الكافي في فقه الإمام أحمد

 [كتاب العدد]
إذا فارق الرجل زوجته في حياته قبل المسيس والخلوة، فلا عدة عليها بالإجماع، لقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] . ولأن العدة تجب لاستبراء الرحم، وقد علم ذلك بانتفاء سبب الشغل. فإن فارقها بعد الدخول، فعليها العدة بالإجماع، لقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . ولأنه مظنة لاشتغال الرحم بالحمل، فتجب العدة لاستبرائه. وإن طلقها بعد الخلوة، وجبت العدة، لما روى الإمام أحمد بإسناده عن زرارة بن أبي أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون أن من أرخى سترًا، أو من أغلق بابًا، فقد وجب المهر، ووجبت العدة؛ ولأن التمكين من استيفاء المنفعة، جعل كاستيفائها، ولهذا استقرت الأجرة في الإجارة، فجعل كالاستيفاء في العدة.

فصل:
والمعتدات ثلاثة أقسام: معتدة بالحمل فتنقضي عدتها بوضعه، سواء كانت حرة أو

(3/194)


أمة، مفارقة في حياة، أو بوفاة؛ لقول الله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] .
«وروت سبيعة الأسلمية: أنها كانت تحت سعد بن خولة، وتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها، فلما انقلبت من نفاسها، تجملت للخطاب، فدخل عليها ابن السنابل بن بعكك، فقال: لعلك ترجين النكاح، إنك والله ما أنت ناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت: فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني حللت حين وضعت حملي، فأمرني بالتزوج إن بدا لي» . متفق عليه. ولأن براءة الرحم لا تحصل في الحامل إلا بوضعه، فكانت عدتها به، ولا تنقضي إلا بوضع جميع الحمل وانفصاله. فإن كان حملها أكثر من واحد، فحتى تضع آخر حملها وينفصل؛ لأن الشغل لا يزول إلا بذلك. وإن وضعت ما يتبين فيه خلق الإنسان، انقضت به عدتها؛ لأنه ولد. وإن لم يتبين فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية، فكذلك؛ لأنه تبين لهن. وإن شهدن أنه مبتدأ خلق آدمي، فالمنصوص أن العدة لا تنقضي به؛ لأنه لم يصر ولدًا، فأشبه العلقة. وعنه: أن الأمة تصير به أم ولد، فيجب أن تنقضي به العدة؛ لأنه حمل، فيدخل في عموم الآية. وأقل مدة تنقضي فيها العدة بالحمل، أن تضعه بعد ثمانين يومًا، من حين إمكان الوطء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يومًا ثم يكون مضغة أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك» ولا تنقضي العدة بما دون المضغة، ولا يكون مضغة في أقل من ثمانين.

فصل:
القسم الثاني: معتدة بالقروء: وهي: كل مطلقة أو مفارقة في الحياة وهي حائل ممن تحيض. وهي: نوعان. حرة: فعدتها ثلاثة قروء؛ لقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وأمة: فعدتها قرآن، لما روى ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه

(3/195)


قال: «طلاق الأمة طلقتان، وقرؤها حيضتان» رواه أبو داود. وعن عمر وعلي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم قالوا: عدة الأمة حيضتان، وفي القروء روايتان:
إحداهما: الحيض، لهذا الخبر، وقول الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تدع الصلاة أيام أقرائها» رواه أبو داود. وقال لفاطمة بنت أبي حبيش: «فإذا أتى قرؤك فلا تصلي. وإذا مر قرؤك فتطهري، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء» رواه النسائي؛ ولأنه معنى يستبرأ به الرحم، فكان بالحيض كاستبراء الأمة؛ ولأن الله تعالى جعل العدة ثلاثة قروء، فالظاهر أنها تكون كاملة؛ ولا تكون العدة ثلاثة قروء كاملة إلا إذا كانت الحيض. ومن جعل القروء الأطهار، لم يوجب ثلاثة كاملة؛ لأنه يعد الطهر الذي طلقها فيه قرءًا.
والثانية: القروء: الأطهار؛ لقول الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي في عدتهن، وإنما يطلق في الطهر. فإذا قلنا: هي حيض، لم يحتسب بالحيضة التي طلقها فيها، ولزمها ثلاث حيض مستقبلة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فيتناول الكاملة. وإن قلنا هي الأطهار، احتسب بالطهر الذي طلقها فيه قرءًا، ولو بقي منه لحظة؛ لقوله سبحانه: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي: في عدتهن، وإنما يكون من عدتهن إذا احتسب به؛ ولأن الطلاق إنما جعل في الطهر دون الحيض، كيلا يضر بها، فتطول عدتها، ولو لم يحتسب بقية الطهر قرءًا، لم تقصر عدتها بالطلاق فيه. فإن لم يبق من الطهر بعد الطلاق جزء، بأن وافق آخر لفظه آخر الطهر، أو قال: أنت طالق في آخر طهرك، كان أول قرئها الطهر الذي بعد الحيض؛ لأن العدة لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق. ومتى قلنا: القرء: الحيض. فآخر عدتها انقطاع الدم في الحيضة الثالثة؛ لأن ذلك آخر القروء. وعنه: لا تنقضي عدتها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، اختاره الخرقي؛ لأنه يروى عن الأكابر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان وعبادة وأبو موسى وأبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وإن قلنا: القروء: الأطهار. فآخر العدة آخر الطهر.

(3/196)


الثالث: إذا رأت الدم بعده، انقضت عدتها، ويحتمل أن لا تنقضي بانقضائها، حتى ترى الدم يومًا وليلة؛ لأن ما دونه لا يحتمل أن يكون حيضًا، وليست اللحظة التي ترى فيها الدم من عدتها، ولا يصح ارتجاعها فيها؛ لأن حسبانها من عدتها يفضي إلى زيادتها على ثلاثة قروء، وإنما اعتبرت، ليتحقق انتفاء الطهر.

فصل:
وأقل ما تنقضي به العدة تسعة وعشرون يومًا، إن قلنا: القرء: الحيض، وأقل الطهر ثلاثة عشر يومًا؛ لأن ثلاث حيضات ثلاثة أيام، وبينها طهران ستة وعشرون يومًا. وإن قلنا: أقل الطهر خمسة عشر يومًا، فأقل العدة ثلاثة وثلاثون يومًا. وإن قلنا: الأقراء: الأطهار، والطهر: ثلاثة عشر يومًا، فأقلها: ثمانية وعشرون يومًا ولحظة. وإن قلنا: أقله خمسة عشر يومًا، فأقلها اثنان وثلاثون يومًا ولحظة. فأما الأمة فعلى الأول: أقل عدتها خمسة عشر يومًا، وعلى الثاني: سبعة عشر، وعلى الثالث: أربعة عشر يومًا ولحظة، وعلى الرابع: ستة عشر يومًا ولحظة.

فصل:
القسم الثالث: المعتدة بالشهور. وهي: ثلاثة أنواع:
إحداهن: الآيسة من المحيض، والصغيرة التي لم تحض، إذا بانت في حياة زوجها بعد دخوله بها، فإن كانت حرة، فعدتها ثلاثة أشهر، لقول الله تعالى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] .
فإن طلقها في أول الهلال، فعدتها ثلاثة أشهر بالأهلة. وإن طلقها في أثناء شهر، اعتدت شهرين بالهلال وشهرًا بالعدد، لما ذكرنا فيما مضى. وإن كانت الأمة، ففيها ثلاث روايات:
إحداهن: عدتها شهران؛ لأن كل شهر مكان قرء، وعدتها بالأقراء قرءان، فتكون عدتها بالشهور شهرين.
والثانية: عدتها شهر ونصف؛ لأن عدتها نصف الحرة، وعدة الحرة: ثلاثة أشهر، فنصفها شهر ونصف. وإنما كملنا الأقراء لتعذر تنصيفها، وتنصيف الأشهر ممكن.
والثالثة: أن عدتها ثلاثة أشهر، لعموم الآية، ولأن اعتبار الشهور لمعرفة براءة الرحم، ولا يحصل بأقل من ثلاثة.

(3/197)


فصل:
واختلف عن أحمد في حد الإياس، فعنه: أقله خمسون سنة؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لن ترى المرأة في بطنها ولدًا بعد خمسين سنة. وعنه: إن كانت من نساء العجم فخمسون، وإن كانت من نساء العرب فستون؛ لأنهن أقوى طبيعة. وذكر الزبير في كتاب ((النسب)) : أن هند بنت أبي عبيد بن عبد الله بن زمعة، ولدت موسى بن عبد الله بن حسن بن حسين بن علي بن أبي طالب، ولها ستون سنة. قال: ويقال: لن تلد بعد الخمسين إلا عربية، ولا بعد الستين إلا قرشية. ويحتمل كلام الخرقي أن يكون حده: ستون سنة في حق الكل، لقوله: وإذا رأته بعد الستين، فقد زال الإشكال، وتيقن أنه ليس بحيض.

فصل:
وإن شرعت الصغيرة في الاعتداد بالشهور فلم تنقض عدتها حتى حاضت، بطل ما مضى من عدتها، واستقبلت العدة بالقروء؛ لأنها قدرت على الأصل فيه، فبطل حكم البدل، كالمتيمم يجد الماء. وإن قلنا: القروء: الحيض، استأنفت ثلاث حيض. وإن قلنا: هي الأطهار، فهل تعتد بالطهر الذي قبل الحيض قرءًا؟ فيه وجهان:
أحدهما: تعتد به؛ لأنه طهر قبل حيض فاعتدت به، كالذي بين الحيضتين.
والثاني: لا تعتد به، كما لو اعتدت قرءين ثم يئست، لم تعتد بالطهر قبل الإياس قرءًا ثالثًا. وإن لم تحض حتى كملت عدتها بالشهور، لم يلتفت إليه؛ لأنه معنى حدث بعد انقضاء العدة فلم يلتفت إليه.

فصل:
النوع الثاني: المتوفى عنها زوجها، إذا لم تكن حاملًا، فعدتها أربعة أشهر وعشرًا، إذا كانت حرة، مدخولًا بها أو غير مدخول بها؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا» متفق عليه. وإن كانت أمة، اعتدت شهرين وخمس ليال؛ لأن

(3/198)


الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اتفقوا على أن عدة الأمة المطلقة: نصف عدة الحرة، فيجب أن تكون عدة المتوفى عنها نصف عدة الحرة، وهو ما ذكرنا. ومن نصفها حر، فعدتها بالحساب من عدة حرة وعدة أمة، وذلك ثلاثة أشهر وثمان ليال، لأن نصف عدة الحرة شهران وخمس ليال، ونصف عدة الأمة شهر وثلاثة ليال.

فصل:
النوع الثالث: ذات القروء إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه، فعدتها سنة، تسعة أشهر تتربص فيها ليعلم براءتها من الحمل؛ لأنها غالب مدته، ثم تعتد بعد ذلك ثلاثة أشهر. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا قضاء عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين المهاجرين والأنصار، لا ينكره منكر علمناه، فصار إجماعًا. فإن حاضت قبل انقضاء السنة ولو بلحظة، لزمها الانتقال إلى القروء؛ لأنها الأصل، فبطل حكم البدل، كالمتيمم إذا رأى الماء. وإن عاد الحيض بعد انقضاء السنة وتزوجها، لم تعد إلى الأقراء؛ لأننا حكمنا بانقضاء عدتها وصحة نكاحها، فلم تبطل، كما لو حاضت الصغيرة بعد اعتدادها وتزوجها. وإن حاضت بعد السنة وقبل تزوجها، ففيه وجهان:
أحدهما: لا عدة عليها كذلك.
والثاني: عليها العدة؛ لأنها من ذوات القروء، وقد قدرت على المبدل قبل تعلق حق الزوج بها، فلزمها العود، كما لو حاضت في السنة. وإن كانت أمة، تربصت تسعة أشهر للحمل؛ لأن مدته للحرة والأمة سواء، وتضم إلى ذلك عدة الأمة على ما ذكرنا من الخلاف فيها. وإن شرعت في الحيض، ثم ارتفع حيضها قبل قضاء عدتها، لم تنقض عدتها إلا بعد سنة من وقت انقطاع الحيض؛ لأنها لا تنبني إحدى العدتين على الأخرى، ولو عرفت ما رفع الحيض من المرض أو الرضاع ونحوه، لم تزل في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به؛ لأنها من ذوات القروء، والعارض الذي منع الدم يزول، فانتظر زواله، إلا أن تصير آيسة، فتعتد ثلاثة أشهر من وقت أن تصير في عداد الآيسات.

فصل:
إذا أتى على الجارية سن تحيض فيه النساء غالبًا، كخمسة عشر، فلم تحض، فعدتها ثلاثة أشهر في إحدى الروايتين، لظاهر قول الله تعالى: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] . والأخرى عدتها سنة؛ لأنه أتى عليها زمن الحيض، فلم تحض، فأشبهت

(3/199)


من ارتفع حيضها، ولم تدر ما رفعه. ولو ولدت ولم تر دمًا قبل الولادة، ولا بعدها، ففيه الوجهان، بناء على ما تقدم. فأما المستحاضة، فإن كان لها حيض محكوم به بعادة أو تمييز، فمتى مرت لها ثلاثة قروء، انقضت عدتها؛ لأنه حيض محكوم به، أشبه غير المستحاضة. وإن كانت ممن لا عادة لها ولا تمييز، إما مبتدأة، وإما ناسية متحيرة، ففيها روايتان:
إحداهما: عدتها ثلاثة أشهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر حمنة ابنة جحش: أن تجلس من كل شهر ستة أيام أو سبعة، فجعل لها حيضة في كل شهر؛ لأننا نحكم لها بحيضة في كل شهر تترك فيها الصلاة والصوم، فيجب أن تنقضي العدة به.
والثانية: تعتد سنة؛ لأنها لم تتيقن بها حيضًا مع أنها من ذوات الأقراء، فأشبهت التي ارتفع حيضها، والأول أولى.

فصل:
فإذا عتقت الأمة بعد قضاء عدتها، لم يلزمها زيادة عليها؛ لأن عدتها انقضت، فأشبهت الصغيرة إذا حاضت بعد انقضاء عدتها بالأشهر، وإن عتقت في عدتها وكانت رجعية، أتمت عدتها عدة حرة؛ لأن الرجعية زوجة وقد عتقت في الزوجية، فلزمتها عدة حرة، كما لو عتقت قبل الشروع فيها. وإن كانت بائنًا، أتمت عدة الأمة؛ لأنها عتقت بعد البينونة، أشبهت المعتقة بعد عدتها.

فصل:
وإن مات زوج المعتدة الرجعية، فعليها عدة الوفاة تستأنفها من حين الموت، وتنقطع عدة الطلاق؛ لأنها زوجة متوفى عنها، فتدخل في عموم قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . وإن كانت بائنًا غير وارثة لكونها مطلقة في صحته، بنت على عدة الطلاق؛ لأنها أجنبية من نكاحه وميراثه، فلم يلزمها، الاعتداد من وفاته، كما لو انقضت عدتها قبل موته، وعلى قياس هذا: المطلقة في المرض التي لا ترث، كالذمية والأمة والمختلعة، وزوجة العبد؛ لأنها غير وارثة. وإن كانت وارثة كالحرة المسلمة، يطلقها زوجها الحر في مرض موته، فعليها أطول الأجلين من ثلاثة قروء، أو أربعة أشهر وعشر؛ لأنها مطلقة بائن، فتدخل

(3/200)


في الآية. ومعتدة ترث بالزوجية، فلزمتها عدة الوفاة كالرجعية. فإن كان طلاقه قبل الدخول، أو موته بعد قضاء عدتها، فلا عدة عليها، وعنه: عليهما العدة من الوفاة؛ لأنهما يرثانه بالزوجية. والأول أصح، لقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ، ولأن الأجنبية تحل للأزواج، فلم تلزمها العدة منه، كما لو تزوجت غيره.

فصل:
وإذا وطئت المرأة بشبهة، أو زنا، لزمتها العدة؛ لأن العدة تجب، لاستبراء الرحم، وحفظًا عن اختلاط المياه واشتباه الأنساب، ولو لم تجب العدة، لاختلط ماء الواطئ بماء الزوج، ولم يعلم لمن الولد منهما، فيحصل الاشتباه، وعدتها كعدة المطلقة؛ لأنه استبراء لحرة، أشبه عدة المطلقة. وعنه: أن الزانية تستبرأ بحيضة؛ لأن النسب لا يلحق الزاني، وإنما المقصود معرفة براءة رحمها، فكان بحيضة كاستبراء أم الولد إذا مات سيدها.

فصل:
وإذا طلق أحد نسائه ثلاثًا وأنسيها، ثم مات قبل أن يبين المطلقة، فعلى الجميع الاعتداد بأطول الأجلين من عدة الطلاق والوفاة، ليسقط الفرض بيقين، كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها؛ لأن كل واحدة منهن يحتمل أن تكون المطلقة، فيلزمها ثلاثة قروء، ويحتمل أن تكون غيرها، فتلزمها عدة الوفاة، فلا يحصل حلها يقينًا إلا بهما، والمنصوص أنه يقرع بينهن، فتعتد واحدة منهن عدة الطلاق، وسائرهن عدة الوفاة، فأما إن طلق واحدة لا بعينها، فإنه يقرع بينهن، فتخرج بالقرعة المطلقة منهن، فتعتد عدة الطلاق، ويعتد سائرهن عدة الوفاة؛ لأن الطلاق لم يقع في واحدة بعينها، وإنما عينته القرعة، بخلاف التي قبلها.

فصل:
إذا ارتابت المعتدة لرؤيتها أمارات الحمل من حركة أو نحوها، لم تزل في عدة حتى تزول الريبة، فإن تزوجت قبل زوالها، لم يصح نكاحها؛ لأنها تزوجت قبل العلم بقضاء عدتها. وإن حدثت الريبة بعد انقضاء عدتها ونكاحها، فالنكاح صحيح؛ لأننا حكمنا بصحة ذلك بدليله، فلا يزول عنه بالشك، لكن لا يحل وطؤها حتى تزول الريبة؛ لأنا شككنا في حل الوطء. وإن حدثت بعد العدة وقبل النكاح، ففيه وجهان:

(3/201)


أحدهما: لا يحل لها أن تنكح؛ لأنها شاكة في انقضاء عدتها.
والثاني: يحل لها؛ لأننا حكمنا بانقضاء عدتها فلا يتغير الحكم بالشك.

فصل:
إذا فقدت المرأة زوجها، وانقطع خبره عنها، لم يخل من حالين:
أحدهما: أن يكون ظاهر غيبته السلامة، كالتاجر وطالب العلم من غير مهلكة، فلا تزول الزوجية ما لم يتيقن موته؛ لأنها كانت ثابتة بيقين، فلا تزول بالشك. وعنه: إذا مضى له تسعون سنة، قسم ماله. وإذا أباح قسمة ماله، أباح لزوجته أن تتزوج. قال أصحابنا: يعني تسعين سنة من حين ولد؛ لأن الظاهر أنه لا يعيش أكثر من ذلك. فإذا اقترن به انقطاع خبره، حكم بموته. والأول أصح؛ لأن هذا تقدير لا يصار إليه بغير توقيف.
الثاني: أن يكون ظاهرها الهلاك، كالذي يفقد من بين أهله، أو في مفازة هلك فيها بعض رفقته، أو بين الصفين، أو ينكسر مركبًا فيهلك بعض رفقته، وأشباه ذلك، فمذهب أحمد أنها تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل، ثم تعتد للوفاة، ثم تتزوج. قال بعض أصحابنا: لا يختلف قول أحمد في هذا. وقال أحمد: من ترك هذا القول، أي شيء يقول؟ هو عن خمسة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال القاضي: عندي أن فيها رواية أخرى:
أن حكمه حكم من ظاهر غيبته السلامة، والمذهب الأول. قال أحمد: يروى عن عمر من، ثمانية وجوه، ومن أحسنها ما روى عبيد بن عمير قال: فقد رجل في عهد عمر، فجاءت امرأته إلى عمر، فذكرت ذلك له، فقال: انطلقي فتربصي أربع سنين، ففعلت، ثم أتته، فقال: انطلقي فاعتدي أربعة أشهر وعشرًا، ففعلت ثم أتته، فقال: أين ولي هذا الرجل؟ فجاء وليه، فقال له: طلقها، ففعل. فقال عمر: انطلقي فتزوجي من شئت، ثم جاء زوجها الأول، فقال عمر: أين كنت؟ قال: استهوتني الشياطين، فخيره عمر: إن شاء امرأته، وإن شاء الصداق، فاختار الصداق. وقضى بذلك عثمان وعلي وابن الزبير، وهو قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وهذه قضايا انتشرت فلم تنكر، فكانت إجماعًا. وهل يعتبر ابتداء المدة من حين ضربها الحاكم، أو

(3/202)


من حين ينقطع خبره؟ على وجهين:
أحدهما: من حين ضربها الحاكم؛ لأنها مدة ثبتت بالاجتهاد فافتقرت إلى حكم الحاكم، كمدة العنة.
والثاني: من حين انقطع خبره؛ لأن ذلك ظاهر في موته، فأشبه ما لو قامت به بينة. وهل يفتقر بعد انقضاء العدة إلى أن يطلقها وليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يعتبر؛ لأن ذلك يروى عن عمر وعلي.
والثاني: لا يفتقر؛ لأن الحكم بتقدير المدة حكم بالموت بعد انقضائها، ولهذا اعتدت عدة الوفاة، وقول عمر فقد خالفه قول ابن عباس وابن عمر.

فصل:
فإن قدم المفقود قبل تزوجها، فهي زوجته؛ لأننا تبينا حياته، فأشبه ما لو شهد بموته شاهدان، وتبين أنه حي. وإن قدم بعد تزوجها، وقبل دخوله بها، فكذلك لما ذكرناه وقيل عنه: إن حكمها حكم المدخول بها، والصحيح الأول. وإن قدم بعد دخول الثاني بها، خير بينها وبين صداقها، لإجماع الصحابة عليه. فإن اختارها، فهي زوجته بالعقد الأول، ولم يحتج الثاني إلى طلاق؛ لأننا بينا بطلان عقده. وإن اختار صداقها، فله ذلك، ويأخذ من الثاني صداقها الذي ساق إليها الأول. اختاره أبو بكر؛ لأن عليًا وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: يخير بينها وبين صداقها الذي ساق. ولأن الثاني أتلف المعوض، فرجع عليه بالعوض، كشهود الطلاق إذا رجعوا عنه. وعنه: يرجع بالصداق الآخر؛ لأنه بذل عوضًا عما هو مستحق للأول، فكان أولى به. وهل يرجع الثاني على المرأة ما غرمه للأول؟ على روايتين. وتكون زوجة الثاني من غير تجديد عقد؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم ينقل عنهم أمر بتجديد العقد، والقياس أن يلزمه تجديد العقد؛ لأننا تبينا بطلان ما مضى من عقده بحياة صاحبه، ولذلك ملك أخذها منه، فعلى هذا الوجه، الأول يؤمر بطلاقها، ثم يعقد عليها الثاني عقدًا. وإن رجع الأول بعد موت الثاني، ورثت، واعتدت، ورجعت إلى الأول، قضى بذلك عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. رواه الجوزجاني في ((المترجم)) . وقال أبو الخطاب: قياس المذهب أنا إن حكمنا بوقوع الفرقة ظاهرًا وباطنًا، فهي زوجة الثاني، ولا خيار للأول، ولا ينفذ طلاقه لها، ولا يتوارثان إذا مات أحدهما. فإن لم يحكم بوقوعها باطنًا، فهي زوجة الأول بكل حال، ووطء الثاني لها وطء بشبهة.

فصل:
فإن اختارت امرأة المفقود الصبر حتى يتبين أمره، فلها النفقة والمسكن أبدًا، سواء

(3/203)


ضرب لها الحاكم مدة تتربص فيها، أو لم يضربها؛ لأننا لم نحكم ببينونتها بضرب المدة، فهي باقية على حكم الزوجية. وإن حكم لها بالفرقة، انقطعت نفقتها، لمفارقتها إياه حكمًا.

فصل:
إذا طلقها زوجها أو مات عنها وهو غائب، فعدتها من يوم مات، أو طلق، وإن لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة في أصح الروايتين. والأخرى إن ثبت ذلك بالبينة، فكذلك، وإن بلغها خبره، فعدتها من حين بلغها الخبر.

[باب اجتماع العدتين]
إذا تزوجت المرأة في عدتها رجلًا آخر، لم تنقطع عدتها بالعقد؛ لأنه عقد فاسد، لا يصير به فراشًا، فإن وطئها، انقطعت عدة الأول؛ لأنها صارت فراشًا للثاني، فلا تبقى في عدة غيره. فإن فرق بينهما، لزمها إتمام عدة الأول، وعدة الثاني، وتقدم عدة الأول، لسبقها، ولما روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أيما امرأة نكحت في عدتها، لم يدخل بها الذي تزوجها، فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، وكان خاطبًا من الخطاب، وإن كان قد دخل بها، فرق الحاكم بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، ثم اعتدت من الآخر، ولم ينكحها أبدًا. رواه الشافعي في ((مسنده)) . فإن كانت حاملًا من الأول، انقضت عدتها بوضع الحمل، ثم اعتدت للثاني ثلاثة قروء. وإن حملت من وطء الثاني، انقضت عدتها منه بوضع الحمل، ثم أتمت عدة الأول بالقروء. وتتقدم عدة الثاني هاهنا على عدة الأول؛ لأنه لا يجوز أن تضع حملها منه، ولا تنقضي عدتها منه. وإن أتت بولد يمكن أو يكون منهما، أري القافة، وألحق بمن ألحقوه به منهما، وانقضت عدتها منه به، واعتدت للآخر. وإن ألحقوه بهما، انقضت به عدتها منهما، وإن لم يوجد قافة، أو أشكل عليهم، فعليها الاعتداد بعد وضع حملها بثلاثة قروء؛ لأنه يحتمل أن يكون من الأول، فيلزمها ثلاثة قروء، لعدة الثاني، فلزمها ذلك، لتقضي العدة بيقين.

فصل:
وروي عن أحمد: أنها تحرم على الزوج الثاني على التأبيد، لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ثم لا ينكحها أبدًا. والصحيح في المذهب أنها تحل له؛ لأنه وطء بشبهة، فلم

(3/204)


يحرمها على التأبيد، كالنكاح بلا ولي. وقد روي أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا انقضت عدتها، فهو خاطب من الخطاب، يعني الزوج الثاني. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ردوا الجهالات إلى السنة، ورجع إلى قول علي. قال الخرقي: وله أن ينكحها بعد انقضاء العدتين، فعلى هذا كل معتدة من وطء في نكاح فاسد، أو وطء شبهة، لا يجوز للواطئ، ولا لغيره نكاحها حتى تنقضي عدتها؛ لأنها معتدة من وطء في غير ملك، فحرمت قبل انقضاء عدتها، كالزانية. ويحتمل أن يباح للواطئ نكاحها في كل موضع يلحقه النسب؛ لأن العدة إنما وضعت لصيانة الماء، وحفظًا للنسب عن الاشتباه. والنسب هاهنا لاحق، فلم يمنع الواطئ نكاحها، كالمعتدة من نكاحه الصحيح.

فصل:
وإن وطئت المعتدة بشبهة، أو زنا فلم تحمل، أتمت عدة الأول، ثم اعتدت للثاني؛ لأنها لم تصر فراشًا. وإن حملت من الثاني، أو أشكل الأمر، فالحكم على ما ذكرنا في التي تحمل من زوج ثان.

فصل:
وكل حمل لا يلحق بالزوج، كحمل زوجة الطفل، والخصي والمجبوب وأشباههما لا تنقضي عدتها من الزوج به؛ لأننا تبينا أنه ولد لغيره، فلم تنقض به عدة الزوج، كما لو علمنا الواطئ. وعنه: أن عدة زوجة الصغير تنقضي بوضع الحمل. وذكر أصحابنا في التي ولدت بعد أربع سنين، منذ فارقها زوجها: أن عدتها تنقضي به في وجه، والصحيح الأول، لما ذكرنا، ولأننا إن نعلم الواطئ، فالمرأة تعلمه، فلم يسقط عنها الاعتداد، لجهلنا بعينه، كما لو أقرت. فعلى هذا تنقضي عدة الأول بوطء الثاني، وتنقضي عدة الثاني بوضع الحمل. فإذا وضعته، بنت على عدة الأول على ما ذكرنا. وإن كانت حين موت زوجها حاملًا، انقضت عدتها بوضعه من الواطئ، ثم تعتد عن الزوج بأربعة أشهر وعشر.

فصل:
إذا طلق الزوج زوجته طلاقًا رجعيًا، فلم تنقض عدتها حتى طلقها ثانيًا، بنت على ما مضى من العدة؛ لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطء ولا رجعة، فأشبه الطلقتين في وقت واحد. وإن طلق العبد زوجته الأمة طلقة، ثم أعتقت، وفسخت النكاح، بنت على العدة كذلك. وإن طلق الرجل زوجته، ثم ارتجعها ثم طلقها قبل وطئها، ففيه وجهان:

(3/205)


أحدهما: تبني على العدة الأولى؛ لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطء، فأشبه ما لو لم يرتجعها.
والثاني: تستأنف عدة كاملة؛ لأنه طلاق نكاح صحيح، وطئ فيه، فأوجب عدة كاملة، كما لو لم يتقدمه طلاق. وإن طلقها بعد دخوله بها، استأنفت العدة. رواية واحدة. وسقطت بقية الأولى؛ لأن حكم الطلقة انقطع بالزوجية والدخول، وإن وطئ المطلق زوجته الرجعية في عدتها، وقلنا: ذلك رجعة، فقد عادت الزوجية، فإن طلقها بعد ذلك، استأنفت العدة، وسقط حكم العدة الأولى، كما تقدم. وإن قلنا: ليس هو برجعة، فعليها أن تعتد للوطء؛ لأنه وطء بشبهة، وتدخل فيها بقية العدة الأولى؛ لأنهما من رجل واحد. وإن كانت حاملًا، فهل تتداخل العدتان؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتداخلان؛ لأنهما من رجل واحد، فتنقضي عدتها من الطلاق والوطء، بوضع الحمل.
والثاني: لا يتداخلان؛ لأنهما من جنسين، بل تعتد للطلاق بوضع الحمل، ثم تستأنف عدة الوطء بثلاثة قروء، كما لو كانا من رجلين، وإن كانت حائلًا، فحملت من الوطء. وقلنا: يتداخلان انقضت العدتان بوضع الحمل، وإن قلنا: لا يتداخلان، انقضت عدة الوطء بالوضع، ثم أتمت بقية عدة الطلاق بالقروء.

فصل:
وإذا خلع الرجل زوجته، فله نكاحها في عدتها؛ لأنها لحفظ مائه ونسبه، ولا يصان ماؤه عن مائه، إذا كانا من نكاح صحيح، فإن طلقها بعد أن وطئها، فعليها استئناف العدة؛ لأنه طلاق من نكاح اتصل به المسيس، ويسقط حكم بقية العدة الأولى. وإن طلقها قبل أن يمسها، ففيه روايتان كما ذكرنا في الرجعية، والأولى هاهنا، أنها تبني على عدة الطلاق الأول فتتمها؛ لأن الطلاق الثاني، طلاق من نكاح قبل المسيس فلم يوجب عدة. كما لو لم يتقدمه نكاح. ويلزمها بقية عدة الأول؛ لأنها تنقطع بعقد التزويج، لكونها تصير به فراشًا، فلا تبقى معتدة منه مع كونها فراشًا له. وإذا طلقها، لزمها إتمامها؛ لأنه لو لم يجب ذلك، أفضى إلى اختلاط المياه، بأن يطأ زوجته، ثم يخلعها، ثم يتزوجها ويطلقها من يومه، فيتزوجها آخر ويطأها في يوم واحد، فإن كانت حاملًا حين خلعها، فتزوجها وولدت، ثم طلقها قبل أن يمسها، لم يكن عليها عدة؛ لأنه لم يبق من العدة الأولى شيء؛ لأنها كانت حاملًا، فلا تنقضي عدتها بغير الوضع.

(3/206)


[باب مكان المعتدات]
وهن ثلاثة:
إحداهن: الرجعية، فتسكن حيث يشاء زوجها من المساكن التي تصلح لمثلها؛ لأنها تجب لحق الزوجية.
الثانية: البائن بفسخ، أو طلاق، تعتد حيث شاءت، لما «روت فاطمة بنت قيس: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له ذلك، فقال: ليس لك عليه نفقة ولا سكنى وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك. ثم قال: إن تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي في بيت ابن أم مكتوم» متفق عليه.
الثالثة: المتوفى عنها زوجها، عليها أن تعتد في منزلها الذي كانت ساكنة به، حين توفي زوجها، لما روت «فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد: أنها جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أعبد له، فقتلوه بطرف القدوم، فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يتركني في مسكن أملكه، ولا نفقة، فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله فاعتدت فيه أربعة أشهر وعشرًا، فلما كان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أرسل إلي فسألني عن ذلك، فأخبرته، فاتبعه وقضى به» . رواه أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح.
فإن خافت هدمًا أو غرقًا أو عدوًا، أو حولها صاحب المنزل، أو لم تتمكن من سكناه إلا بأجرة، فلها الانتقال حيث شاءت؛ لأن الواجب سقط للعذر، ولم يرد الشرع له ببدل فلم يجب، وليس عليها بدل الأجرة، وإن قدرت عليها؛ لأنه إنما يلزمها فعل السكنى، لا تحصيل المسكن.

فصل:
ولا سكنى للمتوفى عنها، إذا كانت حائلًا، رواية واحدة، وإن كانت حاملًا، فعلى روايتين:

(3/207)


إحداهما: لا سكنى لها؛ لأن المال انتقل إلى الورثة، فلم تستحق عليهم السكنى، كما لو كانت حائلًا.
والثانية: لها السكنى، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] . ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر فريعة بنت مالك، بالاعتداد في المنزل الذي أسكنها فيه زوجها. فإذا قلنا: لا سكنى لها، فتبرع الوارث بإسكانها، أو تبرع غيره بتمكينها من السكنى في منزلها، إما بأداء أجرتها، أو غير ذلك، لزمها السكنى به. وإن لم يوجد ذلك، سكنت حيث شاءت. وإن قلنا: لها السكنى، فهي أحق بمسكنها من الورثة والغرماء، ولا يباع في دينه حتى تنقضي عدتها؛ لأنه حقها تعلق بعينه، فقدمت على سائر الغرماء، كالمرتهن. وإن تعذر ذلك المسكن، أو كان المسكن لغير الميت، استؤجر لها من مال الميت، ويضرب بقدر أجرته مع الغرماء، إن لم يف ماله بدينه، فإن كانت عدتها بالحمل، ضربت بأقل مدته؛ لأنه اليقين. فإن وضعت لأقل من ذلك، ردت الفضل على الغرماء. وإن وضعت لأكثر منه، رجعت عليهم بالنقص، كما ترد عليهم الفضل. ويحتمل أن لا ترجع عليهم بشيء؛ لأننا قدرنا ذلك لها مع تجويز الزيادة، فلم ترد عليه.

فصل:
ولهم إخراجها لطول لسانها، وأذاها لأحمائها بالسب، لقول الله تعالى: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] . فسره ابن عباس بما ذكرنا. وإن بذئ عليها أهل زوجها، نقلوا عنها؛ لأن الضرر منهم.

فصل:
وليس لها الخروج من منزلها ليلًا، ولها الخروج نهارًا لحوائجها، لما روى مجاهد قال: «استشهد رجال يوم أحد، فجاء نساؤهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقلن: يا رسول الله إنا نستوحش بالليل، أفنبيت عند إحدانا حتى إذا أصبحنا، بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تحدثن عند إحداكن ما بدا لكن، فإن أردتن النوم، فلتؤب كل امرأة إلى بيتها» ، ولأن الليل مظنة الفساد، فلم يجز لها الخروج لغير ضرورة.

(3/208)


فصل:
وليس لها الخروج للحج؛ لأنه لا يفوت، والعدة تفوت، فإن خرجت للحج، فمات زوجها وهي قريبة، رجعت؛ لأنها في حكم الإقامة. وإن تباعدت، مضت في سفرها؛ لأن عليها في الرجوع مشقة فلم يلزمها، كما لو كان أكثر من ثلاثة أيام. قال القاضي: حج البعيد: ما تقصر فيه الصلاة؛ لأن ما دونه في حكم الحضر، وإن خافت في الرجوع، مضت في سفرها ولو كانت قريبة؛ لأن عليها ضررًا في الرجوع. وإن أحرمت بحج أو عمرة في حياة زوجها في بلدها، ثم مات وخافت فواته، مضت فيه؛ لأنه أسبق. فإذا استويا في خوف الفوت، كان أحق بالتقديم. وإن لم تخف فوته، مضت في العدة في منزلها؛ لأنه أمكن الجمع بين الواجبين، فلزمها ذلك. وإن أحرمت بعد موته، لزمتها الإقامة؛ لأن العدة أسبق.

فصل:
إذا أذن لها في السفر لغير نقلة، فخرجت، ثم مات، فحكمه حكم الخروج للحج سواء. وإن كان لنقلة فمات بعد مفارقة البنيان، فهي مخيرة بين البلدين؛ لأنه ليس واحد منهما مسكنًا لها، لخروجها منتقلة عن الأول، وعدم وصولها إلى الثاني. ويحتمل أن يلزمها المضي إلى الثاني؛ لأنها مأمورة بالإقامة والسكنى، والأول بخلافه، وهذا ضعيف جدًا؛ لأن فيه إلزامها السفر مع مشقته، ومؤنته، وإبعادها عن أهلها ووطنها، وربما لم يكن لها محرم سوى زوجها الذي مات، وسفرها بغير محرم حرام، ولا يحصل من سفرها فائدة، ولا حكمة؛ لأن حكمة الاعتداد في منزلها، سترها، وصيانتها لزوم منزلها، وسفرها تبذيل لها وإبراز لها، فهو محصل لضد المقصود، سيما إذا لم يكن معها من يحفظها، ومقامها في البلد الذي يسافر إليه عند الغرباء بين غير أهلها في غير مسكنه، أشد لهلكتها، ثم تحتاج إلى الرجوع وكلفته، وهذا فيه من القبح ما يصان الشرع منه، والله أعلم. وإن وجبت العدة بعد وصولها إلى مقصدها وسفرها لنقلة، لزمها الإقامة به، وتعتد؛ لأنه صار كالوطن الذي تجب العدة فيه. وإن كان لقضاء حاجة، فلها الإقامة إلى أن تقضي حاجتها. وإن كان لزيارة، أو نزهة وقد قدر لها مدة الإقامة، أقامت ما قدر لها؛ لأنه مأذون فيه. وإن لم يقدر لها مدة، فلها إقامة ثلاثة أيام؛ لأنه لم يأذن لها في المقام على الدوام. ثم إن علمت أنه لا يمكنها الوصول قبل فراغ عدتها، لم يلزمها

(3/209)


العود لأنها عاجزة عن الاعتداد في مكانها. وإن أمكنها قضاء شيء من عدتها في منزلها، لزمها العود، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم» . وإن خافت من الرجوع، سقط، للعذر. والحكم فيما إذا أذن لها في النقلة من دار إلى دار ومات وهي بينهما، كذلك.

[باب الإحداد]
وهو اجتناب الزينة وما يدعو إلى المباشرة، وهو واجب في عدة الوفاة، لما روت أم عطية أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام، إلا على زوجها، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا، إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيبًا إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها، بنبذة من قسط، أو أظفار» متفق عليه.
ويجب هذا على الحرة والأمة، والكبيرة والصغيرة، والمسلمة والذمية، لعموم الحديث فيهن، ولا يجب على الرجعية؛ لأنها باقية على الزوجية، فلها أن تتزين لزوجها وترغبه في نفسها، ولا على أم ولد لوفاة سيدها، ولا موطوءة بشبهة ولا زنا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا على زوجها» . وفي المطلقة المبتوتة والمختلعة، روايتان:
إحداهما: لا إحداد عليها لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا على زوجها» . فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا، وهذه عدة الوفاة، ولأنها مطلقة أشبهت الرجعية.
والثانية: يجب عليها؛ لأنها معتدة بائن، أشبهت المتوفى عنها زوجها.

فصل:
ويحرم على الحادة: الكحل بالإثمد، للخبر، ولأنه يحسن الوجه، ولا بأس

(3/210)


بالكحل الأبيض، كالتوتياء ونحوه؛ لأنه لا يحسن العين، بل يزيدها مرهًا. وإن دعت الحاجة إلى الاكتحال بالصبر، والإثمد، اكتحلت ليلًا وغسلته نهارًا، لما روت أم سلمة قالت: دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين توفي أبو سلمة، وقد جعلت على عيني صبرًا، فقال: «ما هذا يا أم سلمة؟ فقلت: إنما هو صبر ليس فيه طيب. قال: إنه يشب الوجه، لا تجعليه إلا بالليل، وانزعيه بالنهار» «وعن أم حكيم بنت أسيد أن زوجها توفي، وكانت تشتكي عينها، فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة تسألها عن كحل الجلاء. فقالت: لا تكتحلي إلا لما لا بد منه، فتكتحلين بالليل، وتغسلينه بالنهار» . رواهما النسائي.

فصل:
ويحرم على الحادة: الخضاب، لما روت أم سلمة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل» رواه أبو داود والنسائي. ويحرم عليها أن تمتشط بالحناء، ولا يحرم عليها غسل رأسها بالسدر، ولا المشط به، لما روت أم سلمة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء، فإنه خضاب قالت: قلت: بأي شيء أمتشط؟ قال: بالسدر تغلفين به رأسك» رواه أبو داود. ولأنه يراد للتنظيف لا للتطيب، ويجوز تقليم الأظفار والاستحداد؛ لأنه يراد للتنظيف لا للتزيين. ويحرم عليها تحمير وجهها بالكلكون، وتبييضه باسفيذاج العرائس؛ لأنه أبلغ في الزينة من الخضاب، فهو بالتحريم أولى. ولها أن تستعمل الصبر في جميع بدنها، إلا وجهها؛ لأنه إنما منع منه في الوجه؛ لأنه يصفر فيشبه الخضاب.

(3/211)


فصل:
ويحرم عليها الطيب، للخبر، ولأنه يحرك الشهوة، ويدعو إلى المباشرة. ويحرم عليها استعمال الأدهان المطيبة؛ لأنه طيب. فأما ما ليس بمطيب من الأدهان، كالزيت والشيرج، فلا بأس به؛ لأن التحريم من الشرع، ولم يرد بتحريمه، ولا هو في معنى المحرم.

فصل:
ويحرم عليها الحلي، للخبر، ولأنه يزيد من حسنها ويدعو إلى مباشرتها. ويحرم عليها ما صبغ من الثياب للزينة، كالأحمر، والأصفر، والأزرق الصافي، والأخضر الصافي، للخبر. فإن صبغ غزله، ثم نسج، ففيه وجهان: أحدهما: لا يحرم، لقوله: «إلا ثوب عصب» . والعصب: ما صبغ غزله قبل نسجه.
والثاني: يحرم؛ لأنه أحسن وأرفع، ولأنه صبغ للتحسين، أشبه ما صبغ بعد النسج، وهذا هو الصحيح، وقوله: «إلا ثوب عصب» إنما أريد به ما صبغ بالعصب، وهو نبت ينبت باليمن، فأما كونه مصبوغ الغزل، فلا معنى له في هذا. ولا يحرم الأسود، ولا الأخضر المشبع، والأزرق المشبع؛ لأنه لم يصبغ لزينة، إنما قصد به دفع الوسخ، أو اللبس في المصيبة، ونحو ذلك، ولا بأس بلبس ما نسج من غزله على جهته من غير صبغ وإن كان حسنًا من الحرير والقطن والكتان والصوف وغيره؛ لأن حسنه من أصل خلقته، لا لزينة أدخلت عليه، فأشبه حسن المرأة في خلقها. قال الخرقي: وتجتنب النقاب؛ لأن المحرمة تمنع منه، فأشبه الطيب. وقال القاضي: كره أحمد النقاب للمتوفى عنها زوجها، دون المطلقة. قال الخرقي: فإن احتاجت إلى ستر وجهها، سدلت عليه كما تفعل المحرمة.

[باب الاستبراء]
ومن ملك أمة بسبب من الأسباب، لم تحل له حتى يستبرئها بوضع الحمل إن كانت حاملًا، أو بحيضة إن كانت تحيض، لما روى أبو سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عام سبايا أوطاس أن توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة» . رواه أحمد

(3/212)


في ((المسند)) ) . وروى الأثرم عن رويفع بن ثابت قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في يوم خيبر: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة» رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن. ولأنها إذا وطئها قبل استبرائها، أدى إلى اختلاط المياه، وفساد الأنساب. فإن كانت حائضًا حين ملكها، لم تعتد بتلك الحيضة، ولزمه استبراؤها بحيضة مستقبلة؛ لأن الخبر يقتضي حيضة كاملة. وإن كانت من الآيسات، أو من اللائي لم يحضن، ففيها ثلاث روايات:
إحداهن: تستبرئ بشهر؛ لأن الشهر أقيم مقام الحيضة في عدة الحرة والأمة.
والثانية: بشهرين، كعدة الأمة.
والثالثة: بثلاثة أشهر، وهي أصح. قال أحمد بن القاسم: قلت لأبي عبد الله: كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان الحيضة، وإنما جعل الله في القرآن مكان كل حيضة شهرًا؟ فقال: من أجل الحمل، فإنه لا يبين في أقل من ذلك، فإن عمر بن عبد العزيز سأل عن ذلك، وجمع أهل العلم والقوابل، فأخبروا أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر، فأعجبه ذلك. ثم قال: ألا تسمع قول ابن مسعود: إن النطفة أربعين يومًا، ثم علقة أربعين يومًا، ثم مضغة بعد ذلك، فإذا خرجت الثمانون صار بعدها مضغة، وهي لحمة، فتبين حينئذ. وهذا معروف عند النساء. فأما شهرًا، فلا معنى له، ولا أعلم أحدًا قاله. فإن ارتفع حيضها لعارض تعلمه، لم تزل في استبراء حتى تحيض، أو تبلغ سن الإياس، فتستبرأ استبراء الآيسات، وإن لم تعلم ما رفعه، استبرأت بعشرة أشهر في إحدى الروايتين، وفي الأخرى بسنة، تسعة أشهر للحمل، وثلاثة مكان الحيضة.

فصل:
ويجب استبراء الصغيرة والكبيرة؛ لأنه نوع استبراء فاستويا فيه، كالعدة. وعنه: أن الصغيرة التي لا يوطأ مثلها لا يجب استبراؤها؛ لأنه يراد لبراءة الرحم، ولا يحتمل الشغل في حقها. وإن ملك من لا تحل له - كالمجوسية، والوثنية - فاستبرأها، ثم

(3/213)


أسلمت حلت بغير استبراء ثان، للخبر، ولأن الاستبراء يراد لبراءة الرحم، ولا يختلف ذلك بالحل والحرمة. وإن أسلمت قبل الاستبراء، لزمه استبراؤها، للخبر والمعنى.

فصل:
ولا يصح الاستبراء حتى يملكها؛ لأن سببه الملك فلم يتقدم عليه، كما لا تتقدم العدة الفرقة. فإن استبرأها في مدة الخيار، صح؛ لأن الملك ينتقل بالبيع. وإن قلنا: لا ينتقل حتى ينقضي الخيار، لم يصح الاستبراء فيه. وهل يشترط القبض لصحة الاستبراء؟ على وجهين:
أحدهما: يشترط، فلو حاضت بيد البائع بعد البيع، لم يصح الاستبراء؛ لأن المقصود معرفة براءتها من ماء البائع، ولا يحصل ذلك مع كونها في يده.
والثاني: يصح؛ لأن سببه الملك وقد وجد، فيجب أن يعقبه حكمه. وإن اشترى عبده التاجر أمة فاستبرأها، ثم أخذها السيد، لم تحتج إلى استبراء؛ لأن ما في يد عبده ملكه. وإن اشترى مكاتبه أمة، ثم صارت إلى السيد لعجزه، أو قبضها من نجوم كتابته، لم تبح بغير استبراء؛ لأنه يتجدد ملكه بأخذها من مكاتبه، إلا أن يكون ذا رحم محرم للمكاتب، فيحل؛ لأن حكمها حكم المكاتب، وإن رق رقت، وإن عتق عتقت. والمكاتب مملوك، فلو كاتب أمته ثم عجزت، أو رهنها ثم فكها، أو ارتدت ثم أسلمت، أو ارتد سيدها ثم أسلم، حلت بغير استبراء؛ لأنه لم تخرج عن ملكه، وإنما حرمت بعارض زال، فأشبه ما لو أحرمت ثم حلت.

فصل:
وإن باعها السيد، ثم ردت عليه بفسخ أو مقايلة بعد قبض المشتري لها وافتراقهما، وجب استبراؤها؛ لأنه تجديد ملك يحتمل اشتغال الرحم قبله، فأشبه ما لو اشتراها. وإن كان قبل افتراقهما، ففيه روايتان:
إحداهما: يجب استبراؤها؛ لأنه تجديد ملك، فأشبه شراء الصغيرة.
والثانية: لا يجب؛ لأن تيقن البراءة معلوم، فأشبه الطلاق قبل الدخول. وإن زوجها سيدها ثم طلقت قبل الدخول، لم يجب استبراؤها؛ لأن ملكه لم يتجدد عليها. وإن فارقها بعد الدخول، أو مات عنها، لم تحل حتى تقضي العدة.

فصل:
وإن اشترى أمة مزوجة فطلقها زوجها قبل الدخول، وجب استبراؤها؛ لأنه تجديد ملك، وإن طلقها بعد دخوله بها، أو مات عنها، فعن أحمد: ما يدل على أنه يكتفي بعدتها؛ لأن براءتها تعلم بها. وقال أبو الخطاب: فيها وجهان:

(3/214)


أحدهما: يدخل الاستبراء في العدة كذلك.
والثاني: لا يدخل؛ لأن الطلاق والملك سببان للاستبراء من رجلين، فلم يتداخلا، كالعدتين من رجلين. وإن اشتراها وهي معتدة، فقال القاضي: يلزمه استبراؤها بعد قضاء عدتها، لما ذكرنا. ويحتمل أن تدخل بقية العدة في الاستبراء؛ لأن المقصود يحصل بذلك.

فصل:
ومن ملك زوجته، لم يلزمه استبراؤها؛ لأنه لصيانة الماء وحفظ النسب، ولا يصان ماؤه عن مائه، لكن يستحب ذلك، ليعلم: هل الولد من نكاح عليه ولاء أو من ملك يمينه فلا ولاء عليه؟ .

فصل:
وإن اشترى أمة فأعتقها قبل استبرائها، لم يحل له نكاحها حتى يستبرئها؛ لأنها محرمة عليه بملك اليمين فلم تحل بالإعتاق فحرم نكاحها، كأخته من الرضاع، ولأن ذلك يفضي إلى اختلاط المياه وفساد النسب، بأن يطأها البائع، ثم يبيعها فيعتقها المشتري، ويتزوجها، يطؤها في يوم واحد. ولها أن تتزوج غيره إن لم يكن البائع يطؤها؛ لأنها لم تكن فراشًا، فأبيح لها التزويج، كما لو أعتقها البائع بعد استبرائها. وإن أعتق أم ولده، أو أمة كان يصيبها، لزمها استبراء نفسها؛ لأنها صارت بالوطء فراشًا له، فلزمها الاستبراء عند زوال الفراش، كالزوجة إذا طلقت. فإن أراد معتقها أن يتزوجها في استبرائها، جاز لأنه لا يحفظ ماؤه عن مائه، وإن أعتق أمة لم يكن يطؤها، فليس عليها استبراء؛ لأنها ليست فراشًا. وله أن يتزوجها عقيب عتقها؛ لأنها مباحة لغيره، فله أولى. وعنه: لا يتزوجها حتى يستبرئها. وقال ابن عقيل: هذا محمول على الاستحباب. لما ذكرناه.

فصل:
ومن ملك أمة يلزمه استبراؤها، لم يحل له التلذذ بها بالنظر والقبلة ونحوه؛ لأننا لا نأمن كونها حاملًا من البائع. فتكون أم ولده، فيحصل مستمتعًا بأم ولد غيره، إلا أن يملكها بالسبي، فيكون فيها روايتان:
إحداهما: يباح له ذلك؛ لأنه لا يخشى انفساخ ملكه لها بحملها، فلا يكون مستمتعًا إلا بمملوكته.
والثانية: يحرم؛ لأن ما حرم الوطء، حرم دواعيه، كالعدة، وإن وطئت زوجة الرجل أو مملوكته بشبهة، أو زنا، لم يحل له وطؤها حتى تنقضي عدتها. وفي التلذذ بغير الوطء وجهان. بناء على الروايتين.

(3/215)


فصل:
ومن أراد بيع أمته ولم يكن يطؤها، لم يلزمه استبراؤها؛ لأنه قد حصل يقين براءتها منه. فإن كان يطؤها، ففيه روايتان:
إحداهما: يجب؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنكر على عبد الرحمن بن عوف حين باع جارية له كان يطؤها قبل استبرائها. قال: ما كنت لذلك بخليق، ولأن فيه حفظ مائه وصيانة نسبه، فوجب عليه، كالمشتري.
والثانية: لا يجب؛ لأنه يجب على المشتري، فأغنى عن استبراء البائع. فأما إن أراد تزويجها، أو تزوج أم ولده، لم يجز قبل استبرائها؛ لأن الزوج لا يلزمه استبراؤها. فإذا لم يستبرئها السيد، أفضى إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب. وله تزويج أمته التي لا يطؤها من غير استبراء؛ لأنها ليست فراشًا له.

فصل:
وإن مات عن أم ولده، لزمها الاستبراء؛ لأنها صارت فراشًا، وتستبرأ كما تستبرأ المسيبة؛ لأنه استبراء بملك اليمين. وعنه: تستبرأ بأربعة أشهر وعشر، لما روي عن عمرو بن العاص أنه قال: «لا تفسدوا علينا سنة نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر» ، ولأنه استبراء الحرة من الوفاة، فلزمها أربعة أشهر وعشر، كعدة الزوجة. والصحيح الأول، لما ذكرناه. وخبر عمرو لا يصح، قاله أحمد.

فصل:
وإن مات عنها، أو أعتقها وهي مزوجة، أو معتدة، لم يلزمها استبراء؛ لأنه زال فراشه عنها قبل وجوب الاستبراء، فلم يجب، كما لو طلق امرأته قبل الدخول. وإن مات بعد عدتها، لزمها الاستبراء؛ لأنها عادت إلى فراشه. وقال أبو بكر: لا يلزمها استبراء إلا أن يعيدها إلى نفسه؛ لأن الفراش زال بالتزويج، فلا يعود إلا بإعادتها إلى نفسه. فإن مات زوجها وسيدها، ولم يعلق السابق منهما، فعلى قول أبي بكر: عليها بعد موت الآخر منهما عدة الحرة من الوفاة؛ لأنه يحتمل أن سيدها مات أولًا، ثم مات زوجها وهي حرة، فلزمتها عدة الحرة، لتبرأ بيقين. وعلى القول الأول: إن كان بينهما دون شهرين وخمسة أيام، فليس عليهما بعد الآخر منهما، إلا عدة الحرة من الوفاة؛ لأن الاستبراء لا يحتمل الوجوب بحال، لكون موت سيدها إن كان أولًا، فقد مات وهي مزوجة، وإن كان آخرًا، فقد مات وهي معتدة، ولا استبراء عليها في الحالين. وإن كان

(3/216)


بينهما أكثر من شهرين وخمسة أيام، فعليها بعد موت الآخر منهما أكثر الأمرين، من عدة حرة من الوفاة، أو الاستبراء؛ لأنه يحتمل أن الزوج مات آخرًا، فعليها عدة الحرة، ويحتمل أن السيد مات آخرًا، فعليها الاستبراء بحيضة، فوجب الجمع بينهما، ليسقط الفرض بيقين. ولا ترث الزوج؛ لأن الأصل الرق، فلا ترث مع الشك.

فصل:
وإذا كانت الأمة بين نفسين فوطئاها، لزمها استبراءان؛ لأنهما من رجلين، فلم يتداخلا، كالعدتين.

فصل:
إذا اشترى أمة فظهر بها حمل، فقال البائع: هو مني، وصدقه المشتري، لحقه الولد، والجارية أم ولد، والبيع باطل. وإن كذبه المشتري، نظرنا، فإن كان البائع أقر بوطئها عند البيع، وأتت بالولد لدون ستة أشهر، فهو ولده، والبيع باطل. وإن أتت به لستة أشهر فصاعدًا، وكان البائع استبرأها قبل بيعها، ولم يطأها المشتري، أو وطئها ولكن ولدته لدون ستة أشهر منذ وطئها، لم يلحق بواحد منهما، وكانت الجارية والولد مملوكين للمشتري، وإن أتت به لستة أشهر فصاعدًا، من حين وطء المشتري، فهو ولده والجارية أم ولده. وإن لم يستبرئها واحد منهما، فأتت بولد لدون أربع سنين منذ باعها، ولأكثر من ستة أشهر منذ وطئها المشتري، عرض على القافة، وألحق بمن ألحقوه به منهما. وقد روى عبد الله بن عبيد بن عمير قال: باع عبد الرحمن بن عوف جارية كان يقع عليها قبل أن يستبرئها، فظهر بها حمل عند المشتري، فخاصموه إلى عمر، فقال له عمر: كنت تقع عليها؟ قال: نعم. قال: فبعتها قبل أن تستبرئها؟ قال: نعم. قال: ما كنت لذلك بخليق، فدعا القافة فنظروا إليه، فألحقوه به. فإن لم يكن البائع أقر بوطئها حين بيعها، فادعاه بعد ذلك، وكذبه المشتري، لم تقبل دعواه في الولد؛ لأن الملك انتقل إلى المشتري في الظاهر، فلا يقبل قول البائع فيما يبطل حقه، كما لو باع عبدًا، ثم أقر أنه كان أعتقه، والقول قول المشتري مع يمينه. وهل يلحقه نسب الولد؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلحقه؛ لأنه يجوز أن يكون ابنًا لواحد، مملوكًا لآخر، كولد الأمة المزوجة.
والثاني: لا يلحق؛ لأن فيه ضررًا على المشتري، فإنه لو أعتقه كان أبوه أحق بميراثه منه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(3/217)