمد أن ذلك يمنع أخذ نصف
العشر منه لأنه حق يعتبر له النصاب والحول فمنعه الدين كالزكاة فإن
ادعى الدين احتاج إلى بينة مسلمين وإن مر بجارية فادعى أنها ابنته أو
أخته قبل قوله في إحدى الروايتين لأن الأصل عدم ملكه.
(والثانية) لا يقبل لأنها في يده أشبهت البهيمة ولأنه تمكنه إقامة
البينة.
(مسألة) (فان انجر حربي إلينا أخذ منه العشر ولا يؤخذ من أقل من عشرة
دنانير) .
هذا قول أحمد رحمه الله وقال أبو حنيفة لا يؤخذ منهم شئ إلا أن يكونوا
يأخذون منا شيئاً فنأخذ منهم مثله لما روي عن أبي مجلزقال قالوا لعمر
كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا؟ قال كيف يأخذون منكم إذا دخلتم
إليهم؟ قالوا العشر قال فكذلك خذوا منهم وعن زياد بن حدير قال كنا
لانعشر مسلماً ولا معاهداً قال من كنتم تعشرون؟ قال كفار أهل الحرب
نأخذ منهم كما يأخذون منا، وقال الشافعي إن دخل إلينا لتجارة لا يحتاج
إليها المسلمون لم يأذن له الإمام إلا بعوض يشرطه وما شرطه جاز ويستحب
أن يشرط العشر ليوافق فعل عمر رضي الله عنه، وإن أذن مطلقاً من غير شرط
فالمذهب أنه لا يؤخذ منهم شئ لأنه أمان من غير شرط فلم يستحق به شئ
كالهدنة ويحتمل أن يجب عشر لأن عمر أخذه.
ولنا ما رويناه في المسألة التي قبلها ولأن عمر أخذ منهم العشر واشتهر
ذلك فيما بين الصحابة وعمل به الخلفاء بعده والأئمة في كل عصر من غير
نكيرفاي إجماع يكون أقوى من هذا؟ ولم ينقل عنه أنه شرط عليهم ذلك عند
دخولهم ولا يثبت ذلك بالظن من غير نقل ولأن مطلق الأمر
يحمل على المعهود في الشرع وقد اشتهر أخذ العشر منهم في زمن الخلفاء
الراشدين فيجب أخذه فأما سؤال عمر عما يأخذون منا فإنما كان لأنهم
سألوا عن كيفية الأخذ ومقداره ثم استمر الأخذ من غير سؤال، ولو تقيد
أخذنا منهم بأخذهم منا لوحب أن يسأل عنه في كل وقت
(10/627)
(فصل) ويؤخذ منهم العشر لكل مال للتجارة في
ظاهر كلامه ههنا وهو ظاهر قول الخرقي،.
وقال القاضي إن دخلوا في نقل ميرة بالناس إليها حاجة أذن لهم في الدخول
بغير عشر وهو قول الشافعي لأن في دخولهم نفع المسلمين.
ولنا عموم مارويناه، وقد روى صالح عن أبيه عن عبد الرحمن بن مهدي عن
الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر أنه كان يأخذ من النبط من القطنية العشر
ومن الحنطة والزبيب نصف العشر ليكثر الحمل إلى المدينة فعلى هذا يجوز
للإمام التخفيف عنهم إذا رأى المصلحة فيه وله الترك أيضاً إذا رأى
المصلحة لانه فيئ فملك تخفيفه وتركه كالخراج.
(فصل) ويؤخذ العشر من كل حربي تاجر ونصف العشر من كل ذمي تاجر ذكراً
كان أو انثى صغيراً أو كبيراً، وقال القاضي ليس على المرأة عشر ولا نصف
عشر سواء كانت حربية أو ذمية لكن إن دخلت الحجاز عشرت لأنها ممنوعة من
الإقامة به، قال شيخنا ولا نعرف هذا التفصيل عن أحمد ولا يقتضيه مذهبه
لأنه يوجب الصدقة في أموال نساء بني تغلب وصبيانهم فكذلك يوجب العشر
ونصفه في مال النساء وعموم الأحاديث المروية ليس فيها تخصيص للرجال دون
النساء وليس هذا بجزية إنما هو حق يختص بمال التجارة لتوسعه في دار
الإسلام وانتفاعه بالتجارة فيه فيستوي فيه الذكر والأنثى كالزكاة في حق
المسلمين.
(فصل) واختلفت الرواية في القدر الذي يؤخذ منه العشر ونصف العشر فروى
صالح عنه في نصف العشر من كل عشرين دينارا دينارا يعني فإذا نقصت عن
العشرين فليس عليه شئ لأن ما دون النصاب لا يجب فيه زكاة على مسلم ولا
على تغلبي فلا يجب على ذمي كالذي دون العشرة وروى صالح أيضاً أنه قال
إذا مروا بالعاشر فإن كانوا أهل الحرب أخذ منهم العشر من العشرة واحداً
فإن كانوا من
أهل الذمة أخذ منهم نصف العشر من كل عشرين دينارا دينارا فإذا نقصت
فليس عليه شئ وإن نقص مال الحربي عن عشرة دنانير لم يؤخذ منه شئ ولا
يؤخذ منهم إلا مرة واحدة المسلم والذمي في ذلك سواء وروى عن أحمد أن في
العشرة نصف مثقال وليس فيما دون العشرة شئ، نص عليه
(10/628)
في رواية أبي الحارث قال قلت إذا كان مع
الذمي عشرة دنانير قال نأخذ منه نصف دينار قلت فإن كان معه أقل من عشرة
دنانير، قال إذا نقصت لم يؤخذ منه شئ وذلك لأن العشرة مال يبلغ واجبه
نصف دينار فوجب فيه كالعشرين في حق المسلم ولأنه مال معشور فوجب في
العشرة منه كمال الحربي وقال ابن حامد يؤخذ عشر الحربي ونصف عشر الذمي
من كل مال قل أو كثر لأن عمر قال خذ من كل عشرين درهماً درهماً ولأنه
حق عليه فوجب في قليلة وكثيره نصيب المالك في أرضه التي عامله عليها.
ولنا أنه عشر ونصف عشر وجب بالشرع فاعتبر له نصاب كزكاة الزرع والثمرة
ولأنه حق يقدر بالحول فاعتبر له النصاب كالزكاة، وأما قول عمر فالمراد
به والله أعلم بيان قدر المأخوذ وأنه نصف العشر ومعناه إذا كان معه
عشرة دنانير فخذ من كل عشرين درهماً درهماً لأن في صدر الحديث أن عمر
أمر مصدقاً وأمره أن يأخذ من المسلمين من كل أربعين درهماً درهماً ومن
أهل الذمة من كل عشرين درهماً درهماً ومن أهل الحرب من كل عشرة واحدا،
وإنما يؤخذ ذلك من المسلم إذا كان معه نصاب فكذلك من غيرهم (مسألة)
(ويؤخذ منه في كل عام مرة، وقال ابن حامد يؤخذ من الحربي كلما دخل
إلينا لا يعشر الذمي ولا الحربي في السنة إلا مرة، نص عليه أحمد لما
روي الإمام أحمد بإسناده قال جاء شيخ نصراني إلى عمر فقال إن عاملك
عشرني في السنة مرتين، قال ومن أنت؟ قال أنا الشيخ النصراني فقال وأنا
الشيخ الحنيف ثم كتب إلى عامله لا تعشروا في السنة إلا مرة، ولأن
الجزية والزكاة إنما تؤخذ في السنة مرة فكذلك هذا، ومتى أخذ منهم ذلك
مرة كتب لهم حجة بأدائهم لتكون وثيقة لهم وحجة على من يمرون عليه فلا
يعشرهم ثانية إلا أن يكون معه أكثر من المال الأول فيأخد منه الزيادة
لأنها لم تعشر وحكي عن أبي عبد الله بن حامد أن الحربي يعشر كلما دخل
إلينا وهو قول بعض أصحاب
الشافعي لأننا لو أخذنا منه واحدة لا يأمن أن يدخلوا فإذا جاء وقت
السنة لم يدخلوا فيتعذر الأخذ منهم
(10/629)
ولنا أنه حق يؤخذ من التجارة فلا يؤخذ في
السنة إلا مرة كنصف العشر من الذمي، وقولهم يفوت لا يصلح فإنه يؤخذ منه
أول ما يدخل مرة ويكتب الآخذ له بما أخذ منه ثم لا يؤخذ منه شئ حتى
تمضي تلك السنة فإذا جاء في العام الثاني أخذ منه في أول ما يدخل فإن
لم يدخل فما فات من حق السنة الأولى شئ (مسألة) (وعلى الامام حفظهم
والمنع من أذاهم واستنقاذ من أسر منهم) تلزمه حمايتهم من المسلمين وأهل
الحرب وأهل الذمة لأنه التزم بالعهد حفظهم ولهذا قال علي رضي الله عنه
إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا وقال عمر
رضي الله عنه في وصيته للخليفة بعده وأوصيه بأهل ذمة المسلمين خيراً أن
يوفى لهم بعهدهم ويحاطوا من ورائهم ويجب فداء أسراهم سواء كانوا في
معونتنا أو لم يكونوا وهذا ظاهر قول الخرقي وهو قول عمر بن عبد العزيز
والليث لأننا التزمنا حفظهم بمعاهدتهم وأخذ جزيتهم فلزمنا القتال من
ورائهم والقيام دونهم فإذا عجزنا عن ذلك وأمكننا تخليصهم لزمنا ذلك
وقال القاضي إنما يجب فداؤهم إذا استعان بهم الإمام في قتال فسبوا وجب
عليه فداءهم لأن أسرهم كان لمعنى من جهته وهو المنصوص عن أحمد ومتى وجب
فداؤهم فإنه يبدأ بفداء المسلمين قبلهم ولأن حرمة المسلم أعظم والخوف
عليه أشد وهو معرض الفتنة عن دين الحق بخلاف أهل الذمة (فصل) ومن هرب
منهم إلى دار الحرب ناقضاً للعهد عاد حربياً حكمه حكم الحربي سواء كان
رجلاً أو امرأة ومتى قدر عليه أبيح منه ما يباح من الحربي من القتل
والأسر وأخذ المال فإن هرب بأهله وذريته أبيح من الهاربين منهم ما يباح
من أهل الحرب ولم يبح سبي الذرية لأن النقض إنما وجد من البالغين دون
الذرية، وإن نقضت طائفة من أهل الذمة جاز غزوهم وقتالهم، وإن نقص بعضهم
دون بعض اختص حكم النقض بالناقض وإن لم ينقضوا لكن خاف النقض منهم لم
يجز أن ينبذ إليهم عهدهم لأن عقد الذمة لحقهم بدليل أن الإمام تلزمه
إجابتهم بخلاف عقد الأمان والهدنة فإنه لمصلحة
المسلمين ولأن عقد الذمة آكد لأنه مؤبد وهو معاوضة وكذلك إذا نقض بعض
أهل الذمة العهد
(10/630)
وسكت بقيتهم لم يكن سكوتهم نقضاً وفي عقد
الهدنة يكون نقضا (مسألة) وإن تحاكموا إلى الحاكم مع مسلم لزمه الحكم
بينهم وإن تحاكم بعضهم مع بعض أو استعدى بعضهم على بعض خير بين الحكم
بينهم وبين تركهم) لأن إنصاف المسلم والإنصاف منه واحب وطريقه الحكم
لقول الله تعالى (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) ولأنهما كافران
فلم يجب الحكم بينهما كالمستأمنين ولا يحكم بينهم إلا بحكم الإسلام
لقول الله تعالى (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) وعنه يلزمه الحكم بينهم
لقول الله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله) ولأن رفع الظلم عنهم
واجب وطريقه الحكم فوجب كالحكم بين المسلمين (فإن استعدت المرأة على
زوجها في طلاق أو إيلاء أو ظهار فإن شاء أعداهما وإن شاء تركهما على
الرواية الأولى فإن أحضرت زوجها حكم عليه بحكم المسلمين في مثل ذلك،
فإن كان قد ظاهر منها منعه وطأها حتى يكفر وتكفيره بالإطعام لأنه لا
يصح منه الصوم ولا يصح شراؤه للعبد المسلم ولا تملكه (مسألة) (وإن
تبايعوا بيوعاً فاسدة وتقابضوا لم ينقض فعلهم لانه عقدتم قبل إسلامهم
على ما يجوز ابتداء العقد عليه فأقروا عليه ولم ينقض كأنكحتهم وإن لم
يتقابضوا فسخه سواء كان قد حكم بينهم حاكمهم أم لا) لأنه عقد لم يتم
ولا يجوز الحكم بإتمامه لكونه فاسداً فتعين نقضه وحكم حاكمهم وجوده
كعدمه لأن من شرط الحاكم النافذة أحكامه الإسلام ولم يوجد (فصل) سئل
أحمد رحمه الله عن الذمي يعامل بالربا ويبيع الخمر والخنزير ثم يسلم
وذلك المال في يده فقال لا يلزمه أن يخرج منه شيئاً لأن ذلك مضى في حال
كفره فأشبه نكاحه في الكفر إذا أسلم، وسئل عن المجوسيين يجعلان ولدهما
مسلماً فيموت وهو ابن خمس سنين، فقال يدفن في مقابر المسلمين لقول
النبي صلى الله عليه وسلم (فأبواه يهودانه أو ينصرانه اويمجسانه)) يعني
أن هذين لم يمجساه فبقي على الفطر (الفطرة) :، وسئل عن أطفال المشركين
فقال: اذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم (أعلم بما كانوا عاملين)
قال وكان ابن عباس يقول (وأبواه يهودانه وينصرانه - حتى سمع - الله
أعلم بما كانوا عاملين) فترك قوله
وسأله ابن الشافعي فقال يا أبا عبد الله ذراري المشركين والمسلمين؟
فقال هذه مسائل أهل الزيغ وقال أبو عبد الله سأل بشر بن السري سفيان
الثوري عن أطفال المشركين فصاح به وقال
(10/631)
يا صبي أنت تسأل عن هذا؟ قال أحمد ونحن نمر
هذه الأحاديث على ما جاءت ولا نقول شيئاً وسئل عن أطفال المسلمين فقال
ليس فيه اختلاف أنهم في الجنة وذكروا له حديث عائشة الذي قالت فيه
عصفور من عصافير الجنة فقال وهذا حديث؟ وذكر فيه رجلاً ضعفه طلحة وسئل
عن الرجل يسلم بشرط أن لا يصلي إلا صلاتين فقال يصح إسلامه ويؤخذ
بالخمس وقال معنى حديث حكيم بن حزام بايعت النبي صلى الله عليه وسلم
ألا أخر إلا قائماً أنه لا يركع في الصلاة بل يقرأ ثم يسجد من غير ركوع
قال وحديث قتادة عن نصر بن عاصم أن رجلاً منهم بايع النبي صلى الله
عليه وسلم على أن لا يصلي طرفي النهار.
(مسألة) (وإن تهود نصراني أو تنصر يهودي لم يقر ولم يقبل منه إلا
الإسلام أو الدين الذي كان عليه ويحتمل أن لا يقبل منه إلا الإسلام فإن
أبى هدد ويحبس ويحتمل أن يقبل وعنه أنه يقر) إذا انتقل الكتابي إلى دين
آخر من دين أهل الكتاب ففيه ثلاث روايات (إحداهن) لا يقر لأنه انتقل
إلى دين باطل قد أقر ببطلانه فلم يقر عليه كالمرتد.
فعلى هذا يجبر على الإسلام ولأن ما سواه باطل اعترف ببطلانه قبل ينتقل
إليه ثم اعترف ببطلان دينه حين انتقل عنه فلم يبق إلا الاسلام
(والثانية) لا يقبل منه إلا الإسلام أو الدين الذي كان عليه لأننا
أقررناه عليه أولاً فنقره عليه ثانياً (والثالثة) يقر نص عليه أحمد وهو
ظاهر كلام الخرقي واختيار الخلال وصاحبه وقول أبي حنيفة وأحد قولي
الشافعي لأنه لم يخرج عن دين أهل الكتاب فأشبه غير المنتقل ولأنه دين
أهل الكتاب فيقر عليه كأهل ذلك الدين وفي صفة إجباره على ترك ما انتقل
إليه روايتان (احدهما) يجبر عليه بالقتل لعموم قوله عليه الصلاة
والسلام (من بدل دينه فاقتلوه) ولأنه ذمي نقض العهد فأشبه ما لو نقضه
بترك التزام الذمة وهل يستتاب؟ يحتمل وجهين (احدهما) يستتاب لأنه
استرجع عن دين باطل انتقل إليه فيستتاب كالمرتد
(والثاني) لا يستتاب لأنه كافر أصلي أبيح دمه فأشبه الحربي فعلى هذا إن
بادر وأسلم أو رجع إلى ما يقر عليه عصم دمه وإلا قتل (والثانية) أنه
يجبر بالضرب والحبس فإن أحمد قال إذا دخل اليهودي في النصرانية رددته
إلى اليهودية فقيل له اتفقله (أتقتله) قال لا ولكن يضرب ويحبس لأنه لم
يخرج عن دين أهل الكتاب فلم يقتل كالباقي على دينه ولأنه مختلف فيه فلا
يقتل للشبهة
(10/632)
(مسألة) (وإن انتقل إلى غير دين أهل الكتاب
أو انتقل المجوسي إلى غير دين أهل الكتاب لم يقر وأمر أن يسلم فإن أبى
قتل إذا انتقل الكتابي إلى غير دين أهل الكتاب لم يقر عليه لا نعلم فيه
خلافا لأنه انتقل إلى دين لا يقر عليه بالجزية كعبدة الأوثان فالأصلي
منهم لا يقر فالمنتقل أولى وإن انتقل إلى المجوسية لم يقر لأنه انتقل
إلى أدنى من دينه فلم يقر كالمسلم إذا أرتد وكذلك الحكم في المجوسي إذا
انتقل إلى إلى أدنى من دينه كعبادة الأوثان كذلك وإذا قلنا لا يقر ففيه
ثلاث روايات (إحداهن) لا يقبل منه إلا الإسلام، نص عليه أحمد واختاره
الخلال وصاحبه وهو أحد قولي الشافعي لأن غير الإسلام أديان باطلة فقد
أقر ببطلانها فلم يقر عليها كالمرتد وإذا قلنا لا يقبل منه إلا الإسلام
فأبى أجبر عليه بالقتل لأنه انتقل إلى دين أدنى من دينه أشبه المرتد.
(والثانية) لا يقبل منه إلا الإسلام أو الدين الذي كان عليه لأن دينه
الأول قد أقررناه عليه مرة ولم ينتقل إلى خير منه فنقره عليه إن رجع
إليه ولأنه انتقل من دين يقر عليه إلى دين لا يقر عليه فقبل رجوعه إلى
دينه كالمرتد إذا رجع إلى الإسلام.
(والثالثة) أنه يقبل منه أحد ثلاثة أشياء الإسلام أو الدين الذي كان
عليه أو دين أهل الكتاب لأنه دين أهل الكتاب فيقر عليه كغيره من أهل
ذلك الدين وإذا انتقل المجوسي إلى غير دين أهل الكتاب ثم رجع إلى
المجوسية أقر عليه في إحدى الروايتين لأنه أقر عليه أولاً فيقر عليه
ثانيا.
(مسألة) (وإن انتقل غير الكتابي إلى دين أهل الكتاب أقر ويحتمل أن لا
يقبل منه إلا الإسلام) إذا انتقل المجوسي إلى دين أهل الكتاب ففيه
أيضاً الروايات الثلاث (إحداهن) لا يقبل منه
إلا الاسلام لما ذكرنا (والثانية) يقر على ما انتقل إليه لأنه أعلى من
دينه ولأنه انتقل إلى دين يقر عليه أهله والثالثة لا يقبل منه إلا
الإسلام أو دينه الذي كان عليه لما تقدم (مسألة) (وإن تمجس الوثني فهل
يقر؟ على روايتين) إحداهما يقر لما ذكرنا والثانية لا يقر لأنه انتقل
إلى دين لا تحل ذبائح أهله ولا تنكح نساؤهم أشبه ما لو انتقل إلى دين
لا يقر عليه أهله والأولى أولى (فصل) (في نقض العهد وإذا امتنع الذمي
من بذل الجزية أو التزام أحكام الملة انتقض عهده)
(10/633)
إذا امتنع الذمي من بذل الجزية أو التزام
أحكام الملة إذا حكم بها حاكم انتقض عهده بغير خلاف في المذهب سواء شرط
عليهم أو لا، وهو مذهب الشافعي لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية عن
يدوهم صاغرون) قيل الصغار التزام أحكام المسلمين فأمر بقتالهم حتى
يعطوا الجزية ويلتزموا أحكام الملة، فإذا امتنعوا من ذلك وجب قتالهم
فإذا قاتلوا فقد نقضوا العهد وفي معنى هذين قتالهم للمسلمين منفردين أو
مع الحرب لأن إطلاق الأمان يقتضي ذلك وقال أبو حنيفة لا ينتقض العهد
إلا بالامتناع من الإمام بحيث يتعذر أخذ الجزية منهم ولنا ما ذكرناه
ولأنه ينافي الأمان أشبه مالو امتنعوا من بذل الجزية (مسألة) وإن تعدى
على مسلم بقتل أو قذف أو زنا أو قطع طريق أو تجسس أو إيواء جاسوس أو
ذكر الله تعالى أو كتابة أو رسوله بسوء فعلى روايتين) ويلتحق بذلك أو
فتن مسلم عن دينه أو إصابة المسلمة باسم نكاح (إحداهما) ينتقض عهده
اختاره القاضي والشريف أبو جعفر سواء شرط عليهم أو لم يشرط ومذهب
الشافعي نحو هذا فيما إذا شرط عليهم لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه
رفع إليه رجل أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنا فقال ما على هذا
صالحناكم وأمر به فصلب في بيت المقدس وقيل لأبن عمر إن راهباً يشتم
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو سمعته لقتلته إنا لم نعط الأمان
على هذا ولما روي عن عمر أنه أمر عبد الرحمن بن غنم أن يلحق في كتاب
صلح الجزيرة ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده ولأن فيه ضرراً على
المسلمين فأشبه الامتناع من بذل الجزية ولأنه لم يف
بمقتضى الذمة وهو الأمن من جانبه فانتقض عهده كما لو قاتل المسلمين
(والثاينة) لا ينتقض العهد به لكن يقام عليه الحد فيما يوجب الحد أو
يقتص منه فيما يوجب القصاص ويعذر فيما سوى ذلك بما ينكف به أمثاله عن
فعله لأن ما يقتضيه العهد من التزام الجزية وأحكام المسلمين والكف عن
قتالهم باق فوجب بقاء العهد (مسألة) (وان أظهر منكراً أو رفع صوته
بكتابه لم ينتض عهده) وظاهر كلام الخرقي أنه ينتقض إن كان مشروطاً
عليهم أما ما سوى الخصال المذكورة في المسألة
(10/634)
التي قبلها كالتميز عن المسلمين وترك إظهار
المنكر ونحو ذلك فإن لم يشرط عليهم لم ينتقض عهدهم به لأن العقد لا
يقتضيها ولا ضرر فيها على المسلمين وإن شرطت عليهم فظاهر كلام الخرقي
إن عهدهم ينتقض بمخالفتنا لقوله ومن نقض العهد بمخالفة شئ مما صولحوا
عليه حل دمه وماله.
ووجه ذلك أن في كتاب صلح الجزيرة لعبد الرحمن بن غنم بعد استيفاء
الشروط: وأن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان
عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق ولأنه
عقد بشرط فزال بزوال الشرط كما لو امتنع من بذل الجزية وقال غيره من
أصحابنا لا ينتقض العهد به لأنه لا ضرر على المسلمين فيه ولا ينافي عقد
الذمة أشبه ما لو لم يشرطه ولكنه يعزر ويلزم ما تركه (مسألة) (ولا
ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقض عهده وإذا انتقض عهده خير الإمام فيه
كالأسير الحربي) لأن النقض وجد منه دونهم فاختص حكمه به قال شيخنا في
كتاب العمدة إلا أن يذهب بهم إلى دار الحرب وذكر في كتاب المغني أنه لا
يباح سبي الذرية وإن ذهب بهم إلى دار الحرب وإذا انتقض عهده خير الإمام
فيه كالأسير الحربي فيخير فيه بين القتل والاسترقاق والمن والفداء لأن
عمر رضي الله عنه صلب الذي أراد استكراه امرأة ولأنه كافر لا أمان له
قدرنا عليه في دارنا بغير عقد ولا عهد ولا شبهة ذلك فأشبه اللص الحربي
هذا اختيار القاضي، وقال بعض أصحابنا فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم
أنه يقتل بكل حال وذكر أن أحمد نص عليه (مسألة) (وماله فيئ عند الخرقي
وقال أبو بكر هو لورثته)
(10/635)
التي قبلها كالتميز عن المسلمين وترك إظهار
المنكر ونحو ذلك فإن لم يشرط عليهم لم ينتقض عهدهم به لأن العقد لا
يقتضيها ولا ضرر فيها على المسلمين وإن شرطت عليهم فظاهر كلام الخرقي
إن عهدهم ينتقض بمخالفتنا لقوله ومن نقض العهد بمخالفة شئ مما صولحوا
عليه حل دمه وماله.
ووجه ذلك أن في كتاب صلح الجزيرة لعبد الرحمن بن غنم بعد استيفاء
الشروط: وأن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان
عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق ولأنه
عقد بشرط فزال بزوال الشرط كما لو امتنع من بذل الجزية وقال غيره من
أصحابنا لا ينتقض العهد به لأنه لا ضرر على المسلمين فيه ولا ينافي عقد
الذمة أشبه ما لو لم يشرطه ولكنه يعزر ويلزم ما تركه (مسألة) (ولا
ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقض عهده وإذا انتقض عهده خير الإمام فيه
كالأسير الحربي) لأن النقض وجد منه دونهم فاختص حكمه به قال شيخنا في
كتاب العمدة إلا أن يذهب بهم إلى دار الحرب وذكر في كتاب المغني أنه لا
يباح سبي الذرية وإن ذهب بهم إلى دار الحرب وإذا انتقض عهده خير الإمام
فيه كالأسير الحربي فيخير فيه بين القتل والاسترقاق والمن والفداء لأن
عمر رضي الله عنه صلب الذي أراد استكراه امرأة ولأنه كافر لا أمان له
قدرنا عليه في دارنا بغير عقد ولا عهد ولا شبهة ذلك فأشبه اللص الحربي
هذا اختيار القاضي، وقال بعض أصحابنا فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم
أنه يقتل بكل حال وذكر أن أحمد نص عليه (مسألة) (وماله فيئ عند الخرقي
وقال أبو بكر هو لورثته) لأنه إنما عصم بعقد الذمة فزال بزواله كالمرتد
لأن ماله كان معصوماً فلا تزول عصمته بنقضه العهد كأولاده الصغار (آخر
كتاب الجهاد والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم) (تسليما كثيراً) (تم بحمد الله وعونه الجزء العاشر من
كتابي المغني والشرح الكبير) (ويليه بمشيئة الله وتوفيقه الجزء الحادي
عشر منهما وأوله (كتاب الصيد والذبائح)
(10/635)
|