العدة شرح العمدة

كتاب القضاء وهو فرض كفاية يلزم الإمام نصب من يكتفي به في القضاء
(1) ويجب على من يصلح له إذا طلب منه ولم يوجد غيره الإجابة إليه وإن وجد غيره فالأصل تركه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
[كتاب القضاء]
(وهو فرض كفاية يلزم الإمام نصب من يكتفي به في القضاء) ودليل أنه فرض كفاية أن أمر الناس لا يستقيم بدونه فكان واجباً عليهم كالجهاد والإمامة.
قال أحمد: لا بد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟ وإنما ينصبه الإمام؛ لأن أمره إليه وهو نائب عنه.

مسألة 1: (ويجب على من يصلح له إذا طلب منه ولم يوجد غيره الإجابة إليه) . والناس في القضاء على ثلاثة أضرب:
منهم: من يجب عليه وهو من يصلح له ولا يوجد سواه فيتعين عليه؛ لأنه فرض كفاية لا يقدر على القيام به غيره فيتعين عليه كغسل الميت وتكفينه، وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه لا يتعين، فإنه سئل: هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره؟ قال: لا يأثم، فيحتمل أن يحمل على ظاهره في أنه لا يجب عليه لما فيه من الخطر، ويحتمل أن يحمل على ما إذا لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السلطان أو غيره، فإن أحمد قال: لا بد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟ والأمر على ما قال.
والضرب الثاني: من يجوز له ولا يجب عليه وهو أن يكون من أهل العدالة والاجتهاد ويوجد غيره مثله فله أن يلي القضاء ولا يجب عليه؛ لأنه لم يتعين له، وظاهر كلام أحمد أنه لا يستحب له الدخول فيه فيكون الأفضل له تركه لما فيه من الخطر والغرر، ولما في تركه من السلامة، ولما ورد فيه من التشديد والذم، ولأن طريقة السلف الامتناع منه والتوقي له، وقد أراد عثمان تولية ابن عمر القضاء فأباه.
والضرب الثالث: من لا يجوز له الدخول فيه وهو من لا يحسنه ولم تجتمع فيه

(1/659)


(2) ومن شرطه أن يكون رجلاً حراً مسلماً سميعاً بصيراً متكلماً عدلاً عالماً
(3) ولا يجوز له أن يقبل رشوة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
شروطه، وقد روى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار فذكر إلى أن قال: ورجل قضى بين الناس بجهل فهو في النار» (رواه الترمذي) .

مسألة 2: (ومن شرطه أن يكون رجلاً حراً مسلماً سميعاً بصيراً متكلماً عدلاً عالماً) فهي ثمانية شروط:
الأول: كونه رجلاً فتجتمع الذكورية والبلوغ؛ لأن الصبي لا قول له والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي ليست أهلاً لحضور الرجال ومحافل الخصوم.
الثاني: أن يكون حراً؛ لأن ذلك من أوصاف الكمال ولأن العبد مختلف في قبول شهادته.
الثالث: أن يكون مسلماً؛ لأن الكفر ينافي العدالة، ولا خلاف في اعتبار الإسلام.
الرابع: أن يكون سميعاً يسمع الإقرار من المقر والإنكار من المنكر والشهادة من الشاهد.
الخامس: أن يكون بصيراً ليعرف المدعي من المدعى عليه والمقر من المقر له والشاهد من المشهود عليه.
السادس: أن يكون متكلماً لينطق بالفصل بين الخصوم.
السابع: أن يكون عدلاً فلا يصح أن يكون فاسقاً؛ لأنه لا يكون شاهداً فأولى ألا يكون قاضياً.
الثامن: أن يكون عالماً مجتهداً ليحكم بالعلم، لقوله سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ولم يقل بالتقليد، وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وروى بريدة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القضاة ثلاثة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار» رواه ابن ماجه، ولأن الحكم آكد من الفتيا؛ لأنه فتيا وإلزام، ثم المفتي لا يجوز أن يكون عامياً مقلداً فالحاكم أولى.

مسألة 3: (ولا يجوز له أن يقبل رشوة ولا هدية) وذلك أن الرشوة في الحكم حرام بلا خلاف، قال الله سبحانه: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] قال الحسن وسعيد بن جبير في تفسيره:

(1/660)


(4) ولا هدية ممن لم يكن يهديه إليه
(5) ولا الحكم قبل معرفة الحق
(6) فإن أشكل عليه شاور فيه أهل العلم والأمانة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
هو الرشوة، وقال مسروق: إذا قبل القاضي الهدية أكل السحت، وإذا قبل الرشوة بلغت به الكفر، وقد روى عبد الله بن عمر قال: «لعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الراشي والمرتشي» قال الترمذي: حديث حسن صحيح ورواه أبو هريرة وزاد "في الحكم"، ورواه أبو بكر في زاد المسافر وزاد "والرائش" والرائش السفير بينهما، ولأن المرتشي إنما يرتشي ليحكم بغير الحق أو ليوقف الحق عنه؛ وذلك من أعظم الظلم، قال كعب: الرشوة تسفه الحليم، وتعمي عين الحكيم.

مسألة 4: ولا يقبل هدية (ممن لم يكن يهدي إليه) يعني قبل ولايته، ولأن حدوث الهدية عند حدوث الولاية يدل على أنها من أجلها ليتوصل إلى ميل الحاكم معه على خصمه، فأما إن كانت بينهما مهاداة متقدمة جاز قبولها منه بعد الولاية لأنها لم تكن من أجل الولاية، وذكر القاضي أنه يستحب له التنزه عنها أيضاً إلا أن يخشى أن يقدمها بين يدي حكومة أو تكون في حال الحكومة فإنه يحرم أخذها في هذه الحال لأنها كالرشوة.

مسألة 5: (ولا يجوز له الحكم قبل معرفة الحق) ؛ لأن الله سبحانه قال: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] ومن لم يعرف الحق كيف يحكم به.

مسألة 6: (فإن أشكل عليه شاور فيه أهل العلم والأمانة) ، لقوله سبحانه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال الحسن: إن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغنياً عن مشاورتهم، وإنما أراد أن يستن بذلك الحاكم بعده، وقد شاور رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه في أسارى بدر، وفي مصالحة الكفار يوم الخندق، وفي لقاء الكفار يوم بدر. وروي: ما كان أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وشاور أبو بكر الناس في الجدة، وشاور عمر في دية الجنين، ولا مخالف في استحباب ذلك؛ لأنه قد ينتبه بالمشاورة، ويتذكر ما نسيه بالمذاكرة، وقد ينتبه لإصابة الحق ومعرفة الحادثة من هو دون القاضي فكيف من يساويه، وقال أحمد: لما ولي سعد بن إبراهيم قضاء المدينة كان يجلس بين القاسم وسالم يشاورهما، ولما ولي محارب بن دثار قضاء الكوفة كان يجلس بين الحكم وحماد يشاورهما، وما أحسن هذا لو كان الحكام يفعلونه يشاورون وينتظرون.

(1/661)


(7) ولا يحكم وهو غضبان
(8) ولا في حال يمنع استيفاء الرأي
(9) ولا يتخذ في مجلس الحكم بواباً
(10) ويجب العدل بين الخصمين في الدخول عليه والمجلس والخطاب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 7: (ولا يحكم وهو غضبان) لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في ذلك، وكتب أبو بكرة إلى ابنه عبد الله بن أبي بكرة وهو قاض بسجستان أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» متفق عليه.

مسألة 8: (ولا يحكم في حال يمنع استيفاء الرأي) فقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى أبي موسى إياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس " وفي معنى الغضب كل ما يشغل فكره من الجوع المفرط والعطش الشديد والوجع المزعج ومدافعة الأخبثين وشدة النعاس والهم والغم والحزن والفرح، فهذه كلها تمنع استيفاء الرأي الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب فهي في معنى الغضب المنصوص عليه فتجري مجراه.

مسألة 9: (ولا يتخذ في مجلس الحكم بواباً) ؛ لأنه ربما منع صاحب الحاجة من الدخول عليه.

مسألة 10: (ويعدل بين الخصمين في الدخول عليه والمجلس والخطاب) ، وروى عمر بن شيبة في كتاب القضايا بإسناده «عن أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده، ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر» (رواه الدارقطني) وفي رواية «فليسو بينهم في النظر والمجلس والإشارة» وفي كتاب عمر إلى أبي موسى واس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا ييأس الضعيف من عدلك، ولا يطمع الشريف في حيفك (رواه الدارقطني) ، ولأن الحاكم إذا ميز أحد الخصمين على الآخر حصر وانكسر وربما لم يقم حجته، فأدى ذلك إلى ظلمه. إذا ثبت هذا فإنه يجلس الخصمين بين يديه، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم» رواه أبو داود، ولأن ذلك أمكن للحاكم في الإقبال عليهما والنظر في خصومتهما.

(1/662)


باب صفة الحاكم (11) إذا جلس إليه الخصمان فادعى أحدهما على الآخر لم تسمع الدعوى إلا محررة تحريراً يعلم به المدعى عليه، فإن كان دينا ذكر قدره وجنسه، وإن كان عقارا ذكر موضعه وحده، وإن كان عينا حاضرة عينها، وإن كانت غائبة ذكر جنسها وقيمتها
(12) ثم يقول لخصمه: ما تقول فإن أقر حكم للمدعي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
[باب صفة الحاكم]
باب صفة الحكم مسألة 11: (وإذا جلس إليه الخصمان فادعى أحدهما على الآخر لم يسمع الدعوى إلا محررة تحريراً يعلم به المدعى عليه) لأن الحاكم يسأل المدعى عليه عما ادعاه، فإن اعترف به ألزمه، ولا يمكنه أن يلزمه مجهولاً. وإذا ثبت هذا (فإن كان المدعى أثماناً فلا بد من ذكر الجنس والنوع) فيقول عشرة دنانير مصرية، وإن كان عيناً تنضبط بالصفة كالحبوب والثياب والحيوان فلا بد من ذكر الصفات التي تشترط في المسلم، وإن كان المدعى تالفاً مما له مثل ادعى المثل وضبط بصفته، وإن كان مما لا مثل له ادعى قيمته لأنها تجب بتلفه، (وإن كان المدعى عقاراً ذكر موضعه وحدوده) وأنه في يده ظلماً وأنا أطالبه برده علي، (وإن كان المدعى عيناً حاضرة عينها) بالإشارة إليها، (وإن كانت غائبة ذكر بيان جنسها وقيمتها) لما ذكرناه. فإن لم يحسن المدعي تحرير الدعوى فهل للحاكم تلقينه تحريرها؟ يحتمل وجهين:
أحدهما: يجوز لأنه لا ضرر على خصمه في ذلك.
والثاني: لا يجوز لأن فيه إعانة أحد الخصمين في حكومته.

مسألة 12: (ثم يقول لخصمه: ما تقول) فإنه يجوز للحاكم أن يسأل خصمه الجواب قبل أن يطلب منه المدعي ذلك؛ لأن شاهد الحال يدل عليه؛ لأن إحضاره والدعوى إنما تراد ليسأل الحاكم المدعى عليه فقد أغنى ذلك عن سؤاله، فعند ذلك يقول الحاكم للمدعى عليه: ما تقول فيما يدعيه؟ (فإن أقر حكم للمدعي) إن سأله المقر له، وإن لم يسأله لم يحكم به؛ لأن الحكم عليه حق له فلا يستوفيه إلا بمسألة مستحقة، فأما

(1/663)


(13) وإن أنكر لم يخل من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون في يد أحدهما، فيقول للمدعي: ألك بينة؟ فإن قال: نعم وأقامها حكم له بها، وإن لم تكن له بينة قال: فلك يمينه، فإن طلبها استحلفه وبرئ، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه»
(14) وإن نكل عن اليمين وردها على المدعي استحلفه وحكم له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
إذا سأله فقال: احكم لي، فإنه يحكم له حينئذ، والحكم أن يقول: قد ألزمتك ذلك، أو قضيت عليك له، أو يقول: أخرج له منه، فيكون ذلك حكماً عليه.

مسألة 13: (وإن أنكر لم يخل من ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون في يد أحدهما) يعني العين المدعاة، (فيقول الحاكم للمدعي: ألك بينة؟) لما روي «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حضرمي وكندي، فقال الحضرمي: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن هذا غلبني على أرض لي. فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي، فليس له فيها حق. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه» (رواه أبو داود) وهو حديث صحيح. (وإن قال: نعم لي بينة وأقامها حكم له بها) بدليل الحديث، ولأن البينة كالإقرار، إذا لو أقر حكم عليه، (وإن لم يكن له بينة قال له: فلك يمينه) كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي. وليس للحاكم أن يستحلفه قبل مسألة المدعي؛ لأن اليمين حق له فلم يجز استيفاؤها من غير مسألة مستحقها كنفس الحق، (وإن طلب إحلافه استحلفه وبرئ، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو أعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» .

مسألة 14: (وإن نكل عن اليمين) قضى عليه بنكوله، لما روي أن ابن عمر باع زيد بن ثابت عبداً. فادعى عليه زيد أنه باعه إياه عالماً بعيبه، فأنكر ابن عمر، فتحاكما إلى عثمان، فقال له عثمان: احلف أنك ما علمت به عيباً، فأبى أن يحلف، فرد عليه العبد، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اليمين على المدعى عليه» فحصرها في جنبته فلم تشرع لغيره.

(1/664)


(15) وإن نكل أيضاً صرفهما
(16) وإن لكل واحد منهما بينة حكم بها للمدعي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
وعند أبي الخطاب لا يحكم بالنكول ولكن ترد اليمين على المدعى، وقال: قد صوبه أحمد وقال: ما هو ببعيد يحلف ويأخذ. فيقال للناكل: لك رد اليمين على المدعي، (فإن ردها على المدعي استحلفه وحكم له) وهو قول أهل المدينة، روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لما روى نافع عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد اليمين على طالب الحق» رواه الدارقطني.

مسألة 15: (وإن نكل أيضاً صرفهما) ؛ لأن يمين كل واحد منهما بطلت بنكوله عنها فقد أبطلا حجتهما باختيارهما، فإن عاد أحدهما فبذل اليمين لم يسمعها في ذلك المجلس؛ لأنه أسقط حقه منها، فإن عاد في مجلس آخر فاستأنف الدعوى أعيد الحكم بينهما كالأول، فإن بذل اليمين حكم بها لأنها يمين في دعوى أخرى.

مسألة 16: (وإن كان لكل واحد منهما بينة حكم بها للمدعي) ببينته، وتسمى بينة الخارج، وبينة المدعى عليه تسمى بينة الداخل، وقد اختلف عن أحمد فيما إذا تعارضا، فعنه تقدم بينة المدعي ولا تسمع بينة المدعى عليه بحال، وعنه تقدم بينة المدعى عليه بكل حال؛ لأن جنبة الداخل أقوى، بدليل أن يمينه تقدم على يمين المدعي، فإذا تعارضت البينتان وجب تقديمه كما لو لم يكن لهما بينة، وعنه إن شهدت بينة الداخل بسبب الملك فقالت: نتجت في ملكه أو كانت أقدم تاريخاً قدمت بينته لأنها إذا شهدت بالسبب فقد أفادت ما لا تفيده اليد، وقد روي عن جابر بن عبد الله: «أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دابة أو بعير، فأقام كل واحد منهما البينة أنها له أنتجها، فقضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي هي في يده» ووجه الأولى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي» فجعل جنس البينات في جنبة المدعي فلا يبقى في جنبة المنكر بينة، ولأن بينة المدعي أكثر فائدة بدليل أنها تثبت شيئاً لم يكن، وبينة المدعى عليه إنما تثبت ظاهراً دلت اليد عليه فلم تكن مفيدة، فوجب تقديم ما كان أكثر فائدة على غيره، ولأنه تجوز الشهادة بالملك لرؤية اليد والتصرف فجائز أن تكون مستند بينة اليد فصارت بمنزلة اليد المفردة فتقدم عليها بينة المدعي كما تقدم على اليد، كما أن شاهدي الفرع لما كان مبنيين على شاهدي الأصل " لم تكن لهما مزية على شاهدي الأصل " كذا هاهنا.

(1/665)


(17) فإن أقر صاحب اليد لغيره صار المقر له الخصم فيها، وقام مقام صاحب اليد فيما ذكرنا.
الثاني: أن تكون في يديهما، فإن كانت لأحدهما بينة حكم له بها
(18) وإن لم يكن لواحد منهما بينة أو لهما بينتان قسمت بينهما وحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 17: (وإن أقر صاحب اليد لغيره صار المقر له الخصم فيها وقام مقام صاحب اليد في كل ما ذكرنا) .
(الثاني: أن تكون العين في يديهما، فإن كانت لأحدهما بينة حكم له بها) لأنها كالإقرار لا نعلم في ذلك خلافاً.

مسألة 18: (وإن لم يكن لواحد منهما بينة حلف كل واحد منهما لصاحبه) وجعلت بينهما نصفين؛ لأن كل واحد منهما يده على نصفها، والقول قول صاحب اليد مع يمينه، وإن نكلا عن اليمين قضى عليهما بالنكول وجعلت بينهما نصفين لكل واحد منهما النصف الذي كان في يد صاحبه. وإن نكل أحدهما وحلف الآخر قضى له بجميعها.
1 -
مسألة 19: وإن أقام كل واحد منهما بينة وتساويا تعارضت البينتان وقسمت العين بينهما نصفين، لما روى أبو موسى الأشعري: «أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعير فأقام كل واحد منهما شاهدين فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالبعير بينهما نصفين» ذكره ابن المنذر، ورواه أبو داود، وقال أبو الخطاب: وفيه رواية أخرى يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف أنها له لا حق لغيره فيها، وكانت العين له كما لو كانت في يد غيرهما، قال الخرقي: ويحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به، ولأن البينتين لما تعارضتا - من غير ترجيح - وجب إسقاطهما كالخبرين إذا تعارضا، ولأنه لا يمكن الجمع بينهما لتنافيهما، ولا تتعين إحداهما؛ لأنه تحكم لا دليل عليه فلم يبق إلا إسقاطهما، ولكل واحد منهما النصف الذي يده عليه مع يمينه كما لو لم تكن بينة، وعنه أن العين تقسم بينهما من غير يمين لظاهر الحديث الذي رويناه، ولأننا قد قررنا أن بينة

(1/666)


(20) وإن ادعاها أحدهما وادعى الآخر نصفها ولا بينة قسمت بينهما، واليمين على مدعي النصف
(21) وإن كانت لهما بينتان حكم بها لمدعي الكل.
الثالث: أن تكون في يد غيرهما، وإن أقر بها لأحدهما أو لغيرهما صار المقر له كصاحب اليد، وإن أقر لهما صارت كالتي في يديهما
(22) وإن قال لا أعرف صاحبها منهما ولأحدهما بينة فهي له، وإن لم يكن لهما بينة، أو لكل واحد منهما بينة استهما على اليمين، فمن خرج سهمه حلف وأخذها
باب في تعارض الدعاوى (23) إذا تنازعا قميصاً أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه فهو للابسه
(24) وإن تنازعا دابة أحدهما راكبها أو له عليها حمل فهي له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
الخارج مقدمة وكل واحد منهما داخل في نصف العين خارج في نصفها الآخر فتقدم بينة النصف للذي في يد صاحبه ولا يحتاج إلى يمين، وتقدم بينة صاحبه في النصف الآخر.

مسألة 20: (فإن ادعاها أحدهما وادعى الآخر نصفها ولا بينة قسمت بينهما، واليمين على مدعي النصف) ؛ لأن يده على النصف فالقول قوله فيه مع يمينه ويد مدعي الكل على النصف الآخر ولا منازع له فيه فيبقى في يده بغير يمين.

مسألة 21: (وإن كانت لهما بينتان حكم بها لمدعي الكل) لأنهما تعارضا في النصف فيكون النصف لمدعي الكل لا تنازع، والنصف الآخر ينبني على الخلاف في أي البينتين تقدم، وظاهر المذهب تقدم بينة المدعي فتكون الدار كلها للمدعي جميعها.
(الثالث: أن تكون في يد غيرهما، فإن أقر بها لأحدهما أو لغيرهما صار المقر له كصاحب اليد) وقد مضى الكلام فيه (وإن أقر لهما صارت كالتي في أيديهما) وقد مضت.

مسألة 22: (وإن قال: لا أعرف صاحبها منهما ولأحدهما بينة فهي له) ببينته لما سبق (وإن لم تكن لهما بينة، أو لكل واحد بينة، استهما على اليمين فمن خرج سهمه حلف وأخذها) لما روى أبو هريرة: «أن رجلين تداعيا عيناً ولم يكن لواحد منهما بينة، فأمرهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يستهما على اليمين أحبا أم كرها» رواه أبو داود، ولأنهما تساويا في الدعوى وعدم البينة واليد، والقرعة تميز عند التساوي كما لو أعتق عبيداً في مرض موته ولا مال له غيرهم. وذكر أبو الخطاب فيما إذا كان لكل واحد منهما بينة روايتين:
إحداهما: تسقط البينتان كما ذكرنا وقد سبق دليلها وحكمها.
والرواية الثانية تستعمل البينتان: وفي كيفية استعمالهما روايتان:
إحداهما تقسم العين بينهما.
والثانية: تقدم بينة أحدهما بالقرعة. ووجه الأولى ما روى أبو موسى «أن رجلين اختصما إلى رسول الله

(1/667)


(25) وإن تنازعا أرضاً فيها شجر أو بناء أو زرع لأحدهما فهي له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعير، فأقام كل واحد منهما البينة أنه له، فقضى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما نصفين» (رواه أبو داود) . وإذا قلنا يقرع بينهما فوجهه ما رواه الشافعي رفعه إلى ابن المسيب: «أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمر، وجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدة واحدة، فأسهم بينهما» والصحيح في المذهب أنه يقرع بينهما، فمن خرجت القرعة له حلف وسلمت إليه. وهو دليل على أن البينتين سقطتا لإيجابنا اليمين كمن وقعت له القرعة. ووجهه أن البينتين حجتان فإذا تعارضتا على وجه لا ترجح إحداهما على الأخرى سقط الاحتجاج بهما كالخبرين إذا تعارضا. وأما حديث ابن المسيب فيحتمل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استحلفه، وإن لم يكن مذكوراً في الحديث فليس بمنفي. وأما حديث أبي موسى فيحتمل أن الشيء كان في أيديهما فأسقط البينتين وقسمه بينهما. على أنه روي في الحديث ولا بينة لهما.

[باب في تعارض الدعاوى]
مسألة 23: (إذا تنازعا قصيماً أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه فهو للابسه) ؛ لأن تصرفه في الثوب أقوى ويده آكد وهو المستوفي لمنفعته.

مسألة 24: وإن تنازعا دابة أحدهما راكبها أو له عليها حمل) والآخر آخذ بزمامها (فهي للراكب) ولصاحب الحمل كذلك.

مسألة 25: (وإن تنازعا أرضاً فيها شجر أو بناء أو زرع لأحدهما فهي له) ؛ لأنه صاحب اليد لكونه المستوفي لمنفعتها فكانت له، كما لو تنازعا عيناً في يده فإنها تكون لمن هي في يده.

(1/668)


(26) وإن تنازع صانعان في قماش دكان فآلة كل صناعة لصاحبها
(27) وإن تنازع الزوجان في قماش البيت فللزوج ما يصلح للرجال وللمرأة ما يصلح للنساء، وما يصلح لهما بينهما
(28) وإن تنازعا حائطاً معقوداً ببنائهما أو محلولاً منهما فهو بينهما، وإن كان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 26: (وإن تنازع صانعان في قماش دكان فآلة كل صناعة لصاحبها) فإذا كان نجار وعطار في دكان واحد فاختلفا فيما فيها حكم بآلة العطارين للعطار وبآلة النجارين للنجار؛ لأن تصرفه في آلة صنعته أظهر، والظاهر معه أيضاً، فإن الظاهر أن العطار لا يستعمل آلة النجار والنجار لا يستعمل آلة العطار. وإن لم يكونا في دكان واحد لكن اختلفا في عين تصلح لأحدهما لم يرجح أحدهما بصلاحية المختلف فيه له، بل إن كان في أيديهما فهو بينهما، وإن كان في يد أحدهما فهو له مع يمينه، وإن كان في يد غيرهما أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذها.

مسألة 27: (وإن تنازع الزوجان في قماش البيت فللرجل ما يصلح للرجل وللمرأة ما يصلح للنساء، وما يصلح لهما فهو بينهما) فمتى اختلفا في شيء ولأحدهما بينة فهو له بغير خلاف، وإن لم تكن له بينة فالمنصوص عنه أنه ما يصلح للرجال من العمائم وقمصانهم وجبابهم والأقبية والطيالسة وأشباه ذلك القول فيه قول الرجل مع يمينه، وما يصلح للنساء من الحلي والمقانع وقمصهن ومغازلهن فالقول فيه قول المرأة مع يمينها، وما يصلح لهما كالمفارش والأواني فهو بينهما؛ لأن أيديهما جميعاً على متاع البيت بدليل ما لو نازعهما فيه أجنبي فإن القول قولهما، وقد يرجح أحدهما على صاحبه يداً وتصرفاً، فيجب أن يقدم كما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها والآخر آخذ بزمامها.

مسألة 28: (وإن تنازعا حائطاً معقوداً ببنائهما أو محلولاً منهما فهو بينهما، وإن كان معقوداً ببناء أحدهما وحده فهو له) فمتى كان الحائط بين ملكيهما وتساويا في كونه معقوداً ببنائهما معاً يعني متصلاً به اتصالاً لا يمكن إحداثه بعد بناء الحائط مثل اتصال البناء بالطين كهذه الحظائر التي لا يمكن إحداث اتصال بعضها ببعض أو يكون لكل واحد منهما عليه عقد أو قبة أو تساويا في كونه محلولاً من بنائهما أي غير متصل ببنائهما الاتصال الذي ذكرناه فإنهما يتحالفان فيحلف كل واحد منهما على النصف الذي في يده؛ لأن الحائط في أيديهما فيجعل بينهما نصفين لتساويهما في ذلك، وهذا إذا لم يكن لأحدهما

(1/669)


معقوداً ببناء أحدهما وحده فهو له
(30) وإن تنازع صاحب العلو والسفل في السقف الذي بينهما، أو تنازع صاحب الأرض والنهر في الحائط الذي بينهما وإن تنازعا قميصاً أحدهما آخذ بكمه وباقيه مع الآخر فهو بينهما
(31) وإن تنازع مسلم وكافر في ميت يزعم كل واحد منهما أنه مات على دينه فإن عرف أصل دينه حمل عليه وإن لم يعرف أصل دينه فالميراث للمسلم وإن كانت لهما بينتان فكذلك وإن كانت لأحدهما بينة حكم له بها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
بينة، فإن كان لأحدهما بينة حكم له بها لأنها كالإقرار، وإن كان لهما بينتان تعارضتا وصارا كمن لا بينة لهما، فإن لم يكن بينة ونكلا عن اليمين كان الحائط في أيديهما على ما كان، وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر قضى على الناكل فكان الكل للآخر.
1 -
مسألة 29: وإن كان الحائط متصلاً ببناء أحدهما كان له مع يمينه؛ لأن هذا مما لا يمكن إحداثه فوجب أن يرجح به كالأزج يعني العقد، ولأن الظاهر أن هذا البناء بني كله بناء واحداً، فإذا كان بعضه لرجل فالظاهر أن بقيته له.

مسألة 30: (وإن تنازع صاحب العلو والسفل في السقف الذي بينهما فهو بينهما) ؛ لأن يديهما عليه سواء (وإن تنازع صاحب الأرض والنهر في الحائط الذي بينهما فهو بينهما) ؛ لأنه حاجز بين ملكيهما فأشبه الحائط بين البيتين (وإن تنازعا قميصاً أحدهما آخذ بكمه وباقيه مع الآخر فهو بينهما) ؛ لأن يد الممسك بكمه ثابتة على نصفه، ألا ترى أنه لو كان آخذاً بكمه وباقيه على الأرض فادعاه مدع كان القول قول من هو آخذ بكمه ولا يلتفت إلى من أخذ بالكثير، ومثله إذا اختلفا في عمامة أحدهما آخذ بطرفها والآخر آخذ ببقيتها لأنها في أيديهما ويتحالفان في هذه المسائل.

مسألة 31: (وإن تنازع مسلم وكافر ميراث ميت يزعم كل واحد منهما أنه كان على دينه فإن عرف أصل دينه حمل عليه) ؛ لأن الأصل بقاؤه عليه فالقول قول من ينفيه مع يمينه، (وإن لم يعرف أصل دينه فالميراث للمسلم) ؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، ولأن الظاهر الإسلام في دار الإسلام، ولأنه يغلب إسلامه في الصلاة عليه ودفنه فكذلك في ميراثه. (وإن كانت لهما بينتان فكذلك) يعني أن الحكم كالتي قبلها؛ لأن البينتين سقطتا وصارا كمن لا بينة لهما (وإن كانت لأحدهما بينة حكم له بها) ؛ لأن البينة كالإقرار، ولو أقر له الآخر حكم له فكذلك إذا قامت له بينة وحده.

(1/670)


(32) وإن ادعى كل واحد من الشريكين في العبد أن شريكه أعتق نصيبه، وهما موسران عتق كله ولا ولاء لهما عليه
(33) وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسراً عتق نصيب الموسر وحده
(34) وإن كانا معسرين لم يعتق منه شيء
(35) وإن اشترى أحدهما نصيب صاحبه عتق حينئذ ولم يسر إلى باقيه ولا ولاء عليه
(36) وإن ادعى كل واحد من الموسرين أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 32: (وإذا ادعى كل من الشريكين في العبد أن شريكه أعتق نصيبه منه وهما موسران عتق كله) ؛ لأن كل واحد منهما يعترف بحرية نصيبه مدعياً نصف القيمة على شريكه لكونه أعتق نصيب نفسه وهو موسر فيسري إلى نصيب الآخر (ولا ولاء عليه لواحد منهما) ؛ لأنه لا يدعيه واحد منهما؛ لأن كل واحد منهما يقول: أنت المعتق له وولاؤه لك لا حق لي فيه.

مسألة 33: (وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسراً عتق نصيب الموسر وحده) ؛ لأنه اعترف بحرية نصيبه بعتق شريكه الموسر؛ لأن الموسر إذا عتق نصيبه سرى إلى نصيب المعسر، ولا يعتق نصيب الموسر؛ لأن اعترافه بعتق شريكه نصيبه لا يكون اعترافاً بعتق نصيبه، ولأن إعتاق المعسر لا يسري ولا يثبت للمعسر الولاء؛ لأنه غير معتق.

مسألة 34: (وإن كانا معسرين لم يعتق منه شيء) ؛ لأن اعتراف كل واحد منهما بعتق الآخر لا يوجب اعترافاً بعتق نصيبه؛ لأن عتق المعسر لا يسري.

مسألة 35: (وإن اشترى أحدهما نصيب صاحبه عتق حينئذ ولم يسر إلى باقيه) الذي كان له قديماً؛ لأن عتقه عليه باعترافه بأن كان حراً، (ولا يثبت له عليه ولاء؛ لأنه لا يدعي إعتاقه بل يعترف أن المعتق غيره وإنما هو مخلص له ممن هو في يده ظلماً فهو كمخلص الأسير من أيدي الكفار)

مسألة 36: (وإن ادعى كل واحد من الموسرين أنه أعتقه تحالفا وكان ولاؤه بينهما) ، وقد ذكرنا فيما سبق أنه لا ولاء لواحد من الشريكين الموسرين؛ لأن كل واحد منهما يقول لشريكه: أنت المعتق والولاء لك لا حق لي فيه. فإن عاد كل واحد منهما فادعى أنه المعتق وأن الولاء له ثبت لهما الولاء؛ لأنه لا مستحق له سواهما، وإنما لم يثبت لواحد منهما لإنكاره، فإذا اعترف به زال الإنكار فثبت له، فعند ذلك يتحالفان ويكون الولاء بينهما كما لو تنازعا في شيء في أيديهما ولا بينة لأحدهما فإنه يكون بينهما.

(1/671)


أعتقه تحالفا وكان ولاؤه بينهما
(37) وإن قال الرجل لعبده: إن برئت من مرضي هذا فأنت حر، وإن قتلت فأنت حر فادعى العبد برءه أو قتله وأنكرت الورثة فالقول قولهم
(38) وإن أقام كل واحد منهم بينة بقوله عتق العبد؛ لأن بينته تشهد بزيادة
(39) ولو مات رجل وخلف ابنين وعبدين متساويي القيمة لا مال له سواهما فأقر الابنان أنه أعتق أحدهما في مرض موته عتق منه ثلثاه إن لم يجيزا عتقه كله
(40) وإن قال أحدهما: أبي أعتق هذا، وقال الآخر: بل هذا، عتق ثلث كل واحد منهما، وكان لكل ابن سدس الذي اعترف بعتقه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 37: (وإن قال السيد لعبده: إن برئت من مرضي هذا فأنت حر، وإن قتلت فأنت حر فادعى العبد برءه أو قتله وأنكرت الورثة فالقول قولهم) ؛ لأن الأصل معهم.

مسألة 38: (وإن أقام كل واحد منهم بينة بقوله عتق العبد؛ لأن بينته تشهد بزيادة) لأنها مثبتة وبينتهم نافية والإثبات مقدم على النفي في أحد الوجهين، وفي الآخر تتعارض البينتان ويبقى العبد رقيقاً؛ لأن كل واحدة منهما تثبت ما شهدت به وتنفي ما شهدت به الأخرى فهما سواء.

مسألة 39: (ولو مات رجل وخلف ابنين وعبدين متساويي القيمة لا مال له سواهما فأقر الابنان أنه أعتق أحدهما في مرضه عتق ثلثاه إن لم يجيزا عتقه كله) ولأن ثلثيه ثلث جميع المال، فإنه لو كانت قيمتهما ستمائة كل واحد منهما ثلاثمائة كان ثلثها مائتين وهي ثلثا العبد فإن أجازا عتق جميعه؛ لأن الحق لهما إن شاءا أخذاه وإن شاءا تركاه.

مسألة 40: (وإن قال أحدهما: أبي أعتق هذا، وقال الآخر: بل هذا، عتق ثلث كل واحد منهما فكان لكل ابن سدس الذي اعترف بعتقه ونصف الآخر) ؛ لأن كل واحد من الابنين إذا عين واحداً صار مدعياً أنه أعتق منه ثلثاه، وأنه لم يبق منه على الرق إلا ثلثه ميراثاً بينهما لكل واحد منهما سدسه وأن الآخر كله رقيق لكل واحد منهما نصفه فيعمل بقول كل واحد منهما في توريثه منهما فيصير له سدس العبد الذي اعترف بعتقه ونصف الآخر، ويصير ثلث كل واحد من العبدين حراً؛ لأن لكل واحد من الابنين نصف العبدين فقبل قوله في نصيبه فعتق ثلث نصيبه من العبدين وجمعناه في العبد الذي اعترف بعتقه وذلك ثلثه.

(1/672)


ونصف الآخر
(41) وإن قال الثاني: أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما أقرع بينهما وقامت القرعة مقام تعيينه
باب حكم كتاب القاضي (42) يجوز الحكم على الغائب إذا كانت للمدعي بينة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 41: (وإن قال الثاني: أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما أقرع بينهما وقامت القرعة مقام تعيينه) يعني إذا عين أحدهما عبداً، وقال الآخر: لا أدري من منهما فإنا نقرع بينهما فإن وقعت القرعة على الذي عينه أخوه صارا كأنهما عيناه ويعتق ثلثاه إلا أن يجيزا عتقه كله، وإن وقعت على الآخر صار كأنه عينه وعين أخوه الآخر يعتق من كل واحد ثلثه، ويبقى له السدس في الذي عينه ونصف الآخر على ما سبق؛ لأن القرعة قامت مقام التعيين عند الإشكال والالتباس.

[باب حكم كتاب القاضي]
مسألة 42: (يجوز الحكم على الغائب إذا كان للمدعي بينة) فمتى ادعى حقاً على غائب في بلد آخر وطلب من الحاكم سماع البينة والحكم بها عليه أجابه إلى ذلك وسمع بينته وحكم بها، وكان شريح لا يرى القضاء على الغائب، وهو قول أبي حنيفة، إلا أنه قال: إذا كان له خصم حاضر من وكيل أو شفيع جاز الحكم عليه، وعن أحمد مثله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي: «إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فإنك لا تدري بما تقضي» قال الترمذي: هذا حديث حسن، ولأنه قضى لأحد الخصمين وحده فلم يجز كما لو كان الآخر في البلد، ولأنه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البينة ويقدح فيها فلم يجز الحكم عليه قبل حضوره. ولنا «أن هنداً قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي. فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (رواه البخاري) فقضى لها عليه ولم يكن حاضراً، ولأن أبا حنيفة وافقنا في سماع البينة فيقول: هذه بينة عادلة مسموعة فجاز الحكم بها كما لو كان حاضراً، وأما حديثهم فنقول به وأنه إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع

(1/673)


(43) ومتى حكم على غائب ثم كتب بحكمه إلى قاضي بلد الغائب لزمه قبوله وأخذ المحكوم عليه به
(44) ولا يثبت إلا بشاهدين عدلين يقولان: قرأه علينا، أو قرئ عليه بحضرتنا فقال: اشهدا على أن هذا كتابي إلى فلان أو إلى من يصل إليه من قضاة المسلمين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
كلامهما معاً، وهذا يقتضي أن يكونا حاضرين ويفارق الحاضر الغائب فإنه لا تسمع البينة على حاضر، والغائب بخلافه.

مسألة 43: (ومتى حكم على غائب ثم كتب بحكمه إلى قاضي بلد الغائب لزمه قبوله وأخذ المحكوم عليه به، والأصل في كتاب القاضي إلى القاضي الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله سبحانه: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] . وأما السنة فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وملوك الأطراف، وكان في كتابه إلى هرقل «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. أما بعد فأسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجراً عظيماً. وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين. و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64] » (رواه البخاري) الآية. وروى الضحاك بن سفيان قال: «كتب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها» (رواه أبو داود) وأجمعت الأمة على كتاب القاضي إلى القاضي، ولأن الحاجة إلى قبوله داعية، فإن من له حق في بلد غير بلده لا يمكنه إثباته والمطالبة به إلا بكتاب القاضي فوجب قبوله، فإذا ثبت هذا فإنه يلزم القاضي الواصل إليه الكتاب قبوله " وأخذ المحكوم عليه به؛ لأن ذلك هو المقصود منه.

مسألة 44: (ولا يثبت إلا بشاهدين عدلين يقولان: قرأه علينا، أو قرئ عليه بحضرتنا فقال: اشهدا على أن هذا كتابي إلى فلان أو إلى من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم) فيعتبر في ثبوته ثلاثة شروط:
أحدها: أن يشهد به شاهدان عدلان، وقيل: يكفي معرفة خطه وختمه؛ لأن ذلك تحصل به غلبة الظن فأشبه الشهادة، ويتخرج لنا مثله بناء على ما إذا وجدت وصية الرجل

(1/674)


وحكامهم
(45) فإن مات المكتوب إليه أو عزل فوصل إلى غيره عمل به
(46) وإن مات الكاتب أو عزل بعد حكمه جاز قبول كتابه
(47) ويقبل كتاب القاضي في كل حق إلا الحدود والقصاص
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مكتوبة عند رأسه بخطه عمل بها، ولنا إن ما أمكن إثباته بالشهادة لم يجز الاقتصار فيه على الظاهر كإثبات العقود، ولأن الخط يشبه الخط والختم يمكن التزوير عليه ويمكن الرجوع إلى الشهادة فلم يعول على الخط كالشاهد لا يعول على الخط.
الشرط الثاني: أن يكتب القاضي من موضع ولايته، فإن كتب القاضي من غير عمله كتاباً لم يسغ قبوله؛ لأنه لا يسوغ له في غير ولايته حكم فهو كالعامي.
الشرط الثالث: أن يصل الكتاب إلى المكتوب إليه في موضع ولايته، فإن وصل في غير موضع ولايته لم يكن له قبوله حتى يصل إلى موضع ولايته لما سبق.

مسألة 45: (فإن مات المكتوب إليه أو عزل فوصل إلى غيره عمل به) وروي أن قاضي الكوفة كتب إلى إياس بن معاوية قاضي البصرة كتاباً فوصل، وقد عزل وولي الحسن، فلما وصل الكتاب عمل به؛ لأن المعول على شهادة الشاهدين بحكم الأول أو ثبوت الشهادة عنده دون الكتاب، ولو ضاع الكتاب فشهداه عنده بذلك ثبت، فإذا شهدا بذلك عند الحاكم المتجدد وجب أن يقبل.

مسألة 46: (وإن مات الكاتب أو عزل بعد حكمه جاز قبول كتابه) سواء مات أو عزل قبل خروج الكتاب من يده أو بعده؛ لأن المعول في الكتاب على الشاهدين اللذين يشهدان على الحاكم وهما حيان فيجب أن يقبل كتابه كما لو لم يمت، ولأن كتابه إنه كان بما حكم فحكمه لا يبطل بموته وعزله، وإن كان فيما ثبت عنده بشهادة فهو أصل واللذان شهدا عليه فرع، ولا تبطل شهادة الفرع بموت شاهدي الأصل.

مسألة 47: (ويقبل كتاب القاضي في كل حق إلا في الحدود والقصاص) وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يقبل في كل حق لآدمي من الجراح وغيرها، وفي الحدود التي لله تعالى على قوليه؛ لأن كل حق يثبت بالشهادة فإنه يثبت بكتاب القاضي إلى القاضي؛ لأنه بمنزلة الشهادة على الشهادة، فيثبت بها كسائر الحقوق، أو كالشهادة على الأموال. ولنا أن حدود الله سبحانه مبنية على الستر والدرء بالشبهات والإسقاط بالرجوع عن الإقرار بها، والشهادة

(1/675)


باب القسمة وهي نوعان: قسمة إجبار، وهي ما يمكن قسمته من غير ضرر ولا رد عوض، إذا طلب الشريكين قسمه فأبى الآخر أجبره الحاكم عليه إذا ثبت عنده ملكهما ببينة
(48) فإن أقر به لم يجبر الممتنع عليه، وإن طلباها في هذه الحال قسمت بينهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
على الشهادة لا تخلو من الشبهة ولذلك اشترطنا لقبولها تعذر شهادة الأصل ولم نقبلها إلا للحاجة ولا حاجة هاهنا، ولأنه لا نص فيها ولا يصح قياسها على موضع الإجماع لما بينا من الفرق فيبطل إثباتها.

[باب القسمة]
(وهي نوعان) :
أحدهما (قسمة إجبار، وهي قسمة ما يمكن قسمه من غير ضرر ولا رد عوض، إذا طلب أحد الشريكين قسمه فأبى الآخر أجبره الحاكم عليه إذا ثبت عنده ملكهما ببينة) . وتعتبر لها ثلاثة شروط:
أحدهما: أن لا يكون فيها ضرر، فإن كان فيها ضرر لم يجبر الممتنع منها، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» رواه ابن ماجه ورواه مالك في موطئه عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي لفظ آخر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى أن لا ضرر ولا ضرار» (رواه ابن ماجه) .
الشرط الثاني: أن يمكن تعديل السهام من غير شيء يجعل معها، فإن لم يكن ذلك لم يجبر الممتنع على القسمة لأنها تصير بيعاً والبيع لا يجبر عليه أحد المتبايعين لقوله سبحانه: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] .
الشرط الثالث: أن يثبت عند الحاكم ملكهما ببينة؛ لأن في الإجبار على القسمة حكماً على الممتنع منهما، فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك لخصمه، بخلاف حالة الرضا فإنه لا يحكم على أحدهما وإنما يقسم بقولهما ورضاهما.

مسألة 48: (فإن أقر به) يعني الملك (لم يجبر الممتنع منهما عليه) ؛ لأنه لم يوجد شرط الإجبار، (وإن طلباها في هذه الحال قسمت بينهما وأثبت في القصة أن قسمه بينهما

(1/676)


وأثبت في القضية أن قسمه كان عن إقرار لا عن بينة.
الثاني: قسمة التراضي، وهي قسمة ما فيه ضرر بأن لا ينتفع أحدهما بنصيبه فيما هو له أو لا يمكن تعديله إلا برد عوض من أحدهما فلا إجبار فيها
(49) والقسمة إفراز حق لا يستحق بها شفعة ولا يثبت فيها خيار
(50) وتجوز في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
كان عن إقرارهما لا عن بينة) وقال أبو حنيفة: إن كان عقاراً نسبوه إلى الميراث لم يقسمه، وإن لم ينسبوه إلى الميراث أو كان غير عقار قسمه؛ لأن الميراث باق على حكم ملك الميت فلا يقسمه احتياطاً للبت فيه؛ لأنه إذا لم يثبت عنده الموت والقرابة فلا احتياط، ويخالف العقار غيره يثوي ويهلك ويحفظ بقسمته، والظاهر عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لا يقسم عقاراً كان أو غيره، قال: لأني لو قسمتها بقولكم ثم رفعت إلى حاكم يقسمها أن يجعلها حكماً لكم ولعلها لغيركم، ولنا أن اليد تدل على الملك ولا منازع لهم فيثبت لهم من طريق الظاهر، وما ذكره الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يندفع إذا أثبت في القصة أن قسمته بينهم كان عن إقرارهم لا عن بينة شهدت لهم بملكهم، وكل ذي حجة على حجته. وما ذكره أبو حنيفة لا يصح فإنه لا حق للميت فيه إلا أن يظهر عليه دين وما ظهر الأصل عدمه كما قلنا إن الظاهر ملكهم فيما لم يدعوه ميراثاً؛ لأنه لم يثبت لغيرهم، (الثاني قسمة التراضي، وهي قسمة ما فيه ضرر بأن لا ينتفع أحدهما بنصيبه فيما هو له أو لا يمكن تعديله إلا برد عوض من أحدهما فلا إجبار فيها) ، مثال ما فيه ضرر أن تكون دار بين اثنين لأحدهما عشرها وللآخر الباقي إذا اقتسماها لا يصلح لصاحب العشر ما ينتفع به فيتضرر لذلك، فإذا طلب صاحب الكثير القسمة لا يجبر الآخر لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» رواه ابن ماجه. وأما ما لا يمكن تعديله إلا برد عوض فإنه يكون بيعاً، فإن تراضيا عليه جاز، وان امتنع أحدهما لم يجبر؛ لأن البيع لا يجبر عليه أحد لقوله سبحانه: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] .

مسألة 49: (والقسمة إفراز حق لا يستحق بها شفعة ولا يثبت فيها خيار) لأنها ليست بيعاً، وقال الشافعي في أحد قوليه: هي بيع، وحكي ذلك عن ابن بطة؛ لأنه يعدل نصيبه من أحد السهمين بنصيب صاحبه من السهم الآخر، وهذا حقيقة البيع، ولنا أنها لا تفتقر إلى لفظ التمليك ولا تجب فيها الشفعة ويدخلها الإجبار وتلزم بإخراج القرعة ويتقدر

(1/677)


المكيل وزناً وفي الموزون كيلاً وفي الثمار خرصاً
(51) وتجوز قسمة الوقف إذا لم يكن فيها رد عوض، فإن كان بعضه طلقاً وبعضه وقفاً وفيها عوض من صاحب الطلق لم يجز وإن كان من رب الوقف جاز
(52) وإذا عدلت الأجزاء أقرع عليها فمن خرج سهمه على شيء صار له ولزم بذلك)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
أحد النصيبين بقدر الآخر، والبيع لا يجوز فيه شيء من ذلك، ولأنه تنفرد عن البيع باسمها وأحكامها فلم تكن بيعاً كسائر العقود، وفائدة الخلاف أنها إذا لم تكن بيعاً جازت قسمة الثمار خرصاً والتفرق قبل القبض في قسمة المكيل والموزون وقسمة ما يكال وزناً وما يوزن كيلاً ولا يحنث فيها إذا حلف لا يبيع، وإذا كان العقار وقفاً أو نصفه وقفاً ونصفه طلقاً جازت القسمة، وإن قلنا هي بيع لم يجز ذلك فيها، وهذا إذا خلت من الرد فإذا كان فيها رد فهي بيع؛ لأن صاحب الرد يبذل المال عوضاً عما حصل له من شريكه وهذا هو البيع، فإن فعلاه في وقف لم يجز؛ لأن الوقف لا يجوز بيعه، فإن كان بعضه وقفاً وبعضه طلقاً والرد من أهل الطلق لم يجز لأنهم يشترون بعض الوقف، وإن كان الرد من أهل الوقف جاز لأنهم يشترون بعض الطلق وهو جائز.

مسألة 50: (وتجوز في المكيل وزناً في الموزون كيلاً وفي الثمار خرصاً) هذا إذا قلنا: إنها ليست بيعاً وهو المنصور في المذهب وأنها إفراز حق فإن ذلك كله جائز. وأما إن قلنا: إنها بيع لم يجز فيها شيء من ذلك على ما مر.

مسألة 51: (وتجوز قسمة الوقف إذا لم يكن فيها رد عوض، فإن كان بعضه طلقاً وبعضه وقفاً وفيها عوض من صاحب الطلق لم يجز) ؛ لأنه يشتري الوقف (وإن كان من رب الوقف جاز) ؛ لأنه يشتري الطلق من صاحبه على ما مر.

مسألة 52: (وإذا عدلت الأجزاء أقرع عليها فمن خرج سهمه على شيء صار له ولزم بذلك) ، وذلك أنا قد ذكرنا أن القسمة على ضربين: قسمة إجبار وقسمة تراض، فأما قسمة الإجبار فهي التي يمكن تعديل السهام فيها من غير رد شيء، فإذا عدلت السهام أقرع بينهم، وكيف ما أقرع جاز في ظاهر كلامه، قال: إن شاء رقاعاً وإن شاء خواتيم تطرح في حجر من لم يحضر ويكون لكل واحد خاتم، ثم يقال: أخرج خاتماً على هذا السهم فمن خرج خاتمه فهو له، وعلى هذا لو أقرع بحصى أو غيره جاز ويلزم ذلك بالقرعة سواء كان

(1/678)


(53) ويجب أن يكون قاسم الحاكم عدلاً وكذلك كاتبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
القاسم قاسم الحاكم أو عدلاً نصباه؛ لأن قرعة قاسم الحاكم كحكم الحاكم بدليل أنه يجتهد في تعديل السهام كاجتهاد الحاكم في طلب الحق فتنفذ قرعته، والذي رضوا به وحكموه فهو كرجل حكم بينهم في القضاء، ولو حكموا رجلاً بينهم لزم حكمه كذا هاهنا. فإما إن قسما بأنفسهما أو أقرعا أو نصبا قاسماً فاسقاً لم يلزم إلا بتراضيهما بعد القرعة، ولأنه لا حاكم بينهما ولا من يقوم مقامه. وأما قسمة التراضي فهي التي فيها رد ولا يمكن تعديل السهام فيها إلا أن يجعل مع بعضها عوض، فهل تلزم بالقرعة؟ فيه وجهان:
أحدهما يلزم كقسمة الأجبار؛ لأن القاسم كالحاكم وقرعته كحكمه.
والثاني: لا يلزم لأنها بيع والبيع لا يلزم إلا بالتراضي، وإنما القرعة هاهنا ليعرف البائع من المشتري، فأما إن تراضيا على أن يأخذ كل واحد منهما واحداً من السهمين بغير قرعة فإنه يجوز؛ لأن الحق لهما ولا يخرج عنهما، وكذلك لو خير أحدهما صاحبه فاختار، ويلزم هاهنا التراضي وتفرقهما كما يلزم البيع.

مسألة 53: (ويجب أن يكون قاسم الحاكم بينهما عدلاً وكذلك كاتبه) ويكون عارفاً بالحساب أيضاً والقسمة ليوصل إلى كل ذي حق حقه، ولا يفتقر أن يكون من أهل الاجتهاد، ولا أن يكون حراً. واشترط الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يكون حراً، وتلزم قسمته بالقرعة، وإن نصبا قاسماً بينهما على صفة قاسم الحاكم فهو كقاسم الحاكم في لزوم القسمة بالقرعة، وإن كان فاسقاً أو كافراً لم تلزم قسمته إلا بتراضيهما بها "بعد القرعة "، ويكون وجوده فيما يرجع إلى لزوم القسمة كعدمه.