العدة شرح العمدة

كتاب الجهاد وهو فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين
(1) ويتعين على من حضر الصف أو حصر العدو بلده
(2) ولا يجب إلا على ذكر حر بالغ عاقل مستطيع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
[كتاب الجهاد]
(وهو فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين) ، ومعنى فرض الكفاية الذي إذا لم يقم به من يكفي أثم الناس كلهم، وإن قام به من يكفي سقط عن سائر الناس، فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع، وإنما يسقط بفعل البعض، وهو في الابتداء كفرض الأعيان، ثم يختلفان في أن فرض الأعيان لا يسقط عن واحد بفعل غيره، وفرض الكفاية بخلافه، والجهاد فرض كفاية في قول عامتهم؛ لقول الله سبحانه: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] ، وهذا يدل على أن القاعدين غير مأثومين مع جهاد غيرهم.

مسألة 1: (ويتعين على من حضر الصف أو حصر العدو بلده) ؛ لقوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] .

مسألة 2: (ولا يجب إلا على ذكر حر بالغ عاقل مستطيع) ، وذلك أنه يشترط لوجوب الجهاد شروط:
أحدها: أن يكون ذكرا، فأما النساء فلا يجب عليهن، لما روت عائشة قالت: قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ فقال: «جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة» (رواه ابن ماجه) ، ولأنها ليست من أهل القتال لضعفها وخورها ولذلك لا يسهم لها.
والثاني: الحرية، فلا يجب على العبد لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد، ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد» ؛ ولأنه عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم تجب على العبد كالحج.

(1/621)


(3) والجهاد أفضل التطوع، لقول أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الأعمال أفضل؟ قال: " إيمان بالله " قال: ثم أي؟ قال: " الجهاد في سبيل الله، ثم حج مبرور» ، وعن أبي سعيد قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الناس أفضل؟ قال: رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه»
(4) وغزو البحر أفضل من غزو البر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
الثالث: البلوغ، فلا يجب على صبي؛ لأن الصبي ضعيف البنية، وقد روى ابن عمر قال: «عرضت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في المقاتلة» متفق عليه.
الرابع: العقل، فلا يجب على مجنون؛ لأنه لا يتأتى منه الجهاد، فهو كالطفل في ذلك.
الخامس: المستطيع، وهو أن يكون صحيحا في بدنه قادرا على النفقة، فأما الأعمى والأعرج والمريض فلا يجب عليهم جهاد؛ لأن العمى عذر لا يخفى، وأما العرج فإن كان كثيرا منع وإن كان يسيرا لم يمنع، والمرض كذلك، وذلك لقوله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] يعني في ترك الجهاد، وأما النفقة فتشترط في الاستطاعة؛ لقوله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] ؛ ولأن الجهاد لا يمكن إلا بآلة فتعتبر القدرة عليها، وقال الله سبحانه: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] ، وهذا فيما إذا كانت المسافة تحتاج إلى ركوب فلا بد من الراحلة.

مسألة 3: (والجهاد أفضل التطوع، لقول أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، ثم حج مبرور "، وعن أبي سعيد قال: " سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الناس أفضل؟ قال: رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه) » (رواه مسلم) .

مسألة 4: (وغزو البحر أفضل من غزو البر) لما روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت أم حرام: ما يضحكك يا رسول الله؟

(1/622)


(5) ويغزا مع كل بر وفاجر
(6) ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر، ملوك على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة» متفق عليه، وروى أبو داود عن أم حرام عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد، والغرق له أجر شهيدين» ، وروى ابن ماجه عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «شهيد البحر مثل شهيدي البر، والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله، وإن الله تعالى وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم، ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين، ويغفر لشهيد البحر الذنوب والدين» ، ولأن الغازي في البحر أعظم خطرا ومشقة، فإنه بين خطر العدو وخطر الغرق، ولا يتمكن من الفرار إلا مع أصحابه فكان أفضل من غيره.

مسألة 5: (ويغزا مع كل بر وفاجر) يعني مع كل إمام، لما روى أبو داود بإسناده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا» ؛ ولأن ترك الجهاد مع الفاجر يفضي إلى قطع الجهاد وظهور الكفار على المسلمين واستئصالهم وإظهار كلمة الكفر وفيه أعظم الفساد.

مسألة 6: (ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو) لقول الله سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] ؛ ولأن الأقرب أكثر ضررا، وفي مقاتلته دفع ضرره عن المقاتل وعمن وراءه، والاشتغال بالبعيد عنه يمكنه من انتهاز الفرصة في المسلمين لاشتغالهم عنه.

مسألة 7: (وتمام الرباط أربعون يوما) ، والرباط الإقامة بالثغر مقويا المسلمين على الكفار، والثغر كل مكان يخيف أهله العدو ويخافونه، وروى أبو داود بإسناده عن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «رباط يوم في سبيل الله خير من

(1/623)


(7) وتمام الرباط أربعون يوما
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه» وقال: «رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه» ومن مات مرابطًا أجرى له أجره إلى يوم القيامة ووقي الفتان (8) ولا يجاهد من أحد أبويه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
ألف يوم فيما سواه» (رواه الترمذي) من المنازل، وعن فضالة بن عبيد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن فتان القبر» رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وعن سلمان قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «رباط ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، فإن مات أجرى عليه عمله الذي كان يعمل وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان» أخرجه مسلم، وإذا ثبت هذا فإن تمام الرباط أربعون يوما، كذلك قال ابن عمر وأبو هريرة، وروى أبو الشيخ بإسناده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تمام الرباط أربعون يوما» "، وروى سعيد بن منصور في سننه عن أبي هريرة قال: رباط يوم في سبيل الله أحب إلي من أن أوافق ليلة القدر في أحد المسجدين مسجد الحرام ومسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن رابط أربعين يوما فقد استكمل الرباط، وروى نافع عن ابن عمر أنه قدم على عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من الرباط فقال له: كم رابطت؟ قال: ثلاثين يوما، قال: عزمت عليك إلا رجعت حتى تتمها أربعين يوما، ولو رابط أكثر من ذلك أو أقل فله ثواب ما عمل.

مسألة 8: (ولا يجاهد من أحد أبويه حي مسلم إلا بإذنه) لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أجاهد؟ فقال: ألك أبوان؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد» وروى الترمذي عن ابن عباس مثله وقال: حديث حسن صحيح، وفي رواية «جئت لأبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان،

(1/624)


حي مسلم إلا بإذنه
(9) إلا أن يتعين عليه
(10) ولا يدخل من النساء دار الحرب إلا امرأة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
فقال: ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما» وعن أبي سعيد «أن رجلا هاجر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك باليمن أحد؟ قال: نعم أبواي، قال: أذنا لك؟ قال: لا، قال: فارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما» رواهما أبو داود، ولأن بر الوالدين فرض عين والجهاد فرض كفاية، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية، فإن كان أبواه غير مسلمين فلا إذن لهما؛ لأن كثيرا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يجاهدون وآباؤهم مشركون لا يستأذنونهم، منهم أبو بكر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة كان يوم بدر مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبوه رئيس المشركين قتل ببدر، وأبو عبيدة قتل أباه في الجهاد، فأنزل الله سبحانه: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [المجادلة: 22] الآية.

مسألة 9: (إلا أن يتعين عليه) الجهاد فلا إذن لهما؛ لأنه صار فرض عين وتركه معصية ولا طاعة لأحد في معصية الله، وكذلك كل ما وجب من الحج والصلاة في الجماعة والسفر للعلم الواجب، ولأنه عبادة تعينت عليه فلا يعتبر إذن الأبوين فيها كالصلاة.

مسألة 10: (ولا يدخل من النساء أرض الحرب إلا امرأة طاعنة في السن لسقي الماء ومعالجة الجرحى) ويكره دخول النساء الشواب أرض العدو؛ لأنهن لسن من أهل القتال لاستيلاء الخور والجبن عليهن، ولا يؤمن ظفر العدو بهن فيستحل منهن ما حرم الله، فأما المرأة الطاعنة في السن إذا كان فيها نفع مثل سقي الماء وعلاج الجرحى فلا بأس به، فقد قال أنس: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار يسقين الماء ويداوين الجرحى» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقالت الربيع: " «كنا نغزو مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسقي الماء ومعالجة الجرحى» (رواه البخاري) ، ويجوز للأمير أن يستصحب معه المرأة الواحدة عنده للحاجة، فقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج معه بالمرأة الواحدة من نسائه ولا يرخص لسائر الرعية لئلا يفضي إلى ما ذكرنا من الضرر.

(1/625)


طاعنة في السن لسقي الماء ومعالجة الجرحى
(11) ولا يستعان بمشرك (12) إلا عند الحاجة إليه
(13) ولا يجوز الجهاد إلا بإذن الأمير، إلا أن يفجأهم عدو يخافون كلبه، أو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 11: (ولا يستعان بمشرك إلا عند الحاجة إليه) لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنا لا نستعين بمشرك» (رواه أبو داود) ؛ ولأنه لا يؤمن أن يدخل على المسلمين ضررا فأشبه المرجف والمخذل، وقد روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن حبيب قال: «أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يريد غزوا أنا ورجل من قومي ولم نسلم، فقلنا: إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم، قال: وأسلمتما؟ قلنا: لا، قال: إنا لا نستعين بالمشرك على المشركين، قال: فأسلمنا وشهدنا معه» (رواه أحمد) ، وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بدر فأدركه رجل من المشركين كان يذكر منه جرأة ونجدة فسر المسلمون به، فقال: يا رسول الله جئت لأتبعك وأصيب معك، قال: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع، فلن أستعين بمشرك على مشرك» رواه الجوزجاني، وفيه قالت: «ثم مضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إذا كان بالبيداء أدركه ذلك الرجل فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، قال: فانطلق» (رواه مسلم) .
مسألة 12: (إلا عند الحاجة إليه) وعن أحمد ما يدل على ذلك، فقد خرج صفوان بن أمية مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة حنين وهو مشرك وأسهم له، وروى الزهري «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان بناس من اليهود في حربه وأسهم لهم» رواه سعيد في سننه، هذا إذا غزا مع الإمام بإذنه وهي إحدى الروايتين، وعنه لا يسهم له ولكن يرضخ له لأنه ليس من أهل الجهاد أشبه العبد.

مسألة 13: (ولا يجوز الجهاد إلا بإذن الأمير) لأنه أعرف بمصالح الحرب والطرقات ومكامن العدو وكثرتهم وقلتهم، فينبغي أنه يرجع إلى رأيه، (إلا أن يفجأهم عدو غالب يخافون كلبه، أو تعرض فرصة يخافون فوتها) فمتى جاء العدو بلدا وجب على

(1/626)


تعرض فرصة يخافون فوتها
(14) وإذا دخلوا دار الحرب لم يجز لأحد أن يخرج من العسكر لعلف أو احتطاب أو غيره إلا بإذن الأمير
(15) ومن أخذ من دار الحرب ما له قيمة لم يجز له أن يختص به، إلا الطعام والعلف فله أن يأخذ منه ما يحتاج إليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
أهله النفير إليهم، ولم يجز لأحد التخلف عنهم إلا من يحتاج إلى إقامته لحفظ المكان والأهل والمال ومن يمنعه الأمير من الخروج لقوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إذا استنفرتم فانفروا» (رواه ابن ماجه) ، وقد ذم الله سبحانه الذين أرادوا الرجوع إلى منازلهم يوم الأحزاب، فقال: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} [الأحزاب: 13] ، ولا يخرجون إلا بإذن الأمير إذا أمكن ذلك، وكذلك إن عرض لهم فرصة يخافون فوتها جاز لهم انتهازها ويستأذنونه إذا أمكن.

مسألة 14: (وإذا دخلوا أرض الحرب لم يجز لأحد أن يخرج من العسكر لعلف أو احتطاب أو غيره إلا بإذن الأمير) ؛ لقول الله سبحانه: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] ، ولأنه أعرف بحال الناس والمواضع ومكامن العدو وحاله وقربه وبعده، فإذا استؤذن فالظاهر أنه لا يأذن لهم في الخروج إلا إذا علم خلو المكان من المخافة، وإن خرجوا من غير إذنه لم يأمنوا أن يكون في الموضع الذي يذهبون إليه عدو فيظفر بهم، وربما ارتحل الأمير بالناس وبقي الخارج فيضيع.

مسألة 15: (ومن أخذ من دار الحرب ما له قيمة لم يجز أن يختص به) ، والمسلمون شركاؤه فيه؛ لأنه مال ذو قيمة مأخوذ من أرض الحرب بظهر المسلمين فكان غنيمة كغير المباح (إلا الطعام والعلف فله إن يأخذ منه ما يحتاج إليه) لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال: «أصبنا طعاما يوم خيبرفكان الرجل يجيء فيأخذ مقدار ما يكفيه ثم ينصرف» رواه أبو داود، وروى سعيد أن صاحب جيش الشام كتب إلى عمر: إنا فتحنا أرضا كثيرة الطعام والعلف، وكرهت أن أتقدم في شيء من ذلك، فكتب إليه: دع الناس يعلفون ويأكلون، ومن باع منهم شيئا بذهب أو فضة ففيه خمس الله وسهام المسلمين، ولأن الحاجة تدعو

(1/627)


(16) فإن باعه رد ثمنه في المغنم
(17) وإن فضل معه منه بعد رجوعه إلى بلده لزمه رده، إلا أن يكون يسيرا فله أكله وهديته
(18) ويجوز تبييت الكفار ورميهم بالمنجنيق، وقتالهم قبل دعائهم، «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغار بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم»
(19) ولا يقتل صبي ولا مجنون ولا امرأة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
إلى هذا، وفي المنع منه ضرر بالجيش وبدوابهم، ويعسر عليهم نقل العلوفة والطعام من دار الإسلام، ولا يمكن قسمة ما يأخذه الواحد منهم، ولو قسم لم يحصل الواحد منهم على شيء ينتفع به فأبيح لهم ذلك فمن أخذ ما يقتات به أو يعلف دوابه فهو أحق به.

مسألة 16: (فإن باعه رد ثمنه في المغنم) كغير الطعام.

مسألة 17: (فإن فضل منه ما لا حاجة به إليه رده) على المسلمين؛ لأنه إنما أبيح له منه ما يحتاج إليه لا غير (وأما الشيء اليسير فيجوز أكله وهديته) لأن ما كان مباحا في دار الحرب فإذا أخرجه كان أحق به كالذي لا قيمة له في دار الحرب، وعنه يجب رده لأنه أبيح في دار الحرب للحاجة وقد زالت الحاجة فتزول الإباحة، ولهذا لا يجوز له ابتداء الأخذ في دار الإسلام.

مسألة 18: (ويجوز تبييت الكفار) وهو كبسهم ليلا (ورميهم بالمنجنيق وقتالهم قبل دعائهم؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغار على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم» ، وقال ابن المنذر: جاء الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نصب المنجنيق على أهل الطائف، وعن عمرو بن العاص أنه نصب المنجنيق على أهل الإسكندرية.

مسألة 19: (ولا يقتل منهم صبي ولا مجنون ولا امرأة ولا راهب ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى ولا من لا رأي لهم إلا أن يقاتلوا) وروى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل النساء والصبيان» متفق عليه، وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «انطلقوا باسم الله، لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا امرأة» رواه أبو داود، وروى سعيد أن أبا بكر أوصى

(1/628)


ولا راهب ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى ولا من لا رأي لهم إلا أن يقاتلوا
(20) ويخير الإمام في أسارى الرجال بين القتل والاسترقاق والفداء والمن، ولا يختار إلا الأصلح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
يزيد حين وجهه إلى الشام فقال: لا تقتلوا صبيا ولا امرأة ولا هرما، وأن عمر أوصى سلمة بن قيس فقال: لا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا هرما، ولا يقتل المجنون بالقياس على الطفل، ولأنه لا نكاية له أشبه الصبي، وفي حديث أبي بكر أنه قال: وستمرون على قوم في صوامع لهم احتبسوا أنفسهم فيها، فدعهم حتى يميتهم الله على ضلالتهم، ولأنه لا نكاية لهم فلم يجز قتلهم كالنساء، والزمن والأعمى يقاس على الشيخ بما بيناه من عدم النكاية في الحرب إلا أن يكون لهم رأي في الحرب فيقتلون لأن ذلك نكاية كالقتال.

مسألة 20: (ويخير الإمام في أسارى الرجال بين القتل والاسترقاق والفداء والمن، ولا يختار إلا الأصلح للمسلمين) أما جواز تخير القتل فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل رجال قريظة وهم ما بين الستمائة والسبعمائة، وقتل يوم بدر عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث صبرا، ولأن العدو قد يكون منهم من له قوة ونكاية في المسلمين فيكون قتله أصلح للمسلمين، وأما جواز المن والفداء فلقوله سبحانه: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] ، وأيضا فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد من على ثمامة بن أثال وعلى أبي غيرة الشاعر وأبي العاص بن الربيع، وقال في أسارى بدر: " «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم سألني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له» (رواه البخاري) ، ودليل الفداء «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فادى أسارى بدر وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا ففادى كل رجل بأربع مائة، وفادى يوم بدر رجلا برجلين وصاحب العضباء برجلين» ، وهذه قصص اشتهرت وعلمت، وقد فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل واحدة منها مرة أو مرارا وهو دليل الجواز، ولأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون هي الأصلح، وفي بعض الأسارى فإن منهم من تكون له قوة ونكاية فقتله أصلح، ومنهم الضعيف الذي له مال كثير ففداؤه أصلح، ومنهم حسن الرأي في الإسلام فإطلاقه ربما كان سببا لإسلامه فالمن عليه أصلح، ومنهم من ينتفع بخدمته ويؤمن شره فاسترقاقه أصلح، والإمام أعلم بالمصلحة فينبغي أن يفوض إليه ذلك، ويجوز استرقاق أهل الكتاب والمجوس وأما غيرهم فلا، وعن أحمد يجوز استرقاقهم لأنه كافر فجاز استرقاقه كالكتابي.
إذا ثبت هذا فإن التخيير المشروع تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة، فإذا رأى أن

(1/629)


للمسلمين
(21) وإن استرقهم أو فاداهم بمال فهو غنيمة
(22) ولا يفرق في السبي بين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مصلحة المسلمين في قتله بأن يكون ذا شوكة وبأس يخاف الضرر بتركه لم يجز إلا قتله، وما رأى فيه مصلحة من سائر الخصال تحتم ولم يجز له غيره، ومتى تردد في هذه الأمور فالقتل أولى، قال مجاهد في أميرين أحدهما يقتل الأسارى: الذي يقتل أفضل، قال إسحاق: الإثخان أحب إلي إلا أن يكون معروفا يطمع فيه الكثير.

مسألة 21: (وإن استرقهم أو فاداهم بمال فهو غنيمة) لا نعلم في هذا خلافا «فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم فداء أسرى بدر بين الغانمين» ، ولأنه مال غنمه المسلمون فأشبه الخيل والسلاح، وإذا استرقهم كانوا غنيمة للمسلمين؛ لأنهم الذين أسروهم وقهروهم، ومن كان بدله غنيمة كان أصله غنيمة قياسا للأصل على البدل.

مسألة 22: (ولا يفرق في السبي بين ذوي رحم محرم إلا أن يكونوا بالغين) أجمعوا على أن التفريق بين الأم وولدها الطفل غير جائز، وروى أبو أيوب قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، ولأن في ذلك إضرارا بها وتحسرا عليه، وظاهر كلام الخرقي أنه يحرم التفريق وإن كان الولد كبيرا وبالغا، وهو إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والرواية الثانية نقلها مهنى يجوز التفريق بينهما بعد البلوغ، لما روى عبادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يفرق بين الأم وولدها، فقيل: إلى متى؟ قال: حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية» "، وعن سلمة بن الأكوع «أنه أتى أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بامرأة وبنتها فنفله أبو بكر ابنتها ثم استوهبها منه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوهبها إياه» (رواه أبو داود) ، ولما أهدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مارية وأختها سيرين أمسك مارية لنفسه ووهب سيرين لحسان بن ثابت، ولأن الأحرار يتفرقون بعد البلوغ فإن المرأة تزوج ابنتها ويفرق بينهما فالعبيد أولى، وأما الأب فلا يجوز التفريق بينه وبين ولده؛ لأنه أحد الأبوين أشبه الأم، والجد في ذلك كالأب، والجدة كالأم؛ لأن الجد أب والجدة أم يقومان مقام الأبوين في استحقاق

(1/630)


ذوي رحم محرم إلا أن يكونوا بالغين
(23) ومن اشترى منهم على أنه ذو رحم فبان بخلافه رد الفضل الذي فيه بالتفريق
(24) ومن أعطى شيئا يستعين به في غزوة فإذا رجع فله ما فضل، إلا أن يكون لم يعط لغزاة بعينها فيرد الفضل في الغزو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
الحضانة والميراث والنفقة فقاما مقامهما في تحريم التفريق، يستوي في ذلك الجد والجدة من قبل الأب والأم؛ لأن الجميع ولادة ومحرمية فاستووا في ذلك كاستوائهم في منع شهادة بعضهم لبعض، ولا يفرق بين الأخوين ولا الأختين لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «وهب لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غلامين أخوين فبعت أحدهما، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما فعل غلامك؟ فأخبرته، فقال: رده رده» رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وروى عبد الرحمن ابن فروخ عن أبيه قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا تفرقوا بين الأخوين ولا بين الأم وولدها في البيع، ولأنه ذو رحم محرم من النسب فلم يجز التفريق بينهما كالوالد والولد.

مسألة 23: (ومن اشترى منهم على أنه ذو رحم فبان بخلافه رد الفضل الذي فيه بالتفريق) ؛ لأنه إذا اشتراهم على أنهم ذوو رحم ثم بان أنهم ليس بينهم رحم فإن قيمتهم تزيد بذلك، فإنه إذا اشترى امرأتين على أن إحداهما بنت الأخرى لم يتمكن من وطئهما جميعا، ومتى وطئ إحداهما حرمت الأخرى على التأبيد ولا يتمكن من بيعها، فإذا بانت أجنبية حل وطئها وبيعها وهبتها، فتزيد قيمتها بذلك فيجب عليه رد الفضل كما لو أخذ دراهم بحقه فبانت أكثر عددا مما حسبت عليه.

مسألة 24: (ومن أعطى شيئا يستعين به في غزاته فإذا رجع فله ما فضل، إلا أن يكون لم يعط لغزاة بعينها فيرد الفضل في الغزو) ، ولأنه أعطى على سبيل المعاونة والنفقة لا على سبيل الإجارة فكان له الفاضل، كما لو أوصى أن يحج عنه حجة بألف فإن الفضل له؛ وإن أعطاه شيئا ينفقه في الغزو أو في سبيل الله ففضل منه فضل أنفقه في غزاة أخرى؛ لأنه أعطاه الجميع في سبيل الله مطلقا فلزمه امتثال ما أمره به كما لو أوصى بألف يحج بها ففضل منها فضلة ردت في الحج.

(1/631)


(25) وإن حمل على فرس في سبيل الله فهي له إذا رجع، إلا أن يجعل حبيسا
(26) وما أخذ من أموال المسلمين رد إليهم إذا علم صاحبه قبل القسمة، وإن قسم قبل علمه فله أخذه بثمنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 25: (وإن حمل على فرس في سبيل الله فهي له إذا رجع، إلا أن يجعل حبيسا) قوله: " حمل على فرس " يعني أعطيها ليغزو عليها فإذا غزا عليها ملكها كما يملك النفقة " المدفوعة إليه إلا أن تكون عارية فتكون لصاحبه أو حبيسا فيبقى حبيسا بحاله، قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حملت على فرس عتيق في سبيل الله فأضاعه صاحبه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه» متفق عليه، وهذا يدل على أنه ملكه ولولا ذلك ما باعه، ويدل على أنه ملكه بعد الغزو؛ لأنه أقامه للبيع بالمدينة، ولم يكن ليأخذه من عمر ثم يقيمه للبيع في الحال، فدل على أنه أقامه للبيع بعد أن غزا عليه، وذكر أحمد مثل ذلك وسئل: متى يطيب له الفرس؟ قال: إذا غزا عليه، فقيل له: فإن العدو جاوزنا فخرج على هذه الفرس في الطلب إلى خمسة فراسخ ثم رجع؟ قال: لا، حتى يكون غزوا، وهذا قول أكثرهم.

مسألة 26: (وما أخذ) من أهل الحرب (من أموال المسلمين رد إليهم إذا علم صاحبه قبل القسمة، وإن قسم بعد علمه فله أخذه بثمنه الذي حسب به على آخذه) أما إذا علم صاحبه قبل القسمة رد إلى صاحبه بغير شيء في قول عامتهم، لما «روى ابن عمر أن غلاما له أبق إلى العدو فظهر عليه المسلمون فرده رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ابن عمر ولم يقسم، وعنه قال: ذهب له فرس فأخذها العدو فظهر عليهم المسلمون فرد إليه في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواهما أبو داود.

(1/632)


الذي حسب به على آخذه
(27) وإن أخذه أحد الرعية بثمن فلصاحبه أخذه بثمنه
(28) وإن أخذه بغير شيء رده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
وروى الأثرم عن رجاء بن حيوة أن أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب فيما أحرز المشركون من المسلمين ثم ظهر المسلمون عليهم بعد، قال: من وجد ماله بعينه فهو أحق به ما لم يقسم، وروى هذه الأحاديث كلها سعيد بن منصور.
وأما ما أدركه المسلمون بعد أن قسم ففيه روايتان:
إحداهما: أن صاحبه أحق به بالثمن الذي حسب به على من هو في يده، وكذلك إن بيع ثم قسم ثمنه فهو أحق به بالثمن، لما روى ابن عباس أن رجلا وجد بعيرا كان المشركون أصابوه، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أصبته قبل القسمة فهو لك، وإن أصبته بعدما قسم أخذته بالقيمة» "، ولأنه إنما امتنع أخذه له بغير شيء كي لا يفضي إلى حرمان آخذه من الغنيمة أو يضيع الثمن على المشتري وحق الغانم يتخير بالثمن ويرجع صاحب المال في عين ماله بمنزلة مشتري الشقص المشفوع.
والرواية الثانية: عن أحمد إذا قسم فلا حق له فيه، وهو قول عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال أحمد: أما قول من قال: هو أحق به بالقيمة فهو قول ضيف عن مجاهد، ودليل هذه الرواية قول عمر وعلي وسلمان بن ربيعة وهي أقوال انتشرت كتب بها عمر إلى أبي عبيدة بالشام وإلى السائب بن الأقرع حين فتح ماه وجلولاء وانتشر ذلك ولم ينكر فصار إجماعا ولم يقل أحد بخلافه.

مسألة 27: (وإن أخذه منهم أحد الرعية بثمن فلصاحبه أخذه بثمنه) ووجه ذلك قول عمر، ولأنه حصل في يده بثمن فلم يجز أخذه منه بغير شيء كما لو اشتراه من المغنم.

مسألة 28: (وإن أخذه بغير شيء رده) لما «روي أن قوما أغاروا على سرح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذوا ناقته وجارية من الأنصار فأقامت عندهم أياما، ثم خرجت في بعض الليالي، قالت: فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت حتى وضعتها على ناقة ذلول فامتطيتها ثم توجهت إلى المدينة ونذرت إن نجاني الله عليها أن أنحرها، فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة فإذا هي ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذها، فقلت: يا رسول الله إني

(1/633)


(29) ومن اشترى أسيرا من العدو فعلى الأسير أداء ما اشتراه به
باب الأنفال وهي الزيادة على السهم المستحق، وهي ثلاث أضرب:
أحدها: سلب المقتول غير مخموس لقاتله، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل قتيلا فله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
نذرت أن أنحرها، فقال: " بئس ما جزيتها، لا نذر في معصية» ، وفي رواية «لا نذر فيما لا يملك ابن آدم» (رواه مسلم) .

مسألة 29: (ومن اشترى أسيرا من العدو فعلى الأسير أداء ما اشتراه به) لما روى سعيد بن منصور حدثنا عثمان بن مطر حدثنا ابن جرير عن الشعبي قال: أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب فأصابوا سبايا من سبايا العرب، فكتب السائب بن الأقرع إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم قد اشتراه التجار من أهل ماه، فكتب عمر: أيما رجل أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره، وإن أصابه في أيدي التجار بعدما قسم فلا سبيل له إليه، وأيما حر اشتراه التجار فإنه يرد إليهم رءوس أموالهم، فإن الحر لا يباع ولا يشترى، فحكم للتجار برءوس أموالهم، ولأن الأسير يجب عليه فداء نفسه ليتخلص من حكم الكفار ويخرج من تحت أيديهم، فإذا ناب عنه غيره في ذلك وجب عليه قضاؤه كما لو قضى الحاكم عنه ما امتنع من أدائه.

[باب الأنفال]
(وهي الزيادة على السهم المستحق، وهي على ثلاثة أضرب: أحدها: سلب المقتول غير مخموس لقاتله) ، وذلك أن القاتل يستحق سلب المقتول في الجملة، لا نعلم فيه خلافا (والأصل فيه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل كافرا فله سلبه» رواه أنس وسمرة بن جندب، وروى أبو قتادة قال: «خرجنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام حنين فلما التقينا رأيت رجلا

(1/634)


سلبه»
(30) وهو ما عليه من لباس وحلي وسلاح وفرسه بآلتها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته بالسيف على حبل عاتقه ضربة فأدركه الموت، ثم إن الناس رجعوا وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه، قال: فقمت إليه فقلت: من يشهد لي؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما لك يا أبا قتادة؟ فقصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله فأرضه منه، فقال أبو بكر الصديق: لا ها الله، إذا تعمد إلى أسد من أسد الله فيقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صدق فأسلمه إليه، فأعطانيه» متفق عليه، وروى أنس: " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حنين: «من قتل كافرا فله سلبه، فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم» رواه أبو داود.

مسألة 30: (والسلب ما عليه من لباس وحلي وسلاح وفرسه بآلتها) وذلك لأن المفهوم من السلب اللباس، وكذلك السلاح، ولأنه يستعين به في حربه وقتاله فهو أولى بالأخذ من اللباس، وكذلك الدابة لأنه يستعين بها فهي كالسلاح وأبلغ منه ولذلك استحق بها زيادة السهمان، فأما الدراهم فليست من السلب؛ لأنها ليست من الملبوس ولا مما يستعان بها في الحرب، وكذلك رحله وأثاثه وما ليست يده عليه، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أن الدابة أيضا ليست من السلب وهو اختيار الخلال وصاحبه أبي بكر، قال الخلال: إنما السلب ما كان على بدنه، والدابة ليست كذلك، وذكر أبو عبد الله حديث عمرو بن معدي كرب فأخذ سواريه ومنطقته، ودليل الأولى ما روى عوف ابن مالك قال: «خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مددي من أهل اليمن، فلقينا جموع الروم فيهم رجل على فرس أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل الرومي يغري بالمسلمين، وقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه وخر، فعلاه فقتله، وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ منه السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى» رواه الأثرم، فإذا ثبت هذا فالدابة وما عليها من سرجها ولجامها

(1/635)


(31) وإنما يستحقه من قتله حال قيام الحرب، غير مثخن ولا ممنوع من القتال.
الثاني: أن ينفل الأمير من أغنى عن المسلمين غناء من غير شرط، كما «أعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلمة بن الأكوع يوم ذي قرد سهم فارس وراجل» ، ونفله أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليلة جاءه بأهل تسعة أبيات امرأة منهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
وجميع آلتها من السلب إذا كان راكبا عليها، وإذا ثبت هذا وأنه القاتل فهو غير مخموس لما روى عوف بن مالك وخالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في السلب للقاتل ولم يخمس السلب» رواه أبو داود، وعموم الأخبار التي ذكرناها وحديث عمر: «لا يخمس السلب» حجة في ذلك.

مسألة 31: (وإنما يستحق ذلك من قتله حال قيام الحرب غير مثخن ولا ممنوع من القتال) ، وقال أصحابنا: يشترط لذلك أربعة شروط: الأول: أن يقتله حال قيام الحرب، فإن قتله بعد انقضائها فلا سلب له فإن العلماء أجمعوا على أن من قتل أسيرا أو امرأة أو شيخا فإنه لا يستحق سلبه، الشرط الثاني: أن لا يكون مثخنا فإن كان مثخنا بالجراح لم يستحقه، بدليل حديث ابن مسعود أنه وقف على أبي جهل وأعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح لأنه أثبته، الشرط الثالث: أن يكون مقبلا على القتال، فإن كان منهزما لم يستحق سلبه؛ لأنه كفي شره بالهزيمة، إلا أن يكون متحيزا إلى فئة، الشرط الرابع: أن يغرر بنفسه في قتله مثل أن يبارزه أو يحمل عليه، فأما إن رماه بسهم من صف المسلمين فلا سلب له، وقالت طائفة من أصحاب الحديث: السلب للقاتل على كل حال لعموم الأخبار.
الضرب (الثاني أن ينفل الأمير من أغنى عن المسلمين غناء من غير شرط كما أعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلمة بن الأكوع يوم ذي قرد سهم فارس وراجل، ونفله أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليلة جاءه بتسعة أهل أبيات امرأة منهم) قال سلمة: «أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاتبعتهم. . . فذكر تمام الحديث، وفي آخره: فأعطاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم الفارس والراجل» ، رواه أبو داود، وعنه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا بكر فبيتنا عدونا فقتلت ليلتئذ تسعة أبيات وأخذت منهم امرأة فنفلنيها أبو بكر» . . . وذكر الحديث.

(1/636)


الثالث: ما يستحق بالشرط، وهو نوعان: أحدهما: أن يقول الأمير: من دخل النقب أو صعد السور فله كذا، ومن جاء بعشر من البقر أو غيرها فله واحدة منها، فيستحق ما جعل له، الثاني: أن يبعث الأمير في البداءة سرية ويجعل لها الربع وفي الرجعة أخرى ويجعل لها الثلث، فما جاءت له أخرج خمسه، ثم أعطى السرية ما جعل لها، وقسم الباقي في الجيش والسرية معاً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
(الثالث: ما يستحق بالشرط، وهو نوعان: أحدهما: أن يقول الأمير: من دخل النقب أو صعد السور فله كذا، ومن جاء بعشر من البقر فله واحدة منها، فيستحق ما جعل له) في قول أكثرهم ونص عليه أحمد في مواضع، ولم يجز هذا مالك وأصحابه، وقالوا: لا نفل إلا بعد إحراز الغنيمة، ولنا ما روى حبيب بن مسلمة الفهري قال: «شهدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة» "، وفي لفظ: " «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس، إذا قفل» رواهما أبو داود، وروى الترمذي بإسناده عن عبادة بن الصامت: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينفل في البدأة الربع وفي القفول الثلث» ، وقال: حديث حسن غريب، وقال ابن المنذر: بلغنا عن عمر بن الخطاب أن جرير بن عبد الله لما قدم عليه في قومه وهو يريد الشام قال له عمر: هل لك أن تأتي الكوفة ولك الثلث بعد الخمس من كل أرض وشيء، ورواه الأثرم بإسناده.
وإذا ثبت هذا فظاهر كلام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنهم إنما استحقوا هذا النفل بالشرط السابق، فإن لم يكن شرطه لهم فلا نفل له، أليس قد نفل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البدأة الربع وفي الرجوع الثلث؟ قال: نعم، ذلك إذا قفل، وتقدم القول فيه، ولأن في ذلك مصلحة وتحريضا على القتال فجاز كاستحقاق الغنيمة وزيادة السهم للفارس واستحقاق السلب، وما ذكره يبطل هذه

(1/637)


فصل: ويرضخ لمن لا سهم له من النساء والصبيان والعبيد والكفار فيعطيهم على
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
المسائل، (الثاني: أن يبعث الأمير في البداءة سرية ويجعل لها الربع وفي الرجوع أخرى ويجعل لها الثلث، فما جاءت به أخرج خمسه ثم أعطى السرية ما جعل لها وقسم الباقي في الجيش والسريه معا) ، ودليل ذلك ما سبق من حديث حبيب بن مسلمة وعبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

[فصل فيمن يرضخ له من الغنيمة]
(فصل: ويرضخ لمن لا سهم له من النساء والصبيان والعبيد والكفار فيعطيهم على قدر غنائمهم) ، ومعناه أن يعطوا من الغنيمة دون السهم، ولا تقدير لذلك بل يرجع إلى اجتهاد الإمام فيعطي كلا على قدر غنائه ونفعه للمسلمين، وهو قول أكثرهم لما روى ابن عباس أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة، وأما سهم فلا يضرب لهن» رواه مسلم، وفي رواية سعيد بن منصور أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن المرأة والمملوك يحضران الفتح ألهما من المغنم شيء؟ قال: يحذيان، وليس لهما شيء، وفي لفظ ليس لهما سهم، وقد يرضخ لهما، وعن عمير مولى أبي اللحم قال: " شهدت خيبر مع ساداتي فكلموا في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبر أني مملوك، فأمر لي بشيء من خرثي المتاع " رواه أبو داود واحتج به أحمد، ولأنهما ليسا من أهل القتال فلا يسهم لهما كالصبي، وأما الصبيان فيرضخ لهم ولا يسهم لهم، وقيل: ليس لهم شيء، وقال مالك: يسهم له إذا قاتل وأطاق القتال، وقال الأوزاعي: أسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للصبيان بخيبر، وأسهم. . . المسلمين كل مولود ولد في أرض الحرب، ولنا ما روى سعيد بن المسيب قال: كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو في صدر هذه الأمة، ولأنهم ليسوا من أهل القتال فلم يسهم لهم كالعبيد والنساء، ولم يثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم لصبي، وما ذكروه فيحتمل أن الراوي سمى الرضخ سهما، فأما الكفار فاختلفت الرواية عن أحمد فيهم إذا غزوا معنا، فروي عنه لا يسهم لهم؛ لأنهم من غير أهل الجهاد فأشبهوا العبيد، ولكن يرضخ لهم كسائر من ليس له سهم، وعنه يسهم لهم إذا

(1/638)


قدر غنائمهم
(32) ولا يبلغ بالراجل منه سهم راجل، ولا بالفارس سهم فارس
(33) وإن غزا العبد على فرس لسيده فسهم الفرس لسيده ويرضخ للعبد
باب الغنائم وقسمتها
وهي نوعان: أحدهما: الأرض فيخير الإمام بين قسمتها ووقفها للمسلمين ويضرب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
غزوا مع الإمام بإذنه كما يسهم للمسلم، لما روى الزهري: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم» رواه سعيد في سننه، «وروي أن صفوان بن أمية خرج مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين وهو على شركه، فأسهم له وأعطاه من سهم المؤلفة قلوبهم» ، ولأن الكفر نقص في الدين فلم يمنع استحقاق السهم كالفسق، وبهذا فارق الرقيق فإن نقصه في دنياه وأحكامه.

مسألة 32: (ولا يبلغ بالراجل منه سهم راجل، ولا بالفارس سهم فارس) لما سبق من الأحاديث والآثار.

مسألة 33: (وإن غزا العبد على فرس لسيده قسم لسيده سهم الفرس ورضخ للعبد) أما الرضخ للعبد فلما سبق، وأما الفرس التي تحته فيستحق مالكها سهمها، فإن كان معه فرسان أو أكثر أسهم لفرسين ويرضخ للعبد نص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال الشافعي: لا يسهم للفرس لأنه تحت من لا يسهم له، أشبه ما إذا كان تحت مخذل، ولنا أنه فرس حضر الوقعة وقوتل عليه فاستحق السهم كما لو كان السيد راكبه، إذا ثبت هذا فإن سهم الفرس ورضخ العبد جميعا لسيده لأنه مالكه ومالك الفرس وسواء حضر السيد القتال أو غاب عنه.

[باب الغنائم وقسمتها]
(وهي نوعان: أحدهما: الأرض فيخير الإمام بين قسمتها على الغانمين وبين وقفها على المسلمين، ويضرب عليها خراجا مستمرا يؤخذ ممن هي في يده كل عام أجرا لها) وهي الأرض التي فتحت عنوة، وهي ما أجلي عنها أهلها بالسيف، فحكمها أن الإمام مخير بين قسمتها بين الغانمين وبين وقفها على جميع المسلمين؛ لأن كلا الأمرين قد ثبت

(1/639)


عليها خراجا مستمرا يؤخذ ممن هي في يده كل عام أجرا لها
(34) وما وقفه الأئمة من ذلك لم يجز تغييره ولا بيعه، الثاني: سائر الأموال، فهي لمن شهد الوقعة ممن يمكنه القتال ويستعد له من التجار وغيرهم، سواء قاتل أو لم يقاتل على الصفة التي شهد الوقعة فيها من كونه فارسا أو راجلا أو عبدا أو مسلما أو كافرا، ولا يعتبر ما قبل ذلك ولا ما بعده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
فيه حجة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم نصف خيبر ووقف نصفها لنوائبه، ووقف مكة ولم يقسمها» ، ووقف عمر أرض الشام وأرض العراق ومصر ووافق على ذلك علماء الصحابة وأشاروا عليه بذلك، وعنه تصير وقفا بنفس الاستيلاء عليها لاتفاق الصحابة على ذلك، وعنه أن قسمتها متعينة ولا يجوز وقفها لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك وفعله أولى من فعل غيره، وهو قول مالك لقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، يفهم منها أن أربعة أخماسها للغانمين، والرواية الأولى أولى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الأمرين جميعا في خيبر، ولأن عمر قال: لولا آخر الناس لقسمت الأرض كما قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر، فقد وقفها مع علمه بفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دل على أن فعله لذلك لم يكن متعينا، كيف والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد وقف نصف خيبر، ولو كانت للغانمين لم يكن له وقفها، وإذا ثبت هذا فإنه إن وقفها فعليها الخراج يضرب عليها أجرة لها في كل عام على من هي في يده، وإن قسمها بين الغانمين فلا خراج فيها، وليس له أن يفعل شيئا من ذلك إلا إذا رآه مصلحة للمسلمين كما كان مخيرا في الأسارى لم يكن تخيير شهوة، وإنما هو تخيير لما فيه المصلحة للمسلمين.

مسألة 34: (وما وقفه الأئمة من ذلك لم يجز تغييره ولا بيعه) ، وكذلك ما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وقف وقسمة فليس لأحد نقضه ولا تغييره، وإنما الروايات فيما يستأنف فتحه، وما قسم بين الغانمين فلا خراج عليه، وما وقفه الأئمة والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضرب عليه خراج لا يجوز تغييره ولا بيعه؛ لأن الوقف لا يجوز بيعه.
النوع (الثاني) من الغنائم: (سائر الأموال، فهي لمن شهد الوقعة ممن يمكنه القتال ويستعد له من التجار وغيرهم، سواء قاتل أو لم يقاتل على الصفة التي شهد الوقعة فيها من كونه فارسا أو راجلا أو عبدا أو مسلما أو كافرا، ولا يعتبر ما قبل ذلك ولا بعده) قال أحمد: إني أرى أن كل من شهد على أي حال كان يعطى إن كان فارسا ففارس وإن كان

(1/640)


(35) ولا حق فيها لعاجز عن القتال بمرض أو غيره
(36) ولا لمن جاء بعدما تنقضي الحرب من مدد أو غيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
راجلاً فراجل، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الغنيمة لمن شهد الوقعة، وقال أبو حنيفة: الاعتبار بدخول دار الحرب فإن دخل فارساً فله سهم فارس وإن نفق فرسه قبل القتال، وإن دخل راجلاً فله سهم راجل، وإن استفاد فرساً فقاتل عليه. ولنا أن الفرس حيوان يسهم له فيعتبر وجوده حالة القتال فيسهم له مع الوجود فيه ولا يسهم له مع العدم كالآدمي، والأصل في هذا أن حاله عند استحقاق السهم حال مقتضى الحرب بدليل قول عمر: الغنيمة لمن شهد الوقعة. ولأنها الحالة التي يحصل فيها الاستيلاء الذي هو سبب الملك، بخلاف ما قبل ذلك فإن الأموال في أيدي أصحابها ولا يدري هل يظفر بهم أو لا، ولأنه لو مات بعض المسلمين قبل الاستيلاء لم يستحق شيئاً، ولو وجد مدد في تلك الحال أو أسير فهرب أو كافر فأسلم فقاتل استحق السهم، فدل على أن الاعتبار بحالة الإحراز فوجب اعتباره دون غيره.

مسألة 35: (ولا حق فيها لعاجز عن القتال بمرض أو غيره) وذلك أنه إذا مرض في دار الحرب فلا يخلو إما أن يكون مرضاً يسيراً لا يخرجه عن كونه من أهل القتال كالصداع والحمى لم يسقط سهمه، وإن خرج عن كونه من أهل القتال كالزمن والأشل سقط سهمه لأنه ليس من أهل القتال والجهاد أشبه العبد.

مسألة 36: (ولا لمن جاء بعدما تنقضي الحرب من مدد أو غيره) لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الغنيمة لمن شهد الوقعة، فإذا جاء بعدها فلم يشهدها فلا سهم له. ولأنه قد جاء وقد ملكت وصارت للغانمين الذين حضروها فلم يبق له فيها نصيب، وروى أبو هريرة: «أن أبان بن سعيد وأصحابه قدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر بعد أن فتحها، فقال أبان: اقسم لنا يا رسول الله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجلس يا أبان، ولم يقسم له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -" رواه أبو داود، وروى سعيد عن طارق بن شهاب: إن أهل البصرة غزوا نهاوند فأمدهم أهل الكوفة، فكتب في ذلك إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فكتب عمر: إن الغنيمة لمن شهد الوقعة،

(1/641)


(37) ومن بعث الأمير لمصلحة الجيش أسهم له، ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت وتشاركه فيما غنم
(38) ويبدأ بإخراج مؤنة الغنيمة لحفظها ونقلها وسائر حاجتها ثم يدفع الأسلاب إلى أهلها والأجعال لأصحابها، ثم يخمس باقيها فيقسم خمسها خمسة أسهم:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
وروي نحو ذلك عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في غزوة أرمينية، ولأنه مدد لحق بعد أن تقضى الحرب أشبه ما لو جاء بعد القسمة أو بعد إحرازها إلى دار الإسلام.

مسألة 37: (ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش أسهم له) وهذا مثل الرسول والدليل والطليعة والجاسوس يبعثون لمصلحة الجيش فهم شركاء الجيش فيما غنم، وقد تخلف عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم بدر فأجرى له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهمه من الغنيمة، وعن ابن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام يوم الحديبية فقال: إن عثمان انطلق في حاجة لله وحاجة لرسوله، وإني أبايع له، فضرب له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسهم ولم يضرب لأحد غاب غيره» " ولأنه في مصلحتهم فاستحق سهماً كالسرية (ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت وتشاركه فيما غنم) في قول عامتهم، وقد روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما غزا هوازن بعث سرية من الجيش قبل أوطاس فغنمت السرية فأشرك بينها وبين الجيش، قال ابن المنذر: وروينا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وترد سراياهم على قعدهم» وفي تنفيل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث دليل على اشتراكهم فيما سوى ذلك، ولأنهم جيش واحد وكل منهم ردء لصاحبه فيشتركون كما لو غنم أحد جانبي الجيش.

مسألة 38: (ويبدأ بإخراج مؤنة الغنيمة لحفظها ونقلها وسائر حاجتها) لأن أجرتهم منها والفاضل للغانمين، كما يبدأ بأجرة العامل على الزكاة (ثم يدفع الأسلاب إلى أهلها) لأن صاحبها معين (والأجعال لأصحابها) كذلك (ثم يخمس باقيها فيقسم خمسها خمسة أسهم) يعني أنه يجعل الغنيمة كلها خمسة أسهم يأخذ منها سهماً يقسمه خمسة أسهم وذلك لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] فسهم الله ورسوله واحد لأن الدنيا والآخرة لله سبحانه، وقد روي عن ابن عمر وابن عباس قالا: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم الخمس على

(1/642)


سهم لله تعالى ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصرف في السلاح والكراع والمصالح، وسهم لذوي القربى وهم: بنو هاشم وبنو المطلب غنيهم وفقيرهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، وسهم لليتامى الفقراء، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
خمسة» : (فسهم لله ورسوله يصرف في الكراع وهي الخيل والسلاح ومصالح المسلمين) من سد الثغور ونحوه. (والخمس الثاني لذي القربى وهم) أقارب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (من بني هاشم وبني المطلب) ابني عبد مناف دون غيرهم لما «روى جبير بن مطعم قال: (لما قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم ذوي القربى من خيبر بين بني هاشم وبني المطلب أتيت أنا وعثمان بن عفان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلنا: يا رسول الله أما بنو هاشم فلا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله بهم منهم، فما بال إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال: إنهم لم يفارقوني - وفي رواية: لم يفارقونا - في جاهلية ولا إسلام، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد. وشبك بين أصابعه» رواه الإمام
أحمد والبخاري، فرعى لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصرتهم وموافقتهم بني هاشم في الجاهلية، ويشترك الذكر والأنثى فيه لدخولهم في اسم القرابة، وعن أحمد يسوى بين الذكر والأنثى أعطوا بسهم القرابة والذكر والأنثى فيها سواء، فأشبه ما لو أوصى بثلثه لقرابة فلان، ولأنه سهم من الخمس فيسوى فيه بين الذكر والأنثى كسائر سهامه، وعنه (للذكر مثل حظ الأنثيين) لأنه سهم استحق بقرابة الأب شرعاً ففضل فيه الذكر على الأنثى كالميراث، ويدخل في ذلك الغني والفقير لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى قرابته الأغنياء كالعباس وغيره ولم يخص الفقراء لأنهما يدخلان في اسم القرابة فلا يختص أحدهما دون الآخر. (والخمس الثالث في اليتامى) وهم الذين لا آباء لهم ولم يبلغوا الحلم، قال أصحابنا: ولا يستحقون إلا مع الفقر، وقال بعضهم هو للغني والفقير لأنه يستحق باسم اليتيم، وهو شامل لهما وقياساً له على سهم ذي القربى، ووجه الأول أنه لو كان له أب ذو مال لم يستحق شيئاً فإذا كان المال له كان الأولى أن لا يستحق شيئاً؛ لأن وجود المال له أنفع من وجود الأب، ولأنهم صرف إليهم

(1/643)


(39) ثم يخرج باقي الأنفال والرضخ
(40) ثم يقسم ما بقي للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له ولفرسه سهمان، لما روى ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل للفرس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
لحاجتهم لأن اسم اليتم يطلق عليهم في العرف للرحمة، ومن كان إعطاؤه لذلك اعتبرت الحاجة فيه، بخلاف ذوي القربى فإنهم استحقوا لقربهم من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكرمة لهم، والغني والفقير في القرب سواء فاستووا في الاستحقاق. (والخمس الرابع في المساكين) ويدخل فيهم الفقراء فهم صنفان في الزكاة وواحد هاهنا وفي سائر الأحكام. (والخمس الخامس في بني السبيل) وهم المسافرون المنقطع بهم يعطى كل واحد منهم بقدر حاجته وما يوصله إلى بلده، لأن الدفع إليه لأجل الحاجة فأعطى بقدرها.

مسألة 39: (ثم يخرج باقي الأنفال والرضخ) ثم يقسم ما بقي بين الغانمين. قال أحمد: النفل من أربعة أخماس الغنيمة، وهو قول أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، وروى معن بن يزيد السلمي قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا نفل إلا بعد الخمس» ، رواه أحمد ورواه أبو داود من حديث حبيب بن مسلمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنما نفلهم بعد الخمس وفي الرضخ وجهان:
أحدهما: أنه من أربعة أخماس الغنيمة لأنه استحق بحضور الوقعة أشبه سهام الغانمين.
والثاني: أنه من أصل الغنيمة لأنه استحق لأجل المعاونة في تحصيل الغنيمة فأشبه أجرة النقالين.

مسألة 40: (وما بقي من أربعة أخماس الغنيمة يصير للغانمين للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم) وأجمعوا على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، لقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] فيفهم من ذلك أن الباقي للغانمين لأنه أضافها إليهم، ثم أخذ منها سهماً لغيرهم فبقي سائرهم لهم كقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] وقال عمر: الغنيمة لمن شهد الوقعة، واتفقوا كلهم على أن للراجل سهماً وللفارس ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه إلا أبا حنيفة قال: للفارس سهمان وقد ثبت عن ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه» ، متفق عليه.

(1/644)


سهمين ولصاحبه سهما»
(41) وإن كان الفرس غير عربي فله سهم ولصاحبه سهم
(42) وإن كان مع الرجل فرسان أسهم لهما، ولا يسهم لأكثر من فرسين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 41: (وإن كان الفرس غير عربي فله سهم ولصاحبه سهم) وغير العربي هو البرذون وهو الهجين أيضاً، وقد حكي عن أحمد أنه قال: الهجين البرذون، واختلفت الرواية عن أحمد في سهمه فقال الخلال: تواترت الروايات عن أبي عبد الله في سهام البرذون أنه سهم واحد واختاره أبو بكر، وعنه أسهم للبرذون مثل سهم العربي سهمين واختاره الخلال لأن الله سبحانه قال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] وهذا من الخيل، ولأنه حيوان ذو سهم فاستوى فيه العربي وغيره كالآدمي، وحكى القاضي رواية أخرى عنه أنه لا يسهم له، وحكى أبو بكر رواية رابعة أن البراذين إذا أدركت أسهم لها مثل الفرس لأنه عملت عمل العراب فأعطيت سهمها، ودليل الأولى ما روى سعيد عن أبي الأقمر قال: أغارت الخيل على الشام فأدركت العراب من يومها وأدركت الكودان ضحى الغد وعلى الخيل رجل من همدان يقال له: المنذر بن أبي حمضة فقال: لا أجعل التي أدركت من يومها مثل التي لم تدرك. فقال عمر، هبلت الوادعي أمه، أمضوها على ما قال. وروى الجوزجاني عن أبي موسى أنه كتب إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنا وجدنا في العراق خيلاً عراضاً دكاً، فما ترى يا أمير المؤمنين في سهامها؟ فكتب: تلك البراذين، فما قارب العتاق منها فاجعل له سهماً واحداً وألغ ما سوى ذلك. وروي بإسناده عن مكحول «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى الفرس العربي سهمين وأعطى الهجين سهماً» .

مسألة 42: (وإن كان مع الرجل فرسان أسهم لهما، ولا يسهم لأكثر من فرسين) لما روى الأوزاعي: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسهم للخيل، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين، وإن كان معه عشرة أفراس» . وعن أزهر بن عبد الله أن عمر كتب إلى أبي عبيدة أن أسهم للفرس سهمين وللفرسين أربعة ولصاحبها سهم فذلك خمسة أسهم، وما كان فوق الفرسين فهي جنائب، رواهما سعيد في سننه، ولأن به إلى الثاني حاجة فإن إدامة ركوب واحد يضعفه ويمنعه القتال عليه فيسهم له كالأول بخلاف الثالث.

(1/645)


(43) ولا يسهم لدابة غير الخيل
فصل: (44) وما تركه الكفار فزعاً وهربوا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو أخذ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 43: (ولا يسهم لدابة غير الخيل) كالجمل والبغل والحمار، وعنه إذا غزا على بعير وهو لا يقدر على غيره أسهم له ولبعيره سهمان، وعنه يسهم للبعير سهم ولم يشترط عجز صاحبه عن غيره ولقوله سبحانه: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] والركاب الإبل، ولأنه حيوان يجوز المسابقة عليه فيسهم له كالفرس، واختار أبو الخطاب أنه لا يسهم له وهو قول أكثرهم، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن من غزا على بعير فله سهم راجل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسهم لغير الخيل، وقد كان معه يوم بدر سبعون بعيراً، ولم تخل غزاة من غزواته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأبعرة بل كانت غالب دوابهم، فلم ينقل أنه أسهم لها، ولو أسهم لها لنقل ذلك، ولأنه لا يتمكن صاحبه من الكر والفر فلم يسهم له كالبغل، فأما ما عدا هذا من البغال والحمير والفيلة فلا يسهم له بغير خلاف وإن عظم غناؤها وقامت مقام الخيل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسهم لها.

مسألة 44: (وما تركه الكفار فزعاً وهربوا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو أخذ منهم بغير قتال فهو فيء يصرف في مصالح المسلمين) والفيء هو الراجع للمسلمين من مال الكفار، يقال: فاء الفيء إذا رجع نحو المشرق، والإيجاف أصله التحريك، والمراد هاهنا الحركة في السير، قال قتادة: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ما قطعتم وادياً ولا سرتم إليها، إنما كانت حوائط بني النضير أطعمها الله رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيصرف ذلك في مصالح المسلمين. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قرأ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]- حتى بلغ - {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] ثم قال: هذه لهؤلاء ثم قرأ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41]- حتى بلغ - {وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7]- حتى بلغ - {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] ثم قال: هذه استوعبت المسلمين عامة، " ولئن عشت ليأتين الراعي وهو يسير نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه " واختلفت الرواية عن أحمد في الفيء هل يخمس أو لا؟ فروي عنه أنه يخمس اختارها الخرقي، وعنه لا يخمس وهو قول عامتهم؛ لأن الله

(1/646)


منهم بغير قتال فهو فيء يصرف في مصالح المسلمين
(45) ومن وجد كافراً ضالاً عن الطريق أو غيره في دار الإسلام فأخذه فهو له
(46) وإن دخل قوم لا منعة لهم أرض الحرب متلصصين بغير إذن الإمام فما أخذوه فهو لهم بعد الخمس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
سبحانه قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] إلى قوله - {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] فجعله كله لهم ولم يذكر خمساً. ولما قرأها عمر قال: هذه استوعبت المسلمين. ووجه الأولى قوله سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] وظاهر هذا أن جميعه لهؤلاء الأصناف وهم أهل الخمس، وجاءت الأخبار عن عمر وغيره دالة على اشتراك جميع المسلمين فيه فوجب الجمع بينهما كيلا تتناقض الآية والأخبار تتعارض، وفي إيجاب الخمس فيه جمع بينهما وتوفيق فإن خمسه لمن سمي في الآية وسائره مصروف إلى من في الحرب كالغنيمة، ولأنه مال مشترك مظهور عليه فوجب أن يخمس كالغنيمة والركاز.

مسألة 45: (ومن وجد كافراً ضالاً عن الطريق أو غيره في دار الإسلام فأخذه فهو له) في إحدى الروايتين؛ لأنه وجده في دار الإسلام فأشبه المباحات والصيد واللقطة، والأخرى يكون فيئاً؛ لأنه لم يوجف عليه وهو من مال الكفار فأشبه ما لو أخذ من دراهم.

مسألة 46: (وإن دخل قوم لا منعة لهم أرض الحرب متلصصين بغير إذن الإمام فما أخذوه فهو لهم بعد الخمس) وفي هذه المسألة ثلاث روايات:
إحداهن: أن غنيمتهم كغنيمة غيرهم يخمسها الإمام ويقسم الباقي بينهم، وهو قول أكثرهم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية، وبالقياس على ما إذا دخلوا بإذن الإمام.
والثانية: هو لهم من غير أن يخمس وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه اكتساب مباح من غير جهاد أشبه الاحتطاب، فإن الجهاد إنما يكون بإذن الإمام أو من طائفة لهم منعة. فأما هذا فتلصص وسرقة ومجرد اكتساب.
والثالثة: أنه فيء لا حق لهم فيه، لأنهم عصاة بفعلهم فلم يكن لهم فيه حق، والأولى أولى.
قال الأوزاعي: لما نقل عمر بن عبد العزيز الجيش الذي كانوا مع مسلمة كسر مركب بعضهم، فأخذ المشركون ناساً من القبط فكانوا خداماً لهم، فخرجوا يوماً إلى عيد لهم وخلفوا القبط في مركبهم وشرب الآخرون، فرفع القبط القلع وفي المركب متاع الآخرين وسلاحهم، فلم يضعوا قلعهم حتى أتوا بيروت، فكتب

(1/647)


باب الأمان ومن قال لحربي: قد أجرتك أو أمنتك أو لا بأس عليك ونحو هذا فقد أمنه
(47) ويصح الأمان من كل مسلم عاقل مختار، حرا كان أو عبدا رجلا كان أو امرأة، لقول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
في ذلك إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب عمر: نفلوهم القلع وكل شيء جاءوا به إلا الخمس، رواه سعيد والأثرم. وكذا إن كانت الطائفة ذات منعة في إحدى الروايتين، وفي الأخرى لا شيء لهم.

[باب الأمان]
(ومن قال لحربي: قد أجرتك أو أمنتك أو لا بأس عليك ونحو هذا فقد أمنه) وذلك أن من أعطى الأمان حرم قتله وماله والتعرض له. فأما صفة الأمان فالذي ورد به الشرع لفظتان: أمنتك وأجرتك لقوله سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم هانئ: "قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت» (رواه البخاري) ، وقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» وفي معنى ذلك لا تخف ولا بأس عليك، فقد روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال للهرمزان: لا بأس عليك تكلم. فلما تكلم أمر عمر بقتله، فقال أنس: ليس لك إلى ذلك سبيل، قد أمنته. فدرأ عنه القتل. رواه سعيد وغيره. وقال عمر: إذا قلتم لا بأس أو لا تذهل أو مترس فقد أمنتموهم، فإن الله يعلم الألسنة. وفي رواية: إذا قال الرجل للرجل: لا تخف أو مترس فقد أمنه، وهذا كله لا نعلم فيه خلافاً، فأما إن قال له كف أو ألق سلاحك فقال أصحابنا: هو أمان؛ لأن الكافر يعتقده أماناً فكان أماناً كقوله: أمنتك، ويحتمل أنه ليس بأمان؛ لأن لفظه لا يشعر به، وهو يستعمل للإرهاب والتخويف فأشبه ما لو قال: لأقتلنك.

مسألة 47: (ويصح الأمان من كل مسلم بالغ عاقل مختار ذكراً كان أو أنثى حراً أو عبداً) وهو قول أكثرهم وروي ذلك عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال أبو حنيفة: لا يجوز أمان العبد

(1/648)


رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم»
(48) ويصح أمان آحاد الرعية للجماعة اليسيرة، وأمان الأمير للبلد الذي أقيم بإزائه، وأمان الإمام لجميع الكفار
(49) ومن دخل دارهم بأمانهم فقد أمنهم من نفسه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
إلا أن يكون مأذوناً له؛ لأنه لا يجب عليه الجهاد فلا يصح أمانه كالصبي، ولأنه مجلوب من دار الحرب فلا يؤمن أن ينظر لهم في تقديم مصلحتهم. ولنا ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً» رواه البخاري، وقال عمر: العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم، رواه سعيد. ولأنه مسلم مكلف أشبه الحر. وأما التهمة فتبطل بما لو أذن له في القتال فإنه يصح أمانه. وأما المرأة فيجوز أمانها في قولهم جميعاً. وأما الصبي المميز ففيه روايتان، قال أبو بكر: يصح أمانه رواية واحدة؛ لأنه مسلم مميز فأشبه البالغ، وحمل رواية المنع على من لم يعقل وفارق المجنون فإنه لا تمييز له.

مسألة 48: (ويصح أمان آحاد الرعية للجماعة اليسيرة) كالواحد والعشرة والقافلة والحصن الصغير، لما روى فضيل بن يزيد الرقاشي قال: جهز عمر بن الخطاب جيشاً فكنت فيهم، فحضرنا موضعاً فرأينا أنا سنفتحها اليوم فجعلنا نقبل ونروح، فبقي عبد منا فراطنهم وراطنوه، فكتب لهم الأمان في صحيفة وشدها على سهم ورمى بها إليهم فأخذوها وخرجوا، فكتب بذلك إلى عمر فقال: العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم، رواه سعيد. فإذا صح من العبد فالحر أولى. ولا يصح أمان الواحد لأهل بلدة ورستاق وجمع كثير؛ لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الجهاد والافتئات على الإمام (ويصح أمان الأمير للبلد الذي أقيم بإزائه) ؛ لأنه نائب الإمام فيه (ويصح أمان الإمام لجميع الكفار) ؛ لأنه متولي ذلك يفعل ما يرى فيه المصلحة.

مسألة 49: (ومن دخل دارهم بأمانهم فقد أمنهم من نفسه) لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطاً بأمنه إياهم من نفسه وترك خيانتهم، وإن لم يكن ذلك مذكوراً فهو معلوم في المعنى، ولا يصلح في ديننا الغدر، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون عند شروطهم» .

(1/649)


(50) وإن خلوا أسيراً منا بشرط أن يبعث إليهم مالاً معلوماً لزمه الوفاء لهم
(51) فإن شرطوا عليه أن يعود إليهم إن عجز لزمه الوفاء لهم
(52) إلا أن تكون امرأة فلا ترجع إليهم
فصل (53) وتجوز مهادنة الكفار إذا رأى الإمام المصلحة فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 50: (وإن خلوا أسيراً منا بشرط أن يبعث إليهم مالاً معلوماً لزمه الوفاء لهم به) ؛ لأن الله سبحانه قال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] ، ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح أهل الحديبية على رد من جاءه فوفى لهم وقال: "إنا لا يصلح في ديننا الغدر» ولأن في الوفاء مصلحة للأسارى وفي منعه مفسدة في حقهم، لأنهم لا يأمنون بعده أسيراً، والحاجة داعية إلى ذلك، فلزم الوفاء به كما يلزم الوفاء بعقد الهدنة.

مسألة 51: (فإن شرطوا عليه أن يعود إليهم إن عجز عنه لزمه العود) في إحدى الروايتين؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاهد أهل الحديبية على رد من جاء مسلماً فرد أبا جندل وأبا بصير وقال: «إنا لا يصلح في ديننا الغدر» . والرواية الأخرى لا يرجع؛ لأن الرجوع إليهم معصية فلم يلزم بالشرط كما لو كان امرأة وكما لو شرط شرب الخمر أو قتل مسلم.

مسألة 52: (إلا أن تكون امرأة فلا ترجع إليهم) ؛ لأن في رجوعها إليهم تسليطاً لهم على وطئها حراماً، وقد منع الله ورسوله رد النساء إلى كفار قريش بعد صلحه على ردهن في قصة الحديبية، وهي مشهورة، رواه أبو داود وغيره، وفيها: فجاء نسوة مؤمنات فنهاهم الله أن يردوهن بقوله: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] .

مسألة 53: (وتجوز مهادنة الكفار إذا رأى الإمام المصلحة فيها) ومعناها أن يعقد لأهل الحرب عقداً على ترك القتال مدة بعوض وغير عوض ويسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة، وذلك جائز لقول الله سبحانه: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1] وقال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] . وروى مروان ومسور بن مخرمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين. ولا يجوز إلا النظر للمسلمين، إما أن يكون بالمسلمين ضعف عن قتالهم، وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم أو في أدائهم الجزية والتزامهم أحكام الملة، ولا تتقدر بمدة بل هي على ما يرى الإمام من المصلحة في قلتها وكثرتها، قال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنها لا تجوز أكثر من

(1/650)


(54) ولا يجوز عقدها إلا من الإمام أو نائبه
(55) وعليه حمايتهم من المسلمين دون أهل الحرب
(56) وإن خاف نقض العهد منهم نبذ إليهم عهدهم
(57) وإن سباهم كفار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
عشر سنين وهي اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي؛ لأن قوله سبحانه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] عام خص منه مدة العشر بصلح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل الحديبية على عشر، ففيما زاد عليها يبقى على مقتضى العموم. ووجه الأول أنه عقد يجوز في العشر فجاز فيما زاد كمدة الإجازة، والعام مخصوص في العشر لمعنى هو موجود فيما زاد عليها وهو أن المصلحة قد تكون في الصلح أكثر منها في الحرب. فإن قلنا بجوازه في الزيادة لم يجز مطلقاً من غير تقدير؛ لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية، وإن قلنا يتقدر بالعشر فعقد على أكثر من ذلك فسد في الزيادة وكان في العشر على وجهين مبنيين على تفريق الصفقة.

مسألة 54: (ولا يجوز عقدها إلا من الإمام أو نائبه) ؛ لأن ذلك يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة على ما قدمنا، ولأن عقد الهدنة يكون مع جملة من الكفار وليس لأحد من المسلمين إعطاء الأمان لأكثر من القافلة؛ لأن في تجويز ذلك افتئاتاً على الإمام أو نائبه في تلك الناحية وتعطيل الجهاد بالكلية، فإن هادنهم غير الإمام أو نائبه لم يصح، فإن دخل بعض الكفار الذين هادنهم دار الإسلام كان آمناً؛ لأنه دخل معتقداً أنه دخل بأمان، ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الإسلام؛ لأن الأمان لم يصح.

مسألة 55: (وعليه حمايتهم من المسلمين دون أهل الحرب) ؛ لأنه أمنهم ممن هو في قبضته وتحت يده، ومن أتلف من المسلمين أو أهل الذمة عليهم شيئاً أو قتل منهم أحداً فعليه ضمانه، ولا يلزم الإمام حمايتهم من أهل الحرب، ولا حماية بعضهم من بعض؛ لأن الهدنة التزام الكف عنهم فقط.

مسألة 56: (وإن خاف نقض العهد منهم جاز أن ينبذ إليهم عهدهم) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] ، يعني أعلمهم حتى تصير أنت وهم سواء في العلم، ولا يكفي أن يقع في قلبه خوف منهم حتى يكون ذلك عن أمارة تدل على ما خافه.

مسألة 57: (وإن سباهم كفار آخرون لم يجز لنا شراؤهم) لأنهم في عهد منه فلا

(1/651)


آخرون لم يجز لنا شراؤهم
(58) وتجب الهجرة على من لم يقدر على إظهار دينه في دار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
يجوز أن يملك ما سبي منهم كأهل الذمة، ويحتمل أن يجوز ذلك؛ لأنه لا يجب عليه أن يدفعه عنهم فلا يلزمه رد ما استنقذه منهم كما لو أعان أهل الحرب على أهل الحرب.

مسألة 58: (وتجب الهجرة على من لم يقدر على إظهار دينه في دار الحرب، وتستحب لمن قدر على ذلك) قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] ولأن حكم الهجرة باق إلى يوم القيامة لا تنقطع، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد» رواه سعيد وغيره، وعن معاذ بن جبل قال: " سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» أخرجه أبو داود،. فأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا هجرة بعد الفتح» رواه سعيد فمعناه لا هجرة من مكة بعد فتحها، ولا هجرة من بلد بعد فتحه؛ لأن الهجرة الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام، وبعد الفتح صار البلد المفتوح دار إسلام فلا هجرة منه إذاً، ألا ترى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك لمن أراد الهجرة من مكة بعد فتحها، «فإن صفوان بن أمية قيل له بعد الفتح: إنه لا دين لمن لم يهاجر، فأتى المدينة، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما جاء بك أبا وهب؟ قال: قيل: إنه لا دين لمن لم يهاجر، قال: ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة. أقروا على مساكنكم فقد انقطعت الهجرة، ولكن جهاد ونية» يعني من مكة، إذا ثبت هذا، فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:
أحدها: من تجب عليه، وهو من لا يمكنه إظهار دينه، ولا عذر له من مرض ولا عجز عن الهجرة، فهذا تجب عليه للآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [النساء: 97] ، ولأن القيام بواجب الدين واجب ولا يتمكن منه إلا بالهجرة، وما

(1/652)


الحرب، وتستحب لمن قدر على ذلك
(59) ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار، إلا من بلد بعد فتحه
باب الجزية ولا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب وهم اليهود ومن دان بالتوراة، والنصارى ومن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
لا يتمكن من الواجب إلا به واجب لكونه من ضرورة الواجب.
الثاني: من تستحب له الهجرة، وهو من يتمكن من إظهار دينه في دار الحرب والقيام بواجبه، إما لقوة عشيرته أو غير ذلك، فهذا لا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه، وتستحب له؛ لأن في إقامته عندهم تكثيراً لعددهم واختلاطاً بهم ورؤية المنكر بينهم.
الثالث: من تسقط عنه الهجرة، وهو من يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف، فهذا لا تجب عليه ولا يوصف باستحباب، لقوله سبحانه: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98] {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 99] .

مسألة 59: (ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار، إلا من بلد بعد فتحه) لما سبق.

[باب الجزية]
(ولا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب وهم اليهود ومن دان بالتوراة، والنصارى ومن دان بالإنجيل، والمجوس إذا التزموا أداء الجزية وأحكام الملة) والأصل في الجزية الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] إلى قوله {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وأما السنة «فروى المغيرة أنه قال لجند كسرى يوم نهاوند: " أمرنا نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية» أخرجه البخاري. وأجمع المسلمون على جواز أخذ الجزية في الجملة، واشتقاقها من جزى يجزي إذا قضى، تقول العرب: جزيت ديني إذا قضيته، وقال الله سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] أي لا تقضي. والذين تقبل منهم الجزية صنفان: أهل الكتاب، ومن له شبهة كتاب. فأهل الكتاب اليهود والنصارى ومن دان بدينهم كالسامرة يدينون بالتوراة، وإنما خالفوا اليهود في فروع دينهم، وفرق النصارى

(1/653)


دان بالإنجيل، والمجوس إذا التزموا أداء الجزية وأحكام الملة
(61) ومتى طلبوا ذلك لزم إجابتهم وحرم قتالهم
(62) وتؤخذ الجزية في رأس كل حول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
من اليعقوبية والنسطورية والملكية والإفرنج والروم والأرمن وغيرهم ممن دان بالإنجيل وانتسب إلى عيسى، فجميعهم من أهل الإنجيل وإن اختلفت فروعهم، والصابئون قال أحمد: هم جنس من النصارى، وقال: بلغني أنهم يسبتون فهم من اليهود، وروي عن عمر أنهم يسبتون. وقال مجاهد: هم بين اليهود والنصارى، وأما من لهم شبهة كتاب كالمجوس، قال الشافعي: كان لهم كتاب فرفع، وقد أخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر منهم الجزية، وروى البخاري بإسناده عن بجالة قال: «ولم يكن عمر أخذ الجزية من مجوس حتى حدثه عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من المجوس هجر» . إذا ثبت هذا فإن أهل العلم من الحجاز والعراق والشام ومصر وغيرهم أجمعوا على أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس مع ما فيه من الآثار الصحيحة، وعمل بها الخلفاء الراشدون، ثم جرت به السنة إلى يومنا هذا.
1 -
مسألة 60: (وإنما تقبل منهم الجزية إذا كانوا مقيمين على ما عاهدوا عليه من بذل الجزية والتزام أحكام الملة، فإن نقضوا العهد بمخالفة شيء من ذلك صاروا حرباً لزوال عهدهم، ولم تؤخذ منهم جزية بعد ذلك. ولا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين:
أحدهما: أن تجعل عليهم جزية في كل حول.
والثاني: أن يلتزموا أحكام الإسلام، لقوله سبحانه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وإنما يحصل الصغار بذلك.

مسألة 61: (ومتى طلبوا ذلك لزم إجابتهم وحرم قتالهم) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29] إلى قوله - {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فجعل إعطاء الجزية غاية لقتالهم، فمتى بذلوها لم يجز قتالهم. وقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] يعني حتى يلتزموا إعطاءها فلا يعتبر حقيقة الإعطاء كقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة: 5] معناه التزموا ذلك بالإجماع، كذا هاهنا.

مسألة 62: (وتؤخذ الجزية في رأس كل حول) ؛ لأنه مال يتكرر بتكرر الحول فلا تجب إلا بأوله كالزكاة والدية.

(1/654)


(63) من الموسر ثمانية وأربعون درهماً، ومن المتوسط أربعة وعشرون درهماً، ومن دونه اثنا عشر درهماً
(64) ولا جزية على صبي ولا امرأة ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى ولا عبد (65) ولا فقير عاجز عنها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 63: وتؤخذ (من الموسر ثمانية وأربعون درهماً، ومن المتوسط أربعة وعشرون درهماً، ومن دونه اثنا عشر درهماً) ؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذها منهم كذلك، وقد روي عن أحمد أن الجزية مقدرة بمقدار لا يزيد ولا ينقص، وعنه أنها غير مقدرة منهم كذلك، بل ذلك مردود إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان، قال الخلال: العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه الجماعة، فإنه لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص، رواه عنه أصحابه في عشرة مواضع فاستقر قوله على ذلك، ودليله «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: خذ من كل حالم ديناراً ولم يفصل» ، رواه أبو داود،. «وصالح أهل نجران على ألفي حلة: النصف في صفر، والنصف في رجب» رواه أبو داود، وعمر جعل أهل الجزية ثلاث طبقات: الغني ثمانية وأربعون درهماً، والمتوسط أربعة وعشرون درهماً، والفقير اثنا عشر درهماً. ولأنها عوض فلم تقدر كالأجرة، وعنه أن أقلها مقدر بدينار، وأعلاها غير مقدر، وهو اختيار أبي بكر فتجوز الزيادة ولا يجوز النقصان؛ لأن عمر زاد على ما فرض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أهل اليمن ولم ينقص منه، ووجه الرواية الأولى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرضها مقدرة وعمر فرضها مقدرة وكان ذلك بمشهد من الصحابة فكان إجماعاً.

مسألة 64: (ولا جزية على صبي ولا امرأة ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى ولا عبد ولا فقير عاجز عنها) . لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن الجزية إنما تجب على الرجل العاقل ولا تجب على صبي ولا مجنون ولا امرأة، وقد دل عليه «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: "خذ من كل حالم ديناراً» وكتب عمر إلى أمراء الأجناد أن أضربوا الجزية، ولا تضربوها على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي، رواه سعيد. ولأن الجزية تؤخذ لحقن الدم وهؤلاء محقونون بدونها وكذلك الشيخ والزمن والأعمى لا جزية عليهم لذلك، ولا تجب على عبد؛ لأن ما يجب على العبد إنما يؤديه سيده فيؤدي إلى إيجاب الجزية على المسلم، وهذا مجمع عليه، وكذلك إن كان السيد ذمياً، قال ابن المنذر: " اجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أنه لا جزية على العبد " ووجهه ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا جزية على العبد» . وعن ابن عمر مثله، ولأن

(1/655)


(66) ومن أسلم بعد وجوبها سقطت عنه
(67) وإن مات أخذت من تركته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مال فلم تجب عليه الجزية كسائر الحيوانات، ولأنه محقون الدم فلا تجب عليه الجزية كالصبيان، وعنه تجب عليه الجزية يؤديها سيده لما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: "لا تشتروا من رقيق أهل الذمة ولا مما في أيديهم، لأنهم أهل خراج يبيع بعضهم على بعض، ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذ أنقذه الله منه "، وروي نحوه عن علي، قال أحمد: أراد عمر أن يوفر الجزية؛ لأن المسلم إذا اشتراه سقط عنه إذاً ما يؤخذ منه، والذمي يؤدى عنه وعن مملوكه خراج جماجمهم، ولأنه ذكر مكلف قوي مكتسب فوجبت عليه الجزية كالحر.
1 -
مسألة 65: (ولا تجب على فقير عاجز عنها) لقوله سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وهذا عاجز عنها، ولأن عمر جعل الجزية على طبقات أدناها على الفقير المعتمل فدل على أن غير المعتمل لا شيء عليه، ولأنه مال يجب بحلول الحول فلا يلزم الفقير كالزكاة والعقل.

مسألة 66: (ومن أسلم بعد وجوبها سقطت عنه) لقوله سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، وروى ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس على المسلم جزية» رواه الخلال، قال أحمد: وقد روي عن عمر أنه قال: "إن أخذها في كفه ثم أسلم ردها عليه، وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينبغي للمسلم أن يؤدي الجزية» وروي أن ذمياً أسلم فطولب بالجزية، وقيل إنما أسلمت تعوذاً قال: إن في الإسلام معاذاً، فقال عمر: إن في الإسلام معاذاً، وكتب: لا تؤخذ منه الجزية، رواه أبو عبيد بنحو من هذا المعنى، ولأن الجزية صغار فلا تؤخذ منه كما لو أسلم قبل الحلول، ولأنها عقوبة بسبب الكفر فيسقطها الإسلام كالقتل، وبهذا فارق سائر الديون.

مسألة 67: (وإن مات أخذت من تركته) يعني يموت على كفره فلا تسقط عنه في ظاهر كلام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وحكى أبو الخطاب عن القاضي أنه قال: تسقط بالموت

(1/656)


(68) ومن اتجر منهم إلى غير بلده ثم عاد أخذ منه نصف العشر
(69) وإن دخل إلينا تاجر حربي أخذ منه العشر
(70) ومن نقض العهد بامتناعه من التزام الجزية وأحكام الملة أو قتال المسلمين ونحوه أو الهرب إلى دار الحرب حل دمه وماله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
لأنها عقوبة فتسقط بالموت كالحدود، ولنا أنها دين وجب عليه في حياته فلم يسقط بعد الموت كديون الآدميين، والحد يسقط بفوات محله وتعذر استيفائه بخلاف الجزية.

مسألة 68: (ومن اتجر منهم إلى غير بلده ثم عاد أخذ منه نصف العشر) اشتهر هذا عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصحت الرواية عنه به وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما العشور على اليهود والنصارى، وليس على المسلمين عشور» رواه أبو داود. وروى الإمام أحمد عن أنس بن سيرين قال: بعثني أنس بن مالك إلى العشور فقلت: تبعثني إلى العشور من بين عمالك؟ فقال: أما ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر. وهذا كان بالعراق، وروى أبو عبيد في الأموال أن عمر بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كل عشرين درهماً درهماً، وقال الشافعي: لا يؤخذ من أهل الذمة إلا الجزية، وما ذكرناه حجة عليهم. والله أعلم.

مسألة 69: (وإن دخل إلينا تاجر حربي أخذ منه العشر) قال أبو حنيفة: لا يؤخذ منهم شيء، إلا أن يكونوا يأخذون منا شيئاً فيؤخذ منهم مثله. ولنا أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذ منهم العشر واشتهر ذلك بين الصحابة وعمل به الخلفاء بعده فكان إجماعاً. ولا يعشر في السنة إلا مرة؛ لأنه حق يؤخذ من التجارة فلا يؤخذ في السنة إلا مرة كالزكاة، وأهل الذمة كذلك.

مسألة 70: (ومن نقض العهد بامتناعه من التزام الجزية وأحكام الملة أو قتال المسلمين ونحوه أو الهرب إلى دار الحرب حل دمه وماله) لأن في كتاب عبد الرحمن بن غنم الذي فيه شرائط أهل الذمة على أنفسهم: وإن نحن غيرنا وخالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق" فزاد عليهم عمر: "ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده " فظاهره أنه متى نقض شيئاً من ذلك انتقض عهده وحل دمه وماله، وهو ظاهر كلام الخرقي، ولأنه عقد بشرط فمتى لم

(1/657)


(72) ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقضه، إلا أن يذهب بهم إلى دار الحرب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
يوجد الشرط زال حكم العقد، كما لو امتنع من التزام الأحكام فإنه إذا امتنع منها وقد حكم بها حاكم، أو من ترك الجزية، انتقض عهده من غير خلاف في المذهب، وفي معناهما قتالهم للمسلمين منفردين أو مع أهل الحرب؛ لأن إطلاق الأمان لا يقتضي ذلك، فإذا فعلوه نقضوا الأمان لأنهم إذا قاتلوا لزمنا قتالهم وذلك ضد الأمان، وبقية الشروط في بعضها روايتان، وفي بعضها لا ينتقض عهدهم بمخالفتها بحال؛ لأنه لا ضرر فيها على مسلم ولا ينافي عقد الذمة سواء شرط عليهم أو لم يشرط، وقد روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رفع إليه رجل قد أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنا، فقال: ما على هذا صالحناكم، وأمر به فصلب في بيت المقدس، ولأن فيه ضرراً على المسلمين فأشبه الامتناع من بذل الجزية. وقال أبو حنيفة: لا ينتقض العهد إلا بالامتناع من الإمام على وجه يتعذر به أخذ الجزية منهم، وما ذكرناه من حديث عمر حجة عليه.
1 -
مسألة 71: ومن هرب منهم إلى دار الحرب حل دمه وماله، قال الخرقي: ومن هرب من ذمتنا إلى دار الحرب ناقضاً للعهد عاد حربياً؛ لأنه إذا فعل ذلك صار حكمه حكم أهل الحرب وحل دمه وماله كأهل الحرب، ومتى قدر عليه أبيح قتله وأسره وأخذ ماله كأهل الحرب سواء.

مسألة 72: (ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقضه، إلا أن يذهب بهم إلى دار الحرب) وإنما ينتقض عهدهم؛ لأن النقض إنما وجد منه ولم يوجد منهم فيبقون على العهد ولا يحل سبيهم ولا التعرض لهم في المعنى، فإن كانت ذريته معه لم تستبرأ؛ لأن النقض إنما وجد منه دونهم.

(1/658)