الكافي في فقه الإمام أحمد

 [كتاب الصداق]
يستحب أن يعقد النكاح بصداق؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتزوج ويزوج بناته بصداق. وعن سهل بن سعد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك، فقال رجل: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال: هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزاري هذا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إزارك إن أعطيتها إياه جلست ولا إزار لك، فالتمس شيئاً آخر فقال: لا أجد، فقال: التمس ولو خاتماً من حديد فالتمس فلم يجد شيئاً. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا لسور يسميها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: زوجتكها بما معك من القرآن» متفق عليه؛ ولأنه أقطع للنزاع فيه.
ويجوز من غير صداق، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] . فأثبت الطلاق مع عدم الفرض، ولأن القصد بالنكاح الوصلة والاستمتاع، وهو حاصل بغير صداق.

فصل:
ويجوز أن يكون الصداق قليلاً، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التمس ولو خاتماً من حديد» ولأنه بدل منفعتها، فكان تقديره إليها، كأجرتها. ويجوز أن يكون كثيراً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] .

(3/57)


ولا تستحب الزيادة على خمسمائة درهم؛ لأنه صداق أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبناته. بدليل ما روى أبو سلمة قال: «سألت عائشة عن صداق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: ثنتا عشر أوقية ونش، فقلت: وما نش؟ قالت: نصف أوقية» . رواه مسلم، وأبو داود؛ ولأنه إذا كثر أجحف، ودعا إلى المقت. ويستحب تخفيفه، لما روت عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة» رواه أحمد.

فصل:
وكل ما جاز ثمناً في بيع، أو عوضاً في إجارة، من دين وعين، وحال مؤجل، ومنفعة معلومة، من حر أو عبد، كرد عبدها من مكان معين، وخدمتها في شيء معلوم جاز أن يكون صداقاً؛ لأن الله تعالى أخبر عن شعيب أنه قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فجعل الرعي صداقاً، ولأنه عقد على المنفعة فجاز ما ذكرنا، كالإجارة.

فصل:
وما لا يجوز أن يكون ثمناً ولا أجرة لا يجوز أن يكون صداقاً، كالخمر، وتعليم التوراة، والإنجيل، وتعليم الذمية القرآن، والمعدوم، وما لم يتم ملكه عليه، كالمبيع المعتبر قبضه قبل قبضه، وما لا يقدر على تسليمه، كالآبق، والطير في الهواء؛ لأنه عوض في عقد، فأشبه عوض البيع والإجارة. ولا يصح أن يكون مجهولاً، كعبد وثوب، هذا اختيار أبي بكر. وقال القاضي: يصح في مجهول جهالة لا تزيد على مهر المثل، كعبد أو فرس أو بعير، أو ثوب هروي، أو قفيز حنطة، أو قنطار زيت؛ لأنه لو تزوجها على مهر مثلها صح مع كثرة الجهل، فهذا أولى. فإن زادت جهالته على جهالة مهر المثل، كثوب ودابة وحكم إنسان، ورد عبدها أين كان، وخدمتها فيما أرادت لم يصح. وقال أبو الخطاب: إن تزوجها على عبد من عبيده صح ولها

(3/58)


أحدهم بالقرعة. نص عليه أحمد. وعلى هذا يخرج إذا أصدقها قميصاً من قمصانه، أو عمامة من عمائمه، أو دابة من دوابه؛ لأن الجهالة تقل فيه. ولا تصح على عبد مطلق؛ لأن الجهالة تكثير، ولنا أنه عوض في عقد معاوضة، فلم يصح مجهولاً، كثمن البيع. وتأول أبو بكر، نص أحمد على أنه عين عبداً فأشكل عليه، فإن أصدقها ما لا يجوز أن يكون صداقاً لم يبطل النكاح. ونقل المروذي عن أحمد: إذا تزوج على مال بعينه غير طيب أنه كرهه، وأعجبه استقبال النكاح، وهذا يدل على أن النكاح لا يصح اختاره أبو بكر؛ لأنه عقد معاوضة، ففسد بفساد العوض، كالبيع، والأول أولى؛ لأن فساده ليس بأكثر من عدمه، وعدمه لا يفسد العقد. ويجب لها مهر المثل؛ لأنها لم ترض إلا ببدله، ولم يسلم البدل، وتعذر رد العوض، فوجب رد بدله، كما لو باعه سلعة بخمر فتلفت عند المشتري. وعلى قول القاضي: إذا أصدقها مجهولاً وجب لها الوسط، ووسط العبيد السندي، فيجب ذلك لها. وإن جاءها بقيمته لزم قبوله، قياساً على الإبل في الدية.

فصل:
فإن أصدقها عبداً فخرج حراً، أو مستحقاً فله قيمته؛ لأن العقد وقع على التسمية؛ لأنها رضيت بقيمته إذ ظنته مملوكاً، وقد تعذر تسليمه، فكانت لها قيمته، كما لو وجدته معيباً فردته. وإن أصدقها مثلياً فخرج مستحقاً فلها مثله؛ لأنه أقرب إليه، ولذلك يضمن به في الإتلاف. وإن أصدقها عصيراً فخرج خمراً، فذكر القاضي: أن لها قيمته؛ لأن الخمر ليس من ذوات الأمثال، ويحتمل أن يلزمه مثل العصير المسمى؛ لأنه مثلي، فوجب إبداله بمثله، كما لو أتلف. ويفارق هذا ما إذا قال: أصدقتك هذا الخمر، أو هذا الحر؛ لأنها رضيت بما لا قيمة له، فأشبهت المفوضة، ولم ترض هاهنا بذلك. وإن قال: أصدقتك هذا الخمر أشار إلى الخل، أو هذا الحر وأشار إلى عبده صح ولها المشار إليه؛ لأنه محل يصح العقد عليه، فلم يختلف حكمه باختلاف تسميته، كما لو قال: أصدقتك هذا الأبيض، وأشار إلى الأسود. وإن تزوجها على شيء فخرج معيباً، فهي مخيرة بين أخذ أرشه، وبين رده وأخذ قيمته، أو مثله إن كان مثلياً، لما ذكرنا في أول الفصل.

فصل:
وإن تزوج الكافر كافرة بمحرم ثم أسلما، أو تحاكما إلينا قبل الإسلام والقبض سقط المسمى ووجب مهر المثل؛ لأنه لا يمكن إجباره على تسليم المحرم. وإن كان بعد القبض، برئت ذمته كما لو تبايعا بيعاً فاسداً وتقابضا. وإن قبضت البعض برئت ذمته من المقبوض، ووجب بقسط ما بقي من مهر المثل. فإن كان الصداق خنزيرين، أو

(3/59)


زقي خمر، أو زق خمر وخنزيراً، وقبضت أحدهما ففيه وجهان:
أحدهما: يعتبر العدد؛ لأنه لا قيمة له، فكان الجميع واحداً، فيقسط على عدده، فيسقط نصف الصداق، ويجب نصف مهر الثمل.
والثاني: يعتبر بقيمته عندهم، أو بالكيل إن كان مكيلاً لأنه أخصر.

فصل:
وإن تزوج المرأة على أن يشتري لها عبداً بعينه صح؛ لأنه أصدقها تحصيل عبد معين فصح، كما لو أصدقها رد عبدها من مكان معين، فإن لم يبع، أو طلب به أكثر من قيمته فلها قيمته؛ لأنه تعذر تسليم المسمى، فوجبت قيمته، كما لو تلف. وإن تزوجها على أن يعتق أباها صح كذلك. ومتى تعذر إعتاقه وجبت قيمته لما ذكرناه، وفي المسألتين إذا أمكن الوفاء بما شرطه، فبذل قيمته لم يلزمها قبوله؛ لأن الحق ثبت لها في معين، فلم يلزم قبول عوضه مع إمكانه، كما لو قال: أصدقتك هذا العبد. وإن تزوجها على عبد موصوف في الذمة صح؛ لأنه يصلح أن يكون عوضاً في البيع، ولا يلزمها قبول قيمته؛ لأنها استحقت عبداً بعقد معاوضة، فلم يلزمها قبول قيمته، كالمبيع. وعند القاضي: يلزمها قبولها، قياساً على الإبل في الدية.

فصل:
وإن تزوجها على طلاق زوجته الأخرى لم يصح الصداق؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها أو إنائها ولتنكح فإنما رزقها على الله» رواه البخاري ومسلم.
وعنه: يصح لأن لها فيه غرضاً صحيحاً، أشبه عتق أبيها، فإن فات طلاقها بموتها، فقال أبو الخطاب: قياس المذهب أن لها مهر الميتة؛ لأن عوض طلاقها مهرها، فأشبه قيمة العبد، ويحتمل أن يجب مهر المثل؛ لأن الطلاق لا قيمة له ولا مثل.

فصل:
وإن تزوجها على ألف إن كان أبوها حياً، وألفين إن كان ميتاً، فالتسمية فاسدة،

(3/60)


لأنه في معنى بيعتين في بيعة. وإن تزوجها على ألف إن لم يكن له زوجة، وعلى ألفين إن كان له زوجة، فقال أحمد: تصح التسمية، قال أبو بكر والقاضي: في المسألتين جميعاً روايتان، جعلا نصه في إحدى المسألتين رواية في الأخرى لتماثلهما.
إحداهما: فساد التسمية، اختاره أبو بكر؛ لأنه لم يعين العوض ففسد، كبيعتين في بيعة.
والثانية: يصح؛ لأن الألف معلومة، وإنما جعلت الثانية، وهي معلقة على شرط، فإن وجد كانت زيادة في الصداق، والزيادة فيه صحيحة.

فصل:
فإن أصدقها تعليم شيء مباح، كصناعة، أو كتابة، أو فقه، أو حديث، أو لغة، أو شعر لها أو لغلامها صح، ولأنه أحد عوضي الإجارة فجاز صداقاً كالأثمان. فإن أصدقها تعليم شيء لا يحسنه نظرت، فإن قال: أحصل لك تعليمه صح؛ لأنها منفعة في ذمته لا تختص به، فأشبه ما لو أصدقها ديناراً لا يقدر عليه، وإن قال: على أن أعلمك، فذكر القاضي في الجامع أنه لا يصح؛ لأنه تعين بفعله وهو عاجز عنه، وقال في " المجرد " يحتمل أن يصح؛ لأنه يقع في ذمته فصح لما ذكرنا، فإن تعلمتها من غيره، أو تعذر عليه تعليمها، فعليه أجرة تعليمها، وإن أتته بغيرها ليعلمها مكانها لم يلزمه ذلك؛ لأنهما يختلفان في سرعة التعلم وإبطائه، ويحتمل أن يلزمه إذا أتته بمن يجري مجراها، كمن اكترى شيئاً جاز أن يوليه لمن يقوم مقامه. وإن طلقها بعد الدخول قبل تعليمها ففيه وجهان:
أحدهما: يعلمها من وراء حجاب، كما يسمع الحديث من الأجنبية.
والثاني: عليه أجرة التعليم؛ لأنها صارت أجنبية، فلا تؤمن الفتنة عليهما في تعليمها. أما الحديث، فإن الحاجة داعية إلى سماعه؛ لأنه لا بدل له. وإن كان قبل الدخول ففي تعليمه النصف الوجهان. فإن طلقها بعد تعليمها رجع عليها بنصف أجرة التعليم.

فصل:
فإن أصدقها تعليم القرآن أو شيء منه، ففيه روايتان:
إحداهما: يجوز لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زوجتكها بما معك من القرآن» .

(3/61)


والثانية: لا يجوز؛ لأن تعليم القرآن لا يقع إلا قربة لصاحبه، فلم يكن صداقاً، كتعليم الإيمان. وقد روى النجاد بإسناده «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوّج رجلاً على سورة من القرآن، ثم قال: لا تكون لأحد بعدك مهراً» فإن قلنا بجوازه، فأصدقها تعليم بعض القرآن، فمن شرطه تعيين ذلك البعض؛ لأن التعليم والمقاصد تختلف باختلافه. وذكر أبو الخطاب وابن عقيل أنه إن كان في البلد قراءات افتقر إلى تعيين أحدها؛ لأن حروف القرآن تختلف، فأشبه تعيين الآيات، والصحيح أنه لا يفتقر إليه؛ لأنه اختلاف يسير، وكل حرف ينوب مناب صاحبه، فأشبه ما لو أصدقها قفيزاً من صبرة.

فصل:
ويصح أن يكون الصداق معجلاً ومؤجلاً. فإن أطلق ذكره كان حالاً؛ لأنه عوض في عقد معاوضة أشبه الثمن، فإن شرطه مؤجلاً إلى مدة معلومة، فهي إلى أجله. وإن لم يذكر أجله فقال أبو الخطاب: لا يصح، ولها مهر المثل قياساً على الثمن في المبيع. وقال القاضي: يصح، وهو ظاهر كلام أحمد؛ لأنه قال: إذا تزوج على العاجل والآجل لا يحل الآجل إلا بموت أو فرقة؛ لأن الصداق يجوز أن يكون مجهولاً فيما إذا تزوجها على مهر المثل، فالتأجيل التابع له أولى، فعلى هذا محل الآجل الفرقة بموت أو غيره؛ لأن المطلق يحمل على العرف، والعادة في الآجل تركه إلى الفرقة، فحمل عند الإطلاق عليه.

فصل:
وإذا تزوجها على صداقين، سر وعلانية، فقال الخرقي: يؤخذ بالعلانية؛ لأن الزائد على صداق السر زيادة زادها في الصداق، وإلحاق الزيادة بالصداق جائزة. وقال القاضي: الواجب مهر العقد الذي انعقد به النكاح، سراً كان أو علانية؛ لأنه الذي انعقد به النكاح، فكان الواجب المسمى فيه، كما لو انفرد.

فصل:
وإلحاق الزيادة بالصداق جائزة، فإن زادها في صداقها شيئاً بعد انبرام العقد جاز، وكان الجميع صداقاً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] .

(3/62)


فصل:
وإذا تزوج أربعاً بصداق واحد صح؛ لأن جملة صداقهن معلومة فصح، كما لو اشترى أربعة أعبد بثمن واحد، ويقسم بينهن على قدر مهورهن، كما يتقسط ثمن الأعبد على قيمتهم. وقال أبو بكر: يخرج فيه وجه آخر، أنه يقسم بينهن على عددهن؛ لأنه أضيف إليهن إضافة واحدة، فأشبه ما لو أقر لهن، وهذا القول فيما إذا خالعهن بعوض واحد، أو كاتب أعبده بعوض واحد.

فصل:
وتملك المرأة المسمى بالعقد إذا كان صحيحاً، ومهر المثل في الموضع الذي يجب فيه؛ لأنه عقد يُملك فيه المعوض بالعقد، فملك العوض به كالبيع. وعنه رواية أخرى تدل على أنها لا تملك إلا نصفه؛ لأنه لو طلقها لم يجب إلا نصفه، والمذهب الأول فعلى هذا نماؤه وزيادته لها، وزكاته عليها، ونقصانه بعد قبضها إياه عليها. وإن نقص قبل القبض لمنعه إياه من قبض فهو من ضمانه، وإن لم يمنعها فنقص المكيل والموزون عليه؛ لأنه يعتبر قبضه، وما عداه يخرج فيه وجهان بناء على الروايتين في المبيع قبل القبض سواء؛ لأنه منتقل بعقد ينقل الملك، فأشبه المبيع.
والثاني: لها التصرف فيه؛ لأنه منتقل بسبب لا ينفسخ بهلاكه قبل قبضه، فجاز التصرف فيه قبل قبضه، كالوصية والميراث، وقد نص أحمد على جواز هبة المرأة زوجها صداقها قبل قبضه، وهو تصرف.

فصل:
ويدفع صداق المرأة إليها إن كانت رشيدة، وإلى من يلي مالها إن كانت غير رشيدة؛ لأنه مال لها، فأشبه ثمن مبيعها. وفي البكر البالغة العاقلة وجهان:
أحدهما: لا يدفع إلا إليها كذلك.
والثاني: يجوز دفعه إلى أبيها؛ لأنه العادة، ولأنه يملك إجبارها على النكاح، فأشبهت الصغيرة.

فصل:
ولها منع نفسها حتى تقبض صداقها المعجل؛ لأن في إجبارها على تسليم نفسها أولاً خطر إتلاف البضع، والامتناع عن بذل الصداق، فلا يمكن الرجوع فيه، بخلاف المبيع، ولها النفقة إذا امتنعت؛ لأنه امتناع بحق، فأشبه ما لو امتنعت للإحرام بحجة الإسلام. وإن سلمت نفسها ثم أرادت المنع فقد توقف أحمد عن الجواب. وذهب أبو

(3/63)


عبد الله بن بطة وأبو إسحاق بن شاقلا: إلى أنه ليس لها ذلك؛ لأنها سلمت تسليماً استقر به العوض برضى المسلم، فلم يكن لها المنع، كما لو سلمت المبيع. وذهب ابن حامد: إلى أن لها ذلك؛ لأنه تسليم بحكم عقد النكاح، فملكت المنع منه قبل قبض صداقها كالأول. فأما إن أكرهها فوطئها لم يسقط حقها من الامتناع؛ لأنه بغير رضاها. وإن قبضت صداقها فوجدته معيباً فردت فلها منع نفسها حتى يبذله؛ لأن صداقها جيد. وإن لم تعلم عيبه حتى سلمت نفسها، ثم أرادت الامتناع ففيه وجهان بناء على ما تقدم. وإن كان صداقها مؤجلاً فليس لها منع نفسها قبل قبضه؛ لأن رضاها بالتأجيل رضى منها بتسليم نفسها قبله، كالثمن المؤجل، وإن حل المؤجل قبل تسليم نفسها لم يكن لها منع نفسها أيضاً؛ لأنه قد وجب عليها تسليم نفسها واستقر، فلم يسقط بحلوله.

(3/64)


[باب ما يستقر به الصداق وما لا يستقر وحكم التراجع]
باب ما يستقر به الصداق وما لا يستقر
وحكم التراجع يستقر الصداق بثلاثة أمور:
أحدها: الخلوة بعد العقد، لما روى الإمام أحمد بإسناده عن زرارة بن أوفى، قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون، أن من أغلق بابا، أو أرخى سترا، فقد وجب المهر، ووجبت العدة، وهذه قضايا اشتهرت، فلم تنكر، فكانت إجماعا؛ ولأنها سلمت نفسها التسليم الواجب عليها، فاستقر صداقها، كما لو وطئها. فإن كانت صغيرة لا يمكن وطؤها، أو الزوج صغيرا، أو أعمى لا يعلم دخوله عليها، لم يكمل صداقها؛ لأنه لم يحصل التمكين. وكذلك إن نشزت عليه فمنعته وطأها، لم يكمل صداقها لذلك، ذكره ابن حامد. وإن كان بهما عذر كالإحرام، والصيام الواجب، والمرض. أو بأحدهما، كالحيض والنفاس، والرتق، والجب، والعنة، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: يستقر الصداق؛ لعموم ما ذكرنا؛ ولأن التسليم المستحق قد وجد، والمنع من غير جهتها، فلم يؤثر في المهر، كما لم يؤثر في إسقاط النفقة.
والثانية: لا يستقر؛ لأنه لا يتمكن من تسليمها، فلم يستقر مهرها، كما لو منعت نفسها.
والثالثة: إن كان المانع هو صوم رمضان، لم يكمل الصداق، وفي معناه ما يحرم دواعي الوطء كالإحرام، وما لا يمنع دواعي الوطء، كسائر الموانع لا يمنع استقرار الصداق.

فصل:
والثاني: الوطء يستقر به الصداق وإن كان في غير خلوة؛ لأنه قد وجد استيفاء المقصود، فاستقر العوض، كما لو اشترى طعاما فأكله، وإن استمتع بغير الوطء كقبلة، أو مباشرة دون الفرج، أو نال منها ما لا يحل لغيره، كالنظر إليها عريانة، فقال أحمد: يكمل الصداق به؛ لأنه نوع استمتاع، أشبه الوطء. وقال القاضي: هذا على الرواية التي يثبت بها تحريم المصاهرة، ولا يكمل به الصداق على الرواية الأخرى؛ لأنه لا يحرم المصاهرة، فلم يقرر الصداق، كرؤية الوجه.

فصل:
الثالث: موت أحد الزوجين قبل الدخول يقرر الصداق، سواء مات حتف أنفه، أو قتل نفسه، أو قتل غيره، لما روى معقل بن سنان، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في بروع

(3/65)


بنت واشق، وكان زوجها مات ولم يدخل بها، ولم يفرض لها صداقا، فجعل لها مهر نسائها، لا وكس ولا شطط» . رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي؛ ولأنه عقد عمر، فبموت أحدهما ينتهي به فيستقر به العوض، كانتهاء الإجارة.
ومتى استقر الصداق، لم يسقط منه شيء بانفساخ النكاح ولا بغيره.

فصل: وإن افترقا قبل استقراره، لم يخل من أربعة أقسام:
أحدها: أن يكون بسبب من المرأة، كردتها، وإسلامها، وإرضاعها من ينفسخ النكاح بإرضاعه، وفسخها لعيب الزوج، أو إعساره، فيسقط مهرها؛ لأنها أتلفت المعوض قبل التسليم فسقط العوض، كما لو أتلف المبيع قبل تسليمه. وفي معناه فسخ الزوج لعيبها، لما مضى في موضعه.
الثاني: أن يكون بسبب من الزوج، كطلاقه وخلعه وإسلامه وردته، واستمتاعه بأم زوجته أو بنتها، فيسقط نصف المسمى، ويجب نصفه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وقسنا عليه سائر ما استقل به الزوج؛ لأنه في معناه. وعن أحمد: أنه إذا أسلم لا مهر عليه؛ لأنه فعل الواجب عليه، وحصلت الفرقة بامتناعها من موافقته على الواجب، فكان من جهتها. والأول المذهب؛ لأن فسخ النكاح، لاختلاف الدين، وذلك حاصل بإسلامه، وإنما ينصف المهر بالخلع؛ لأن المغلب فيه جانب الزوج، بدليل أنه يصح به دونها، وهو خلعه مع أجنبي، فصار كالمنفرد به.
الثالث: افترقا بسبب من أجنبي، كرضاع أو غيره فيجب نصف المهر؛ لأنه لا جناية منها تسقط مهرها، ويرجع الزوج بما لزمه على الفاعل؛ لأنه قرره عليه.
الرابع: افترقا بسبب منهما، كشرائها لزوجها ولعانهما، ففيه روايتان. وإن اشتراها زوجها ففيه وجهان:
أحدهما: يسقط الصداق؛ لأنها شاركت في الفسخ فسقط مهرها، كالفسخ بعيب.

(3/66)


والثاني: يتنصف؛ لأن للزوج فيه اختيارا، أشبه الخلع.

فصل:
ومتى سقط المهر، أو نصفه بعد تسليمه إليها، فله الرجوع عليها، ولا يخلو، إما أن يكون تالفا، أو غير تالف، فإن كان تالفا، رجع مثله إن كان مثليا، أو بقيمته إن لم يكن مثليا أقل ما كانت من حين العقد، إلى حين القبض، أو التمكين منه؛ لأنه إن زاد بعد العقد، فالزيادة لها، وإن نقص، فالنقص عليه، فلم يرجع بما هو عليه، وإن كان باقيا، لم يخل من خمسة أحوال:
أحدها: أن يكون باقيا بحاله لم يتغير، ولم يتعلق به حق غيرها، فإن الزوج يرجع فيه، ويدخل في ملكه حكما، وإن لم يجز ذلك كالميراث في قياس المذهب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] . فعلق تنصيفه بالطلاق وحده، فيجب أن يتنصف به، ويحتمل أن لا يملكه إلا باختياره؛ لأن الإنسان لا يملك شيئا بغير اختياره إلا بالميراث، فعلى هذا الوجه إن زاد بعد الطلاق وقبل الاختيار، فهو للزوجة؛ لأن ملكها لم يزل عنه، فنماؤه لها، وعلى الأول نماء نصيب الزوج له؛ لأنه نماء ملكه، فإذا قال: قد رجعت فيه، أو اخترته، ثبت الملك فيه على الوجهين. وإن نقص في يدها بعد ثبوت ملكه عليه، وكانت قد منعته منه، فعليها ضمان نقصه؛ لأن يدها عادية، فتضمن، كالغاصبة. وإن لم تمنعه، ففيه وجهان. أصلهما، الزوج إذا تلف الصداق المعين في يده قبل مطالبتها به، قال الزوج: نقص قبل الطلاق فهو من ضمانك، فأنكرته، فالقول قولها؛ لأن الأصل السلامة.
فصل:
الحال الثاني: أن تجده ناقصا، كعبد مرض أو نسي صناعته، أو كبر كبرا ينقص قيمته، فالزوج بالخيار بين أخذه ناقصا؛ لأنه يرضى بدون حقه وبين تركه، ومطالبتها بقيمته، أو نصفها يوم وقع العقد عليه؛ لأن النقص حدث في ملكها، فكان من ضمانها.
فصل:
الحال الثالث: أن تجده زائدا، فلا تخلو، إما أن تكون الزيادة منفصلة، كالولد والثمرة واللبن والكسب ونحو ذلك، فله نصف الأصل، والزيادة لها؛ لأنها زيادة متميزة حادثة من ملكها، فلم تتبع الأصل في الرد، كما في الرد بالعيب، وإما أن تكون متصلة، كالسمن والكبر والحمل في البطن، والثمرة على الشجرة، وتعلم صناعة، أو كتابة ونحو

(3/67)


ذلك، فالمرأة مخيرة بين دفع النصف زائدا، فيلزمه قبوله؛ لأنه نصف المفروض مع زيادة لا تتميز، وبين دفع قيمة حقه يوم وقع العقد عليه؛ لأن حقه في نصف الفرض، والزائد ليس بمفروض، فوجب أخذ البدل، إلا أن يكون محجورا عليها لسفه أو فلس أو صغر، فليس له إلا نصف القيمة؛ لأن الزيادة لها، وليس لها التبرع بما لا يجب عليها. وإن كانت مفلسة، كان غريما بالقيمة. وإن بذلت له أخذ نصف الشجر دون الثمر، لم يلزمه؛ لأن عليه ضررا في بقاء الثمر عليها، فلم يلزمه. وإن قال الزوج: أنا أرجع في نصف الشجر، وأترك الثمر عليه، أو أترك الرجوع حتى تجذي ثمرتك ثم أرجع، ففيه وجهان:
أحدهما: لا تجبر على قبوله؛ لأن الحق انتقل من العين، فلم يعد إليها إلا بتراضيهما.
والثانية: تجبر عليه؛ لأنه لا ضرر عليها، فلزمها كما لو وجدها ناقصة فرضي بها، وإن أصدقها أرضا فزرعتها، فحكمها حكم الشجر إذا أثمر سواء. في قول القاضي، وقال غيره: يفارق الزرع الثمرة في أنها إذا بذلت نصف الأرض مع نصف الزرع، لم يلزمه قبوله؛ لأن الزرع ينقص الأرض ويضعفها؛ ولأنه ملكها أودعته في الأرض، بخلاف الثمرة. وإن أصدقها أرضا فبنتها، أو ثوبا فصبغته، فحكمها حكم الأرض المزروعة. فإن بذل الزوج لها نصف قيمة البناء والصبغ لتملكه، فقال الخرقي: يلزمها قبوله، ويصير له نصف الجميع؛ لأن الأرض له، وفيها بناء لغيره بني بحق، فكان له تملكه بالقيمة، كالشفيع والمعير. وقال القاضي: لا يملكه؛ لأن بيع البناء معاوضة، فلا تجبر عليها، كما لو بذل نصف قيمة الثمرة ليملك نصف الشجر.
فصل:
الحال الرابع: وجده زائدا من وجه ناقصا من وجه، كعبد تعلم صناعة ومرض، أو خشب شقته دفوفا، أو حلي كسرته ثم صاغته على غير ما كان، أو جارية حملت، فإن الحمل نقص في الآدمية من وجه، وزيادة من وجه، بخلاف حمل البهيمة فإنه زيادة محضة، فهو كسمنها، فإذا تراضيا على أخذ نصفه، جاز؛ لأن الحق لهما، وأيهما امتنع من ذلك، لم يجبر عليه؛ لأن عليه ضررا.
الحال الخامس: أن يتعلق به حق غيرهما، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: ما يزيل ملكها كبيع العين، وهبتها المقبوضة وعتقها ووقفها، فحكم ذلك حكم تلفها، فإن عادت العين إلى ملكها ثم طلقها، فله الرجوع في نصفها؛ لعدم المانع منه، وفي معنى ذلك العقد اللازم المراد لإزالة الملك، كالرهن والكتابة.

(3/68)


النوع الثاني: ما ليس بلازم، كالهبة قبل القبض، والوصية قبل الموت والتدبير، فله الرجوع في نصفها؛ لأنه حق غير لازم فأشبه الشركة.
النوع الثالث: ما لا يزيل الملك، كالنكاح والإجارة، فيخير بين الرجوع في نصفها مع بقاء النكاح والإجارة، وبين الرجوع بنصف القيمة؛ لأنه نقص رضي به، فأشبه نقصها بهزالها.

فصل:
فإن كان الصداق عينا، فوهبتها لزوجها، ثم طلقها قبل الدخول، ففيه روايتان:
إحداهما: يرجع عليها بنصفه؛ لأنه دعا إليه بعقد مستأنف، فلم يمنع استحقاق نصفه بالطلاق، كما لو وهبته أجنبيا، ثم وهبه الأجنبي للزوج.
والثانية: لا يرجع عليها بشيء؛ لأن نصف الصداق تعجل له بالهبة. وإن كان دينا فأبرأته منه ثم طلقها، وقلنا: لا يرجع ثَمَّ، فهاهنا أولى. وإن قلنا: يرجع ثم، خرج هاهنا وجهان:
أحدهما: يرجع؛ لأنه عاد إليه بغير الطلاق، فأشبه العين.
والثاني: لا يرجع؛ لأن الإبراء إسقاط وليس بتمليك. وإن أصدقها عينا، فوهبتها له، أو دينا، فأبرأته منه، ثم ارتدت قبل الدخول، ففي رجوعه به عليها وجهان، بناء على الرجوع في النصف بالطلاق. وإن باع رجلا عبدا، أو أبرأه من ثمنه، فوجد به المشتري عيبا فرده، وطالبه بثمنه، أو أمسكه وأراد أرشه، فهل له ذلك؟ على وجهين، بناء على الروايتين في الصداق. وإن أصدقها عبدا فوهبته نصفه، ثم طلقها قبل الدخول انبنى على الروايتين. فإن قلنا: إذا وهبته الكل لا يرجع بشيء، رجع هاهنا في نصف الباقي من العبد. وإن قلنا: يرجع ثم، رجع في النصف الباقي جميعه.

فصل:
والزوج هو الذي بيده عقد النكاح؛ فإذا طلق قبل الدخول، فأي الزوجين عفا لصاحبه عما وجب له من المهر وهو حائز الأمر في ماله، برئ منه صاحبه، وكمل له الصداق جميعه. وعنه: ما يدل على أن الذي بيده عقدة النكاح هو الأب، فيصح عفوه عن نصف مهر ابنته البكر التي لم تبلغ إذا طلقت قبل الدخول؛ لأن الذي بيده عقدة النكاح بعد الطلاق هو الولي؛ ولأن الله خاطب الأزواج بخطاب المواجهة، ثم قال تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وهذا خطاب غائب، فاعتبرنا هذه

(3/69)


الشروط؛ لأن الأب يلي مالها في صغرها دون غيره، ولا يليه في كبرها، ولا يملك تزويجها إلا إذا كانت بكرا، ولم تكن ذات زوج، والمذهب الأول. قال أبو حفص: ما أرى القول الآخر إلا قولا قديما، ولا يجوز عفو الأب ولا غيره من الأولياء، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وَلِيّ العقدة الزوج» رواه الدارقطني؛ ولأن الله تعالى قال: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] وليس عفو الولي عن صداق ابنته أقرب للتقوى، ولا يمنع العدول عن خطاب الحاضر إلى خطاب الغائب كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا} [يونس: 22] ؛ ولأن صداق المرأة حق لها، فلا يملك الولي العفو عنه كسائر ديونها؛ ولأن الصغير لو رجع إليه صداق زوجته، أو نصفه؛ لانفساخ النكاح، برضاع أو نحوه، لم يكن لوليه العفو عنه، رواية واحدة. فكذلك ولي الصغيرة.

[باب الحكم في المفوضة]
وهو أن يزوج الرجل ابنته بغير صداق برضاها أو رضا أبيها، سواء سكتا عن ذكره، أو شرطا نفيه، فالعقد صحيح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] . وعن عقبة بن عامر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: أترضى أن أزوجك فلانة؟ قال: نعم، وقال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلانا قالت: نعم، فزوج أحدهما صاحبه، فدخل بها الرجل، ولم يفرض لها صداقا، ولم يعطها شيئا فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوجني فلانة، ولم أفرض لها صداقا، ولم أعطها شيئا، فإني أشهدكم أني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر. فأخذت سهما فباعته بمائة ألف» . رواه أبو داود.
ويجب لها مهر نسائها بالعقد؛ لأنه لو لم يجب، لما استقر بالدخول، ولا ملكت المطالبة بفرضه قبله؛ ولأن إخلاء النكاح عن المهر خالص لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولها

(3/70)


المطالبة بفرضه قبل الدخول وبعده، ويلزمه إجابتها إليه. فإن ترافعا إلى الحاكم، لم يفرض لها إلا مهر المثل؛ لأنه الواجب لها، وإن تراضى الزوجان على فرضه، جاز. فإن فرض لها مهر مثلها، فليس لها غيره؛ لأنه الواجب لها. وإن فرض لها الحاكم أكثر منه جاز؛ لأن له أن يزيدها في صداقها. وإن فرض لها أقل منه، فرضيته، جاز؛ لأن الحق لها، فملكت تنقيصه، وما فرض لها من ذلك، صار كالمسمى في التنصيف بالطلاق قبل الدخول، وقراره بالدخول وغيره؛ لأنه مهر مفروض، فأشبه المفروض بالعقد. وإن دخل بها قبل الفرض، استقر مهر المثل؛ لأن الوطء في نكاح خال عن مهر، خالص لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإن مات أحدهما قبل الإصابة والفرض، وجب لها مهر نسائها في صحيح المذهب، لما روى علقمة «أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: لها صداق نسائها لا وكس ولا شطط، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بروع ابنة واشق، امرأة منا، مثل ما قضيت» . أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وعن أحمد: لا يكمل لها الصداق لأنها فرقة قبل فرض ومسيس، فأشبهت الطلاق، فعلى هذا يجب لها نصف مهر المثل.

فصل:
ومهر نسائها: هو مهر نساء عصباتها المساويات لها، ويعتبر الأقرب فالأقرب منهن، فأقربهن الأخوات، ثم بنات الإخوة، ثم العمات، ثم بنات الأعمام، ثم من بعدهن الأقرب فالأقرب، ولا يعتبر ذوات الأرحام، كالأم والخالة والأخت من الأم في إحدى الروايتين؛ لأن المهر يختلف بالنسب، ونسبها مخالف لنسبهن، والأخرى يعتبر؛ لأنهن من نسائها فيدخلن في الخبر. فإن لم يكن لها نساء عصبات، اعتبر هؤلاء على الروايتين. ويعتبر بمن يساويها في صفاتها من سنها وبلدها وعقلها وعفتها وجمالها ويسارها وبكارتها وثيوبتها؛ لأنه عوض متلف، فاعتبرت فيها الصفات. فإن لم يكن مهر نسائها يختلف بهذه الأمور، لم تعتبرها، وإن كان يختلف فلم نجد إلا دونها، زيد لها بقدر فضيلتها، وإن لم يوجد إلا أعلى منها، نقصت بقدر نقيصتها، ويجب حالا من نقد البلد، كقيم المتلفات. فإن كان عادة نسائها التأجيل، ففيه وجهان:
أحدهما: يفرض مؤجلا؛ لأنه مهر نسائها.

(3/71)


والثاني: يفرض حالا؛ لأنه قيمة متلف. وإن كان عادتهم أنهم إذا زوجوا عشيرتهم، خففوا، وإذا زوجوا غيرهم، أثقلوا أو عكس ذلك، اعتبر؛ لأنه مهر المثل. فإن لم يوجد من أقاربها أحد، اعتبر شبهها من أهل بلدها، فإن عدم ذلك، اعتبر أقرب الناس إليها من نساء أقرب البلدان إليها.
فصل: وإن طلق المفوضة قبل الدخول والفرض، فليس لها إلا المتعة. نص عليه أحمد في رواية جماعة. وعنه: لها نصف مهر المثل؛ لأنه نكاح صحيح يوجب مهر المثل بعد الدخول، فيوجب نصفه بالطلاق قبله، كالتي سمي لها، والأول المذهب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] . ولا متعة لغيرها في ظاهر المذهب؛ لأنه لما خص بالآية من لم يفرض لها ولم يمسها، دل على أنها لم تجب لمدخول بها، ولا مفروض لها؛ ولأنه حصل في مقابله ابتذال المهر أو نصفه، بخلاف مسألتنا، وعنه: لكل مطلقة متاع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] وقال سبحانه: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49] قال أبو بكر: العمل عندي على هذه الرواية لولا تواتر الروايات بخلافها، فإنه لم يرو هذه إلا حنبل، وخالفه سائر من روى عن أبي عبد الله، فيتعين حمل هذه الرواية على الاستحباب، جمعا بين دلالة الآيات المختلفات، ولما ذكرنا من المعنى. فأما المتوفى عنها، فلا متعة لها بغير خلاف؛ لأن الآية لم تتناولها، ولا هي معنى المنصوص عليه.

فصل:
والمتعة معتبرة بحال الزوج {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وحكى القاضي عن أحمد: أنها مقدرة بنصف مهر المثل؛ لأنها بدل عنه، فتقدرت به، والمذهب الأول، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] فقدرها بحال الزوج دون حال المرأة؛ ولأنه لو وجب قدر نصف مهر المثل، كان ذلك نصف مهر المثل، وفي قدرها روايتان:

(3/72)


إحداهما: يرجع فيها إلى اجتهاد الحاكم، فيفرض لها ما يؤديه اجتهاده إليه؛ لأنه أمر لم يرد الشرع بتقديره ويحتاج إلى الاجتهاد، فرد إلى الحاكم، كالنفقة.
والثانية: أعلى المتعة خادم، وأدناها كسوة تجزئها في صلاتها، وأوسطها ما بين ذلك، لقول ابن العباس: أعلى المتعة خادم، ثم دون ذلك النفقة، ثم دون ذلك الكسوة. وهذا تفسير من الصحابي، فيجب الرجوع إليه.

فصل:
وكل فرقة أسقطت المسمى، أسقطت المتعة، وما نصفت المسمى، أوجبت المتعة؛ لأنها قائمة مقام نصف المسمى، فاعتبر ذلك فيها. وسئل أحمد: عن رجل تزوج امرأة ولم يكن فرض لها مهرا، ثم وهب لها غلاما، ثم طلقها، قال: لها المتعة، وذلك لأن الهبة لا تنقضي بها المتعة، كالمسمى.

فصل:
فأما المفوضة المهر، وهي التي تزوجها على حكمها، أو حكمه، أو حكم أجنبي، أو بمهر فاسد، أو يزوجها غير الأب بغير صداق بغير إذنها، فإنه يتنصف لها مهر المثل بالطلاق في ظاهر المذهب، وهو اختيار الخرقي. وعن أحمد: ليس لها إلا المتعة؛ لأنه نكاح خلا عن تسمية صحيحة، فأشبه نكاح المفوضة البضع. ولنا: أنها لم ترض بغير صداق، ولم يرض أبوها، فلم تجب المتعة، كالتي سمي لها، بخلاف الراضية بغير صداق.

فصل:
وللأب تزويج ابنته بغير صداق مثلها، صغيرة كانت أو كبيرة، بكرا أو ثيبا؛ لأن «عمر خطب الناس فقال: ألا لا تغالوا في صدق النساء، فما أصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدا من نسائه أو بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية» ، وظاهره صحة تسمية من زوج بمثل ذلك، وإن نقص عن مهر المثل، وزوج سعيد بن المسيب ابنته بدرهمين وهو سيد قرشي؛ ولأنه غير متهم في حقها، فلا يمنع من تحصيل المقصود والحظ لابنته بتفويت غير المقصود، وليس لغيره نقصها عن مهر نسائها إلا بإذنها؛ لأنه متهم. فإن زوج بغير صداق، لم يكن تفويضا صحيحا؛ لأنه أسقط ما ليس له التصرف فيه، ويجب مهر المثل، وإن فعله الأب، كان تفويضا صحيحا.

فصل:
وللأب أن يشترط لنفسه شيئا من صداق ابنته؛ لأن الله تعالى أخبر أن شعيبا زوج

(3/73)


ابنته لموسى برعاية غنمه. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» ، وقال: «إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من أموالهم» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن. فإن زوجها على ألف لها، وألف له، ثم طلقت قبل الدخول، رجع الزوج بالألف التي لها؛ لأن ما أخذه الأب محسوب على البنت من صداقها، فكأنها قبضته، ثم وهبته لأبيها، فإن شرط غير الأب شيئا لنفسه، فالكل لها، ولا شيء له؛ لأنه عوض عنها، فكان لها، كالمسمى لها.

فصل:
وإن زوج الرجل ابنه الصغير، فالمهر على الزوج؛ لأنه المعوض له، فكان العوض عليه، كالكبير، وكما لو اشترى له شيئا، فإن كان الابن معسرا، ففيه وجهان:
أحدهما: هو عليه كذلك.
والثاني: على الأب؛ لأنه لما زوجه مع علمه بإعساره ووجوب الصداق عليه، كان رضا منه بالتزامه.

فصل:
وإن تزوج العبد بإذن مولاه، فالمهر على المولى؛ لأنه وجب بإذنه، فكان عليه، كالذي يجب بعقد الوكيل. وإن تزوج بغير إذن سيده، فالنكاح باطل، فإن فارقها قبل الدخول، فلا شيء عليه، وإن دخل بها ففي رقبته صداقها؛ لأنه وجب بجنايته، فكان في رقبته كسائر جناياته. وفي قدره روايتان:
إحداهما: مهر مثلها؛ لأنه وطء يوجب المهر، فأوجب جميعه، كوطء المكرهة.
والثانية: يجب عليه خمسا المهر، لما روى خلاس أن غلاما لأبي موسى تزوج بمولاة تيحان التيمي بغير إذن أبي موسى، فكتب في ذلك إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فكتب إليه: أن فرق بينهما وخذ لها الخمسين من صداقها، وكان صداقها خمسة

(3/74)


أبعرة. رواه أحمد. ولأن المهر أحد موجبي الوطء، فجاز أن ينقص في العبد عن الحر كالحد. وقد روى حنبل عن أحمد أنه لا صداق عليه، ويحتمل هذا أن يحمل على ما إذا فرق بينهما قبل الدخول، ويحتمل أن لا يجب شيء في الحالين؛ ولأن المرأة مطاوعة له في غير نكاح صحيح، أشبه الزانية. وهذا مذهب ابن عمر، والمذهب الأول. والسيد مخير بين أن يفديه بأقل الأمرين من قيمته، أو الواجب من المهر، كأرش جناياته. وإذا زوج السيد عبده أمته، وجب الصداق عليه، ثم سقط؛ لأن النكاح لا يخلو من مهر، ولا يثبت للسيد على عبده مال، فسقط. وقال القاضي: لا يثبت مهر أصلا لأنه لا يمكن أن يجب للسيد على عبده مال. وإن تزوج العبد بحرة، أو أمة بغير إذن سيده، ثم باعها العبد، أو باعه لسيد الأمة بثمن في الذمة، صح ويحول صداقها إلى ثمنه، أو نصفه إن كان قبل الدخول، وإن باعها إياه بصداقها، صح؛ لأنه يجوز أن يبيعها به عبدا آخر، فكذلك هذا. وينفسخ النكاح إذا ملكت زوجها. فإن كان قبل الدخول، رجع السيد عليها بما يسقط من صداقها.

[باب اختلاف الزوجين في الصداق]
إذا اختلفا في قدره، ولا بينة على مبلغه، ففيه روايتان:
إحداهما: القول قول من يدعي مهر المثل منهما. فإن ادعت مهر المثل أو أقل، فالقول قولها. وإن ادعى مهر مثلها أو أكثر، فالقول قوله؛ لأن الظاهر أن صداقها مهر مثلها؛ ولأنه موجب العقد بدليل ما لو خلا عن الصداق فكان القول قول مدعيه، كالمنكر في سائر الدعاوى. فإن ادعى أقل من مهر المثل، وادعت أكثر من مهر المثل، ردا إلى مهر المثل. وينبغي أن يحلف الزوج على نفي الزائد عن مهر المثل، وتحلف هي على إثبات ما نقص منه؛ لأن دعوى كل واحد منهما محتملة، فلا تدفع بغير يمين. والرواية الثانية: القول قول الزوج بكل حال؛ لأنه منكر، فيدخل في عموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن اليمين على المدعى عليه» فإن مات الزوجان، فورثتهما بمنزلتهما، إلا أن من يحلف منهما على الإثبات، يحلف على البت، ومن يحلف على النفي، يحلف على

(3/75)


نفي العلم؛ لأنه يحلف على نفي فعل الغير، وإن اختلف الزوج وأبو الصغيرة أو المجنونة، قام الأب مقامهما في اليمين؛ لأنه يحلف على فعل نفسه، فأشبه الوكيل. فإن لم يحلف حتى بلغت الصبية، وعقلت المجنونة، فاليمين عليهما دونه؛ لأنه إنما حلف لتعذر اليمين من جهتهما، فإذا أمكن الحلف منهما، لزمهما، كالوصي إذا بلغ الطفل.

فصل:
وإن أنكر الزوج تسمية الصداق، وادعت تسمية مهر المثل، وكان الخلاف بعد الطلاق قبل الدخول، ففيه وجهان، بناء على الروايتين. فإن قلنا: القول قول الزوج، وجبت المتعة. وإن قلنا بالرواية الأخرى، فلها نصف مهر المثل. وإن اختلفا قبل الطلاق بعد الدخول، فقد استقر لها مهر مثلها، وإن كان قبله، فلها المطالبة بفرض مهر المثل، ولا يشرع التحالف. وإن ادعت أكثر من مهر المثل، حلف على نفي الزيادة.

فصل:
فإن قال: أصدقتك هذا العبد، قالت: بل هذه الأمة، لم تملك العبد؛ لأنها لا تدعيه، ولا الأمة؛ لأنها لا تجب بمجرد الدعوى، لكن إن قلنا: القول قول الزوج، فلها قيمة العبد، وإن قلنا: القول قول من يدعي مهر المثل، وكانت الأمة مهر المثل أو أقل، حلفت ولها قيمتها. وإن كانت أكثر والعبد مهر المثل أو أكثر، حلف الزوج ولها قيمته. وإن كانت الأمة أكثر والعبد أقل، رد إلى مهر المثل على ما ذكرنا فيما تقدم.

فصل:
وإن اختلفا في قبض الصداق، أو إبرائه منه، فالقول قولها؛ لأن الأصل معها. وإن اختلفا فيما يستقر به الصداق بالاستمتاع أو الخلوة، فالقول قوله؛ لأن الأصل معه. وإن اتفقا على أنه دفع إليها مالا، فقال: دفعته صداقا. قالت: بل هبة. فإن كان الخلاف في نيته، فالقول قوله بلا يمين؛ لأنه أعلم بما نواه. وإن اختلفا في لفظه، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه ملكه، فالقول قوله في صفة نقله.

فصل:
وإن نقص الصداق في يدها بعد الطلاق، فقالت: حدث بعد الطلاق، فلا ضمان علي، وقال: بل قبله، فالقول قولها؛ لأن الأصل براءة ذمتها.

فصل:
ويجب المهر للموطوءة في نكاح فاسد، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التي أنكحت نفسها

(3/76)


بغير إذن وليها: «فإن أصابها، فلها المهر بما استحل من فرجها» ويجب للموطوءة بشبهة لهذا المعنى. ويجب للمكرهة على الزنا؛ لأنه وطء سقط الحد عنها فيه بشبهة، والواطئ من أهل الضمان في حقها، فأوجب المهر، كالوطء بالشبهة. ولا يجب مع المهر أرش البكارة في هذه المواضع؛ لأنه داخل في المهر. وعنه: للمكرهة الأرش مع المهر؛ لأنه إتلاف جزء فوجب عوضه، كما لو جرحها ثم وطئها. وعن أحمد: لا يجب المهر للمكرهة الثيب قياسا على المطاوعة. وعنه: لا يجب لمحارمه من النسب؛ لأن تحريمهن تحريم أصل، فلا يوجب وطؤهن مهرا، كاللواط. وعنه: من تحرم ابنتها، لا مهر لها كذلك، ومن تحل بنتها، كالعمة والخالة، يجب لها؛ لأن تحريمها أخف، ولنا: أنه أتلف منفعة بضعها بالوطء مكرهة، فأشبهت الأجنبية والبكر.

فصل:
ولا يجب المهر للمطاوعة على الزنا؛ لأنها باذلة لما يوجب البدل لها، فلم يجب لها شيء - كما لو أذنت في قطع يدها - فإن كانت أمة، وجب المهر لسيدها؛ لأنه المستحق له، فلا يسقط ببذلها كيدها، ولا يجب المهر بالوطء في الدبر، ولا اللواط؛ لأنه لا منفعة فيه متقومة في الشرع، بخلاف الفرج.

فصل:
ومن نكاحها باطل بالإجماع، كذات الزوج، والمعتدة، حكمها حكم الأجنبية في وجوب الصداق إن كان الوطء بشبهة أو إكراه، وسقوطه إن كانت مطاوعة عالمة بالتحريم؛ لأنه باطل بالإجماع، فكان وجوده كعدمه.

[باب الوليمة]
وهي: الإطعام في العرس. وهي مستحبة، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الرحمن بن عوف حين تزوج: «أولم ولو بشاة» متفق عليه. وليست واجبة؛ لأنها طعام لسرور حادث، فأشبه سائر الأطعمة. ويستحب أن يولم بشاة، للخبر. وإن أولم

(3/77)


بغيرها أصاب السنة، لما روى أنس قال: «ما أولم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة» . متفق عليه.

فصل:
وإجابة الداعي إليها واجبة، لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها، وقال أبو هريرة: ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله» رواهما البخاري. وإن كان الداعي ذميا، لم تجب إجابته؛ لأن الإجابة للمسلم للإكرام والموالاة، ولا يجب ذلك للذمي، وتجوز إجابته، لما روى أنس «أن يهوديا دعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى خبز شعير وإهالة سنخة، فأجابه» . رواه أحمد في (الزهد) , وإنما تجب إجابة المسلم إذا نص عليه. فإن دعا الجفلى، كقوله: أيها الناس أجيبوا، وهلم إلى الطعام، لم تجب الإجابة؛ لأن كل واحد غير منصوص عليه، فلا ينكسر قلب الداعي بتخلفه، وإن دعا ثلاثة أيام، وجبت الإجابة في اليوم الأول، واستحب في الثاني، ولم تستحب في الثالث، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الوليمة أول يوم حق، والثاني معروف، والثالث رياء وسمعة» رواه أبو داود. فإن دعا اثنان، ولم يمكنه الجمع بينهما، أجاب أسبقهما؛ لأن إجابته وجبت بدعوته، فمنعت من وجوب إجابة الثاني، فإن استويا، أجاب أقربهما بابا، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا اجتمع داعيان، فأجب أقربهما بابا، فإن أقربهما بابا، أقربهما جوارا فإن سبق أحدهما، فأجب الذي سبق» رواه أبو داود. فإن استويا أجاب أقربهما رحما، فإن استويا أجاب أدينهما؛ لأن هذا من أبوب البر، فقدم بهذه المعاني. فإن استويا، أقرع بينهما.

(3/78)


فصل:
وإذا دعي الصائم، لم تسقط الإجابة، فإذا حضر وكان الصوم واجبا، لم يفطر. وإن كان تطوعا، استحب له الفطر، ليسر أخاه ويجبر قلبه، ولا يجب لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائما، فليدع، وإن كان مفطرا فليطعم» رواه مسلم، وأبو داود. ويستحب إعلامهم بصيامه؛ لأنه يروى عن عثمان وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ ولأن التهمة تزول ويتمهد عذره. وإن كان مفطرا، فالأفضل الأكل، للخبر؛ ولأن فيه جبر قلب الداعي، ولا يجب، لما روى جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم إلى الطعام، فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك» حديث صحيح.

فصل:
والدعاء إلى الوليمة إذن في الأكل والدخول، لما روى جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول فذلك إذن له» رواه أبو داود.

فصل:
وإذا دعي إلى وليمة فيها منكر، كالخمر والزمر، فأمكنه الإنكار، حضر وأنكر؛ لأنه يجمع بين واجبين. وإن لم يمكنه، لم يحضر؛ لأنه يرى المنكر ويسمعه اختيارا. وإن حضر فرأى المنكر أو سمعه، أزاله. فإن لم تمكنه إزالته، انصرف، لما روى سفينة: «أن رجلا أضافه علي فصنع له طعاما، فقالت فاطمة: لو دعونا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأكل معنا، فدعوه، فجاء فوضع يده على عضادتي الباب، فرأى قراما في ناحية البيت، فرجع، فقالت فاطمة: الحقه، فقل: ما رجعك يا رسول الله؟ فقال: إنه ليس لي أن أدخل بيتا مزوقا» حديث حسن. ولأنه يشاهد المنكر ويسمعه من غير حاجة، فمنع منه، كالقادر على إزالته. وإن علم المنكر ولم يره ولم يسمعه، لم ينصرف؛ لأنه لم يره،

(3/79)


ولم يسمعه، ولا ينصرف لسماع الدف؛ لأنه مشروع، ولا لرؤية نقوش وصور غير الحيوان، كالشجر والأبنية؛ لأنه نقش مباح، فهو كعلم الثوب. وأما صور الحيوان، فإن كانت توطأ أو يتوكأ عليها، كالبسط والوسائد، فلا بأس بها. وإن كانت على حيطان أو ستور، انصرف، لما روت «عائشة قالت: قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من سفر وقد سترت لي سهوة بنمط فيه تصاوير، فلما رآه قال: أتسترين الجدر بستر فيه تصاوير فهتكه. قالت: فجعلت منه وسادتين وحشوتهما ليفا، فلم يعب ذلك علي» . فإن قطع رأس الصورة، أو ما لا يبقي الحيوان بعده، كصدر وظهر، ذهبت الكراهة؛ لأنه لا تبقى الحياة فيه، فأشبه الشجر. وإن أزيل منه ما تبقى الحياة بعده، كيد أو رجل، فالكراهة بحالها؛ لأنها صورة حيوان. وإن سترت الحيطان بستور غير مصورة لحاجة من حر أو برد، جاز ولم يكره؛ لأنه يستعمله لحاجة، فأشبه لبس الثياب. وإن كان لغيره حاجة، ففيه وجهان:
أحدهما: هو محرم، لما روي عن علي بن الحسين قال، «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تستر الجدر» . رواه الخلال. والنهي يقتضي التحريم. ودعا ابن عمر أبا أيوب، فجاء فرأى البيت مستورا بنجاد أخضر، فقال: يا عبد الله ‍‍‍‍‍‍! أتسترون الجدر؟ لا أطعم لكم طعاما، ولا أدخل لكم بيتا، ثم خرج.
والثاني: هو مكروه؛ لأن ابن عمر أقر عليه ولم ينكر؛ ولأن كراهته، لما فيه من السرف، فلا يبلغ به التحريم، كالزيادة في الملبوس. ويجوز الرجوع لذلك، لفعل أبي أيوب.

فصل:
فأما سائر الدعوات غير الوليمة، كدعوة الختان، وتسمى: الأعذار، والعذيرة، والخرس والخرسة عند الولادة. والوكيرة: دعوة البناء. والنقيعة: لقدوم الغائب. والحذاق: عند حذق الصبي. والمأدبة: اسم لكل دعوة لسبب كانت أو لغير سبب، ففعلها مستحب، لما فيه من إطعام الطعام وإظهار النعمة، ولا تجب الإجابة إليها، لما روي «عن عثمان بن أبي العاص أنه دعي إلى ختان فأبى أن يجيب، وقال: إنا كنا لا نأتي الختان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يدعى إليه» . رواه الإمام أحمد. وتستحب

(3/80)


الإجابة، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا دعي أحدكم فليجب عرسا كان أو غير عرس» رواه أبو داود؛ ولأن فيه جبر قلب الداعي وتطييبه.

فصل:
والنثار والتقاطه مباح؛ لأنه نوع إباحة، فأشبه تسبيل الماء والثمرة، وفي كراهته روايتان:
إحداهما: يكره وهي التي ذكرها الخرقي، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «نهى عن النهبة» ، وقال: «لا تحل النهبى» رواه أحمد في المسند. ولأن في التقاطه دناءة وقتالا، وقد يأخذ من غيره أحب إلى صاحب النثار منه.
والثانية: لا يكره، اختارها أبو بكر، لما روى عبد الله بن قرط قال: «قرب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس بدنات أو ست بدنات، فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، فنحرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: من شاء اقتطع» رواه أبو داود. ولا بأس أن يخلط المسافرون أزوادهم ويأكلون جميعا؛ لأن السلف كانوا يتناهدون في الغزو والحج وغيرهما. ومن وقع في حجره شيء من النثار، فهو له؛ لأنه مباح حصل في حجره فملكه، كما لو وثبت سمكة فسقطت في حجره.

[باب عشرة النساء]
يجب على كل واحد من الزوجين معاشرة صاحبه بالمعروف، لقول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] . وقال سبحانه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] ، ويجب على كل واحد منهما بذل ما يجب لصاحبه من الحق عليه، من غير مطل، ولا إظهار الكراهية للبذل، ولا إتباعه بأذى ولا من، وكف أذاه عن صاحبه. ولأن هذا من المعاشرة بالمعروف، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم» .

(3/81)


فصل:
وإذا تزوج امرأة يوطأ مثلها، فطلب تسليمها إليه، وجب ذلك؛ لأنه يطلب حقه الممكن. فإن سألت الإنظار، أنظرت مدة جرت العادة بإصلاح أمرها فيها، كاليومين والثلاثة؛ لأنه يسير جرت العادة بمثله. وإن كانت لا يجامع مثلها، لصغر أو مرض يرجى زواله، لم يجب تسليمها؛ لأنها لا تصلح للاستمتاع المستحق عليها، وإن كان لمرض غير مرجو الزوال، أو لكونها نضوة الخلق، وجب تسليمها؛ لأن المقصود من مثلها الاستمتاع بغير الجماع، وذلك ممكن في الحال. وكل موضع يجب تسليمها إليه إذا طلبها، يلزمه تسلمها إذا عرضت عليه، وما لا فلا.

فصل:
ويجب تسليم الحرة ليلا ونهارا؛ لأنه لا حق لغيره عليها، وللزوج السفر بها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسافر بنسائه. ويجب تسليم الأمة في الليل دون النهار لأنها مملوكة عقد على أحد منفعتيها، فلم يجب التسليم في غير وقتها، كالمستأجرة للخدمة في أحد الزمانين.

فصل:
وله إجبارها على غسل الحيض والنفاس، مسلمة كانت أو ذمية؛ لأن إباحة الوطء يقف عليه، وله إجبار المسلمة على الغسل من الجنابة؛ لأنه واجب عليها. وفي الذمية روايتان:
إحداهما: لا يملك إجبارها عليه؛ لأنه لا يجب عليها، ولا يقف إباحة الوطء عليه.
والثانية: يملك إجبارها؛ لأن كمال الاستمتاع يقف عليه، لكون النفس تعاف من لا تغتسل من جنابة. وفي التنظف والاستحداد وجهان، بناء على هاتين الروايتين. وقال القاضي: له إجبارها على الاستحداد إذا طال الشعر واسترسل، وتقليم الأظافر إذا طالت رواية واحدة. وهل له منعها أكل ما يتأذى برائحته؟ على وجهين، لما ذكرنا وله منع المسلمة من كل محرم؛ لأن الله منعها منه، وليس له منع الذمية من يسير الخمر؛ لأنها لا تعتقد تحريمه، وله إجبارها على غسل فيها منه؛ لأن نجاسته تمنع الاستمتاع به، وله منعها من السكر؛ لأنه يجعلها كالزق المنفوخ، ولا يأمن من جنايتها عليه.

فصل:
وله منعها من الخروج من منزله، إلا لما لا بد لها منه؛ لأن حق الزوج واجب، فلا يجوز تركه بما ليس بواجب. وقد روي عن ابن عمر قال: «أتت امرأة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(3/82)


فقالت: يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته؟ قال: حقه عليها ألا تخرج إلا بإذنه» . ويكره منعه إياها من عيادة أحد والديها، أو شهود جنازته؛ لأنه يؤدي إلى النفور، ويغريها بالعقوق.

فصل:
وله الاستمتاع في كل وقت من غير إضرار بها، ولا منعها من فريضة، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى ترجع» متفق عليه.
ولا يجوز وطؤها في الحيض ولا في الدبر، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] . وروى خزيمة بن ثابت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن» . وعن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتى حائضا أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد» رواهما الأثرم.
ويجوز الاستمتاع بها فيما بين الأليتين، ووطؤها في الفرج مقبلة ومدبرة، وكيف شاء لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] قال جابر: من بين يديها ومن خلفها غير ألا يأتيها إلا في المأتى. متفق عليه.

فصل:
وإذا أراد الجماع، استحب أن يقول: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان

(3/83)


ما رزقتنا، لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أن أحدكم حين يأتي أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فولد بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا» متفق عليه. ويستحب التستر عند المجامعة، لما روى عتبة بن عبيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتى أحدكم أهله، فليستتر، ولا يتجردا تجرد العيرين» . رواه ابن ماجه. ولا يجامعها بحيث يراهما إنسان، أو يسمع وجسهما. وإذا فرغ قبلها، كره له النزع حتى تفرغ، لما روى أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جامع الرجل أهله، فليصدقها، ثم إذا قضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها، فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها» .

فصل:
ويكره العزل، وهو: أن ينزل الماء خارج الفرج، لما فيه من تقليل النسل، ومنع المرأة من كمال استمتاعها، وليس بمحرم، لما روى أبو سعيد قال: «ذكر - يعني العزل - عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فلم يفعل أحدكم؟ - ولم يقل: فلا يفعل - فإنه ليس نفس مخلوقة إلا والله خالقها» متفق عليه. فإن كان ذلك في أمته، فله ذلك بغير إذنها؛ لأن الاستمتاع بها حق له دونها، وكذلك أم الولد، وإن كان في زوجة حرة لم يجز إلا بإذنها، لما روى ابن عمر قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها» . رواه أحمد. وإن كانت أمة فقال أصحابنا: لا يعزل عنها إلا بإذن سيدها؛ لأن الولد له، والأولى جوازه؛ لأن تخصيص الحرة بالاستئذان دليل سقوطه في غيرها؛ ولأن السيد لا حق له في الوطء، فلا يجب استئذانه في كيفيته. ولأن على الزوج ضررا في رق ولده، بخلاف الحرة. ويحتمل أن يكون الاستئذان للحرة والأمة مستحبا غبر واجب؛ لأن

(3/84)


حقهما في الوطء لا في الإنزال، بدليل خروجه بذلك من الفيئة والعنة.

فصل:
وإذا كان له زوجتان، لم يجمع بينهما في مسكن واحد إلا برضاهما؛ لأن عليهما فيه ضررا، ويؤدي إلى الخصومة، ولا يطأ إحداهما بحضرة الأخرى؛ لأن فيه دناءة، وسوء عشرة، وإثارة للغيرة.

[باب القسم بين النساء]
باب القسم يجب على الرجل المبيت عند امرأته الحرة ليلة من كل أربع، ووطؤها مرة في كل أربعة أشهر، إذا لم يكن عذر. وقال القاضي: لا يجب المبيت ولا الوطء ابتداء إذا لم يقصد الإضرار بتركه؛ لأنه حق فجاز تركه، كسكنى الدار المستأجرة، ولنا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الله بن عمرو: «ألم أُخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: فلا تفعل صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا» متفق عليه. وقال عمر لكعب بن سور: اقض بين هذا وامرأته، قال: فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة وهي رابعتهن، فأقضي لها بثلاث أيام ولياليهن يتعبد فيهن، ولها يوم وليلة. فقال عمر: والله ما رأيك الأول بأعجب إلي من الآخر، اذهب فأنت قاض على البصرة. ولأن الوطء يجب على المولي، ويفسخ النكاح لتركه، وما لا يجب على غير الحالف، لا يجب على الحالف على تركه، كسائر المباحات، وما لا يجب، لا يفسخ النكاح، لتعذره، كزيادة النفقة. فإن لم يفعل فطلبت الفرقة، فرق بينهما. قال أصحابنا: وحق الأمة ليلة من كل سبع؛ لأن أكثر ما يمكنه جمعه معها ثلاث حرائر، لهن ست، ولها السابعة. والصحيح أن لها ليلة من ثمان نصف ما للحرة؛ لأن زيادتها على ذلك يحل بالتنصيف. وزيادة الحرة على ليلة من أربع زيادة على الواجب، فتعين ما ذكرنا.

(3/85)


فصل:
فإن كان له امرأتان أو أكثر، وجب التسوية بينهن في القسم، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» رواه أبو داود. ولأن الجور يخل بالعشرة بالمعروف. وليس له البداءة في القسم بإحداهما دون الأخرى من غير رضاها؛ لأنه جور يدعو إلى النفور. فإذا أراد البداءة بالقسم، أقرع بينهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرع بين نسائه. وإذا بدأ بواحدة بقرعته أو غيرها، لزمه القضاء للبواقي؛ لأن ترك القضاء ميل.

فصل:
ويجب القسم على المريض، والمجبوب والمظاهر، والمولي وزوج المريضة، والمحرمة، والحائض والنفساء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقسم في مرضه؛ ولأن القسم يراد للأنس والإيواء، وذلك أحصل في هذه الأحوال. فأما المجنون والمجنونة، فإن خيف منهما، سقط؛ لأن الأنس لا يحصل منهما، وإن لم يخف منهما، فالمجنونة على حقها في القسم. ويطوف ولي المجنون به؛ لأن الأنس يحصل منهما.

فصل:
وإذا سافرت زوجته بغير إذنه، سقط حقها من القسم والنفقة؛ لأنها منعته القسم لها بغيبتها، فأسقطت نفقتها بنشوزها. وإن بعثها أو أمرها بالنقلة من بلدها، لم يسقط حقها من نفقة، ولا قسم؛ لأن ذلك حاصل بفعله، فلم يسقط حقها، كما لو أتلف المشتري المبيع، لم يسقط ثمنه. وإن سافرت بإذنه لحاجتها، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يسقطان؛ لأنها سافرت بإذنه، أشبه ما لو سافرت معه.
الثاني: يسقط. اختاره الخرقي؛ لأن القسم للأنس، والنفقة للتمكين من الاستمتاع، وقد تعذر من جهتها، فسقط، كثمن المبيع إذا تعذر تسليمه، ويحتمل أن يسقط قسمها وجها واحدا؛ لأنه لو سافر عنها لعذر، سقط حقها منه، فإذا سافرت هي، كان أولى. وفي النفقة وجهان؛ لأنها لا تسقط بسفره.

فصل:
وعماد القسم الليل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ: 10] {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11] .

(3/86)


ولأن الليل للسكن والإيواء، والنهار للمعاش والانتشار، إلا من معاشه بالليل، كالحارس، فعماد قسمه النهار؛ لأن نهاره كليل غيره. وإذا قسم للمرأة ليلة، كان لها ما يليها من النهار تبعا لليل، بدليل ما روي «أن سودة وهبت يومها لعائشة» . متفق عليه. «وقالت عائشة: قبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيتي وفي يومي» ، والأولى أن يقسم بين زوجاته ليلة وليلة، اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ولأنه أقرب إلى التسوية في إيفاء الحقوق. فإذا زاد على ذلك، لم يجز إلا برضاهن؛ لأنه إذا بات عند واحدة، تعينت الليلة الثانية للأخرى، فلم يجز أن يبيتها عند غيرها بغير رضاها. فإن اتفق الجميع على القسم أكثر من ذلك أو أقل، جاز؛ لأن الحق لا يخرج عنهن. وقال القاضي: له أن يقسم ليلتين ليلتين، وثلاثا ثلاثا؛ لأنه يسير، ولا تجوز الزيادة عليه إلا برضاهن. فإن قسم لإحداهما، ثم طلق الأخرى قبل قسمها، أثم؛ لأنه فوت حقها الواجب لها، فإن عادت بعد ذلك إليه، لزمه أن يقضي لها؛ لأنه قدر على إيفائه بعد العجز عنه، فلزمه، كالدين إذا أعسر به ثم أيسر. وإن نشزت إحداهن في ليلتها، وأغلقت بابها دونه، أو ادعت طلاقه، سقط حقها من القسم. فإن طاوعت، استأنف القسم بينهما، ولم يقض لها؛ لأنها أسقطت حق نفسها.

فصل:
والأولى أن يطوف على نسائه في منازلهن، اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ولأنه أحسن في العشرة وأصون لهن. وله أن يقيم في موضع واحد، ويستدعي واحدة واحدة، وله أن يأتي واحدة ويستدعي واحدة؛ لأن المرأة تابعة للزوج في المكان، ولذلك ملك نقلها إلى حيث شاء. وإن حبس في موضع يمكن حضورها معه، وهو مسكن مثلها، فهي على حقها من القسم. وإن لم يكن مسكن مثلها، لم يلزمها إجابته؛ لأن عليها ضررا. وإن كانت له امرأتان في بلدين، فعليه العدل بينهما؛ لأنه حق لهما، فلا يسقط بتباعدهما، كالنفقة. فإن امتنعت إحداهما من النقلة بعد طلبه لها، سقط حقها. وإن أقام في بلد إحداهما، ولم يقم معها في المنزل، لم يلزمه القضاء؛ لأنه لم يقسم لها، وإن أقام عندها، لزمه القضاء للأخرى.

(3/87)


فصل:
يستحب التسوية بين الزوجات في الاستمتاع؛ لأنه أكمل، ولا يجب ذلك؛ لأن الداعي إليه الشهوة والمحبة، ولا سبيل إلى التسوية فيه. قال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] . قال ابن عباس: في الحب والجماع. وقالت عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم بين نسائه ويعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» رواه الترمذي وابن ماجه.

فصل:
وإن خرج في ليلة إحداهن ولم يلبث أن عاد، لم يقض لها؛ لأنه لا فائدة في قضائه، وإن أقام قضى لها، سواء كانت إقامته لعذر، أو لغير عذر؛ لأن حقها فات بغيبته عنها. ويستحب أن يقضي لها في مثل الوقت الذي خرج فيه؛ لأنه أقرب إلى المماثلة. وإن قضاه في غيره من الليل، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، لعدم المماثلة.
والثاني: يجوز؛ لأنه قضى في الوقت الذي هو المقصود في القسم، وله الخروج في النهار حيث شاء؛ لأن النهار للمعاش والانتشار. وإن دخل على ضرتها في ليلتها، ولم يلبث أن خرج، لم يقض، لعدم الفائدة في قضائه، فإن جامعها فيه، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقضي أيضا؛ لأن الزمن اليسير لا يقضى، والوطء لا يستحق في القسم.
والثاني: عليه القضاء وهو أن يدخل على صاحبة القسم في ليلة الأخرى فيطأها، ليعدل بينهما. وإن أطال المقام عند الضرة، قضاه في ليلة المدخول عليها بكل حال. فأما الدخول على غيرها في يومها، فيجوز للحاجة، من غير أن يطيل ولا يجامع. وهل له أن يستمتع منها فيما دون الفرج؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز لما روت عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخل علي في يوم غيري وينال مني كل شيء إلا الجماع» .

(3/88)


والثاني: لا يجوز؛ لأنه يحصل به السكن، أشبه الجماع. وإن أطال، قضاه للأخرى. وإن جامع ففيه وجهان. كما ذكرنا في الليل.

فصل:
والكتابية كالمسلمة في القسم؛ لأنه من حقوق النكاح فاستويا فيه، كالنفقة والسكنى. فإن كانت إحداهما حرة، والأخرى أمة، فللحرة ليلتان، وللأمة ليلة، لما روي عن علي أنه كان يقول: إذا تزوج الحرة على الأمة، قسم للأمة ليلة، وللحرة ليلتين. أخرجه الدارقطني واحتج به أحمد. فإن أعتقت الأمة في مدتها أو قبلها، أضاف إلى ليلتها أخرى؛ لأنها صارت حرة، فيجب التسوية بينهما. وإن أعتقت بعد مدتها، استأنف القسم متساويا ولم يقض لها.

فصل:
إذا كان له أربع نسوة، فنشزت إحداهن، وظلم أخرى فلم يقسم لها، وقسم للاثنتين ثلاثين ليلة، ثم أطاعته الناشز، وأراد القضاء للمظلومة، فإنه يقسم لها ثلاثا، وللناشز ليلة، خمس أدوار، فيكمل للمظلومة خمسة عشر، ويحصل للناشز خمس، فتحصل التسوية. فإن كان له ثلاث نسوة، فظلم إحداهن، وقسم بين الباقيتين ثلاثين ليلة، ثم تزوج جديدة، وأراد القضاء، فإنه يبدأ فيوفي الجديدة حق العقد، ثم يقسم بينهما وبين المظلومة خمسة أدوار، كما ذكرنا في التي قبلها سواء.

فصل:
ولا قسم عليه في ملك اليمين. فإذا كانت له زوجات وإماء، فله الدخول على الإماء كيف شاء، والاستمتاع بهن؛ لأن الأمة لا حق لها في الاستمتاع، ولذلك لم تملك المطالبة في الإيلاء.

فصل:
وللمرأة أن تهب حقها من القسم لزوجها، فيجعله لمن شاء من زوجاته، ولبعض ضرائرها، أو لهن جميعا إذا رضي الزوج؛ لأن حقه في الاستمتاع بها لا يسقط إلا برضاه، فإذا رضي، جاز، لما روت عائشة «أن سودة وهبت يومها لعائشة، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم لعائشة يومها ويوم سودة» . متفق عليه. ويجوز ذلك في بعض الزمان، لما روت عائشة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجد على صفية بنت حيي في شيء، فقالت

(3/89)


لعائشة: هل لك أن ترضي عني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولك يومي؟ قالت: نعم - فأخذت خمارا مصبوغا بزعفران، فرشته بالماء ليفوح ريحه، ثم قعدت إلى جنب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إليك يا عائشة، إنه ليس يومك قالت: ذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء، فأخبرته بالأمر فرضي عنها» . رواه ابن ماجه. ولا يعتبر رضا الموهوبة؛ لأنه حقه عليها عام، وإنما منعه المزاحمة التي زالت بالهبة، ثم إن كانت ليلة الواهبة لا تلي ليلة الموهوبة، لم تجز الموالاة بينهما؛ لأن الموهوبة قائمة مقام الواهبة، فلم يجز تغييرها عن موضعها، كما لو كانت الواهبة باقية، ويحتمل أن يجوز لعدم الفائدة في التفريق. وللواهبة الرجوع في هبتها في المستقبل؛ لأنه لم يقبض، وما مضى فقد اتصل به القبض، فلا حق لها فيه. وإن بذلت ليلتها بمال، لم يصح؛ لأنها ليست مالا، ولا منفعة يستحق بها المال. وإن كان العوض غير المال، كإرضاء زوجها ونحو ذلك، جاز لحديث عائشة.

فصل:
والحق في قسم الأمة لها، دون سيدها، فلها هبة ليلتها بغير إذن سيدها، ولها المطالبة بها؛ لأن الإيواء والسكنى حق لها، فملكت إسقاطه والمطالبة به، كالحرة.

فصل:
وإن تزوج صاحب النسوة امرأة جديدة، قطع الدور لحق الجديدة، فإن كانت بكرا، أقام عندها سبعا. وإن كانت ثيبا، أقام عندها ثلاثا، ثم دار، لما روى أبو قلابة «عن أنس قال: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا، وإذا تزوج الثيب، أقام عندها ثلاثا، ثم قسم. قال أبو قلابة: لو شئت لقلت: إن أنسا رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه.
وإن أحبت الثيب أن يقيم عندها سبعا، فعل، ثم قضى جميعها للبواقي، لما روت «أم سلمة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما تزوجها، أقام عندها ثلاثا وقال: إن شئت سبَّعت لك، وإن سبَّعت لك سبعت لنسائي» . رواه مسلم. وفي لفظ: «وإن شئت ثلثت ثم

(3/90)


درت» والأحرار والرقيق سواء في هذا الحديث، للإيناس وإزالة الاحتشام، فاستوين فيه لاستوائهن في الحاجة إليه، كالنفقة.

فصل:
يكره أن يزف امرأتين في ليلة واحدة؛ لأنه لا يمكن الجمع بينهما في إيفاء حقهما، وتستضر التي يؤخر حقها وتستوحش، فإن فعل، بدأ بالتي تدخل عليه أولا فوفاها حقها؛ لأنها أسبق، فإن أدخلتا عليه معا، أقرع بينهما، فقدم من تخرج لها القرعة، ثم ثنى بصاحبتها، ثم قسم بعد ذلك.

فصل:
وإذا أراد السفر بجميع نسائه، قسم لهن كما يقسم في الحضر. وإن أراد السفر ببعضهن، لم يسافر بهن إلا بقرعة، لما روت عائشة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها معه» . متفق عليه. ولا يلزمه القضاء للحاضرات؛ لأن عائشة لم تذكر قضاء؛ ولأن المسافرة اختصت بمشقة السفر، فاختصت بالقسم، والسفر الطويل والقصير سواء في هذا، لعموم الخبر والمعنى. وإن سافر بإحداهن بغير قرعة، أثم، وقضى للبواقي؛ لأنه خصها مدة على وجه تلحقه التهمة، فلزمه القضاء، كالحاضر. فإن خرجت القرعة لإحداهن فامتنعت من السفر معه، سقط حقها لامتناعها. وإن آثرت أخرى به، جاز إذا رضي الزوج؛ لأن الحق لها، أشبه ليلتها في الحضر، وإن أحب تركها، والسفر وحده، جاز؛ لأن القرعة لا توجب، وإنما تعين مستحق التقديم. وإن سافر بها بقرعة ثم بدا له فأبعد السفر، فله استصحابها معه؛ لأنه سفر واحد. وإن أقام في بلدة مدة يلزمه فيها إتمام الصلاة، قضى ذلك، فإذا خرج مسافرا، لم يقض ما سافره؛ لأنه سفر واحد قد أقرع له. وإن كانت عنده امرأتان، فتزوج امرأتين، ثم أراد سفرا، أقرع بين الكل، فإن وقعت القرعة لإحدى الأوليين، سافر بها، فإذا قدم، قضى حق العقد للجديدتين، ثم دار. وإن وقعت للجديدة، سافر بها ودخل حق العقد في قسم السفر، فإذا قدم، قضى حق العقد للأخرى، ثم دار؛ لأنه حق وجب عليه قبل سفره. ويحتمل ألا يقضي لها؛ لأن الإيواء في الحضر أكثر منه في السفر، فيحصل تفضيلها على التي سافر بها. ويحتمل أن يقيم عند الأخرى لقضاء حق العقد؛ لأنه حق وجب بالعقد، ولم يوجد له مسقط، فيجب قضاؤه، ثم يقيم مثله عند التي

(3/91)


سافر بها، لئلا يفضل الحاضر عليها، فإن العدل يحصل بهذا، فيكون أولى من إسقاط حق العقد بغير مسقط وإن قدم من سفره قبل إتمام حق العقد للتي معه، أتمه في الحضر، والله أعلم.

[باب النشوز]
وهو نوعان. أحدهما: نشوز المرأة، وهو معصيتها زوجها فيما يجب له عليها من حقوق النكاح، فمتى ظهر منها إمارات النشوز، مثل أن يدعوها فلا تجيبه، أو تجيبه مكرهة متبرمة، وعظها وخوفها الله تعالى وما يلحقها من الإثم والضرر بنشوزها من سقوط نفقتها وقسمها وإباحة ضربها وأذاها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34] . ولا يجوز ضربها؛ لأنه يجوز أن يكون ذلك لعذر، أو ضيق صدر من غير الزوج، فإن أظهرت النشوز، فله هجرها في المضاجع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] . قال ابن عباس: لا تضاجعها في فراشك. فإن الهجران في الكلام، فلا يجوز أكثر من ثلاثة أيام، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، أو قال: ثلاث ليال» ، متفق عليه. فإن ردعها ذلك، وإلا فله ضربها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح» رواه مسلم. ولا يحرج بالضرب، للخبر. قال ثعلب: غير مبرح، أي: غير شديد. وعليه اجتناب المواضع المخوفة،

(3/92)


والمستحسنة؛ لأن المقصود التأديب لا الإتلاف والتشويه. وهل له ضربها بأول النشوز؟ فعنه: له ذلك، للآية والخبر؛ ولأنها صرحت بالمعصية، فكان له ضربها، كالمصرة. وظاهر قول الخرقي: أنه ليس له ضربها؛ لأن المقصود بهذه العقوبات زجرها عن المعصية في المستقبل، فيبدأ بالأسهل فالأسهل، كإخراج من هجم على منزله؛ ولأنها عقوبات على جرائم، فاختلفت باختلافها، كعقوبات المحاربين.

فصل:
النوع الثاني: نشوز الرجل عن امرأته، وهو: إعراضه عنها لرغبته عنها، لمرضها، أو كبرها، أو غيرهما، فلا بأس أن تضع عنه بعض حقها تسترضيه بذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء: 128] . قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها، فيريد طلاقها، ويتزوج عليها، تقول له: أمسكني ولا تطلقني، وأنت في حل من النفقة علي والقسمة لي. رواه البخاري. «وقالت عائشة: إن سودة لما أسنت وفرقت أن يفارقها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: يا رسول الله يومي لعائشة، فقبل ذلك منها. ففي تلك وأشباهها أراه أنزل الله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128] » رواه أبو داود. ومتى صالحته على شيء من حقها، ثم أرادت الرجوع، فلها ذلك. قال أحمد في الرجل يغيب عن زوجته فيقول لها: إن رضيت على هذا وإلا، فأنت أعلم، فتقول: قد رضيت، فهو جائز. وإن شاءت، رجعت.

فصل:
وإذا ادعى كل واحد منهما ظلم صاحبه وعدوانه، أسكنهما الحاكم إلى جانب ثقة يطلع عليهما، ويلزمهما الإنصاف. فإن لم يمكن إنصاف أحدهما من صاحبه، وخيف الشقاق بينهما، بعث الحاكم حكما من أهله، وحكما من أهلها، ليفعلا ما رأيا المصلحة فيه من التفريق بعوض أو غيره، أو الإصلاح بترك بعض الحقوق أو غيره، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35] ويجوز أن يكون الحكمان أجنبيين؛ لأنهما إما وكيلان،

(3/93)


أو حكمان، وأي ذلك كان، فلا تشترط له القرابة، والأولى جعلهما من أهلهما، للآية؛ ولأنهما أعرف بالحال وأشفق. ويجب أن يكونا ذكرين، عدلين؛ لأنهما إن كانا وكيلين، فهما يحتاجان إلى الرأي في النظر والتفريق، ولا يكمل بدون هذين الوصفين. وإن كانا حكمين، فهذا شرط فيه، واختلفت الرواية فيهما. فروي: أنهما حكمان، لتسمية الله تعالى إياهما بذلك، فعلى هذا لهما فعل ما رأياه بغير رضا الزوجين؛ لأن الحاكم يحكم بما يراه من غير رضا الخصم. وروي: أنهما وكيلان لا يملكان التفريق، ولا إسقاط شيء من الحقوق إلا بتوكيلهما أو رضاهما؛ لأن الطلاق إلى الزوج، وبذل المال إلى الزوجة، فلم يجز إلا بإذنهما. ومتى كانا حكمين، اشترط كونهما فقيهين حرين؛ لأنهما من شرائط الحكم. وإن كانا وكيلين، جاز أن يكونا عاميين أو عبدين؛ لأن توكيلهما جائز. وقال القاضي: لا يجوز أن يكونا عبدين؛ لأنهما ناقصان. فإن غاب الزوجان، نفذ تصرف الحكمين في حقهما إن قلنا: هما وكيلان، كما ينفذ تصرف الوكيل في غيبة الموكل. وإن قلنا: هما حكمين، لم ينفذ؛ لأنه لا يجوز له الحكم للغائب. وكل واحد منهما محكوم له وعليه. وإن جنى، لم ينفذ تصرف الحكمين بحال؛ لأن الوكالة تبطل بجنون الموكل.

(3/94)