العدة شرح العمدة

[كتاب الشهادات] 1

(1/679)


كتاب الشهادة (1) تحمل الشهادة وأداؤها فرض كفاية، إذا لم يوجد من يقوم بها سوى اثنين لزمهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
كتاب الشهادات والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . وأما السنة فروى وائل بن حجر قال: «جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي، فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي فليس له فيها حق، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه. قال: يا رسول الله، الرجل فاجر لا يبالي ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء. قال: ليس لك منه إلا ذلك. قال: فانطلق الرجل ليحلف له فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لئن حلف على مال ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى محمد بن عبيد الله العزرمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه» قال الترمذي: هذا حديث في إسناده مقال، والعزرمي يضعف في الحديث من قبل حفظه، ضعفه ابن المبارك وغيره، إلا أن أهل العلم أجمعوا على هذا، قال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم؛ لأن الحاجة داعية إلى الشهادة بحصول التجاحد بين الناس فوجب الرجوع إليها. قال شريح: القضاء جمرة فنحه عنك بعودين، يعني بشاهدين، وإنما الخصم داء والشهود شفاء، فأفرغ الشفاء على الداء.

مسألة 1: (وتحمل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية، إذا لم يوجد من يقوم بها سوى اثنين لزمهما القيام بها على القريب والبعيد إذا أمكنهما ذلك من غير ضرر لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]

(1/681)


القيام بها على القريب والبعيد إذا أمكنهما ذلك من غير ضرر لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ} [النساء: 135] الآية
(2) والمشهود عليه أربعة أقسام: أحدها الزنا وما يوجب حده فلا يثبت إلا بأربعة رجال أحرار عدول
(3) الثاني: المال وما يقصد به المال، فيثبت بشاهدين، أو رجل وامرأتين، وبرجل مع يمين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
وقال سبحانه: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ، وقال تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، وخص القلب؛ لأنه موضع العلم بها، ولأن الشهادة أمانة فلزم أداؤها كسائر الأمانات. فإذا ثبت هذا فإنه إذا دعي إلى تحمل شهادة في نكاح أو دين أو غيره لزمه الإجابة، وإن كانت عنده شهادة فدعي إلى أدائها لزمه ذلك، فإن قام بالفرض في التحمل والأداء اثنان سقط عن الجميع، وإن امتنع الكل أثموا، وقوله: إذا أمكنهما ذلك من غير ضرر" يعني أنه لو دعي إلى شهادة في مكان بعيد يشق عليه المشي إليه لم يلزمه ذلك، وكذلك إذا دعاه في وقت برد أو مطر أو طين كثير أو ثلج يتضرر بالخروج فيه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» .

مسألة 2: (والمشهود عليه أربعة أقسام: أحدها الزنا وما يوجب حده فلا يثبت إلا بأربعة رجال أحرار عدول) أجمع المسلمون على أنه لا يقبل في الزنا إلا أربعة، وقال سبحانه: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] وأكثرهم قال: لا تقبل فيه إلا شهادة الأحرار، وقال أبو ثور: تقبل فيه شهادة العبيد، ولا يصح؛ لأنه مختلف في شهادتهم في سائر الحقوق فيكون ذلك شبهة تمنع قبول شهادتهم فيما يندرئ بالشبهات، ولا نعلم خلافاً في أنه لا تقبل فيه إلا شهادة العدول ظاهراً وباطناً، وأنه لا يقبل فيه إلا شهادة المسلمين سواء كان المشهود عليه مسلماً أو ذمياً.

مسألة 3: (الثاني المال وما يقصد به المال، فيثبت بشاهدين، أو برجل وامرأتين، وبرجل مع يمين الطالب) وذلك كالبيع والقرض والرهن والوصية له وجناية الخطأ لقوله سبحانه: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282]-إلى قوله- {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] نص على المداينة، وقسنا عليه سائر ما ذكرناه، قال ابن أبي موسى: ولا تثبت الوصية إلا بشاهدين لقوله سبحانه:

(1/682)


الطالب
(4) الثالث: ما عدا هذين مما يطلع عليه الرجال في غالب الأحوال غير الحدود والقصاص كالنكاح والطلاق والرجعة والعتق والولاية والعزل والنسب والولاء والوكالة في غير المال والوصية إليه وما أشبه ذلك - فلا يقبل إلا رجلان
(5) الرابع ما لا يطلع عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
{شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] ويقبل في ذلك شاهد ويمين المدعي، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي. وروى سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باليمين مع الشاهد الواحد» رواه سعيد بن منصور في سننه والأئمة من أهل المسانيد والسنن، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال النسائي: إسناد حديث ابن عباس: اليمين مع الشاهد إسناد جيد، ولأن اليمين شرعت في حق من ظهر صدقه وقوي جانبه فكذلك شرعت في حق صاحب اليد لقوة جنبته عليها وبها، وفي حق المنكر؛ لأن الأصل براءة ذمته، والمدعي هاهنا قد ظهر صدقه فوجب أن تشرع اليمين في حقه.

مسألة 4: (الثالث ما عدا هذين مما يطلع عليه الرجال في غالب الأحوال غير الحدود والقصاص كالنكاح والطلاق والرجعة والعتق والولاية والعزل والنسب والولاء والوكالة في غير المال والوصية إليه وما أشبه ذلك فلا يقبل فيه إلا رجلان) في إحدى الروايتين لِقَوْلِهِ تَعَالَى في الرجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فقيس عليه سائر ما ذكرنا، ولأنه ليس بمال ولا المقصود منه المال أشبه العقوبات، والرواية الأخرى: يقبل فيه رجل وامرأتان أو يمين؛ لأنه ليس بعقوبة ولا يسقط بالشبهة أشبه المال، وقال القاضي: النكاح وحقوقه من الطلاق والخلع والرجعة لا يثبت إلا بشاهدين رواية واحدة، والوكالة والوصية والكتابة تخرج على روايتين؛ لأن النكاح مما يحتاط له لأجل حفظ النسب.

مسألة 5: (الرابع ما لا يطلع عليه الرجال، كالولادة والحيض والعذرة والعيوب تحت الثياب) والرضاع والاستهلال والبكارة والثيوبة (فتثبت بشهادة امرأة عدل؛ لأن «عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كيف وقد زعمت ذلك» متفق عليه،

(1/683)


الرجال، كالولادة والحيض والعذرة والعيوب تحت الثياب فيثبت بشهادة امرأة عدل؛ «لأن عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " كيف وقد زعمت ذلك»
(6) وتقبل شهادة العبد في كل شيء إلا الحدود والقصاص (7) وتقبل شهادة الأمة فيما تقبل فيه شهادة النساء للخبر
(8) وشهادة الفاعل على فعله كالمرضعة على الرضاع والقاسم على القسمة
(9) وشهادة الأخ لأخيه
(10) والصديق لصديقه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
وقسنا عليه سائرها، ولأنه معنى يقبل فيه قول النساء المنفردات فأشبه الرواية. وعنه لا يقبل فيه إلا شهادة امرأتين؛ لأن الرجال أكمل منهن ولا يقبل منهم إلا اثنان فالنساء أولى.
مسألة: 6 (وتقبل شهادة الأمة فيما تقبل فيه شهادة النساء للخبر) .
مسألة 7: (وتقبل شهادة العبيد في كل شيء إلا في الحدود والقصاص) على إحدى الروايتين، لقوله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] والعبد عدل تقبل روايته وفتياه وأخباره الدينية فيدخل في العموم، وحديث عقبة قال فيه: «فجاءت أمة سوداء فقالت: أرضعتكما فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كيف وقد زعمت ذلك» فقبل شهادتها، ولأنه عدل غير متهم أشبه الحر. وأما الحد فلا تقبل شهادته فيه؛ لأنه يدرأ بالشبهات، وفي شهادة العبد شبهة لوقوع الخلاف فيها.
وفي القصاص احتمالان:
أحدهما: لا قبول لذلك.
والثاني: تقبل؛ لأنه حق آدمي لا يصح الرجوع عن الإقرار فيه أشبه الأموال، وذكر الشريف وأبو الخطاب في جميع العقوبات روايتين، وحكم المدبر والمكاتب وأم الولد حكم القن لأنهم أرقاء.

مسألة 8: (وتقبل شهادة الإنسان على فعل نفسه كالمرضع على الرضاع) لحديث عقبة، (وكذلك القاسم على القسمة) والحاكم على حكمه بعد العزل؛ لأنه يشهد لغيره فصح على فعل نفسه كما لو شهد على فعل غيره.

مسألة 9: (وشهادة الأخ لأخيه جائزة) قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة، وقال الله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ولم يفصل، ولأنه عدل غير متهم فيجب قبول شهادته كالأجنبي.

مسألة 10: (وتقبل شهادة الصديق لصديقه) للآية في قول عامتهم، إلا مالكاً فإنه

(1/684)


(11) وشهادة الأصم على المرئيات
(12) وشهادة الأعمى إذا تيقن الصوت
(13) وشهادة المستخفي
(14) ومن سمع إنسانا يقر بحق وإن لم يقل للشاهد أشهد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
قال: لا تقبل؛ لأنه يجر إلى نفسه نفعاً فهو متهم، كما ترد شهادة العدو على عدوه للتهمة. ولنا عموم أدلة الشهادة، وما قاله يبطل بشهادة الغريم للمدين قبل الحجر وإن كان ربما قضاه دينه منه فجر إلى نفسه نفعاً أعظم مما يرجوه الصديق من صديقه، وأما العداوة فسببها محظور وفي الشهادة عليه شفاء غيظه منه فخالف الصداقة.

مسألة 11: (وتجوز شهادة الأصم على المرئيات) .

مسألة 12: (وتجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت) روي ذلك عن ابن عباس وعلي، لقوله سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ولأنه قول علي وابن عباس ولم يعرف لهما مخالف فكان إجماعاً، ولأن روايته مقبولة فقبلت شهادته كالبصير، ولأن السمع أحد الحواس التي يحصل بها اليقين، وقد يكون المشهود عليه ممن ألفه الأعمى وعرف صوته يقيناً، وهذا لا سبيل إلى إنكاره، وجواز اشتباه الأصوات كجواز اشتباه الصور، وفارق الأفعال فإن طريق الشهادة عليها الرؤية ولا يمكنه رؤيتها، فإذا ثبت هذا فإنما يجوز له أن يشهد إذا تيقن الصوت وعلم المشهود عليه يقيناً، فإن جواز أن يكون صوت غيره لم يجز أن يشهد به كما لو اشتبه على البصير المشهود عليه فلم يعرفه، ولا خلاف في قبول روايته وجواز استمتاعه من زوجته إذا عرف صوتها.

مسألة 13: (وتجوز شهادة المستخفي) وهو الذي يخفي نفسه عن المشهود عليه ليستمع إقراره ولا يعلم به، كالرجل يجحد الحق علانية ويقر به سراً، فيختفي له شاهدان لا يعلم بهما فإن أقر به سراً سمعاه وشهدا عليه فشهادتهما مقبولة على الرواية الصحيحة وهو قول الشافعي، وقد روي عن أحمد لا تقبل شهادته وهو اختيار أبي بكر وابن أبي موسى؛ لأن الله سبحانه قال: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] وروي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من حدث بحديث ثم التفت فهي أمانة» يعني لا يجوز لسامعه أن يذكره عنه لالتفاته وحذره، ولنا أنهما سمعا إقراره فقبلت شهادتهما كما لو أشهدهما.

مسألة 14: (ويجوز شهادة من سمع إنساناً يقر بحق وإن لم يقل للشاهد اشهد علي) وعنه لا يشهد حتى يقول له المقر: اشهد علي، كالشهادة على الشهادة؛ لأنه يجوز

(1/685)


(15) وما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في قلبه جاز أن يشهد به كالشهادة على النسب والولادة
(16) ولا يجوز ذلك في حد ولا قصاص
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
لشاهد الفرع أن يشهد بها حتى يقول له شاهد الأصل: اشهد علي أني أشهد على فلان بكذا، وعنه رواية ثالثة إذا سمعه يقر بقرض لا يشهد وإن سمعه يقر بدين شهد؛ لأن المقر بالدين معترف أنه عليه الآن، والمقر بالقرض لا يعترف بذلك؛ لأنه يجوز أنه اقترض منه ثم وفاه، وعنه رواية رابعة أنه إذا سمع الشهادة فدعي إلى إقامتها فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد. قال: ولكن يجب عليه إذا شهد أن يشهد إذا دعي لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] قال: إذا شهدوا، والصحيح الأول؛ لأن الشاهد يشهد بما علمه وقد حصل له العلم بسماعه، فجاز أن يشهد به كما يجوز أن يشهد على الأفعال من القتل والجرح والسرقة والأفعال برؤيتها، فإن السارق لا يقول: اشهدوا على أنني سرقت، وكذا كل فاعل فاحشة أو معصية، وفارق الشهادة على الشهادة فإنها ضعيفة فاعتبر تقويتها بالاسترعاء.

مسألة 15: (وما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في قلبه جاز أن يشهد به كالشهادة على النسب والولادة) أجمعوا على صحة الشهادة في النسب والولادة، قال ابن المنذر: أما النسب فلا نعلم أحداً من أهل العلم منع منه، ولو منع ذلك لاستحالت معرفة الشهادة به إذ لا سبيل إلى معرفة ذلك قطعاً، ولا يمكن المشاهدة لسببه، وإنما نعلم ذلك من طريق الظاهر فجازت الشهادة به بالظن. وأما ما عدا النسب والولادة مما تجوز الشهادة به بالاستفاضة فذكر أصحابنا تسعة أشياء: النكاح، والملك المطلق، والوقف، ومصرفه، والموت، والعتق، والولاء، والولاية، والعزل؛ لأن هذه الأمور تتعذر في الغالب معرفة أسبابها، ويحصل العلم فيها بالاستفاضة فجاز أن يشهد بها كالنسب، وظاهر كلام أحمد أنه لا يشهد بذلك حتى يسمعه من عدد كثير يحصل له به العلم؛ لأن الشهادة لا تجوز إلا على ما علمه، وقال القاضي: يجوز أن يسمع من عدلين يسكن قلبه إلى خبرهما؛ لأن الحق يثبت بقول اثنين.

مسألة 16: (ولا يجوز ذلك في حد ولا قصاص) ؛ لأن شهادة الاستفاضة ضعيفة لكونها مبنية على غلبة الظن فالأصل أن لا تجوز، وإنما جازت في هذه الأشياء حفظاً لها

(1/686)


(17) وتقبل شهادة القاذف وغيره بعد توبته
باب من ترد شهادته لا تقبل شهادة صبي ولا زائل العقل ولا أخرس ولا كافر ولا فاسق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
أن لا تضيع كشهادة النسب مثلاً، بخلاف الحدود والقصاص فإن مبناها على الدرء والإسقاط فاحتيج فيه إلى العلم به ليشهد به، قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اشهد علي مثل الشمس أو دع.

مسألة 17: (وتقبل شهادة القاذف وغيره بعد توبته) ؛ لأن الله عز وجل قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] إلى قوله - {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]- ثم قال - {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور: 5] نص على قبول شهادة القاذف إذا تاب، وكذلك الفاسق إذا تاب قبلت شهادته بالقياس على القاذف إذا تاب، والتوبة الندم والاستغفار من الذنب والعزم أن لا يعود، لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] الآية، وإن كانت مظلمة لآدمي فالتوبة من ذلك التخلص منه برده إلى مالكه والتحليل منه؛ لأن الحق لآدمي فلا يبرأ منه إلا بأدائه أو إبرائه، وتوبة القاذف إكذابه لنفسه لما روي عن عمر أنه قال: توبة القاذف إكذابه نفسه، ولأنه بالقذف أثبت العار فبإكذابه نفسه يزيله، فإن لم يكن كاذباً قال: قذفي لفلانة كان باطلاً، وقد ندمت عليه ولا أعود إلى مثله، وأنا تائب إلى الله تعالى منه.

[باب من ترد شهادته]
(لا تقبل شهادة صبي) لقوله سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] والصبيان ليسوا من رجالنا، ولأنه غير مكلف أشبه المجنون. وعنه تقبل شهادة ابن عشر إذا كان عاقلاً في حال أهل العدالة؛ لأنه يؤمر بالصلاة ويضرب عليها أشبه البالغ. وعنه شهادة الصبيان في الجراح خاصة قبل الافتراق عن الحال التي تجارحوا عليها؛ لأنه قول ابن الزبير والمذهب الأول لما سبق.
الثاني (العقل) فلا تقبل شهادة المجنون والمعتوه ولا السكران ولا المبرسم؛ لأن قولهم على أنفسهم لا يقبل فعلى غيرهم أولى.
الثالث الكلام (فلا تقبل شهادة الأخرس) بالإشارة لأنها محتملة فلم تقبل كإشارة الناطق، وإنما تقبل في

(1/687)


(18) ولا مجهول الحال
(19) ولا جار إلى نفسه نفعا
(20) ولا دافع عنها شرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
أحكامه المختصة به للضرورة، وهي هاهنا معدومة، ويحتمل أن تقبل فيما طريقه الرؤية إذا فهمت إشارته؛ لأن إشارته بمنزلة نطقه كما في سائر أحكامه.
الرابع: الإسلام (فلا تقبل شهادة كافر) بحال لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] والكافر ليس بعدل ولا مرضي ولا هو منا، إلا شهادة أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم لقوله سبحانه: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] الآيات، وهذا نص، قد قضى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، قال أبو عبيد: قضى به ابن مسعود في زمن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الخامس: أن يكون من أهل العدالة (فلا تقبل شهادة الفاسق) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ويعتبر في العدالة شيئان:
أحدهما: الصلاح في الدين وهو أداء الفرائض واجتناب المحارم بحيث لا يرتكب كبيرة ولا يدمن على صغيرة، ولأن الفاسق لا يؤمن منه شهادة الزور؛ لأن الله نص على الفاسق فقسنا عليه مرتكب الكبائر، وهي كل ما فيه حد أو وعيد، واعتبرنا في مرتكب الصغائر الأغلب فإذا كان الأغلب منه فعل الطاعات لم ترد شهادته، وإن كان الأغلب فعل الصغائر بحيث يصر عليها ردت شهادته؛ لأن الحكم للأغلب بدليل قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 9] الآية.

مسألة 18: (ولا تقبل شهادة مجهول الحال) ؛ لأن العدالة شرط، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وهذا غير مرضي، وهو غير معلوم العدالة فلا تقبل شهادته كالفاسق.

مسألة 19: (ولا تقبل شهادة من يجر إلى نفسه نفعاً) بشهادته كشهادة السيد لمكاتبه والوارث لموروثه، فإن المكاتب عبد لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» (رواه أبو داود) فكأنه يشهد لنفسه؛ لأن مال عبده له.

مسألة 20: (ولا تقبل شهادة من يدفع عن نفسه ضرراً) كشهادة العاقلة بجرح شهود الخطأ لأنهم يدفعون عن أنفسهم الدية فلا تقبل للتهمة في ذلك.

(1/688)


(21) ولا شهادة والد وإن علا لولده، ولا ولد لوالده
(22) ولا سيد لعبده ولا مكاتبه
(23) ولا شهادتهما له
(24) ولا أحد الزوجين لصاحبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 21: (ولا تقبل شهادة والد وإن علا لولده، ولا ولد لوالده) وإن سفل، فالولادة مانعة من الشهادة من العمودين سواء في ذلك الآباء والأمهات وآباؤهما وأمهاتهما، وعنه تقبل شهادة الابن لأبيه ولا تقبل شهادة الأب له؛ لأن مال الابن لأبيه أو في حكم ماله له أن يتملكه، فشهادته له شهادة لنفسه أو يجر بها لنفسه نفعاً، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» (رواه ابن ماجه) ، ولا يوجد هذا في شهادة الابن لأبيه، وعنه رواية ثالثة: تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه فيما لا تهمة فيه كالنكاح والطلاق والقصاص والمال إذا كان مستغنياً عنه؛ لأن كل واحد منهما لا ينتفع بذلك فلا تهمة في حقه، وعن عمر تقبل شهادة بعضهم لبعض؛ لأن الله تعالى قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، ودليل الأولى ما روى الزهري عن عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر ولا ظنين في قرابة ولا ولاء» (رواه الترمذي) ، والظنين المتهم، والأب متهم لولده؛ لأن بينهما بضعة فكأنه يشهد لنفسه، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها» (رواه البخاري) ولأنه متهم في الشهادة لولده كتهمة العدو في الشهادة على عدوه، والابن كذلك؛ لأنه وارث أبيه. وأما الآية فنخصها بخبرنا فإنه أخص منها.

مسألة 22: (ولا تقبل شهادة سيد عبد لعبده) ؛ لأنه يشهد لنفسه؛ لأن ماله له. (ولا تجوز شهادته لمكاتبه) لذلك.

مسألة 23: (ولا تجوز شهادتهما له) يعني لا تجوز شهادة العبد ولا المكاتب لسيدهما لأنهما متهمان في ذلك؛ لأن العبد ينبسط في مال سيده ويتصرف فيه وتجب نفقته منه ولا يقطع بسرقته فلا تقبل شهادته له كالابن مع أبيه.

مسألة 24: (ولا تجوز شهادة أحد الزوجين لصاحبه) في إحدى الروايتين، وتقبل

(1/689)


(25) ولا شهادة الوصي فيما هو وصي فيه، ولا الوكيل فيما هو وكيل فيه، ولا الشريك فيما هو شريك فيه
(26) ولا العدو على عدوه
(27) ولا معروف بكثرة الغلط والغفلة شهادته
(28) ولا من لا مروءة له كالمسخرة وكاشف عورته للناظرين في حمام أو غيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
في الأخرى؛ لأنه عقد على منفعة فلا يتضمن رد الشهادة كالإجارة، ودليل الأولى أن كل واحد منهما يرث صاحبه من غير حجب وينبسط في ماله عادة فهو متهم في حقه فلم تقبل شهادته له كالأب مع ابنه، ولأن يسار الرجل يزيد في نفقة امرأته ويسار المرأة يزيد به قيمة بضعها المملوك لزوجها فكان كل واحد منهما يجر إلى نفسه نفعاً، ولهذا يضاف مال كل واحد منهما إلى صاحبه قال الله سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] الآية، وقال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] فأضافها إليهن تارة وإلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تارة، وقال ابن مسعود للذي قال إن غلامي سرق مرآة امرأتي: عبدكم سرق مالكم. ويفارق عقد الإجارة من هذا الوجوه.

مسألة 25: (ولا تقبل شهادة الوصي فيما هو وصي فيه) ؛ لأنه متهم في ذلك (ولا الوكيل فيما هو وكيل فيه) لذلك (ولا الشريك فيما هو شريك فيه) ؛ لأنه يشهد لنفسه.

مسألة 26: (ولا العدو على عدوه) لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه» رواه أبو داود، والغمر الحقد، ولأن العداوة تورث التهمة فتمنع الشهادة كالقرابة القريبة، وتخالف الصداقة فإن شهادة الصديق لصديقه بالزور نفع غيره بمضرة نفسه وبيع آخرته بدنيا غيره، وشهادة العدو على عدوه يقصد بها نفع نفسه بالتشفي من عدوه فافترقا.

مسألة 27: (ولا من يعرف بكثرة الغلط والغفلة) ؛ لأنه لا يوثق بقوله لاحتمال أن يكون من غلطاته فربما شهد على غير من استشهد عليه أو بغير ما شهد به أو لغير من أشهده، واعتبرنا كثرة الغلط؛ لأن أحداً لا يسلم من الغلط في الجملة، فقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسهو، فلو منع الغلط القليل الشهادة لانسد باب الشهادات، فاعتبرنا الغلط الكثير كما اعتبرنا كثرة المعاصي في الإخلال بالعدالة، إذا ثبت هذا فينبغي للشاهد أن يكون حافظاً متيقظاً ضابطاً لما يشهد به لتحصل الثقة بقوله ويغلب على الظن صدقه.

مسألة 28: (ولا تجوز شهادة من لا مروءة له كالمسخرة وكاشف عورته للناظرين

(1/690)


(29) ومن شهد بشهادة يتهم في بعضها ردت كلها
(31) ولا يسمع في الجرح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
في الحمام أو غيره) والمصافع والمغني والرقاص؛ لأن ذلك سخف ودناءة، فإذا استحسن هذا ورضيه لنفسه فلا مروءة له ولا تحصل الثقة بقوله، وروى ابن مسعود قال: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت» (رواه البخاري) أي: من لا يستحي صنع ما يشاء، فإن صنع شيئاً من ذلك متخفياً به لم يمنع قبول شهادته؛ لأن مروءته لا تسقط به.

مسألة 29: (ومن شهد بشهادة يتهم في بعضها ردت كلها) كشهادة الشريك لشريكه والوارث لموروثه؛ لأنه يشهد لنفسه وشهادته لنفسه لا تصح كذا هاهنا.

مسألة 30: (ولا يسمع في الجرح والتعديل والترجمة ونحوها إلا شهادة اثنين) وعنه تقبل من واحد وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأنه خبر لا يعتبر فيه لفظ الشهادة فقبل من واحد كالرواية، ولنا أن الجرح والتعديل إثبات صفة من يبني الحاكم حكمه على صفته فاعتبر فيه العدد كالحضانة، وفارق الرواية لبنائها على المساهلة، ولا نسلم أنه لا يفتقر إلى لفظ الشهادة، ويعتبر في الجرح والتعديل اللفظ فيقول في التعديل: أشهد أنه عدل، ويكفي هذا وإن لم يقل علي ولا لي لقوله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فإذا شهد أنه عدل ثبتت عدالته عليه وله، ودخل في عموم الآية. وأما الترجمة فحكمها كذلك فإذا تحاكم إلى القاضي أعجميان لا يعرف لسانهما فلا بد من مترجم عنهما، ولا يقبل إلا من اثنين عدلين، وعنه تقبل من واحد وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز، وقال ابن المنذر في «حديث زيد بن ثابت: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يتعلم كتاب اليهود قال: فكنت أكتب له إذا كتب إليهم وأقرأ له إذا كتبوا إليه» ، ولأنه لا يفتقر إلى لفظ الشهادة أشبه أخبار الديانات، ولنا أنه نقل ما خفي على الحاكم إليه فيما يتعلق بالمتخاصمين فوجب فيه العدد كالشهادة، ويفارق أخبار الديانات لأنها لا تتعلق بالمتخاصمين. ولا نسلم أنه لا يعتبر لفظ الشهادة، ولأن ما لا يفهمه الحاكم وجوده عنده كغيبته، فإذا ترجم له كان كنقل الإقرار إليه من غير مجلسه، ولا يقبل ذلك إلا من شاهدين كذا هاهنا، فعلى هذا تكون الترجمة شهادة تفتقر إلى العدد والعدالة ويعتبر فيها من الشروط ما يعتبر في الشهادة على الإقرار بذلك

(1/691)


والتعديل ونحوها إلا شهادة اثنين
(31) وإذا تعارض الجرح والتعديل قدم الجرح
(32) وإن شهد شاهد بألف وآخر بألفين قضى له بألف وحلف مع شاهده على الألف الآخر إن أحب
(33) وإن قال أحدهما: ألف من قرض، وقال الآخر: من ثمن مبيع لم تكمل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
الحق، فإن كان مما يتعلق بالحدود والقصاص اعتبر فيها الحرية، وإن كان مالاً كفى ترجمة رجل وامرأتين، وإن كان مما لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين لم يقبل إلا ترجمة رجلين، وإن كان حد زنا ففي الشهادة على الإقرار به روايتان:
إحداهما لا يكفي إلا شهادة أربعة.
والثانية: يكفي شهادة اثنين، فالترجمة عن الإقرار به تخرج على وجهين، ويعتبر في ذلك كله لفظ الشهادة؛ لأنه شهادة. وإن قلنا: يكتفي بواحد فلا بد من عدالته، وتقبل من العبد؛ لأنه من أهل الشهادة.

مسألة 31: (وإذا تعارض الجرح والتعديل قدم الجرح) قال مالك: ننظر أيهما أعدل اللذان جرحاه أو اللذان عدلاه، ولنا أن الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدل فوجب تقديمه؛ لأن التعديل يتضمن نفي الريبة والمحارم، والجارح مثبت لوجود ذلك، والإثبات مقدم على النفي، ولأن الجارح يقول رأيته يفعل كذا وكذا ومستند المعدل أنه لم يره يفعل ذلك ويمكن صدقهما والجمع بين قوليهما بأن يكون الجارح رآه يفعل ذلك والمعدل لم يره.

مسألة 32: (وإن شهد شاهد بألف وآخر بألفين قضى له بألف وحلف مع شهادته على الألف الآخر إن أحب) وذلك أنه متى شهد أحد الشاهدين بشيء وشهد الآخر ببعضه صحت الشهادة وثبت ما اتفقا عليه وحكم به، وعن أبي حنيفة أنه إذا شهد شاهد أنه أقر بألف وشهد آخر أنه أقر بألفين لم تصح الشهادة؛ لأن الإقرار بالألف غير الإقرار بالألفين ولم يشهد بكل إقرار إلا واحد، ولنا أن الشهادة كملت فيما اتفقا عليه فحكم به كما لو لم يزد أحدهما على صاحبه، فأما ما انفرد به أحدهما فإن للمدعي أن يحلف معه ويستحق، وهو قول من يرى الحكم بشاهد ويمين.

مسألة 33: (وإن قال أحدهما: ألف من قرض، وقال الآخر: من ثمن مبيع لم تكمل الشهادة) ؛ لأن كل واحد منهما شهد بغير ما شهد به الآخر، والمسألة الأولى فيما إذا أطلقا الشهادة أو عزواها إلى سبب واحد، فأما مع اختلاف الأسباب كما ذكرناه أو مع اختلاف

(1/692)


الشهادة
(34) وإذا شهد أربعة بالزنا أو شهد اثنان على فعل سواه واختلفوا في المكان أو الزمان أو الصفة لم تكمل شهادتهم
باب الشهادة على الشهادة والرجوع عنها (35) تجوز الشهادة على الشهادة فيما يجوز فيه كتاب القاضي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
الصفات مثل أن يشهد أحدهما بألف دينار وآخر بخمسمائة درهم أو يشهد أحدهما بألف درهم بيض والآخر بخمسمائة سود لم تكمل البينة، لكن له أن يحلف معهما ويستحق ما شهدا به أو مع أحدهما ويستحق ما شهد به وحده. والله أعلم.

مسألة 34: (وإذا شهد أربعة بالزنا أو شهد اثنان على فعل سواه واختلفوا في المكان أو الزمان والصفة لم تكمل شهادتهم) وإذا شهد أربعة بالزنا واختلفوا في المكان والزمان مثل ما إذا شهد اثنان أنه زنا بها في بيت وشهد اثنان أنه زنا بها في بيت آخر، أو شهد كل اثنين عليه بالزنا في بلد غير البلد الذي شهد به الآخران، أو اختلفوا في الزمان مثل أن يشهد اثنان أنه زنا بها يوم الخميس ويشهد اثنان أنه زنا بها في يوم الجمعة، أو اختلفوا في صفة الزنا فاثنان وصفاه على صفة واثنان لم يصفا شيئاً إنما شهدا بظاهر الحال لم تكمل شهادتهم لأنهم لم يشهدوا على فعل واحد فأشبه ما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما، وحكي عن أحمد أنه يجب الحد على المشهود عليه فيما إذا اختلفا في المكان والزمان؛ لأن الشهادة قد كملت عليه وهو اختيار أبي بكر، قال أبو الخطاب: ظاهر هذه الرواية أنه لا يعتبر كمال الشهادة على فعل واحد وهذا بعيد. قال القاضي: قال أبو بكر: لو شهد اثنان أنه زنا بها بيضاء وشهد اثنان أنه زنا بها وهي سوداء فهم قذفة، وهذا ينقض قوله.

[باب الشهادة على الشهادة والرجوع عنها]
مسألة 35: (وتجوز الشهادة على الشهادة فيما يجوز فيه كتاب القاضي إذا تعذرت شهادة الأصل بموت أو غيبة أو مرض) ويجوز كتاب القاضي في المال وما يقصد به المال كالبيع والإجارة والرهن والوصية له، وإنما كان كذلك؛ لأن كتاب القاضي يتضمن الشهادة على القاضي، فمهما جاز فيه جاز فيها، والشهادة على الشهادة في الجملة جائزة بإجماع أهل العلم، قال أبو عبيد: أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة

(1/693)


(36) إذا تعذرت شهادة الأصل بموت، أو غيبة، أو مرض ونحوه
بشرط (37) أن يسترعيه شاهد الأصل فيقول: اشهد على شهادتي أني أشهد أن فلاناً أقر عندي أو أشهدني بكذا
(38) ويعتبر معرفة العدالة في شهود الأصل والفرع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
على الشهادة في الأموال، ولأن الحاجة داعية إليها فلو لم تقبل بطلت الشهادة بالوقوف وما يتأخر إثباته عند الحاكم ثم بموت الشهود وفي ذلك ضرر على الناس ومشقة شديدة فوجب أن تقبل كشهادة الأصل.

مسألة 36: وإنما تقبل (إذا تعذرت شهادة الأصل) لموت أو مرض أو غيبة إلى مسافة قصر، وعنه لا تقبل إلا أن يموت شاهداً الأصل لأنهما إذا كانا حيين رجي حضورهما فهما كالحاضرين، ودليل جوازها مع التعذر بالغيبة أنه قد تعذرت شهادة الأصل فجاز الحكم بشهادة الفرع كما لو ماتا، ويخالف الحاضرين فإنه لا عذر لهما. إذا ثبت هذا فذكر القاضي أن الغيبة أن يكون شاهد الأصل بموضع لا يمكنه أن يحضر للشهادة ثم يرجع من يومه؛ لأن على الشاهد في تكليفه لمثل ذلك ضرراً وقد قال الله سبحانه: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] وإذا لم يكلف الحضور تعذر سماع شهادته فاحتيج إلى سماع شهادة الفرع، وقال أبو الخطاب: تعتبر مسافة القصر؛ لأن ما دون ذلك في حكم الحاضر في الرخص وفي كون الأقرب من عصبات المرأة إذا كان فيها لم يزوج الأبعد ولا الحاكم، وإذا كان في مسافة القصر زوج غيره فكذا هاهنا.

مسألة 37: (ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد حتى يسترعيه شاهد الأصل فيقول: اشهد على شهادتي أني أشهد أن فلاناً) ابن فلان قد عرفته بعينه واسمه ونسبه (أقر عندي أو أشهدني) على نفسه طوعاً (بكذا) نص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وإنما اشترط الاسترعاء؛ لأنه إذا سمع شاهداً يقول أشهد لفلان على فلان بكذا احتمل أنه أراد أن له ذلك عليه من وعد فلم يجز أن يشهد مع الاحتمال بخلاف ما إذا استرعاه فإنه لا يسترعيه إلا على واجب.

مسألة 38: (وتعتبر معرفة العدالة في شهود الأصل والفرع) لأنهم شهود ومن شرط الشهادة العدالة لقوله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقَوْله تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] .

(1/694)


(39) ومتى لم يحكم بشهادة الفرع حتى حضر شهود الأصل وقف الحكم على سماع شهادتهم
(40) وإن حدث من بعضهم ما يمنع قبول الشهادة لم يحكم بها
فصل: ومتى غير العدل شهادته فزاد فيها أو نقص قبل الحكم قبلت
(41) وإن حدث منه ما يمنع قبولها بعد أدائها ردت، وإن حدث ذلك بعد الحكم بها لم يؤثر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 39: (ومتى لم يحكم بشهادة الفرع حتى حضر شهود الأصل وقف الحكم على سماع شهادتهم) ؛ لأنه قدر على الأصل، فأشبه المتيمم إذا قدر على الماء قبل الشروع في الصلاة.

مسألة 40: (وإن حدث من بعضهم ما يمنع قبول الشهادة لم يحكم بها) يعني إن فسق شهود الأصل أو رجعوا عن الشهادة قبل الحكم لم يحكم بها؛ لأن الحكم ينبني على شهادتهما فأشبه ما لو فسق شهود الفرع أو رجعوا.

[فصل في تغيير العدل في الشهادة قبل الحكم]
فصل: (ومتى غير العدل شهادته قبل الحكم بها فزاد فيها أو نقص قبلت) وذلك أن يشهد بمائة ثم يقول: مائة وخمسون أو يقول: بل لقي تسعون فإنه يقبل منه رجوعه ويحكم بما شهد به آخراً، وقيل تبطل شهادته، وقيل: يؤخذ بأول قبوله؛ لأنه أداها وهو غير متهم فلم يقبل رجوعه عنها كما لو اتصل بها الحاكم ولنا أن شهادته الأخيرة شهادة من عدل غير متهم لم يرجع عنها فوجب أن يحكم بها كما لو لم يتقدمها ما يخالفها، وأما الأولى فلا يحكم بها؛ لأنه رجع عنها فزالت برجوعه وهي شرط الحكم فيعتبر استمرارها إلى انقضائه.

مسألة 41: (وإن حدث منه ما يمنع قبولها بعد أدائها ردت، وإن حدث ذلك بعد الحكم بها لم يؤثر) يعني إذا فسق الشاهد قبل الحكم بشهادته لم يجز الحكم بها؛ لأن من شرط الحكم بالشهادة العدالة وقد نص تعالى بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وليس هذا بعدل فترد شهادته، وإن كان فسقه بعد حكم الحاكم بشهادته لم ينقض الحكم؛ لأن الحكم تم بشرطه؛ لأن شرطه شهادة عدل وقد وجدت.

مسألة: 42 (وإن رجع الشهود بعد الحكم بشهادتهم لم ينقض الحكم) ؛ لأنه تم بشرطه فلم يجز نقضه باحتمال الخطأ كما لو بان للحاكم أنه أخطأ في اجتهاده باجتهاد ثان، وبيان احتمال الخطأ أنه يحتمل أن الشهود كذبوا في الرجوع لا في الشهادة، وإذا

(1/695)


(42) وإن رجع الشهود بعد الحكم بشهادتهم لم ينقض الحكم ولم يمنع الاستيفاء إلا في الحدود والقصاص
(43) وعليهم غرامة ما فات بشهادتهم بمثله إن كان مثلياً، وقيمته إن لم يكن مثلياً
(44) ويكون ذلك بينهم على عددهم، فإن رجع أحدهم فعليه حصته
(45) وإن كان المشهود به قتلاً أو جرحاً فقالوا: تعمدنا فعليهم القصاص وإن قالوا: أخطأنا غرموا الدية وأرش الجرح
باب اليمين في الدعاوى اليمين المشروعة في الحقوق هي اليمين بالله تعالى سواء كان الحالف مسلماً أو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
ثبت هذا فللمشهود له استيفاء الحق المالي سواء كان قائماً أو تالفاً؛ لأن الحق ثبت له على المشهود عليه فكان له استيفاؤه كما لو لم يرجعوا عن الشهادة، (إلا في الحدود والقصاص) إذا رجع الشهود قبل الاستيفاء وقالوا: أخطأنا فعليهم دية ما تلف بشهادتهم، لأنهم تسببوا إلى الجناية خطأ، ولا تحملها العاقلة لأنها وجبت باعترافهما، وهي لا تحمل ما وجب بالاعتراف.

مسألة 43: (وعليهم غرامة ما فات بشهادتهم بمثله إن كان مثلياً أو قيمته إن لم يكن مثلياً) للمشهود عليه لأنهم حالوا بينه وبين ماله بعدوان فلزمهم الضمان كما لو غصباه.

مسألة 44: (ويكون الضمان بينهم على عددهم) ؛ لأن الإتلاف حصل من جهتهم فأشبه ما لو غصبوه، فإذا كانوا ثلاثة غرم كل واحد منهم ثلث الواجب (وإن رجع منهم واحد غرم الثلث) .

مسألة 45: (وإن كان المشهود به قتلاً أو جرحاً فقالوا: تعمدنا فعليهم القصاص) لأنهم تسببوا إلى القتل العمد العدوان فلزمهم القصاص كما لو باشروا، (وإن قالوا: أخطأنا غرموا الدية وأرش الجرح) لأنهم تسببوا إلى القتل الخطأ فلزمهم ضمانه بأرشه كما لو باشروا.

[باب اليمين في الدعاوى]
(اليمين المشروعة في الحقوق هي اليمين بالله تعالى سواء كان الحالف مسلماً أو كافراً) لقوله سبحانه: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] وقال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6]

(1/696)


كافراً
(47) ويجوز القضاء في الأموال وأسبابها بشاهد ويمين؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لركانة بن عبد يزيد في الطلاق: «قل والله ما أردت إلا واحدة؟ قال: والله ما أردت إلا واحدة» (رواه أبو داود) . وسواء كان المدعى عليه مسلماً أو كافراً عدلاً أو فاسقاً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للحضرمي المدعي على الكندي: «ليس لك إلا يمينه. فقال الحضرمي: إنه رجل فاجر لا يبالي ما حلف عليه. قال: ليس لك إلا ذلك منه» إلا أن الكافر إن كان يهودياً قيل له: قل والله الذي أنزل التوراة على موسى وفلق البحر ونجاه من فرعون وملئه، وإن كان نصرانياً يقول: والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وجعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، والمجوسي يقول: والله الذي خلقني ورزقني.
1 -
مسألة 46: (وتشرع اليمين في حقوق الآدمي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» متفق عليه، ولحديث الحضرمي والكندي، وقال أبو بكر: تشرع في كل حق لآدمي إلا في النكاح والطلاق؛ لأن هذا مما لا يحل بدله فلم يستحلف فيه كحقوق الله سبحانه، ولأن الأبضاع مما يحتاط لها فلا تستباح بالنكول؛ لأنه ليس بحجة قوية؛ لأنه سكوت مجرد يحتمل أن يكون للخوف من اليمين، ويحتمل أن يكون للجهل بحقيقة الحال، ويحتمل أن يكون لعلمه بصدق المدعي، ومع هذه الاحتمالات لا ينبغي أن يقضي به فيما يحتاط له، قال أبو الخطاب: تشرع اليمين في كل حق إلا تسعة أشياء: النكاح، والرجعة، والطلاق، والرق، والولاء، والاستيلاد، والنسب، والقذف، والقصاص؛ لأن البدل لا يدخلها فلم يستحلف فيها كحقوق الله تعالى.

مسألة 47: (ويجوز القضاء في الأموال وأسبابها بشاهد ويمين؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(1/697)


قضى بشاهد ويمين»
(48) والأيمان كلها على البت
(49) إلا اليمين على نفي فعل غيره فإنها على نفي العلم
(50) وإذا كان للميت أو المفلس حق بشاهد فحلف المفلس أو ورثة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
قضى بشاهد ويمين) رواه سعيد في سننه من حديث أبي هريرة قال: "قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باليمين مع الشاهد الواحد" وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال النسائي: إسناد حديث ابن عباس في اليمين مع الشاهد إسناد جيد (صحيح) ، وقد سبق ذلك في أول باب الشهادات.

مسألة 48: (والأيمان كلها على البت) ؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استحلف رجلاً فقال: "قل والله والذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء» رواه أبو داود عن ابن عباس، ولأن له طريقاً إلى العلم فيلزمه القطع بنفيه.

مسألة 49: (إلا اليمين على نفي فعل غيره فإنها على نفي العلم) نص عليه وذكر حديث الشيباني عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا على ما لا يعلمون» وفي حديث الحضرمي أحلفه «والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبها» رواه أبو داود، ولأنه لا يمكن الإحاطة بنفي فعل غيره فلم يكلف ذلك، وذكر ابن أبي موسى عنه أنه قال: على كل حال اليمين على نفي العلم فيما يدعي عليه في نفسه أو فيما يدعي عليه في ميته، وعنه في من باع سلعة فظهر المشتري على عيب فأنكره البائع: هل اليمين على نفي علمه أو على البتات؟ على روايتين:
إحداهما على البت؛ لأنه يستحق الرد عليه بالعيب القديم سواء علمه أو لم يعلمه، فإذا حلف على نفي علمه لم يلزم منه انتفاء استحقاق الرد بالعيب.
والثانية: تجزيه اليمين على نفي العلم؛ لأنه من فعل غيره أو أمر في غيره فأشبه ما لو ادعى عليه فعلاً من موروثه، وروى الإمام أحمد أن ابن عمر باع زيد بن ثابت عبداً فادعى عليه زيد أنه باعه إياه عالماً بعيبه، فأنكره ابن عمر، فتحاكما إلى عثمان فقال له عثمان: احلف أنك ما علمت به عيباً، فأبى أن يحلف، فرد عليه العبد.

مسألة 50: (وإذا كانت للميت أو المفلس حق بشاهد فحلف المفلس أو ورثة

(1/698)


الميت ثبت
(51) وإن لم يحلف فبذل الغرماء اليمين لم يستحلفوا
(52) وإذا كانت الدعوى لجماعة فعليه لكل واحد يمين، وإن قال أنا أحلف يميناً واحدة لجميعهم لم يقبل منه إلا أن يرضوا
(53) وإن ادعى واحد حقوقاً على واحد فعليه في كل حق يمين
(54) وتشرع اليمين في كل حق لآدمي، ولا تشرع في حقوق الله من الحدود والعبادات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
الميت معه ثبت) ؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشاهد واليمين» ، أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.

مسألة 51: (وإن لم يحلفوا فبذل الغرماء اليمين لم يستحلفوا) وللشافعي في القديم يحلفون معه؛ لأن حقوقهم تعلقت بالمال فكان لهم أن يحلفوا كالورثة يحلفون على مال موروثهم. ولنا أنهم يثبتون ملكاً لغيرهم لتتعلق حقوقهم به بعد ثبوته فلم يجز، كما لم يجز للزوجة أن تحلف لإثبات ملك زوجها لتعلق نفقتها به، وفارق الورثة فإنهم يثبتون ملكاً لأنفسهم.

مسألة 52: (وإذا كانت الدعوى لجماعة فعليه لكل واحد يمين) ؛ لأن لكل واحد منهم حقاً فيلزمه لكل واحد يمين كما لو انفردوا (وإن قال: أنا أحلف يميناً واحدة لجميعهم لم يقبل منه إلا أن يرضوا بها) ؛ لأن الحق لهم لا يخرج عنهم.

مسألة 53: (وإن ادعى واحد حقوقاً على واحد فعليه في كل حق يمين) كما لو كانت الحقوق على جماعة فإن على كل واحد يميناً كذا هاهنا.

مسألة 54: (15229 وتشرع اليمين في كل حق لآدمي) بدليل ما سبق في أول الباب، (ولا تشرع في حقوق الله سبحانه من الحدود والعبادات) فما كان لله خالصاً لا تسمع فيه الدعوى كحد الزنا والخمر؛ لأن الدعوى في الشيء المستحق له، والله سبحانه هو المستحق لذلك فلا تسمع فيه دعوى ابن آدم، وأما العبادات كدعوى ساعي الزكاة على رب المال وأن الحول قد تم أو كمال النصاب فالقول قول رب المال من غير يمين؛ لأنه حق لله سبحانه أشبه الحد.

[باب الإقرار] 1

(1/699)


باب الإقرار (56) وإذا أقر المكلف الحر الرشيد الصحيح المختار بحق أخذ به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
باب الإقرار مسألة 55: الأصل في الإقرار قول الله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] إلى قوله {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 81] وقال سبحانه: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] والاعتراف الإقرار، وقال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] وروي أن ماعزاً أقر بالزنا فرجمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك الغامدية، وقال: اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وأجمعوا على صحة الإقرار، ولأن الإقرار إخبار على وجه تنتفي عنه التهمة والريبة، فإن العاقل لا يكذب على نفسه كذباً يضرها، ولهذا كان آكد من الشهادة، فإن المدعى عليه إذا اعترف لم تسمع عليه الشهادة وإنما تسمع إذا أنكر.

مسألة 56: (وإذا أقر المكلف الرشيد الحر الصحيح المختار بحق أخذ به) فأما الصبي والمجنون فلا يصح إقرارهما لا نعلم فيه خلافاً، ولأنه لا قول لهما إلا أن يكون الصبي مأذوناً له في البيع والشراء فيصح إقراره في قدر ما أذن له فيه كالبيع؛ لأنه صار فيه كالبالغ؛ لأنه عاقل مختار أشبه البالغ، ولا يصح فيما زاد؛ لأنه فيه كمن لم يؤذن له أصلاً، وكذلك العبد المأذون له في التجارة لما ذكرنا.
مسألة 57: ولا يصح إلا من (رشيد) ، فأما المحجور عليه لسفه إذا أقر بمال لم يلزمه في حال حجره؛ لأنه محجور عليه بحظ نفسه فلا يصح إقراره بالمال كالصبي، ولأنا لو قبلنا إقراره بالمال لبطل معنى الحجر، ولأنه أقر بما هو ممنوع من التصرف فيه أشبه إقرار الراهن على الرهن، فإن فك عنه الحجر لزمه ما أقر به؛ لأنه مكلف أقر بما لا يلزمه في الحال فلزمه بعد فك الحجر عنه كالعبد يقر بدين والراهن يقر على الرهن بجناية ونحوها.
مسألة 58: ويعتبر في صحة الإقرار (الحرية) ، فإن أقر العبد غير المأذون له بمال لم

(1/700)


(61) ومن أقر بدراهم ثم سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه ثم قال: زيوفاً أو صغاراً أو مؤجلة لزمته جياداً وافية حالة
(62) وإن وصفها بذلك متصلاً بإقراره لزمته كذلك
(63) وإن استثنى مما أقر به أقل من نصفه متصلاً به صح استثناؤه
(64) وإن فصل بينهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
يقبل في الحال؛ لأنه تصرف فيما هو حق لسيده ويتبع به بعد العتق عملاً بإقراره على نفسه، وعنه يتعلق برقبته كجنايته.
مسألة 59: ويعتبر في صحة الإقرار (الصحة) ، فلو أقر المريض مرض الموت المخوف بمال لغير وارث لم يصح في إحدى الروايتين بزيادة على الثلث؛ لأن ما زاد على الثلث تعلق به حق الورثة فلم يصح إقراره به، وفي الأخرى يصح؛ لأنه غير متهم فيه، وإن أقر لوارث بدين لم يصح إقراره إلا ببينة، إلا أن يجيز الورثة؛ لأنه إيصال المال إلى الوارث فلم يصح كالوصية، إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فما دون فيصح؛ لأن سببه ثابت وهو النكاح.
مسألة 60: ويعتبر أن يكون (مختاراً) للإقرار، فأما المكره فلا يصح إقراره كما لا يصح طلاقه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، رواه سعيد.

مسألة61: (وإن أقر بدراهم ثم سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه ثم قال زيوفاً أو صغاراً أو مؤجلة لزمته جياداً وافية حالة) ؛ لأن إطلاقها يقتضي ذلك بدليل ما لو باعه بألف درهم وأطلق فإنها تلزمه كذلك، فإذا سكت استقرت في ذمته كذلك فلا يتمكن من تغييرها.

مسألة 62: (وإن وصفها بذلك متصلاً بإقراره لزمته كذلك) ؛ لأنه أقر بها كذلك فلزمه حكم إقراره لا غير، ويحتمل أنه إذا أقر بها مؤجلة أن تلزمه حالة؛ لأن الأجل يمنع من استيفاء الحق في الحال، وإن فسر الزيوف بما لا فضة فيه لم يقبل؛ لأنه أثبت في ذمته شيئاً وما لا قيمة له لا يثبت في الذمة، وإن فسره بمغشوشة قبل؛ لأنه يحتمل لفظه ذلك.

مسألة 63: (وإن استثنى مما أقر به أقل من نصفه متصلاً صح استثناؤه) ؛ لأنه استثناء ما دون النصف وهو لغة العرب، قال الله سبحانه: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] .

مسألة 64: (وإن فصل بينهما بسكوت يمكنه الكلام فيه أو بكلام أجنبي أو استثنى

(1/701)


بسكوت يمكنه الكلام أو بكلام أجنبي أو استثنى أكثر من نصفه أو من غير جنسه لزمه كله
(65) ومن قال: له علي دراهم ثم قال: وديعة، لم يقبل قوله ومن أقر بدراهم فأقل ما يلزمه ثلاثة إلا أن يصدقه المقر له في أقل منها
(68) ومن أقر بشيء مجمل قبل تفسيره بما يحتمله
فصل: ولا يقبل إقرار غير المكلف بشيء، إلا المأذون له من الصبيان في التصرف في قدر ما أذن له
(69) وإن أقر السفيه بحد أو قصاص أو طلاق أخذ به وإن أقر بمال لم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
أكثر من نصفه أو من غير جنسه لزمه كله) ، أما إذا فصل بينهما بسكوت أو كلام فإنه يلزمه الكل؛ لأن الاستثناء بعد ذلك جحود بعد إقراره فلا يسمع، وأما إذا استثنى أكثر من النصف فلا يقبل؛ لأنه ليس من لسان العرب، قال أبو إسحاق الزجاج: لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير، ولو قال مائة إلا تسعة وتسعين لم يكن متكلماً بالعربية فلا يقبل. وإن استثنى من غير جنسه كقوله: له عندي مائة إلا ثوباً لم يقبل أيضاً؛ لأن الاستثناء صرف اللفظ بحرف الاستثناء عما كان يقتضيه لولاه، من قولهم ثنيت عنان دابتي أي رددتها عن وجهها الذي كانت ذاهبة إليه، ولا يوجد هذا في غير الجنس، ولأن الاستثناء من غير الجنس لا يكون إلا في الجحد بمعنى لكن، والإقرار إثبات.

مسألة 65: (ومن قال: له علي دراهم ثم قال: وديعة، لم يقبل قوله) ؛ لأن ذلك على الإيجاب ويقتضي ذلك كونها في ذمته ولهذا لو قال: ما على فلان علي كان ضامناً.
1 -
مسألة 66: وإن قال: له عندي ثم قال: وديعة قبل؛ لأنه فسر لفظه بما يقتضيه فقبل كما لو قال: له عندي دراهم ثم فسرها بدين ولا نعلم في ذلك خلافاً.
1 -
مسألة 67: (ومن أقر بدراهم فأقل ما يلزمه ثلاثة) لأنها أقل الجمع (إلا أن يصدقه المقر له في أقل منها) ؛ لأنه يقر على نفسه.

مسألة 68: (وإن أقر بشيء مجمل) كقوله: له علي شيء (قبل تفسيره بما يحتمله) فلو فسره بدرهم أو دونه صح؛ لأنه يحتمله.

[فصل في إقرار غير المكلف]
(فصل: ولا يقبل إقرار غير المكلف بشيء، إلا المأذون له من الصبيان في التصرف في قدر ما أذن له فيه) وقد سبق ذلك في أول الباب.

مسألة 69: (وإن أقر السفيه بحد أو قصاص أو طلاق أخذ به) ؛ لأنه غير متهم في

(1/702)


يقبل إقراره، وكذلك الحكم في إقرار العبد إلا أنه يتعلق بذمته يتبع به بعد العتق إلا أن يكون مأذونا له في التجارة فيصح إقراره في قدر ما أذن له فيه، ويصح إقرار المريض بالدين لأجنبي، ولا يصح إقراره في مرض الموت لوارث إلا بتصديق سائر الورثة، ولو أقر لوارث فصار غير وارث لم يصح، وإن أقر له وهو غير وارث ثم صار وارثا صح إقراره
(70) ويصح إقراره بوارث
(71) وإذا كان على الميت دين لم يلزم الورثة وفاؤه إلا إن خلف تركة فيتعلق دينه بها، فإن أحب الورثة وفاء الدين وأخذ التركة فلهم ذلك
(72) وإن أقر جميع الورثة بدين على مورثهم ثبت بإقرارهم، وإن أقر به بعضهم ثبت بقدر حقه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
ذلك، ولأنه غير محجور عليه في ذلك، (فإن أقر بمال لم يقبل إقراره، وكذلك العبد) وقد سبق ذلك أيضاً (وكذلك إقرار المريض بالدين لأجنبي) ولو أقر لوارث ثم صار غير وارث لم يصح؛ لأنه متهم حال الإقرار، وإن أقر لغير وارث فصار عند الموت وارثاً صح؛ لأنه غير متهم نص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكر أبو الخطاب في المسألتين رواية أخرى خلاف ما قلناه، يعني يصح في الأولى ويبطل في الثانية؛ لأنه معنى يعتبر فيه عدم الميراث فاعتبر بحال الموت كالوصية.

مسألة 70: (ويصح إقراره بوارث) ؛ لأنه عند الإقرار غير وارث. وعنه لا يصح؛ لأنه عند الموت وارث.

مسألة 71: (وإذا كان على الميت دين لم يلزم الورثة وفاؤه) كما لا يلزمهم وفاؤه في حياته، (فإن خلف تركة تعلق دينه بها) بمنزلة المرتهن يتعلق دينه بالرهن فيقدم حقه على حق الراهن كذلك التركة يتعلق دين الميت بها فتقدم على الميراث، (فإن أحب الورثة وفاء الدين وأخذ التركة كان لهم ذلك) كالراهن مع المرتهن إذا قضى الدين خلص له الرهن، وإن لم يقضه بيع واستوفى المرتهن حقه كذا هاهنا.

مسألة 72: (وإن أقر جميع الورثة بدين على موروثهم ثبت بإقرارهم) لأنهم أقروا على أنفسهم وإقرار العاقل على نفسه لازم بغير خلاف نعلمه، ويلزمهم وفاؤه من التركة؛ لأنه تعلق بها. (وإن أقر به بعضهم ثبت بقدر حقه) كما لو أقر بوصية (فلو خلف ابنين ومائتي درهم فأقر أحدهما بمائة دينار على أبيه لزمه خمسون درهماً) ؛ لأنه مقر على أبيه بدين ولا يلزمه أكثر من نصف دين أبيه؛ لأنه مقر على نفسه وأخيه فقبل إقراره على نفسه

(1/703)


فلو خلف ابنين ومائتي درهم فأقر أحدهما بمائة دينار على أبيه لزمه خمسون درهماً، فإن كان عدلاً وشهد بها فللغريم أن يحلف مع شهادته ويأخذ باقيها من أخيه
(73) وإن خلف ابناً ومائة فادعى رجل مائة على أبيه فصدقه ثم ادعى آخر مثل ذلك فصدقه الابن فإن كانا في مجلس واحد فالمائة بينهما، وإن كانا في مجلسين فهو للأول ولا شيء للثاني
(74) وإن كان الأول ادعاها فصدقه الابن، ثم ادعاها آخر فصدقه الابن، فهي للأول ولا شيء للثاني ويغرمها لأنه فوتها عليه بإقراره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
دون أخيه، (إلا أن يكون عدلاً فيحلف الغريم مع شهادته ويأخذ مائة) وتكون المائة الباقية بين الابنين، وإنما لزم الآخر الخمسون؛ لأنه يرث نصف التركة فيلزمه نصف الدين؛ لأنه بقدر ميراثه، ولو لزمه جميع الدين لم تقبل شهادته على أخيه لكونه يدفع بها عن نفسه ضرراً، ولأنه يرث نصف التركة فيلزمه نصف الدين كما لو ثبت ببينة.

مسألة 73: (وإن خلف ابناً ومائة فادعى رجل مائة على أبيه فصدقه ثم ادعى آخر مثل ذلك فصدقه الابن فإن كانا في مجلس واحد فالمائة بينهما) ؛ لأن حكم المجلس الواحد حكم الحال الواحد بدليل القبض فيما يعتبر فيه القبض وإن كان الفسخ في البيع ولحوق الزيادة في العقد فكذلك في الإقرار. (وإن كانا في مجلسين فهي للأول) ؛ لأنه استحق تسليمها كلها بالإقرار له فلا يقبل إقرار الورثة بما يسقط حقه؛ لأنه إقرار بحق على غيره؛ لأنه يقر بتعلق حق الثاني بالتركة التي تعلق بها حق الأول واستحقاقه لمشاركته فيها ومزاحمته عليها، وإقراره على غيره لا يقبل.

مسألة 74: (وإن كان الأول ادعاها) وديعة (فصدقه الابن، ثم ادعاها آخر فصدقه الابن، فهي للأول ولا شيء للثاني ويغرمها له؛ لأنه فوتها عليه بإقراره) للأول فقد حال بينه وبين ماله الذي أقر له به فلزمه غرمه كما لو أقر له به ثم أتلفه، وإن أقر بها لهما معاً فهي بينهما، وإن أقر بها لأحدهما وحده فهي له ويحلف للآخر أنه لا يعلم أنها له، وإن نكل قضى عليه بالغرم؛ لأن النكول كالإقرار في الحكم، ولو أقر لزمه الغرم فكذلك إذا نكل عن اليمين. والله تعالى أعلم بالصواب.

(1/704)