الكافي
في فقه الإمام أحمد [باب الفدية في
الحج]
باب الفدية
من حلق رأسه وهو محرم، فعليه ذبح شاة، أو إطعام ثلاثة آصع لستة مساكين؛ لكل
مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ
مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ
أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وروى كعب بن عجرة عن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لعلك تؤذيك هوام رأسك؟ قال:
نعم يا رسول الله. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع تمر، أو
نسك شاة» متفق عليه، وسواء حلق لعذر أو غيره. وعنه: فيمن
(1/497)
حلق لغير عذر، عليه الدم، من غير تخيير؛
لأن الله تعالى خير بشرط العذر فإن عدم الشرط، زال التخيير، والأول أولى؛
لأن الحكم ثبت من غير عذر المعذور تبعاً له، والتبع لا يخالف أصله، وإنما
الشرط لإباحة الحلق؛ لا التخيير، وفي حلق أربع شعرات ما في حلق الرأس كله؛
لأنها كثير، فتعلقت بها الفدية كالكل، وفي الثلاث روايتان:
إحداهما: هي كالكل، قال القاضي: هو المذهب لأنه يقع عليها، اسم الجمع
المطلق، فهي كالأربع.
والثانية: لا يجب فيها ذلك، وهي اختيار الخرقي. لأن الثلاث آخر القلة، وآخر
الشيء منه.
وفيما دون ذلك ثلاث روايات:
إحداهن: في كل شعرة مد من طعام؛ لأن الله تعالى عدل الحيوان بالطعام هاهنا
وفي الصيد، وأقل ما يجب منه مد من طعام فوجب.
والثانية: قبضة من طعام؛ لأنه لا تقدير له في الشرع، فيجب المصير إلى
الأقل؛ لأنه اليقين.
والثالثة: درهم؛ لأن إيجاب جزء من الحيوان يشق، فصرنا إلى قيمته وأقل ذلك
درهم، وإزالة الشعر بالقطع والنتف والنورة وغيرها كحلقه؛ لأنها في معناه،
والأظفار كالشعر في الفدية؛ لأنها في معناها، وفي بعض الشعرة أو الظفر ما
في جميعه، كما أن في القصيرة مثل ما في الطويلة، وإن حلق شعر رأسه وبدنه،
فعليه فدية واحدة؛ لأنه جنس واحد فأجزأته فدية واحدة، كما لو لبس عمامة
وقميصاً، وهذا اختيار أبي الخطاب.
وحكي رواية أخرى: أن عليه فديتين، اختاره القاضي؛ لأن حلق الرأس يتعلق به
نسك، دون شعر البدن فيخالفه في الفدية، ومن أبيح له الحلق، فهو مخير في
الفدية قبله وبعده كما يتخير في كفارة اليمين، قبل الحنث وبعده.
فصل:
ومن لبس أو غطى رأسه أو تطيب، فعليه الفدية، مثل حلق رأسه؛ لأنه في معناه،
فقسناه عليها، وإذا لبس عمامة وقميصاً وسراويل وخفين، فعليه فدية واحدة؛
لأنه جنس واحد فأشبه ما لو طيب رأسه وبدنه، وإن لبس وتطيب وحلق وقلم، فعليه
لكل جنس فدية؛ لأنها أجناس مختلفة، فلم تتداخل كفاراتها بالأيمان والحدود،
وعنه: إن فعل
(1/498)
ذلك دفعة واحدة، ففديته واحدة؛ لأن الكل
محظور فأشبه اللبس في رأسه وبدنه. وإن كرر محظوراً واحداً فلبس ثم لبس، أو
تطيب ثم تطيب، أو حلق ثم حلق، ففدية واحدة، ما لم يكفر عن الأول قبل فعل
الثاني.
وعنه: إن فعله لأسباب، مثل من لبس أول النهار للبرد، ووسطه للحر، وآخره
للمرض ففديات؛ لأن أسبابه مختلفة، فأشبه الأجناس المختلفة، والأول أولى؛
لأن الحكم يتعلق بالمحظور لا بسببه، فأشبه الحالف بالله ثلاثة أيمان، على
شيء واحد؛ لأسباب مختلفة، وقليل اللبس والطيب وكثيره سواء، وحكم كفارة
الوطء في التداخل مثل ما ذكرنا؛ لأنها ليست ضماناً.
فأما جزاء الصيد، فلا تداخل فيه، وكلما قتل صيداً حكم عليه.
وعنه: أنه يتداخل، كسائر الكفارات.
وعنه: لا يجب الجزاء، إلا في المرة الأولى؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ عَادَ
فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] ولم يذكر جزاء، والأول المذهب؛
لقول الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:
95] . وهذا يقتضي كل قاتل، ومثل الصيدين، أكثر من مثل واحد، ولأنه ضمان مال
يختلف باختلافه فوجب في كل مرة، كضمان مال الآدمي.
قال أحمد: روي عن عمر وغيره أنهم حكموا في الخطأ، وفيمن قتل ولم يسألوه، هل
كان قتل قبل هذا أم لا؟ .
فصل:
وإذا وطئ المحرم، في الفرج، في الحج، قبل التحلل الأول، فعليه بدنة؛ لأن
ذلك يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وسواء كان الفرج قبلاً أو
دبراً، من آدمي أو من بهيمة؛ لأنه وطء في فرج، أشبه وطء الآدمية، وإن وطئت
المحرمة مطاوعة، فعليها بدنة؛ لأنها أفسدت حجها بالجماع فوجبت عليها البدنة
كالرجل، وإن وطئ الرجل محرمة مطاوعة، فعلى كل واحد منهما بدنة لأن ابن عباس
قال للمجامع: اهد ناقة، ولتهد ناقة، ولأنه إفساد حج شخصين فأوجبت بدنتين
كالوطء من رجلين.
وعنه: يجزئهما هدي واحد؛ لأنه جماع واحد، فأشبه ما لو أكرهها، فإن وطئها
نائمة، أو مكرهة، ففيها روايتان:
(1/499)
إحداهما: أن الواجب هدي واحد عليه دونها؛
لأنها معذورة؛ لم يلزمها كفارة، كالمكرهة على الوطء في الصيام.
والثانية: يجب هديان؛ لأنه إفساد حج اثنين، فعلى هذا يحتمل الرجل عنها؛ لأن
الإفساد وجد منه، فكان موجبه عليه، كما تجب عليه نفقة قضائها، ويحتمل أن
تكون عليها؛ لأنها وجبت لفساد حجها، وإن وطئ في العمرة، أو وطئ في الحج بعد
التحلل الأول، فعليه شاة؛ لأنه فعل محظور لم يفسد حجاً، فلم يوجب بدنة،
كالقبلة.
ومتى وطئ المحرم دون الفرج، أو قبل أو لمس لشهوة، فلم ينزل، فعليه شاة لأنه
فعل محرم بالإحرام؛ لم يفسد الحج، فوجبت به الشاة كالحلق، وإن أنزل فعليه
بدنة؛ لأنه استمتاع، بالمباشرة أوجب الغسل، فأوجب البدنة كالوطء في الفرج،
وإن نظر فلم ينزل، فلا شيء عليه. وإن نظر فصرف بصره فأنزل، فعليه شاة، وإن
كرر النظر حتى أنزل ففيه روايتان:
إحداهما: شاة، يروى ذلك عن ابن عباس، ولأنه ليس بمباشرة، فلم يوجب البدنة،
كما لو صرف بصره.
والثانية: فيه بدنة، اختارها الخرقي لأنه إنزال باستمتاع، فأوجب البدنة
كالمباشرة، وإن فكر فأنزل، فلا شيء عليه؛ لما ذكرنا في الصوم، وإن أمذى في
هذه المواضع، فهو كمن لم ينزل؛ لأنه خارج؛ لا يوجب الغسل أشبه البول.
فصل:
ومن لزمته بدنة، أجزأته بقرة؛ لأن جابراً قال: وهل هي إلا من البدن، ولأنها
تقوم في الأضاحي والهدايا مقامها، فكذا هاهنا، ويجزئه سبع من الغنم لذلك،
وإن لم يجد هدياً، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، ولأن ابن
عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو، قالوا للواطئين: اهديا هدياً، فإن لم
تجدا فصوما، ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعتم، وهم الأصل في ثبوت حكم
الوطء، وإليهم المرجع فيه، فكذا في بدله، وقال أصحابنا: تقوم البدنة فيشتري
بقيمتها طعاماً يتصدق به، فإن لم يجد صام عن كل مد يوماً قياساً على البدنة
الواجبة في فدية النعامة.
[باب جزاء الصيد]
يجب الجزاء في الصيد لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]
الآية. وهو ضربان:
(1/500)
ما له مثل من النعم: وهي بهيمة الأنعام،
فيجب فيه مثله للآية، وهو نوعان، ما قضت الصحابة فيه، فيجب فيه ما قضت؛
لأنه حكم مجتهد فيه، واجتهادهم أحق أن يتبع.
فمن ذلك الضبع، قضى فيها عمر وابن عباس بكبش، وقد روي «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى فيها بذلك» . رواه أبو داود وغيره، وقال
الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
والنعامة، قضى فيها عثمان وعلي وزيد وابن عباس ومعاوية ببدنة.
وحمار الوحش، وفيه روايتان:
إحداهما: فيه بقرة؛ لأن عمر قضى فيه بها.
والثانية: فيه بدنة؛ لأن أبا عبيدة وابن عباس قضيا فيه بها، وقضاء عمر
أولى. لأنه أقرب إلى ما قضي به، وعن ابن مسعود أنه قضى في بقرة الوحش،
ببقرة.
وقال ابن عباس: في الإبل، بقرة. وقال ابن عمر: في الأروى، بقرة.
وقضى عمر في الظبي، بشاة، وفي اليربوع بجفرة وهي التي لها أربعة أشهر في
المعز.
وفي الأرنب بعناق، وهي أصغر من الجفرة. وفي الضب بجدي.
والضرب الثاني: ما لم تقض فيه الصحابة، فيرجع فيه إلى قول عدلين من أهل
الخبرة؛ لقول الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:
95] ويجوز أن يكون القاتل أحدهما؛ لدخوله في العموم، ولما روى طارق بن شهاب
قال: خرجنا حجاجاً، فأوطأ منا رجل - يقال له إربد - ضباً، ففزر ظهره،
فقدمنا على عمر فسأله إربد، فقال له: احكم فيه يا إربد. قال: أنت خير مني
يا أمير المؤمنين وأعلم، فقال عمر: إنما أمرتك أن تحكم، ولم آمرك أن
تزكيني، فقال إربد: أرى فيه جدياً، قد جمع الماء والشجر، فقال عمر: فذلك
فيه. رواه سعيد بن منصور، ولأنه واجب لحق الله فجاز أن يكون من وجب عليه
أميناً فيه كالزكاة.
وفي كبير الصيد كبير مثله، وفي الصغير صغير مثله، وفي كل واحد من الصحيح
والمعيب مثله، وإن فدى الذكر بالأنثى، جاز؛ لأنها أفضل، وإن فدى الأنثى
بالذكر، ففيه وجهان:
(1/501)
أحدهما: لا يجزئ لذلك.
والآخر: يجزئ؛ لأن لحمه أوفر وهو المقصود، وإن فدى أعور من عين، بأعور من
أخرى، جاز لأن المقصود منهما واحد، وإن فدى معيباً بمعيب من جنس آخر؛ لم
يجز؛ لأنهما مختلفان.
وإن أتلف صيداً ماخضاً، ففيه قيمة مثله ماخض، قال القاضي؛ لأن قيمته أكثر
من مثله.
وقال أبو الخطاب: فيه مثله ماخض للآية. وإن جنى على ماخض، فأتلف جنينها،
ففيه ما نقصها، كما لو جرحها، وإن جرح حياً ثم مات ضمنه بمثله.
فصل:
الضرب الثاني: ما لا مثل له: وهو الطير وشبهه من صغار الصيد، ففيه قيمته،
إلا الحمام، فإن فيه شاة؛ لأن عمر، وعثمان، وابن عمر، وابن عباس قضوا في
حمام الحرم بشاة، والحمام: كل ما عب الماء وهدر، كالحمام المعروف، واليمام
والجوازل والقماري، والرقاطي، والدباسي، والقطا؛ لأن هذا كله حمام، وقال
الكسائي: كل مطوق حمام، فعلى قوله يكون الحجل حماماً، وعلى الأول ليس
بحمام، وما كان أصغر من الحمام، ففيه قيمته؛ لأن لا مثل له، وما كان أكبر
منه، ففيه وجهان:
أحدهما: فيه قيمته لأن القياس يقتضيها في جميع الطير، تركناه في الحمام؛
لقضاء الصحابة، ففيما عداه يبقى على القياس.
والثاني: فيه شاة؛ لأن إيجابها في الحمام تنبيه على إيجابها فيما هو أكبر
منه. وقد روي عن ابن عباس وجابر، أنهما قالا في الحجلة والقطا والحبارى:
شاة شاة. وإن نتف ريش طائر ففيه ما نقص، فإن عاد فنبت، ففي ضمانه وجهان،
كغصن الشجرة إذا نبت، وفي بيض الصيد قيمته.
فصل:
ومن وجب عليه جزاء صيد، فهو مخير بين إخراج المثل، أو يقوم المثل، ويشتري
بقيمته طعاماً، ويتصدق به، أو يصوم عن كل مد يوماً؛ لقول الله تعالى:
{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ
مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ
أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] و [أو] للتخيير، وعنه: أنها
على الترتيب، فيجب
(1/502)
المثل، فإن لم يجد [أطعم فإن لم يجد] صام،
ككفارة القتل. وعنه: لا طعام في الجزاء، وإنما ذكره ليعدل به الصيام،
والمذهب الأول؛ لأنه ظاهر النص فلا تعويل على ما خالفه.
فصل:
وإن اشترك جماعة في قتل صيد، فعليهم جزاء واحد.
وعنه: على كل واحد جزاء؛ لأنها كفارة قتل، أشبهت كفارة قتل الآدمي.
وعنه: إن كفروا بالمال فجزاء واحد، وإن كفروا بالصيام فكفارات، والأولى
أولى؛ لأن ذلك يروى عن عمر وابنه وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -،
ولأنه بدل متلف يتجزأ، فيقسم بدله بين المشتركين، كالديات وقيم المتلفات،
وإن اشترك حلال وحرام، فلا شيء على الحلال. وهل يكمل الجزاء على الحرام، أو
يكون حكمه، حكم المشارك لحرام؟ فيه وجهان:
وإن جرح صيدا، ضمنه، وفي ضمانه وجهان:
أحدهما: يضمنه بمثله؛ لأن ما وجب ضمان جملته بمثله، وجب في بعضه مثله،
كالمكيلات.
والآخر تجب قيمة قدره، من مثله؛ لأن الجزء يشق إخراجه، فصرنا إلى قيمته.
وإن جرح صيدا فأزال امتناعه، فقتله حلال، أو سبع، فعلى المحرم جزاء جميعه؛
لأنه سبب تلفه، وإن قتله محرم آخر، فعلى الأول ما نقصه، والباقي على
الثاني. وإن برئ وزال نقصه فلا شيء فيه، كالآدمي، وإن نقص فعليه نقصه، وإن
برئ غير ممتنع، فعليه جزاء جميعه؛ لأنه عطله، فصار كالتالف، وإن غاب ولم
يعلم خبره، فعليه نقصه؛ لأنه المتيقن.
فصل:
والقارن والمفرد والمعتمر سواء في جزاء الصيد، وسائر الكفارات؛ لأنهم سواء
في الإحرام، فوجب استواؤهم في ذلك.
فصل:
وصيد الحرم حرام على الحلال والحرام؛ لما روى ابن عباس أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(1/503)
قال: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق
السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة؛ لا يختلى خلاها،
ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها، فقال العباس: إلا الإذخر فإنه لقينهم
ولبيوتهم. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إلا الإذخر»
متفق
(1/504)
عليه. وحكمه في الجزاء حكم صيد الإحرام؛
لأنه مثله في التحريم فكان مثله في الجزاء، والسمك في التحريم كصيد البر؛
لعموم قوله: «لا ينفر صيدها» ولأن حرمته بمحله، وهما في المحل سواء، وعنه:
لا يحرم؛ لأنه لا يحرمه الإحرام، فلم يحرمه الحرم كالسباع. وسائر الحيوانات
حكمها في الحرم حكمها في الإحرام، فما حرمه الإحرام من الصيد حرمه الحرم،
وما أبيح فيه من الأهلي وغير المأكول؛ لم يحرمه الحرم، ولهذا قال النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم»
رواه مسلم. إلا أن القمل لا يحرمه الحرم، رواية واحدة. ويجب الجزاء على كل
قاتل في الحرام، مسلماً كان أو كافراً، صغيراً أو كبيراً؛ لأن حرمته لمحله،
وهو ثابت بالنسبة إلى كل قاتل، ولو قتل محرم صيداً حرمياً؛ لزمه جزاء واحد؛
لأن المقتول واحد، فكان جزاؤه واحداً كما لو قتله حلال.
فصل:
ومن ملك صيداً في الحل، فأدخله الحرم؛ لزمه رفع يده عنه وإرساله، فإن تلف
في يده أو أتلفه، ضمنه، وإن ذبحه، صار ميتة؛ لأن الحرم سبب لتحريم الصيد،
فحرم استدامة إمساكه، كالإحرام. وإن أمسكه في الحرم، فأخرجه إلى الحل؛ لزمه
إرساله كالمحرم إذا مسك الصيد حتى حل.
وإن رمى من الحرم صيداً في الحل، أو أرسل كلبه عليه، أو قتل صيداً على غصن
في الحل، أصله في الحرم، فلا ضمان فيه؛ لأنه صيد حل، قاتله حلال فلم يضمن،
كما لو كان قاتله في الحل، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «لا ينفر صيدها» يدل بمنطوقه على تحريمه في المسألة الأولى، وبمفهومه
على حله في الثانية. وإن رمى من الحل صيداً في الحرم، أو أرسل كلبه عليه
فقتله، أو قتل صيداً على غصن في الحرم، أصله في الحل، ضمنه؛ لأنه صيد حرمي
معصوم بمحله. وعن أحمد فيهما جميعاً روايتان.
(1/505)
فإن كانا جميعاً في الحل، فدخل السهم أو
الكلب الحرم، ثم خرج، فقتل صيداً في الحل؛ لم يضمن بحال؛ لأن الصيد والصائد
جميعاً في الحل.
وإن رمى صيداً في الحل، فدخل السهم الحرم، فقتل فيه صيداً، ضمنه لأن العمد
والخطأ واحد في الضمان. وإن أرسل كلبه على صيد في الحل، فدخل فقتله في
الحرم، أو قتل غيره، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يضمن؛ لأن للكلب اختياراً، وقد دخل باختياره، فلم يضمن جنايته،
بخلاف السهم.
والثانية: إن كان الصيد قريباً من الحرم، ضمنه؛ لتفريطه بتعرضه للاصطياد في
الحرم وإن كان بعيداً؛ لم يضمن؛ لعدم تفريطه، ولا يؤكل لأنه صيد حرمي.
وقال أبو بكر: عليه الضمان بكل حال. وإن جرحه في الحل، فدخل الحرم فمات
فيه؛ لم يضمنه، وحل أكله لأنه ذبحه في الحل. وإن وقف صيد في الحرم والحل،
فقتله ضمنه، تغليباً للتحريم.
وإن أمسك طائراً في الحل، فهلك فراخه في الحرم، ضمن الفراخ وحدها؛ لأنه
أتلفها في الحرم.
وإن أمسك الطائر في الحرم، فهلك الفراخ في الحل، ضمن الطائر وحكم الفراخ،
حكم ما لو رمى من الحرم صيداً في الحل؛ لأن صيد الحل، هلك بسبب كان منه في
الحرم.
وإن نفر صيداً حرمياً، فهلك في نفوره بسبع أو غيره، في حل أو حرم ضمنه؛
لأنه هلك بتنفيره المنهي عنه، وإن سكن من نفوره، ثم هلك؛ لم يضمنه لأن
هلاكه بغير سببه. وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه دخل دار
الندوة، فعلق رداءه، فوقع عليه حمام، فخاف أن يبول عليه، فأطاره، فانتهزته
حية فقال: أنا أطرت، فسأل من معه، فحكم عليه عثمان ونافع بن عبد الحارث
بشاة.
فصل:
ويحرم قلع شجر الحرم، وحشيشه كله؛ لحديث ابن عباس، «إلا الإذخر» . وما زرعه
الإنسان؛ لأنه كالحيوان الأهلي، وإن غرس شجرة، فقال أبو الخطاب: له قلعها
لأنه أنبتها الآدميون، فأشبه الزرع. وإن أخذه من الحرم، فغرسه؛ لم يبح
قلعه؛ لأنه حرمي، ويحتمل كلام الخرقي تحريم قلع الشجر كله؛ لقوله -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يعضد
(1/506)
شجرها» وذكر القاضي وأبو الخطاب: أنه يباح
قطع الشوك والعوسج؛ لأنه بمنزلة السباع من الحيوان، والحديث صريح في أنه لا
يعضد شوكها، واتباعه أولى.
ولا بأس بقطع ما يبس؛ لأنه بمنزلة الميت، وأخذ ما تناثر أو يبس من الورق،
أو تكسر من الشجر والعيدان بغير فعل الآدمي لذلك، وما قطعه الآدمي لم يبح
له ولا لغيره الانتفاع به لظاهر كلام أحمد؛ لأنه قطع محرم؛ لحرمة الحرم،
فأشبه ذبح الصيد. ولا يجوز أخذ ورق الشجر الأخضر؛ لأن في بعض الألفاظ: «ولا
يخبط شجرها» ولأنه يضر بالشجر، أشبه نتف ريش الطير.
فصل:
ويجب الجزاء في ذلك، فيجب في الشجرة الكبيرة، بقرة، وفي الصغيرة شاة؛ لما
روي عن ابن عباس أنه قال: في الدوحة بقرة، وفي الجزلة شاة، والدوحة:
الكبيرة، والجزلة: الصغيرة. وإن قطع غصناً، ضمنه بما نقص، كأغصان الحيوان،
فإن خلف مكانه، فهل يسقط الضمان؟ على وجهين:
أحدهما: لا يضمنه، كشعر الآدمي وسنه.
والثاني: يضمنه؛ لأنه أتلفه.
وإن قلع شجرة؛ لزمه ردها إلى موضعها، كمن صاد صيداً لزمه إرساله، فإن
أعادها فيبست، ضمنها؛ لأنه أتلفها، وإن نبتت كما كانت؛ لم يضمنها، كالصيد
إذا أرسله، وإن نقصت، ضمن نقصها، كالصيد سواء.
فصل:
ويحرم قطع حشيش الحرم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«لا يختلي خلاها» ويضمنه بقيمته، كما يضمن صغار الصيد بقيمته، وإن استخلف
فهل يسقط الضمان؟ على وجهين.
وفي إباحة رعيه وجهان:
أحدهما: يباح؛ لأن الحاجة تدعو إليه فأشبه قطع الإذخر.
والثاني: يحرم؛ لأنه تسبب في إتلافه، فهو كإرسال الكلب على الصيد، وتباح
الكمأة لأنه لا أصل لها، فأشبهت الثمرة.
فصل:
ويكره إخراج تراب الحرم وحصاه؛ لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما
(1/507)
كرهاه. ولا يكره إخراج ماء زمزم؛ لأنه
يستخلف، ويعد للإتلاف، فأشبه الثمرة.
فصل:
ويحرم صيد مدينة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشجرها؛ لما
روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشرف على المدينة
فقال: «اللهم إني أحرم ما بين جبليها، مثل ما حرم إبراهيم مكة» وفي لفظ:
«ولا يقطع شجرها» متفق عليه.
ولا جزاء في صيدها وشجرها؛ لأنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام، فأشبه صيد وج،
ولأن الإيجاب من الشارع، ولم يرد به، وعنه: فيه الجزاء، وهو سلب القاتل
لأخذه؛ لما روي «أن سعداً ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبداً يقطع شجراً أو
يخبطه فسلبه، فلما رجع سعد، جاء أهل العبد، فكلموه أن يرد عليهم، فقال:
معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وأبى أن يرد عليهم» . رواه مسلم. وفي لفظ. قال: «إن رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم هذا الحرم» وقال: «من وجد أحداً
يصيد منه فليسلبه» رواه أبو داود.
وحد حرمها: ما بين لابتيها، بريد في بريد، وقال أحمد: كذا فسر أنس بن مالك،
وقد روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «ما بين لابتيها حرام» متفق عليه.
فصل:
ويفارق حرم مكة، في أن من أدخل إليها صيداً من خارج، فله إمساكه وذبحه؛ لأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: «يا أبا عمير ما
فعل النغير»
(1/508)
متفق عليه. وهو طائر كان يلعب به، فلم ينكر
عليهم إمساكه.
ويجوز أن يأخذ من شجرها ما تدعو الحاجة إليه للمساند والوسائد والرحل، ومن
حشيشها ما تدعو الحاجة إليه للعلف؛ لما روى جابر «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حرم المدينة قالوا: يا رسول الله إنا
أصحاب عمل وأصحاب نضح، وإنا لا نستطيع أرضا غير أرضنا، فرخص لنا. فقال:
القائمتان والوسادة والعارضة والمسند، فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط منها
شيء» رواه الإمام أحمد، فأما صيد وج وشجره، وهو واد من أودية الطائف،
فحلال؛ لأن الأصل الحل. وقد روي فيه حديث، ضعفه أحمد، وذكره الخلال في كتاب
العلل.
فصل:
وما وجب من الهدي والإطعام جزاء للصيد؛ لزمه إيصاله إلى مساكين الحرم؛ لقول
الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] . وكذلك دم
التمتع والقران؛ لأنه نسك، فأشبه الهدي. ودم فدية الأذى، يختص بالمكان الذي
وجب سببه فيه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر كعب بن
عجرة بالذبح والإطعام بالحديبية، ولم يأمر بإيصاله إلى الحرم، ونحر علي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين حلق رأس الحسين بالسقبا. وفي معناه ما وجب
بلبس أو طيب أو نحوه، وقال القاضي: ما وجب بفعل محظور، فيه روايتان:
إحداهما: محله، حيث وجد سببه، كفدية الأذى والإحصار.
والثانية: محله الحرم؛ لقول الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ} [الحج: 33] وقال ابن عقيل: إن فعل المحظور لعذر يبيحه، فحمل
هديه موضع فعله، وإن فعل لغير عذر، فمحله الحرم. وأما هدي المحصر، فمحل
نحره محل حصره؛ لما روى ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - خرج معتمراً، فحالت كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه،
وحلق رأسه بالحديبية» ، روى البخاري نحوه، وبين الحديبية والحرم ثلاثة
أميال، ولأنه جاز التحلل في غير موضعه للحصر، فيجوز النحر في غير موضع
النحر، وعن أحمد: لا يجوز نحره إلا في الحرم. لقول الله تعالى: {هَدْيًا
بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] فعلى هذا يبعثه إلى الحرم، ويواطئ من
يبعثه على اليوم الذي ينحره فيه، فيحل حينئذ. وأما الصيام كله
(1/509)
فيجزئه بكل مكان؛ لأنه لا نفع فيه لأهل
المكان، فلا يختص بالمكان، كرمضان.
فصل:
وما وجب لمساكين الحرم؛ لم يجز ذبحه إلا في الحرم، وفي أي موضع منه ذبح
جاز؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل منى منحر، وكل
فجاج مكة منحر وطريق» رواه ابن ماجة. مفهومه أنه لا يجوز النحر في غيره مما
ليس في معناه. إذا نحر ففرقه على المساكين، فإن أطلقها لهم يقتطعونها، جاز
«لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر بدنات خمساً، ثم
قال: من شاء فليقتطع» رواه أبو داود. ومساكين الحرم من حله من أهله وغيرهم؛
لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلقها لمن حضره.
[باب دخول مكة وصفة العمرة]
ويستحب لمن أراد دخول مكة أن يغتسل، ويدخلها من أعلاها من ثنية كداء، ويخرج
من أسفلها؛ لما روي «عن ابن عمر أنه كان يغتسل، ثم يدخل مكة، ويذكر أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله» ، وقال: «دخل رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة من ثنية العليا التي
بالبطحاء، وخرج من الثنية السفلى» ، متفق عليهما، ويستحب أن يدخل المسجد من
باب بني شيبة؛ لقول جابر: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
دخل مكة ارتفاع الضحى، فأناخ راحلته عند باب بني شيبة، ودخل المسجد.» رواه
مسلم.
ويستحب أن يدعو عند رؤيته البيت، ويرفع يديه؛ لما روى ابن جريح «أن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رأى البيت رفع يديه،
وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً ومهابة وبراً، وزد من شرفه
وكرمه ممن حجه واعتمر تشريفاً وتعظيماً وبراً» رواه الشافعي في مسنده، وعن
سعيد بن المسيب: أنه كان حين ينظر إلى البيت يقول: ((اللهم أنت السلام ومنك
السلام، حينا ربنا بالسلام)) . ذكر الأثرم هذا الدعاء وزاد: الحمد لله رب
العالمين كثيراً كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، الحمد لله
الذي بلغني بيته، ورآني لذلك أهلاً، الحمد لله على كل حال، اللهم إنك دعوت
إلى حج بيتك الحرام، وقد جئتك لذلك، اللهم تقبل مني، واعف عني، وأصلح لي
شأني كله؛ لا إله إلا أنت، وما زاد من الدعاء فحسن.
(1/510)
فصل:
ويبدأ بالطواف؛ لما روت عائشة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حين قدم مكة، توضأ ثم طاف بالبيت» ، متفق عليه، ولأن الطواف
تحية المسجد، فاستحبت البداءة به، كالركعتين في غيره من المساجد، وينوي
المتمتع به طواف العمرة، وينوي المفرد والقارن الطواف للقدوم.
ويسن الاضطباع فيه، وهو أن يجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن، ويتركه
مكشوفاً، ويرد طرفيه على منكبه الأيسر؛ لما روى ابن عباس «أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا
بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى» رواه
أبو داود.
ويطوف سبعاً، يبتدئ بالحجر الأسود فيستلمه؛ لقول جابر: «حتى أتينا البيت
معه، استلم الركن، فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً» ، ومعنى استلامه: مسحه بيده،
ويستحب تقبيله؛ لما روى أسلم قال: «رأيت عمر بن الخطاب قبل الحجر، وقال:
إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبلك ما قبلتك.» متفق عليه، فإن لم يمكنه
تقبيله، استلمه، وقبل يده؛ لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - استلمه وقبل يده» ، رواه مسلم، فإن استلمه بشيء في يده قبله؛
لما روى ابن عباس قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يطوف في البيت، ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن» . رواه
مسلم. وإن لم يمكنه أشار بيده إليه؛ لما روى ابن عباس، «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على بعير كلما أتى الركن أشار إليه،
وكبر.»
ويستحب أن يقول عنده ما روى عبد الله بن السائب: «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عند استلامه: بسم الله والله أكبر
إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد، -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . ويحاذي الحجر بجميع بدنه؛ ليستوعب
جميع البيت بالطواف، ثم يأخذ في الطواف على يمين نفسه، ويجعل البيت على
يساره، ويطوف سبعاً يرمل في الثلاث الأول منها، وهو إسراع المشي مع مقاربة
الخطى، ولا يثب وثباً، ويمشي أربعاً لحديث جابر، وروى ابن عمر قال: «كان
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا طاف بالبيت الطواف
الأول خب ثلاثاً، ومشى أربعاً.» متفق عليه. ولا يرمل في غير هذا الطواف
لذلك. فإن ترك الرمل في الثلاث لم يقضه في الأربع؛ لأنه سنة فات محلها، فلم
يقضه في غيره كالجهر في الأوليين، ولا يقضى في الأخريين.
ولو فاته الرمل والاضطباع في هذا الطواف؛ لم يقضه فيما بعده، كمن فاته
الجهر في الصبح لم يقضه في الظهر، ويكون الحجر داخلاً في طوافه؛ لأن الحجر
في البيت،
(1/511)
ولا يطوف على جدار الحجر، ولا شاذروان
الكعبة؛ لأنه من البيت، فيجب أن يطوف به.
ولا يستلم الركن العراقي ولا الشامي؛ لما روى ابن عمر: «أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يستلم إلا الحجر والركن
اليماني، وما تركت استلامهما منذ رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يستلمهما في شدة ولا رخاء» ، رواه مسلم، وقال: «ما أرى النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استلم الركنين اللذين يليان الحجر،
إلا لأن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.» متفق
عليه، ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك، كلما حاذى الحجر كبَّر. ويقول
بين الركنين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] لما روى عبد الله بن
السائب: أنه «سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول
ذلك ما بين ركن بني جمح والركن الأسود.» رواه أبو داود. ويقول في بقية
الطواف: «اللهم اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً رب اغفر
وارحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم» ، ويصلي على النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويدعو بما أحب، ويستحب أن يدنو من البيت؛
لأنه المقصود.
فإن كان يمكنه الرمل بعيداً، ولا يمكنه قريباً، فالبعيد أولى؛ لأنه يأتي
بالسنة المهمة.
ولا بأس بقراءة القرآن في الطواف؛ لأنه صلاة، والصلاة محل القرآن.
ويجوز الشرب في الطواف؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
شرب في الطواف» . رواه ابن المنذر.
ويستحب أن يدع الحديث كله، إلا ذكر الله أو قراءة القرآن، أو دعاء أو أمراً
بمعروف، أو نهياً عن منكر؛ لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الطواف في البيت صلاة، إلا أن الله أباحكم فيه
الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير» رواه الترمذي.
فصل:
فإذا فرغ من الطواف، صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم، يقرأ فيهما بـ {قُلْ يَا
أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وسورة الإخلاص. لما روى جابر «أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف في البيت سبعاً وصلى خلف
المقام ركعتين، قرأ فيهما: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:
1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » رواه مسلم. وإن صلاهما في
غير هذا الموضع، أو قرأ غير ذلك أجزأه.
فصل:
ويشترط لصحة الطواف تسعة أشياء:
(1/512)
الطهارة من الحدث والنجس، وستر العورة؛
لحديث ابن عباس، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا
يطوف بالبيت عريان» . متفق عليه؛ ولأنها عبادة تتعلق بالبدن، فاشترط فيها
ذلك، كالصلاة.
وعنه، فيمن طاف للزيارة ناسياً لطهارته حتى رجع، فحجه ماض، ولا شيء عليه،
وهذا يدل على أنها تسقط بالنسيان. وعنه، فيمن طاف للزيارة غير متطهر: أعاد
ما كان بمكة، فإن رجع، جبره بدم، وهذا يدل على أن الطهارة ليست شرطاً، إنما
هي واجب، يجبره الدم، فكذلك يخرج في طهارة النجس والستارة؛ لأنها عبادة لا
يشترط فيها الاستقبال، فلم يشترط فيها ذلك كالسعي والوقوف.
الرابع: النية؛ لأنها عبادة محضة، فأشبهت الصلاة.
الخامس: الطواف لجميع البيت، فإن سلك الحِجْر، أو طاف على جدار الحجر، أو
على شاذروان الكعبة؛ لم يجزئه؛ لأن الله تعالى قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . وهذا يقتضي الطواف لجميعه، والحِجْر
منه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحِجْر من
البيت» متفق عليه.
السادس: الطواف سبعاً، فإن ترك منها شيئاً وإن قل؛ لم يجزئه؛ لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف سبعاً، فيكون تفسيراً لمجمل
قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]
فيكون ذلك هو الطواف المأمور به، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خذوا
عني مناسككم» .
السابع: أن يحاذي الحجر في ابتداء طوافه، بجميع بدنه، فإن لم يفعل لم يعتد
بذلك الشوط، واعتد له بما بعده.
ويأتي بشوط مكانه، ويحتمل أن لا يجب هذا؛ لأنه لما لم يجب محاذاة جميع
الحجر؛ لم تجب المحاذاة بجميع البدن.
الثامن: الترتيب، وهو أن يطوف على يمينه، فإن نكسه؛ لم يجزئه لما ذكرنا في
السادس؛ ولأنها عبادة تتعلق بالبدن، فكان الترتيب فيها شرطاً كالصلاة.
التاسع: الموالاة شرط لذلك، إلا أنه إذا أقيمت الصلاة، أو حضرت جنازة، فإنه
يصلي، ثم يبني؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا
أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» رواه مسلم.
(1/513)
وعنه: إذا أعيا في الطواف، فلا بأس أن
يستريح، وقال: إذا كان له عذر، بنى، وإن قطعه من غير عذر، أو لحاجة، استقبل
الطواف.
وعنه: فيمن سبقه الحدث، روايتان:
إحداهما: يستأنف قياساً على الصلاة.
والثانية: يتوضأ. ويبني إذا لم يطل الفصل، فيخرج في الموالاة روايتان:
إحداهما: هي شرط كالترتيب.
والثانية: ليست شرطاً حال العذر؛ لأن الحسن غشي عليه، فحمل، فلما أفاق
أتمه.
فصل:
وسننه: استلام الركن، وتقبيله، أو ما قام مقامه، من الإشارة والدعاء،
والذكر في مواضعه، والاضطباع، والرمل، والمشي في مواضعه؛ لأن ذلك هيئة في
الطواف، فلم تجب كالجهر والإخفات في الصلاة. وركعتا الطواف ليست واجبة؛
«لأن الأعرابي؛ لما سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن
الفرائض، ذكر الصلوات الخمس، قال: فهل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع»
متفق عليه.
ولأنها صلاة لم يشرع لها جماعة، فلم تجب، كسائر النوافل، ولكنها سنة مؤكدة،
وإن صلى المكتوبة بعد طوافه، أجزأته عنهما، فإن جمع بين الأسابيع، وصلى لكل
أسبوع ركعتين، جاز؛ لأن عائشة والمسور بن مخرمة فعلا ذلك، ولا تجب الموالاة
بينهما لما ذكرنا، وأن يطوف ماشياً، وإن طاف راكباً أجزأه؛ «لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على بعيره، وأمر أم سلمة فطافت
راكبة من وراء الناس» . حديث أم سلمة متفق عليه، ويجوز أن يحمله إنسان
فيطوف به؛ لأنه في معنى الراكب، وإن طاف راكباً أو محمولاً لغير عذر، ففيه
روايتان:
إحداهما: يجزئه؛ لأن الله تعالى أمر بالطواف مطلقاً، وهذا قد طاف، ولأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف راكباً وهو صحيح.
والثانية: لا يجزئه لأنها عبادة تتعلق بالبدن، فلم يجز فعلها راكباً لغير
عذر، كالصلاة، فأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن ابن
عباس قال: «إن الناس كثروا عليه، يقولون: هذا محمد هذا محمد، حتى خرج
العواتق من البيوت، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لا يضرب الناس بين يديه فلما كثروا عليه ركب» ، رواه مسلم.
(1/514)
فصل:
والمرأة كالرجل، إلا أنها إذا قدمت مكة نهاراً، استحب لها تأخير الطواف إلى
الليل؛ لأنه أستر لها، إلا أن تخاف الحيض، فتبادر الطواف؛ لئلا يفوتها
التمتع، ولا يستحب لها مزاحمة الرجال لاستلام الحجر، بل تشير بيدها إليه،
قال عطاء: كانت عائشة تطوف حجزة من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي
نستلم يا أم المؤمنين. قالت: انطلقي عنك، وأبت، وليس في حقها رمل، ولا
اضطباع؛ لأنه يستحب لها التستر، ولأن الرمل شرع في الأصل لإظهار الجَلَد
والقوة، ولا يقصد ذلك في المرأة، ولذلك لا يسن الرمل في حق المكي، ومن جرى
مجراهم. وقال ابن عباس وابن عمر: ليس على أهل مكة رمل. وكان ابن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إذا أحرم في مكة لم يرمل.
فصل:
إذا فرغ من الركعتين، سعى بين الصفا والمروة، ويستحب أن يستلم الحجر ثم
يخرج إلى الصفا من بابه، فيرقى عليه حتى يرى البيت فيستقبله ويدعوه؛ لأن
جابراً قال في صفة حج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم
رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا، قرأ
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] نبدأ
بما بدأ الله تعالى به. فبدأ في الصفا، فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبله،
فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله
الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده ونصر عبده،
وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك، وقال مثل هذا ثلاث مرات» .
قال أحمد: ويدعو بدعاء ابن عمر، ذكر نحواً من هذا. وزاد: لا إله إلا الله،
ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم اعصمني بدينك
وطواعيتك وطواعية رسولك، اللهم جنبني حدودك، اللهم اجعلني ممن يحبك، ويحب
ملائكتك وأنبياءك ورسلك وعبادك الصالحين، اللهم حببني إليك، وإلى ملائكتك،
وإلى رسلك، وإلى عبادك الصالحين. اللهم يسرني لليسرى، وجنبني العسرى، واغفر
لي في الآخرة والأولى. واجعلني من أئمة المتقين، واجعلني من ورثة جنة
النعيم، واغفر لي خطيئتي يوم الدين، اللهم إنك قلت {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ} [غافر: 60] وإنك لا تخلف الميعاد،
(1/515)
اللهم إذ هديتني للإسلام فلا تنزعني منه،
ولا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا على الإسلام، اللهم لا تقدمني لعذاب، ولا
تؤخرني لسوء الفتن، رواه سعيد بن منصور. وما دعا به فحسن، ثم ينزل ويمشي
حتى يكون بينه وبين الميل الأخضر المعلق بفناء المسجد نحواً من ستة أذرع،
فيسعى سعياً شديداً، حتى يحاذي الميلين الأخضرين اللذين بفناء المسجد وحذاء
دار العباس، ثم يمشي حتى يصعد المروى، فيرقى عليها، ويقول كما قال على
الصفا، ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه، حتى يكمل ذلك
سبعاً، يحتسب بالذهاب سعية، وبالرجوع أخرى، يفتتح بالصفا ويختم بالمروة؛
لأن جابراً قال: «ثم نزل، يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي، حتى إذا صعدنا مشى،
حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، فلما كان آخر طوافه على
المروة» . . . وذكر الحديث. رواه مسلم. ويدعو فيما بينهما، ويذكر الله
تعالى.
قال أبو عبد الله: كان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة قال: رب اغفر
وارحم واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة
لإقامة ذكر الله» وهو حديث حسن صحيح.
فصل:
والواجب من هذا ثلاثة أشياء، استيفاء السبع، فإن ترك منها شيئاً وإن قل، لم
يجزئه، وإن لم يرق على الصفا والمروة، وجب استيعاب ما بينهما، بأن يلصق
عقبيه بأسفل الصفا، ثم يلصق أصابع رجليه بالمروة، ليأتي بالواجب كله،
والبداءة بالصفا، لخبر جابر، فإن بدأ بالمروة لم يعتد له بذلك الشوط، واعتد
له بما بعده. وترتيب السعي على الطواف، فلو سعى قبله لم يجزئه؛ «لأن النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما سعى بعد طوافه، وقال: خذوا عني
مناسككم» ولو طاف وسعى، ثم علم أن طوافه غير صحيح لعدم الطهارة، أو غيرها:
لم يعتد له بسعيه، لفوات الترتيب.
فصل:
ويسن الطهارة والستارة.
وعنه: أنهما واجبتان؛ لأنه أحد الطوافين، أشبه الطواف في البيت، والأول
المذهب؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة حين
حاضت: «اقضي ما يقضي الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت» أخرجه مسلم والبخاري.
ونحوه قالت عائشة: إذا طافت المرأة في البيت، فصلت ركعتين، ثم حاضت، فلتطف
بالصفا والمروة؛ ولأنها عبادة لا تتعلق بالبيت، فلم يشترط لها ذلك
(1/516)
كالوقوف، ويسن أن يرقى على الصفا والمروة،
ويرمل بين العلمين، ويمشي ما سوى ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فعله، ولا يجب لما روي عن ابن عمر أنه قال: «أنا أمشي، فقد
رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمشي، وأنا شيخ كبير» .
رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ويسن الموالاة بينه؛ لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والى بينه، ولا يجب؛ لأنه نسك لا
يتعلق بالبيت، فلم يشترط له الموالاة كالرمي. وقد روي أن سودة بنت عبد الله
بن عمر سعت، فقضت طوافها في ثلاثة أيام، ويسن أن يمشي، فإن ركب جاز؛ لأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعى راكباً، ولما ذكرنا في
الموالاة، والمرأة كالرجل، إلا أنها لا ترقى على الصفا والمروة، ولا ترمل
في طواف ولا سعي، لما ذكرنا في الرمل في الطواف. وليس على أهل مكة رمل
لذلك. نص عليه.
فصل:
فإذا فرغ من السعي، فإن كان متمتعاً، لا هدي معه قصر من شعره، وحل من
عمرته، فما روى ابن عمر قال: «تمتع الناس مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرة إلى الحج، فلما قدم رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة قال للناس: من كان معه هدي، فإنه لا يحل
من شيء حرم منه حتى يقضي حجته، ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت، وبين
الصفا والمروة وليقصر وليحلل» متفق عليه، وإنما جعل التقصير هاهنا ليكون
الحلق للحج، فأما من ساق الهدي فليس له التحلل للحديثين وعنه: أنه يقصر من
شعره خاصة، ولا يلمس شاربه ولا أظفاره، لما روى معاوية قال: «قصرت من رأس
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمشقص عند المروة» . حديث
صحيح رواه مسلم.
وعنه: إن قدم في العشر، لم يحل لذلك، وإن قدم قبل العشر نحر وتحلل كالمعتمر
غير المتمتع. ومن لبد فهو كمن أهدى، لما روت حفصة أنها قالت: «يا رسول الله
ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحلل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي،
وقلدت هدياً، فلا أحل حتى أنحر» متفق عليه. فأما المعتمر الذي لا يريد
التمتع، فإنه يحل، وإن كان في أشهر الحج؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمر من ذي القعدة، فحل ونحر هديه.
فصل:
والسعي ركن لا يتم الحج إلا به؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -:
«طاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الصفا والمروة،
فطاف المسلمون، فكانت سنة، ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بينهما» . رواه
مسلم. وعن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(1/517)
يقول: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» رواه أبو داود.
وعنه: أنه سنة لا شيء على تاركه. لقول الله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ
أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] . مفهومه أنه مباح. وفي مصحف أبي
وابن مسعود ((فلا جناح عليه إلا أن يطوف بهما)) وهذا لا ينحط على رتبة
الخبر، قال القاضي: الصحيح أنه واجب يجبره الدم، وليس بركن جميعاً بين
الدليلين، وتوسطاً بين الأمرين.
فصل:
ولا يسن السعي بين الصفا والمروة إلا مرة في الحج، ومرة في العمرة، فمن سعى
مع طواف القدوم، لم يعده مع طواف الزيارة. ومن لم يسع مع طواف القدوم، أتى
به بعد طواف الزيارة. فأما الطواف بالبيت، فيستحب الإكثار منه، والتطوع به؛
لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من
طاف بالبيت وصلى ركعتين فهو كعتق رقبة» رواه ابن ماجه.
فصل:
ويستحب أن يشرب من ماء زمزم لما أحب، ويتضلع منه؛ لأنه يروى عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ماء زمزم لما شرب له» رواه
الدارقطني. ويقول عند الشرب: بسم الله اللهم اجعله لنا علماً نافعاً،
ورزقاً واسعاً، ورياً وشبعاً، وشفاء من كل داء، واغسل به قلبي واملأه من
خشيتك. |