الكافي في فقه الإمام أحمد

 [كتاب اللعان]
. ومتى قذف الرجل زوجته المحصنة بزنى، في قبل أو دبر، فقال: زنيت، أو يا زانية، أو رأيتك تزنين، لزمه الحد، إلا أن يأتي ببينة، أو يلاعنها، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] . دلت الآية الأولى على وجوب الحد، إلا أن يسقطه بأربعة شهداء.
والثانية: على أن لعانه يقوم مقام الشهداء في إسقاط الحد، وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن هلال بن أمية قذف امرأته، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: البينة وإلا حد في ظهرك فقال هلال: والذي بعثك بالحق، إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ

(3/178)


ظهري من الحد، فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] » . رواه البخاري. ولأن الزوج يبتلي بقذف امرأته، لنفي العار والنسب الفاسد، وتتعذر عليه البينة، ولأنه قد يحتاج إلى نفي النسب الفاسد، ولا ينتفي إلا باللعان، لتعذر الشهادة على نفيه، وله الملاعنة، وإن قدر على البينة كذلك، ولأنهما حجتان، فملك إقامة أيهما شاء، كالرجلين، والرجل والمرأتين في المال.

فصل:
ولا يعرض له حتى تطالبه زوجته؛ لأن الحق لها، فلا يستوفى من غير طلبها، كالدين، فإن عفت عن الحد، أو لم تطالب، لم تجز مطالبته ببينة ولا حد ولا لعان، ولا يملك ولي المجنونة، والصغيرة وسيد الأمة، المطالبة بالتعزيز من أجلهن؛ لأنه حق ثبت للتشفي، فلا يقوم غير المستحق مقامه فيه، كالقصاص. فإن أراد الزوج اللعان من غير طلبها، وليس بينهما نسب يريد نفيه، لم يملك ذلك؛ لأنه لا حاجة إليه، وإن كان بينهما نسب يريد نفيه، فله أن يلاعن؛ لأنه محتاج إليه، فيشرع كما لو طالبته، ولأن نفيه حق له، فلا يسقط برضاها به ويحتمل ألا يشرع اللعان، كما لو صدقته.

[فصل في شروط المتلاعنين]
فصل:
ويصح اللعان بين كل زوجين مكلفين، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] ولأن اللعان لدرء عقوبة القذف، ونفي النسب الباطل، والكافر والعبد كالمسلم الحر فيه، وعنه: لا يصح اللعان إلا بين مسلمين، عدلين حرين غير محدودين في قذف؛ لأن اللعان شهادة، بدليل قول الله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور: 6] فلا يقبل ممن ليس من أهل الشهادة، وقال القاضي: من لا يحد بقذفها كالذمية والأمة، والمحدودة في الزنا، إن كان بينهما ولد يريد نفيه، فله اللعان لنفيه؛ لأنه محتاج إليه، وإلا فلا لعان بينهما لأن اللعان لإسقاط حد، أو نفي نسب، ولم يوجد واحد منهما. وإن كان أحد الزوجين صبياً، أو مجنوناً، فلا لعان بينهما؛ لأن غير المكلف لا حكم لقوله، ونفي حكم الولد، إنما يحصل بتمام اللعان، ولا يتم اللعان مع عدم القول منها. وقال القاضي: له لعان المجنونة، إن كان ثم نسب يريد نفيه؛ لأنه محتاج إليه، فإن كان أحدهما أخرس وليست له إشارة مفهومة، ولا كتابة، فهو كالمجنون. لأنه لا يعلم طلبها، ولا يتصور لعانهما. وإن كان له إشارة

(3/179)


مفهومة، أو كتابة، صح اللعان منهما؛ لأنه كالناطق في نكاحه وطلاقه، فكذلك في لعانه، وعن أحمد: إذا كانت المرأة خرساء، فلا لعان بينهما؛ لأنه لا يعلم طلبها، فيحتمل أن يحمل على عمومه في كل خرساء؛ لأن إشارتها لا تخلو من تردد واحتمال.
والحد يدرأ بالشبهة، ويحتمل أن يختص بمن لا تفهم إشارتها؛ لأنه علل بأنه لا تفهم مطالبتها. وإن اعتقل لسان الناطق، وأيس من نطقه، فهو كالأخرس، وإن رجي نطقه، لم يصح لعانه؛ لأنه غير مأيوس من نطقه، فأشبه الساكت.

فصل:
ويصح اللعان بين الزوجين قبل الدخول، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] . وبعد الطلاق الرجعي؛ لأن الرجعية زوجته، فتدخل في العموم، ولا يصح من غير الزوجين، للآية. فإن قذف من كانت زوجته، فبانت منه بزنا، لم يضفه، إلى حال الزوجية، فلا لعان بينهما؛ لأنه قذف أجنبية، وإن أضافه إلى حال الزوجية، وبينهما ولد يريد نفيه، لاعن لنفيه؛ لأنه محتاج إليه فصح منه، كحال الزوجية.
وإن لم يكن بينهما ولد، حد، ولم يلاعن؛ لأنه لا حاجة به إليه، فأشبه قذف الأجنبية. ولو قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً يا زانية، فنص أحمد: على أنه يلاعن، فنحمله على من بينهما ولد؛ لأنه يتعين إضافة قذفها إلى حال الزوجية. ولو نكح امرأة نكاحاً فاسداً ثم قذفها، فالحكم فيها كالمطلقة. إن كان بينهما ولد، لاعن لنفيه، وإلا فلا؛ لأن النسب يلحق في النكاح الفاسد، فيحتاج إلى اللعان لنفيه، وإن قذف أجنبية ثم تزوجها، حد، ولم يلاعن؛ لأنه قذف أجنبية قذفاً لا حاجة به إليه. وإن قذفها بزنا، أضافه إلى ما قبل النكاح. فإن كان يتعلق به نفي نسب عنه، فله اللعان، وإلا فلا. ونقل عن أحمد في هذا روايتان:
إحداهما: لا يلاعن؛ لأنه قذفها في حال كونها أجنبية، أشبه ما لو قذفها قبل نكاحه لها.
والثانية: يشرع اللعان؛ لأنه قذف زوجته.

[باب صفة اللعان]
. وصفته: أن يقول الرجل بمحضر من الحاكم أو نائبه: أشهد بالله إني لمن الصادقين، فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا، ويشير إليها إن كانت حاضرة، وإن

(3/180)


كانت غائبة سماها، ونسبها حتى تنتفي المشاركة، ثم يقول: وإن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميت فيه زوجتي هذه من الزنا، ثم تقول المرأة أربع مرات: أشهد بالله إن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، وتشير إليه، فإن كان غائباً سمته، ونسبته، ثم تقول: وإن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني من الزنا، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] . الآيات.
وروى أبو داود بإسناده عن ابن عباس: «أن هلال بن أمية قذف امرأته، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرسلوا إليها فأرسلوا إليها فجاءت، فتلا عليهم آية اللعان، وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فقال هلال: والله لقد صدقت عليها، فقالت: كذب فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لاعنوا بينهما فقيل لهلال: اشهد، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كانت الخامسة قيل: يا هلال اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، فشهد الخامسة، أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل لها: اشهدي، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قيل لها: اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة، ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت الخامسة، وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما وقضى أن لا بيت لها من أجل أنهما يتفرقان عن غير طلاق، ولا متوفى عنها» .

[فصل في شروط صحة اللعان]
فصل:
وشروط صحة اللعان ستة:
أحدها أن يكون بمحضر من الحاكم، أو نائبه؛ لأنه يمين في دعوى فاعتبر فيه أمر الحاكم، كسائر الدعاوى، وإن كانت المرأة برزة أرسل إليها فأحضرها، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بامرأة هلال. وإن لم تكن برزة، بعث من يلاعن بينهما، كما يبعث من يستخلفها في سائر الدعاوى.

(3/181)


الثاني: أن يأتي به بعد إلقائه عليه، فإن بادر به قبل ذلك، لم يعتد به، كما لو حلف قبل أن يستحلفه الحاكم.
الثالث: كمال لفظاته الخمس. فإن نقص منها شيئاً، لم يعتد به لأن الله علق الحكم عليها، فلا يثبت بدونها، ولأنها بينة، فلم يجز النقص من عددها، كالشهادة.
الرابع: الترتيب على ما ورد به الشرع. فإن بدأ بلعان المرأة، لم يعتد به؛ لأنه خلاف ما ورد به الشرع، ولأن لعان الرجل بينة، للإثبات، ولعان المرأة بينة للإنكار، فلم يجز تقديم الإنكار على الإثبات. فإن قدم الرجل اللعنة على شيء من الألفاظ الأربعة، أو المرأة الغضب على شيء منها، لم يعتد بها؛ لأن الله تعالى جعلها الخامسة، فلا يجوز تغييره.
الخامس: الإتيان بصورة الألفاظ الواردة في الشرع، فإن أبدل الشهادة ببعض ألفاظ اليمين، كقوله: أقسم، أو أحلف، أو أولي، أو أبدل لفظة اللعنة بالإبعاد، أو الغضب بالسخط، أو غيره، لم يعتد به؛ لأنه ترك المنصوص، ولأنه موضع ورد الشرع فيه بلفظ الشهادة، فلم يجز إبداله، كالشهادة في الحقوق. وفيه وجه آخر: أنه يجزئ؛ لأن معناهما واحد.
وقال الخرقي: يقول الرجل: أشهد بالله لقد زنت، وليس هذا لفظ النص، فيدل ذلك على أنه لم يشترط اللفظ. وإن أبدلت المرأة لفظة الغضب باللعنة، لم يجز؛ لأن الغضب أغلظ، ولذلك خصت به المرأة؛ لأن المعرة والإثم بزناها أعظم من الحاصل بالقذف. وإن أبدل الرجل اللعنة بالغضب، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، لمخالفته المنصوص.
والثاني: يجوز؛ لأنه أبلغ في المعنى.
السادس: الإشارة من كل واحد إلى صاحبه، إن كان حاضراً. أو تسميته ونسبه بما يتميز به إن كان غائباً، ليحصل التميز عن غيره. وقال الوزير يحيى بن محمد بن هبيرة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الفقهاء يشترطون أن يزاد: فيما رميتها به من الزنا، وفي نفيها عن نفسها: فيما رماني به من الزنا، ولا أراه يحتاج إليه؛ لأن الله تعالى أنزل ذلك وبينه، ولم يذكر هذا، ولم يأت بالخبر في صفة اللعان عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاشتراطه زيادة.

فصل:
ويشترط في اللعان: العربية لمن يحسنها، ولا يصح بغيرها؛ لأن الشرع ورد به بالعربية، فلم يصح بغيرها، كأذكار الصلاة. وإن لم يحسن العربية، جاز بلسانه؛ لأنه

(3/182)


يحتاج إليه، فجاز بلسانه، كالنكاح. فإن عرف الحاكم لسانه، أجزأ، وإن لم يعرف لسانه، أحضر عدلين يترجمان عنه، ولا يقبل أقل منهما؛ لأنه بمنزلة الشهادة عليه.

فصل:
فإن كان بينهما ولد يريد نفيه، لم ينتف إلا بذكره في اللعان. فإن لم يذكره، أعاد اللعان، هذا ظاهر قول الخرقي، واختاره القاضي. وقال أبو بكر: لا يحتاج إلى ذكره، وينتفي بزوال الفراش؛ لأن حديث سهل بن سعد وصف فيه اللعان، ولم يذكر فيه الولد. وقال فيه: «ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وقضى أنه لا يدعى ولدها لأب ولا ترمى، ولا يرمى ولدها» . رواه أبو داود.
والأول أصح؛ لأن ابن عمر قال: «لاعن رجل امرأته في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وانتفى من ولدها، ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وألحق الولد بالمرأة» متفق عليه والزيادة في الثقة مقبولة.
ولأن من سقط حقه باللعان اشترط ذكره فيه، كالزوجة. وتذكره المرأة في لعانها؛ لأنهما يتحالفان عليه، فاشترط ذكره في تحالفهما، كالمختلفين في الثمن، ويحتمل أن لا يشترط ذكرها له لأنها لا تنفيه.
والأول المذهب. ولا بد من ذكره في كل لفظة، فإذا قال: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، يقول: وما هذا الولد ولدي، وتقول هي: وهذا الولد ولده، في كل لفظة. وذكر القاضي: أنه يشترط أن يقول: هذا الولد من زنا وليس مني، لئلا يعني بقوله: ليس مني خلقاً وخلقاً، ولا يكفيه قوله: هو من زنا؛ لأنه قد يعتقد الوطء في النكاح الفاسد زنا، والصحيح الأول؛ لأنه نفى الولد، فينتفي عنه كما لو قال ذلك.

[فصل ما يسن في اللعان]
فصل:
ويسن في اللعان أربعة أمور:
أحدها: أن يتلاعنا قياماً؛ لأن في بعض ألفاظ حديث ابن عباس، فقام هلال، فشهد، ثم قامت فشهدت، ولأن فعله في القيام أبلغ في الردع.
الثاني: أن يكون بمحضر من جماعة؛ لأن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد، حضروه مع حداثة أسنانهم في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما يحضر الصبيان تبعاً للرجال،

(3/183)


ولأن اللعان بني على التغليظ، للردع والزجر، وفعله في الجماعة أبلغ في ذلك.
والثالث: أن يعظهما الحاكم بعد الرابعة ويخوفهما، كما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عباس.
والرابع: أن يضع رجل يده على فيّ الملاعن بعد الرابعة، يمنعه المبادرة إلى الخامسة، إلى أن يعظه الحاكم، ثم يرسلها، وتفعل امرأة بالملاعنة بعد رابعتها كذلك، لما روى ابن عباس في خبر المتلاعنين قال: «فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ثم أمر به فأمسك على فيه، فوعظه وقال: ويحك كل شيء أهون عليك من لعنة الله، ثم أرسل فقال: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم دعا بها فقرأ عليها، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، ثم أمر بها فأمسك على فيها فوعظها، وقال: ويلك كل شيء أهون عليك من غضب الله» . أخرجه الجوزجاني.

فصل:
ولا يسن التغليظ بزمن ولا مكان؛ لأنه لم يرد به أثر، ولا فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما دل الحديث على أن لعانهما كان في صدر النهار، لقوله في الحديث: فلم يهجه حتى أصبح، ثم غدا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر الحديث. والغدو إنما يكون أول النهار. وقال أبو الخطاب: يستحب التغليظ بهما، فيتلاعنان بعد العصر، لقول الله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة: 106] يعني: بعد العصر، ويكون في الأماكن الشريفة عند المنابر في الجامع، إلا في مكة بين الركن والمقام، وفي المسجد الأقصى عند الصخرة؛ لأنه أبلغ في الردع والزجر، ولله الحمد والمنة.

[باب ما يوجب اللعان من الأحكام]
. وهي أربعة أحكام:
أحدها: سقوط الحد، أو التعزير الذي أوجبه القذف؛ لأن هلال بن أمية قال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، ولأن شهادته أقيمت مقام بينة مسقطة للحد، كذلك لعانه، ويحصل هذا بمجرد لعانه كذلك. وإن نكل عن اللعان، أو عن

(3/184)


تمامه، فعليه الحد. فإن ضرب بعضه، ثم قال: أنا ألاعن، سمع ذلك منه؛ لأن ما أسقط جميع الحد، أسقط بعضه، كالبينة. ولو نكلت المرأة عن الملاعنة ثم بذلتها، سمعت منها كالرجل. وإن قذف امرأته برجل سماه، سقط حكم قذفه بلعانه، وإن لم يذكره فيه؛ لأن هلال بن أمية قذف زوجته بشريك بن سحماء، ولم يذكره في لعانه، ولم يحده النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عزره له. ولأن اللعان بينة في أحد الطرفين، فكان بينة في الآخر كالشهادة. وقال أبو الخطاب: يلاعن، لإسقاط الحد لها وللمسمى.

فصل:
الحكم الثاني: نفي الولد. وينتفي عنه بلعانه على ما ذكرناه لما ذكرنا من الحديث فيه، ولأنه أحد مقصودي اللعان، فيثبت به كإسقاط الحد.

فصل:
فإن نفى الحمل في لعانه، فقال الخرقي: لا ينتفي حتى ينفيه بعد وضعها له، ويلاعن؛ لأن الحمل غير متيقن، يحتمل أن يكون ريحاً فيصير اللعان مشروطاً بوجوده، ولا يجوز تعليقه على شرط، وظاهر كلام أبي بكر صحة نفيه، لظاهر حديث هلال بن أمية، فإن لاعنها قبل الوضع، بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أنظروها فإن جاءت به كذا وكذا» ونفى عنه الولد، ولأن الحمل تثبت أحكامه قبل الوضع من وجوب النفقة والمسكن، ونفي طلاق البدعة، ووجوب الاعتداد به، وغير ذلك، فكان كالمتيقن.

فصل:
فإن ولدت توأمين، فنفى أحدهما واستلحق الآخر لحقاه جميعاً؛ لأنه لا يمكن جعل أحدهما من رجل، والآخر من غيره، والنسب يحتاط لإثباته، لا لنفيه. وإن نفى أحدهما وترك الآخر، ألحقناهما به جميعاً كذلك.

فصل:
وإن أقر بالولد، أو هنأ به فسكت أو أمن على الدعاء، أو دعا لمن هنأه به، لزمه نسبه، ولم يملك نفيه؛ لأن هذا جواب الراضي به، وكذلك إن علم فسكت، لحقه؛ لأنه خيار لدفع ضرر متحقق، فكان على الفور، كخيار الشفعة. وهل يتقدر بالمجلس، أو يكون عقيب الإمكان؟ على وجهين: بناء على خيار الشفعة. وإن أخره

(3/185)


لعذر، كأداء صلاة حضرت، أو أكل لدفع الجوع، وأشباه هذا من أشغاله، أو للجهل بأن له نفيه، أو بوجوب نفيه على الفور، لم يبطل خياره؛ لأن العادة جارية بتقديم هذه الأمور، والجاهل معذور. وإن ادعى الجهل بذلك قبل منه؛ لأن هذا مما يخفى، إلا أن يكون فقيهاً، فلا يقبل منه؛ لأنه في مظنة العلم.
وإذا أخره لعذر مدة يسيرة، لم يحتج أن يشهد على نفسه، وإن طالت، أشهد على نفسه بنفيه، كالطلب بالشفعة. وإن قال: لم أصدق المخبر وكان الخبر مستفيضاً، أو المخبر مشهور العدالة، لم يقبل قوله.
وإن لم يكن كذلك، قبل. وإن أخر نفي الحمل، لم يسقط نفيه؛ لأنه غير مستحق، وإن استلحقه، لم يلحقه كذلك، إلا على قول أبي بكر. وإن ادعى أنه لم يعلم بالولادة، وأمكن صدقه، فالقول قوله، وإلا فلا. وإن أخر نفيه رجاء موته، ليكفى أمر اللعان، سقط حقه من النفي.

فصل:
الحكم الثالث: الفرقة، وفيها روايتان:
إحداهما: لا تحصل حتى يفرق الحاكم بينهما، لقول ابن عباس في حديثه: ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما. وفي حديث عويمر: «أنه قذف زوجته، فتلاعنا عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه. فدل على أن الفرقة لم تحصل بمجرد اللعان. فعلى هذا، إن طلقها قبل التفريق، لحقها طلاقه، وللحاكم أن يفرق بينهما من غير طلب ذلك منه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق بينهما من غير استئذانهما، وعليه أن يفرق بينهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق بينهما.
والثانية: تحصل الفرقة بمجرد لعانهما؛ لأنه معنى يقتضي التحريم المؤبد، فلم يقف على تفريق الحاكم، كالرضاع. ولأن الفرقة لو وقفت على تفريق الحاكم، لساغ ترك التفريق إذا لم يرضيا به، كالتفريق للعيب، والإعسار، وتفريق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما بمعنى: أنه أعلمهما بحصول الفرقة باللعان. وعلى كلتا الروايتين، ففرقة اللعان فسخ؛ لأنها فرقة توجب تحريما مؤبداً، فكانت فسخاً، كفرقة الرضاع.

فصل:
الحكم الرابع: التحريم المؤبد يثبت، لما روى سهل بن سعد قال: «مضت السنة

(3/186)


في المتلاعنين، أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً» . رواه الجوزجاني. ولأنه تحريم لا يرتفع قبل الجلد والتكذيب، فلم يرتفع بهما، كتحريم الرضاع. وقد روى عنه حنبل: أنه إذا أكذب نفسه عاد فراشه كما كان وهذه الرواية شذ بها عن سائر أصحابه.
قال أبو بكر: والعمل على الأول. وإن لاعنها في نكاح فاسد، أو بعد البينونة لنفي نسب، ثبت التحريم المؤبد؛ لأنه لعان صحيح، فأثبت التحريم، كاللعان في النكاح الصحيح. ويحتمل أنه لا يثبت التحريم؛ لأنه لم يرفع فراشاً، فلم يثبت تحريماً، كغير اللعان.
ولو لاعنها في نكاح صحيح وهي أمة، ثم اشتراها، لم تحل له؛ لأنه وجد ما يحرمها على التأبيد، فلم يرتفع بالشراء، كالرضاع.

فصل:
ولا تثبت هذه الأحكام إلا بكمال اللعان، إلا سقوط الحد وما قام مقامه، فإنه يسقط بمجرد لعانه. فإن مات أحدهما قبل كماله منهما، فقد مات على الزوجية؛ لأن الفرقة لم تحصل بكمال اللعان، ويرثه صاحبه كذلك، ويثبت النسب؛ لأنه لم يوجد ما يسقطه.
فإن كان الميت الزوج، فلا شيء على المرأة. وإن ماتت المرأة قبل لعان الزوج، وطلبها بالحد، فلا لعان؛ لأن الحد لا يورث. وإن ماتت بعد طلبها، قام وارثها مقامها في المطالبة، وله اللعان لإسقاط الحد.

فصل:
وإن أكذب نفسه بعد كمال اللعان، لزمه الحد إن كانت محصنة، والتعزير إن كانت غير محصنة، ويلحقه النسب؛ لأنهما حق عليه، فيلزمانه بإقراره بهما، ولا يعود الفراش، ولا يرتفع التحريم المؤبد؛ لأنهما حق له، فلا يعودان بتكذيبه.

فصل:
فإن لاعن الزوج ونكلت المرأة عن اللعان، فلا حد عليها؛ لأن زناها لم يثبت، فإنه لو ثبت زناها بلعان الزوج، لم يسمع لعانها، كما لو قامت به البينة، ولا يثبت بنكولها؛ لأن الحد لا يقضى فيه بالنكول؛ لأنه يدرأ بالشبهات، والشبهة متمكنة منه، ولكن تحبس حتى تلتعن، أو تقر.
قال أحمد: أجبرها على اللعان، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] فإن لم تشهد، وجب أن لا يدرأ عنها العذاب وعنه: يخلى سبيلها، وهو اختيار أبي بكر؛ لأنه لم يثبت عليها ما يوجب الحد، فيخلى سبيلها، كما لو لم تكمل البينة. وإن صدقته فيما قذفها به، لم يلزمها الحد حتى تقر أربع مرات؛ لأن الحد لا يثبت بدون إقرار أربع، على ما

(3/187)


سنذكره، وحكمها حكم ما لو نكلت، ولا لعان بينهما؛ لأن اللعان إنما يكون مع إنكارها، ولا يستحلف إنسان على نفي ما يقر به.

[باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق]
. إذا تزوج من يولد لمثله بامرأة، فأتت بولد لستة أشهر فصاعداً بعد إمكان اجتماعهما على الوطء، لحقه نسبه في الظاهر من المذهب، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولد للفراش» ولأن مع هذه الشروط، يمكن كونه منه، والنسب مما يحتاط له، ولم يوجد ما يعارضه، فوجب إلحاقه به. وإن اختل شرط مما ذكرنا، لم يلحق به، وانتفى من غير لعان؛ لأن اللعان يمين، واليمين جعلت لتحقيق أحد الجائزين، أو نفي أحد المحتملين. وما لا يجوز، لا يحتاج إلى نفيه.

فصل:
وأقل سن يولد لمثله في حق الرجل عشر سنين، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» رواه أبو داود.
وقال القاضي: تسع سنين وأقل مدة الحمل؛ لأن الجارية يولد لها كذلك، فكذلك الغلام. وقال أبو بكر: لا يلحق به الولد حتى يبلغ. قال ابن عقيل: هو أصح؛ لأن من لا ينزل الماء لا يكون منه ولد. وهذا ليس بسديد؛ لأنهم إن أرادوا بالبلوغ بلوغ خمس عشرة، فهو باطل؛ لأنه يولد له لدون ذلك.
وقد روي أنه لم يكن بين عمرو بن العاص وبين ابنه عبد الله إلا اثنتا عشرة سنة. وإن أرادوا الإنزال فيما يعلم، فلابد من ضبطه بأمر ظاهر. وإذا ولدت امرأة غلام، سنه دون ذلك، لم يلحق به، ومن كان مجبوباً مقطوع الذكر والأنثيين، لم يلحق به نسب؛ لأنه لا ينزل مع قطعهما.
وإن قطع أحدهما، فقال أصحابنا: يلحق به النسب؛ لأنه إذا بقي الذكر أولج فأنزل. وإن بقيت الأنثيان، ساحق فأنزل. والصحيح أن مقطوع الأنثيين لا يحلق به نسب؛ لأنه لا ينزل إلا ماء رقيقاً لا يخلق منه ولد، ولا تنقضي به شهوة، فأشبه مقطوع الذكر والأنثيين.
وإن لم يمكن اجتماع الزوجين على الوطء، بأن يطلقهما عقيب تزويجه بها، أو كان بينهما مسافة لا

(3/188)


يمكن اجتماعها على الوطء معها، لم يلحق به الولد. وإن ولدت زوجته لدون ستة أشهر من حين تزوجها لم يلحقه ولدها؛ لأننا علمنا أنها علقت به قبل النكاح.

فصل:
وأقل مدة الحمل ستة أشهر، لما روي أن عثمان أتى بامرأة ولدت لدون ستة أشهر، فشاور القوم في رجمها، فقال ابن عباس: أنزل الله تعالى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وأنزل: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] . فالفصال في عامين، والحمل في ستة أشهر.
وذكر ابن القتبي أن عبد الملك بن مروان: ولد لستة أشهر. وأكثرها أربع سنين. وعنه سنتان، لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: لا تزيد المرأة على سنتين في الحمل. والأول المذهب، لما روى الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: حديث عائشة: لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل.
قال مالك: سبحان الله من يقول هذا؟ هذه جارتنا أمرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين. وقال أحمد نساء بني عجلان يحملن أربع سنين، وامرأة عجلان حملت ثلاثة بطون، كل دفعة أربع سنين.
وغالب الحمل تسعة أشهر؛ لأنه كذلك يقع غالباً. وإذا أتت المرأة بولد بعد فراقها لزوجها، بموت أو طلاق بائن بأربع سنين، لم يلحق به، وانتفى عنه بغير لعان؛ لأنها علقت به بعد زوال الفراش.
وإن كان الطلاق رجعياً، فوضعته لأربع سنين منذ انقضت عدتها، فكذلك لذلك. وإن كان لأكثر من أربع سنين من حين الطلاق، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يلحق به؛ لأنها علقت به بعد طلاقه، أشبهت البائن.
والثانية: يلحقه؛ لأنها في حكم الزوجات، فأشبهت ما قبل الطلاق. وإن وضعته لأقل من أربع سنين، قبل الحكم بانقضاء عدتها، لحق به؛ لأنه أمكن إلحاقه به، والنسب مما يحتاط لإثباته.
وإن بانت زوجته منه فوضعت ولداً، ثم وضعت آخر بينهما أقل من ستة أشهر، لحق به؛ لأنهما حمل واحد. وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً، لم يلحق به؛ لأنه حمل ثان، إذ لا يمكن أن يكونا حملاً بينهما مدة الحمل، فيعلم أنها علقت به بعد زوال الزوجية.
وإن اعتدت بالأقراء، ثم أتت بولد لدون ستة أشهر، لحق به، لعلمنا أنها حملته في الزوجية، والدم دم فساد رأته في حملها. وإن كان لأكثر من ستة أشهر فصاعداً، لم يلحق به؛ لأننا حكمنا بانقضاء عدتها، فلا تنقضها بالاحتمال. هذا قول أصحابنا.

(3/189)


فصل:
وإذا تزوجت المرأة بعد انقضاء عدتها، ثم ولدت بعد ستة أشهر منذ تزوجها الثاني، فهو ولده في الحكم لا ينتفي عنه إلا باللعان. وإن ولدت لدون ستة أشهر منذ تزوجها الثاني، لم يلحق به، ولا بالأول، وانتفى عنهما بغير لعان. وإن تزوجت في عدتها، وولدت لدون ستة أشهر من نكاح الثاني، فهو ولد الأول؛ لأنه أمكن أن يكون منه، ولم يمكن إلحاقه بالثاني.
وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً، فهذا يحتمل أن يكون منهما، فيرى القافة معهما، فيلحق بمن ألحقوه به منهما. فإن ألحقته بالأول، انتفى عن الثاني بغير لعان؛ لأن نكاحه فاسد. إن ألحقته بالثاني، لحق، وهل له نفيه باللعان؟ على روايتين:
إحداهما: له ذلك، والأخرى لا ينتفي عنه بحال. وإن لم توجد قافة، أو أشكل أمره، ففيه روايتان:
إحداهما: يُترك حتى يبلغ، فينتسب إلى من شاء منهما، والأخرى يضيع نسبه.

فصل:
إذا أتت زوجته بولد يمكن أن يكون منه، فقالت: هذا ولدي منك، فقال: ليس هذا ولدي منك، بل استعرتيه، أو التقطتيه، ففيه وجهان:
أحدهما: القول قولها؛ لأنه خارج تنقضي به العدة، فالقول قولها فيه، كالحيض.
والثاني: القول قوله، ولا يقبل قولها إلا ببينة؛ لأن الولادة يمكن إقامة البينة عليها، والأصل عدمها، فكانت البينة على مدعيها، ويكفي في ذلك امرأة عدلة.
وإذا ثبتت ولادتها، لحق نسبه به؛ لأنه ولد على فراشه. وإن كان خلافهما في انقضاء العدة، فالقول قولها في انقضائها بغير بينة؛ لأن المرجع إليها فيها، وإن قال: هو من زوج قبلي ولم يكن لها قبله زوج، أو كان ولم يمكن إلحاقه به، لحقه، ولم يلتفت إلى قوله.
وإن قال: هو من وطء شبهة، أو قال: لم تزن، ولكن ليس هذا الولد مني، فقال الخرقي: هو ولده في الحكم، ولا حد عليه لها؛ لأنه لم يقذفها، ولا لعان بينهما؛ لأن من شرطه القذف ولم يقذفها. وقال أبو الخطاب: هل له أن يلاعن بنفي الولد؟ على روايتين:
إحداهما: لا يلاعن كذلك.
والثانية: له أن يلاعن؛ لأنه يحتاج إلى نفي النسب الفاسد فشرع، كما لو قذفها.

فصل:
ومن ولدت زوجته بعد وطئه لها بستة أشهر من غير مشاركة غيره له في وطئها،

(3/190)


لحقه نسب ولدها، ولم يحل له نفيه، لما روى أبو هريرة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حين نزلت آية الملاعنة: «أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليها، احتجب الله عنه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين» . أخرجه أبو داود، وإن علم أنه من غيره، مثل أن يراها تزني في طهر لم يصبها فيه، فاجتنبها حتى ولدت، لزمه قذفها ونفي ولدها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الحديث: «وأيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته» .
فلما حرم عليها أن تُدخل عليهم نسباً ليس منهم، دل على أن الرجل مثله؛ ولأنه إذا لم ينفه، زاحم ولده في حقوقهم، ونظر إلى حرمه، بحكم أنه محرم لهن. وإن لم يرها تزني، لكن علم أن الولد من غيره، لكونه لم يصبها لزمه نفي ولدها كذلك.
وليس له قذفها، لاحتمال أن تكون مكرهة، أو موطوءة بشبهة وإن كان يطؤها ويعزل، لم يكن له نفي ولدها، لما روى أبو سعيد الخدري قال: «قالوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنا نصيب النساء ونحب الأثمان فنعزل عنهن، فقال: إن الله إذا قضى خَلْق نسمة خلقها» ولأنه قد يسبق من الماء ما لا يحس به فتعلق منه.
وإن كان يجامعها دون الفرج، أو في الدبر، فقال أصحابنا: ليس له نفيه؛ لأنه قد يسبق من الماء إلى الفرج ما لا تحس به.

فصل:
وإن ولدت امرأته غلاماً أسود وهما أبيضان، أو أبيض وهما أسودان، لم يجز له نفيه. ذكره ابن حامد لما روى أبو هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن امرأتي جاءت بولد أسود، يعرض بنفيه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك من إبل، قال: نعم قال: فما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقاً قال: فأنى أتاها ذلك؟! قال: عسى أن يكون نزعة عرق. قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق» .
قال: ولم يرخص له في الانتفاء منه. متفق عليه. ولأن دلالة ولادته على فراشه قوية، ودلالة الشبهة ضعيفة، فلا يجوز معارضة القوي بالضعيف. ولذلك «لما اختلف عبد بن زمعة، وسعد بن أبي وقاص في غلام. فقال سعد: هذا يا رسول الله ابن

(3/191)


أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد الله بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته. ورأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه شبهاً بيناً لعتبة. فقال: الولد للفراش وللعاهر الحجر» متفق عليه، فاعتبر الفراش دون الشبه.
وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد، أن له نفيه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في امرأة هلال: «انظروها فإن جاءت به أبيض سبطاً، مضيء العينين، فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو لشريك» رواه أحمد ومسلم.
فجاءت به على النعت المكروه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن» ، أخرجه أبو داود. فجعل الشبه دليلاً على نفيه عن الزوج.

فصل:
وإن رآها تزني ولم يكن له نسب يلحقه، فله قذفها؛ لأن هلالاً وعويمراً قذفا زوجتيهما قبل أن يكون ثَمَّ نسب ينفى. وله أن يسكت؛ لأنه لا نسب فيه ينفيه، وفراقها ممكن بالطلاق، فيستغني عن اللعان. وإن أقرت عنده بالزنا، فوقع في نفسه صِدْقها، أو أخبره بذلك ثقة، أو استفاض في الناس أن رجلاً يزني بها، ثم رأى الرجل يخرج من عندها في أوقات الريب، فله قذفها؛ لأن الظاهر زناها.
وإن لم ير شيئاً، ولا استفاض سوى أنه رأى رجلاً يخرج من عندها من غير استفاضة، لم يكن له قذفها؛ لأنه يجوز أن يكون دخل هارباً، أو سارقاً، أو ليراودها عن نفسها فمنعته، فلم يجز قذفها بالشك. وإن استفاض ذلك ولم يره يدخل إليها، ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز قذفها؛ لأن الاستفاضة أقوى من خبر الثقة.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه يحتمل أن عدواً أشاع ذلك عنها.

فصل:
ومن ملك أمة، لم تصر فراشاً بنفس الملك؛ لأنه قد يقصد بملكها التمول، أو التجمل، أو التجارة، أو الخدمة، فلم يتعين لإرادة الوطء، فإن أتت بولد ولم يعترف

(3/192)


به، لم يلحقه نسبه؛ لأنه لم يولد على فراشه، فإذا وطئها، صارت فراشًا له، فإذا أتت بولد لمدة الحمل من حين يوم الوطء، لحقه؛ «لأن سعدًا نازع عبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة، فقال عبد بن زمعة: هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر» . متفق عليه. فإن ادعى أنه كان يعزل عنها، لم ينتف عنه الولد بذلك: لما ذكرنا في الزوجة. وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ما بال قوم يطؤون ولائدهم ثم يعزلونهن، لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها إلا ألحقت به ولدها، فاعزلوا بعد ذلك، أو اتركوا، وإن اعترف بوطئها دون الفرج فقال أصحابنا: يلحقه نسب ولدها؛ لأن الماء قد يسبق إلى الفرج من حيث لا يعلم. وإن انتفى من ولدها بعد اعترافه بوطئها، لم يلاعن؛ لأن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين، ولا ينتفي عنه، إلا أن يدعي أنه استبرأها بعد وطئه لها، فإن ادعى ذلك، فالقول قوله، وينتفي ولدها عنه، ويقوم ذلك مقام اللعان في نفي الولد.

(3/193)