الكافي
في فقه الإمام أحمد [كتاب النكاح]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كتاب النكاح النكاح مشروع، أمر الله به
ورسوله، فقال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}
[النساء: 3] . وقال سبحانه: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] .
(3/3)
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض
للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فليصم، فإن الصوم له وجاء»
وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إني أتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس
مني» . وقال سعد بن أبي وقاص: «لقد رد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أحله له لاختصينا» . متفق
عليهما، والتبتل: ترك النكاح.
وقد روي عن أحمد: أن النكاح واجب. اختاره أبو بكر لظاهر هذه النصوص فظاهر
المذهب أنه لا يجب إلا على من يخاف بتركه مواقعة المحظور، فيلزمه النكاح؛
لأنه يجب عليه اجتناب المحظور، وطريقه النكاح. ولا يجب على غيره؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}
[النساء: 3] ولو وجب لم يعلقه على الاستطابة. والاشتغال به أفضل من التخلي
للعبادة، لظاهر الأخبار. فإن أقل أحوالها الندب إلى النكاح، والكراهة
لتركه. إلا أن يكون ممن لا شهوة له، كالعنين والشيخ الكبير، ففيه وجهان:
أحدهما: النكاح له أفضل؛ لدخوله في عموم الأخبار.
والثاني: تركه أفضل؛ لأنه لا يحصل منه مصلحة النكاح، ويمنع زوجته من التحصن
بغيره، ويُلزم نفسه واجبات وحقوق لعله يعجز عنها.
فصل:
ولا يصح إلا من جائز التصرف؛ لأنه عقد معاوضة فأشبه البيع، ولا يصح نكاح
(3/4)
العبد بغير إذن مولاه، لما روى جابر قال:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما عبد تزوج بغير
إذن مولاه فهو عاهر» رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن؛ ولأنه ينقص
قيمته، ويوجب المهر والنفقة، وفيه ضرر على سيده، فلم يجز بغير إذنه كبيعه.
وعنه: أنه يصح ويقف على إجازة مولاه، بناء على تصرفات الفضولي، ويجوز نكاحه
بإذن مولاه؛ لدلالة الحديث، ولأن المنع لحقه فزال بإذنه.
فصل:
ومن أراد نكاح امرأة فله النظر إليها، لما روى جابر قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا خطب أحدكم امرأة، فإن استطاع أن
ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل» رواه أبو داود.
وينظر إلى الوجه؛ لأنه مجمع المحاسن، وموضع النظر، وليس بعورة وفي النظر
إلى ما يظهر عادة من الكفين والقدمين، ونحوهما روايتان:
إحداهما: يباح؛ لأنه يظهر عادة، أشبه الوجه.
والثانية: لا يباح لأنه عورة، أشبه ما لا يظهر، ولا يجوز النظر إلى ما لا
يظهر عادة؛ لأنه عورة، ولا حاجة إلى نظره، ويجوز النظر إليها بإذنها، وبغير
إذنها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق النظر، فلا
يجوز تقييده. وفي حديث جابر قال: فخطبت امرأة، فكنت أتخبأ لها حتى رأيت
منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها.
وليس له الخلوة بها؛ لأن الخبر إنما ورد بالنظر، فبقيت الخلوة على أصل
التحريم. ويجوز لمن أراد شراء جارية النظر منها إلى ما عدا عورتها، للحاجة
إلى معرفتها، ويجوز للرجل النظر إلى وجه من يعاملها لحاجته إلى معرفتها؛
للمطالبة بحقوق العقد. ويجوز ذلك عند الشهادة للحاجة إلى معرفتها للتحمل
والأداء. ويجوز للطبيب النظر إلى ما تدعو الحاجة إلى مداواته، من بدنها حتى
الفرج؛ لأنه موضع ضرورة، فأشبه الحاجة إلى الختان.
(3/5)
فصل:
وله أن ينظر من ذوات محارمه، إلى ما يظهر غالباً، كالرأس، والرقبة، والكفين
والقدمين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا
لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] وقال تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي
آبَائِهِنَّ} [الأحزاب: 55] . وذات المحرم: من تحرم عليه على التأبيد، بنسب
أو سبب مباح، كأم الزوجة وابنتها، فأما أم المزني بها والموطوءة بشبهة،
وبنتها فلا يباح النظر إليها؛ لأنها حرمت بسبب غير مباح، فلا تلحق بذوات
الأنساب. وأما عبد المرأة فليس بمحرم لها؛ لأنها لا تحرم عليه على التأبيد،
لكن يباح له النظر إلى ما يظهر منها غالباً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36] وروت أم سلمة أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان لإحداكن مكاتب، فملك ما يؤدي
فلتحتجب منه» رواه الترمذي. وقال: حديث صحيح. وفيه دلالة على أنها لا تحتجب
منه قبل ذلك؛ ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك لحاجتها لخدمته، فأشبه ذا المحرم.
فصل:
ومن لا تمييز له من الأطفال لا يجب التستر منه في شيء، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ
النِّسَاءِ} [النور: 31] .
وفي المميز روايتان:
إحداهما: هو كالبالغ لهذه الآية. والثانية: هو كذي المحرم لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور: 58] إلى قَوْله
تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ
طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58] ثم قال:
{وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا
اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59] ففرق بينه وبين
البالغ. وحكم الطفلة التي لا تصلح للنكاح مع الرجال حكم الطفل من النساء،
والتي صلحت للنكاح، كالمميز من الأطفال، لما روى أبو بكر بإسناده: «أن
أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
في ثياب رقاق، فأعرض
(3/6)
عنها وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت
المحيض لم يصلح أن يُرَى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه» .
فصل:
والعجوز التي لا تُشتهى مثلها يباح النظر منها إلى ما يظهر غالباً؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا
يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ
ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60] . قال ابن عباس
استثناهن الله تعالى من قوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] ؛ ولأن ما حرم من النظر لأجله معدوم في حقها،
فأشبهت ذوات المحارم. وفي معناها: الشوهاء التي لا تُشتهى. ومن ذهبت شهوته
من الرجال لكبر أو مرض، أو تخنيث فحكمه حكم ذي المحرم في النظر؛ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ}
[النور: 31] أي الذي لا إرب له في النساء، كذلك فسره مجاهد، وقتادة ونحوه
عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا -: «دخل على أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- مخنث، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل علينا النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ينعت امرأة قال: "إذا أقبلت أقبلت بأربع،
وإذا أدبرت أدبرت بثمان"، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا؟ ! لا يدخلن عليكم هذا» رواه أبو داود؛
فأجاز دخوله عليهن حين عده من غير أولي الإربة، فلما علم ذلك منه حجبه.
فصل:
ويباح لكل واحد من الزوجين النظر إلى جميع بدن صاحبه ولمسه، وكذلك السيد مع
أمته المباحة له؛ لأنه أبيح له الاستمتاع به، فأبيح له النظر إليه، كالوجه.
وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: «قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي
منا وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك» .
ويكره النظر إلى الفرج؛ فإن زَوَّجَ أمتَه حرم النظر منها إلى ما بين السرة
والركبة،
(3/7)
لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا زوج أحدكم
خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة فإنه عورة»
رواه أبو داود.
فصل:
فأما الرجل مع الرجل فلكل واحد منهما النظر من صاحبه إلى ما ليس بعورة؛ لأن
تخصيص العورة بالنهي دليل على إباحة النظر إلى غيرها.
ويكره النظر إلى الغلام الجميل؛ لأنه لا يأمن الفتنة بالنظر إليه، والمرأة
مع المرأة كالرجل مع الرجل، والمسلمة مع الكافرة كالمسلمتين، كما أن المسلم
مع الكافر كالمسلمين. وعنه: إن المسلمة لا تكشف قناعها عند الذمية، ولا
تدخل معها الحمام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31]
فتخصيصهن بالذكر يدل على اختصاصهن بذلك.
فصل:
وفي نظر المرأة إلى الرجل روايتان:
إحداهما: يحرم عليها من ذلك ما يحرم عليه، لما روت أم سلمة قالت: «كنت
قاعدة عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا وحفصة، فاستأذن
ابن أم مكتوم. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احتجبن
منه فقلت: يا رسول لله، ضرير لا يبصر. فقال: أفعمياوان أنتما، ألا تبصرانه»
أخرجه أبو داود وقال النسائي: حديث صحيح.
والثانية: يجوز لها النظر منه إلى ما ليس بعورة، لما روت فاطمة بنت قيس: أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «اعتدي في بيت ابن
أم مكتوم فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك فلا يراك» وقالت عائشة: «كان رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى
الحبشة يلعبون في المسجد» . متفق عليهما، وهذا أصح. وحديث أم سلمة يحتمل
أنه خاص
(3/8)
لأزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -. فإن قُدِّر عمومه، فهذه الأحاديث أصح منه، فتقديمها أولى. وكل
من أبيح له النظر إلى من لا يحل له الاستمتاع به لم يجز له ذلك لشهوة
وتلذذ؛ لأنه داعية إلى الفتنة.
[باب شرائط النكاح]
وهي خمسة. أحدها: الولي، فإن عقدته المرأة لنفسها، أو لغيرها بإذن وليها،
أو بغير إذنه لم يصح، لما روت عائشة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي» قال أحمد ويحيى: هذا حديث صحيح. وقد
روي عن أحمد أن للمرأة تزويج معتقها، فيخرج من هذا صحة تزويجها لنفسها بإذن
وليها، وتزويج غيرها بالوكالة، لما روت عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها
باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن أصابها فلها المهر بما استحل من
فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» رواه أبو داود والترمذي.
فمفهومه صحته بإذنه، ولأن المنع لحقه فجاز بإذنه، كنكاح العبد. والأول
المذهب، لعموم الخبر الأول؛ ولأن المرأة غير مأمونة على البضع، لنقص عقلها،
وسرعة انخداعها، فلم يجز تفويضه إليها، كالمبذر في المال، بخلاف العبد، فإن
المنع لحق المولى خاصة، وإنما ذكر تزويجها بغير إذن وليها؛ لأنه الغالب، إذ
لو رضي لكان هو المباشر له دونها.
فصل:
فإن تزوج بغير إذن ولي، فالنكاح فاسد، لا يحل الوطء فيه، وعليه فراقها؛ وإن
وطئ فلا حد عليه في ظاهر كلام أحمد؛ لأنه وطء مختلف في حله، فلم يجب به حد،
كوطء التي تزوجها في عدة أختها. وذكر عن ابن حامد:
أنه أوجب به الحد؛ لأنه وطء في نكاح منصوص على بطلانه، أشبه ما لو تزوج ذات
زوج. وإن حكم بصحة هذا العقد حاكم ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز نقضه؛ لأنه حكم مختلف فيه فأشبه الشفعة للجار.
والثاني: ينقض؛ لأنه خالف النص.
(3/9)
فصل:
فإن كانت أمة فوليها سيدها؛ لأنه عقد على نفعها، فكان إلى سيدها كإجارتها،
فإن كان لها سيدان لم يجز تزويجها إلا بإذنهما. وإن كانت سيدتها امرأة
فوليها ولي سيدتها يزوجها بإذن سيدتها لأنه تصرف فيها فلم يجز بغير إذنه،
كبيعها. وعنه رواية أخرى:
أن مولاتها تأذن لرجل فيزوجها؛ لأن سبب الولاية الملك، وقد تحقق في المرأة،
وامتنعت المباشرة لنقص الأنوثة فكان لها التوكيل، كالولي الغائب، ونقل عنه:
أنه قيل له: هل تزوج المرأة أمتها؟ قال: قد قيل ذلك، هي مالها. وهذا يحتمل
رواية ثالثة. فإن كانت سيدتها غير رشيدة، أو كانت لغلام أو لمجنون فوليها
من يلي مالهم؛ لأنه تصرف في بعضها، أشبه إجارتها.
فصل:
وإن كانت حرة فأولى الناس بها أبوها؛ لأنه أشفق عصباتها، ويلي مالها عند
عدم رشدها. ثم الجد أبو الأب وإن علا؛ لأنه أب. وعنه: الابن يقدم على الجد؛
لأنه أقوى تعصيباً منه، وعنه: أن الأخ يقدم على الجد؛ لأنه يدلي ببنوة
الأب، والبنوة أقوى. وعنه: أن الجد والأخ سواء، لاستوائهما في الإرث
بالتعصيب. والمذهب الأول؛ لأن للجد إيلاداً وتعصيباً، فقدم عليهما كالأب،
ولأنه لا يقاد بها، ولا يقطع بسرقة مالها بخلافهما. ثم ابنها، ثم ابنه وإن
نزل؛ لأنه عدل من عصباتها فيلي نكاحها، كابنها. وقدم على سائر العصبات؛
لأنه أقربهم نسباً، وأقواهم تعصيباً فقدم كالأب. ثم الأخ، ثم ابنه، ثم
العم، ثم ابنه، ثم الأقرب فالأقرب من عصباتها على ترتيبهم في الميراث؛ لأن
الولاية لدفع العار عن النسب، والنسب في العصبات. وقدم الأقرب فالأقرب؛
لأنه أقوى فقدم كتقديمه في الإرث، ولأنه أشفق فقدم كالأب. فإذا انقرض
العصبة من النسب، فوليها المولى المعتق، ثم عصابته الأقرب فالأقرب، ثم مولى
المولى، ثم عصباته؛ لأن الولاء كالنسب في التعصيب، فكان مثله في التزويج
ويقدم ابن المولى على ابنه؛ لأنه أقوى تعصيباً، وإنما قدم الأب المناسب
لزيادة شفقته، وتحكم الأصل على فرعه. وهذا معدوم في أبي المولى، فرجع فيه
إلى الأصل. وإذا كان المعتق امرأة، فولي مولاتها أقرب عصباتها؛ لأنه لما لم
يمكنها مباشرة نكاحها كانت كالمعدومة. وعنه: أنها تولي رجلاً في تزويجها،
لما ذكرنا في أمتها. ثم السلطان، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» .
(3/10)
فصل:
فإن استوى اثنان في الدرجة، وأحدهما من أبوين، والآخر من أب، كالأخوين،
والعمين ففيه روايتان:
إحداهما: يقدم ذو الأبوين. اختاره أبو بكر؛ لأنه حق يستفاد بالتعصيب فأشبه
الميراث بالولاء.
والثانية: هما سواء. اختارها الخرقي؛ لأن الولاية بقرابة الأب وهما سواء
فيها، فإن كانا ابني عم، أحدهما أخ لأم، فذكر القاضي: أنهما كذلك. والصحيح
أن الإخوة لا تؤثر في التقديم، لاستوائهما في التعصيب والإرث به، بخلاف
التي قبلها من كل وجه، فإن استويا من كل وجه، فالولاية ثابتة لكل واحد
منهما، أيهما زوج صح تزويجه؛ لأن السبب متحقق في كل واحدة، لكن يستحب تقديم
أسنهما وأعلمهما وأتقاهما؛ لأنه أحوط للعقد في اجتماع شروطه والنظر في
الحظ. فإن استويا وتشاحا، أقرع بينهما؛ لأنهما تساويا في الحق، وتعذر
الجمع، فيقرع بينهما، كالمرأتين في السفر. فإن قرع أحدهما فزوج الآخر صح؛
لأن القرعة لم تبطل ولايته، فلم يبطل نكاحه. وذكر أبو الخطاب فيه وجهاً
آخر: أنه لا يصح.
فصل:
فإن زوجها الوليان لرجلين دفعة واحدة، فهما باطلان؛ لأن الجمع يتعذر فبطلا،
كالعقد على أختين، ولا حاجة إلى فسخهما لبطلانهما. وإن سبق أحدهما فالصحيح
السابق، لما روى سمرة وعقبة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أنه قال: «أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما» رواه أبو داود؛ ولأن
الأول: خلا عن مبطل والثاني: تزوج زوجة غيره، فكان باطلاً، كما لو علم. فإن
دخل بها الثاني وهو لا يعلم أنها ذات زوج، فعليه مهرها؛ لأنه وطء بشبهة،
وترد إلى الأول؛ لأنها زوجته، ولا يحل له وطؤها حتى تقضي عدتها من وطء
الثاني، فإن جهل الأول منهما ففيه روايتان:
إحداهما: يفسخ النكاحان؛ لأن كل واحد منهما يحتمل أن يكون نكاحه هو الصحيح،
ولا سبيل إلى الجمع، ولا إلى معرفة الزوج فيفسخ لإزالة الزوجية، ثم لها أن
تتزوج من شاءت منهما، أو من غيرهما.
والثانية: يقرع بينهما. فمن خرجت له القرعة أمر صاحبه بالطلاق ثم يجدد
القارع
(3/11)
نكاحه، فإن كانت زوجته لم يضره ذلك، وإن لم
تكن صارت زوجته بالتجديد، وكلا الطريقين لا بأس به. وسواء علم السابق ثم
نسي، أو جهل الحال؛ لأن المعنى في الجميع واحد. وإن أقرت المرأة لأحدهما
بالسبق لم يقبل إقرارها؛ لأن الخصم غيرها، فلم يقبل قولها عليه، كما لو
أقرت ذات زوج لآخر أنه زوجها. وإن ادعى عليها العلم بالسابق، لم يلزمها
يمين؛ لأنه من لا يقبل إقراره لا يستحلف في إنكاره.
فصل:
ويشترط للولي ثمانية شروط.
أحدها: العقل، فلا يصح تزويج طفل، ولا مجنون.
والثاني: الحرية. فلا ولاية لعبد.
الثالث: الذكورية، فلا ولاية لامرأة؛ لأن هؤلاء لا يملكون تزويج أنفسهم،
فلا يملكون تزويج غيرهم بطريق الأولى.
الرابع: البلوغ: فلا يلي الصبي بحال. وعنه: أن الصبي المميز إذا بلغ عشراً
صح تزويجه؛ لأنه يصح بيعه. والأول أولى؛ لأنه مولى عليه فلا يلي، كالمرأة.
الخامس: اتفاق الدين. فلا يلي كافر مسلمة بحال لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
[التوبة: 71] إلا أم الولد الذمي المسلمة ففيها وجهان:
أحدهما: يملك تزويجها؛ لأنه لا يملكها، فأشبه المسلم إذا كان سيده كافر.
والثاني: لا يليه للآية، ويليه الحاكم ولا يلي مسلم كافرة، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:
73] إلا السلطان فإنه يلي نكاح الذمية التي لا ولي لها، لقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السلطان ولي من لا ولي له» ؛ ولأن
ولايته عامة عليهم. وسيد الأمة الكافرة يزوجها وإن كان مسلماً؛ لأنه عقد
عليها، فوليه كبيعها، وولي سيد الكافرة أو سيدتها يزوجها؛ لأنه يقوم
مقامهما. ويلي الكفار أهل دينهم، للآية التي تلوناها. وهل تعتبر عدالتهم في
دينهم؟ على وجهين بناء على الروايتين في المسلمين.
السادس: العدالة. فلا يلي الفاسق نكاح قريبته وإن كان أباً في إحدى
الروايتين؛ لأنها ولاية نظرية، فنافاها الفسق، كولاية المال. والثانية: يلي
لأنه قريب ناظر، فكان
(3/12)
ولياً كالعدل، ولأن حقيقة العدالة لا
تعتبر، بل يكفي كونه مستور الحال. ولو اشترطت العدالة اعتبرت حقيقتها كما
في الشهادة.
السابع: التعصيب، أو ما يقوم مقامه، فلا تثبت الولاية لغيرهم، كالأخ من
الأم والخال، وسائر من عدا العصبات؛ لأن الولاية تثبت لحفظ النسب، فيعتبر
فيها المناسب، ولا تثبت الولاية للرجل على المرأة التي تسلم على يديه.
وعنه: أنها تثبت. ووجه الروايتين ما ذكرنا في كتاب الولاء.
الثامن: عدم من هو أولى منه. فلا تثبت الولاية للأبعد مع حضور الأقرب الذي
اجتمعت الشروط فيه، لما ذكرنا في تقديم ولاية الأب. فإن مات الأقرب، أو جن،
أو فسق انتقلت إلى من بعده؛ لأن ولايته بطلت، فانتقلت إلى الأبعد، كما لو
مات. فإن عقل المجنون، وعدل الفاسق عادت ولايته، لزوال مزيلها مع وجود
مقتضيها، فإن زوجها الأبعد من غير علم بعود ولاية الأقرب لم تصح ولاية
زوجها بعد زوال ولايته، ويحتمل أن تصح، بناء على الوكيل إذا تصرف بعد العزل
قبل علمه به. وإن دعت المرأة وليها إلى تزويجها من كفء فعضلها، فللأبعد
تزويجها. نص عليه. وعنه: لا يزوجها إلا السلطان وهو اختيار أبي بكر، لقول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن اشتجروا، فالسلطان ولي
من لا ولي له» ؛ ولأن التزويج حق عليه امتنع منه، فقام الحاكم مقامه في
إيفائه، كما لو كان عليه دين فامتنع من قضائه، واختار الخرقي الرواية
الأولى؛ لأنه تعذر التزويج من جهة الأقرب فوليها الأبعد، كما لو فسق.
والحديث دليل على أن السلطان لا يزوج هاهنا، لقوله: «فالسلطان ولي من لا
ولي له» وإن غاب الأقرب غيبة منقطعة ولم يوكل في تزويجها، فللأبعد تزويجها،
لما ذكرنا. والغيبة المنقطعة: ما لا تقطع إلا بكلفة ومشقة في منصوص أحمد،
واختيار أبي بكر. وذكر الخرقي: أنها ما لا يصل الكتاب فيها إليه، أو يصل
فلا يجيب عنه؛ لأن غير هذا يمكن مراجعته. وقال القاضي: حدها: ما لا تقطعها
القافلة في السنة إلا مرة؛ لأن الكفء ينتظر عاماً ولا ينتظر أكثر منه. وقال
أبو الخطاب: يحتمل أن يحدها بما تقصر فيه الصلاة؛ لأن أحمد قال: إذا كان
الأب بعيد السفر، يزوج الأخ. والسفر البعيد في الشرع: ما علق عليه رخص
السفر، والأولى المنصوص. والرد في هذا إلى العرف، وما جرت العادة بالانتظار
فيه، والمراجعة لصاحبه، لعدم التحديد فيه من الشارع. فأما القريب فيجب
انتظاره ومراجعته؛ لأنه في حكم الحاضر، إلا أن تتعذر مراجعته، لأسر أو حبس
لا يوصل إليه ونحوهما، فيكون كالبعيد، لكونه في معناه. ولا يشترط في
الولاية البصر؛ لأن شعيباً - عَلَيْهِ السَّلَامُ - زوج
(3/13)
ابنته وهو أعمى لموسى - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -، ولأن الأعمى من أهل الرواية والشهادة، فكان من أهل الولاية
كالبصير. فأما الأخرس، فإن منع فهم الإشارة أزال الولاية، وإن لم يمنعها لم
يزل الولاية؛ لأن الأخرس يصح تزوجه، فصح تزويجه كالناطق.
فصل:
وإذا زوج الأبعد مع حضور الأقرب وسلامته من الموانع، أو زوج أجنبي، أو زوجت
المرأة المعتبر إذنها بغير إذنها، أو تزوج العبد بغير إذن سيده، فالنكاح
باطل في أصح الروايتين، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«إذا تزوج العبد بغير إذن سيده فهو عاهر» وفي لفظ: «فنكاحه باطل» ولأنه
نكاح لم تثبت أحكامه من الطلاق، والخلع، والتوارث فلم ينعقد كنكاح المعتدة.
والثانية: هو موقوف على إجازة من له الإذن. فإن أجازه جاز، وإلا بطل لما
ذكرناه في تصرف الفضولي في البيع، ولما روى ابن ماجه: «أن جارية بكراً أتت
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له أن أباها زوجها وهي
كارهة، فخيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه أبو
داود. وقال: هذا حديث مرسل، رواه الناس عن عكرمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يذكروا ابن عباس. فإن قلنا بهذه الرواية فإن
الشهادة تعتبر حالة العقد؛ لأنها شرط له فتعتبر معه كالقبول. ويكفي في إذن
المرأة النطق، أو ما يدل على الرضى تقوم مقام النطق به، بدليل «قول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبريرة: إن وطئك زوجك فلا خيار لك»
فأما إن زوجت المرأة نفسها، أو زوجها طفل، أو مجنون، أو فاسق، فهو باطل لا
يقف على الإجازة؛ لأنه تصرف صادر من غير أهله. وذكر أصحابنا: تزويجها
لنفسها من جملة الصور المختلفة في وقوفها. والأولى أنها ليست منها، لقول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة زوجت نفسها بغير
إذن وليها، فنكاحها باطل» ولأنه تصرف لو قارنه الإذن لم يصح، فلم يصح
بالإذن اللاحق، كتصرف المجنون.
فصل:
ولكل واحد من الأولياء أن يوكل في تزويج موليته، فيقوم وكيله مقامه حاضراً
كان الموكل أو غائباً، ولا يعتبر إذن المرأة في التوكيل. وخرج القاضي ذلك
على الروايتين
(3/14)
في توكيل الوكيل من غير إذن الموكل، وليس
كذلك، فإن الولي ليس بوكيل للمرأة، ولا تثبت ولايته من جهتها، فلم يقف جواز
توكيله على إذنها، كالسلطان، ولأنه ولي في النكاح فملك الإذن فيه من غير
إذنها، كالسلطان. ويجوز التوكيل في التزويج مطلقاً من غير تعيين الزوج؛
لأنه إذن في التزويج فجاز مطلقاً، كإذن المرأة. ويجوز التوكيل في تزويج
معين، واختلفت الرواية هل تستفاد ولاية النكاح بالوصية؟ على روايتين.
ذكرناهما في الوصايا. ولا يصير وصياً في النكاح بالوصية إليه في المال؛
لأنها إحدى الوصيتين فلم تملك بالأخرى، كالأخرى.
فصل:
وإذا لم يكن للمرأة ولي، ولا للبلد قاض ولا سلطان. فعن أحمد: ما يدل على
أنه يجوز لها أن تأذن لرجل عدل يحتاط لها في الكفء والمهر، ويزوجها فإنه
قال في دهقان قرية: يزوج المرأة إذا لم يكن في الرستاق قاض إذا احتاط لها
في الكفء والمهر. ووجه ذلك أن اشتراط الولي هاهنا يمنع النكاح بالكلية،
فوجب أن لا يشترط. وعنه: لا يصح إلا بولي لعموم الخبر.
فصل:
وإذا أراد ولي المرأة تزوجها، كابن عمها، أو مولاها جعل أمرها إلى من
يزوجها منه بإذنها، لما روي أن المغيرة بن شعبة أمر رجلاً أن يزوجه امرأة
المغيرة أولى بها منه، ولأنه وليها فجاز أن يتزوجها من وكيله، كالإمام. فإن
زوج نفسه بإذنها ففيه روايتان
إحداهما: لا يجوز لحديث المغيرة، ولأنه عقد ملكه بالإذن، فلم يجز أن يتولى
طرفيه، كالوكيل في البيع. والثانية: يجوز، لما روي عن عبد الرحمن بن عوف:
أنه قال لأم حكيم بنت قارظ أتجعلين أمرك إلي؟ قالت: نعم، فقال: قد تزوجتك،
ولأنه صدر الإيجاب من الولي، والقبول من الأهل فصح، كما لو زوج الرجل عبده
الصغير لأمته. وإن قال السيد: قد أعتقت أمتي وجعلت عتقها صداقها. أو قال:
قد جعلت عتق أمتي صداقها، ففيه روايتان:
إحداهما: يصح العتق والنكاح، ويصير عتقها صداقها، لما روى أنس: «أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية وجعل عتقها صداقها» متفق
عليه. وفي رواية «أصدقها نفسها» .
(3/15)
والثانية: لا يصح حتى يبتدئ العقد عليها
بإذنها؛ لأنه لم يوجد إيجاب ولا قبول، فلم يصح العقد، كما لو كانت حرة.
فعلى هذا ينفذ العتق وعليها قيمة نفسها؛ لأنه إنما أعتقها بعوض لم يسلم له،
ولم يمكن إبطال العتق، فرجعنا إلى القيمة. ولا يجوز لأحد أن يتولى طرفي
العقد غير من ذكرنا، إلا السيد يزوج عبده من أمته. فإن كان وكيلاً للزوج
والولي أو وكيلاً للزوج، ولياً للمرأة، أو وكيلاً للولي، ولياً للزوج ففيه
وجهان: بناء على ما ذكرنا في الوكيل في البيع.
فصل:
الشرط الثاني من شرائط النكاح: أن يحضره شاهدان، لما روي عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» رواه
الخلال. وعن عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«لا بد في النكاح من أربعة: الولي، والزوج، والشاهدان» . رواه الدارقطني،
وعن أحمد: أن الشهادة ليست شرطاً فيه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أعتق صفية وتزوجها بغير شهود، ولأنه عقد معاوضة، فلم تشترط
الشهادة فيه، كالبيع.
فصل:
ويشترط في الشهود سبع صفات:
أحدها: العقل؛ لأن المجنون والطفل ليسا من أهل الشهادة.
والثاني: السمع؛ لأن الأصم لا يسمع العقد فيشهد به.
والثالث: النطق؛ لأن الخرس لا يتمكن من أداء الشهادة.
الرابع: البلوغ؛ لأن الصبي لا شهادة له. وعنه: أنه ينعقد بحضور مراهقين،
بناء على أنهما من أهل الشهادة، والأول أصح.
الخامس: الإسلام. ويتخرج أن ينعقد نكاح المسلم للذمية بشهادة ذميين، بناء
على قبول شهادة بعضهم على بعض. والأول المذهب، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ
-: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» .
(3/16)
السادس: العدالة للخبر، وعنه: ينعقد بحضور
فاسقين؛ لأنه تحمل فلم تعتبر فيه العدالة كسائر التحملات. والأول أولى
للخبر، ولأن من لا يثبت النكاح بقوله لا ينعقد بشهادته، كالصبي إلا أننا لا
نعتبر العدالة باطناً. ويكفي أن يكون مستور الحال. وكذلك العدالة المشروطة
في الولي؛ لأن النكاح يقع بين عامة الناس في مواضع لا تعرف فيها حقيقة
العدالة، فاعتبار ذلك يشق.
السابع: الذكورية. وعنه: ينعقد بشهادة رجل وامرأتين؛ لأنه عقد معاوضة أشبه
البيع. والأول: المذهب، لما روى أبو عبيد في " الأموال " عن الزهري أنه
قال: مضت السنة أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في النكاح، ولا في
الطلاق. وهل يشترط عدم العداوة والولادة؟ وهو أن لا يكون الشاهدان عدوين
للزوجين، أو لأحدهما، ولا ابنين لهما، أو لأحدهما على وجهين. ولا تشترط
الحرية، ولا البصر؛ لأنها شهادة لا توجب حداً، فقبلت شهادتهما فيه،
كالشهادة عليه بالاستفاضة. ويعتبر أن يعرف الضرير المتعاقدين، ليشهد عليهما
بقولهما. وهل يشترط كون الشاهد من غير أهل الصنائع الرزية، كالحجام ونحوه؟
على وجهين بناء على قبول شهادتهم.
فصل:
الشرط الثالث من شروط النكاح: تعيين الزوجين؛ لأن المقصود بالنكاح
أعيانهما، فوجب تعيينهما. فإن كانت حاضرة فقال: زوجتك هذه صح؛ لأن الإشارة
تكفي في التعيين. فإن زاد على ذلك فقال: ابنتي أو فاطمة كان تأكيداً. وإن
سماها بغير اسمها صح؛ لأن الاسم لا حكم له مع الإشارة، فأشبه ما لو قال:
زوجتك هذه الطويلة وهي قصيرة. وإن كانت غائبة، فقال: زوجتك ابنتي وليس له
غيرها صح لحصول التعيين بتفردها بهذه الصفة المذكورة. وإن سماها باسمها، أو
وصفها بصفتها كان تأكيداً. وإن سماها بغير اسمها صح أيضاً؛ لأن الاسم لا
حكم له مع التعيين، فلا يؤثر الغلط فيه. وإن كان له ابنتان فقال: زوجتك
ابنتي لم يصح حتى يسميها، أو يصفها بما تتميز به؛ لأن التعيين لا يحصل
بدونه. فإن قال: ابنتي فاطمة، أو ابنتي الكبرى صح؛ لأنها تعينت به. وإن
نويا ذلك من غير لفظ لم يصح؛ لأن الشهادة في النكاح شرط، ولا يقع إلا على
اللفظ ولا تعيين فيه. وإن خطب الرجل امرأة فزوج غيرها لم ينعقد النكاح؛
لأنه ينوي القبول لغير ما وقع فيه الإيجاب فلم يصح، كما لو قال: قد زوجتك
ابنتي فاطمة. فقال: قبلت تزويج عائشة، فإن كان له ابنتان كبرى اسمها عائشة
وصغرى اسمها فاطمة، فقال: قبلت تزويج عائشة، فقبله الزوج ينويان الصغرى لم
يصح؛ لأنهما لم يتلفظا بما تقع الشهادة عليه، ولم يذكر المنوية بما تتميز
به. وإن نوى أحدهما الكبرى، والآخر الصغرى لم يصح؛ لأنه قبل النكاح في غير
من وقع عليه
(3/17)
الإيجاب. وإن قال: زوجتك حمل امرأتي لم
يصح؛ لأنه لم يثبت لها حكم البنات قبل الولادة، ولا يتحقق كونها بنتاً. وإن
قال: إن ولدت زوجتي بنتاً زوجتكها كان وعداً لا عقداً؛ لأن النكاح لا يتعلق
على الشروط.
فصل:
الشرط الرابع من شروط النكاح: التراضي من الزوجين، أو من يقوم مقامهما؛ لأن
العقد لهما، فاعتبر تراضيهما به كالبيع. فإن كان الزوج بالغاً عاقلاً لم
يجز بغير رضاه. وإن كان عبداً لم يملك السيد إجباره عليه؛ لأنه خالص حقه،
وهو من أهل مباشرته، فلم يجبر عليه كالطلاق. وإن كان العبد صغيراً فلسيده
تزويجه؛ لأنه إذا ملك تزويج ابنه الصغير فعبده أولى. قال أبو الخطاب:
ويحتمل أن لا يملكه أيضاً قياساً على الكبير، ويملك الأب تزويج ابنه الصغير
الذي لم يبلغ، لما روي عن ابن عمر: أنه زوج ابنه وهو صغير فاختصموا إلى
زيد، فأجازاه جميعاً. رواه الأثرم؛ ولأنه يتصرف في ماله بغير تولية فملك
تزويجه، كابنته الصغيرة. وسواء كان عاقلا، أو معتوهاً؛ لأنه إذا ملك تزويج
العاقل فالمعتوه أولى. ويملك الأب أيضاً تزويج ابنه البالغ المعتوه في ظاهر
كلام أحمد والخرقي لأنه غير مكلف فأشبه الصغير. وقال القاضي: لا يجوز
تزويجه، إلا إذا ظهر منه أمارات الشهوة، باتباع النساء ونحوه. فقال أبو
بكر: لا يجوز تزويجه بحال؛ لأنه رجل فلم يجز تزويجه بغير إذنه، كالعاقل،
والأول أولى؛ لأنه إذا جاز تزويج الصغير مع عدم حاجته إلى قضاء شهوته،
وحفظه عن الزنى، فالبالغ أولى. ولا يجوز تزويجه، إلا إذا رأى وليه المصلحة
في تزويجه، لاحتياجه إلى الحفظ والإيواء، أو قضاء الشهوة ونحو ذلك، فأما من
له إفاقة في بعض أحيانه، فلا يجوز إجباره على النكاح لأنه يمكن استئذانه.
ووصي الأب كالأب في تزويج الصغير والمعتوه؛ لأنه نائب عنه فأشبه الوكيل،
ولا يملك غير الأب ووصيه تزويج صغير ولا معتوه؛ لأنه إذا لم يملك تزويج
الأنثى مع قصورها، فالذكر أولى. وقال ابن حامد: للحاكم تزويج المعتوه الذي
يشتهي النساء؛ لأنه يلي ماله، فملك تزويجه، كالوصي. وقال القاضي: له تزويج
الصغير الذي يشتهي كذلك. ولا يجوز إذا رأى المصلحة في ذلك؛ لأنه ناظر له في
مصالحه، وهذا منها، فأشبه عقده على ماله.
فصل:
فأما المرأة، فإن السيد يملك تزويج أمته بكراً كانت أو ثيباً، بغير رضاها؛
لأنه عقد على منافعها فملكه، كإجارتها. وأما الحرة فإن الأب يملك تزويج
ابنته الصغيرة البكر بغير خلاف؛ «لأن أبا بكر الصديق زوج عائشة للنبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي ابنة ست» . متفق عليه
(3/18)
ولم يستأذنها وروى الأثرم: أن قدامة بن
مظعون تزوج ابنة الزبير حين نفست. ولا يملك تزويج ابنته الثيب الكبيرة إلا
بإذنها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأيم أحق
بنفسها من وليها» وروى ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس للولي من الثيب أمر» رواهما أبو داود. وفي البكر
البالغة روايتان:
إحداهما: له إجبارها، لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن
في نفسها وإذنها صماتها» وإثباته الحق للأيم على الخصوص يدل على نفيه عن
البكر.
والثانية: لا يجوز تزويجها إلا بإذنها، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى
تأذن، قالوا: يا رسول الله فكيف إذنها؟ قال: أن تسكت» متفق عليه. وأما
الثيب الصغيرة، ففيها وجهان:
أحدهما: لا يجوز تزويجها، لعموم الأحاديث فيها.
والأخرى: يجوز تزويجها؛ لأنها ولد صغير فملك الأب تزويجها، كالغلام.
والثيب: هي الموطوءة في فرجها حلالاً كان أو حراماً؛ لأنه لو أوصى للثيب
بوصية دخل فيها من ذكرناه، ولا تدخل في وصيته الأبكار. ووصي الأب إذا نص له
على التزويج، كالأب؛ لأنه قائم مقامه.
فصل:
فأما غيرهما، فلا يملك تزويج كبيرة إلا بإذنها، جداً كان أو غيره، لعموم
الأحاديث، ولأنه قاصر عن الأب فلم يملك الإجبار، كالعم. وفي الصغيرة ثلاث
روايات:
(3/19)
إحداهن: ليس لهم تزويجها، لما روي «أن
قدامة بن مظعون زوج ابنة أخيه من عبد الله بن عمر، فرفع ذلك إلى النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنها يتيمة ولا تنكح إلا
بإذنها» والصغيرة لا إذن لها. والثانية: لهم تزويجها ولها الخيار إذا بلغت،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَبِيرًا} [النساء: 2] {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا
تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}
[النساء: 3] . دلت بمفهومها على أنه له تزوجها إذا أقسط لها، وقد فسرته
عائشة بذلك. والثالثة: لهم تزويجها إذا بلغت تسعاً بإذنها، ولا يجوز قبل
ذلك، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تستأمر اليتيمة
في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها» رواه أبو داود.
وجمعنا بين الأدلة والأخبار، وقيدنا ذلك بابنة تسع؛ لأن عائشة قالت: «إذا
بلغت الجارية تسع سنين، فهي امرأة» . وروي ذلك مرفوعاً إلى النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنها تصلح بذلك للنكاح وتحتاج إليه، فأشبهت
البالغة. وإذن الثيب الكلام، وإذن البكر الصمات، أو الكلام في حق الأب
وغيره، لما تقدم من الحديث، وهو صريح في الحكم. وروى عدي الكندي عن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الثيب تعرب عن نفسها
والبكر رضاها صمتها» رواه الأثرم وابن ماجة. ولا فرق بين الثيوبة بوطء مباح
أو محرم، لشمول اللفظ لهما جميعاً.
فصل:
الشرط الخامس من شروط النكاح: الإيجاب والقبول. ولا يصح الإيجاب إلا بلفظ
النكاح، أو التزويج، فيقول: زوجتك ابنتي، أو أنكحتكها؛ لأن ما سواهما لا
يأتي على معنى النكاح، فلا ينعقد به، كلفظ الإحلال، ولأن الشهادة شرط في
النكاح، وهي واقعة على اللفظ. وغير هذا اللفظ ليس بموضوع للنكاح، وإنما
يصرف إليه بالنية، ولا شهادة عليها، فيخلوا النكاح عن الشهادة.
وأما القبول فيقول: قبلت هذا النكاح. وإن اقتصر على قبلت صح؛ لأن القبول
يرجع إلى ما أوجبه الولي، كما في البيع. وإن قيل للولي: أزوجت؟ قال: نعم.
قيل للمتزوج: أقبلت؟ قال: نعم انعقد النكاح؛ لأن نعم جواب للسؤال، والسؤال
مضمر معاد فيه، ولهذا لو قيل له: أسرقت؟ قال: نعم. كان مقراً بالسرقة، حتى
يلزمه القطع
(3/20)
الذي يندرئ بالشبهات، فهاهنا أولى. ولا يصح
الإيجاب والقبول بغير العربية لمن يحسنها؛ لأنه عدول عن لفظ الإنكاح
والتزويج مع إمكانهما فلم يصح، لما ذكرنا. ويصح بمعناهما الخاص بكل لسان
لمن يحسنهما؛ لأنه يشتمل على معنى اللفظ العربي، فأشبه ما لو أتى به، وليس
عليه تعلمهما بالعربية؛ لأن النكاح غير واجب، فلا يلزم تعلم أركانه،
كالبيع، ولأن المقصود المعنى دون اللفظ المعجوز وهو حاصل، بخلاف القراءة.
وقال أبو الخطاب: يلزمه التعلم؛ لأن ما كانت العربية شرطاً فيه عند الإمكان
لزمه تعلمه، كالتكبير. وإذا فهمت إشارة الأخرس صح النكاح بها؛ لأنه معنى لا
يستفاد إلا من جهته فصح بإشارته، كبيعه. وإن تقدم القبول على الإيجاب لم
يصح؛ لأن القبول إنما هو بالإيجاب، فيشترط تأخره عنه. وإن تراخى القبول عن
الإيجاب صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه؛ لأن حكم المجلس حكم
حالة العقد، بدليل القبض فيما يشترط القبض فيه، فإن تفرقا قبله، أو تشاغلا
بغيره قبل القبول بطل الإيجاب؛ لأنهما أعرضا عنه بتفرقهما، أو تشاغلهما
فبطل، كما لو طال التراخي. ونقل أبو طالب عن أحمد في رجل مشى إليه قوم
فقالوا: زوج فلاناً على ألف، فقال: قد زوجته على ألف، فرجعوا إلى الزوج
فأخبروه فقبل، هل يكون هذا نكاحاً؟ قال: نعم. فجعل أبو بكر هذا رواية
ثانية. وقال القاضي: هذا محمول على أنه وكل من قبل العقد في المجلس. وإن
خرج أحدهما عن أهلية العقد بجنون، أو إغماء أو موت قبل القبول بطل؛ لأنه لن
ينعقد فبطل بهذه المعاني، كإيجاب البيع. ومتى عقد النكاح هازلاً أو تلجئة
صح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث جدهن جد،
وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح، والرجعة» رواه الترمذي. وقال: حديث حسن.
فصل:
وفي الكفاءة روايتان:
إحداهما: هي شرط لصحة النكاح، فإذا فاتت لم يصح. وإن رضوا به، لما روى
الدارقطني بإسناده عن جابر قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا ينكح النساء إلا الأكفاء، ولا يزوجهن إلا الأولياء» وقال
عمر: لأمنعن فروج ذوي الأحساب إلا من الأكفاء؛ ولأنه تصرف يتضرر به من لم
يرض به فلم يصح، كما لو زوجها وليها بغير رضاها.
والثانية: ليست شرطاً؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
زوج زيداً مولاه ابنة عمته زينب بنت
(3/21)
جحش، وزوج أسامة فاطمة بنت قيس الفهرية
القرشية» . رواه مسلم وقالت عائشة: إن أبا حذيفة تبنى سالماً وأنكحه ابنة
أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة. أخرجه البخاري. لكن إن لم ترض
المرأة، ولم يرض بعض الأولياء ففيه روايتان:
إحداهما: العقد باطل؛ لأن الكفاءة حقهم، تصرف فيه بغير رضاهم، فلم يصح
كتصرف الفضولي.
والثانية: يصح ولمن لم يرض الفسخ. فلو زوج الأب بغير الكفء فرضيت البنت كان
للأخوة الفسخ؛ لأنه ولي في حال يلحقه العار بفقد الكفاءة، فملك الفسخ
كالمتساويين.
فصل:
والكفء ذو الدين والمنصب. فلا يكون الفاسق كفئا لعفيفة؛ لأنه مردود الشهادة
والرواية، غير مأمون على النفس والمال. ولا يكون المولى والعجمي كفئاً
لعربية، لما ذكرنا من قول عمر. وقال سلمان لجرير: إنكم معشر العرب لا نتقدم
في صلاتكم، ولا ننكح نساءكم، إن الله فضلكم علينا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجعله فيكم. والعرب بعضهم لبعض أكفاء، والعجم بعضهم
لبعض أكفاء؛ لأن المقداد بن الأسود الكندي تزوج ضباعة ابنة الزبير ابن عمة
رسول الله. وزوج أبو بكر أخته للأشعث بن قيس الكندي، وزوج علي ابنته أم
كلثوم عمر بن الخطاب.
وعنه أن غير قريش لا يكافئهم وغير بني هاشم لا يكافئهم، لقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل،
واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» .
واختلفت الرواية في ثلاثة أمور: أحدها: الحرية، فروي أنها ليست شرطاً في
الكفاءة، «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبريرة حين
عتقت تحت عبد، فاختارت فرقته: لو راجعتيه، قالت: أتأمرني يا رسول الله؟
قال: لا إنما أنا شفيع» ومراجعتها له ابتداء نكاح عبد لحرة. روي أنها شرط،
وهي أصح؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير بريرة حين
عتقت تحت عبد» . فإذا ثبت لها الخيار بالحرية الطارئة فبالسابقة أولى؛ ولأن
فيه نقصاً في المنصب والاستمتاع والإنفاق، ويلحق به العار فأشبه عدم
المنصب.
(3/22)
والثاني: اليسار ففيه روايتان:
إحداهما: هو من شروط الكفاءة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «الحسب المال» وقال «إن أحساب الناس بينهم هذا المال» رواه
النسائي بمعناه؛ ولأن على الموسرة ضرراً في إعسار زوجها، لإخلاله بنفقتها
ونفقة ولدها.
والثانية: ليس منها؛ لأن الفقر شرف في الدين. وقد قال النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً» رواه
الترمذي. وليس هو أمراً لازماً، فأشبه العافية من المرض. واليسار المعتبر:
ما يقدر به على الإنفاق عليها حسب ما يجب لها.
والثالث: الصناعة وفيها روايتان:
إحداهما: أن أصحاب الصنائع الدنيئة لا يكافؤون من هو أعلى منهم. فالحائك
والحجام والكساح والزبال وقيم الحمام لا يكون كفئاً لمن هو أعلى منه؛ لأنه
نقص في عرف الناس، وتتعير المرأة به، فأشبه نقص النسب.
والثانية: ليس هذا شرطاً؛ لأنه ليس بنقص في الدين، ولا هو بلازم، فأشبه
المرض. وقد أنشدوا:
وليس على عبد تقي نقيصة ... إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
فصل:
ويستحب إعلان النكاح، والضرب عليه بالدف، لما روى محمد بن حاطب قال: قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فصل ما بين الحلال
والحرام الدف والصوت في النكاح» رواه النسائي. فإن أسروه وتواصوا بكتمانه
كره ذلك، وصح النكاح. وقال أبو بكر: لا يصح للحديث. ولنا قول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل»
مفهومه صحته بهما، والحديث محمول على الندب جمعاً بين الخبرين، ولأن إعلان
النكاح والضرب عليه بالدف إنما يكون بعد العقد وصحته، ولو كان شرطاً،
لاعتبر حال
(3/23)
العقد كسائر شروطه. وقال أحمد: لا بأس
بالغزل في العرس، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
للأنصار:
«
أتيناكم أتيناكم ... فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحم ... ر ما حلت نواديكم
ولولا الحنطة السمرا ... ء ما سمنت عذاراكم
»
فصل:
ويستحب عقده يوم الجمعة؛ لأن جماعة من السلف كانوا يحبون ذلك. والمساية
أولي، لما روى أبو حفص بإسناده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه قال: «مسوا بالإملاك فإنه أعظم للبركة» .
ويستحب تقديم الخطبة بين يدي النكاح، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بـ (الحمد لله) فهو أقطع» ويستحب
أن يخطب بخطبة ابن مسعود التي قال: «علمنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد في الحاجة " إن الحمد لله، نحمده ونستعينه
ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل
فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً
عبده ورسوله. ويقرأ ثلاث آيات: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا
تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] . {وَاتَّقُوا
اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] . {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا
سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا
عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] » . رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وهذا ليس بواجب؛
لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لخاطب الواهبة:
«زوجتكها
(3/24)
بما معك من القرآن» ولم يذكر خطبة.
فصل:
ويستحب أن يقال للمتزوج ما روى أبو هريرة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رفأ الإنسان - إذا تزوج - قال: بارك الله لك،
وبارك عليك وجمع بينكما في خير» رواه أبو داود. وإذا زفت إليه قال ما روى
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: «إذا تزوج أحدكم امرأة، أو اشترى خادماً فليقل: اللهم إني أسألك
خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه» رواه أبو
داود.
وعن أبي سعيد مولى أبي أسيد أنه تزوج، فحضره عبد الله بن مسعود وأبو ذر،
وحذيفة، وغيرهم من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فقالوا له: إذا دخلت على أهلك فصل ركعتين، ثم خذ برأس أهلك فقل: اللهم بارك
لي في أهلي وبارك لأهلي في، وارزقني منهم، ثم شأنك وشأن أهلك.
فصل:
ويستحب لمن أراد التزوج أن يختار ذات الدين، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها
ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» متفق عليه. ويختار الجميلة؛ لأنه
أسكن لنفسه، وأغض لبصره، وأدوم لمودته، ولذلك شرع النظر قبل النكاح. وروى
سعيد بإسناده أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«خير فائدة أفادها المرء المسلم بعد إسلامه امرأة جميلة، تسره إذا نظر
إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه في غيبته في ماله ونفسها» ويتخير الحسيبة،
لنجب ولدها. وقد روي عن عائشة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال:
(3/25)
«تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء وانكحوا
إليهم» ويختار البكر لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أنه قال: «عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً وأرضى
باليسير» رواه ابن ماجه. ويختار الولود، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم يوم
القيامة» رواه سعيد. ويختار ذات العقل، ويجتنب الحمقاء؛ لأنه ربما تعدى ذلك
إلى ولدها. وقد قيل: اجتنبوا الحمقاء، فإن ولدها ضياع، وصحبتها بلاء. قال
أبو الخطاب: ويختار الأجنبية؛ لأن ولدها أنجب، وقد قيل: إن الغرائب أنجب،
وبنات العم أصبر.
[باب ما يحرم من النكاح]
المحرمات في النكاح عشر أشياء:
أحدها: المحرمات بالنسب، وهن سبع ذكرهن الله سبحانه وتعالى بقوله:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ
وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ}
[النساء: 23] فالأمهات: كل امرأة انتسبت إليها بولادة، وهي: الأم، والجدات
من جهة الأم وجهة الأب وإن علون. والبنات: كل من انتسب إليك بولادة وهي
ابنة الصلب وأولادها وأولاد البنين وإن نزلت درجتهن. والأخت: من الجهات
الثلاث. والعمات: كل من أدلت بالعمومة من أخوات الأب وأخوات الأجداد وإن
علون من جهة الأب والأم. والخالات: كل من أدلى بالخؤولة من أخوات الأم
وأخوات الجدات وإن علون من جهة الأب والأم. وبنات الأخ: كل من ينتسب ببنوة
الأخ من أولاده وأولاد أولاده الذكور والإناث وإن نزلت درجتهن، وكذلك بنات
الأخ؛ لأن الاسم ينطلق على البعيد والقريب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا
بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] . و {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40] .
وقال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] . وقال النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبعض أصحابه: «ارموا
(3/26)
بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً» .
ولا فرق بين النسب الحاصل بنكاح، أو ملك يمين، أو وطء شبهة أو حرام. فتحرم
عليه ابنته في الزنى، لدخولها في عموم اللفظ، ولأنها مخلوقة من مائة فحرمت،
كتحريم الزانية على ولدها. وتحرم المنفية باللعان؛ لأنها ربيبته، ولاحتمال
أنها ابنته.
فصل:
النوع الثاني: المحرمات بالرضاع، وهن مثل المحرمات بالنسب سواء، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ
الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] نص على هاتين، وقسنا عليهما سائر المحرمات
بالنسب. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب» متفق عليه.
فصل:
النوع الثالث: المحرمات بالمصاهرة، وهن أربع: أمهات النساء، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] . فمتى عقد النكاح على
امرأة حرم عليه جميع أمهاتها من النسب والرضاع وإن علون على ما ذكرنا.
وسواء دخل بالمرأة أو لم يدخل، لعموم اللفظ فيهن، ولما روى عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما
رجل نكح امرأة دخل بها أو لم يدخل فلا يحل له نكاح أمها» رواه ابن ماجه.
الثانية: الربائب، وهن بنات النساء. ولا تحرم ربيبته إلا أن يدخل بأمها،
فإن فارق أمها قبل أن يدخل بها حلت له ابنتها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] .
(3/27)
وإن ماتت قبل دخوله بها لم تحرم ابنتها،
للآية. وعنه: تحرم؛ لأن الموت أقيم مقام الدخول في تكميل الصداق والعدة،
فكذلك هاهنا. وإن خلا بها ثم طلقها ولم يطأها، فعنه: تحرم ابنتها كذلك.
وقال القاضي: وهذا محمول على أنه حصل نظراً لشهوة أو مباشرة، فيخرج كلامه
على إحدى الروايتين، فأما مع عدم ذلك فلا تحرم؛ لأن الدخول كناية عن الجماع
ولم يوجد والنسب والرضاع في هذا سواء.
الثالثة: حلائل الأبناء، وهن زوجات أبنائه، وأبناء أبنائه وبناته، وإن
سفلوا من نسب أو رضاع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ
الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] ويحرمن بمجرد العقد، لعموم
الآية فيهن.
الرابعة: زوجات الأب القريب والبعيد من قبل الأب والأم من نسب أو رضاع
يحرمن، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] وسواء دخل بهن أو لم يدخل
لعموم الآية.
فصل:
كل من ذكرنا من المحرمات من النسب والرضاع تحرم ابنتها، وإن نزلت درجتها،
إلا بنات العمات والخالات فإنهن محللات، لقول الله تعالى: {وَبَنَاتِ
عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ}
[الأحزاب: 50] وكذلك بنات من نكحهن الآباء، والأبناء فإنهن محللات، فيجوز
للرجل نكاح ربيبة أبيه وابنه، لقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ
ذَلِكُمْ} [النساء: 24] .
فصل:
ومن حرم نكاحها حرم وطؤها بملك اليمين؛ لأنه إذا حرم النكاح لكونه طريقاً
إلى الوطء، فتحريم الوطء أولى. وكل من حرمها النكاح من أمهات النساء
وبناتهن، وحلائل الآباء والأبناء، حرمها الوطء في ملك اليمين والشبهة
والزنى كذلك، ولأن الوطء آكد في التحريم من العقد، وكذلك تحرم به الربيبة،
ولأنه سبب للبعضية، أشبه الوطء في النكاح. ولا فرق بين الوطء في القبل
والدبر؛ لأن كل واحد منهما وطء في فرج يجب الحد بجنسه، فاستويا في التحريم
به. وإن وطئ صغيرة لا يوطأ مثلها، أو ميتة ففيه وجهان:
(3/28)
أحدهما: ينشر الحرمة؛ لأنه معنى ينشر
الحرمة المؤبدة، أشبه الرضاع.
والثاني: لا ينشرها؛ لأنه ليس بسبب للبعضية، أشبه النظر. وفي القبلة واللمس
لشهوة، والنظر إلى الفرج لشهوة روايتان:
إحداهما: يحرم؛ لأنها مباشرة لا تباح إلا بملك، فتعلق بها تحريم المصاهرة،
كالوطء.
والثانية: لا تحرم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] . يريد بالدخول
الوطء. وإن تلوط بغلام، فاختار أبو الخطاب: أن حكمه في تحريم المصاهرة حكم
المباشرة فيما دون الفرج، لكونه وطئا في غير محله. وقال غيره من أصحابنا:
حكمه حكم الزنى. فيحرم على الواطئ أم الغلام وابنته، ويحرم على الغلام أم
الواطئ وابنته؛ لأنه وطء في فرج آدمي، أشبه الزنا بالمرأة، وإن وطئ أم
امرأته وابنتها انفسخ النكاح؛ لأنه طرأ عليها ما يحرمها، أشبه الرضاع.
فصل:
النوع الرابع: تحريم الجمع وهو ضربان: جمع حرم لأجل النسب بين المرأتين،
وهو ثابت في أربع. بين الأختين، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا
بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] وسواء كانتا من أبوين، أو من أحدهما، أو
من نسب أو رضاع، لعموم الآية في الجميع.
والثاني: بين الأم وبنتها؛ لأن تحريم الجمع بين الأختين تنبيه على تحريم
الجمع بين الأم وبنتها.
والثالث: الجمع بين المرأة وعمتها.
والرابع: الجمع بينها وبين خالتها، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين
المرأة وخالتها» متفق عليه؛ ولأنهما امرأتان لو كانت إحداهما ذكراً حرمت
عليه الأخرى، فحرم الجمع بينهما، كالأختين؛ ولأنه
(3/29)
يفضي إلى قطيعة الرحم المحرم، لما بين
الزوجات من التغاير، والتنافر، والقريبة والبعيدة سواء في التحريم، لتناول
اللفظ لهما، ولأن المحرمية ثابتة بينهما مع البعد، فكذلك تحريم الجمع. فإن
تزوج أختين في عقد واحد بطل فيهما؛ لأن إحداهما ليست أولى بالبطلان من
الأخرى فبطل فيهما، كما لو باع درهماً بدرهمين. وإن تزوج امرأة وابنتها في
عقد واحد ففيها وجهان:
أحدهما: يبطل فيهما كالأختين.
والثاني: يبطل في الأم وحدها؛ لأنها تحرم بمجرد العقد على ابنتها، والبنت
لا تحرم بمجرد العقد، فكانت الأم أولى بالبطلان، فاختصت به، وإن تزوجت
امرأة، ثم تزوج عليها من يحرم الجمع بينهما لم يصح نكاح الثانية وحدها؛
لأنها اختصت بالجمع.
فصل:
وإن تزوج امرأة، ثم طلقها لم تحل له أختها، ولا عمتها ولا خالتها حتى تنقضي
عدتها، رجعية كانت أو بائنة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في
رحم أختين» ولأنها محبوسة على النكاح لحقه، فأشبهت الرجعية. ولو قال:
أخبرتني بانقضاء عدتها فكذبته لم يقبل قوله في إسقاط نفقتها وسكناها، ويقبل
في سقوط رجعتها؛ لأنه يقر بسقوط حقه. وفي جواز نكاح أختها؛ لأنه حق لله
تعالى، وهو مقلد فيه. ولو أسلم زوج المجوسية، أو الوثنية لم يحل له نكاح
أختها حتى تنقضي عدتها. وإن أسلمت زوجته دونه فنكح أختها، ثم أسلما في عدة
الأولى اختار منهما واحدة، كما لو تزوجهما معاً. وإن أسلما بعد عدة الأولى
بانت منه، والثانية زوجته.
فصل:
وإن ملك أختين جاز؛ لأن الملك لا يختص مقصوده بالاستمتاع، ولذلك جاز أن
يملك من لا يحل له، كالمجوسية، وأخته من الرضاع. وله وطء إحداهما، أيتهما
شاء؛ لأن الأخرى لم تصر فراشاً، فلم يكن جامع بينهما في الفراش، فإذا وطئها
حرمت أختها. حتى تحرم الموطوءة بإخراج عن ملكه أو تزويج أو يعلم أنها ليست
حاملاً، لئلا يكون جامعاً بينهما في الفراش، أو يكون جامعاً ماءه في رحم
أختين. فإن عزلها عن فراشه واستبرأها لم تحل له أختها؛ لأنه لا يؤمن عوده
إليها، فيكون جامعاً
(3/30)
بينهما. وإن رهنها، أو ظاهر منها لم تحل
أختها؛ لأنه متى شاء فك الرهن وكفر فأحلها. وكذلك إن كاتبها؛ لأنه بسبيل من
حلها بما لا يقف على غيرهما، فأشبه ما لو رهنها. وروي عن أحمد: أنه لا يحرم
الجمع بين الأختين في الوطء، وإنما يكره لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] . والمذهب الأول، لكونه إذا حرم
الجمع في النكاح لكونه طريقاً إلى الوطء ففي الوطء أولى. وإن تزوج امرأة
فملك أختها جاز. ولا تحل له الأمة؛ لأن أختها على فراشه. فإن وطئها لم تحل
الزوجة حتى يستبرئ الأمة، ويحتمل أن تحرم حتى يخرج الأمة عن ملكه، أو
يزوجها؛ لأنها قد صارت فراشاً. وإن وطء أمته ثم تزوج أختها، فقال القاضي:
ظاهر كلام أحمد أن النكاح لا يصح؛ لأن النكاح سبب يصير به فراشاً، فلم يجز
أن يرد على فراش الأخت كالوطء. قال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد: أنه يصح؛
لأن النكاح سبب يستباح به الوطء، فجاز أن يرد على وطء الأخت كالشراء. ولا
تحل المنكوحة حتى تحرم الأمة بإخراج عن ملكه، أو تزويج لما ذكرنا في التي
قبلها. وإن باع الموطوءة أو زوجها، ثم تزوج أختها، ثم عادت الموطوءة إلى
ملكه لم تحل له، كما لو اشتراها ابتداء. ولا تحرم الزوجة؛ لأن النكاح أقوى.
وعنه: ما يدل على تحريمها أيضاً حتى يخرج الأمة عن ملكه؛ لأن هذه فراش،
والمنكوحة فراش فلا يحل وطء واحدة منهما، كما لو كانتا أمتين. ولو كانت له
أمة يطأها، فزوجها أو باعها، ثم تسرى أختها فعادت الأولى إليه لم يبح له
واحدة منهما حتى يحرم الأخرى؛ لأن الأولى عادت إلى الفراش فاجتمعتا فيه،
فلم يبح له واحدة منهما قبل إخراج الأخرى عن الفراش. فإن ملك أختين فوطئهما
فقد أتى محرماً، ولا حد عليه؛ لأنه وطئ مملوكته، فأشبه وطء المظاهر منها،
ولا تحل له واحدة منهما حتى يحرم الأخرى، كما يحرم وطء الأولى الثانية.
فصل:
إذا تزوج أختين في عقدين، ثم جهل السابقة منهما حرمتا جميعاً؛ لأن المحللة
اشتبهت بالمحرمة فحرمتا جميعاً، كما لو اشتبهت بأجنبية، وعليه فراق كل
واحدة منهما بطلقة، لتحل لغيره، ويزول حبسه عنها، إلا أن يريد إمساك
إحداهما، فيطلق الأخرى، ويجدد العقد للتي يمسكها. فإن طلقهما معاً قبل
الدخول، فعليه نصف المهر لإحداهما؛ لأن نكاحها صحيح، ولا يعلم أيتهما هي،
فيقرع بينهما فيه؛ لأنهما سواء فيقرع بينهما، كما لو أراد السفر بإحدى
زوجتيه، فمن خرجت له القرعة فلها نصف صداقها. وقال
(3/31)
أبو بكر: يتوجه ألا يلزمه لهما صداق؛ لأنه
مجبر على طلاقهما، فلم يلزمه صداقهما، كما لو فسخ نكاحه برضاع أو غيره.
قال: وهذا اختياري. وإن كان دخل بهما، فعليه كمال الصداقين لهما، إلا أن
لإحداهما المسمى، وفي الأخرى روايتان:
إحداهما: لها المسمى أيضاً.
والثانية: لها مهر المثل؛ لأنه واجب بالإصابة، لا بالعقد. فإن قلنا: يجب
مهر المثل أقرعنا بينهما فيه. وإن أراد نكاح إحداهما طلق الأخرى. وعقد
النكاح للثانية، إلا أنه إن كان لم يدخل بواحدة منهما، فله أن يعقد النكاح
في الحال. وإن كان دخل بها لم يعقده حتى تنقضي عدتها، لئلا يكون نكاحاً
لإحداهما في عدة أختها، أو ناكحاً لمعتدة من وطئه لها في غير ملكه.
فصل:
ولا يحرم الجمع بين ابنتي العم، ولا ابنتي الخال، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ولأن إحداهما لو
كانت ذكراً حلت له الأخرى، لكن يكره لما روى عيسى بن طلحة قال: «نهى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تزوج المرأة على ذي قرابتها
مخافة القطيعة» وهذا محمول على الكراهة لما ذكرناه، ويجوز الجمع بين المرأة
وربيبتها للآية. وفعله عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن صفوان بن أمية.
ويجوز للرجل أن يتزوج ربيبة ابنه وربيبة أبيه، وربيبة أمه للآية؛ ولأنه لا
نسب بينهما ولا سبب محرم.
فصل:
الضرب الثاني: تحريم الجمع، لكثرة العدد. فلا يحل للحر أن يجمع بين أكثر من
أربع زوجات بلا خلاف، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ
مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] يعني اثنتين أو
ثلاثاً أو أربعاً، «ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال
لغيلان بن سلمة حين أسلم وتحته عشر نسوة: أمسك أربعاً وفارق سائرهن» رواه
الترمذي.
(3/32)
وليس للعبد أن يتزوج أكثر من اثنتين، لما
روي عن الحكم بن عيينة أنه قال: أجمع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن العبد لا ينكح إلا اثنتين. وروى الإمام أحمد
أن عمر سأل الناس عن ذلك، فقال: عبد الرحمن بن عوف: لا يتزوج إلا اثنتين.
وهذا كان بمحضر من الصحابة فلم ينكر، فكان إجماعاً. والحكم فيمن تزوج
خمساً، أو نكح خامسة في عدة الرابعة، ونحو ذلك من الفروع، كالحكم في الجامع
بين أختين على ما مضى فيه.
فصل:
ويباح التسري من الإماء من غير حصر، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]
ولأن القسم بينهن غير واجب، فلم ينحصرن في عدد. وللعبد أن يتسرى بإذن سيده،
نص عليه أحمد؛ لأن ذلك قول ابن عمر، وابن عباس، ولا يعرف لهما مخالف من
الصحابة، ولأن العبد يملك في النكاح، فملك التسري كالحر. وإنما يملك التسري
إذا ملكه سيده وأذن له في التسري. قال القاضي: يجب أن يكون تسري العبد
مبنياً على الروايتين من ثبوت الملك له بتمليك سيده؛ لأن الوطء لا يباح إلا
بنكاح، أو ملك يمين. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] والمكاتب كالقن سواء؛ لأنه عبد
ما بقي عليه درهم. فأما من بعضه حر، فإن ملك بجزئه الحر جارية فملكه تام،
وله الوطء بغير إذن السيد، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] ولأن ملكه عليها تام. فأما تزويجه، فإنه
يلزمه حقوق تتعلق بجميعه، فاعتبر رضى السيد به، ليكون راضياً بتعلق الحق
بملكه. وإن تسرى العبد بإذن سيده ثم رجع لم يكن له الرجوع نص عليه؛ لأنه
يملك به البضع فلم يملك فسخه، كالنكاح. وقال القاضي: ويحتمل أنه أراد
التزويج. وله الرجوع في التسري؛ لأنه رجوع فيما ملكه لعبده، فأشبه سائر
المال.
فصل:
النوع الخامس: المحرمات لاختلاف الدين، فلا يحل لمسلم نكاح كافرة غير
كتابية، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى
يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وقوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}
[الممتحنة: 10] . ولا يحل نكاح مرتدة وإن تدينت بدين أهل الكتاب؛ لأنها لا
تقر على دينها، ولا مجوسية. لأنه لم يثبت لهم كتاب، ولا كتابية، أحد أبويها
غير كتابي،
(3/33)
لأنها لم تتمحض كتابية، أشبهت المجوسية،
ولا من يتمسك بصحف إبراهيم وزبور داود، أو كتاب غير التوراة والإنجيل،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى
طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] ؛ ولأن تلك الكتب ليست
بشرائع، إنما هي مواعظ وأمثال. ويباح نكاح حرائر الكتابيات، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وهم اليهود والنصارى ومن وافقهم من أصل دينهم
ودان بالتوراة والإنجيل، كالسامرة وفرق النصارى، وفي نصارى بني تغلب
روايتان:
إحداهما: إباحة نسائهم؛ لأنهن كتابيات فيدخلن في عموم الآية.
والثانية: تحريمهن؛ لأنه لا يعلم دخولهن في دينهم قبل تبديل كتابهم. ولا
يحل لمسلمة نكاح كافر بحال، كتابياً كان أو غير كتابي، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:
221] وقوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ
إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}
[الممتحنة: 10] . وكل من تحل حرائرهم بالنكاح حل وطء إمائهم بملك اليمين.
ومن حرم نكاح حرائرهم، حرم وطء إمائهم بملك اليمين بالقياس على المحرمات
بالرضاع.
فصل:
النوع السادس: التحريم لأجل الرق وهو ضربان:
أحدهما: تحريم الإماء، وهن نوعان: كتابيات، فلا يحل لمسلم نكاحهن ولو كان
عبداً. وعنه: يجوز، والأول: المذهب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] .
فشرط في إباحتهن إيمانهن، ولأنهن ناقصات من وجهين، أشبه المشركات.
والثاني: الأمة المسلمة، فللعبد نكاحها؛ لأنها تساويه، ولا تحل لحر نكاحها
إلا بشرطين: عدم الطول، وهو: العجز عن نكاح حرة، أو شراء أمة.
والثاني: خشية العنت: وهو الزنى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ
فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}
[النساء: 25] . إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}
[النساء: 25] فإن أمكنه نكاح حرة كتابية لم تحل له
(3/34)
الأمة المسلمة؛ لأنه لا يخشى العنت، ولأنه
أمكنه صيانة ولده عن الرق فحرم عليه إرقاقه، كما لو قدر على نكاح مؤمنة.
وإن تزوج أمة تحل له، ثم وجد الطول ففيه وجهان:
أحدهما: نكاحه باق، اختاره الخرقي؛ لأن زوال الشرط بعد العقد لا يبطله، كما
لو أمن العنت.
والثاني: يبطل؛ لأنه أبيح للضرورة فزال بزوالها، كأكل الميتة. وإن تزوج حرة
على أمة فهل يبطل نكاح الأمة؟ على روايتين كذلك، فإن تزوج حرة تعفه وأمة في
عقد واحد فسد نكاح الأمة، لعدم شرطه، وهو عدم طول الحرة. وفي نكاح الحرة
روايتان.
أصلهما تفريق الصفقة. وكذلك الحكم في كل عقد جمع فيه بين محللة ومحرمة،
كأجنبية وأخته من الرضاع. فإن كانت الحرة لا تعفه، ولم يتمكن من نكاحها حرة
تعفه ففي نكاح الأمة روايتان:
إحداهما: لا يصح؛ لأنه واجد الطول حرة.
والثانية: يصح؛ لأنه خائف العنت، عادم لطول حرة تعفه، فحلت له الأمة،
كالعاجز عن نكاح حرة. فعلى هذا يصح العقد فيهما جميعاً، وكذلك الحكم إن
كانت تحته حرة لا تعفه، فيتزوج عليها أمة، أو كان تحته أمة لا تعفه فيتزوج
عليها ثانية، ففيها روايتان.
قال الخرقي: وله أن ينكح من الإماء أربعاً إذا كان الشرطان فيه قائمين.
ووجه الروايتين ما تقدم. وإن تزوج أمتين في عقد وإحداهما تعفه بطل فيهما؛
لأن إحداهما ليست بأولى من الأخرى، فبطل فيهما، كما لو جمع بين أختين.
فصل:
الضرب الثاني: أنه لا يحل للعبد نكاح سيدته؛ لأن أحكام الملك والنكاح
تتناقض، إذا ملكها إياه يقتضي وجوب نفقته عليها، وسفره بسفرها، وطاعته
إياها. ونكاحه إياها يوجب عكس ذلك، فيتنافيان. ولا يصح أن يتزوج الحر أمته؛
لأن النكاح يوجب للمرأة حقوقاً يمنعها ملك اليمين من القسم والمبيت فبطل.
فإن ملكت المرأة زوجها، أو جزءاً منه، أو ملك الرجل زوجته أو جزءاً منها
انفسخ النكاح، لما ذكرنا، ويحرم على الأب نكاح جارية ابنه؛ لأن له فيها
شبهة يسقط الحد بوطئها، فلم يحل له نكاحها، كالمشتركة بينه وبين غيره.
وللابن أن يتزوج أمة أبيه، لعدم ذلك فيه. وإن تزوج جارية ثم ملكها ابنه،
ففيه وجهان:
(3/35)
أحدهما: يبطل النكاح؛ لأن ملك الابن كملكه
في إسقاط الحد وحرمة الاستيلاد، فكان كملكه في إبطال النكاح.
والثاني: لا يبطل؛ لأنه يملكها بملك الابن، فلم يبطل نكاحها، كما لو ملكها
أجنبي.
فصل:
النوع السابع: منكوحة غيره، والمعتدة منه، والمستبرأة منه، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] . ولقوله: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ
النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] ؛ ولأن
تزويجها يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب، وسواء في ذلك المعتدة من
وطء مباح، أو محرم، أو من غير وطء؛ لأنه لا يؤمن أن تكون حاملاً، فلو جوزنا
تزويجها لاختلاط نسب المتزوج بنسب الواطئ الأول. ولا يجوز نكاح المزني بها
بالحمل إلا أن تضع. فإن وطئت امرأة الرجل بشبهة أو زنا لم ينفسخ نكاحه؛ لأن
النكاح سابق فكان أولى. ولا يحل له وطؤها حتى تنقضي عدتها، لقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين: «لا يحل لرجل يؤمن بالله
واليوم الآخر يسقي ماءه زرع غيره» رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وأبو داود،
وزاد يعني: إتيان الحبالى؛ ولأنها ربما يأتي بولد من الزنا فينسب إليه. قال
أحمد: وإذا علم الرجل من جاريته الفجور فلا يطؤها لعلها تلحق به ولداً ليس
منه.
فصل:
ولا يحل التعريض بخطبة الرجعية؛ لأنها زوجته، فأشبهت ما قبل الطلاق، ويجوز
التعريض بخطبة المعتدة من الوفاة، والطلاق الثلاث، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ
النِّسَاءِ} [البقرة: 235] . وروت «فاطمة بنت قيس: أن أبا عمر بن حفص ابن
المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات، فأرسل إليها النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تسبقيني بنفسك» .
(3/36)
ويحرم التصريح؛ لأن تخصيص التعريض بالإباحة
دليل على تحريم التصريح، ولأن التصريح لا يحتمل غير النكاح، فلا يأمن أن
يحملها الحرص عليه على الإخبار بانقضاء عدتها قبل انقضائها، بخلاف التعريض.
فأما البائن بخلع، فلزوجها التصريح بخطبتها والتعريض؛ لأنه يحل له نكاحها
في عدتها، إذ لا يصان ماؤه عن مائه، ولا يخشى اختلاط نسبه بنسب غيره. وهل
يحل لغيره التعريض بخطبتها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحل؛ لأن الزوج يملك استباحتها في عدتها فأشبهت الرجعية.
والثاني: يحل؛ لأنها بائن أشبهت المطلقة ثلاثاً. والمرأة كالرجل فيما يحل
لها من الجواب ويحرم. والتصريح أن يقول: زوجيني نفسك إذا انقضت عدتك ونحوه،
والتعريض أن يقول: إني في مثلك لراغب، ولا تسبقيني بنفسك، وما أحوجني إلى
مثلك ونحوه. وتجيبه: ما يرغب عنك. وإن قضي شيء كان ونحوه.
فصل:
ومن خطب امرأة فأجيب حرم على غيره خطبتها إلا أن يأذن، أو يترك، لما روى
أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا
يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك» متفق عليه. وفي حديث: «أو يأذن
له فيخطب» ولأن في ذلك إفساداً على أخيه، وإيقاعاً للعداوة بينهما فحرم،
كبيعه على بيعه. وإن لم يسكن إليه، فلغيره خطبتها، لما روت «فاطمة بنت قيس
أنها أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت: أن معاوية
وأبا جهم خطباها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما
أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، أنكحي
أسامة» متفق عليه. فخطبها بعد خطبتها. وإن لم يعلم هل أجابت أم لا؟ ففيه
وجهان:
(3/37)
أحدهما: التحريم، لعموم النهي.
والثاني: الإباحة؛ لأن الأصل عدم الإجابة المحرمة. والتعويل في الإجابة
والرد عليها إن كانت غير مجبرة، وعلى وليها إن كانت مجبرة.
فصل:
النوع الثامن: الملاعنة. تحرم على الملاعن وتذكر في بابه.
النوع التاسع: الزانية، يحرم نكاحها حتى تتوب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] ؛
ولأنه لا يؤمن أن تلحق به ولداً من غيره، فحرم نكاحها كالمعتدة. ويحرم
نكاحها في عدتها على الزاني وغيره؛ لأن ولدها لا يلحق نسبه بأحد، فيؤدي
تزويجها إلى اشتباه النسب. فأما الموطوءة بشبهة، أو في نكاح فاسد، فهل
يحرم؟ فظاهر كلام الخرقي تحريمها على الواطئ، لقوله في الذي تزوج امرأة في
عدتها: له أن ينكحها بعد انقضاء العدتين، وذلك أنه وطء من غير ملك. أشبه
الوطء المحرم. ويحتمل أن لا تحرم على الواطئ؛ لأن نسب ولدها لاحق به،
فأشبهت المعتدة من النكاح.
فصل:
واختلف أصحابنا في الخنثى، المشكل. فقال أبو بكر: لا يصح نكاحه. ونص عليه
أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية الميموني؛ لأنه مشكوك في حله
للرجال والنساء فلم يحل، كما لو اشتبهت الأجنبية بالأخت. وقال الخرقي: يرجع
إلى قوله. فإن قال: إني رجل حل له النساء وإن قال: أنا امرأة لم ينكح إلا
رجلاً؛ لأنه معنى لا يعرف إلا من جهته. وليس فيه إيجاب حق على غيره فوجب أن
يقبل منه، كما يقبل
(3/38)
قول المرأة في انقضاء عدتها، فعلى هذا إن
عاد بعد نكاح المرأة، فقال: أنا امرأة انفسخ نكاحه، لإقراره ببطلانه، ولزمه
نصف المهر إن كان قبل الدخول، وجميعه إن كان بعده، ولا يحل له بعد ذلك أن
ينكح؛ لأنه أقر بقوله: أنا رجل بتحريم الرجال، وأقر بقوله: أنا امرأة
بتحريم النساء. وإن تزوج رجلاً ثم قال: أنا رجل لم يقبل قوله في فسخ نكاحه؛
لأنه حق عليه، فإذا زال النكاح فلا مهر له؛ لأنه يقر أنه لا يستحقه، وسواء
دخل به أو لم يدخل. ويحرم عليه النكاح بعد ذلك لما ذكرناه.
فصل:
النوع العاشر: التحريم للإحرام. فلا يحل نكاح محرم ولا محرمة، ولا يجوز عقد
المحرم نكاح غيره. ومتى عقد أحد نكاحاً لمحرم، أو على محرمة، أو عقد المحرم
نكاحاً لغيره، أو لنفسه فالعقد باطل، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب» رواه مسلم؛ ولأنه عارض
منع الطيب فمنع النكاح، كالعدة. وعنه: أن عقد المحرم النكاح لغيره صحيح؛
لأنه محرم، لكونه من دواعي الوطء، ولا يحصل ذلك بكونه ولياً. والأول أصح،
لعموم الخبر، فأما إن كان شاهداً في النكاح انعقد بشهادته؛ لأنه من أهل
الشهادة، فأشبه الحلال. وتكره له الشهادة والخطبة، للخبر في الخطبة،
والشهادة في معناها؛ لأنها معونة على النكاح.
[باب الشروط في النكاح]
وهي قسمان صحيح وفاسد. فالصحيح نوعان:
أحدهما: شرط ما يقتضيه العقد، كتسليم المرأة إليه، وتمكنه من استمتاعها،
فهذا لا يؤثر في العقد. ووجوده كعدمه.
والثاني: شرط ما تنتفع به المرأة، كزيادة على مهرها معلومة، أو نقد معين،
أو أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى، أو لا يسافر بها ولا ينقلها عن دارها ولا
بلدها، فهذا صحيح يلزم الوفاء به، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به
الفروج» متفق عليه. وروي أن رجلاً تزوج امرأة وشرط لها دارها، ثم أراد
نقلها، فخاصموه إلى عمر، فقال: لها شرطها. فقال الرجل: إذاً يطلقننا. فقال
(3/39)
عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط، ولأنه شرط
لها، فيه نفع ومقصود لا ينافي مقصود النكاح فصح، كالزيادة في المهر. فإن لم
يف به فلها فسخ النكاح لأنه شرط لازم في عقد، فثبت حق الفسخ بفواته، كشرط
الرهن في البيع.
فصل:
القسم الثاني: فاسد وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: ما يبطل في نفسه، ويصح النكاح، مثل أن يشرط عليها أنه لا مهر لها،
أو الرجوع عليها بمهرها، أو لا نفقة لها عليه، أو أن نفقته عليها، أو لا
يطؤها، أو يعزل عنها، أو يقسم لها دون قسم صاحبتها، أو ألا يقسم لها إلا في
النهار، أو ليلة في الأسبوع ونحوه، فهذه الشروط باطلة في نفسها؛ لأنها
تتضمن إسقاط حق يجب بالعقد قبل انعقاده فلم يصح، كإسقاط الشفعة قبل البيع.
وقد نقل عن أحمد في النهاريات والليليات: ليس هذا من نكاح أهل الإسلام،
وهذا يحتمل إفساد العقد، فيتخرج عليه سائر الشروط الفاسدة أنها تفسده؛
لأنها شروط فاسدة، فأفسدت العقد، كما لو زوجه وليته بشرط أن يزوجه الآخر
وليته. وهذا يحتمل أن يفسد بشرطها عليها ترك الوطء؛ لأنه ينافي مقتضى العقد
ومقصوده. ولو شرط عليها ألا يطأها، لم يفسد؛ لأن الوطء حقه عليها وهي لا
تملكه.
فصل:
النوع الثاني: ما يفسد النكاح من أصله، وهو أربعة أمور:
أحدهما: أن يشرطا تأقيت النكاح، وذلك نكاح المتعة، مثل أن يقول: زوجتك
ابنتي شهراً أو نحوه فالنكاح باطل نص عليه، لما روى الربيع بن سبرة عن أبيه
أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى عن المتعة في
حجة الوداع» وفي لفظ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«حرم متعة النساء» رواه أبو داود؛ ولأنه لم يتعلق به أحكام النكاح من
الطلاق وغيره فكان باطلاً، كسائر الأنكحة الباطلة. قال أبو بكر: فيه رواية
أخرى: أنها مكروهة؛ لأن أحمد قال في رواية ابن منصور يجتنبها أحب إلي،
فظاهرها الكراهة، لا
(3/40)
التحريم وغيره من أصحابنا يقول: المسألة
رواية واحدة في تحريمها. ولو شرط أن يطلقها في وقت بعينه لم يصح النكاح؛
لأنه شرط يمنع بقاء النكاح، فأشبهت التأقيت. ويتخرج أن يصح النكاح ويبطل
الشرط؛ لأن النكاح وقع مطلقاً، وشرط على نفسه شرطاً لا يؤثر فيه، فأشبه ما
لو شرط ألا يطأها.
فصل:
الأمر الثاني: أن يزوجه وليته بشرط أن يزوجه الآخر وليته، فهذا نكاح
الشغار. ولا تختلف الرواية عن أحمد في فساده، لما روى ابن عمر أن رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن نكاح الشغار» . والشغار: أن
يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق. متفق عليه؛ ولأنه
جعل كل واحد من العقدين سلفاً في الآخر فلم يصح، كما لو قال: بعني ثوبك على
أن أبيعك ثوبي. فإن سميا مع ذلك صداقاً، فقال: زوجتك أختي على أن تزوجني
أختك، ومهر كل واحدة مائة، فالمنصوص عن أحمد صحته لحديث ابن عمر. وقال
الخرقي: لا يصح، لما روى الأعرج «أن العباس بن عبيد الله بن العباس: أنكح
عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته: وكانا جعلا صداقاً،
فكتب معاوية إلى مروان: يأمره أن يفرق بينهما. وقال في كتابه: هذا الشغار
الذي نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواه أبو
داود ولأنه شرط عقد في عقد فلم يصح، كما لو باعه ثوبه بشرط أن يبيعه ثوبه،
وإن سمي لإحداهما مهراً، دون الأخرى، فقال أبو بكر: النكاح فاسد فيهما،
وقال القاضي: يجب أن يكون في التي سمى لها مهراً روايتان.
فصل:
الشرط الثالث: أن يشرط عليه إحلالها لزوج قبله، ثم يطلقها فيكون النكاح
حراماً باطلاً، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أنه قال: «لعن الله المحلل والمحلل له» قال الترمذي: هذا حديث صحيح. فإن
تواطآ على ذلك قبل العقد فنواه في العقد ولم يشرطه فالنكاح باطل أيضاً. نص
عليه. وقال: متى أراد بذلك الإحلال فهو ملعون،
(3/41)
لعموم الحديث. وروى نافع: أن رجلاً قال
لابن عمر: امرأة تزوجتها أحلها لزوجها ولم يأمرني ولم تعلم. قال: لا، إلا
نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها، وإن كرهتها فارقتها. وإن كنا نعده على عهد
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سفاحاً. ولا يزالان
زانيين وإن مكثا عشرين سنة. وإن شرط عليه سابقاً إحلالها فنوى غير ذلك صح؛
لأنه خلا عن نية التحليل وشرطه. وإن قصدت المرأة التحليل ووليها دون الزوج
لم يؤثر في العقد؛ لأنه ليس إليهما إمساك ولا فراق، فلم يؤثر بنيتهما،
كالأجنبي. وإن زوجها عبده بنية أن يهبها إياه لينفسخ نكاحه فهو نكاح
المحلل؛ لأنه قصد به التحليل. وذكر القاضي: فيما إذا خلا العقد عن شرط
التحليل وجهاً آخر: أنه يصح. وخرجه أبو الخطاب رواية؛ لأنه روي عن أحمد:
أنه كرهه فظاهره الصحة مع الكراهة؛ لأن مجرد النية لا يفسد العقد كما لو
اشترى عبداً ينوي أن يبيعه.
فصل:
النوع الثالث: فاسد وفي فساد النكاح به روايتان:
وهو أن يتزوجها بشرط الخيار، أو إن رضيت أمها، أو إنسان ذكره، أو بشرط ألا
يكره فلان، أو إن جاءها بالمهر إلى كذا، وإلا فلا نكاح بينهما. فنقل عنه
ابناه وحنبل: نكاح المتعة حرام، وكل نكاح فيه وقت أو شرط فاسد؛ لأن عقد
النكاح يجب أن يكون ثابتاً لازماً، فنافاه هذا الشرط، كالخلع. ونقل عنه: أن
العقد صحيح والشرط باطل؛ لأن النكاح يصح في المجهول فلم يفسد بالشرط
الفاسد، كالعتق. ونقل عنه فيمن شرط إن جاءها بالمهر في وقت كذا، وإلا فلا
نكاح بينهما أن الشرط صحيح؛ لأن لها فيه نفعاً أشبه ما لو اشترط ألا يخرجها
من دارها.
[باب الخيار في النكاح]
وأسبابه أربعة:
أحدها: أن يجد أحدهما بصاحبه عيباً يمنع الوطء وهو سبعة أشياء: ثلاثة يشترك
فيها الرجال والنساء، وهي: الجنون مطبقاً كان أو غير مطبق، والجذام،
والبرص، واثنان في الرجل: الجب والعنة، واثنان في المرأة: الرتق، وهو
انسداد الفرج. والفتق وهو انخراق ما بين مخرج البول والمني. وقيل: انخراق
ما بين القبل والدبر، فمن وجد بصاحبه عيباً منها فله الخيار في فسخ النكاح،
لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج امرأة من
بني غفار فرأى بكشحها بياضاً، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: البسي ثيابك والحقي بأهلك»
(3/42)
فثبت الرد بالبرص بالخبر، وقسنا عليه سائر
العيوب؛ لأنها في معناه في منع الاستمتاع. وإن كان قد بقي من ذكر المجبوب
ما يمكن الجماع به، ويغيب منه في الفرج قدر الحشفة فلا خيار لها؛ لأنه لا
يمنع الاستمتاع. وإن اختلفا في ذلك، فالقول قول المرأة؛ لأنه يضعف بالقطع،
والأصل عدم الوطء.
فصل:
وإن وجد أحدهما الآخر خنثى، أو وجدت زوجها خصياً ففيه وجهان:
أحدهما: لها الخيار؛ لأنه يثير نفرة، وفيه نقص وعار، فأشبه البرص.
والثاني: لا خيار لها؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع. واختلف أصحابنا في البخر،
وهو نتن الفم. وفي الذي لا يستمسك بوله أو خلاه. فقال أبو بكر: يثبت به
الخيار؛ لأنه ينفر عن الاستمتاع، ويتعدى ضرره ونجاسته. وقال غيره: لا خيار
فيه؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع ولا يخشى تعديه، ويتخرج عليه الناصور والباسور
والقروح السيالة في الفرج؛ لأنها في معناه. واختلفوا في العفل، وقيل: هي
رغوة في الفرج يمنع لذة الوطء، فعده الخرقي مانعاً كذلك، ولم يعده القاضي
في الموانع؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع. وكذلك يخرج في الرائحة الكريهة التي
في الفرج تثور عند الوطء. وما عدا هذه العيوب كالقرع والعمى والعرج لا يثبت
به خيار؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع ولا يخشى تعديه.
فصل:
ومن علم العيب وقت العقد فلا خيار له؛ لأنه دخل على بصيرة بالعيب فأشبه من
اشترى ما يعلم عيبه. وإن وجد بصاحبه عيباً به مثله، ففيه وجهان:
أحدهما: لكل واحد منهما الخيار، لوجود سببه، فأشبه العبد المغرور بأمة،
ولأنه قد يعاف عيب غيره، وإن كان به مثله.
والثاني: لا خيار له؛ لأنهما متساويان في النقص فأشبها القفيزين. وإن حدث
العيب بأحدهما بعد العقد، ففيه وجهان:
أحدهما: لا خيار له، وهو قول أبي بكر: لأنه عيب حدث بعد لزوم العقد أشبه
الحادث بالمبيع.
والثاني: يثبت به الخيار. وهو ظاهر قول الخرقي؛ لأنه عيب، لو قارن أثبت
الخيار، فإذا حدث أثبته كالإعسار.
(3/43)
فصل:
وإذا علم العيب فأخر المطالبة بالفسخ لم يبطل خياره. وقال القاضي: يبطل.
وأصلهما ما ذكرنا في خيار الرد بالعيب في المبيع، وإن قال: رضيت به معيباً،
أو وجد منه دلالة على الرضى، كالاستمتاع، أو التمكين منه بطل خياره.
فصل:
وإن فسخ قبل المسيس فلا مهر لها؛ لأنه إن كان الفسخ منها فالفرقة من جهتها،
فأسقطت مهرها كردتها. وإن كان من الزوج فهو لمعنى من جهتها، لحصوله
بتدليسها، فأشبه ما لو باشرتها. وإن كان بعد الدخول استقر المهر ولم يسقط
لاستقرار النكاح بالدخول فيه، ويجب المسمى؛ لأنه نكاح صحيح فيه مسمى صحيح،
فوجب المسمى فيه. كما لو ارتدت. وذكر القاضي: أن فيه رواية أخرى أنه يجب
مهر المثل بناء على العقد الفاسد، وليس هذا بفاسد، إذ لو كان فاسداً لما
ثبت الخيار فيه، ويرجع بالمهر على من غره، لما روي عن عمر أنه قال: أيما
رجل تزوج امرأة بها جنون أو جذام أو برص فمسها فلها صداقها غرم على وليها،
ولأنه غره في النكاح بما يجب به المهر فكان المهر عليه، كما لو غره بحرية
أمة. وعنه: لا يرجع على أحد؛ لأن ذلك يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
-. فإن لم يعلم الولي فالغرور من المرأة. وإن طلق الزوج ثم علم بها عيباً
فعليه المهر، لا يرجع به على أحد؛ لأنه رضي بالتزامه.
فصل:
ولا يجوز الفسخ إلا بحكم حاكم؛ لأنه مختلف فيه، فافتقر إلى الحاكم، كالفسخ
للإعسار. فإن رده الحاكم إلى مستحقه جاز، والفرقة الواقعة بينهما فسخ لا
طلاق؛ لأنه رد لعيب، فكان فسخاً كرد المشتري. وإن اتفقا على الرجعة لم يجز
إلا بنكاح جديد، ويرجع على طلاق ثلاث. وقال أبو بكر: فيها قول آخر: إنها
تحرم على التأبيد؛ لأنه فرقة حاكم، فأشبهت فرقة اللعان، ولنا أنها فرقة
لعيب أشبهت فرقة المعتقة تحت عبد.
فصل:
وليس لولي صغير ولا صغيرة ولا سيد أمة تزويجهم بمعيب؛ لأن فيه ضرراً بهم،
وعليه النظر في الحظ لهم. ولا لولي كبيرة تزويجها بمعيب بغير رضاها؛ لأنه
فيه ضرراً بها. فإن طلبت التزويج بمجبوب أو عنين لم يملك منعها؛ لأن الضرر
يختص بها. وإن أرادت التزويج بمعيب غيرهما فله منعها؛ لأن عليه ضرراً أو
عاراً، ويخشى تعديه
(3/44)
إليها وإلى ولدها، ويحتمل أنه ليس منعها
قياساً على الجب والعنة. فإن رضيا به جاز ويكره. قال أحمد ما يعجبني أن
يزوجها بعنين، وإن رضيت الساعة فتكره إذا دخلت. وإن حدث العيب بالرجل، أو
وجدته معيباً فرضيت به المرأة لم يكن لوليها إجبارها على الفسخ؛ لأنه حقه
في ابتداء العقد لا في دوامه. ولهذا يملك منعها من نكاح العبد، ولو عتقت
تحت عبد لم يملك إجبارها على الفسخ.
فصل:
وإذا اختلفا في عيب المرأة أريت النساء الثقات، فرجع إلى قولهن. فإن ادعت
المرأة أن زوجها عنيناً فأنكر فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل السلامة.
وإن اعترف أجله الحاكم عاماً منذ رافعته، لما روى سعيد بن المسيب: إن عمر
أجل العنين سنة. وعن علي والمغيرة مثله؛ ولأن العجز قد يكون لعارض من
حرارة، أو برودة، أو يبوسة، أو رطوبة فإذا مضت السنة واختلفت عليه الأهوية
ولم يزل علم أنه خلقة. ولا تثبت المدة إلا بالحكم؛ لأنها مدة مختلف فيها
بخلاف مدة الإيلاء. فإذا مضت السنة منذ ضربت له المدة ولم يطأها خيرت في
المقام معه أو فراقه؛ لأن الحق لها. فإن رضيته عنيناً، أو قالت في وقت: قد
رضيته عنيناً لم يكن لها خيار بعد ذلك؛ لأنها رضيت العيب، فأشبه ما لو رضيت
المبيع المعيب. وإن اختارت فراقه فرق الحاكم بينهما. وإن اعترفت أنه وطئها
مرة بطل كونه عنيناً. وإن ادعى أنه وطئها، فادعت أنها عذراء أريت النساء
الثقات، فإن شهدن بما قالت فالقول قولها، وإلا فالقول قوله. وإن اختلفا في
ثيب فالقول قوله؛ لأن الأصل السلامة. وعنه: القول قولها؛ لأن الأصل عدم
الإصابة. وعنه: يخلى معها في بيت، ويقال: أخرج ماءك على شيء، فإن عجز عن
ذلك فالقول قولها. وإن فعل فالقول قوله. فإن ادعت أنه ليس بمني جعل على
النار، فإن ذاب فهو مني، وبطل قولها؛ لأنه شبيه ببياض البيض، وذاك إذا وضع
على النار تجمع ويبس، وهذا يذوب، فيتميز بذلك أحدهما من الآخر، فيختبر به؛
لأن هذا قول عطاء. وإن اعترفت أنه وطئ غيرها، أو وطئها في الدبر، أو في
نكاح آخر لم تزل عنته؛ لأنه قد يعن عن امرأة دون أخرى، وفي نكاح دون نكاح.
والدبر ليس بمحل للوطء، فأشبه ما دون الفرج. ويقتضي قول أبي بكر أنها متى
اعترفت بوطئه لغيرها، أو لها في أي نكاح كان زالت عنته. وهذا اختيار ابن
عقيل؛ لأن العنة جبلة وخلقة، فلا تبقى مع ما ينافيها. وأدنى الوطء الذي
يخرج به من العنة، إيلاج الحشفة في الفرج؛ لأن الوطء الذي تتعلق به الأحكام
دون غيره. وهل يحلف من القول قوله؟ يحتمل وجهين، بناء على الاستحلاف في غير
دعوى المال.
(3/45)
فصل:
السبب الثاني: إذا عتقت المرأة وزوجها عبد فلها الخيار في فسخ النكاح، لما
روت عائشة قالت: «كاتبت بريرة، فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في زوجها وكان عبداً، فاختارت نفسها. قال عروة: ولو كان حراً
ما خيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مالك في
" موطئه " وأبو داود في " سننه ". وإن عتقت وزوجها حر فلا خيار لها، للخبر،
ولأنها كملت تحت كامل، فلم يثبت لها خيار، كما لو أسلمت الكتابية تحت مسلم،
بخلاف زوجة العبد. ولها الفسخ بنفسها؛ لأنه خيار ثبت بالنص والإجماع، ولما
روى الحسن عن عمر بن أمية قال: سمعت رجالاً يتحدثون عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا أعتقت الأمة فهي بالخيار ما لم
يطأها، إن شاءت فارقته، فإن وطئها فلا خيار لها» رواه الإمام أحمد في
المسند. وخيارها على التراخي، للخبر ما لم يطأها، فإن أمكنته من وطئها
عالمة بالحال بطل خيارها، للخبر؛ ولأنه دليل على رضاها به فبطل خيارها، كما
لو نطقت به. وإن لم تعلم بطل خيارها أيضاً، نص عليه أحمد للخبر. وقال
القاضي وأبو الخطاب: لا يبطل؛ لأن تمكينها مع جهلها لا يدل على رضاها به.
وإن لم تعلم بالعتق حتى وطئها، ففيه وجهان كالتي قبلها فعلى هذا إن ادعت
الجهل بالعتق وهي ممن يجوز خفاؤه عليها لبعدها عن المعتق فالقول قولها مع
يمينها، وإن كانت ممن لا يخفى عليها ذلك لقربه واشتهاره لم يقبل قولها، فإن
ادعت الجهل بثبوت الخيار فالقول قولها؛ لأنه لا يعلمه إلا خواص الناس. وإن
أعتق العبد قبل اختيارها بطل خيارها؛ لأن الخيار لدفع الضرر الحاصل بالرق،
وقد زال بعتقه فزال، كرد المعيب إذا زال عيبه. ولو أعتقا معاً فلا خيار
لها. وعنه: لها الخيار، والأول أولى؛ لأنها لو عتقت تحت حر لم يثبت لها
خيار، لعدم الضرر، فكذا هاهنا. ويستحب لمن أراد عتق عبد وجاريته المتزوجين
البداءة بعتق الرجل، لئلا يكون للمرأة عليه خيار. وقد روى أبو داود «عن
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنه كان غلام وجارية، فقالت للنبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني أريد أن أعتقهما، فقال لها:
فابدئي بالرجل» .
فصل:
فإن أعتقت المجنونة والصغيرة فلا خيار لهما؛ لأنهما لا عقل لهما، ولا قول
(3/46)
معتبر، ولا يملكه وليهما؛ لأن هذا طريقه
الشهوة، فلا يدخل تحت الولاية، كالقصاص، فإذا بلغت الصغيرة، وعقلت المجنونة
فلها الخيار حينئذ، لكونهما صارا على صفة يعتبر كلامهما. والحكم في وطئهما
كالحكم في وطء الجاهلة بالعتق.
فصل:
إذا عتق بعض الأمة فلا خيار لها في إحدى الروايتين اختارها الخرقي؛ لأنه لا
نص فيها، ولا يصح قياسها على من عتق جميعها؛ لأنها أكمل منها.
والثانية: لها الخيار اختارها أبو بكر؛ لأنها أكمل من زوجها، فأشبهت
الكاملة بالعتق.
فصل:
إذا فسخت قبل الدخول سقط مهرها؛ لأن الفسخ من جهتها. وعنه: يجب نصف المهر
للسيد؛ لأنه المستحق له، فلا يسقط نصفه من جهة غيره. وإن رضيته فالمهر
للسيد؛ لأنه استحقه بالعقد، وروي وإن فسخت بعد الدخول استقر المسمى للسيد؛
لأنه وجب له بالعقد، واستقر بالدخول، فأشبه ما لو ارتدت. وإن طلقها قبل
اختيارها وقع طلاقه، ولسيدها نصف المهر، وإن كان قبل الدخول، وجميعه إن كان
بعده. وقال القاضي: طلاقه موقوف إن فسخت، تبينا أنه لم يقع، وإن لم تفسخ
وقع. ولنا أنه طلاق من زوج جائز التصرف في نكاح صحيح فوقع، كما لو لم يعتق.
فصل:
وإن طلقها الزوج طلاقاً بائناً، ثم أعتقت فلا خيار لها؛ لأنه لا نكاح
بينهما يفسخ. وإن كان رجعياً فلها الفسخ في العدة؛ لأن نكاحها باق ويمكن
فسخه، فإذا فسخت انقطعت الرجعة، وبنت على ما مضى من العدة، كما لو طلقها
بائنة. وإن اختارت المقام معه بطل خيارها؛ لأنها حالة صح منها اختيار
الفسخ، فصح اختيار المقام، كصلب النكاح.
فصل:
السبب الثالث: الغرر. فلو تزوجت المرأة رجلاً مطلقاً، أو على أنه حر فبان
عبداً فلها الخيار في فسخ النكاح؛ لأنها إذا ملكت الفسخ بالحرية الطارئة،
فللسابقة أولى. ولها الفسخ من غير حاكم، كما لو عتقت تحت عبد. ومن جعل
الحرية من شروط الكفاءة، والكفاءة من شروط النكاح أبطله، لفوات شرطه.
(3/47)
فصل:
وإن تزوج أمة على أنها حرة، أو يظنها حرة، وهو ممن لا يحل نكاح الإماء،
فالنكاح فاسد، وعليه فراقها متى علم، وحكمه حكم الأنكحة الفاسدة في المهر
وغيره. وإن كان ممن تحل له الإماء، فالنكاح صحيح؛ لأن فوات صفة في المعقود
عليه لا تفسد العقد، كما لو تزوجها على أنها بيضاء فبانت سوداء. وفي
الموضعين متى أصابها فولدت منه فالولد حر، حراً كان الزوج أو عبداً؛ لأنه
اعتقد حريتها، وعليه فداء أولاده؛ لأن عمر وعلياً وابن عباس قضوا بذلك.
وعنه: ليس عليه فداؤهم؛ لأن الولد ينعقد حراً، فلم يضمنه لسيدها؛ لأنه لم
يملكه. وعنه: يقال للزوج افتد ولدك وإلا فهم يتبعون الأم. والمذهب الأول.
وله فسخ نكاحها إن أحب؛ لأنه غرور بالحرية، أشبه غرور المرأة. فإن فسخ قبل
الدخول فلا مهر عليه؛ لأن الفسخ لسبب من جهتها. وإن فارقها بعد الدخول
فعليه المهر بما أصاب منها، ويرجع بما غرمه من المهر، وفداء الأولاد في
الموضعين على من غره، نص عليه أحمد. وذكره الخرقي؛ لأن الصحابة الذين
ذكرناهم قضوا به. وعن أحمد: لا يرجع بالمهر، وهو اختيار أبي بكر؛ لأنه يروى
عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ ولأنه وجب في مقابلة نفع وصل إليه.
وظاهر المذهب الأول؛ لأن العاقد ضمن له سلامة الوطء، كما ضمن له سلامة
الولد، فوجب أن يرجع به كقيمة الولد.
فصل:
ويفدي الأولاد بقيمتهم يوم الولادة؛ لأنه يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -؛ ولأنه محكوم بحريتهم يوم وضعهم، فاعتبر فداؤهم يومئذ. وتجب
القيمة؛ لأنه ضمان وجب لفوات حرية، فأشبه ضمان حصة شريكه إذا سرى العتق
إليه. وعنه: يفديهم بعبيد مثلهم؛ لأنه يروى عن عمر أنه قضى بفداء ولده بغرة
غرة، مكان كل غلام غلام، ومكان كل جارية جارية؛ ولأن الولد حر فلا يضمن
بقيمته، كسائر الأحرار. وعنه: أنه مخير بين فدائهم بمثلهم وقيمتهم؛ لأن
الأمرين يرويان جميعاً عن عمر. فإن فداهم بمثلهم وجب مثلهم في القيمة.
اختاره أبو بكر؛ لأن الحق ينجبر بذلك، ويحتمل أن ينظر إلى صفاتها تقريباً؛
لأن الآدمي ليس من ذوات الأمثال، ولا يفدى منهم إلا من ولد حياً في وقت
يعيش مثله، سواء عاش أو مات بعد ذلك؛ لأن غير ذلك لا قيمة له.
فصل:
وإن كان المغرور عبداً فولده أحرار؛ لأنه وطئها يعتقد حريتها فكان ولده
حراً، كولد الحر. وعليه فداؤهم؛ لأنه فوت رقهم. وهل يتعلق فداؤهم برقبته،
أو بذمته؟ على وجهين:
(3/48)
أحدهما: برقبته كأرش جنايته.
والثاني: بذمته، كعوض الخلع من الأمة. ويرجع به على من غره. فإن قلنا
برقبته رجع به في الحال؛ لأنه يؤخذ من سيده في الحال. وإن قلنا: يتعلق
بذمته لم يلزمه أداؤه حتى يعتق، ولا يرجع به حتى يغرمه؛ لأنه لا يرجع بشيء
لم يفت عليه، وتتعجل حريتهم في الحال. وللعبد الخيار إذا علم، ويحتمل أن لا
يثبت؛ لأنه فقد صفة لم ينقص بها عن رتبته، فأشبه ما لو شرط نسب امرأة فبان
خلافه. والأول ظاهر المذهب؛ لأنه مغرور بحرية فملك الفسخ، كالحر الذي يباح
له نكاح الإماء. وإن غرت الأمة بعبد، فتزوجته على أنه حر فلها الخيار
أيضاً؛ لأنها مغرورة بحرية من ليس بحر، أشبهت المرأة الحرة، والعبد
المغرور. ويحتمل ألا يثبت لها خيار؛ لأنه يكافئها، ولا يؤثر رقه في إرقاق
ولدها، فأشبه ما لو شرطته أشرف نسباً منها، فتبين أنه مثلها.
فصل:
فإن غرها بنسبة وكان مخلاً بالكفاءة، فقد مضى القول فيه، وإن لم يخل بها،
ففيه وجهان:
أحدها: لا خيار لها؛ لأن زيادة نسبه عليها، لا يضرها فواته، فأشبه ما لو
شرطته جميلاً أو فقيهاً فبان بخلافه.
والثاني: لها الخيار؛ لأنها شرطت ما يقصد، فأشبه شرط الصفة المقصودة في
المبيع.
فصل:
وإن شرطها بكراً، فبانت ثيباً أو نسيبة أو جميلة أو بيضاء، فبانت بخلافه
ففيه وجهان:
أحدهما: لا خيار له؛ لأن النكاح لا يرد فيه بعيب سوى العيوب السبعة، فلا
يرد بمخالفة الشرط، كما لو شرطت ذلك في الرجل.
والثاني: له الخيار؛ لأنها صفات مقصودة فصح شرطها، كالحرية. وإن شرطها
مسلمة فبانت كافرة، أو تزوجها في دار الإسلام يظنها مسلمة، فبانت كافرة فله
الخيار؛ لأنه نقص وضرر يتعدى إلى الولد، فملك الخيار به إذا شرط عدمه،
كالرق. وإن تزوجها على أنها كتابية، فبانت مسلمة فلا خيار له؛ لأنها زيادة.
وقال أبو بكر: له الخيار؛ لأنه قد يكون له غرض في إسقاط العبادات عنها،
فيضره فواته. وإن تزوجها على أنها أمة، فبانت حرة فلا خيار له؛ لأنها
زيادة، وكذلك لو شرطها على صفة،
(3/49)
فبانت خيراً منها؛ لأنه نفع، فلم يثبت به
الخيار، كما لو شرطه في المبيع.
فصل:
والسبب الرابع: الإعسار بالنفقة ونحوها على ما نذكره في موضعه، ومخالفته
شرطها اللازم، كاشتراطها دارها ونحوها على ما مضى، والله أعلم.
[باب نكاح الكفار]
أنكحتهم صحيحة إذا اعتقدوا إباحتها في شرعهم، وإن خالفت أنكحة المسلمين فهي
صحيحة، إلا أن يتزوج محرمة عليه؛ لأنه أسلم خلق كثير في عصر رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأقرهم في أنكحتهم، ولم يكشف عن
كيفيتها. ولا يتعرض لهم ما لم يترافعوا إلينا؛ لأننا صالحناهم على إقرارهم
على دينهم. وعن أحمد في مجوسي تزوج نصرانية: أو ملك نصرانية يحول بينهما
الإمام، فيخرج من هذا أنه يفرق بينهم، وبين ذوات المحارم؛ لأن عمر كتب: أن
فرقوا بين كل ذي رحم محرم من المجوس. وإن ملك نصراني مجوسية لم يحل بينهما؛
لأنه أعلى منها. وقال أبو بكر: يمنع من وطئها أيضاً، كما يمنع المجوسي من
النصرانية، فأما إن أسلموا وترافعوا إلينا لم ينظر في كيفية عقدهم، ونظرنا
في الحال، فإن كانت المرأة ممن يجوز عقد نكاحها في الحال أقررناهما. وإن
كانت ممن يحرم نكاحها في الحال، كذات محرمة، والمعتدة، والمطلقة ثلاثاً،
فرقنا بينهما. وإن تزوجها بشرط الخيار مدة، أو في عدتها، ثم أسلما في المدة
أو العدة فرقنا بينهما كذلك. وإن أسلما بعد انقضائهما أقررناهما عليه. وإن
قهر حربي حربية، فوطئها وطاوعته، واعتقداه نكاحاً أقررناهما عليه وإلا فلا.
وإن أسلما وبينهما نكاح متعة، أو نكاح شرط فيه الخيار متى شاء لم يقرا
عليه؛ لأنهما لا يعتقدان لزومه ولا تأبيده. وإن اعتقدا فساد الشرط وحده
أقرا عليه.
فصل:
وإذا اسلم الزوجان معاً فهما على نكاحهما، سواء أسلما قبل الدخول أو بعده؛
لأن ذلك إجماع، ولأنه لم يوجد بينهما اختلاف دين يقتضي الفرقة. وإن سبق
أحدهما صاحبه وكان المسلم زوج كتابية، فالنكاح بحاله؛ لأنه يحل له ابتداء
نكاحها. وإن أسلمت المرأة قبله، أو أسلم أحد الزوجين الوثنيين، أو
المجوسيين قبل الدخول، بانت منه امرأته، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا هُنَّ
حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . وقوله: {وَلا
تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] .
(3/50)
وتقع الفرقة بسبق أحدهما الآخر بلفظه؛ لأنه
يحصل بذلك اختلاف الدين المحرم، ويحتمل أن يقف على المجلس كالقبض؛ لأن حكم
المجلس حكم حالة العقد، ولأنه يبعد اتفاقهما على النطق بكلمة الإسلام دفعة
واحدة. فإن كان إسلام أحدهما بعد الدخول ففيه روايتان:
إحداهما: تتعجل الفرقة، لما ذكرنا.
والثانية: تقف على انقضاء العدة. فإن أسلم الآخر فيها فهما على نكاحهما،
وإن لم يسلم حتى انقضت تبينا أن الفرقة وقعت حين أسلم الأول، بحيث لو كان
وطئها في عدتها ولم يسلم أدب، ولها عليه مهر مثلها، لما روى ابن شبرمة قال:
كان الناس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم
الرجل قبل المرأة والمرأة قبله، فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة فهي
امرأته. وإن أسلم بعد العدة فلا نكاح بينهما. ولم يعلم أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق بين زوجين أسلما، مع أن جماعة
منهم أسلموا قبل أزواجهم، منهم أبو سفيان، وجماعة أسلم أزواجهن قبلهم، منهم
صفوان بن أمية وعكرمة وأبو العاص بن الربيع. والفرقة الواقعة بينهما فسخ؛
لأنها فرقة عريت عن الطلاق، فكانت فسخاً كسائر الفسوخ.
فصل:
وإن أسلم الحر وتحته أكثر من أربع فأسلمن معه، أو كن كتابيات، أمر أن يختار
منهن أربعاً ويخلي سائرهن، سواء تزوجهن في عقد، أو عقود متفرقة، وسواء
اختار أول من عقد عليها أو آخرهن، لما روى «قيس بن الحارث قال: أسلمت وتحتي
ثمان نسوة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت له
ذلك. فقال: اختر منهن أربعا» رواه أبو داود. فإن أبى أجبر بالحبس والتعزير؛
لأنه حق عليه يمكنه إيفاؤه فأجبر عليه، كالدين. ولا يملك الحاكم الاختيار
عنه؛ لأنه حق لغير معين. فإن جن خلي حتى يفيق، ثم يخير
(3/51)
لأنه عجز عن الاختيار، فأشبه العاجز عن
الدين بالإعسار، وعليه نفقة الجميع إلى أن يختار؛ لأنهن محبوسات عليه بحكم
النكاح. فإن مات قبل الاختيار لم يقم وارثه مقامه، لما ذكرنا. ولزم جميعهن
العدة؛ لأن كل واحدة يجوز أن تكون زوجة. وعدة الحامل وضع حملها. وعدة ذوات
الأشهر أربعة أشهر وعشراً. وعدة ذوات الأقراء أطول الأجلين من ثلاثة قروء
وعدة الوفاء، ليسقط الفرض بيقين، والميراث لأربع منهن بالقرعة، إلا أن
يصطلحن عليه فيكون بينهن على ذلك.
فصل:
والاختيار أن يقول: قد اخترت هؤلاء، أو نكاح هؤلاء، أو أمسكتهن، أو نحو
هذا. وإن قال: اخترت فسخ نكاح هؤلاء، كان اختياراً لغيرهن. وإن طلق واحدة،
كان اختياراً لها؛ لأن الطلاق لا يكون إلا لزوجة. وإن قال: فارقت هذه ففيه
وجهان:
أحدهما: يكون اختياراً لنكاحها؛ لأن الفراق طلاق.
والثاني: يكون فسخاً لنكاحها واختياراً لغيرها، لقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمسك منهن أربعاً وفارق سائرهن» وهذا يقتضي
أن يكون لفظ الفراق صريحاً في ترك نكاحها. وإن وطئ إحداهن كان اختياراً لها
في قياس المذهب، كما لو وطئ الجارية المعيبة في مدة الخيار. وإن آلى، أو
ظاهر منها لم يكن اختياراً لها؛ لأنه يصح في غير زوجة، ويحتمل أنه اختيار
لها؛ لأنه لا يؤثر إلا في زوجة. فإن طلق الجميع أقرع بينهن، فإذا وقعت
القرعة على أربع منهن فهن المختارات، فيقع طلاقه بهن، وينفسخ طلاق البواقي،
وله نكاح من شاء منهن بعد انقضاء عدة المطلقات. وإن أسلم قبلهن وقال: كلما
أسلمت واحدة منهن، فقد اخترتها أو فقد فسخت نكاحها لم يصح؛ لأن الاختيار
والفسخ لا يصح تعليقه على شرط ولا على غير معين؛ لأنه كالعقد، ولأن الفسخ
إنما يستحق فيما زاد على الأربع، وقد يجوز ألا يسلم أكثر من أربع، وإن قال:
كلما أسلمت واحدة فهي طالق، ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأن الطلاق يصح تعليقه على شرط. وكلما أسلمت واحدة طلقت، وكان
اختياراً لها.
والثاني: لا يصح؛ لأنه يتضمن الاختيار الذي لا يصح تعليقه بالشرط. وإن قال:
اخترت فلانة، أو فسخت نكاحها قبل إسلامها لم يصح؛ لأنه ليس بوقت لاختيار
ولا فسخ. وإن طلقها كان موقوفاً إن أسلمت تبينا وقوع طلاقه، وإلا فلا. وإن
وطئ
(3/52)
واحدة، فأسلمت في عدتها تبينا أنه وطئ
زوجته. وإن لم تسلم فقد وطئ أجنبية، وإن طلق الجميع، فأسلمن في العدة، أمر
باختيار أربعة منهن، فيتبين وقوع طلاقه بهن، ويعتددن من حين طلاقه، وبان
سائرهن بغير طلاق.
فصل:
وإن أسلم عبد وتحته أكثر من اثنتين فأسلمن معه لزمه اختيار اثنتين؛ لأنهما
في حقه كالأربع في حق الحر. فإن عتق قبل الاختيار لم يجز له الزيادة على
اثنتين؛ لأنه ثبت له الاختيار وهو عبد. وإن أسلم وعتق ثم أسلمن، أو أسلمن
ثم عتق، ثم أسلم لزمه نكاح أربع؛ لأنه في وقت الاختيار ممن له نكاح أربع.
فصل:
ومن أسلم وتحته أختان لزمه أن يختار إحداهما، لما روى «الضحاك بن فيروز عن
أبيه قال: قلت: يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان. قال: طلق أيهما شئت»
رواه أبو داود؛ ولأن الجمع بينهما محرم، فأشبه الزيادة على الأربع. وهذا
القول في المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها؛ لأن جمعهما محرم. وإن أسلم وتحته
امرأة وبنتها ولم يدخل بالأم انفسخ نكاحها؛ لأنها تحرم بمجرد العقد على
ابنتها، وثبت نكاح بنتها؛ لأنها لا تحرم قبل الدخول بأمها. وإن كان قد دخل
بالأم انفسخ نكاحهما، وحرمتا على التأبيد.
فصل:
ولو أسلم حر وتحته إماء، فأسلمن معه، وهو ممن لا يحل له نكاح الإماء انفسخ
نكاح الإماء. وإن كان ممن يحل له نكاح الإماء اختار منهن واحدة؛ لأنه يملك
ابتداء نكاحها فملك اختيارها كالحرة. ولو أسلم وهو موسر، فلم يسلمن حتى
أعسر فله الاختيار منهن؛ لأن وقت الاختيار حين اجتماعهن على الإسلام،
فاعتبر حاله حينئذ. وإن أسلم وهو معسر فلم يسلمن حتى أيسر لم يكن له
الاختيار منهن كذلك. فإن أسلمت معه واحدة فله اختيارها، وله انتظار
الباقيات؛ لأن له غرضاً صحيحاً فيه، فإن اختار الأولى ثبت نكاحها، وانقطعت
عصمة البواقي منذ اختلف دينهن. وإن اختار فسخ نكاح المسلمة لم يكن له ذلك؛
لأن الفسخ إنما يكون في الفضل عمن يثبت نكاحها
(3/53)
ولا فضل. فإن فسخ ولم تسلم البواقي لزمه
نكاحها وبطل الفسخ. وإن أسلمن فله اختيار واحدة. فإن اختار التي فسخ نكاحها
ففيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن الفسخ كان قبل وقته، فوجوده كعدمه.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأننا إنما منعنا الفسخ فيها، لكونها غير فاضلة،
وبإسلام غيرها صارت فاضلة، فصح فسخ نكاحها.
فصل:
وإن أسلم وتحته حرة وأمة، فأسلمتا في عدتهما ثبت نكاح الحرة، وبطل نكاح
الأمة؛ لأن لا يجوز له ابتداء نكاح أمة وتحته حرة. وإن لم تسلم الحرة في
عدتها ثبت له نكاح الأمة إن كان ممن له نكاح الإماء. وإن أسلمتا في العدة،
ثم ماتت الحرة، أو عتقت الأمة لم يكن له إمساك الأمة؛ لأن نكاحها انفسخ
بإسلام الحرة. وإن عتقت الأمة قبل إسلامها فله إمساكها؛ لأن الاعتبار بحالة
اجتماعهم على الإسلام، وهي حرة حينئذ. وإن أسلمت قبله وعتقت، ثم أسلم الزوج
فله إمساكها كذلك. ولو أسلم وتحته إماء، فعتقت إحداهن، ثم أسلمن كلهن لزم
نكاح الحرة، وانفسخ نكاح الإماء. وإن أسلمت إحداهن، ثم عتقت، ثم أسلم
البواقي فله الاختيار منهن؛ لأن الاعتبار بحالة الاختيار، وحالة الاختيار
حالة اجتماعهما على الإسلام، وهي أمة حينئذ.
فصل:
وإذا ارتد الزوجان، أو أحدهما قبل الدخول انفسخ النكاح، لاختلاف دينهما، أو
كون المرأة بحال لا يحل نكاحها. وإن كان بعده ففيه روايتان:
إحداهما: تتعجل الفرقة.
والثانية: تقف على انقضاء العدة. فإن اجتمعا على الإسلام قبل انقضائها فهما
على النكاح. وإن لم يجتمعا وقعت الفرقة من حين الردة؛ لأنه انتقال عن دين
يمنع ابتداء النكاح، فكان حكمه ما ذكرنا، كإسلام أحد الزوجين.
فصل:
وإن انتقل الكتابي إلى دين غير أهل الكتاب، كالمجوسية وغيرها، ففيه ثلاث
روايات:
إحداهن: يجبر على الإسلام، ولا يقبل منه غيره؛ لأن ما سواه باطل اعترف
ببطلانه؛ لأنه لما كان على دينه اعترف ببطلان ما سواه، ثم اعترف ببطلان
دينه حين انتقل عنه، فلم يبق إلا الإسلام.
(3/54)
والثانية: لا يقبل منه إلا الإسلام، أو
الدين الذي كان عليه؛ لأننا أقررناه عليه أولاً، فنقره عليه ثانياً.
والثالثة: لا يقبل منه إلا الإسلام، أو دين أهل الكتاب؛ لأنه دين أهل كتاب
فيقر عليه كغيره من أهل ذلك الدين. وإن انتقل المجوسي إلى دين أهل الكتاب،
أو انتقل كتابي إلى دين آخر من دين أهل الكتاب، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: لا يقبل منه إلا الإسلام، لما ذكرنا.
والثانية: يقر على ما انتقل إليه.
والثالثة: لا يقبل منه إلا الإسلام، أو دينه الذي كان عليه، لما تقدم. وإذا
قلنا: لا يقبل منه إلا الإسلام ففيه روايتان:
إحداهما: أنه يجبر عليه بالقتل، كالمرتد.
والثانية: أنه إن انتقل إلى المجوسية أجبر بالقتل، وإن انتقل إلى دين أهل
الكتاب لم يجبر بالقتل، لكن يجبر بالضرب والحبس؛ لأنه لم يخرج عن دين أهل
الكتاب، فلم يقبل كالباقي على دينه. وكل موضع قلنا: لا يقر، فإذا انتقلت
الكتابية المتزوجة للمسلم فحكمها حكم المرتدة على ما يبين في موضعه.
فصل:
إذا أسلم الزوجان قبل الدخول، فقالت المرأة: أسلم أحدنا فانفسخ النكاح،
وقال: بل أسلمنا معاً، ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول الزوج؛ لأن الأصل بقاء النكاح.
والثاني: القول قولها؛ لأن الظاهر معها، فإن اجتماع إسلامهما حتى لا يسبق
أحدهما الآخر بعيد. وإن اتفقا على سبق أحدهما، وقالت المرأة: أنت السابق
فعليك نصف المهر. وقال الزوج: بل أنت سبقت فلا مهر لك، فالقول قول المرأة؛
لأن الأصل بقاء المهر وعدم سقوطه. وإن أسلما بعد الدخول فقال الزوج: أسلمت
في عدتك فالنكاح باق، وقالت: بل انقضت عدتي قبل إسلامك فالقول قول الزوج؛
لأن الأصل بقاء النكاح. وفيه وجه آخر أن القول قول المرأة؛ لأن الأصل عدم
إسلام الثاني. وإن قال: أسلمت قبلك فلا نفقة لك، فقالت: بل أسلمت قبلك فلي
النفقة، ففيه وجهان:
أحدهما: القول قولها؛ لأن الأصل وجوب النفقة.
(3/55)
والثاني: القول قوله؛ لأن النفقة إنما تجب
بالتمكين من الاستمتاع، والأصل عدم وجوبه.
فصل:
إذا أسلم أحد الزوجين الكافرين، ثم ارتد ولم يسلم الآخر في العدة فعدتها من
حين أسلم الأول. وإن أسلم الثاني في العدة، فابتداء العدة من حين ارتد؛ لأن
الحكم اختلاف الدين بإسلام الأول زال بإسلام الثاني منهما. ولو أسلم رجل
وتحته عشر نسوة فأسلمن، ثم ارتددن، أو ارتد دونهن لم يكون له أن يختار
منهن؛ لأنه لا يملك العقد عليهن في الحال.
فصل:
ولو أسلم عبد وتحته أمة كافرة فأعتقت، أو أسلمت قبله ثم أعتقت فلها فسخ
النكاح؛ لأنها عتقت تحت عبد، فإذا فسخت، ثم أسلم الثاني في العدة بانت بفسخ
النكاح. وإن لم يسلم الثاني تبينا أنها بانت باختلاف الدين، وعليها عدة حرة
في الموضعين؛ لأنها وجبت وهي حرة، أو عتقت في أثناء عدة يمكن الزوج تلافي
نكاحها فيها، فأشبهت الرجعية. وإن أخرت الفسخ حتى أسلم الثاني منهما لم
يسقط حقها؛ لأنها تركته اعتماداً على جريانها إلى البينونة، فأشبهت
الرجعية. وإن قالت: قد رضيت بالزوج، فذكر القاضي: أنه يسقط حقها؛ لأنها
رضيته في حال يمكن فسخه فصح، كحالة اجتماعهما على الإسلام.
(3/56)
|