الكافي
في فقه الإمام أحمد [كتاب الحج]
الحج من أركان الإسلام وفروضه؛ لقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ولما
روينا فيما مضى، وروى مسلم عن أبي هريرة قال: «خطبنا رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج
فحجوا فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت. حتى قالها ثلاثاً. فقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو قلت نعم لوجبت ولما
استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم» وتجب العمرة على من يجب عليه الحج؛ لقول
الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] .
ولما روى الضبي بن معبد قال: أتيت عمر فقلت: إني أسلمت يا أمير المؤمنين،
وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما. فقال: هديت لسنة نبيك.
رواه النسائي.
ويجب ذلك في العمر مرة؛ لحديث أبي هريرة، ولا يجوز لأحد دخول مكة بغير
إحرام؛ لما روي عن ابن عباس قال: لا يدخل مكة إلا محرم، إلا الحطابين. إلا
أن يكون دخوله لقتال مباح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- «دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر.» متفق عليه. ودخل أصحابه غير
محرمين. أو من يتكرر دخوله كالحطاب والحشاش والصياد، فلهم الدخول بغير
إحرام؛ لحديث ابن عباس فإنه استثنى الحطابين، وقسنا عليهم من هو
(1/463)
في معناهم. ولأن في إيجاب الإحرام عليهم
حرجاً فينتفي بقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ} [الحج: 78] .
فإن دخل من يجب عليه الإحرام بغير إحرام فلا قضاء عليه لأنه لو وجب قضاؤه
للزمه للدخول للقضاء قضاء فلا يتناهى، فسقط لذلك.
فصل:
ولا يجب الحج والعمرة إلا بشروط خمسة: الإسلام والبلوغ والعقل لما تقدم،
والحرية، والاستطاعة لقول الله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا}
[آل عمران: 97] فيدل هذا على أنه لا يجب على غير مستطيع، والعبد غير مستطيع
لأنه لا مال له، ومنافعه مستحقة، فهذا أعظم عذراً من الفقير.
وهذه الشروط تنقسم ثلاثة أقسام: قسم يشترط للصحة وهو: الإسلام والعقل، فلا
يصح من كافر ولا مجنون لما ذكرنا في الصوم.
وقسم يشترط للإجزاء، وهو البلوغ والحرية؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى وأيما عبد حج، ثم عتق
فعليه حجة أخرى» . رواه الشافعي والطيالسي في مسنديهما. ولأنه فعل العبادة
وهو من غير أهل الوجوب فلم يجزئه إذا صار من أهل الوجوب، كالصبي يصلي ثم
يبلغ في الوقت، وإن وجد البلوغ أو العتق في الوقوف بعرفه أو قبله، أجزأهما
عن حجة الإسلام، لأنهما أتيا بالنسك حال الكمال فأجزأهما، كما لو وجد ذلك
قبل الإحرام. وإن وجد بعد الوقوف في وقته فرجعا فوقفا في الوقت أجزأهما
أيضاً لذلك، وإن فاتهما ذلك لم يجزئهما لفوات ركن الحج قبل الكمال.
الثالث: شرط الوجوب حسب، وهو الاستطاعة، فلو تكلف العاجز الحج أجزأه ووقع
موقعه؛ لأنه إنما سقط عنه رفقاً به فإذا تحمله أجزأه كما لو تحمل المريض
الصلاة قائماً؛ لكن إن كان في الحج كلاً على الناس لمسألته إياهم وتثقيله
عليهم، كره له؛ لأنه يضر بالناس بالتزام ما لا يلزمه، وإن لم يكن كلاً على
أحد؛ لقوته على المشي
(1/464)
والتكسب بصناعة أو معاونة من ينفق عليه،
فهو مستحب له لقول الله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}
[الحج: 27] ولأنه التزام للطاعة من غير مضرة لأحد فاستحب كقيام الليل.
فصل:
والاستطاعة في حق البعيد: القدرة والزاد والراحلة؛ لما روى ابن عمر قال:
«جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول
الله ما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة» . قال الترمذي: هذا حديث حسن،
ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فاشترط لوجوبها الزاد والراحلة
كالجهاد.
والزاد: هو ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وكسوة في ذهابه ورجوعه.
فإن وجد ذلك لذهابه دون رجوعه لم يلزمه الحج؛ لأن عليه في غربته ضرراً
ومشقة وغيبة عن أهله ومعاشه.
وإن وجد ما يكفيه لذهابه ورجوعه بثمن مثله في الغلاء والرخص، أو بزيادة لا
تجحف بماله لزمه، وتعتبر القدرة على الماء وعلف البهائم في منازل الطريق
على ما جرت به العادة، ولا يكلف حمل ذلك من بلده لما فيه من المشقة التي لا
يمكن تحملها، ويعتبر قدرته على أوعية الزاد والماء؛ لأنه لا يستغنى عنها.
ويشترط وجدان راحلة تصلح لمثله بشراء أو كراء، وما يحتاج إليه من آلتها
الصالحة لمثله في محمل أو زاملة أو قتب على ما جرت به عادة مثله، وما لا
يتخوف الوقوع منه، ويكون ذلك فاضلاً عما يحتاج إليه لقضاء دين حال ومؤجل،
ونفقة عياله إلى أن يعود، وما يحتاجون إليه من مسكن وخدم؛ لأن هذا واجب
عليه يتعلق به حق آدمي، فكان أولى بالتقديم كنفقة نفسه.
وإن احتاج إلى النكاح لخوف العنت، قدم؛ لأنه واجب لدفع الضرر عن نفسه فأشبه
النفقة، وإن لم يخف وجب الحج؛ لأنه تطوع فلا يسقط به الحج الواجب، ومن له
عقار يحتاج إليه للسكنى أو إلى أجرته لنفقته أو نفقة عياله أو بضاعة يختل
ربحها المحتاج إليه لذلك، أو آلات لصناعته المحتاج إليها، أو كتب من العلم
يحتاج إليها؛ لم يلزمه صرفه في الحج؛ لأنه لا يستغنى عنه، أشبه النفقة، ومن
كان من ذلك فاضلاً عن حاجته كمن له بكتاب نسختان أو له دار فاضلة أو مسكن
واسع يكفيه بعضه، فعليه
(1/465)
صرف ذلك في الحج، ومن لم يكن له مال فبذل
له ولده أو غيره مالاً يحج به؛ لم يلزمه قبوله، وإن بذل له أن يحج عنه أو
يحمله؛ لم يلزمه قبوله؛ لأن عليه فيه منة ومشقة فلم يلزمه قبوله كما لو كان
الباذل أجنبياً.
فصل:
فأما المكي ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر فلا يشترط في حقه راحلة،
ومتى قدر على الحج ماشياً لزمه؛ لأنه يمكنه ذلك من غير مشقة شديدة، وإن عجز
عن المشي وأمكنه الحبو لم يلزمه؛ لأن مشقته في المسافة القريبة أكثر من
السير في المسافة البعيدة.
فصل:
واختلفت الرواية في ثلاثة أشياء. وهي إمكان المسير، وهو أن تكمل الشرائط
فيه، وفي الوقت سعة يتمكن من السير لأدائه. وتخلية الطريق وهو أن لا يكون
في الطريق مانع من خوف ولا غيره. والمحرم للمرأة، فروي أنها من شرائط
الوجوب لا يجب الحج بدونها؛ لأنه لا يستطاع فعله بدونها، فكانت شرطاً
للوجوب كالزاد والراحلة.
وعنه: أنها شروط للزوم الأداء دون الوجوب؛ لأنها أعذار تمنع نفس الأداء
فقط، فلم تمنع الوجوب كالمرض، وإذا قلنا: هي من شرائط الوجوب فمات قبل
تحققها، فلا شيء عليه كالفقير، وإن قلنا: هي من شرائط لزوم السعي فاجتمعت
فيه الشرائط الخمس، حج عنه كالمريض. وإمكان السير معتبر بما جرت به العادة،
فلو أمكنه السير بأن يحمل على نفسه ما لم تجر به عادة لم يلزمه؛ لأن فيه
مشقة وتعزيراً.
وتخلية الطريق عبارة عن عدم الموانع فيها، بعيدة كانت أو قريبة، براً أو
بحراً الغالب السلامة فيه، فإن لم يكن الغالب السلامة لم يلزمه، كالبر إذا
كان فيه مانع، فإن كان الطريق آمناً لكنه يحتاج إلى خفارة كثيرة لم يلزمه
الأداء؛ لأنه كالزيادة على ثمن المثل في شراء الزاد، فإن كانت يسيرة؟.
فقال ابن حامد: يلزمه لأنها غرامة ممكنة، يقف الحج على بذلها فلزمته كثمن
الزاد.
وقال القاضي: لا يلزمه؛ لأنها رشوة في الواجب فلم تلزمه، كسائر الواجبات.
فصل:
فأما السلامة وكونه على حال يمكنه الثبوت على الراحلة فهو شرط للزوم الأداء
(1/466)
خاصة، فإن عدم ذلك لمرض لا يرجى برؤه، أو
كبر، أقام من يحج عنه ويعتمر؛ لما روى أبو رزين أنه أتى النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا
يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، قال: حج عن أبيك واعتمر» وهو حديث حسن،
فإن برئ بعد أن حج عنه فلا حج عليه؛ لأنه أتى بما أمر به، فخرج عن عهدته
كما لو لم يبرأ. وإن كان مرضه يرجى زواله لم يجز أن يستنيب؛ لأنه يرجو
القدرة فلم تكن له الاستنابة، كالصحيح الفقير، فإن استناب ثم مات؛ لم يجزئه
ووجب الحج عنه؛ لأنه حج عنه وهو غير مأيوس منه فلم يجزئه الحج، كما لو برئ،
وهل يجوز لمن يمكنه الحج بنفسه أن يستنيب في حجة التطوع؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجوز؛ لأنها حجة لا يلزمه أداؤها فجاز له الاستنابة فيها
كالمغصوب.
والثانية: لا يجوز؛ لأنها عبادة لا تجوز الاستنابة في فرضها فلم تجز في
نفلها كالصلاة.
فصل:
ومن كملت الشرائط في حقه؛ لزمه الحج على الفور ولم يجز له تأخيره؛ لما روي
عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أراد الحج
فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة» رواه ابن ماجه. وعن
علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج،
فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً» رواه الترمذي، ولأنه أحد أركان
الإسلام فلم يجز تأخيره إلى غير وقته كالصيام.
فصل:
وحج الصبي صحيح؛ لما روى ابن عباس قال: «رفعت امرأة صبياً فقالت: يا رسول
الله ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر» رواه مسلم. والكلام فيه في أربع أمور:
أحدها: في إحرامه، إن كان مميزاً أحرم بإذن وليه، ولا يصح من غير إذنه؛
لأنه عقد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد منه بنفسه كالبيع. وإن كان غير مميز
أحرم عنه وليه الذي يلي ماله، ومعنى إحرامه عنه: عقده الإحرام له فيصير
الصبي بذلك محرماً دون
(1/467)
الولي، كما يعقد له النكاح، فلذلك صح أن
يحرم عنه الولي، محلاً كان أو محرماً ممن حج عن نفسه وممن لم يحج، فإن
أحرمت عنه أمه، صح في ظاهر كلام أحمد؛ لأنه قال: يحرم عنه أبواه، وهو ظاهر
حديث ابن عباس.
وقال القاضي: لا يصح لعدم ولايتها على ماله، وفي سائر عصباته وجهان، بناء
على القول في الأم، فأما الأجنبي فلا يصح إحرامه عنه وجهاً واحداً.
الثاني: أن ما قدر الصبي على فعله كالوقوف بعرفة ومزدلفة فعليه فعله، وما
لا يمكنه فعله كالرمي فعله الولي عنه؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: «كنا إذا حججنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لبينا مع الصبيان ورمينا عنهم» رواه ابن ماجه، وإن أمكنه المشي
في الطواف وإلا طيف به محمولاً، فقد روى الأثرم عن أبي إسحق أن أبا بكر
الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طاف بابن الزبير في خرقة. ولا يرمي عن
الصبي إلا من أسقط فرض الرمي عن نفسه.
الثالث: أن ما فعله من محظورات الإحرام، إن كان مما يفرق بين عمده وسهوه،
فلا فدية فيه؛ لأن عمد الصبي خطأ، وإن كان مما يستوي عمده وسهوه كجزاء
الصيد ونحوه ففيه فدية، وفي محلها روايتان:
إحداهما: تجب في مال الصبي؛ لأنه واجب بجنايته فلزمت كجنايته على آدمي.
والثانية: تجب على وليه لأنه أدخله في ذلك وغرر بماله. وإن وطئ الصبي أفسد
حجه. ووجبت البدنة ويمضي في فاسده، وعليه القضاء إذا بلغ، وهل يجزئه القضاء
عن حجة الإسلام ينظر فإن كانت الفاسدة؛ لو صلحت أجزأت، وهو أن يبلغ في
وقوفها، أجزأ القضاء أيضاً وإلا فلا.
الرابع: أن ما يلزمه من النفقة بقدر نفقة الحضر فهو في ماله؛ لأن الوالي لم
يكلفه ذلك، وما زاد ففي محله روايتان، كالفدية سواء.
فصل:
وفي حج العبد وهو صحيح؛ لأنه من أهل العبادات فصح حجه كالحر، وإلا فالكلام
فيه في أمور أربعة:
أحدها: أنه إن أحرم، صح إحرامه، بإذن سيده وبغير إذنه؛ لأنها عبادة بدنية
فصحت منه بغير إذن سيده كالصلاة، فإن أحرم بإذن سيده لم يجز تحليله؛ لأنها
عبادة تلزمه بالشروع فلم يملك تحليله إذا شرع بإذنه كقضاء رمضان، وإن أحرم
بغير إذنه،
(1/468)
فقال أبو بكر: لا يملك تحليله لذلك، وقال
ابن حامد: له تحليله، وهو أصح؛ لأن حق السيد فيه ثابت لازم فلم يملك العبد
إبطاله بما لا يلزمه، كالاعتكاف، فإن أذن له ثم رجع قبل إحرامه فهو كمن لم
يأذن، فإن لم يعلم العبد برجوعه حتى أحرم ففيه وجهان، بناء على الوكيل هو
ينعزل بالعزل قبل علمه به؟ على روايتين.
الثاني: إذا نذر العبد الحج انعقد نذره؛ لأنه تكليف فانعقد نذره كالحر، فإن
كان بإذن سيده لم يملك منعه من الوفاء به؛ لأنه أذن في التزامه، وإن كان
بغير إذنه فله منعه، ذكره ابن حامد.
وقال القاضي: لا يجوز لأن تجويز ذلك يفضي إلى تمكينه من التسبب إلى إبطال
حق سيده، فمتى عتق فعليه الوفاء به، ولا يفعله إلا بعد حجة الإسلام.
الثالث: أن ما جنى العبد مما يوجب الفدية فعليه فديته بالصيام فقط؛ لأنه
كالمعسر وأدنى منه، فإن ملكه السيد هدياً وأذن له في الفدية به وقلنا: إنه
يملك، فعليه الفدية به وإلا ففرضه الصيام، وإن تمتع أو قرن بإذن سيده فهدي
التمتع والقران عليه؛ لأن النسك له، فكانت الفدية عليه، كالزوجة إذا فعلته
بإذن زوجها.
وقال القاضي: هو على سيده؛ لأنه بإذنه.
الرابع: أن العبد إذا وطئ أفسد حجه وعليه المضي في فاسده ويصوم مكان
البدنة، ثم إن كان الإحرام مأذوناً فيه لم يكن لسيده تحليله منه، وإن لم
يكن مأذوناً فيه فله تحليله؛ لأن هذا الإحرام هو الذي كان صحيحاً، فحكمه في
ذلك حكمه.
فصل:
في حج المرأة ثلاثة أمور:
أحدها: أنه لا يحل لها السفر بغير محرم؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله
واليوم الآخر،
(1/469)
أن تسافر مسيرة يوم، إلا ومعها ذو محرم»
متفق عليه. والمحرم زوجها، أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب، أو سبب مباح،
كابنها وأخيها من نسب أو رضاع وربيبها ورابها، فأما عبدها فليس بمحرم لها؛
لأنها تحل له إذا عتق، وليس بمأمون عليها، ومن حرمت عليه بسبب محرم كالزنا
أو وطء الشبهة فليس بمحرم؛ لأن تحريم ذلك بسبب غير مشروع، فأشبه التحريم
باللعان، ونفقة المحرم عليها؛ لأنه من سبيلها، فكان عليها نفقته كالراحلة،
ولا يلزمه الخروج معها إلا أن يشاء؛ لأنه تكلف شديد فلم يلزمه لأجل غيره
كالحج عن الغير، وإن مات المحرم في الطريق، مضت إذا كانت قد تباعدت، وإن
كانت قريبة رجعت. وإن حجت امرأة بغير محرم أساءت، وأجزأها حجها، كما لو
تكلف رجل مسألة الناس والحج.
الثاني: أنه ليس للرجل منع زوجته من حج الفرض؛ لأنه واجب بأصل الشرع فأشبه
صوم رمضان، ويستحب لها استئذانه جمعاً بين الحقين، وله منعها من حج التطوع؛
لأن حقه ثابت في استمتاعها فلم تملك إبطاله بما لا يلزمها كالعبد، فإن
أحرمت به فحكمها حكم العبد على ما فصل فيه.
الثالث: أنه ليس لها الخروج للحج في عدة الوفاة؛ لأنها واجبة في المنزل،
تفوت، فقدمت على الحج الذي لا يفوت. وإن مات زوجها في الطريق بعد تباعدها،
مضت في سفرها؛ لأنه لا بد من سفرها، فالسفر الذي يحصل به الحج أولى، وإن
كانت قريبة رجعت لتقضي العدة في منزلها.
(1/470)
فصل:
ومن وجب الحج عليه فمات قبل فعله، وجب الحج عنه؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن امرأة سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن أبيها، مات ولم يحج، قال: حجي عن» أبيك رواه النسائي، ولأنه
حق مستقر تدخله النيابة فلم يسقط بالموت، كالدين، ويحج عنه من رأس ماله؛
لأنه واجب فكان من رأس المال كالدين.
فصل:
ويستناب عنه، وعن المعضوب من حيث وجب عليهما، إما من بلدهما، أو من الموضع
الذي أيسرا منه، ولا يجزئ الحج عنهما من الميقات؛ لأن الحج واجب عليه من
بلده، فوجب أن تكون النيابة عنه منه؛ لأن النائب يقوم مقامه فيما وجب عليه،
فيؤدي من حيث وجب.
وإن خرج للحج فمات في الطريق، استنيب عنه من حيث انتهى إليه؛ لأنه أسقط عنه
ما ساره.
وإن مات بعد فعل بعض المناسك، فعل عنه ما بقي لأن ما جاز أن ينوب عنه في
جميعه جاز في بعضه كالزكاة، وسواء كان إحرامه لنفسه أو عن غيره، فإن لم
يخلف الميت تركة تفي بالحج عنه من بلده، حج عنه من حيث تبلغ، نص عليه أحمد
في الوصية بالحج؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا
أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ولأنه قدر على أداء الواجب على القصور
فلزمه، كمن قدر على الصلاة قاعداً.
وذكر القاضي أنه لا يحج عنه؛ لأنه لا يمكن أداء الحج على الكمال، والأول
أولى.
فصل:
فإن اجتمع على الميت مع الحج دين آدمي، احتمل تقديم الدين؛ لتأكده بحاجة
الآدمي إليه، وغنى الله عن حقه، واحتمل أن يتحاصا؛ لأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سئل عن الحج عمن عليه حج قال: «أرأيت لو
كان على أخيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فاقض فالله أحق بالوفاء» رواه
النسائي. فعلى هذا يؤخذ ما يخص الحج فيصنع به ما صنع بتركة من لم يخلف ما
يفي بالحجة الواجبة.
فصل:
ويستناب عن الميت وإن لم يأذن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لما أمر بالحج عنه ولا إذن له، علم أن الإذن غير معتبر، ولا
يجوز النيابة عن الحي إلا بإذنه؛ لأنه من أهل الإذن فلم تجز النيابة عنه
بغير إذنه كأداء الزكاة، وتجوز النيابة عنهما في حج التطوع؛ لأن ما جاز
(1/471)
فرضه جاز نفله كالصدقة، فأما القادر على
الحج بنفسه، فلا تجوز له الاستنابة في الفرض؛ لأنه عليه في بدنه، فلا ينتقل
عنه إلا في موضع الرخصة للحاجة المعلومة وبقي فيما عداه.
فصل:
ولا يجوز أن ينوب في الحج من لم يسقط فرضه عن نفسه؛ لما روى ابن عباس «أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلاً يقول: لبيك عن
شبرمة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من شبرمة؟
قال: قريب لي، قال: هل حججت قط؟ قال: لا، قال: فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن
شبرمة» . رواه أبو داود. ولا يجوز أن يعتمر عن غيره من لم يعتمر عن نفسه
قياساً على الحج، ولا يجوز أن يتنفل بهما من لم يسقط فرضهما، ولا أن يؤدي
النذر فيهما وعليه فرضهما؛ لأن التنفل والنذر أضعف من حج الإسلام، فلم يجز
تقديمهما عليه كالحج عن غيره، فإن أحرم عن غيره أو نذره أو نفله قبل فرضه،
انقلب إحرامه لنفسه عن فرضه.
وعنه: يقع عن غيره ونذره ونفله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إنما لامرئ ما نوى» والأول المذهب؛ لحديث ابن عباس في الحج
عن غيره، ووجود معناه في النذر والنفل. ولو أمر المعضوب من يحج عنه طوعاً
أو نفلاً أو نذراً وعليه حجة الإسلام انصرف إليها؛ لأن فعل نائبه كفعله،
وهكذا إن حج عن الميت نذراً أو نفلاً قبل حجة الإسلام، وإن استنيب عنهما من
يحج النذر والفرض في عام واحد صح؛ لأنه لم يتقدم النذر على حجة الإسلام،
وأي النائبين أحرم أولاً وقع عن حجة الإسلام لتحريم تقديم النذر عليها، وإن
استنابه اثنان فأحرم عنهما لم يقع على واحد منهما ووقع عن نفسه؛ لأنه يتعذر
وقوعه عنهما، وليس أحدهما أولى به من الآخر.
وإن أحرم عن أحدهما لا بعينه احتمل ذلك أيضاً لذلك واحتمل صحته؛ لأن
الإحرام يصح مبهماً، فصح عن المجهول، وله صرفه إلى من شاء منهما، فإن لم
يصرفه حتى طاف شوطاً لم يجز عن واحد منهما؛ لأن هذا الفعل لا يلحقه فسخ،
وليس أحدهما أولى به من الآخر، وإن أحرم عن أحدهما وعن نفسه، انصرف إلى
نفسه لأنه لما تعذر وقوعه عنهما كان هو أولى به.
(1/472)
[باب مواقيت
الحج]
باب المواقيت وللحج ميقاتان:
ميقات مكان، وميقات زمان، فأما ميقات المكان فالمنصوص عليه خمسة. لما روى
ابن عباس قال: «وقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل
المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن
يلملم. قال: فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن كان يريد الحج
والعمرة، فمن كان دونهن فمهله من أهله، وكذلك أهل مكة يهلون منها» متفق
عليه. وعن عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقت
لأهل العراق ذات عرق. رواه أبو داود. فهذه المواقيت لكل من مر عليها من
أهلها ومن غيرهم للخبر. ومن منزله بين الميقات ومكة، فميقاته: منزله؛
للخبر، وميقات من بمكة منها، وسواء في ذلك أهلها أو غيرهم للخبر، ولأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المتمتعين من أصحابه
فأحرموا منها، وعنه فيمن اعتمر في أشهر الحج من أهل مكة: أهل من الميقات.
فإن لم يفعل فعليه دم. وذكر القاضي فيمن دخل مكة محرماً عن غيره بحج، أو
عمرة، ثم أراد أن يحج عن نفسه، أو دخل مكة محرماً لنفسه ثم أراد أن يحرم عن
غيره بحج أو عمرة، أنه يلزمه الإحرام من الميقات، فإن لم يفعل فعليه دم؛
لأنه جاز الميقات مريداً للنسك لنفسه وأحرم دونه فلزمه دم، كما لو تجاوزه
غير محرم، ولنا الخبر. وإن كل ميقات لمن أتى عليه فكذلك مكة، ولأن هذا حصل
بمكة حلالاً على وجه مباح، فكان له الإحرام منها بلا دم، كما لو كان
الإحرامان لشخص، واحد ومن أي موضع في مكة أحرم جاز؛ لأنها كلها موضع للنسك،
وإن أحرم خارجاً منها من الحرم جاز أيضاً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه في حجة الوداع: «إذا أردتم أن تنطلقوا
إلى منى فأهلوا من البطحاء» وهي خارج من مكة، ولأن ما اعتبر فيه الحرم
استوت البلدة فيه وغيرها كالبحر. وميقات العمرة للمكي ومن في الحرم، من
الحل؛ لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أخاها عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم.»
متفق عليه. وكانت بمكة يومئذ. ومن أي الحل أحرم جاز. لأن المقصود بالإحرام
منه الجمع بين الحل والحرم في النسك؛ لأن أفعال العمرة كلها في الحرم، إلا
الإحرام، بخلاف الحج فإنه يفتقر إلى الحل للوقوف بعرفة، فيحصل الجمع بين
الحل والحرم.
فصل:
ومن جاوز الميقات مريداً لموضع قبل مكة، ثم بدا له الإحرام، أحرم من موضعه،
(1/473)
كما أن من دخل مكة يحرم منها، وإن مر به
كافر أو عبد أو صبي، فأسلم الكافر، وأعتق العبد، وبلغ الصبي دونه، أحرموا
من موضعهم ولا دم عليهم؛ لأنهم أحرموا من الموضع الذي وجب عليهم الإحرام
فيه، فأشبهوا المكي والمتجاوز غير مريد لمكة.
وعنه في الكافر يسلم: يخرج إلى الميقات، فإن خشي الفوات أحرم من موضعه
وعليه دم، والصبي والعبد في معناه؛ لأنهم تجاوزوا الميقات غير محرمين، قال
أبو بكر: وبالأول أقول، وهو أصح لما ذكرناه، ومن لم يكن طريقه على ميقات،
فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم؛ لما روى ابن عمر قال؛ «لما فتح هذان
المصران أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حد لأهل نجد قرناً، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا
قرنا شق علينا، قال: فانظروا وخذوها من طريقكم، فحد لهم ذات عرق.» رواه
البخاري. ولأن هذا مما يدخله الاجتهاد والتقدير، فإذا اشتبه على الإنسان
صار إلى اجتهاده فيه كالقبلة، فإن لم يعلم حذو الميقات احتاط فأحرم قبله؛
لأن تقديم الإحرام عليه جائز وتأخيره حرام.
فصل:
والأفضل أن لا يحرم قبل الميقات؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وأصحابه أحرموا من ذي الحليفة، فإن أحرم قبله، جاز؛ لأن الصبي
بن معبد أحرم قبل الميقات قارناً فذكر ذلك لعمر فقال: هديت لسنة نبيك. ومن
بلغ الميقات مريداً للنسك؛ لم يجز له تجاوزه بغير إحرام؛ لما تقدم من حديث
ابن عباس، فإن تجاوزه غير محرم؛ لزمه الرجوع ليحرم منه؛ لأن من قدر على فعل
الواجب لزمه، فإن رجع فأحرم منه فلا دم عليه؛ لأنه أدى الواجب فأشبه من لم
يتجاوزه، فإن لم يمكنه الرجوع لخوف أو خشية الفوات فأحرم من موضعه، أو أحرم
من موضعه لغير عذر، فعليه دم لأنه ترك الواجب من مناسك الحج، فإن رجع بعد
ذلك إلى الميقات لم يسقط الدم؛ لأنه استقر عليه بإحرام من دونه، فأشبه من
لم يرجع، فإن أحرم المكي بالحج من الحل الذي يلي عرفة، فهو كالمحرم من دون
الميقات، وإن أحرم من الحل الذي يلي الجانب الآخر، ثم سلك الحرم فهو
كالمحرم قبل الميقات، وإن أحرم بالعمرة من الحرم انعقد إحرامه كالذي يحرم
بعد ميقاته، ثم إن خرج قبل الطواف إلى الحل وعاد، ففعل أفعاله تمت عمرته،
وعليه دم، وإن لم يخرج وفعل أفعالها ففيه وجهان:
أحدهما: يجزئه، ويجبرها بدم، كالذي يحرم من دون ميقاته.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه نسك فكان من شرطه الجمع بين الحل والحرم كالحج،
فعلى هذا لا يعتد بأفعاله، وهو باق على إحرامه حتى يخرج إلى الحل ثم يأتي
بها.
(1/474)
فصل:
وميقات الزمان: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة؛ لقول الله تعالى:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] معناه: وقت الحج؛ لأن الحج
أفعال وليس بأشهر فلم يكن بد من التقدير. وعن ابن مسعود وجابر وابن الزبير
أنهم قالوا: أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، والاختيار أن لا
يحرم بالحج قبل أشهره؛ لأنه تقديم للعبادة على وقتها فكره، كتقديمها على
ميقات المكان، فإن فعل انعقد إحرامه؛ لأنه أحد الميقاتين فانعقد الإحرام
بالحج قبله كالآخر، فأما العمرة فلا ميقات لها في الزمان، ويجوز الإحرام
بها في جميع السنة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«عمرة في رمضان تعدل حجة.»
(1/475)
متفق عليه. «واعتمر في ذي القعدة وفي ذي
الحجة مع حجته» ، رواه أنس، وهو حديث صحيح.
[باب الإحرام]
يستحب الغسل للإحرام؛ لما «روى زيد بن ثابت أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تجرد لإهلاله واغتسل.» حديث حسن. وعن جابر قال:
«أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف أصنع؟ قال: اغتسلي
واستثفري بثوب وأحرمي» رواه مسلم. فإن لم يجد ماء لم يتيمم؛ لأنه غسل مسنون
يراد للتنظيف فلا يسن التيمم عند العجز عنه كغسل الجمعة. وقال القاضي:
يستحب له التيمم قياساً على غسل الجنابة، ويستحب له التنظيف بإزالة الشعر
والشعث وقطع الرائحة وتقليم الأظفار؛ لأن الغسل شرع لذلك، ثم يتجرد من
المخيط في إزار ورداء أبيضين نظيفين جديدين أو غسيلين؛ لما روى ابن عمر أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وليحرم أحدكم في
إزار ورداء ونعلين» ، ويستحب أن يتطيب في بدنه؛ لما «روت عائشة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنت أطيب، رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت» ، وقالت:
«كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وهو محرم.» متفق عليهما، ولا يتطيب في ثوبه، فإن فعل فله
استدامته حتى ينزعه، فمتى نزعه ثم لبسه فعليه الفدية؛ لأن الإحرام يمنع
ابتداء الطيب دون استدامته. ولو نقل الطيب عن بدنه من موضع إلى موضع آخر
فعليه الفدية، وإن سال بالحر وغيره إلى موضع آخر، فلا فدية عليه؛ لأنه ليس
من جهته.
فصل:
ويستحب أن يحرم عقيب صلاة إما مكتوبة أو نافلة، وروى الأثرم قال: سألت أبا
(1/476)
عبد الله: أيما أحب إليك الإحرام في دبر
الصلاة أو إذا استوت به ناقته؟ فقال: كل قد جاء، في دبر الصلاة، وإذا علا
البيداء، وإذا استوت به ناقته، فوسع فيه كله.
والمشهور الأول؛ لما روى سعيد بن جبير قال: ذكرت لابن عباس إهلال رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «أوجب رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين فرغ من صلاته ثم خرج، فلما ركب رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راحلته واستوت به قائمة أهل، فأدرك
ذلك منه قوم فقالوا: أهل حين استوت به راحلته، وذلك أنهم لم يدركوا إلا
ذلك، ثم سار حتى علا البيداء فأهل، فأدرك ذلك منه قوم فقالوا: أهل حين علا
البيداء» رواه أبو داود، وهذا فيه فضل بيان وزيادة علم، فيتعين الأخذ به،
وتقديمه على ما خالفه.
فصل:
وينوي الإحرام بقلبه، ولا ينعقد من غير نية؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ولأنها عبادة محضة فافتقرت
إلى النية كالصلاة، فإن لبى من غير نية لم يصر محرماً، وإن نوى الإحرام من
غير تلبية، انعقد إحرامه؛ لأنه عبادة لا يجب النطق في آخرها فلم يجب في
أولها كالصوم، فإن نوى إحراماً فسبق لسانه إلى غيره، انعقد إحرامه بما
نواه، دون ما نطق به؛ لأن النية هي الإحرام، فاعتبرت دون النطق.
فصل:
ويستحب أن ينطق بما أحرم به ويعينه، ويشترط فيه: أن محلي حيث يحبسني،
فيقول: اللهم إني أريد النسك الفلاني فيسره لي وتقبله مني، فإن حبسني حابس
فمحلي حيث يحبسني؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «خرجنا
مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمنا من أهل بعمرة،
ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بحج» . وعنها قالت: «دخل النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ضباعة بنت الزبير فقالت: يا رسول
الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني» متفق
عليهما. ويفيد هذا الشرط شيئين:
أحدهما: أنه متى عاقه عائق من مرض أو غيره فله التحلل.
والثاني: أنه إذا حل لذلك فلا شيء عليه من دم ولا غيره، وغير هذا اللفظ مما
يؤدي معناه يجري مجراه، قال ابن مسعود: اللهم إني أريد العمرة إن تيسرت لي
وإلا فلا حرج علي. لأن المقصود المعنى، وإنما اعتبر اللفظ لتأديته له.
فصل:
ويجوز الإحرام بنسك مطلق وله صرفه إلى أيها شاء، وإن أحرم بمثل ما أحرم به
(1/477)
فلان، صح؛ لما روى أبو موسى قال: «قدمت على
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو منيخ بالبطحاء فقال
لي: بم أهللت؟ قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال رسول الله. قال: أحسنت، فأمرني
فطفت بالبيت وبالصفا، والمروة، ثم أمرني أن أحل» متفق عليه، ثم إن تبين له
ما أحرم به فلان فإحرامه مثله، وإن تبين أن فلاناً لم يحرم فله صرفه إلى ما
شاء كالمطلق؛ لأنه عقد الإحرام، وعلق عين النسك على إحرام فلان، فلما لم
يحرم فلان، بطل التعيين وبقي المطلق.
وإن علم أن فلاناً أحرم ولم يعلم بما أحرم، أو شك هل أحرم أم لا، فهو
كالناسي لإحرامه، وللناسي لما أحرم به صرفه إلى أي نسك شاء لأنه إن صادف ما
أحرم به، فقد أصاب، وإن صرفه إلى عمرة، وكان إحرامه بغيرها، فإن فسخه إليها
جائز مع العلم فمع الجهل أولى، فإن صرفه إلى قران وكان إحرامه بعمرة، فقد
أدخل عليها الحج وهو جائز، وإن كان مفرداً فقد أدخل العمرة على الحج وهو
لغو لا يفيد، ولا يقدح في حجه، كما لو فعله مع العلم.
وإن صرفه إلى الإفراد وكان معتمراً، فقد أدخل الحج على العمرة فصار قارناً،
ولا تبطل العمرة بترك نيتها، فإن كان قارناً فهو على حاله لذلك.
والنصوص عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه يجعل المنسي عمرة.
قال القاضي: هذا على سبيل الاستحباب؛ لأن ذلك مستحب مع العلم فمع عدمه
أولى، فعلى هذا إن صرفه إلى عمرة، فهو متمتع حكمه حكم من فسخ الحج إلى
العمرة، وإن صرفه إلى القران لم يجزئه عن العمرة إذ من المحتمل أن يكون
مفرداً فلم يصح إدخال العمرة على حجة، ولا يلزمه دم القران؛ لأنه شاك فيما
يوجبه، ويصح له الحج هاهنا، وفيما إذا صرفه إلى الإفراد، فإن كان شكه بعد
الطواف لم يكن له صرفه إلا إلى العمرة؛ لأن إدخال الحج على العمرة بعد
الطواف غير جائز، فإن صرفه إلى إفراد أو قران، تحلل بأفعال الحج ولم تجزئه
عن واحد من النسكين؛ لأنه شاك في صحته ولا دم عليه للشك فيما يوجبه، إلا أن
يكون معه هدي فيجزئه عن الحج؛ لأن إدخال الحج على العمرة في حقه جائز بعد
الطواف.
فصل:
وإن أحرم بحجتين أو عمرتين، انعقد إحرامه بإحداهما، ولا يلزمه للأخرى قضاء
ولا غيره؛ لأنهما عبادتان لا يلزم المضي فيهما، فلم يصح الإحرام بهما
كالصلاتين، ولو أفسد نسكه ثم أحرم بغيره من جنسه؛ لم يلزمه للثاني شيء ولم
يصح لذلك.
(1/478)
فصل:
وهو مخير إن شاء أحرم متمتعاً، أو مفرداً قارناً؛ لحديث عائشة. والتمتع: هو
الإحرام بعمرة من الميقات، فإن فرغ منها أحرم بالحج من مكة في عامه،
والإفراد: الإحرام بالحج مفرداً، والقران: الإحرام بهما معاً أو يحرم
بالعمرة ثم يدخل عليها الإحرام بالحج قبل الطواف؛ لما روت عائشة قالت:
«أهللنا بعمرة فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من
كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً» متفق
عليه. فإن أحرم بحج ثم أدخل عليه عمرة؛ لم يصح ولم يصر قارناً لأنه لم يرد
بذلك أثر ولا هو في معنى ما جاء به الأثر؛ لأن إحرامه بها لا يزيده عملاً
على ما لزمه بإحرام الحج، ولا بغير ترتيبه بخلاف إدخال الحج على العمرة.
ومن طاف للعمرة ثم أحرم بالحج معها؛ لم يصح لأنه قد أتى بمقصودها وشرع في
التحلل منها، إلا أن يكون معه هدي فله ذلك؛ لأن من ساق هدياً لا يجوز له
التحلل حتى ينحر هديه لقول الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ
حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ، فلا يتحلل بطواف،
ويتعين عليه إدخال الحج على العمرة، ويصير قارناً بخلاف غيره.
فصل:
وأفضل الأنساك التمتع؛ لما «روى جابر أنه حج مع النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد أهلوا بالحج مفرداً فقال لهم: حلوا من إحرامكم
بطواف بالبيت ومن الصفا والمروة، وقصروا وأقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم
التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة، فقالوا: كيف نجعلها
متعة وقد سمينا الحج؟ قال: افعلوا ما أمرتكم، فلولا أني سقت الهدي لفعلت
مثلما أمرتكم به، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله قال: ففعلوا» .
متفق عليه. وعنه: إن ساق الهدي فالقران أفضل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحل إذا كان معه الهدي. وقد روى أنس «أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرن بين الحج والعمرة» . متفق عليه.
والأول أصح؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو
استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولحللت» فيدل هذا على فضيلة
المتعة، وقد روى عمر وعلي وسعد وابن عمر وحفصة وعائشة وعمران بن حصين -
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان متمتعاً، وإنما منعه الحل سوق الهدي، ومعنى حديث أنس: أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدخل الحج على العمرة حين
امتنع عليه الحل منها. ثم بعد التمتع الإفراد؛ لأنه يأتي بنسكين كاملين،
والقارن يقتصر على عمل الحج، ثم القران بعدهما.
(1/479)
فصل:
ويستحب للقارن والمفرد إذا لم يكن معهما هدي أن يفسخا نيتهما بالحج، وينويا
عمرة مفردة، ويحلا من إحرامهما بطواف وسعي وتقصير ليصيرا متمتعين؛ لحديث
جابر.
ويروى عن إبراهيم الحربي أنه قال: قال سلمة بن شبيب لأحمد بن حنبل: يا أبا
عبد الله كل شيء منك حسن جميل إلا خلة واحدة، تقول بفسخ الحج! فقال أحمد:
وقد كنت أرى أن لك عقلاً، عندي ثمانية عشر حديثاً صحاحاً جياداً كلها في
فسخ الحج، أتركها لقولك؟ فأما من ساق الهدي فليس له ذلك؛ للحديث، ولقول
الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] .
فصل:
ويجب على المتمتع دم لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ
إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] والدم
الواجب شاة أو سبع بدنة؛ للآية. قال أبو حمزة: سألت ابن عباس عن المتعة
فأمرني بها، وسألته عن الدم فقال: فيها جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم.
متفق عليه، ولا يجب الدم إلا بشروط خمسة.
أحدها: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام؛ لقول الله تعالى: {ذَلِكَ
لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:
196] ، وحاضرو المسجد: أهل الحرم، ومن بينه وبينه مسافة القصر؛ لأن الحاضر
القريب، والقريب: دون مسافة القصر.
الثاني: أن يعتمر في أشهر الحج لأن المعتمر في غير أشهره لم يجمع بين
النسكين، فلم يجب عليه دم كالمفرد، ولو أحرم بالعمرة من غير أشهر الحج، وحل
منها في أشهره؛ لم يكن متمتعاً لأن الإحرام نسك لا تتم العمرة إلا به،
ولأنه أتى به من غير أشهر الحج فلم يصر متمتعاً كالطواف.
الثالث: أن يحج من عامه، فإن أخر الحج إلى عام آخر؛ لم يكن متمتعاً لأن
التمتع بالعمرة إلى الحج يقتضي الموالاة بينهما، ولم يوال، فأشبه المعتمر
في غير أشهر الحج.
الرابع: أن لا يسافر بينهما سفر يقصر فيه؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام فهو متمتع، فإن خرج ثم رجع
فليس بمتمتع،
(1/480)
ولأنه إذا سافر لزمه الإحرام من الميقات،
أو من حيث انتهى إليه، فلا يترفه بأحد السفرين، فأشبه المفرد.
الخامس: أن يحل من عمرته، فإن أدخل عليها الحج لم يجب دم المتعة؛ لما روت
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «أهللنا بعمرة فقدمنا مكة وأنا
حائض؛ لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج
ودعي العمرة. قالت: ففعلت، فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم
فاعتمرت معه، فقال: هذه مكان عمرتك فقضى الله حجها وعمرتها ولم يكن في شيء
من ذلك هدي ولا صوم ولا صدقة» . متفق عليه. ولأنه يصير قارناً، أشبه ما لو
أحرم بهما، وذكر القاضي أنه يشترط أن ينوي في ابتداء العمرة أو أثناءها أنه
متمتع؛ لأنه جمع بين عبادتين، فافتقر إلى النية كالجمع بين الصلاتين، وظاهر
الآية يدل على عدم اشتراط هذا؛ لأنه يوجد التمتع بدونه والترفه بترك أحد
السفرين فلزمه دم كما لو نوى.
فصل:
وفي وقت وجوبه روايتان:
إحداهما: إذا أحرم بالحج لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ
إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وبإحرام
الحج يفعل ذلك فيجب الدم.
والثانية: إذا وقف بعرفة؛ لأن الحج لا يحصل إلا به، وهو معرض للفوات قبله
فلا يحصل التمتع، فأما وقت ذبحه فقال أحمد: إن قدم مكة قبل العشر ومعه هدي
نحره عن عمرته؛ لئلا يضيع أو يموت أو يسرق، فإن قدم في العشر لم ينحره حتى
ينحره بمنى؛ لأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدموا
في العشر فلم ينحروا حتى نحروا بمنى، فجوز النحر قبل إحرامه بالحج؛ لأنه حق
مال يتعلق بشيئين فجاز تقديمه على أحد سببيه كالزكاة.
فصل:
فإن لم يجد الهدي فعليه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع؛ لقول الله
تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ
وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] وتعتبر القدرة
(1/481)
في موضعه لأنه موقت له بدل، فاعتبرت قدرته
في وقته كالوضوء، ووقت صيام الثلاثة قبل يوم النحر لقول الله تعالى: {فِي
الْحَجِّ} [البقرة: 196] . والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة؛ ليحصل صومها أو
بعضه بعد إحرام. وإن قدمه على ذلك بعد إحرام العمرة، جاز؛ لأنه وقت جاز فيه
نحر الهدي فجاز فيه الصيام كبعد إحرام الحج، ومعنى قوله: {فِي الْحَجِّ}
[البقرة: 196] أي في وقته. ولا يجوز تقديم النحر ولا الصوم قبل إحرام
العمرة؛ لأنه تقديم له على سببه، فأشبه تقديم الزكاة على النصاب، ويصوم
السبعة إذا رجع إلى أهله للآية، ولما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج
وسبعة إذا رجع إلى أهله» متفق عليه. فإن صامها بعد حجه بمكة أو في طريقه
جاز؛ لأنه صوم واجب جاز تأخيره في حق من يصح منه الصوم فجاز تقديمه، كرمضان
في حق المسافر، ولا يجب التتابع في شيء من صوم المتعة؛ لأن الأمر فيه مطلق
فلم يجب التتابع فيه كقضاء رمضان، فإن لم يصم الثلاث قبل أيام النحر صام
أيام منى في إحدى الروايتين لقول ابن عمر وعائشة: لم يرخص في صوم أيام
التشريق إلا للمتمتع إذا لم يجد الهدي.
والثانية: لا يصومها؛ لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن
صوم أيام التشريق، ويصوم بعد ذلك عشرة أيام. وهل يلزمه لتأخيره دم؟ فيه
روايتان:
إحداهما: يلزمه؛ لأنه أخر الواجب من المناسك عن وقته فلزمه دم كتأخير
الجمار.
والثانية: لا يلزمه دم؛ لأنه صوم واجب يجب القضاء بفواته، فلم يجب عليه
بفواته كفارة كصوم رمضان.
وقال القاضي: إن أخره لغير عذر لتفريطه؛ لزمه، وإن أخره لعذر لم يلزمه وإن
أخر الهدي الواجب لعذر من ضياع نفقة ونحوها فليس عليه إلا قضاؤه كسائر
الهدي الواجب، وإن أخره لغير عذر ففيه روايتان:
إحداهما: لا يلزمه إلا قضاؤه لذلك.
والثانية: عليه هدي آخر؛ لما روي عن ابن عباس أنه قال: من تمتع فلم يهد إلى
قابل يهدي هديين. ولأنه من نسك موقت فوجب بتأخيره دم كالرمي.
فصل:
ومن دخل في الصوم ثم قدر على الهدي؛ لم يلزمه الانتقال إليه؛ لأنه صوم شرع
(1/482)
فيه لعدم الهدي فلم يلزمه الانتقال عنه
كصوم السبعة، وله الانتقال عنه كصوم السبعة، وله الانتقال إليه؛ لأنه الأصل
وهو أكمل. وإن وجب عليه الصوم فلم يشرع فيه حتى قدر على الهدي ففيه
روايتان:
إحداهما: لا يلزمه الهدي؛ لأن الصوم استقر عليه، أشبه الشارع فيه.
والثانية: يلزمه لأنه وجد المبدل قبل شروعه في البدل أشبه الواجد له حال
الوجوب.
فصل:
ويجب على القارن دم؛ لأنه يروى عن ابن مسعود وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -، ولأن القران نوع تمتع فيدخل في عموم الآية، ولأنه ترفه بترك
أحد السفرين فلزمه دم كالمتمتع، ويشترط أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام،
وحكمه حكم دم المتعة فيما ذكرناه.
فصل:
وإذا حاضت المتمتعة قبل الطواف للعمرة فخشيت فوات الحج، أو خشي ذلك غيرها،
أحرم بالحج مع العمرة وصار قارناً لحديث عائشة، ولأنه يجوز إدخال الحج على
العمرة لغير عذر فمع خشية الفوات أولى.
فصل:
وتجزئ عمرة القارن وعمرة المفرد من أدنى الحل عن عمرة الإسلام، وعنه: لا
تجزيان؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة لما
أعمرها أخوها: هذه مكان عمرتك» والصحيح: الأول؛ لقول الصبي بن معبد لعمر
إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما، يعني أهللت بالمكتوبتين.
فقال عمر: هديت لسنة نبيك، ولأنها عمرة صحيحة فكانت مجزئة كعمرة المتمتع
والمكي، ولأن الحج مع تأكيده يجزئ الإحرام به من مكة، فالعمرة من أدنى الحل
أولى، وأما حديث عائشة فهو حجة على إجزاء إحدى العمرتين المختلف فيهما، ولا
حجة فيه على عدم الإجزاء في الأخرى؛ لأنه إنما أعمرها من التنعيم تطييباً
لقلبها لما سألته ذلك، ولم يبدأها به.
فصل:
ويسن للمحرم التلبية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبى
ورفع صوته وأمر برفع الصوت بها، وصفتها: لبيك اللهم لبيك؛ لبيك لا شريك لك
لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك؛ لا شريك لك؛ لما روى ابن عمر أن هذه
تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. متفق عليه. وتجوز
الزيادة عليها لأن عمر زاد: لبيك ذا النعماء والفضل الحسن؛ لبيك مرهوباً
ومرغوباً
(1/483)
إليك؛ لبيك، وزاد ابنه: لبيك وسعديك،
والخير بيديك لبيك، والرغباء إليك والعمل. وزاد أنس لبيك حقاً حقاً تعبداً
ورقاً، وسمعهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم ينكر، ولا
تستحب الزيادة لاقتصار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها.
قال جابر: «وأهل الناس بهذا الذي يهلون، ولزم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلبيته» ، رواه مسلم. ويستحب أن يصلي على النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدها؛ لأنه موضع شرع فيه ذكر الله
تعالى فشرع فيه ذكر رسوله كالأذان، ثم يسأل الله الجنة ويستعيذ من النار،
ويستحب ذكر إحرامه في تلبيته لقول أنس: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لبيك عمرة وحجاً» متفق عليه، وقول ابن عباس:
«قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه وهم يلبون
بالحج» ، قال أحمد: إذا لبى القارن بهما بدأ بالعمرة؛ لحديث أنس. وقال أبو
الخطاب لا يستحب ذكر الإحرام فيها.
فصل:
ويستحب البداءة بالتلبية إذا ركب راحلته؛ لقول ابن عباس، «أوجب رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإحرام حين فرغ من صلاته، فلما ركب
راحلته واستوت به قائمة أهل، أي لبى» ، ويستحب رفع الصوت بها لما روي عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أتاني جبريل فأمرني
أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال» حديث صحيح، ولا يجهد نفسه بذلك
لئلا ينقطع صوته فتنقطع تلبيته، ولا ترفع المرأة صوتها إلا بقدر ما تسمع
رفيقتها؛ لأنه يخاف الافتتان بها، ويستحب الإكثار منها؛ لأنها ذكر، ولأنه
يروى عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما من
مسلم يضحى لله يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه، فعاد كما ولدته أمه»
رواه ابن ماجة، ويتأكد استحبابها في ثمانية مواضع: إذا علا نشزاً أو هبط
وادياً، أو تلبس بمحظور ناسياً، وفي دبر الصلوات المكتوبات وإذا التقت
الرفاق وفي إقبال الليل والنهار وبالأسحار؛ لأن النخعي قال: كانوا يستحبون
التلبية دبر الصلوات المكتوبة، وإذا هبط وادياً وإذا علا نشزاً، وإذا لقي
راكباً، وإذا استوت به راحلته، ولأن في هذه المواضع ترتفع الأصوات، ويكثر
الضجيج، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الحج:
العج والثج» وهو حديث غريب. والعج: رفع الصوت، والثج: إسالة الدماء. وحكم
(1/484)
التلبية دبر الصلاة حكم التكبير في أيام
عيد النحر، وتجزئ التلبية مرة واحدة؛ لعدم الأثر في تكرارها، ولا بأس
بالزيادة؛ لأنها زيادة ذكر، وتستحب التلبية في المسجد الحرام ومنى وسائر
مساجد الحرم وبقاعه؛ لأنها مواضع النسك، ولا يستحب إظهارها في مساجد الحل
وأمصاره؛ لما روي عن ابن عباس أنه سمع رجلاً يلبي بالمدينة، فقال: إن هذا
لمجنون إنما التلبية إذا برزت.
[باب محظورات الإحرام]
وهي تسعة، أحدها: الجماع؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ
الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:
197] ، وقال ابن عباس الرفث: الجماع. وتحرم المباشرة فيما دون الفرج لشهوة؛
لأنه محرم للوطء فحرم المباشرة لشهوة كالصيام، ويحرم عليه النظر لشهوة؛
لأنه نوع استمتاع فأشبه المباشرة.
فصل:
الثاني: عقد النكاح؛ لا يجوز للمحرم أن يعقده لنفسه ولا لغيره، ولا يجوز
عقده لمحرم، ولا على محرمة؛ لما روى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ينكح المحرم
ولا ينكح ولا يخطب» ، رواه مسلم. ولأن الإحرام يحرم الطيب فحرم النكاح
كالعدة، وإن فعل فالنكاح باطل؛ لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولا
(1/485)
بأس بالرجعة؛ لأنها إمساك للزوجة، بدليل
قول الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] .
(1/486)
ولأنها تجوز بغير ولي ولا شهود، ولا إذنها،
فلم تحرم كإمساكها بترك الطلاق.
وعنه: لا يحل لأنه عقد وضع لإباحة البضع، أشبه النكاح. ويجوز أن يشهد في
النكاح لأن العقد الإيجاب والقبول، وليس للشاهد فيهما شيء. وتكره الخطبة
للمحرم وخطبة المحرمة؛ للخبر، ولا يجب بالتزويج فدية؛ لأنه عقد فسد للإحرام
فأشبه شراء الصيد.
فصل:
الثالث: قطع الشعر؛ لقول الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى
يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . نص على حلق الرأس، وقسنا
عليه سائر شعر البدن؛ لأنه يتنظف ويترفه به، فأشبه حلق الرأس، وقص الشعر
وقطعه ونتفه كحلقه، ولا يحرم عليه حلق شعر الحلال؛ لأنه لا يترفه بذلك. وإن
خرج في عينه شعر أو استرسل شعر حاجبيه فغطى عينيه، فله إزالته ولا فدية
عليه؛ لأن الشعر آذاه فكان له دفع أذاه من غير فدية كالصيد، وإن كان الأذى
من غير الشعر، كالقمل فيه، والقروح برأسه، أو صداع، أو شدة الحر عليه لكثرة
شعره فله إزالته، وعليه الفدية؛ لما نذكره، ولأنه فعل المحرم لدفع ضرر
غيره، فلزمته الفدية، كما لو قتل الصيد لمجاعة، بخلاف من آذاه الشعر.
فصل:
الرابع: تقليم الأظافر، يحرم لأنه جزء ينمى، ويترفه بإزالته، أشبه الشعر،
وإن
(1/487)
انكسر ظفره فله إزالته ولا فدية عليه
كالشعر المؤذي، وإن قص أكثر مما انكسر فعليه فديته، وإن احتاج إلى مداواة
قرحة لا يمكنه مداواتها إلا بقص ظفره فعل، وعليه الفدية، كحالق الرأس دفعاً
لأذى قمله.
فصل:
الخامس: لبس المخيط، يحرم عليه لبس كل ما عمل للبدن على قدره أو على قدر
عضو منه، كالقميص والبرنس والسراويل والخف؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلاً قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يلبس القميص ولا
العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحداً لا يجد نعلين
فيلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب شيئا مسه
زعفران أو ورس» متفق عليه، وسواء في هذا ما كان من خرق أو جلد، مخيط بالإبر
أو ملصق بعضه ببعض؛ لأنه في معنى المخيط، والتبان والران كالسراويل؛ لأنه
في معناه وإن شق الإزار، وجعله ذيلين شدهما على ساقيه؛ لم يجز؛ لأنه
كالسراويل، وتجب الفدية باللبس؛ لأنه محرم في الإحرام فتعلقت به الفردية
كالحلق، ولا يجوز له عقد ردائه عليه؛ لأن ابن عمر قال: لا تعقد عليك شيئاً،
ولأنه يصير بالعقد كالمخيط، ولا يجوز له أن يزره عليه، ولا يخله بشوكة ولا
غيرها، ولا يغرز طرفيه في إزاره؛ لأنه في معنى عقده، وله أن يعقد إزاره؛
لأنه يحتاج إليه لستر العورة، ولذلك جاز للمرأة لبس المخيط في إحرامها
لكونها عورة، وله أن يشد وسطه بعمامة أو حبل، ولا يعقده، ولكن يدخل بعضه في
بعض، وله أن يلبس الهميان الذي فيه نفقته، ويدخل السيور بعضها في بعض، فإن
لم يثبت عقده؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أوثق عليه نفقتك،
ولأن هذا مما تدعو الحاجة إلى عقده فجاز كالإزار، فأما المنطقة وما لا نفقة
فيه، فلا يجوز عقده لعدم الحاجة إليه، فإن احتاج إلى عقد المنطقة؛ لوجع
ظهره، فعل وفدى، نص عليه؛ لأن هذا نادر، فأشبه حلق الشعر لوجع الرأس.
فأما القباء ونحوه فقال الخرقي: يطرحه على كتفيه، ولا يدخل يديه في كميه؛
لأنه لا يحيط ببدنه، أشبه الاتشاح بالقميص.
وقال القاضي: عليه الفدية؛ لأنه لبس المخيط على العادة في لبسه، فلزمه
الفدية، كما لو أدخل يديه في كميه. ومن لم يجد إزاراً، فله لبس السراويل
ولا فدية عليه؛ لما روى ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين
فليلبس الخفين» متفق عليه. ومن عدم الرداء لم يبح له لبس القميص؛ لأنه
يمكنه أن يرتدي به على صفته، ولا يمكن أن يتأزر بالسراويل، ومتى وجد الإزار
لزمه
(1/488)
خلع السراويل للخبر. ويحرم على المحرم لبس
الخفين للخبر، فإن لم يجد نعلين؛ لبس خفين، ولا يقطعهما، ولا فداء عليه؛
لحديث ابن عباس، وعنه: لا يلبسهما حتى يقطعهما أسفل من الكعبين، فإن فعل
افتدى؛ لأن في حديث ابن عمر زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، وإن لبس خفاً
مقطوعاً مع وجود النعل، فعليه الفدية للخبر، وليس له لبس الجمجم، واللالكة
في ظاهر كلام أحمد؛ لأنه في معنى الخف المقطوع، فإن لم يجد النعلين، فله
لبس ذلك من غير فداء كالخفين.
قال أحمد: لا يلبس نعلاً لها قيد، وهو السير المعترض على الزمام، ويقطع
العقب يعني الشراك.
قال القاضي: إذا كانا عريضين يستران القدم فلا فدية فيه؛ لأن حكمهما أخف من
حكم الخف، وقد أباح لبسه عند عدم النعل من غير قطع، فها هنا أولى.
ومن وجد نعلاً لا يمكنه لبسها لبس الخف، وافتدى، نص عليه؛ لأن إسقاط الفدية
مشروط بعدم النعل، والقياس أنه لا فدية عليه؛ لأن العجز كالعدم في الانتقال
إلى البدل، وقد قام مقامه هاهنا في الجواز، فكذلك في سقوط الفدية. فأما
المحرمة، فلها لبس المخيط كله، إلا النقاب والقفازين والبرقع وشبهه؛ لما
روى ابن عمر أنه «سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى
النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب، وما مس الورس والزعفران من الثياب،
ولتلبس بعد ما أحبت من ألوان الثياب، من معصفر، أو خز، أو حلي، أو سراويل،
أو قميص أو خف» . رواه أحمد بإسناده.
وروى البخاري منه: «لا تتنقب المرأة، ولا تلبس القفازين» . ولأن إحرام
المرأة في وجهها فحرم عليها تغطيته. وإن احتاجت إلى سترة، سدلت على وجهها
من فوق رأسها ما يستره؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها
قالت: «كان الرجال يمرون بنا ونحن مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - محرمات، فإذا حاذونا، سدلت إحدانا جلبابها على رأسها، فإذا
جاوزونا كشفناه» . رواه أبو داود.
قال القاضي: ويكون ما تسدله متجافياً، ولا يصيب البشرة، قال الشيخ -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولم أجد هذا عن أحمد، ولا في الحديث، والظاهر أنه غير
معتبر.
(1/489)
فصل:
السادس: تغطية الرأس؛ لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن
لبس العمائم، ولقوله في الذي مات محرماً «لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم
القيامة ملبياً» ويحرم تغطية بعضه؛ لأن النهي تناول جميعه، ولا يجوز أن
يعصبه بعصابة ولا سير، ولا يجعل عليه شيئاً يلصق به، سواء كان فيه دواء، أو
لا دواء فيه، ولا يطينه بطين ولا حناء، ولا دواء يستره؛ لأنه نوع تغطية،
وفيه الفداء لما ذكرنا في اللباس. فإن حمل عليه طبقاً، أو وضع يده عليه،
فلا بأس؛ لأنه لا يقصد به الستر، ولو ترك فيه طيباً قبل إحرامه؛ لم يمنع من
استدامته؛ لقول عائشة: «كأني أنظر إلى وبيص الطيب في رأس رسول الله وهو
محرم» ، ولا يمنع من تلبيده بصمغ، وعسل؛ ليتلبد ويجتمع الشعر، فإن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني لبدت رأسي» وهو
محرم. متفق عليه، ولا يمنع من تغطية وجهه؛ لأن عثمان وسعداً وعبد الرحمن بن
عوف وزيد بن ثابت أجازوه، وعنه: يمنع منه؛ لأنه في بعض لفظ حديث ابن عباس
في الميت المحرم، «ولا تخمروا وجهه ولا رأسه» متفق عليه وفي تظليل المحمل
روايتان:
إحداهما: ليس له أن يتظلل به؛ لأن ابن عمر قال: اضح لمن أحرمت له، أي: ابرز
للشمس، ولأنه ستر رأسه بما يقصد به الترفه، أشبه تغطيته، وتلزمه الفدية؛
لما ذكرنا.
والثانية: له أن يتظلل؛ لأنه ليس بمباشر للرأس، أشبه الخيمة، وله أن يتظلل
بثوب على عود؛ لما روت أم الحصين قالت: «حججت مع رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ
بخطام ناقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والآخر رافع ثوبه
يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة» . رواه مسلم. ولا بأس بالتظلل بالخيمة
والسقف والشجرة وأشباه ذلك؛ لأنه لا يلازمه، أشبه ظل الجبال والحيطان.
فصل:
السابع: الطيب، يحرم عليه استعماله في بدنه وثيابه؛ لقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الميت المحرم «ولا تقربوه طيباً» وقوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو
زعفران» وتجب به الفدية لما ذكرنا في اللباس، ويحرم عليه المبخر بالطيب
والمصبوغ به، قياساً على المزعفر، ولا يجوز أن يأكل طيباً، ولا يكتحل به،
ولا يستعط به، ولا يحتقن به؛ لأنه استعمال للطيب، وإن كان في الطعام طيب
يظهر ريحه؛ لم يجز أكله لأنه يأكل طيباً، وإن لم يظهر له ريح جاز أكله، وإن
ظهر لونه، وإن ظهر طعمه فظاهر كلام أحمد المنع منه؛ لأن الطعم لا يكاد ينفك
عن الرائحة، وإن
(1/490)
لبس ثوباً كان مطيباً فانقطع ريحه، وكان
بحيث إذا رش فيه ماء فاح ريحه، فعليه الفدية لأنه مطيب، وإلا فلا، وإن فرش
فوق المطيب ثوب صفيق يمنع الرائحة والمباشرة، فلا فدية عليه بالنوم عليه،
وإن كان الحائل بينهما ثياب بدنه، فعليه الفدية؛ لأنه يمنع من استعمال
الطيب في ثيابه، كما يمنع منه في بدنه. والطيب كل ما يتطيب به، أو يتخذ منه
طيب، كالمسك والكافور والعنبر والزعفران والورس والورد والبنفسج، والأدهان
المطيبة بشيء من ذلك، كدهن الورد والبنفسج والخيري والزنبق ونحوها.
وفي الريحان الفارسي روايتان:
إحداهما: ليس بطيب؛ لأن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في
المحرم: يدخل البستان ويشم الريحان، ولأنه إذا يبس ذهبت رائحته أشبه بنت
البرية.
والثانية: هو طيب؛ لأنه يتخذ للطيب، أشبه الورد في سائر النبات الطيب
الرائحة الذي لا يتخذ منه طيب كالمرزنجوش والنرجس والبرم، وجهان قياساً على
الريحان، وقال أبو الخطاب: في الورد والخيري والبنفسج والياسمين روايتان،
كالريحان، والصحيح أنه طيب؛ لأنه يتخذ منه طيب، فهو كالزعفران، فأما نبت
البرية، كالشيح والقيصوم والإذخر والخزامى والفواكه كالأترج والتفاح
والسفرجل والحناء، فليس بطيب؛ لأنه لا يقصد للطيب ولا يتخذ منه طيب، فأشبه
العصفر، وقد ثبت أن العصفر ليس بطيب؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «ولتلبس ما شاءت من ألوان الثياب من معصفر» وكان أزواج رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحرمن في المعصفرات، وإن مس
المحرم طيباً يعلق بيده، فعليه الفدية؛ لأنه طيب يده، وإن مس ما لا يعلق
بيده، كقطع الكافور والعنبر فلا فدية؛ لأنه لم يتطيب، وإن شمه فعليه
الفدية؛ لأنه يستعمل هكذا، وإن شم العود فلا فدية عليه؛ لأنه لا يستعمل
هكذا ولا تقصد رائحته، وإن تعمد لشم الطيب، مثل أن دخل الكعبة، وهي تجمر،
أو حمل مسكاً ليشم رائحته، أو جلس عند العطار لذلك، فعليه الفدية؛ لأنه شمه
قاصداً له، مبتدئاً به في الإحرام، فأشبه ما لو باشره، وإن لم يقصد ذلك،
كالجالس عند العطار لحاجة أخرى، أو دخل الكعبة ليتبرك بها أو حمل الطيب من
غير مس للتجارة، فلا يمنع منه؛ لأنه لا يمكن التحرز منه فعفي عنه.
فصل:
الثامن: الصيد، حرام صيده وقتله وأذاه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:
95]
(1/491)
وقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ
الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] . فإن أخذه لم يملكه؛ لأن ما
حرم لحق غيره؛ لم يملكه بالأخذ من غير إذنه، كمال غيره، وعليه إرساله من
موضع يمتنع فيه، فإن تلف من يده ضمنه كمال الآدمي، وإن كان الصيد لآدمي،
فعليه رده إليه؛ لأنه غصبه منه، ويحرم عليه تنفيره؛ لقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكة: «لا ينفر صيدها» متفق عليه. وهذا في
معناه، فإن نفره، فصار إلى شيء هلك به، ضمنه؛ لخبر عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -، ولأنه هلك بسبب من جهته، فأشبه من نصب له شركاً فهلك به. ويحرم
عليه الإعانة على قتله، بدلالة، بقول أو إشارة، أو إعارة آلة؛ لما «روى أبو
قتادة أنه كان مع أصحاب له، محرمين وهو لم يحرم، فأبصرو حماراً وحشياً،
وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبوا لو أني أبصرته، فركبت ونسيت
السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، قالوا: والله لا نعينك
عليه» . وهذا يدل على اعتقادهم تحريم الإعانة عليه، ولما سألوا النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «هل منكم أحد أمره أن يحمل
عليها، أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمها» متفق عليه.
ولأن ما حرم قتله حرمت الإعانة عليه، كالآدمي، فإن فعل فقتله حلال فالجزاء
على المحرم؛ لأن ذلك يروى عن علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -،
ولأن فعله سبب إتلافه، فتعلق به الضمان كتنفيره، وإن قتله محرم آخر،
فالجزاء بينهما، وإن كان المدلول رأى الصيد قبل الدلالة، فلا شيء فيها؛
لأنها لم تكن سبباً لإتلافه، وإن ضحك المحرم عند رؤية الصيد ففطن الحلال،
فلا شيء فيه؛ لأن في حديث أبي قتادة: «فبينا أنا مع أصحابي فضحك بعضهم،
فنظرت فإذا حمار وحش» .
وفي رواية: «إذ أبصرت بأصحابي يتراؤون شيئاً فنظرت فإذا حمار وحش» ، ويحرم
عليه الأكل مما أشار عليه أو أعان عليه، أو كان له أثر في ذبحه، مثل أن
يعيره سكيناً؛ لحديث أبي قتادة، ويحرم عليه أكل ما صاده، أو صيد لأجله؛ لما
روى جابر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
«صيد البر لكم حلال، ما لم تصيدوه أو يصاد لكم» قال الترمذي: هذا أحسن حديث
في الباب. ويباح أكل ما عدا ذلك للحديثين، فإن أكل مما منع من أكله مما
لزمه ضمانه كالذي صاده، أو دل عليه؛ لم يضمنه بالأكل لأنه قد ضمنه بالقتل،
فلم يضمنه بالأكل كشاة غيره، وكذلك إن وجب على غيره ضمانة، وإن لم يكن ضمن
بالقتل، كالذي صاده حلال من أجله، ضمنه بالأكل بمثله لحماً؛ لأنه إتلاف جزء
للصيد، حرمه الإحرام، فتعلق به الضمان، كإتلاف أجزاء الحي، وإن ذبح المحرم
الصيد، حرم على كل أحد؛ لأنه منع من الذبح لحق الله، فلم يبح ذبحه
كالمجوسي، وما حرم عليه لدلالة، أو إعارة آلة، أو صيد من أجله؛ لم يحرم على
الحلال؛ لأن لا فعل منه فيه.
(1/492)
فصل:
ويحرم عليه شراء الصيد واتهابه؛ لما روى ابن عباس، «أن الصعب بن جثامة،
أهدى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حماراً وحشياً، فرده
عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» متفق عليه،
ولأنه سبب يتملك به الصيد، فلم يملكه به المحرم، كالاصطياد، ومتى ملك الصيد
بجهة محرمة، حتى حل؛ لم يبح له، وعليه إرساله، فإن تلف أو أتلفه فعليه
فداؤه؛ لأنه تلف بسبب كان في إحرامه فضمنه كما لو جرحه فمات بعد حله، وإن
ذبحه بعد التحلل لم يبح عند القاضي؛ لأنه صيد لزمه ضمانه، فلم يبح ذبحه،
كحلال الإحرام.
وقال أبو الخطاب: يباح؛ لأنه ذبحه في حال حله، فأبيح كغيره، وإن أحرم وفي
ملكه صيد؛ لم يزل ملكه عنه؛ لأنه ملك فلا يزول بالإحرام، كملك البضع، وله
بيعه وهبته، وإن كان في يده المشاهدة أو قفص أو حبل معه، فعليه إرساله، فإن
لم يفعل فأرسله إنسان، فلا ضمان عليه؛ لأنه ترك فعل الواجب، فإن ترك حتى
تحلل، فحكمه حكم ما صاده، قال في الشرح: فملكه باق عليه، وإن مات من يرثه
وله صيد، ورثه؛ لأن الملك بالإرث يثبت حكماً، بغير اختياره، ويثبت للصبي
والمجنون، فأشبه استدامة الملك، ويحتمل أن لا يملكه؛ لأنه ابتداء ملك فأشبه
الشراء.
فصل:
والصيد المحرم: ما جمع صفات ثلاث:
أحدها: أن يكون من صيد البر؛ لأن صيد البحر حلال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] وصيد البحر
ما يفرخ فيه ويأوي إليه، فأما طير الماء فهو من صيد البر المحرم لأنه يتعيش
في البحر ولا يعيش فيه، وفي الجراد الجزاء لأن ذلك يروى عن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه لا يعيش إلا في البر فهو كسائر الطير، وعنه: لا
جزاء فيه؛ لأنه يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه من صيد
البحر، ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طريق
ضعيف.
الثاني: أن يكون وحشياً، فأما الأهلي كبهيمة الأنعام، والدجاج، فليس بمحرم؛
لأنه ليس بصيد، ولذلك يذبح الهدايا والأضاحي، والاعتبار في ذلك بالأصل لا
بالحال، فلو تأنس الوحشي كحمار الوحش والغزال والحمام لم يحل وفيه الجزاء،
ولو توحش الإنسي لم يحرم.
(1/493)
الثالث: أن يكون مباحاً، فلا يحرم قتل غيره
بالإحرام ولا جزاء فيه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«خمس من الدواب ليس على المحرم جناح في قتلهن: الحدأة والغراب والعقرب
والفأرة والكلب العقور» متفق عليه. فثبت إباحة هذه الخمس بالنص، وقسنا
عليهن ما في معناهن مما فيه أذى، فأما غير المأكول مما لا أذى فيه، فيكره
قتله ولا جزاء فيه؛ لأن الصيد ما كان مأكولاً، إلا أن ما تولد بين مأكول
وغيره، كالسمع وهو ولد الضبع من الذئب، والعسبار: ولد الذئبة من الضبع،
يحرم قتله وفيه الجزاء تغليباً لحرمة القتل، كما غلبت فيه حرمة الأكل.
والمتولد بين أهلي ووحشي يحرم قتله وفيه الجزاء تغليباً للتحريم، وفي
الثعلب الجزاء، مع الخلاف في أكله، تغليباً للتحريم، وفي القمل روايتان:
إحداهما: لا شيء فيه لتحريم أكله وأذاه فهو كالبراغيث.
والثانية: فيه الجزاء لأنه يترفه بإزالته، وأي شيء تصدق به كان خيراً منه.
قال القاضي: وإنما الروايتان في ما ألقاه من شعره، أما ما ألقاه من ظاهر
بدنه أو ثوبه، فلا شيء فيه رواية واحدة لشبهه بالبراغيث.
فصل:
وما حرم من الصيد، حرم كسر بيضه؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «قال في بيض النعام، يصيبه المحرم: يضمنه» رواه
الدارقطني. ولأنه خارج من الصيد يصير منه مثله فهو كالفرخ، وإن كسر بيضاً
لم يحل أكله، ولا يحرم على حلال؛ لأنه لا يحتاج إلى زكاة. وقال القاضي:
يحرم على كل أحد قياساً على الصيد، وإن كسر بيضاً مذراً فلا شيء عليه؛ لأنه
ليس بحيوان ولا يخلق منه حيوان فهو كالأحجار، قال أصحابنا: إلا بيض النعام
فإن لقشره قيمة، والأول أولى. وإن نقل بيض صيد فجعله تحت آخر فحضنه وأفرخ،
فلا شيء عليه، وكذلك إن كسره فخرج منه فراخ فعاشت، وإن لم تعش الفراخ أو لم
تحضنه، أو ترك مع بيضه شيئاً نفر من الصيد فلم يحضنه، ضمنه؛ لأنه أتلفه،
وإن باض في طريقه أو على فراشه، فنقله فلم يحضنه الصيد حتى تلف ففيه وجهان:
أحدهما: يضمنه؛ لأنه أتلفه لمصلحته فأشبه ما لو قتله للمجاعة.
والثاني: لا شيء عليه؛ لأنه ألجأه إلى إتلافه فأشبه ما لو صال عليه صيد
فدفعه فقتله، وإن افترش الجراد في طريقه فقتله بالمشي عليه ففي الجزاء
وجهان كذلك.
فصل:
وإن احتاج المحرم إلى لبس المخيط، أو تغطية رأسه، أو الطيب لمرض، أو شدة
(1/494)
حر، فعله، وعليه الفدية، قياساً على الحلق،
وإن اضطر إلى الصيد فله أكله وعليه جزاؤه؛ لأنه أتلفه لمصلحته فأشبه ما
ذكرناه، وإن صال عليه صيد فقتله دفعاً عن نفسه فلا جزاء فيه؛ لأنه حيوان
قتله لدفع شره فلم يضمنه كالآدمي.
وقال أبو بكر: عليه الجزاء لأنه قتله لمصلحة نفسه، فأشبه ما لو قتله لأكله
والأول أصح. وإن خلص صيداً من سبع أو شبكة ليرسله فتلف ففيه وجهان:
أحدهما: يضمنه؛ لأنه تلف بفعله فيضمنه كالمخطئ.
والثاني: لا يضمنه؛ لأنه تلف بفعل مباح لمصلحته فلم يضمنه، كالآدمي يتلف
بمداواة وليه.
فصل:
يكره للمحرم حك شعره بأظفاره كيلا ينقطع، فإن انقطع به شعره لزمته فديته،
ويكره الكحل بالإثمد غير المطيب؛ لأنه زينة، والحاج أشعث أغبر، وهو في حق
المرأة أشد كراهة؛ لأنها محل الزينة ولا فدية فيه؛ لأن وجوبها من الشارع،
ولم يرد بها ههنا، ويكره لبس الخلخال، والتزين بالحلي لذلك، وهو مباح لحديث
ابن عمر، ويكره أن ينظر في المرآة لإصلاح شيء لأنه نوع تزين، ويكره أن يدهن
بدهن غير مطيب لذلك، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في جوازه روايتان،
إلا أنه يحتمل أن تختص الروايتان بدهن الشعر؛ لأنه يذيل الشعث، ويسكن
الشعر، ويزينه، ويباح التدهن في غيره؛ لأن للمحرم أكل الدهن فكان له أن
يدهن به. وقد روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن «النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادهن بدهن غير مقتت» ، أي: غير مطيب، يعني
وهو محرم [والأولى أصح] . إلا أنه من رواية فرقد وهو ضعيف. ولا فدية فيه
بحال لما ذكرنا، وينبغي أن ينزه إحرامه عن الكذب والشتم والكلام القبيح
والمراء لقول الله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا
فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] قال ابن عباس: الفسوق:
المنابزة بالألقاب، وتقول لأخيك: يا فاسق يا ظالم، والجدال: أن تماري صاحبك
حتى تغضبه. وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» متفق عليه.
ويستحب له قلة الكلام إلا فيما ينفع؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من حسن إسلام المرء
(1/495)
تركه ما لا يعنيه» ففي حال الإحرام والتلبس
بطاعة الله تعالى والاستشعار بعبادته أولى.
فصل:
ولا بأس أن يغتسل المحرم بالماء والسدر والخطمي ولا فدية عليه. وعنه: عليه
الفدية، والأول أصح؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
الميت المحرم: «اغسلوه بماء وسدر» . وقال عبد الله بن حنين: «امترى ابن
عباس والمسور بن مخرمة في غسل المحرم رأسه، فأرسلوني إلى أبي أيوب
الأنصاري، أسأله كيف رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يغسل رأسه وهو محرم؟ قال: فصب على رأسه مقبلاً ومدبراً وقال: هكذا رأيت
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل» . متفق عليه. ويجوز
أن يحتجم ولا يقطع شعراً؛ لما روى ابن عباس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو محرم.» متفق عليه.
ويجوز أن يفتصد، كما يجوز أن يحتجم، ويتقلد بالسيف عند الضرورة؛ لأن أصحاب
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخلوا في عمرة القضية،
متقلدين سيوفهم، ولا بأس بالتجارة والتكسب والصناعة؛ لقول الله تعالى:
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ}
[البقرة: 198] . قال ابن عباس: كان ذو المجاز وعكاظ متجراً للناس في
الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في مواسم
الحج. رواه البخاري.
فصل:
ومن جامع، أفسد حجه وعليه بدنة، سواء كان عالماً أو جاهلاً، عامداً أو
ناسياً؛ لأنه في معنى يتعلق به قضاء الحج، فاستوى عمده وسهوه، كالفوات. وإن
حلق أو قلم ناسياً أو جاهلاً، فعليه الفدية؛ لأنه إتلاف، فاستوى عمده
وسهوه، كإتلاف مال الآدمي. ويتخرج أن لا فدية عليه، قياساً على اللبس، وإن
قتل الصيد مخطئاً، فعليه جزاؤه؛ لأنه ضمان مال، فأشبه ضمان مال الآدمي.
وعنه: لا جزاء عليه؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] .
(1/496)
مفهومه أن لا شيء في الخطأ، وإن تطيب ولبس ناسياً أو جاهلاً، فلا فدية
عليه؛ لما روى يعلى بن أمية: «أن رجلاً أتى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه جبة، وعليه أثر خلوق، فقال: يا رسول الله كيف
تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ قال: اخلع عنك هذه الجبة، واغسل عنك أثر الخلوق،
واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك» متفق عليه. . ولم يأمره بفدية لجهله،
وقسنا عليه الناسي؛ لأنه في معناه، وعنه: عليه الفدية؛ لأنه فعل حرمه
الإحرام، فاستوى عمده وسهوه كالحلق، والأول: المذهب. والحلق إتلاف لا يمكن
تلافيه، ومتى ذكر الناسي أو علم الجاهل، فعليه إزالة ذلك، فإن استدامه
فعليه الفدية؛ لأنه تطيب ولبس من غير عذر فأشبه المبتدئ به. وحكم المكره
حكم الناسي؛ لأنه أبلغ منه في العذر.
وإن مس طيباً يظنه يابساً فبان رطباً، ففيه وجهان:
أحدهما: عليه الفدية؛ لأنه قصد مس الطيب.
والثاني: لا فدية عليه؛ لأنه جهل تحريمه، فأشبه من جهل تحريم الطيب. ومن
طيب أو حلق رأسه، بإذنه فالفدية عليه؛ لأن ذلك ينسب إليه، وإن حلق رأسه
مكرهاً أو نائماً، فالفدية على الحالق؛ لأنه أمانة عنده فالفدية على من
أتلفه بغير إذنه، كالوديعة. وإن حلق وهو ساكت لم ينكر، فالفدية عليه، كما
لو أتلف الوديعة وهو يقدر على حفظها فلم يفعل، وإن كشط من جلده قطعة عليها
شعر، أو قطع إصبعاً عليها ظفر، فلا فدية عليه؛ لأنه زال تبعاً لغيره، فلم
يضمنه، كما لو قطع أشفار عيني إنسان، فإنه لا يضمن أهدابها. |