الكافي في فقه الإمام أحمد

 [كتاب قتل أهل البغي]
كل من ثبتت إمامته، حرم الخروج عليه وقتاله، سواء ثبتت بإجماع المسلمين عليه، كإمامة أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أو بعهد الإمام الذي قبله إليه، كعهد أبي بكر إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أو بقهره للناس حتى أذعنوا له ودعوه إماما، كعبد الملك بن مروان؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، وروى أبو ذر، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، فميتته جاهلية» رواه مسلم من حديث أبي هريرة.

فصل
والخارجون على الإمام على ثلاثة أقسام: قسم لا تأويل لهم، فهؤلاء قطاع طريق، نذكر حكمهم فيما بعد إن شاء الله، وكذلك إن كان لهم تأويل، لكنهم عدد يسير لا منعة عندهم، وقال أبو بكر: هم بغاة؛ لأن لهم تأويلًا، فأشبه العدد الكثير.
والأول: أصح؛ لأن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يجر ابن ملجم مجرى البغاة، ولأن هذا يفضي إلى إهدار أموال الناس.
القسم الثاني: الخوارج الذين يكفرون أهل الحق وأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويستحلون دماء المسلمين، فذهب فقهاء أصحابنا إلى أن حكمهم حكم البغاة؛ لأن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في الحرورية: لا تبدءوهم بالقتال، وأجراهم مجرى البغاة، وكذلك عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار،

(4/54)


حكمهم حكم المرتدين؛ لما روى أبو سعيد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال فيهم: «إنهم يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة» رواه البخاري. وفي لفظ: «لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» ، فعلى هذا يجوز قتلهم ابتداء، وقتل أسيرهم، واتباع مدبرهم، ومن قدر عليه منهم استتيب كالمرتد، فإن تاب، وإلا قتل.
القسم الثالث: قوم من أهل الحق خرجوا على الإمام بتأويل سائغ، وراموا خلعه، ولهم منعة وشوكة، فهؤلاء بغاة، وواجب على الناس معونة إمامهم في قتالهم؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ، ولأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قاتلوا مانعي الزكاة، وقاتل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أهل البصرة يوم الجمل، وأهل الشام بصفين، ولا يقاتلهم الإمام حتى يسألهم ما ينقمون منه، فإن اعتلوا بمظلمته أزالها، أو شبهة كشفها؛ لقول الله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] وفي هذا إصلاح، ولأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - راسل أهل البصرة يوم الجمل قبل الوقعة، وأمر أصحابه ألا يبدءوهم بقتال، وقال: إن هذا يوم، من فلج فيه، فلج يوم القيامة.
وروى عبد الله بن شداد: أن عليا لما اعتزلته الحرورية، بعث إليهم عبد الله بن عباس، فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف، فإذا راسلهم فأبوا وعظهم. وخوفهم القتال، فإن أبوا قاتلهم، فإن استنظروه مدة، نظر في حالهم، فإن بان له أن قصدهم تعرف الحق، وكشف اللبس، والرجوع إلى الطاعة، أنظرهم؛ لأن في هذا إصلاحًا، وإن علم أن قصدهم الاجتماع على حربه، أو خديعته، عاجلهم لما في التأخير من الضرر، فإن أعطوه مالًا على إنظارهم أو رهنًا لم يقبل؛ لأنه لا يؤمن جعل ذلك طريقًا إلى قهره وقهر أهل العدل.

فصل
وإذا قوتلوا لم يتبع لهم مدبر، ولم يجز على جريح، ولم يقتل لهم أسير، ولم يغنم لهم مال، ولم يسب لهم ذرية؛ لما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «يا ابن أم عبد، ما حكم من بغى على أمتي؟ فقلت: الله ورسوله أعلم،

(4/55)


فقال: لا يقتل مدبرهم، ولا يجاز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يقسم فيئهم» ، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال يوم الجمل: لا يذفف على جريح، ولا يهتك ستر، ولا يفتح باب، ومن أغلق بابًا أو بابه، فهو آمن. وعن أبي أمامة قال: شهدت صفين، فكانوا لا يجيزون على جريح، ولا يطلبون موليًا، ولا يسلبون قتيلًا، ولأن المقصود دفعهم، فإذا حصل لم يجز قتلهم كالصائل، وإن حضر معهم من لا يقاتل لم يجز قتله؛ لأن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إياكم وصاحب البرنس، يعني محمد بن طلحة السجاد، وكان قد حضر طاعة لأبيه، ولم يقاتل، ولأن القصد كفهم، وهذا قد كف نفسه، ومن أسر منهم فدخل في الطاعة، خلي سبيله، وإن أبى ذلك وكان رجلًا جلدًا، حبس حتى تنقضي الحرب؛ لئلا يعين أصحابه على قتال أهل العدل، فإذا انقضت الحرب، خلي سبيله، وإن لم يكن من أهل القتال خلي سبيله ولم يحبس؛ لأنه لا يخشى الضرر من تخليته، وقال أبو الخطاب: فيه وجه آخر: أنه يحبس كسرًا لقلوب أصحابه، والأول أصح، وحكم النساء والصبيان حكم الرجال، إن قاتلوا، جاز دفعهم بالقتل، وإلا فلا، ومن قتل أحدًا ممن منع من قتله ضمنه؛ لأنه قتل معصومًا لم يؤمر بقتله، وهل يلزمه القصاص؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه؛ لأنه قتل مكافئًا عمدًا.
والثاني: لا يجب؛ لأن في قتلهم اختلافًا، فكان ذلك شبهة دارئة للقصاص.

فصل
ولا يجوز قتالهم بالنار، ولا رميهم بالمنجنيق، وما يعم إتلافه؛ لأنه يعم من لا يجوز قتله، ومن يجوز. فإن دعت إليه ضرورة جاز، كما يجوز قتل الصائل، ولا يستعين على قتالهم بكافر، ولا بمن يستبيح قتلهم؛ لأن القصد كفهم لا قتلهم، وهؤلاء يقصدون قتلهم، فإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم، فقدر على كفهم عن فعل ما لا يجوز، جازت الاستعانة بهم، وإلا فلا، وإن اقتتلت طائفتان من أهل البغي، فقدر الإمام على قهرهما، لم يعن واحدة منهما؛ لأنهما على الخطأ، وإن لم يقدر، ضم إليه أقربهما إلى الحق، فإن استويا، اجتهد، في ضم إحداهما إلى نفسه، يقصد بذلك الاستعانة بها على الأخرى، فإذا قهرها، لم يقاتل المضمومة إليه حتى يدعوها إلى الطاعة؛ لأنها حصلت في أمانة بالاستعانة بها.

فصل
ولا يجوز أخذ مالهم لما تقدم، ولأن الإسلام عصم مالهم، وإنما أبيح قتالهم للرد إلى الطاعة، فبقي المال على العصمة، كمال قاطع الطريق، ولا يجوز الاستعانة

(4/56)


بكراعهم وسلاحهم من غير ضرورة لذلك، فإن دعت إليه ضرورة جاز، كما يجوز أكل مال الغير في المخمصة.

فصل
ومن أتلف من الفريقين على الآخر مالًا أو نفسًا في غير القتال ضمنه؛ لأن تحريم ذلك كتحريمه قبل البغي، فكان ضمانه كضمانه قبل البغي، وما أتلف أحدهما على الآخر حال الحرب بحكم القتال من نفس أو مال لم يضمنه؛ لما روى الزهري قال: كانت الفتنة العظمى، وفيهم البدريون، وأجمعوا على أن لا يجب حد على رجل ارتكب فرجًا حرامًا بتأويل القرآن، ولا يقتل رجل سفك دمًا حرامًا بتأويل القرآن، ولا يغرم مالًا أتلفه بتأويل القرآن، ولأن العادل مأمور بإتلافه فلم يضمنه، كما لو قتل الصائل عليه، والبغاة: طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل، فلم تضمن ما أتلفت على الأخرى بحكم الحرب، كأهل العدل، ولأن تضمينهم ذلك يفضي إلى تنفيرهم عن الطاعة فسقط، كأهل الحرب، وعنه: يلزم البغاة الضمان؛ لأنهم أتلفوه بغير حق، فضمنوه كقطاع الطريق.

فصل
وإن استعان أهل البغي بأهل الحرب، فأمنوهم بشرط المعاونة، لم ينعقد أمانهم؛ لأن من شرط الأمان ألا يقاتلوا المسلمين، فلم ينعقد بدون شرطه وإن أعانوهم، فلأهل العدل قتلهم، وغنيمة أموالهم، كما قبل الاستعانة، ولا يجوز لأهل البغي قتلهم، ولا يحل لهم مالهم؛ لأنهم أمنوهم، فلزمهم الوفاء به، وإن استعانوا بأهل الذمة، فقاتلوا معهم طائعين عالمين بتحريم ذلك، فيه وجهان:
أحدهما: ينتقض عهدهم؛ لأنهم قاتلوا المسلمين من غير عذر، فانتقض عهدهم، كما لو كانوا منفردين.
والثاني: لا ينتقض عهدهم؛ لأنهم تابعون لأهل البغي، فعلى هذا حكمهم حكم البغاة في قتل مقاتلتهم دون مدبرهم وأسيرهم، وتذفيف جريحهم، ولكنهم يضمنون ما أتلفوا من نفس أو مال، في الحرب وفي غيره؛ لأن سقوط التضمين عن البغاة كيلا يفضي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة، ولا يخاف تنفير أهل الذمة، وإن قالوا: كنا مكرهين، أو ظننًا أنه يجوز لنا معاونتهم، لم تنتقض الذمة؛ لأن ما ادعوه محتمل، فلا ينقض العهد مع الشبهة، وإن استعانوا بمستأمن، فحكمه حكم أهل الحرب إلا أن يقيم بينة على الإكراه.

فصل
وإن ولوا قاضيًا يستبيح دماء أهل العدل وأموالهم، لم ينفذ حكمه؛ لأن العدالة

(4/57)


شرط للقضاء، وليس هذا بعدل، وإن كان عدلًا مجتهدًا، نفذ من حكمه ما ينفذ من حكم قاضي الإمام، ورد منه ما يرد منه؛ لأن له تأويلًا يسوغ فيه الاجتهاد، فأشبه قاضي أهل العدل، وإن كتب إلى قاضي أهل العدل، استحب ألا يقبل كتابه كسرًا لقلوبهم، فإن قبله جاز؛ لأن حكمه ينفذ، فجاز قبول كتابه، كقاضي الإمام.

فصل
وإن استولوا على بلد، فأقاموا الحدود، وأخذوا الزكاة والخراج والجزية احتسب به؛ لأن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يتتبع ما فعله أهل البصرة وأخذه. وكان ابن عمر يدفع زكاته إلى ساعي نجدة الحروري، ومن ادعى دفع زكاته إليهم، قبل منه، ولم يستحلف؛ لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم، ومن ادعى من أهل الذمة دفع جزيته إليهم، لم يقبل إلا ببينة؛ لأنها عوض، فأشبهت الأجرة، ومن ادعى دفع خراجه إليهم، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل؛ لأنه أجرة للأرض، فأشبه أجرة الدار، ولأنه خراج أشبه الجزية.
والثاني: يقبل قوله؛ لأن الدافع مسلم، فقبل قوله في الدفع كالزكاة.

فصل
وإن أظهر قوم رأي الخوارج، ولم يخرجوا عن قبضة الإمام، فقال أبو بكر: لا يتعرض لهم؛ لأن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سمع رجلًا يقول: لا حكم إلا لله - تعريضًا به في التحكيم - فقال: كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدأكم بقتال. وحكمهم في ضمان النفس والمال والحد حكم أهل العدل؛ لأن ابن ملجم جرح عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: أطعموه واسقوه واحبسوه، فإن عشت فأنا ولي دمي، أعفو إن شئت، وإن شئت استقدت، وإن مت قتلتموه، ولا تمثلوا به، ولا يتحتم القصاص إذا قتلوا مسلمًا؛ لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وإن شئت عفوت، وفيه وجه آخر أنه يتحتم؛ لأنه قتل بإشهار السلاح في غير المعركة، فتحتم قتله، كقاطع الطريق، وإن سبوا الإمام أو غيره من أهل العدل، عزروا؛ لأنه محرم لا حد فيه، ولا كفارة، فشرع التعذير فيه، وإن عرضوا بالسب، ففيه وجهان:
أحدهما: يعزرون كيلا يصرحوا به ويخرقوا الهيبة.
والثاني: لا يعزرون؛ لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان في صلاة الفجر،

(4/58)


فناداه رجل من الخوارج: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] ، فأجابه علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم: 60] ولم يعزره، فأما من ذهب من أصحابنا إلى تكفيرهم، فإنهم متى أظهروا رأي الخوارج استتيبوا، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم، كسائر المرتدين.

فصل
وإن اقتتلت طائفتان، لطلب ملك أو رئاسة أو عصبية، ولم تكن إحداهما في طاعة الإمام، فهما ظالمتان، يلزم كل واحدة منهما ضمان ما أتلفت على الأخرى، فإن كانت إحداهما في طاعة الإمام تقاتل بأمره، فهي المحقة، وحكم الأخرى حكم من يقاتل الإمام؛ لأنهم يقاتلون من أذن له الإمام، فأشبه المقاتل لجيشه.

[باب أحكام المرتد]
وهو: الراجع عن دين الإسلام، ولا يصح الإسلام والردة إلا من عاقل، فأما المجنون والطفل، فلا يصح إسلامهما ولا ردتهما؛ لأنه قول له حكم، فلا يصح منهما، كالبيع وغيره من العقود، وأما الصبي المميز، فيصح إسلامه وردته؛ لأن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسلم وهو ابن سبع، فصح إسلامه، وثبت إيمانه، وعد بذلك سابقًا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه حتى يعرب عنه لسانه، فإما شاكرًا، وإما كفورًا» ، ولأن الإسلام عبادة محضة، فصح منه، كالصلاة والحج، ومن صح إسلامه صحت ردته، كسائر الناس.
وعنه: لا تصح ردته؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاثة» ، ولأنه قول يثبت به عقوبة، فلم يصح منه، كالإقرار بالحد، واختلف في السن المعتبرة لصحة إسلامه وردته، فقال الخرقي: هي عشر سنين؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بضربهم على الصلاة والتفريق بينهم في المضاجع لعشر، وعن أحمد: أنه إذا كان ابن سبع سنين، صح إسلامه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مروهم بالصلاة لسبع» ، وعن عروة: أن عليًا والزبير أسلما وهما ابنا ثمان سنين، ولأنه تصح عباداته، فصح إسلامه كابن عشر، وفي ردة السكران روايتان، كطلاقه.

(4/59)


فصل
ولا تصح الردة من المكره؛ لقول الله تعالى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] ، وإن لفظ بالكفر وهو أسير، فثبت أنه لفظ به وهو آمن كفر. وإن لم يثبت، لم يحكم بردته؛ لأنه في محل المخافة، وإن لفظ بها غير الأسير، حكم بردته، إلا أن يثبت إكراهه، ومن ثبت عليه أنه أكل لحم الخنزير، أو شرب خمرًا، لم يحكم بردته؛ لأنه قد يأكله معتقدًا تحريمه، والأفضل للمكره على كلمة الكفر ألا يقولها؛ لما روى خباب، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن كان الرجل ممن كان قبلكم يحفر له في الأرض، ثم يجاء بمنشار فيوضع على رأسه، ويشق باثنين ما يمنعه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم ما يصرفه ذلك عن دينه» .

فصل
والردة تحصل بجحد الشهادتين، أو إحداهما، أو سب الله تعالى، أو رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو قذف أم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو جحد كتاب الله تعالى، أو شيء منه، أو شيء من أنبيائه، أو كتاب من كتبه، أو فريضة ظاهرة مجمع عليها، كالعبادات الخمسة، أو استحلال محرم مشهور أجمع عليه: كالخمر، والخنزير، والميتة، والدم، والزنا ونحوه، فإن كان ذلك لجهل منه، لحداثة عهده بالإسلام، أو لإفاقة من جنون ونحوه لم يكفر، وعرف حكمه ودليله، فإن أصر عليه كفر؛ لأن أدلة هذه الأمور الظاهرة ظاهرة في كتاب الله وسنة رسوله، فلا يصدر إنكارها إلا من مكذب لكتاب الله وسنة رسوله.

فصل
ومن ارتد عن الإسلام، وجب قتله؛ لما روى ابن عباس: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من بدل دينه فاقتلوه» رواه البخاري. وعن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفس» .

فصل
وتقتل المرتدة للخبر، ولأنها بدلت دين الحق بالباطل، فتقتل كالرجل.

فصل
ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثًا يدعى فيها إلى الإسلام، وعنه: أنه يقتل من غير

(4/60)


استتابة للخبر، ولأنه يروى: أن معاذًا قدم على أبي موسى، وعنده رجل محبوس على الردة، فقال معاذ: لا أنزل حتى يقتل فقتل. والأول ظاهر المذهب؛ لما روى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري، عن أبيه: أنه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى، فقال له عمر: هل من مغربة خبر؟ قال: نعم. رجل كفر بعد إسلامه، فقال: ما فعلتم به؟ قال: قدمناه، فضربنا عنقه، قال عمر: فهل حبستموه ثلاثًا فأطعمتموه كل يوم رغيفًا واستتبتموه لعله يتوب، أو يراجع أمر الله؟ اللهم إني لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني، ولو لم تجب الاستتابة، لما تبرأ من فعلهم ولأن الردة في الغالب إنما تكون لشبهة عرضت له، فإذا تأنى عليه، وكشفت شبهته، رجع إلى الإسلام، فلا يجوز إتلافه مع إمكان استصلاحه، فعلى هذا يضيق عليه في مدة الاستتابة ويحبس، ويدعى إلى الإسلام، وتكشف شبهته، ويبين له فساد ما وقع له، فإن قتل قبل الاستتابة، لم يجب ضمانه؛ لأن عصمته قد زالت بردته، وإن ارتد وهو سكران، لم يقتل قبل إفاقته؛ لأنه لا يمكن إزالة شبهته في حال سكره، فإذا صحا، وتمت له ثلاثة أيام من وقت ردته، قتل وإن ارتد صبي، لم يقتل قبل بلوغه؛ لأن القتل عقوبة متأكدة، فلا تشرع في حق الصبي، كالحد، وإذا بلغ، استتيب ثلاثًا؛ لأن البلوغ مظنة كمال العقل، فاعتبرت الاستتابة فيه، فإن لم يتب قتل، وإن ارتد عاقل فجن، لم يقتل في جنونه؛ لأن القتل يجب بالإصرار على الردة، والمجنون لا يوصف بالإصرار، ومن قتل أحد هؤلاء، عزر؛ لارتكابه القتل المحرم ولم يضمن؛ لأنه قتل كافرًا لا عهد له، فأشبه قتل نساء أهل الحرب.

فصل
فإذا تاب المرتد قبلت توبته، وخلي سبيله؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] إلى قوله: {إِلا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70] ، وروى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كف عن المنافقين حين أظهروا الإسلام مع إبطانهم الكفر، وعن أحمد: أنه لا تقبل توبة الزنديق المستسر بكفره؛ لأنه كان مستسرًا به دهره، فلا يزيد بتوبته عن الاستسرار الذي كان قبل الظهور عليه، ولا توبة من تكررت ردته؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا} [النساء: 137] .
وقال أحمد: لا تقبل توبة

(4/61)


من سب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال الخرقي: ومن قذف أم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل، مسلمًا كان أو كافرًا، وقال أبو الخطاب: هل تقبل توبة من سب الله تعالى ورسوله؟ على روايتين:
إحداهما: لا تقبل؛ لأن قتله موجب السب والقذف، فلا يسقط بالتوبة، كحد القذف.
والثانية: تقبل لأنه لا يزيد على اتخاذ الصاحبة والولد لله سبحانه وتعالى، وقد سماه الله تعالى شتمًا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يخبر عن ربه تعالى أنه قال: «شتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، أما شتمه إياي فقوله: إن لي صاحبة وولدًا» والتوبة من هذا مقبولة بالاتفاق.

فصل
وتثبت التوبة من الردة والكفر الأصلي، بأن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؛ لخبر أنس، إلا أن يكون ممن يعتقد أن محمدًا بعث إلى العرب خاصة، أو يزعم أن محمدًا نبي يبعث غير نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا يصح إسلامه حتى يشهد أن نبينا محمدًا نبي بعث إلى الناس كافة، أو يتبرأ مع الشهادتين من كل دين خالف الإسلام؛ لأنه يحتمل أن يريد بالشهادة ما يعتقده. وإن شهد أن محمدًا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقط، ففيه روايتان:
إحداهما: يحكم بإسلامه؛ لأنه لا يقر برسالته، إلا وهو مقر بمن أرسله.
والثانية: إن كان ممن يقر بالتوحيد كاليهود، حكم بإسلامه؛ لأن كفره بجحده لرسالة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن كان ممن لا يوحد الله تعالى كالنصراني، لم يحكم بإسلامه، حتى يشهد أن لا إله إلا الله؛ لأنه غير موحد، فلا يحكم بإسلامه حتى يوحد الله تعالى، ويقر بما كان يجحده، وإن ارتد بجحد فرض، أو استحلال محرم، لم يصح إسلامه، حتى يرجع عما اعتقده، ويعيد الشهادتين؛ لأنه كذب الله تعالى ورسوله بما اعتقده، وإن صلى الكافر، حكمنا بإسلامه، سواء صلى جماعة، أو فرادى في دار الحرب، أو الإسلام؛ لأنها ركن يختص به الإسلام، فحكم بإسلامه، بها كالشهادتين، ولأن ما كان إسلامًا في دار الحرب، كان إسلامًا في دار الإسلام، كالشهادتين، وإن قال: أنا مؤمن، أو مسلم، حكم بإسلامه، وإن لم يلفظ بالشهادتين، ذكره القاضي؛ لأن ذلك اسم لشيء، فإذا أخبر به، فقد أخبر بذلك الشيء.

فصل
وإن أصر على الردة قتل بالسيف؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة»

(4/62)


ولا يقتله إلا الإمام؛ لأنه قتل يجب لحق الله تعالى، فكان إلى الإمام، كرجم الزاني، وإن قتله غيره بغير إذنه أساء، ويعزر لافتئاته على الإمام، ولا ضمان عليه؛ لأنه أتلف محلًا غير معصوم.

فصل
وإذا ارتد، لم يزل ملكه؛ لأنه سبب مبيح لدمه، فلم يزل ملكه، كزنا المحصن، وإن وجد منه سبب يقتضي الملك، كالاصطياد، والابتياع، ملك به كذلك، ويرفع الحاكم يده عن ماله، ويمنعه التصرف فيه، ويقضي ديونه من ماله، وأرش جناياته، وينفق على من يلزمه الإنفاق عليه، وإن تصرف المرتد في ماله، ببيع أو هبة ونحوها، كان تصرفه موقوفًا، إن أسلم تبينا وقوعه صحيحًا، وإن لم يسلم كان باطلًا؛ لأنه تعلق به حق جماعة المسلمين بردته، فأشبه تبرع المريض لوارثه، وقال أبو بكر: يزول ملكه بردته؛ لأن المسلمين ملكوا إراقة دمه، فوجب أن يملكوا ماله كالأصلي؛ لأنه زالت عصمته بردته، فوجب أن تزول عصمة ماله، فلا تصح تصرفاته، ولا تملك بأسباب الملك، ولا تنفق على أهله منه، فإن أسلم رد إليه تمليكًا مستأنفًا، وإن قتل أو مات قُضيت ديونه؛ لأن موته لا يمنع قضاء دينه.

فصل
ولا يجوز استرقاق المرتد؛ لأنه لا يجوز إقراره على ردته، وإن ارتد وله ولد، لم يجز استرقاق ولده؛ لأنه محكوم بإسلامه بإسلام والده، فإذا بلغ، استتيب ثلاثًا، فإن تاب وإلا قتل. والحمل كالولد الظاهر؛ لأنه يحكم له بالإسلام، ولهذا نورثه من والده المسلم دون المرتد، وإن ولد للمرتد ولد بعد ردته من كافرة، جاز استرقاقه؛ لأنه كافر وُلِدَ بين كافرين، فجاز استرقاقه، كولد الحربيين، ونقل الفضل بن زياد عن أحمد في المرتد: إذا تزوج في دار الحرب، وولد له، ما يصنع بولده؟ قال: يردون إلى الإسلام، ويكونون عبيدًا للمسلمين، فظاهر هذا أنه لا يجوز إقرار ولده على الكفر، ولا يقبل منه إلا الإسلام، وإذا أسلم بعد سبيه رق؛ لأنه ولد من لا يُقر على كفره، فلا يقر على كفره، كوالده الذي كان موجودًا قبل ردته.

فصل
وما يتلفه المرتد مضمون عليه؛ لأنه التزم حكم الإسلام بإسلامه واعترافه به، فلا يسقط عنه بجحده، كمن جحد الدين بعد إقراره به، فإن لحق بدار الحرب، فقد روي عن أحمد: أنه إذا لحق بدار الحرب، فقتل أو سرق، قال: قد زال عنه الحكم؛ يعني: لا يؤخذ بجنايته، ثم توقف بعد ذلك، فيحتمل أن يضمن ما أتلفه لما ذكرناه، ويحتمل أن لا يضمن؛ لأنه ممتنع بكفره في دار الحرب فلم يضمن، كالكافر الأصلي.

(4/63)


وإن ارتدت طائفة وامتنعت، وجب على الإمام قتالها؛ لأن أبا بكر الصديق قاتل أهل الردة، ولأنهم كفار لا عهد لهم، فوجب قتالهم كالأصليين، وما أتلفوه في حال الحرب لم يضمنوه؛ لما روى طارق بن شهاب قال: جاء وفد بزاخة وغطفان إلى أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسألونه الصلح، فقال: تَدُونَ قتلانا، ولا نَدِي قتلاكم، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن قتلانا قُتلوا على أمر الله، ليس لهم ديات، فتفرق الناس على قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رواه البخاري.
وإن أتلفوا في غير دار الحرب شيئًا، ففيه وجهان؛ كالواحد إذا لحق بدار الحرب، وذكر ابن أبي موسى، والقاضي، وأبو الخطاب: أن ما أتلفه المرتد، فهو مضمون عليه، سواء كان واحدًا، أو جماعة ممتنعة بالحرب، ويحتمل في الجماعة الممتنعة ألا تضمن ما أتلفت.

فصل
ومن أكره على الإسلام بغير حق كالذمي والمستأمن، لم يصح إسلامه، ولم يثبت له أحكامه حتى يوجد منه ذلك، بعد زوال الإكراه. وإن أكره عليه بحق كالمرتد، ومن لا يجوز إقراره على دينه حكم بإسلامه، ومن أسلم ثم قال: لم أعتقد الإسلام، أو: لم أدر ما قلت، لم يقبل منه، وصار مرتدًا، نص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعنه أنه يقبل منه. والمذهب: الأول.

[باب الحكم في الساحر]
السحر: عزائم ورقى وعُقَد تؤثر في الأبدان، والقلوب، فيمرض، ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه، قال الله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] ، وقال الله سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] إلى قوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] يعني: السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن، وينفثن في عقدهن، ولولا أن للسحر حقيقة، لم يأمر بالاستعاذة منه، وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سُحِرَ حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، وأنه قال لها ذات يوم: أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه؟ قال:

(4/64)


لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة في جف طلعة ذكر في بئر ذي أروان» رواه أحمد، والبخاري، ومسلم.
وتعلم السحر، والعمل به حرام، فإن فعله رجل، وجب قتله إذا كان مسلماً؛ لما روي عن بجالة قال: كنت كاتباً لجَزْء بن معاوية عم الأحنف بن قيس؛ إذ جاءنا كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبل موته بسنة: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، فقتلنا ثلاث سواحر في يوم، رواه أحمد وأبو داود. وقتلت حفصة أمة لها سحرتها. ورأى جندب بن كعب رجلاً يعمل سحراً بين يدي الوليد بن عقبة، فضربه بالسيف. وأما ساحر أهل الكتاب، فلا يقتل. نص عليه أحمد. وقال: الشرك أعظم من ذلك. وقد سحر لبيد بن الأعصم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يقتله.
قال أصحابنا: ويكفر بتعلم السحر، والعمل به؛ لقول الله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] . فدل هذا على أنه يكفر بتعلمه. وهل يستتاب؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يستتاب؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم يستتيبوهم، ولأن علم السحر لا يزول بالتوبة.
والثانية: يستتاب. فإن تاب، قبلت توبته، وخلي سبيله؛ لأن دينه لا يزيد على الشرك.
والمشرك يستتاب، وتقبل توبته، فكذا الساحر. وعلمه بالسحر لا يمنع توبته، بدليل ساحر أهل الكتاب إذا أسلم، ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم.

فصل
الكاهن - الذي له رئي من الجن - والعراف، وقد نقل عن أحمد: أن حكمهما القتل أو الحبس حتى يتوبا؛ لأنهما يلبسان أمرهما، وليس هو من أمر الإسلام. قال أحمد: العراف طرف من السحر، والساحر أخبث؛ لأنه شعبة من الكفر.

فصل
فأما المعزم الذي يعزم على المصروع، ويزعم أنه يجمع الجن، وأنها تطيعه والذي يحل السحر، فذكرهما أصحابنا من السحرة الذين ذكرنا حكمهم. وقد توقف

(4/65)


أحمد لما سئل عن رجل، يزعم أنه يحل السحر فقال: قد رخص فيه بعض الناس. قيل: إنه يجعل في الطنجير ماء، ويغيب فيه، ويفعل كذا، فنفض يده كالمنكر، وقال: ما أدري ما هذا؟ قيل له: فترى أن يؤتى مثل هذا يحل السحر؟ قال: ما أدري ما هذا.
وسئل ابن سيرين عن امرأة تعذبها السحرة، فقال رجل: أخط خطا عليها، وأغرز السكين عند مجمع الخط، وأقرأ عليها القرآن، فقال محمد: ما أعلم بقراءة القرآن بأساً على حال، ولا أدري ما الخط والسكين. وسئل سعيد بن المسيب عن رجل يؤخذ عن امرأته يلتمس من يداويه. قال: إنما نهى الله تعالى عما يضر، ولم ينه عما ينفع. إن استطعت أن تنفع أخاك، فافعل. وهذا يدل على أن مثل هذا، لا يكفر صاحبه، ولا يقتل.

(4/66)