الكافي
في فقه الإمام أحمد [كتاب الحدود]
[باب المحارب]
كتاب الحدود باب حد المحارب وهو الذي
يقطع الطريق، ويخيف السبيل، وعلى الإمام طلبه؛ ليدفع عن الناس شره، فإن ظفر
به قبل أن يقتل، ويأخذ مالاً، ففيه روايتان:
إحداهما: ينفيه، فلا يتركه يأوي بلداً.
والثانية: يعزره بما يرى من حبس، وغيره.
ووجه الرواية الأولى قول الله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ}
[المائدة: 33] وظاهر اللفظ وجوب نفيهم، ووجه الثانية: أنه قد قيل: إن نفيهم
طلبهم لتعزيرهم، وإقامة حد الله تعالى فيهم. فروي عن ابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: نفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى يؤخذوا، فتقام
عليهم الحدود، ولأن نفيهم من البلد يفضي إلى إغرائهم بما كانوا فيه.
وإن شهر السلاح في الصحراء، فقتل وأخذ مالاً، قتل حتماً وإن عفا ولي الدم؛
لأنه حد، فلا يدخله عفو، كسائر الحدود، ثم يصلب قدر ما يشتهر أمره، ولا
توقيت فيه؛ لأن التوقيت طريقه التوقيف، ولا توقيف فيه، ولا يصلب قبل القتل،
لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قتلتم فأحسنوا
القتلة» ثم ينزل ويصلى عليه، ويدفن. وإن مات قبل قتله، لم يصلب؛ لأنه تابع
للقتل، فسقط بفواته. وإن قتل، ولم يأخذ مالاً قتل حتماً، ولم يصلب. وإن أخذ
المال ولم يقتل، قطعت يده اليمنى، ورجله اليسرى في مقام واحد، ثم حسمتا،
وخلي؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] .
(4/67)
وروى أبو داود بإسناده عن ابن عباس قال:
«وادع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بردة الأسلمي،
فجاء أناس يريدون الإسلام، فقطع عليهم أصحابه، فنزل جبريل - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - بالحد فيهم: أن من قتل وأخذ المال، قتل وصلب. ومن قتل ولم
يأخذ المال، قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل، قطعت يده ورجله من خلاف» ، وهذا
نص.
وحكم الردء حكم المباشر في جميع هذه الجنايات؛ لأنها محاربة، فاستوى فيها
الردء والمباشر، كالجهاد يستوي الردء والمباشر في استحقاق الغنيمة. وذكر
القاضي فيمن قتل وأخذ المال رواية أخرى: أنه يقطع، ثم يقتل؛ لأن القتل جزاء
القتل، والقطع جزاء أخذ المال مفرداً، وإذا اجتمعا، وجب حدهما، كالزنا
والسرقة. والأول أولى؛ لأنه متى كان في الحدود قتل، سقط ما دونه، كالرجم في
الزنا، والقطع في السرقة.
فصل
ومن شرط المحارب أن يكون مع سلاح، أو يقاتل بسلاح؛ لأن من لا سلاح له لا
منعة له. وإن قاتل بالعصا والحجارة، فهو محارب؛ لأنه سلاح يأتي على النفس
ولأطرف، أشبه الحديد، وهل من شروطه أن يكون في الصحراء؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يكون محارباً حتى يشهر السلاح في الصحراء، فإن شهره في مصر أو
قرية، وسعى فيها بالفساد، فليس بمحارب، هذا ظاهر كلام الخرقي؛ لأن الواجب
على المحاربين يسمى: حد قطاع الطريق، وقطع الطريق إنما يكون في الصحراء،
ولأن المصر يلحق فيه الغوث غالباً، فتذهب شوكتهم، ويكونون مختلسين. وقال
جماعة من أصحابنا: هم محاربون حيث كانوا، لعموم الآية فيهم، ولأن ضررهم في
المصر أعظم، فكانوا بالحد أولى. وقال القاضي: إن كبسوا داراً في مصر بحيث
يلحقهم الغوث عادة لم يكونوا محاربين. وإن حضروا قرية، أو بلداً؛ بحيث لا
يلحقهم الغوث، لكثرة العدد، أو بعد البلد من الغوث، فهم قطاع طريق؛ لأن
الغوث لا يلحقهم عادة فأشبهوا من في الصحراء.
فصل
ويشترط لتحتم القتل أن يقتل قاصداً لأخذ المال، فإن قتل لغير ذلك فليس
(4/68)
بمحارب، وحكمه حكم القاتل في المصر. وإن
قتل المحارب من لا يكافئه، كحر قتل عبداً، أو مسلم قتل ذمياً، ففيه
روايتان:
إحداهما: يقتل ويصلب؛ لعموم ما روينا؛ ولأنه حد لله تعالى، فلم تعتبر فيه
المكافأة. كقطع السارق.
والثانية: لا تقتل به؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«لا يقتل مسلم بكافر» . وإن جرح إنساناً جرحاً يجب في مثله القصاص، وجب
القصاص. وهل يتحتم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتحتم؛ لأنه نوع قود، أشبه القود في النفس.
والثاني: لا يتحتم؛ لأن الله تعالى ذكر حدود المحاربين، فذكر القتل والصلب،
والقطع، ولم يذكر الجرح، فيكون حكمه حكم الجرح في غير المحاربة.
فصل
ويشترط لوجوب القطع في المحاربة ثلاثة أشياء:
أحدها: أن يأخذ المال مجاهرة وقهراً، فإن أخذه مختفياً فهو سارق. وإن
اختطفه وهرب به، فهو منتهب، لا قطع عليه؛ لأن عادة قطاع الطريق القهر،
فيعتبر ذلك فيهم.
والثاني: أن يأخذ ما يقطع السارق في مثله؛ لأنه قطع يجب بأخذ المال، فاعتبر
النصاب، كقطع السارق. فإن أخذ جماعتهم ما يجب به القطع، قطعوا كالمشتركين
في السرقة.
والثالث: أن يأخذ من حرز، فإن أخذ منفرداً عن القافلة، أو من جمال ترك
القائد تعهدها، لم يقطع لما ذكرناه.
فصل
وإذا كان المحارب معدوم اليد اليمنى، والرجل اليسرى، وأخذ المال، انبنى ذلك
على الروايتين في السارق، إن قلنا: يؤتى على أطرافه كلها، قطعت هنا يده
اليسرى، ورجله اليمنى، وإن قلنا: لا يؤتى عليها، سقط القطع. وإن وجد أحد
طرفيه دون الآخر، قطع الموجود حسب؛ لأن ما يتعلق به الفرض معدوم، فسقط،
كغسلها في الوضوء. وإن قطع القاطع يد المحارب اليسرى، ورجله اليمنى مع وجود
الطرفين الآخرين، أساء، وأجزأ؛ لأننا لو أوجبنا قطع الطرفين الآخرين، أفضى
إلى قطع أربعته بمحاربة واحدة.
(4/69)
فصل
وإن تاب المحارب قبل القدرة عليه، سقط عنه حد المحاربة؛ لقول الله تعالى:
{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] . فيسقط عنه
انحتام القتل، والصلب، والقطع، والنفي، ولا يسقط حق الآدمي من القصاص،
وغرامة المال، وحد القذف؛ لأنه حق للآدمي، فلم يسقط بالتوبة، كالضمان. وإن
تاب بعد القدرة عليه، لم يسقط عنه شيء مما وجب عليه؛ لأن الله تعالى شرطه
في المغفرة لهم، كون التوبة قبل القدرة، فيدل على عدمها بعدها، ولأن إسقاطه
بالتوبة بعد القدرة يفضي إلى إسقاطه بالكلية؛ لأنه يخبر بتوبته متى قدرنا
عليه، ولا نأمن أن يكون تقية، فلا يسقط ما تيقنا وجوبه بالشك.
فصل
ومن وجب عليه حد لله تعالى فتاب، فهل يسقط عنه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يسقط؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ
وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ} [المائدة: 39] وقال في الزانيين: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16] ولأنه حد فسقط بالتوبة، كحد المحارب.
والثانية: لا يسقط؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وقال
سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
[المائدة: 38] ؛ ولأن ماعزاً والغامدية جاءا مقرين تائبين. فأقام النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهما الحد.
قال أصحابنا: ولا يعتبر إصلاح العمل مع التوبة في إسقاط الحد؛ لقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التوبة تجب ما قبلها» ولأنها توبة
من ذنب، فلم يعتبر في حكمها إصلاح العمل، كالإسلام. ويحتمل أن يعتبر إصلاح
العمل مدة يتبين فيها أمره؛ لقول الله: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ
وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] . وقال: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا} [النساء:
16] علق الحكم على شرطين، فلا يثبت بدونهما، ولأنه لا يؤمن أن يكون إظهار
التوبة تقية، فلا يتحقق وجودها، فلا يثبت الحكم بها بمجردها، كتوبة المحارب
بعد القدرة.
(4/70)
[باب حد السرقة]
وحد السرقة: قطع اليد اليمنى؛ لقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ويعتبر في وجوبه
أمور تسعة:
أحدها: السرقة: وهو أخذ المال مختفياً، فإن اختطفه، أو اختلسه، فلا قطع
عليه؛ لما روى جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «ليس على المنتهب قطع» وروي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه
قال: «ليس على الخائن، ولا المختلس قطع.» رواهما أبو داود، ولأن الله تعالى
إنما أوجب القطع على السارق، وليس هؤلاء بسراق. وفي جاحد العارية روايتان:
إحداهما: لا قطع عليه؛ لأنه خائن، فلا يقطع للخبر، ولأنه ليس بسارق، فلا
يقطع، كجاحد الوديعة. وهذا اختيار أبي إسحاق بن شاقلا، وأبي الخطاب.
والثانية: يجب عليه القطع؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -:
«أن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقطع يدها.» متفق عليه.
فصل
الثاني: أن يكون مكلفاً، فلا يجب الحد على صبي، ولا مجنون؛ لقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى
يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» ولأنه إذا سقط عنهما
التكليف في العبادات، والإثم في المعاصي، فالحد المبني على الدرء والإسقاط
أولى. ولا قطع على مكره؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ويخرج في قطع السكران
وجهان، بناء على الروايتين في طلاقه. وقال القاضي: حكمه حكم الصاحي فيما
يجب عليه من العقوبات. ويجب القطع على السارق من أهل الذمة، والمستأمنين،
ويقطع المسلم بسرقة مالهما؛ لأنهم التزموا حكم الإسلام، فأشبهوا المسلم مع
المسلم.
فصل
الثالث: أن يكون المسروق نصاباً، فلا قطع فيما دونه؛ لقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً» متفق
عليه.
(4/71)
وفي قدر النصاب روايتان:
إحداهما: ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الورق، أو ما قيمته ذلك من
غيرهما؛ لما روت عائشة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً» . وروى ابن عمر «أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم.» متفق
عليهما. وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فما بلغ ثمن المجن، ففيه القطع»
وعنه: أن ما عدا الأثمان تعتبر قيمته بالدراهم خاصة؛ لهذا الخبر.
والثانية: الأصل الدراهم خاصة، ويقوم الذهب بها؛ لحديث ابن عمر، والأول
أولى؛ لخبر عائشة، ولأن ما كان فيه أحد النقدين أصلاً، كان الآخر فيه
أصلاً، كالديات، ونصب الزكوات. وسواء في هذا الصحاح، والمكسرة، والتبر،
والمضروب، للخبر. فإن اشترك اثنان في هتك حرز، وسرقة نصاب منه، فعليهما
القطع؛ لأنه قطع يجب على المنفرد، فوجب على المشتركين فيه، كالقصاص، ويحتمل
ألا يجب؛ لأن كل واحد لم يسرق نصاباً، فلا يجب عليه القطع، للخبر، وكما لو
انفرد بسرقته، فإن كان أحد الشريكين مما لا قطع عليه، كالأب والصبي، وكانت
سرقة الأجنبي البالغ، نصاباً، فالقطع واجب عليه؛ لأن المانع اختص بأحدهما،
فاختص السقوط به، كالقصاص، ويحتمل ألا يجب قطعه؛ لأن سرقتهما علة قطعهما،
وسرقة الأب لا تصلح علة للقطع، فلم يجب على واحد منهما. وإن كانت سرقة
الأجنبي، لم تبلغ نصاباً، لم يجب قطعه؛ لأن ما سرقه لم يجب به القطع، ولا
يمكن بناء فعله على فعل شريكه؛ لأن فعل الشريك لا يوجب، ويحتمل أن يجب
قطعه، كما في القصاص. ومن هتك حرزاً، فأخذ منه درهمين ثم عاد فسرق منه
درهماً في ليلة أخرى، أو وقتين متباعدين، فلا قطع عليه؛ لأن كل سرقة منهما
منفردة، لا تبلغ نصاباً، وإن تقاربا، وجب القطع؛ لأنهما سرقة واحدة من حرز
هتكه، فأشبه ما لو أخرجهما معاً. وإذا بني فعل أحد الشريكين على فعل شريكه،
فعلى فعل نفسه أولى، ومتى شككنا في المسروق، هل يبلغ نصاباً أو لا؟ لم يجب
القطع؛ لأن الأصل عدمه، فلا يجب الشك.
فصل
والشرط الرابع: أن يكون المسروق مما يتمول في العادة؛ لأن القطع شرع لصيانة
الأموال، فلا يجب في غيرها، وسواء في ذلك ما يبقى زمناً كالثياب، وما يفسده
طول بقائه، كالفاكهة، والأطعمة الرطبة، وما أصله الإباحة، كالصيود،
والفخار، والآجر، واللبن، والخشب؛ لأنه مال يتمول به عادة، فوجب القطع
بسرقته كالأثمان. فإن سرق حراً صغيراً، فلا قطع عليه؛ لأنه ليس بمال. وعنه:
يقطع. فإن قلنا: لا يقطع وكان
(4/72)
عليه حلي يبلغ نصاباً، ففيه وجهان:
أحدهما: يقطع؛ لأنه سرق نصاباً من المال.
والثاني: لا قطع عليه؛ لأن يد الصبي ثابتة على ما عليه، بدليل أن اللقيط
يحكم له بما عليه، فأشبه ما لو سرق جملاً، صاحبه راكب عليه. وإن سرق عبداً
صغيراً أو مجنوناً قطع؛ لأنه مال ممكن سرقته، وإن كان كبيراً عاقلاً، فلا
قطع عليه؛ لأن سرقته غير ممكنة، فإن قهره وأخذه، كان غاصباً، لا سارقاً،
إلا أن يكون نائماً، أو غريباً لا يميز بين سيده وغيره، فيقطع؛ لأن سرقته
ممكنة. فإن كانت أم ولد كذلك، ففي قطع سارقها وجهان:
أحدهما: يقطع؛ لأنها مضمونة بالقيمة، أشبهت القن.
والثاني: لا يقطع؛ لأن بيعها محرم، أشبهت الحرة، ويقطع سارق الوقف؛ لأنه
مملوك للموقوف عليه، ويحتمل أن لا يقطع؛ لأنه لا يحل بيعه، ولأنه غير مملوك
على إحدى الروايتين.
فإن سرق إناء يساوي نصاباً فيه خمر، أو ماء، ففيه وجهان:
أحدهما: يقطع؛ لأنه سرق نصاباً فلزمه القطع، كما لو كان فيه بول.
والثاني: لا يقطع؛ لأن الإناء يراد وعاء لما فيه، فصار تابعاً لما لا قطع
فيه، أشبه ثياب الحر إذا سرقه. وإن سرق آلة لهو، كالطنبور والمزمار وشبهه،
فلا قطع عليه؛ لأنه آلة معصية، فأشبه الخمر. وسواء بلغ قيمة خشبه مكسوراً
نصاباً، أو لم يبلغ؛ لأن معظم المقصود منه كونه آلة المعصية، فصار المباح
فيه تابعاً. وإن سرق إناء ذهب أو فضة تبلغ زنته نصاباً، قطع؛ لأن جوهره هو
المقصود، والصناعة مغمورة فيه، فصارت تابعة له، بخلاف التي قبلها. وإن سرق
صليباً، أو صنماً من ذهب أو فضة، فقال أبو الخطاب: فيه القطع، لما ذكرنا.
وقال القاضي: لا قطع فيه؛ لأنه مجمع على تحريمه، أشبه الطنبور.
فصل
وإن سرق مصحفاً، فقال أبو الخطاب: عليه القطع، للآية، ولأنه متقوم يبلغ
نصاباً، أشبه كتب الفقه. وقال أبو بكر والقاضي: لا قطع فيه؛ لأن المقصود
منه كلام الله تعالى. فإن كان محلى بحلية تبلغ نصاباً، ففيه وجهان:
أحدهما: يقطع، وهو قول القاضي؛ لأنه سرق نصاباً يجب به القطع منفرداً، فيجب
به مع غيره، كما لو كانت الحلية منفصلة عنه.
(4/73)
والثاني: لا قطع فيها؛ لأنها تابعة لما لا
قطع فيه، أشبه ثياب الحر، ويقطع بسرقة سائر الكتب المتقومة المباحة؛ لأنه
يجوز بيعها، أشبهت الثياب. فإن كانت محرمة، ككتب البدع، والشعر المحرم، فلا
قطع فيها؛ لأنها محرمة، أشبهت المزامير، ولا يقطع بسرقة الماء؛ لأنه لا
يتمول عادة، ولا بسرقة السرجين، وإن كان طاهراً لذلك، ولأنه يوجد كثيراً
مباحاً، فلا تكثر تعلق الرغبات به، فلا حاجة إلى الزجر عنه. وإن سرق كلأً،
أو ملحاً، فقال أبو بكر: لا قطع عليه؛ لأنه مما ورد الشرع باشتراك الناس
فيه، أشبه الماء. وقال أبو إسحاق بن شاقلا: يقطع؛ لأنه يتمول عادة أشبه
الصيد، والثلج مثله. وقال القاضي: هو كالماء؛ لأنه ماء جامد.
فصل
الشرط الخامس: أن يكون المسروق مما لا شبهة للسارق فيه؛ لأن الحدود تدرأ
بالشبهات، فلا يقطع الوالد بسرقة مال ولده وإن سفل؛ لقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» رواه أبو داود. والأم
كالأب في هذا؛ لأنها أحد الأبوين أشبهت الأب ولا يقطع الابن بسرقة مال
والده وإن علا في إحدى الروايتين؛ لأن بينهما قرابة تمنع شهادة أحدهما
لصاحبه، أشبهت الأب. ويقطع سائر الأقارب بسرقة مال أقاربهم، لعدم ذلك فيهم،
ولا يقطع العبد بسرقة مال سيده؛ لما روي أن عبد الله بن عمرو بن الحضرمي
قال لعمر: إن عبدي سرق مرآة امرأتي، ثمنها ستون درهماً، فقال: أرسله، لا
قطع عليه، غلامكم أخذ متاعكم؛ ولأن يده كيد مولاه، بدليل أنه لو كان في يده
مال، فتنازعه السيد وأجنبي، كان لسيده. وإن سرق أحد الزوجين من مال الآخر
الذي لم يحرزه عنه، لم يقطع؛ لأنه غير محرز عنه. وإن سرق مما أحرزه عنه
ففيه روايتان:
إحداهما: لا قطع عليه؛ لقول عمر: غلامكم أخذ متاعكم؛ ولأن أحدهما يرث صاحبه
من غير حجب، وترد شهادته له، أشبه الولد، وهذا اختيار الخرقي وأبي بكر.
والأخرى: يقطع، لعموم الآية، ولأنه سرق مالاً محرزاً عنه، لا شبهة له فيه،
أشبه الأجنبي، ولا قطع على من سرق مالاً له فيه شركة؛ لأن له فيه حقاً،
فكان ذلك شبهة، ولا قطع على مسلم بالسرقة من بيت المال لذلك، ولأن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لابن مسعود حين سأله عمن سرق من بيت المال:
أرسله، فما من أحد إلا وله في هذا المال حق. وإن سرق منه ذمي قطع؛ لأنه لا
حق له فيه.
ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق، أو لولده، أو لسيده، لم يقطع لذلك. وإن
لم يكن كذلك، فسرق منها بعد إخراج الخمس، قطع؛ لأنه لا حق له فيها. وأن سرق
قبل إخراج الخمس، لم يقطع؛ لأن له حقاً في خمس الخمس. وإن سرق مسكين
(4/74)
من وقف المساكين لم يقطع؛ لأن له فيه حقاً،
وإن سرق منه غني، قطع؛ لأنه لا حق له فيه، وإن سرق حصير مسجد، أو قنديله،
أو نحوه مما جعل لنفع المصلين، لم يقطع؛ لأن له فيه حقاً. وإن سرق بابه، أو
تأزيره، أو شيئاً من خشب سقفه، ففيه وجهان:
أحدهما: يقطع؛ لأنه لا حق له فيه وهو محرز بحرز مثله، أشبه سارق ذلك من بيت
آدمي.
والثاني: لا قطع عليه؛ لأن المسجد كله إنما يراد لنفع المصلين، ولأنه ليس
له مالك من المخلوقين. والكعبة وغيرها في هذا سواء، ولا يقطع بسرقة ستارتها
الخارجة منها؛ لأنها غير محرزة. وقال القاضي: إن كانت مخيطة عليها، قطع
سارقها لأن هذا حرز مثلها.
فصل
ولا قطع على الزوجة إذا منعت نفقتها فأخذت بقدرها؛ لقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ولا على
الضيف إذا منع قراه، فأخذ بقدره؛ لأن له حقاً. وإن سرق غير ذلك من البيت
الذي هو فيه، لم يقطع؛ لأنه غير محرز عنه، وإن كان محرزاً عنه، فعليه
القطع، لعدم الشبهة. ولا قطع على المضطر إذا سرق ما يأكله إذا لم يقدر على
ذلك إلا بالسرقة؛ لأنه فعل ما له فعله. قال أحمد: لا قطع في المجاعة؛ لأن
عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا قطع في عام سنة. قيل لأحمد. تقول
به؟ قال: أي لعمري لا أقطعه إذا حملته الحاجة والناس في شدة ومجاعة. ولا
قطع على الغريم إذا جحده غريمه، أو منعه ولم يقدر على استيفاء دينه، فأخذ
بقدره في أحد الوجهين، وهو اختيار أبي الخطاب؛ لأن طائفة من أهل العلم
أباحت له ذلك، فيكون شبهة. وفي الآخر عليه القطع، وهو قول القاضي؛ لأنه ليس
له الأخذ. فإن كان غريمه باذلاً له، قطع؛ لأنه لا شبهة له في السرقة،
لإمكان التوصل إلى أخذه. وإن سرق المسروق منه مال السارق، والمغصوب منه مال
الغاصب من حرز فيه ماله، ففيه وجهان:
أحدهما: لا قطع عليه؛ لأنه هتك حرزاً له هتكه، لأخذ ماله.
والثاني: يقطع؛ لأنه لما أخذ غير ماله، علم أنه قصد سرقة مال غيره. وإن سرق
ماله من حرز لا مال له فيه، فحكمه حكم السارق من غريمه، وإن أحرز المغصوب
أو المسروق، فسرقه أجنبي، لم يقطع؛ لأنه حرز لم يرضه مالكه. وإن غصب داراً،
فأحرز
(4/75)
فيها متاعه لم يقطع سارقه؛ لأنه لا حكم
لحرزه حيث كان متعدياً به ظالماً فيه. وإن سرق المعير من الدار المستعارة
أو المؤجر من الدار المستأجرة شيئاً، قطع؛ لأنه محرز عنه فأشبه الأجنبي.
فصل
السادس: أن يسرق من حرز؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رجلاً من
مزينة سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الثمار فقال: ما
أخذ في أكمامه فاحتمل ففيه قيمته ومثله معه، وما كان في الجرين ففيه القطع
إذا بلغ ثمن المجن» رواه أبو داود.
ويعتبر الحرز بما يتعارفه الناس، فما عدوه حرزاً، فهو حرز، وما لا فلا؛ لأن
الشرع لما اعتبر الحرز، ولم يبينه، علمنا أنه رده إلى العرف، كالقبض،
والتفرق. وإحياء الموات. هذا ظاهر قول أصحابنا، وإليه ذهب ابن حامد،
والقاضي. وذكر أبو بكر كلاماً يدل على أن الإحراز لا يختلف، فقال: إذا أفرد
الشيء في الملك، فهو محرز، والعمل على الأول. فحرز الأثمان، والجواهر،
ونحوها في الخانات الحريزة. والدور في العمران دونها الأغلاق والأقفال، أو
حافظ مستيقظ، أو حمل صاحبها لها معه على ما جرت به العادة في جيبه، أو كمه،
أو وسطه، أو معضدته ونحن ذلك. ونقل حنبل عن أحمد في الذي يأخذ من جيب
الرجل، أو كمه: لا قطع عليه، وهذا محمول على من اختلس دون من سرق؛ لأنه قد
بينه في رواية ابن منصور، فقال: الطرار يقطع إذا كان يطر سراً.
وإن اختلس، لم يقطع، فأما الجواسق في البساتين، والخانات في البرية، فإن
كانت مغلقة وفيها حافظ، فهي حرز، نائماً كان أو يقظان، وإن كانت مفتوحة،
فلا تكون حرزاً إلا أن يكون الحافظ يقظان. وإن لم يكن فيها حافظ، فليست
حرزاً بحال؛ لأن المال لا يحرز فيها من غير حافظ.
والخيمة والخركاه المنصوبة، كالجواسق فيما ذكرنا. ويقطع سارقها متى كان
فيها حافظ. وإن كان نائماً؛ لأنها تحرز بهذا، وحرز متاع الباعة من
العطارين، وغيرهم بالدكاكين في الأسواق وراء الأغلاق والأقفال، وإن كانت
مفتوحة، فبحافظ يقظان.
وحرز قدور الباقلا في الدكاكين، وشرائح القصب، وما جرت العادة بإحرازها به.
وحرز
(4/76)
باب الدار والدكان نصبه في موضعه. وحرز
حلقة الباب تسميرها فيه وحرز آجر الحائط وحجارته كونه مبنياً في الحائط.
وحرز الخشب والحطب بالحظائر، وتغيبه بعضه على بعض، مقيد فوقه بحيث يعسر أخذ
شيء منه. وإن كان في فندق مغلق، أو فيه حافظ، فهو محرز، وإن لم يقيد. وحرز
متاع الباعة وأشباههم كونه بين أيديهم؛ لأنه محفوظ بذلك، فإن نام عنه أو
اشتغل، أو جعله خلفه بحيث تناله اليد، خرج عن الحرز؛ لأنه غير محفوظ. وإن
نام إنسان على ثوبه، أو متاعه، فقد أحرزه؛ لما «روى صفوان بن أمية أنه نام
في المسجد، وتوسد رداءه، فأخذ من تحت رأسه، فجاء بسارقه إلى النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر به أن يقطع، فقال صفوان: يا رسول الله،
لم أرد هذا، ردائي عليه صدقة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: فهلا قبل أن تأتيني به» رواه ابن ماجه. فإن تدحرج عنه، خرج من
الحرز.
فصل
وحرز المواشي الراعية بنظر الراعي إليها، فما استتر عنه بحائل، أو نوم
الراعي، خرج عن الحرز؛ لأنه غير محفوظ، وحرز البارك من الإبل المعلقة
بالحافظ، نائماً كان أو يقظان؛ لأن العادة أن صاحبها يعقلها إذا نام، وإذا
لم تكن معقلة فحرزها بحافظ يقظان، لما ذكرنا. وحرز الحمولة بسائق يراها، أو
قائد يكثر الالتفات إليها، ويراها إذا التفت؛ لأنها لا تنحفظ إلا بذلك.
فصل
ومن ترك ثيابه في الحمام لا حافظ لها، فليست محرزة. وإن استحفظها إنساناً،
فحفظها، فعن أحمد أنها غير محرزة أيضاً، إلا أن يتوسدها، أو يجلس عليها؛
لأن الحمام مستطرق، وقال القاضي في موضع: يخرج في المسألة روايتان، وفي
موضع آخر: تصير محرزة بذلك، كالقماش بين يدي الباعة. وإن نام الحافظ أو
اشتغل، فعليه الضمان، ولا قطع على السارق؛ لأنها خرجت عن الحرز. وإن لم
يفرط في الحفظ، فلا ضمان عليه؛ لأنه مؤتمن.
فصل
وحرز الكفن كونه على الميت في القبر، فمن نبشه وسرقه، قطع؛ لأنه سارق،
بدليل قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " سارق أمواتنا، كسارق
أحيائنا "؛ ولأن القبر حرز الكفن؛ لأنه يوضع فيه عادة، ولا يعد واضعه
مفرطاً، ولا مضيعاً وقد سرق منه، وما زاد
(4/77)
على الكفن المشروع، كاللفافة الرابعة، لم
يكن القبر حرزاً له؛ لأن تركه فيه تضييع، فأشبه الكيس المدفون معه. وإن أكل
الضبع الميت وبقي الكفن، فلا قطع على سارقه؛ لأنه غير محرز، ويكون للورثة؛
لأن لهم ما فضل عن حاجته من ماله.
فصل
السابع: أن يخرجه من الحرز، سواء أخرجه بيده، أو بفيه، أو رماه إلى خارج،
أو اجتذبه بمحجن، أو بيده، أو تركه على ظهر بهيمة وساقها، أو على ماء جار،
أو في مهب ريح فأطارته، أو على ماء راكد وحركه، أو فجره فخرج به، أو أمر
صبياً مميزاً فأخرجه، أو فتح طاقاً فانهال الطعام إليه، أو بط جيبه إنسان،
أو كمه فسقط المال، فأخذه، فعليه القطع في هذا كله؛ لأنه بسبب فعله، فأشبه
ما أخرجه بيده، فإن جمعه في الحرز ثم تركه ومضى، أو أخذ منه، أو تركه في
ماء راكد، ففجره غيره فخرج به، أو أخرج النباش الكفن من اللحد إلى القبر
فتركه فيه، أو أتلف المتاع في الحرز، لم يقطع؛ لأنه لم يسرق. وإن ترك
المتاع على دابة، فخرجت به بنفسها، أو في ماء راكد فانفجر، فخرج به، أو على
حائط في غير مهب ريح، فهبت ريح فأطارته، ففيه وجهان:
أحدهما: عليه القطع؛ لأن فعله سبب خروجه، أشبه ما لو ساق البهيمة.
والثاني: لا قطع عليه؛ لأن ذلك لم يكن آلة للإخراج وإنما خرج بسبب حادث،
أشبه ما لو فجر الماء آدمي آخر، أو ساق البهيمة غيره. وإن أخرجه من الحرز،
فألقاه خارج الحرز، أو رده إلى الحرز لخوف، أو غيره، فعليه القطع؛ لأنه وجب
بإخراجه. وإن أخرج خشبة، فألقاها ومنها شيء في الحرز، لم يقطع؛ لأن بعضها
لا ينفرد عن البعض، ولذلك لو أمسك عمامة، وطرفها في يد صاحبها، لم يضمنها.
وإن أخرج المتاع من البيت إلى صحن الدار، وكان البيت مغلقاً، ففتحه أو
نقبه، قطع؛ لأنه أخرج المتاع من الحرز، وإن لم يكن كذلك، فلا قطع عليه؛
لأنه لم يخرجه من الحرز.
فصل
وإن دخل الحرز، فأكل طعاماً فيه وخرج منه، لم يقطع؛ لأنه أتلفه، ولم يخرجه.
وإن ابتلع ديناراً فلم يخرج منه، فلا قطع عليه كذلك. وإن خرج منه، ففيه
وجهان:
أحدهما: يقطع؛ لأنه أخرجه في وعاء، أشبه ما لو أخرجه في كمه.
والثاني: لا قطع عليه؛ لأنه ضمنه بالبلع. فكان ذلك إتلافاً.
وإن دخل، فشرب لبن ماشية، فلا قطع عليه؛ لأنه أتلفه. وإن احتلب نصاباً
(4/78)
وأخرجه، قطع؛ لأنه محرز بحرز الماشية. وإن
ذبح الشاة وشق الثوب، ثم أخرجه وقيمته بعد ذلك نصاباً، قطع؛ لأنه أخرج
نصاباً من الحرز، وإلا فلا قطع فيه؛ لأنه لم يخرج نصاباً. وإن تطيب بطيب في
الحرز، ثم خرج وعليه من عين الطيب، ما إذا لو جمع بلغ نصاباً، ففيه وجهان:
أحدهما: يقطع؛ لأنه أخرج من الحرز نصاباً.
والثاني: لا قطع عليه؛ لأنه أتلفه بالاستعمال.
وإن لم يبق من عينه نصاب، لم يقطع وجهاً واحداً؛ لأنه لم يخرج نصاباً، أشبه
ما لو أكله.
فصل
وإن أخرج نصاباً، فنقصت قيمته عن النصاب قبل القطع، قطع؛ لأنه وجد شرط
القطع فيه وقت الوجوب، فلم يسقط القطع بفواته بعد ذلك، كالحرز إذا تغير،
وإن ملك المسروق بهبة أو غيرها، لم يسقط القطع؛ لحديث سارق رداء صفوان؛
ولأن ملكه لمحل الجناية لا يسقط الحد، كما لو زنى بأمة ثم اشتراها.
فصل
وإن نقب الحرز، ثم دخل آخر، فأخرج المتاع، فلا قطع عليهما؛ لأن الأول لم
يسرق.
والثاني: سرق من حرز هتكه غيره. ويحتمل أن يقطعا إذا كانا شريكين. وإن نقبا
معاً، ودخل أحدهما فأخرج المتاع، قطع الداخل؛ لأنه نقب وسرق، ولم يقطع
الآخر؛ لأنه لم يسرق. وكذلك إذا رمى المتاع إلى خارج الحرز، فأخذه الآخر،
أو خرج هو، فأخذه. وإن نقبا ودخلا، فأخرج أحدهما المتاع، فالقطع عليهما؛
لأن المخرج أخرجه بقوة صاحبه ومعونته، وإن دخل أحدهما، فقرب المتاع من
النقب، فمد الخارج يده فأخرجه، أو شده الداخل بحبل، فمده الخارج، فأخرجه،
قطعا، لاشتراكهما في هتك الحرز، وإخراج المتاع.
فصل
الثامن: أن تثبت السرقة عند الحاكم؛ لأنه المتولي لاستيفاء الحدود، فلا
يجوز له استيفاء حد قبل ثبوته، ولا يثبت إلا ببينة، أو إقرار. فأما البينة
فيشترط أن يكون فيها شاهدين ذكرين حرين مسلمين عدلين، فإذا وجب القطع
بشهادتهما، ثم غابا، أو ماتا، لم يسقط القطع على ما سنذكره إن شاء الله
تعالى. وأما الإقرار، فيعتبر أن يقر مرتين، لما روى أبو أمية المخزومي: «أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بلص قد اعترف، فقال له:
ما إخالك
(4/79)
سرقت؟ قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو
ثلاثاً، فأمر به فقطع.» رواه أبو داود. ولو وجب القطع بأول مرة، لم يؤخره،
وعن القاسم بن عبد الرحمن: أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتاه رجل،
فقال: إني سرقت، فطرده، ثم عاد مرة أخرى، فقال: إني سرقت، فأمر به علي أن
يقطع، وقال: شهدت على نفسك مرتين، وقطع يده. رواه الجوزجاني، ولأنه حد
يتضمن إتلافاً، فاعتبر في إقراره التكرار، كحد الزنا.
فصل
قال أحمد: لا بأس بتلقين السارق ليرجع عن إقراره؛ لقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمقر بالسرقة: «ما إخالك سرقت» وطرد علي له.
وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي برجل فقال: أسرقت؟ قل: لا،
فقال: لا، فتركه.
ولا بأس بالشفاعة في السارق قبل أن يبلغ الإمام؛ لما روي عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما
بلغني من حد فقد وجب» وقال الزبير بن العوام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في
الشفاعة في الحد: يفعل ذلك دون السلطان، فإذا بلغ الإمام، فلا أعفاه الله
إن أعفاه. وإذا بلغ الإمام، حرمت الشفاعة فيه كذلك؛ لما روي: أن «أسامة بن
زيد شفع في المخزومية التي سرقت، فغضب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وقال: أتشفع في حد من حدود الله» . وقال ابن عمر: من حالت
شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله في حكمه.
فصل
التاسع: أن يأتي مالك المسروق ويدعيه سواء ثبتت سرقته ببينة، أو إقرار.
وقال أبو بكر: ليس بشرط؛ لأن موجب الحد قد ثبت، فوجب من غير طلب، كالزنا.
والأول: أولى؛ لأن المال يباح بالبذل والإباحة، فيحتمل أن مالكه أباحه
إياه، أو أذن له في دخول حرزه، أو وقفه على طائفة السارق منهم، فاعتبر
الطلب لنفي هذا الاحتمال، بخلاف الزنا. فإن حضر المالك وطالب، لكنه خالف
المقر، فقال: لم تسرق مني، لكن غصبتني، أو انتهبت مني، أو خنتني، أو جحدت
وديعتي، لم يقطع؛ لأنه لم يوافق دعوى المدعي. وإن كان النصاب لاثنين،
فخالفه أحدهما في إقراره، لم يقطع؛ لأنه لم يوافق على سرقة النصاب، وإن كان
لمن وافقه نصاب قطع، لموافقته على
(4/80)
سرقة نصاب. وإن كان المالك غائباً وله وكيل
حاضر، قام مقامه في الطلب. وإن لم يحضر له وكيل، فقال القاضي: يحبس حتى
يحضر، وإن كانت العين في يده، حفظها الحاكم للغائب.
فصل
وإن ثبتت السرقة ببينة، فأنكر السارق، لم يلتفت إلى إنكاره؛ لأن الإنكار
شرط سماع البينة في مواضع فلم يقدح فيها. وإن قال: إنما أخذت ملكي، أو لي
فيه ملك، أو دخلت بإذن المالك، فالقول قول المسروق منه مع يمينه. وإن نكل،
قضي عليه، وإن حلف، ففي القطع ثلاث روايات:
إحداهن: لا يقطع؛ لأنه يحتمل صدقه، ولذلك أحلفنا خصمه، وهذا شبهة يندرئ بها
الحد.
والثانية: يقطع، لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى إسقاط القطع، فتفوت مصلحته.
والثالثة: إن كان معروفاً بالسرقة، لم تقبل دعواه؛ لأننا نعلم كذبه. وإن لم
يعرف بالسرقة، قبلت دعواه، لاحتمال صدقه، فيصير ذلك شبهة، والأول أولى. فإن
أقر العبد بسرقة مال في يده، وادعى ذلك المسروق منه، وكذبه السيد، وقال: بل
هذه الدراهم لي، قطع العبد، وكانت الدراهم للسيد، نص عليه أحمد؛ لأن الموجب
للقطع الإقرار مع مطالبة المدعي، وقد وجد ذلك، وتكون الدراهم للسيد؛ لأن ما
في يد العبد محكوم به لسيده؛ لأن يده كيده. ويحتمل ألا يجب القطع؛ لأن
المال محكوم به لسيده، فلا يجب القطع بأخذه، كما لو ثبت له ببينة، ولأنه لم
تثبت المطالبة من المالك، فيكون ذلك محكوماً به للسيد. وإن طالب المالك
وثبت القطع، ثم عفا عن المطالبة بعد ذلك، لم يسقط القطع، بدليل أن صفوان
عفا عن الطلب من سارق ردائه، فلم يدرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عنه القطع، ولأنه قد وجب، فلم يسقط، كما لو وهبه إياه. وإن
أكذب المدعي نفسه، وقال: لم يكن هذا المال لي، ولم يسرق مني شيئاً، أو أنا
أذنت له في أخذه، ونحو هذا، سقط القطع؛ لأنه رجع عن شرط الوجوب، فأشبه رجوع
البينة عن الشهادة، أو المقر عن الإقرار.
فصل
وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى من مفصل الكوع؛ لأن في قراءة عبد الله بن
مسعود: " فاقطعوا أيمانهما " ولما روي عن أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - أنهما قالا: إذا سرق السارق فاقطعوا يمينه من مفصل الكوع، ولا
مخالف لهما في الصحابة؛ ولأن البطش باليمنى وهو حاصل بالكف، وما زاد من
الذراع تابع، لهذا تجب الدية فيه
(4/81)
وحده، ويحسم موضع القطع، وهو: أن يغلى
الزيت غلياً جيداً، ثم تغمس فيه، لتحسم العروق، وينقطع الدم؛ لما روى أبو
هريرة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق
فقال: اذهبوا به، فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به فقطع وأتي به، فقال: تب
إلى الله تعالى فقال: تبت إلى الله. فقال: تاب الله عليك» .
ولا يجب الحسم؛ لأنه مداواة، فلم يجب على القاطع، كالمقتص، وثمن الزيت،
وأجرة القاطع من بيت المال؛ لأنه من المصالح، فإن لم يكن للسارق يد يمنى،
قطعت رجله اليسرى؛ لأنه معدوم اليمنى، فقطعت رجله اليسرى، كالسارق في المرة
الثانية. وإن كانت يده ناقصة الأصابع، قطعت؛ لأن اسم اليد يقع عليها. فإن
ذهبت الأصابع كلها، ففيه وجهان:
أحدهما: يقطع الكف؛ لأنه بعض ما يقطع في السرقة، فوجب قطعه، كما لو كان
عليه بعض الأصابع.
والثاني: لا يقطع؛ لأنه تجب فيه دية اليد، أشبه الذراع، وإن كانت اليمنى
شلاء، لم تقطع، نص عليه؛ لأنها ذاهبة النفع، فأشبه كفاً لا أصابع عليه،
وينتقل إلى الرجل. وعنه: يسأل أهل الطب، فإن قالوا: إنها إذا قطعت، رقأ
دمها، وانسدت عروقها، قطعت؛ لأن اسم اليد يقع عليها، فهي كالصحيحة. وإن
قالوا: لا يرقأ دمها، لم تقطع؛ لأن ذلك يؤدي إلى تلفه. ويعدل إلى الرجل.
وإن سرق وله يد صحيحة، فلم تقطع حتى ذهبت بآكلة، أو نحوها، سقط الحد؛ لأن
الحد تعلق بها، فسقط بذهابها، كما لو مات من عليه الحد.
فصل
فإن سرق ثانياً، قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وحسمت؛ لما روي عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن سرق، فاقطعوا يده، ثم إن
سرق فاقطعوا رجله» ؛ ولأنه في المحاربة تقطع يده اليمنى، ورجله اليسرى كذا
هاهنا، وإنما قطعت اليسرى للرفق به؛ لأنه يتمكن من المشي على خشبة. ولو
قطعت يمناه، لم يمكنه ذلك. وموضع القطع المفصل؛ لأنه يروى عن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنها أحد المقطوعين فتقطع من المفصل. كاليد.
فصل
فإن سرق ثالثة، ففيه روايتان:
إحداهما: يحبس، ولا يقطع غير يد ورجل؛ لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أنه
(4/82)
قال: إني لأستحيي من الله ألا أدع له يداً
يبطش بها، ولا رجلاً يمشي عليها؛ ولأن قطعها يفوت منفعة الحبس، فلم يشرع،
كالقتل.
والثانية: تقطع يده اليسرى، فإن عاد، فسرق مرة رابعة، قطعت رجله اليمنى؛
لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «من سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده،
ثم إن سرق فاقطعوا رجله» ؛ ولأنها يد تقطع قوداً، فجاز قطعها في السرقة
كاليمنى، ولأن أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قطعا اليد اليسرى
في المرة الثالثة. فإن سرق بعد قطع يديه ورجليه، حبس وعزر، وكذلك إن سرق
ثالثة على الرواية الأولى، فإنه يحبس ولا يقطع؛ لما روى سعيد بن منصور:
حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عبد الرحمن بن عائذ قال: أتي عمر بن الخطاب
برجل أقطع اليد والرجل قد سرق، فأمر به عمر أن تقطع رجله، فقال علي: إنما
قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] إلى آخر الآية. وقد قطعت يد هذا ورجله، فلا
ينبغي أن تقطع رجله فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها، إما أن تعزره، أو
تستودعه السجن، فاستودعه السجن.
فصل
فإن سرق ويده اليمنى صحيحة، واليسرى مقطوعة، أو شلاء، انبنى على الروايتين،
فإن قلنا: إن يسراه تقطع في المرة الثالثة، قطعت يمناه هاهنا؛ لأنها
موجودة، وسبب قطعها متحقق. وإن قلنا: لا تقطع يسراه، لم تقطع يمينه؛ لأن
قطعها يفوت منفعة الحبس، ويتركه لا يد له يبطش بها، وكذلك إن كانت يسراه
صحيحة فقطعت، أو شلت قبل يمينه، فالحكم على ما ذكرنا. وإن كانت اليد قد
قطعت أصابعها، أو معظمها، فهو كقطعها؛ لأنه يفوت منفعة البطش.
فصل
وإذا وجب قطع يمنيه، فقطع القاطع يساره، أساء، وأجزأ، ولا تقطع يمينه، لئلا
تقطع يداه بسرقة واحدة، ولأن قطعها يفوت منفعة البطش، ويتخرج على الرواية
التي تقول: تقطع أربعته، أن تقطع يمناه، كما لو قطعت يسراه عدواناً، فعلى
هذا إن كان السارق أخرجها عمداً عالماً أنها لا تجزئ، فلا ضمان على قاطعها؛
لأنه قطعها بإذنه. وإن أخرجها دهشة، أو ظناً أنها تجزئه، فعلى القاطع
ضمانها بالقصاص إن تعمد، وبالدية إن كان جاهلاً بالحال؛ لأنه قطع يداً
معصومة عمداً، فضمنها، كما لو قطع يد غير السارق.
(4/83)
فصل
ومتى تكررت منه السرقة ولم يقطع، أجزأ قطع يده عن جميعها. وذكر القاضي فيما
إذا طالب الجماعة متفرقين رواية أخرى: أنها لا تتداخل، والصحيح الأول ويقطع
للثانية؛ لأنها أسباب حد تكررت قبل استيفائه فيجزئ حد واحد، كسائر الحدود.
فأما إن قُطع بسرقة، ثم عاد فسرق، قُطع ثانية، سواء سرق العين التي قطع
بها، أو لا أو غيرها، من المسروق منه الأول أو من غيره؛ لأنه حد يجب بفعل
في عين، فكان تكرره في عين واحدة كتكرره في أعيان، كالزنا.
فصل
ويسن تعليق يد السارق بعد قطعها في عنقه؛ لما روى فضالة بن عبيد: «أن النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها
فعلقت في عنقه» رواه أبو داود. وفعل ذلك علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
بالذي قطعه؛ ولأنه أبلغ في الزجر. ولو قال السارق: أنا أقطع نفسي، لم
يُمَكَّن؛ لأنه حق عليه، فلم يُمَكَّن من استيفائه من نفسه، كالقصاص.
فصل
وإذا قطع، فإن كان المسروق قائماً، رد إلى مالكه؛ لأنه ملكه، فرد إليه، كما
قبل القطع. وإن كان تالفاً، فعلى السارق ضمانه؛ لأنه مال آدمي تلف تحت يد
عادية، فوجب ضمانه، كالذي تلف في يد الغاصب، ولأن الضمان يجب للآدمي، والحد
لحق الله تعالى، فوجبا جميعاً، كالدية، والكفارة في قتل الآدمي.
[باب حد الزنا]
الزنا حرام، وهو من الكبائر العظام، بدليل قول الله تعالى: {وَلا
تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء:
32] . «وروى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سألت النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله
نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت: ثم
أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك» . متفق عليه.
فصل
والزنا: هو الوطء في الفرج لا يملكه، ولا يجب الحد بغير ذلك، لما روى ابن
(4/84)
عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه قال لماعز: «لعلك قبلت، أو غمزت قال: لا. قال: أفنكتها لا
يكني. قال: نعم. قال: فعند ذلك رجمه» . رواه البخاري. وفي رواية عن أبي
هريرة قال: «أنكتها. قال: نعم، قال: حتى غاب ذاك منك في ذاك منها قال: نعم.
قال: كما يغيب المرود في المكحلة، والرشاء في البئر؟ قال: نعم» . رواه أبو
داود.
وأدناه أن تغيب الحشفة في الفرج؛ للخبر، ولأن أحكام الوطء تتعلق بذلك، لا
بما دونه، وسواء كان الفرج قبلاً، أو دبراً؛ لأن الدبر فرج مقصود، فتعلق
الحد بالإيلاج فيه كالقبل، ولأنه إذا وجب الحد بالوطء في القبل وهو مما
يستباح، فلأن يجب الوطء في الدبر الذي لا يستباح بحال أولى، ولو تلوط
بغلام، لزمه الحد كذلك، وفي حده روايتان:
إحداهما: يجب عليه حد الزنا، يرجم إن كان ثيباً، ويجلد إن كان بكراً؛ لأنه
زان، بدليل ما روى أبو موسى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: إذا أتى الرجلُ الرجلَ، فهما زانيان. وإذا أتت المرأة
المرأة فهما زانيتان» ولأنه حد يجب بالوطء، فاختلف فيه البكر والثيب،
كالزنا بالمرأة.
والثانية: حده القتل، بكراً كان أو ثيباً؛ لما روي عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط
فاقتلوا الفاعل والمفعول به» . رواه أبو داود. وفي لفظ: «فارجموا الأعلى
والأسفل» واحتج أحمد بعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يرى رجمه؛
ولأن الله تعالى عذب قوم لوط بالرجم، فينبغي أن يعاقب بمثل ذلك. وإن وطئ
الرجل امرأة ميتة، ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه الحد؛ لأنه إيلاج في فرج محرم لا شبهة له فيه، أشبه الحية.
والثاني: لا يجب؛ لأنه لا يقصد، فلا حاجة إلى الزجر عنه.
وإن وطئ بهيمة ففيه روايتان:
إحداهما: يُحَدّ؛ لما روى ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه» رواه أبو داود. ولما
ذكرنا فيما تقدم.
(4/85)
والثانية: لا يحد، ولكن يعزر؛ لأن الحد يجب
للزجر عما يشتهى وتميل إليه النفس، وهذا مما تعافه وتنفر عنه.
فإن قلنا: يحد، ففي حده وجهان:
أحدهما: القتل للخبر.
والثاني: كحد الزنا؛ لما ذكرنا في اللائط. وإن تدالكت المرأتان، فهما
زانيتان، للخبر، ولا حد عليهما؛ لأنه لا إيلاج فيه، فأشبه المباشرة فيما
دون الفرج، وعليهما التعزير؛ لأنها فاحشة لا حد فيها، أشبهت المباشرة دون
الفرج.
فصل
ولا يجب الحد إلا بشروط خمسة:
أحدها: أن يكون الزاني مكلفاً، كما ذكرنا في السرقة، فإن كان أحد الزانيين
غير مكلف، أو مكرهاً، أو جاهلاً بالتحريم، وشريكه بخلاف ذلك، وجب الحد على
من هو أهل للحد، دون الآخر؛ لأن أحدهما انفرد بما يوجب الحد، وانفرد الآخر
بما يسقطه، فثبت في كل واحد منهما حكمه، دون صاحبه كما لو كان شريكه فذاً.
وإن كان أحدهما محصناً، والآخر بكراً. فعلى المحصن حد المحصنين، وعلى البكر
حد الأبكار كذلك. وإن أقر أحدهما بالزنا، دون الآخر، حُدّ المقر وحده؛ لما
روى سهل بن سعد «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن رجلاً
أتاه فأقر عنده أنه قد زنى بامرأة، فسماها له، فبعث رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المرأة فسألها عن ذلك، فأنكرت أن تكون قد
زنت، فجلده الحد، وتركها.» رواه أبو داود؛ ولأن عدم الإقرار من صاحبه لا
يبطل إقراره، كما لو سكت.
فصل
الشرط الثاني: أن يكون مختاراً، فإن أكرهت المرأة، فلا حد عليها، سواء
أكرهت بالإلجاء أو بغيره، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . وروى سعيد بإسناده
عن طارق بن شهاب قال: أتي عمر بامرأة قد زنت، قالت: إني كنت نائمة فلم
أستيقظ إلا برجل قد جثم علي، فخلى سبيلها ولم يضربها. وروي: أنه أتي بامرأة
قد استسقت راعياً، فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها. فقال لعلي: ما
ترى فيها؟ فقال: إنها مضطرة، فأعطاها شيئاً وتركها. فأما الرجل إذا أكره
بالتهديد، فقال أصحابنا: يجب عليه الحد؛ لأن الوطء لا يكون إلا بالانتشار
الحادث عن الشهوة،
(4/86)
والاختيار، بخلاف المرأة، ويحتمل أن لا يجب
عليه حد، لعموم الخبر، ولأن الحد يدرأ بالشبهات، وهذا من أعظمها. فأما إن
استدخلت امرأة ذكره وهو نائم، فلا حد عليه؛ لأنه غير مكلف، ولم يفعل الزنا.
فصل
والثالث: أن يكون عالماً بالتحريم، ولا حد على من جهل التحريم؛ لما روي عن
عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنهما قالا: لا حد إلا على من
علمه. وروى سعيد بن المسيب قال: ذكر الزنا بالشام، فقال رجل: زنيت البارحة،
قالوا: ما تقول؟ قال: ما علمت أن الله حرمه، فكتب بها إلى عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، فكتب: إن كان يعلم أن الله حرمه، فحدوه، وإن لم يكن علم،
فأعلموه، فإن عاد فارجموه. وسواء جهل تحريم الزنا، أو تحريم عين المرأة،
مثل أن تزف إليه غير زوجته، فيظنها زوجته، أو يدفع إليه غير جاريته، فيظنها
جاريته، أو يجد على فراشه امرأة يحسبها زوجته أو جاريته، فيطأها، فلا حد
عليه؛ لأنه غير قاصد لفعل المحرم. ومن ادعى الجهل بتحريم الزنا، ممن نشأ
بين المسلمين، لم يصدق؛ لأننا نعلم كذبه. وإن كان حديث عهد بالإسلام، أو
بإفاقة من جنون، أو ناشئاً ببادية بعيدة عن المسلمين، صدق؛ لأنه يحتمل
الصدق، فلم يجب الحد مع الشك في الشرط. وإن ادعى الجهل بتحريم شيء من
الأنكحة الباطلة، كنكاح المعتدة، أو وطء الجارية المرهونة بإذن الراهن،
وادعى الجهل بالتحريم قُبِلَ؛ لأن تحريم ذلك يحتاج إلى فقه، ويحتمل أن لا
يقبل، إلا ممن يقبل قوله في الجهل بتحريم الزنا؛ لأنه زنا، والأول أصح؛ لما
روي عن عبيد بن نضلة قال: رفع إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امرأة
تزوجت في عدتها، فقال: هل علمتما؟ فقالا: لا. قال: لو علمتما لرجمتكما،
فجلده أسواطاً، ثم فرق بينهما. وإن ادعى الجهل بانقضاء العدة، قبل إذا كان
يحتمل ذلك؛ لأنه مما يخفى.
فصل
الرابع: انتفاء الشبهة، فلا حد عليه بوطء الجارية المشتركة بينه وبين غيره،
أو وطء مكاتبته، أو جاريته المرهونة، أو المزوجة، أو جارية ابنه، أو وطء
زوجته أو جاريته في دبرها، ولا بوطء امرأة في نكاح مختلف في صحته، كالنكاح
بلا ولي أو بلا شهود، ونكاح الشغار، والمتعة، وأشباه ذلك؛ لأن الحد مبني
على الدرء والإسقاط بالشبهات، وهذه شبهات فيسقط بها.
فصل
فأما الأنكحة المجمع على بطلانها، كنكاح الخامسة، والمعتدة، والمزوجة،
(4/87)
ومطلقته ثلاثاً، وذوات محارمه من نسب، أو
رضاع، فلا يمنع وجوب الحد، لما ذكرنا من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
-. وروى أبو بكر بإسناده عن خلاس عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه
رفع إليه امرأة تزوجت ولها زوج، فكتمته، فرجمها وجلد زوجها الآخر مائة
جلدة، ولأنه وطء محرم بالإجماع في غير ملك، ولا شبهة ملك، أشبه وطأها قبل
العقد. وفي حد الواطئ لذات محرمه بعقد أو بغير عقد، روايتان:
إحداهما: حده حد الزنا؛ لعموم الآية والخبر فيه.
والثانية: يقتل بكل حال، لما «روى البراء قال: لقيت عمي ومعه الراية، قال:
فقلت: إلى أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إلى رجل نكح امرأة أبيه من بعده، أن أضرب عنقه، وآخذ ماله.»
قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروى ابن ماجه بإسناده عن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وقع على ذات محرم فاقتلوه» .
فصل
فإن ملك من يحرم عليه بالرضاع، كأمه، وأخته، فوطئها، ففيه وجهان:
أحدهما: عليه الحد؛ لأنها لا تستباح بحال، فأشبهت المحرمة بالنسب.
والثاني: لا حد عليه؛ لأنها مملوكته، فأشبهت مكاتبته. بخلاف ذات محرمه من
النسب. فإنه لا يثبت ملكه عليها، ولا يصح عقد تزويجها.
فصل
وإن استأجر أمة ليزني بها، أو لغير ذلك، فزنى بها، فعليه الحد؛ لأنه لا تصح
إجارتها للزنا، فوجوده كعدمه، ولا تأثير لعقد الإجارة على المنافع في إباحة
الوطء فكان كالمعدوم. ومن وطئ جارية غيره، أو زوجته بإذنه، فهو زان عليه
الحد؛ لأنه لا يستباح بالبذل والإباحة، سواء كانت جارية أبيه، أو أمه، أو
أخته، أو غيرهم، إلا جارية ابنه، لما ذكرنا، وذكر ابن أبي موسى قولاً في
الابن يطأ جارية أبيه: لا حد عليه؛ لأنه لا يقطع بسرقة ماله، فلا يلزمه حد
بوطء جاريته، كالأب، وجارية زوجته، إذا أذنت له في وطئها، فإنه يجلد مائة،
ولا يرجم بكراً كان، أو ثيباً، ولا تغريب عليه؛ لما روى حبيب بن سالم أن
عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته، فرفع إلى النعمان بن بشير وهو
أمير على الكوفة، فقال: لأقضين فيك بقضية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إن كانت أحلتها لك، جلدتك مائة، وإن لم تكن أحلتها
لك، رجمتك بالحجارة، فوجدوه قد أحلتها له،
(4/88)
فجلده مائة. رواه أبو داود.
فإن علقت منه. فهل يلحقه نسبه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يلحق به؛ لأنه وطء لا حد فيه، أشبه وطء الأمة المشتركة.
والثانية: لا يلحق به؛ لأنه وطء في غير ملك، ولا شبهة ملك، أشبه ما لو لم
تأذن له.
فصل
الخامس: ثبوت الزنا عند الحاكم؛ لما ذكرنا في السرقة، ولا يثبت إلا بأحد
شيئين: إقرار، أو بينة؛ لأنه لا يعلم الزنا الموجب للحد إلا بهما، ويعتبر
في الإقرار ثلاثة أمور:
أحدها: أن يقر أربع مرات، سواء كان في مجلس واحد، أو مجالس؛ لما روى أبو
هريرة قال: «أتى رجل من الأسلميين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وهو في المسجد، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه،
فتنحى تلقاء وجهه، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، حتى ثنى ذلك
أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: أبك جنون قال: لا، قال: فهل أحصنت؟
قال: نعم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ارجموه»
متفق عليه. ولو وجب الحد بأول مرة، لم يعرض عنه. وفي حديث آخر: «حتى قالها
أربع مرات، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنك قد
قلتها أربع مرار، فبمن؟ قال: بفلانة» . رواه أبو داود. وفي حديث، «فقال أبو
بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - له عند النبي: إن أقررت أربعاً، رجمك
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
الأمر الثاني: أن يذكر حقيقة الفعل؛ لما روينا في أول الباب، ولأنه يحتمل
أن يعتقد أن ما دون ذلك زنا موجب للحد، فيجب بيانه. فإن لم يذكر حقيقته،
استفصله الحاكم، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بماعز.
الثالث: أن يكون ثابت العقل. فإن كان مجنوناً، أو سكراناً، لم يثبت بقوله؛
لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لماعز: «أبك جنون»
وروي أنه استنكهه، ليعلم أبه سكر، أم لا، ولأنه إذا لم يكن عاقلاً، لا تحصل
الثقة بقوله.
فصل
وإن ثبتت ببينة، اعتبر فيهم ستة شروط:
(4/89)
أحدها: أن يكونوا أربعة؛ لقول الله تعالى:
{لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] . وقال:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] .
الثاني: أن يكونوا رجالاً كلهم؛ لأن في شهادة النساء شبهة، والحدود تدرأ
بالشبهات.
والثالث: أن يكونوا أحراراً؛ لأن شهادة العبيد مختلف فيها، فيكون ذلك شبهة
فيما يدرأ بالشبهات.
الرابع: أن يكونوا عدولاً؛ لأن ذلك مشترط في سائر الحقوق، ففي الحد أولى.
الخامس: أن يصفوا الزنا، فيقولوا: رأينا ذكره في فرجها، كالمرود في
المكحلة؛ لما ذكرنا في الإقرار.
السادس: مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد، سواء جاءوا جملة، أو سبق بعضهم
بعضاً؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما شهد عنده أبو بكرة ونافع
وشبل بن معبد على المغيرة، حدهم حد القذف، ولو لم يشترط المجلس، لم يجز أن
يحدهم؛ لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر، ولأنه لو جاء الرابع بعد حد
الثلاثة، لم تقبل شهادته، ولولا اشتراط المجلس، لوجب أن يقبل.
فصل
وإن حبلت امرأة لا زوج لها، ولا سيد، لم يلزمها حد؛ لما روي عن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه: أتى بامرأة ليس لها زوج وقد حملت، فسألها عمر
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقالت: إني امرأة ثقيلة الرأس، ووقع علي رجل،
وأنا نائمة، فما استيقظت حتى فرغ، فدرأ عنها الحد؛ ولأنه يحتمل أن يكون من
وطء شبهة، أو إكراه. والحد يدرأ بالشبهات. ولا يجوز للحاكم أن يقيم الحد
بعلمه؛ لأن ذلك يروى عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه
متهم في حكمه بعلمه، فوجب أن لا يتمكن منه مع التهمة فيه.
فصل
ومن وجب عليه حد الزنا، لم يخل من أحوال أربعة:
أحدها: أن يكون محصناً، فحده الرجم حتى الموت؛ لما روي عن عمر بن
(4/90)
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال:
إن الله بعث محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنزل عليه
الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأتها، وعقلتها، ووعيتها، ورجم
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده، فأخشى إن
طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك
فريضة أنزلها الله تعالى. فالرجم حق على من زنى وقد أحصن من الرجال والنساء
إذا قامت ببينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف. وقد قرأتها: الشيخ والشيخة إذا
زنيا، فارجموهما البتة، متفق عليه؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رجم ماعزاً والغامدية، ورجم الخلفاء بعده. وهل يجب الجلد مع
الرجم؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجب؛ لقول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فلما وجب الرجم
بالسنة، انضم إلى ما في كتاب الله تعالى، ولهذا قال علي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - في شراحة: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروى عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن
سبيلاً؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»
. رواه مسلم.
والثانية: لا جلد عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
رجم ماعزاً والغامدية، ولم يجلدهما. وقال: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا،
فإن اعترفت فارجمها» . ولم يأمره بجلدها، ولو وجب لأمر به، ولأنه معصية
توجب القتل، فلم توجب عقوبة أخرى، كالردة.
الثاني: الحر غير المحصن، فحده مائة جلدة وتغريب عام؛ للآية وخبر عُبادة.
الثالث: المملوك، فحده خمسون جلدة بكراً كان أو ثيباً، رجلاً أو امرأة،
لقول الله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا
عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . والعذاب المذكور في
الكتاب مائة جلدة، فنصف ذلك خمسون، ولا تغريب عليه؛ لأن تغريبه إضرار بسيده
دونه، ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الأمة إذا
زنت ولم تحصن. فقال: إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت
فبيعوها ولو بضفير» متفق عليه. ولم يأمر بتغريبها.
(4/91)
الرابع: من بعضه حر، فحده بالحساب من حد حر
وعبد. فالذي نصفه حر، حده خمس وسبعون جلدة، وتغريب نصف عام؛ لأنه يتبعض،
فكان في حقه بالحساب، كالميراث.
والمكاتب، وأم الولد، والمدبر حكمهم حكم القن في الحد؛ لأنهم عبيد، ومن
لزمه حد وهو رقيق، فعتق قبل إقامته، فعليه حد الرقيق؛ لأنه الذي وجب عليه.
ولو زنى ذمي حر، ثم لحق بدار الحرب، فاسترق، حد حد الأحرار كذلك.
فصل
والمحصن: من كملت فيه أربعة أشياء:
أحدها: الإصابة في القبل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . ولا يكون ثيباً إلا بذلك.
الثاني: كون الوطء في نكاح. فلو وطئ بشبهة، أو زنا، أو تسرية، لم يصر
محصناً، للإجماع، ولأن النعمة إنما تكمل بالوطء في ذلك. ولو وطئ في نكاح
فاسد، لم يصر محصناً؛ لأنه ليس بنكاح في الشرع، ولذلك لا يحنث به الحالف
على اجتناب النكاح.
الثالث: كون الوطء في حال الكمال بالبلوغ، والعقل، والحرية؛ لقول رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» .
فلو كان الوطء بدون الكمال إحصاناً، لما علق الرجم بالإحصان؛ لأنه من لم
يكمل بهذه الأمور، لا يرجم، ولأن الإحصان كمال، فيشترط أن يكون في حال
الكمال.
الرابع: أن يكون شريكه في الوطء مثله في الكمال؛ لأنه إذا كان ناقصاً لم
يحصل الإحصان، فلم يحصل لشريكه كوطء الشبهة.
ولا يشترط الإسلام في الإحصان؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بيهوديين زنيا فرجمهما» .
وإن تزوج مسلم ذمية، فأصابها، صارا محصنين؛ لكمال الشروط الأربعة فيهما.
فصل
ومن حرمت مباشرته بحكم الزنا واللواط، حرمت مباشرته فيما دون الفرج لشهوة،
وقبلته، والتلذذ بلمسه لشهوة، أو نظرة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخلون رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان» . فإذا
حرمت الخلوة بها، فمباشرتها أولى؛ لأنها أدعى إلى الزنا، ولا
(4/92)
حد في هذا؛ لما روى ابن مسعود «أن رجلاً
جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إني وجدت
امرأة في البستان، فأصبت منها كل شيء غير أني لم أنكحها، فافعل بي ما شئت،
فقرأ عليه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ
اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى
لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] .» متفق عليه، وعليه التعزير؛ لأنها معصية ليس
فيها حد ولا كفارة، فأشبهت ضرب الناس والتعدي عليهم.
فصل
ويحرم وطء امرأته وجاريته في دبرهما؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن»
رواه ابن ماجه، ولأنه ليس بمحل للولد أشبه دبر الغلام، ولا حد فيه؛ لأنه في
زوجته وما ملكت يمينه، فيكون شبهة، ولكن يعزر، لما ذكرناه، ويحرم الاستمناء
باليد؛ لأنها مباشرة تفضي إلى قطع النسل، فحرمت كاللواط، ولا حد فيه؛ لأنه
لا إيلاج فيه، فإن خشي الزنا، أبيح له؛ لأنه يروى عن جماعة من الصحابة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
فصل
ومن أتى بهيمة، وقلنا: لا يحد، فعليه التعزير، ويجب قتل البهيمة؛ لحديث ابن
عباس، فإن كانت مأكولة، ففيها وجهان:
أحدهما: تذبح، ويحل أكلها؛ لقول الله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ
الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] .
والثاني: تحرم؛ لأن ابن عباس قال: ما أرى أنه أمر بقتلها إلا لأنه كره
أكلها، وقد عمل بها بذلك العمل؛ ولأنه حيوان أبيح قتله لحق الله تعالى،
فحرم أكله، كالفواسق. فإن كانت البهيمة لغيره، وجب عليه ضمانها إن منعناه
أكلها؛ لأنه سبب تلفها. إن أبيح أكلها، لزمه ضمان نقصها.
فصل
ولا يؤخر حد الزنا، لمرض ولا شدة حر، ولا برد؛ لأنه واجب فلا يجوز تأخيره
لغير عذر، وقد روي عن عمر أنه أقام الحد على قدامة بن مظعون وهو مريض؛ لأنه
إن كان رجماً فالمقصود قتله، فلا معنى لتأخيره، وإن كان جلداً أمكن الإتيان
به بسوط يؤمن معه التلف في حال المرض، فلا حاجة إلى التأخير. ويحتمل أن
يؤخر الجلد عن
(4/93)
المريض المرجو زوال مرضه؛ لما «روى علي أن
جارية لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زنت، فأمرني أن
أجلدها، فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت
ذلك للنبي، فقال: أحسنت» رواه مسلم.
فصل
ولا يحفر للمرجوم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم
يحفر لماعز، وسواء كان رجلاً أو امرأة. قال أحمد: أكثر الأحاديث على أنه لا
يحفر للمرجوم. وقال القاضي: إن ثبت زنا المرأة بإقرارها، لم يحفر لها
لتتمكن من الهرب إن أرادت، وإن ثبت ببينة، حفر لها إلى الصدر؛ «لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم امرأة، فحفر لها إلى الثندوة.»
رواه أبو داود.
ولأنه أستر لها، وعلى كل حال يشد على المرأة ثيابها، لئلا تتكشف، ويدور
الناس حول المرجوم، ويرجمونه حتى يموت، فإن هرب المحدود والحد ببينة أتبع
حتى يقتل؛ لأنه لا سبيل إلى تركه، وإن ثبت بإقراره، ترك؛ لما روي «أن ماعز
بن مالك لما وجد مس الحجارة خرج يشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز عنه
أصحابه، فنزع له بوظيف بعير، فرماه به، فقتله، ثم أتى النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكر ذلك له، فقال: هلا تركتموه لعله أن
يتوب فيتوب الله عليه» رواه أبو داود؛ ولأنه يحتمل أن ذلك لرجوعه عن
الإقرار، ورجوعه مقبول. فإن لم يترك، وقتل، فلا ضمان فيه؛ لحديث ماعز، ولأن
إباحة دمه متيقنة، فلا يجب ضمانه بالشك، وإن ترك، ثم أقام على الإقرار،
أقيم عليه الحد.
فصل
وإن كان الحد جلداً، لم يمد المحدود، ولم يربط؛ لما روي عن عبد الله بن
مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ليس في هذه الأمة مد، ولا تجريد،
ولا غل، ولا صفد، ويفرق الضرب على أعضائه كلها إلا وجه، والرأس، والفرج،
وموضع القتل؛ لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال للجلاد:
اضرب، وأوجع، واتق الرأس والوجه والفرج. وقال: لكل موضع من الجسد حظ إلا
الوجه والفرج؛ ولأن القصد الردع، لا القتل. ويضرب الرجل قائماً، ليتمكن من
تفريق الضرب على أعضائه، والمرأة جالسة؛ لأنه أستر لها، وتشد عليها ثيابها،
وتمسك يداها لئلا تتكشف.
فصل
فإن كان مريضاً، أو نضو الخلق. أو في شدة حر، أو برد، أقيم الحد بسوط
(4/94)
يؤمن التلف معه، فإن كان لا يطيق الضرب
لضعفه وكثرة ضرره، ضرب بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة، أو ضربتين، أو بسوط
فيه خمسون شمراخاً؛ لما روى أبو أمامة بن سهل بن حنيف «عن بعض أصحاب رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأنصار: أنه اشتكى رجل
منهم حتى أضنى، فعاد جلداً على عظم، فدخلت عليه جارية لبعضهم، فوقع عليها،
فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكروا ذلك لرسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقالوا: ما رأينا بأحد من الضر مثل ما به،
لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم، فأمر رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يؤخذ له مائة شمراخ، فيضربونه بها
ضربة واحدة.» أخرجه أبو داود والنسائي.
فصل
ومن لزمه التغريب، غرب عاما إلى مسافة القصر؛ لأن أحكام السفر من القصر
والفطر لا تثبت بدونه. وعنه في المرأة: إنها تغرب إلى ما دون مسافة القصر؛
لتقرب من أهلها، فيحفظونها، ويحتمل مثل ذلك في الرجل؛ لأنه يسمى نفيا
وتغريبا، فيتناوله لفظ الخبر. وحيث رأى الإمام أن يغربه فله ذلك، وإن كان
بعيدا؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غرب إلى الشام والعراق. وإن رأى
الزيادة على الحول لم يجز؛ لأن مدة الحول منصوص عليها، فلم يدخلها
الاجتهاد، والمسافة غير منصوص عليها فرجع فيها إلى الاجتهاد. ومتى عاد قبل
الحول رد إلى التغريب حتى يكمل الحول. فإن زنى الغريب غرب إلى غير بلده،
فإن زنى في البلد الآخر غرب إلى غيره؛ لأن الأمر بالنفي يتناوله حيث كان.
فصل
لا تغرب المرأة إلا مع ذي محرم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ليلة إلا
مع ذي حرمة من أهلها» فإن أعوز المحرم، خرجت مع امرأة ثقة، فإن أعوز،
استؤجر لها من مالها محرم لها، فإن أعوز، فمن بيت المال، فإن أعوز، نفيت،
بغير محرم؛ لأنه حق لا سبيل إلى تأخيره، فأشبه الهجرة. ويحتمل سقوط النفي
هاهنا؛ لئلا يفضي إلى إغرائها بالفجور، وتعريضها للفتنة، ومخالفة خبر رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر بغير محرم، ويخص عموم
حديث النفي بخبر النهي عن السفر بغير محرم، ويحتمل أن تنفى إلى دون مسافة
القصر جمعاً بين الخبرين.
(4/95)
فصل
ويجب أن يحضر حد الزنا طائفة؛ لقول الله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا
طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] . وقال أصحابنا: أقل ذلك واحد
مع الذي يقيم الحد؛ لأن اسم الطائفة يقع على واحد، بدليل قول الله تعالى:
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا}
[الحجرات: 9] إلى قَوْله تَعَالَى: {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]
وقد فسره ابن عباس بذلك. والمستحب أن يحضر أربعة؛ لأن بهم يثبت الحد، والله
أعلم.
[باب حد القذف]
باب حكم القذف وهو الرمي بالزنا، وهو محرم وكبيرة؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا
فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] وقول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجتنبوا السبع الموبقات
قالوا: يا رسول الله، ما هي؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي
حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف
المحصنات» متفق عليه.
فصل
ويجب الحد على القاذف بشروط أربعة:
أحدها: أن يكون مكلفاً لما تقدم.
والثاني: أن يكون المقذوف محصناً؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . مفهومه أنه لا يجلد بقذف غير المحصن.
والمحصن: هو الحر المسلم العاقل العفيف عن الزنا الذي يجامع مثله، فلا يجب
الحد على قاذف الكافر، والمملوك، والفاجر؛ لأن حرمتهم ناقصة، فلم تنتهض
لإيجاب الحد، ولا يجب على قاذف الجنون؛ لأن زناه لا يوجب الحد عليه، فلم
يجب الحد بالقذف به، كالوطء دون الفرج، ولا يجب الحد على قاذف الصغير الذي
لا يجامع مثله كذلك، ولأنه يتيقن كذب القاذف فيلحق العار به، دون المقذوف.
وهل يشترط البلوغ؟ فيه روايتان:
(4/96)
إحداهما: يشترط؛ لما ذكرنا في المجنون.
والثانية: لا يشترط، بل متى قذف من يجامع مثله، فعليه الحد؛ لأنه عاقل حر
عفيف، يتعير بالقذف، أشبه البالغ. وإن قذف مجبوباً، أو رتقاء، فعليه الحد،
لعموم الآية؛ ولأن تعذر الوطء في حقهما بأمر خفي لا يعلم به، فلا ينتفي
العار عنه.
فصل
الثالث: أن يكون القاذف والداً، فإن قذف والد ولده وإن سفل، فلا حد عليه،
أباً كان أو أماً؛ لأنها عقوبة تجب لحق الآدمي، فلم تجب لولد على والده،
كالقصاص. ولو قذف زوجته، فماتت وله منها ولد، أو قذفت زوجها ولها منه ولد،
سقط الحد؛ لأنه لما لم يثبت له على والده بقذفه، فلم يثبت له عليه بالإرث.
وإن كان للميت ولد آخر من غيره، ثبت الحد؛ لأنه يثبت لكل واحد من الورثة
على الانفراد.
فصل
الرابع: أن يقذف بالزنا الموجب للحد، فإن قذف بالوطء دون الفرج والقبلة، لم
يجب الحد به، لما تقدم.
والقذف صريح وكناية؛ فالصريح أن يقول: زنيت، أو يا زاني، أو زنى فرجك، أو
دبرك أو ذكرك، ونحوه مما لا يحتمل غير القذف، فهذا يجب به الحد، ولا يقبل
تفسيره بما يحيله؛ لأنه صريح فيه، أشبه التصريح بالطلاق. وإن قال: يا لوطي،
فقال أكثر أصحابنا: هو صريح، وقال الخرقي: إذا قال: أردت أنك من قوم لوط،
فلا حد عليه، وهذا بعيد؛ لأن قوم لوط أهلكهم الله فلم يبق منهم أحد. وإن
قال: زنى فلان، وأنت أزنى منه، فهو قاذف لهما؛ لأنه وصف هذا بالزنى على وجه
المبالغة؛ لأن لفظة أفعل للتفضيل. وإن قال: أنت أزنى من فلان، أو أزنى
الناس، فهو قاذف للمخاطب كذلك، وليس بقاذف لفلان؛ لأن لفظة أفعل يستعمل
للمنفرد بالفعل، كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ
أَنْ يُتَّبَعَ} [يونس: 35] وإخباره عن قوم لوط: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ
أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] وقال القاضي: هو قذف لهما؛ لأن لفظة أفعل يقتضي
اشتراكهما في الفعل، وانفراد أحدهما بمزية. وإن قال: زنأت بالهمزة، فهو قذف
في قول أبي بكر وأبي الخطاب؛ لأن العامة لا تفهم منه إلا القذف. وقال ابن
حامد: إن كان القاذف عامياً فهو قاذف، وإن كان يعلم العربية، فليس بقاذف؛
لأن معناه طلعت، كما قال الشاعر:
(4/97)
وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل
وسواء قال في الجبل، أو لم يقل؛ لأن معناها لا يختلف بذلك وعدمه. وإن قال
لرجل: يا زانية، أو لامرأة: يا زاني، فهو قاذف لهما؛ لأن اللفظ صريح في
الزنا وزيادة هاء التأنيث في المذكر، وحذفها من المؤنث خطأ لا يغير المعنى،
فلم يمنع الحد كاللحن، هذا قول أبي بكر. وقال ابن حامد: ليس بقذف يوجب
الحد؛ لأنه يحتمل أن يريد بذلك أنك علامة في الزنا، كالراوية والحفظة. وإن
قال لامرأة: زنيت بفتح التاء، ولرجل زنيت بكسرها، فهو قاذف لهما؛ لأنه
خاطبهما بنسبة الزنا إليهما، فأشبه ما لو لم يلحن. وإن قذف رجلاً. فقال
آخر: صدقت، ففي المصدق وجهان:
أحدهما: يكون قاذفاً؛ لأن تصديقه ينصرف إلى الكلام الذي قبله، كما لو قال:
لي عليك ألف. قال: صدقت. والثاني: لا يكون قذفاً؛ لأنه يحتمل بتصديقه في
غير هذا. وإن قال: أخبرني فلان أنك تزني، فكذبه الآخر، فليس بقاذف؛ لأنه
إنما أخبر عن غيره، فأشبه ما لو صدقه الآخر، ويحتمل أنه قاذف، ذكره أبو
الخطاب؛ لأنه نسب إليه الزنا. وإن قال رجل لامرأة: زنيت، فقالت: بك، فلا حد
عليهما؛ لأنها صدقته، فسقط الحد عنه، ولا حد عليها؛ لأنها لم تقذفه؛ لأنه
يتصور زناها به من غير أن يكون زانياً، بأن تكون عالمة بأنه أجنبي، وهو
يظنها زوجته، أو نائماً، استدخلت ذكره ونحو ذلك. وإن قال: زنت يداك، أو
رجلاك، لم يكن قاذفاً في ظاهر المذهب، وهو قول ابن حامد؛ لأن زنا هذه
الأعضاء لا يوجب الحد، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «العينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما
البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، يصدق ذلك الفرج، أو يكذبه» . ويحتمل
أن يكون قاذفاً؛ لأنه أضاف الزنا إلى عضو منه، فأشبه ما لو قال: زنى فرجك.
وإن قال: زنى بدنك، ففيه وجهان:
أحدهما: هو كقوله: زنت يداك؛ لأن الزنا بجميع البدن يكون بالمباشرة، فلم
يكن قذفاً.
والثاني: عليه الحد؛ لأنه أضاف الزنا إلى جميع البدن والفرج منه.
فصل
وأما الكناية، فنحو قوله: يا قحبة، يا فاجرة، يا خبيثة، أو يقول للرجل: يا
مخنث، أو يا نبطي يا فارسي وليس هو كذلك، أو يقول لزوجة رجل: قد فضحتيه،
(4/98)
وجعلت له قروناً، ونكست رأسه، أو يقول لمن
يخاصمه: يا حلال ابن الحلال ما يعرفك الناس بالزنا، ما أنا بزان، ولا أمي
بزانية، فهذا ليس صريح في القذف؛ لأنه يحتمل الفجور، والخبث بغير الزنا.
والقحبة المتعرضة للزنا وإن لم تفعله، والمخنث المتطبع بطباع التأنيث،
وسائر ما ذكرنا يحتمل غير الزنا، فلم يجب به الحد مع الاحتمال.
وعنه: أن الحد يجب بذلك كله؛ لما روى سالم عن أبيه: أن رجلاً قال: ما أنا
بزان، ولا أمي بزانية، فجلده عمر الحد. وروى الأثرم: أن عثمان جلد رجلاً
قال لآخر: يا ابن شامة الوذر، يعرض بزنا أمه؛ ولأن هذه الألفاظ يراد بها
القذف عرفاً فجرت مجرى الصريح، ولأن الكناية مع القرينة كالصريح في إفادة
الحكم، بدليل الطلاق والعتاق، كذا هاهنا. وفيما إذا قال: يا نبطي قد نفاه
عن نسبه، فيكون قاذفاً لأمه أو لإحدى جداته. وإن قال لثابت النسب: لست بابن
فلان، فهو قذف لأمه في الظاهر من المذهب؛ لما روي عن ابن مسعود أنه قال: لا
حد إلا في اثنين، قذف محصنة، أو نفي رجل عن أبيه؛ ولأنه لا يكون لغير أبيه
إلا بزنا أمه. ويحتمل ألا يكون قذفاً؛ لأنه يحتمل أنه لا تشبهه في كرمه
وأخلاقه.
وإن كان الولد منفياً باللعان، فليس بقذف؛ لأن الشرع نفاه. وإن قال لابنه:
لست بابني، فقال القاضي: ليس بقذف؛ لأن الإنسان يغلظ لولده في القول
تأديباً.
فصل
ومن قال لامرأة: أكرهت على الزنا، فلا حد عليه؛ لأنه لم يقذفها بالزنا
وعليه التعزير؛ لأنه ألحق بها العار. وكل موضع لا يجب فيه الحد مما ذكرنا،
يوجب التعزير؛ لأنه أذى لمن لا يحل أذاه. وإذا تقاصر عن الحد، أوجب
التعزير، كالزنا فيما دون الفرج.
فصل
وحد القذف ثمانون جلدة إن كان القاذف حراً؛ لقول الله تعالى:
{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وإن كان عبداً، فأربعون؛
لما روى يحيى بن سعيد الأنصاري قال: ضرب أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم
مملوكاً افترى على حر ثمانين، فبلغ عبد الله بن عامر بن ربيعة، فقال: أدركت
الناس زمن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى اليوم، فما رأيت
أحدا ضرب المملوك المفتري ثمانين قبل أبي بكر بن محمد بن عمرو؛ ولأنه حد
يتبعض. فكان المملوك على النصف من الحر، كحد الزنا. وإن كان القاذف بعضه
حر، فعليه بالحساب لما ذكرنا.
(4/99)
فصل
والحد في القذف والتعزير الواجب بما دونه حق للمقذوف، يستوفى إذا طالب،
ويسقط إذا عفا عنه؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أنه قال: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان إذا خرج يقول: تصدقت
بعرضي» والصدقة بالعرض لا تكون إلا بالعفو عما يجب له، ولأنه جزاء جناية
عليه لا يستوفى إلا بمطالبته، فكان له، كالقصاص. وعنه: أنه حق لله تعالى؛
لأنه حد فكان حقاً لله كسائر الحدود. فعلى هذا لا يستوفى إلا بمطالبة
الآدمي، ولا يسقط بعد وجوبه بالعفو، كالقطع في السرقة. ولو قال لغيره:
اقذفني، فقذفه، لم يجب الحد؛ لأنه إذن في سبه، فلم يوجب الحد كالقصاص،
والقطع في السرقة.
فصل
وإن جن من له الحد، لم يكن لوليه المطالبة به؛ لأنه يجب للتشفي، ودرك
الغيظ، فأخر إلى الإفاقة، كالقصاص. وإن قذف مملوكاً، فالطلب بالتعزير
والعفو عنه له، دون سيده؛ لأنه ليس بمال، ولا بدل مال، فأشبه فسخ النكاح
للمعتقة تحت العبد. وإن مات العبد، سقط؛ لأنه لو ملكه السيد بحق الملك،
لملكه في حياته، والعبد لا يورث. وإن سمع الإمام رجلاً يقذف آخر في حضرته،
أو غيبته، لم يلزمه أن يسأله عن ذلك ويحققه؛ لأن القذف لا يوجب حداً حتى
يطالب به صاحبه، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات فلا يجب المبالغة في إثباتها.
فصل
ومن قذف جماعة لا يتصور الزنا من جميعهم، كأهل البلدة الكبيرة، فلا حد
عليه؛ لأنه لا عار على المقذوف بذلك، للقطع بكذب القاذف، وإن قذف جماعة
يمكن زناهم بكلمات، فعليه لكل واحد حد. وإن قذفهم بكلمة واحدة. ففيه ثلاث
روايات:
إحداهن: عليه حد واحد؛ لأن كلمة القذف واحدة، فلم يجب بها أكثر من حد واحد،
كما لو كان المقذوف واحداً، ولأنه بالحد الواحد يظهر كذبه، ويزول عار القذف
عن جميعهم، فعلى هذا إن طلبه الجميع أقيم لهم، وإن طلبه واحد، أقيم له،
أيضاً، ولا مطالبة لغيره. وإن أسقط أحدهم حقه، لم يسقط حق غيره؛ لأنه ثابت
لهم على سبيل البدل، فأشبه ولاية النكاح.
والثاني: عليه لكل واحد حد؛ لأنه قذفه، فلزمه الحد له، كما لو قذفه بكلمة
مفردة.
والثالث: إن طلبوه جملة، فحد واحد؛ لأنه يقع استيفاؤه لجميعهم. وإن طلبوه
(4/100)
متفرقاً، أقيم لكل مطالب مرة؛ لأن استيفاء
المطالب الأول له خاصة، فلم يسقط به حق الباقين. وإن قال لامرأة: زنى بك
فلان، فهي كالتي قبلها؛ لأنه قذفهما بكلمة واحدة ويحتمل ألا يجب إلا حد
واحد، وجهاً واحداً؛ لأن القذف لهما بزنا واحد، يسقط حده ببينة واحدة،
ولعان واحد إن كانت المرأة زوجته.
فصل
ومن وجبت عليه حدود قذف لجماعة، فأيهم طالب بحده، استوفي له، ثم إذا طالب
غيره استوفي له، كالديون. فإن اجتمعا في الطلب قدم أسبقهما حقاً؛ لأن
السابق أولى. فإن تساويا، أقرع بينهما إن تشاحا. ولو قال: يا زاني ابن
الزانية، كان قاذفاً لهما بكلمتين. فأيهما طالب حد له. فإن اجتمعا وتشاحا،
حد للابن أولاً؛ لأنه بدأ بقذفه، ثم يحد لأمه. ومتى حد مرة، لم يحد لآخر
حتى يبرأ ظهره؛ لأنه لا يؤمن مع الموالاة التلف. فإن كان القاذف عبداً
فكذلك؛ لأنهما حدان، فأشبها حدي الحر. ويحتمل أن لا يوالى بينهما، ولأنهما
جميعاً كحد حر، فيوالى بينهما، كما يوالى بينه.
فصل
وإن قذف واحداً مرات، ولم يحد، فحد واحد؛ لأنها من جنس واحد لمستحق واحد.
فإذا كانت قبل الإقامة، تداخلت، كسائر الحدود، وإن حد مرة، ثم قذفه بذلك
الزنا، عزر ولم يحد؛ لأن أبا بكرة شهد على المغيرة بالزنا، فجلده عمر، ثم
أعاد أبو بكرة القذف، فأراد عمر جلده، فقال علي: إن كنت تريد أن تجلده
فارجم صاحبه، فترك عمر جلده. يعني: إن نزلته منزلة أجنبي شهد بزناه، فقد
كملت شهادة أربعة. فإن لم تجعله كشاهد آخر، فلا تحده، ولأنه قد حصل التكذيب
بالحد، فاستغني عما سواه. وإن قذفه بزنا آخر عقيب الحد، ففيه روايتان:
إحداهما: يحد؛ لأنه قذف بعد الحد، لم يظهر كذبه فيه بحد، فلزمه الحد، كما
لو قذفه بعد زمن طويل.
والثانية: لا حد عليه؛ لأنه قد حد له مرة، فلا يحد له ثانياً، كما لو قذفه
بالزنا الأول. وإن قذفه بعد طول الفصل، حد؛ لأنه لا تسقط حرمة عرض المقذوف
بإقامة الحد له، وذكر القاضي فيها روايتين كالتي قبلها:
فصل
وإذا قال الرجل: يا ولد الزنا، أو يا ابن الزانية، فهو قاذف لأمه. فإن كانت
حية، فهو قاذف لها دونه؛ لأن الحق لها، ويعتبر فيها شروط الإحصان؛ لأنها
المقذوفة. وإن كانت أمه ميتة، فالقذف له؛ لأنه قدح في نسبه. وعلى سياق هذا،
لو قذف جدته، ملك
(4/101)
المطالبة بالحد؛ لما روى الأشعث بن قيس عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا أوتى برجل يقول:
إن كنانة ليست من قريش إلا جلدته» لقول ابن مسعود: لا حد إلا في قذف محصنة،
أو نفي رجل عن أبيه. فعلى هذا، يعتبر الإحصان في الرجل، دون أمه. فلو كانت
أمه ميتة أو مشركة، أو أمة، وهو محصن، لوجب له. وهذا اختيار الخرقي، وقال
أبو بكر: لا حد على قاذف ميت؛ لأنه لا يطالب فلم يحد قاذفه كما لو قذف غير
الأم، ولا خلاف في أنه لو قذف أباه أو أخاه، لم يلزمه حد؛ لأنه لم يقدح في
نسبه، بخلاف مسألتنا، ولو مات المقذوف قبل المطالبة بالحد، لم يجب. وإن مات
بعد المطالبة به، قام وارثه مقامه؛ لأنه حق له يجب بالمطالبة، فأشبه رجوع
الأب فيما وهب لولده.
فصل
وإذا شهد على إنسان بالزنا دون الأربعة، فعليهم الحد، لقول الله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ولأن أبا بكرة،
ونافعاً وشبل بن معبد، شهدوا على المغيرة بن شعبة، ولم يكمل زياد شهادته،
فحد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الثلاثة بمحضر من الصحابة، فكان ذلك
إجماعاً، وكذلك إن لم يكمل الرابع شهادته، فعليهم الحد كذلك. وإن شهد
ثلاثة، وزوج المرأة، حد الثلاثة؛ لأن الزوج غير مقبول الشهادة على زوجته
بالزنا، لإقراره على نفسه بعداوتها، لجنايتها عليه، بإفساد فراشه، وإلحاق
العار به، وعلى الزوج الحد، إلا أن يسقطه عنه بلعانه. وإن شهد أربعة،
فبانوا فساقاً، أو عبيداً، أو عمياناً، أو بعضهم، ففيهم ثلاث روايات:
إحداهن: عليهم الحد؛ لأن شهادتهم بالزنا لم تكمل، فلزمهم الحد، كما لو شهد
ثلاثة.
والثانية: لا حد عليهم؛ لقول الله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وهؤلاء أربعة؛ ولأنه أحرزوا ظهورهم
بكمال عددهم، فأشبه ما لو شهد أربعة بزناها، فشهد ثقات أنها عذراء.
والثالثة: إن كانوا عمياناً، فعليهم الحد، وإن كانوا فساقاً، أو عبيداً،
فلا حد عليهم؛ لأن الأعمى يشهد بما لم يره يقيناً، فيكون شاهد زور يقيناً،
وغيرهم بخلاف
(4/102)
ذلك. وإن كان فيهم صبي، أو مجنون، أو من لا
تقبل شهادته، فكذلك، والأولى أصح؛ لأن من لا شهادة له، وجوده كعدمه، فأشبه
نقص العدد. ولو شهد ثلاثة رجال وامرأتان، حد الجميع؛ لأن شهادة النساء في
هذا الباب، كعدمها.
فصل
وإن شهد أربعة بالزنا، ثم رجع أحدهم، فعليهم الحد؛ لأنه نقص عدد الشهود،
فلزمهم الحد، كما لو كانوا ثلاثة. وعنه: يحد الثلاثة دون الرابع، اختارها
أبو بكر، وابن حامد؛ لأن رجوعه قبل الحد، كالتوبة قبل تنفيذ الحكم، فيسقط
الحد عنه، وإن رجعوا كلهم، فعليهم الحد؛ لأنهم يقرون على أنفسهم أنهم قذفة،
ويحتمل أن لا يجب عليهم الحد، كالتي قبلها، وإن شهد أربعة، فلم تكمل
شهادتهم، لاختلافهم في المكان أو الزمان. أو كونهم لم يأتوا في مجلس واحد،
أو لم يصفوا الزنا، أو بعضهم، فهم قذفة، عليهم الحد؛ لأن شهادة الأربعة لم
تكمل، فلزمهم الحد، كما لو نقص عددهم. وإن شهد أربعة بالزنا على امرأة،
فشهد ثقات من النساء أنها عذراء، فلا حد على واحد منهم؛ لأن ثبوت عذرة
المرأة، دليل على براءتها، فينتفي الحد عنها. لظهور براءتها، وصدق الشهود
محتمل، لجواز أن يطأها، ثم تعود عذرتها، فانتفى الحد عنهم لاحتمال صدقهم.
فصل
وإذا قذف امرأة، وقال: كنت زائل العقل حين قذفتها، ولم يعرف له زوال عقل
قبل ذلك، فالقول قولها؛ لأن الظاهر عقله، فأشبه ما لو ضرب ملفوفاً، وادعى
أنه كان ميتاً. وإن عرف له زوال عقل، بجنون، أو تبرسم، أو نحوه، فالقول
قوله؛ لأن الأصل براءته من الحد، وصدقه محتمل، ولأن الحد يدرأ بالشبهات.
وإن قال: زنيت إذ كنت مشركة، أو أمة، ولم تكن كذلك، حد؛ لأنه يعلم كذبه في
وصفها بذلك. وإن كانت مشركة أو أمة، لم يحد؛ لأنه أضاف قذفها إلى حال فيها
غير محصنة. وعنه: يحد، حكاها أبو الخطاب؛ لأن القذف في حال لمحصنة. وإن
قال: زنيت أنت مشركة، وقال: أردت أنك زنيت في تلك الحال، فقالت: بل قذفتني،
ونسبتني إلى الشرك في هذه الحال، فقال القاضي: يحد؛ لأنه خاطبها بالقذف في
الحال، فالظاهر إرادة القذف في الحال. واختار أبو الخطاب: أنه لا يحد؛
لأنهما اختلفا في إرادته بكلامه، وهو أعلم بمراده، واللفظ محتمل لما ادعاه،
بأن تكون الواو للحال. وإن قال لها: زنيت، ثم قال: أردت في الحال التي كنت
غير محصنة، وقالت: أردت قذفي في الحال، حد؛ لأنه قذفها في الحال، فلا يقبل
قوله فيما يحيله، وإن قال: إنما كان قذفي لك قبل إحصانك، وقالت: بل بعده.
فإن ثبت أنها كانت غير محصنة، فالقول قوله؛ لأن الأصل
(4/103)
براءة ذمته. وإن لم يثبت ذلك، فالقول
قولها؛ لأن الأصل في الدار، الإسلام والحرية، وكذلك إن كانت مسلمة، فادعى
أنها ارتدت، فالقول قولها؛ لأن الأصل بقاؤها على دينها.
فصل
وإن ادعت امرأة أو زوجها قذفها، فأنكر، فقامت عليه ببينة، فله أن يلاعن؛
لأن إنكار القذف، لا يكذب ما يلاعن عليه من الزنا؛ لأن القذف الكذب، وهو
يدعي أنه صادق، فجاز أن يلاعن، كما لو ادعى عليه وديعة، فقال: ما لك عندي
شيء، ثم ادعى تلفها، قبل منه، لكون إنكاره لم يمنع الإيداع، كذا هاهنا.
[باب الأشربة]
كل شراب أسكر كثيره، فقليله حرام؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] وكل مسكر خمر،
فيدخل في عموم الآية. وقد روى عبد الله بن عمر، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» رواه مسلم وأبو
داود، وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نزل تحريم الخمر. وهي: من
العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير. والخمر: ما خامر العقل. متفق
عليه. وروت عائشة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «ما أسكر الفرق منه، فملء الكف منه حرام» رواه أبو داود؛ ولأنه شراب
يسكر كثيره، فحرم قليله، كعصير العنب.
فصل
وكل عصير غلى، وقذف بزبده، فهو حرام، لما روى الشالنجي بإسناده عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اشربوا العصير ثلاثاً ما لم
يغل» . «وعن أبي هريرة قال: علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان صائماً، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء، ثم أتيته به
فإذا هو ينش، فقال: اضرب بهذا الحائط، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله
واليوم الآخر» رواه أبو داود
(4/104)
والنسائي؛ ولأنه إذا غلى واشتد، صار
مسكراً. فإن علم من شيء أنه لا يسكر، كالفقاع، فلا بأس به وإن غلى؛ لأن
العلة في التحريم الإسكار، فلا يثبت الحكم بدونها. وإن أتى على العصير
ثلاث، فقال أصحابنا: يحرم وإن لم يغل؛ للخبر. «وروى ابن عباس أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينبذ له الزبيب، فيشربه اليوم،
والغد، وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يأمر به فيهراق أو يسقى الخدم» ؛
ولأن الشدة تحصل في الثلاث غالباً، وهي خفية تحتاج إلى ضابط. والثلاث تصلح
ضابطاً لها. وقد قال ابن عمر: اشربه ما لم يأخذه شيطانه. قال: وفي كم يأخذه
شيطانه؟ قال: في الثلاث. والنبيذ، كالعصير فيما ذكرنا. وهو: ماء ينبذ فيه
تمرات، أو زبيب، ليجتذب ملوحته، كان أهل الحجاز يفعلونه.
فصل
ويكره الخليطان. وهو: أن ينبذ في الماء شيئين؛ لما «روي عن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى أن ينتبذ البسر والرطب
جميعاً. ونهى أن ينتبذ الزبيب والتمر جميعاً.» رواه أبو داود. وفي رواية:
«وانتبذوا كل واحد على حدة.» قال أحمد: الخليطان حرام. قال القاضي: يعني:
إذا اشتد وأسكر. وإنما نهي عنه؛ لأنه يسرع إلى السكر. فإذا لم يسكر، لم
يحرم؛ لما «روي عن عائشة قالت: كنا ننبذ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنأخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب، فنطرحها فيه، ثم
نصب عليه الماء، فننبذه غدوة، فيشربه عشية، وننبذه عشية، فيشربه غدوة.»
أخرجه أبو داود. ويجوز الانتباذ في الأوعية كلها؛ لما روي عن بريدة أن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كنت نهيتكم عن الأشربة
في ظروف الأدم، فاشربوا في كل وعاء، غير أن لا تشربوا مسكراً» رواه مسلم.
وما لا يسكر من الدبس، والخل، ورب الخروب، وسائر المربيات، فهو حلال؛ لأن
تخصيص المسكر بالتحريم دليل على إباحة ما سواه؛ لأن الله تعالى قال:
{أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] . وهذا منها.
فصل
ومن شرب مسكراً - وهو مسلم مكلف - مختار، يعلم أنها تسكر، لزمه الحد، لما
(4/105)
روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «من شرب الخمر فاجلدوه» رواه أبو داود؛ ولأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه جلدوا فيه الحد، وفي قدره
روايتان:
إحداهما: أربعون؛ لما روى حصين بن المنذر أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- جلد الوليد بن عقبة في الخمر أربعين، ثم قال: جلد النبي أربعين، وأبو بكر
أربعين، وعمر ثمانين. وكل سنة. وهذا أحب إلي. رواه مسلم.
والثانية: ثمانون؛ لما روى أنس، أن عمر استشار الناس في حد الخمر، فقال عبد
الرحمن: اجعله كأخف الحدود، فضرب عمر ثمانين. متفق عليه. وكان ذلك بمحضر من
الصحابة، فاتفقوا عليه، فكان إجماعاً.
وحد العبد نصف حد الحر؛ لأنه حد يتبعض، فأشبه الحد في الزنا والقذف. ويجلد
بالسوط، ولأن عمر وعلياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جلدا بالسياط، ولأنه
حد فيه ضرب، فكان بالسوط، كحد الزنا.
فصل
ولا يثبت إلا ببينة، أو إقرار. فالبينة شاهدان عدلان. ويقبل فيه إقرار مرة؛
لأنه حد ليس فيه إتلاف بحال، فأشبه حد القذف، ولا يحد بوجود الرائحة منه؛
لأنه يحتمل أنه تمضمض بها، أو ظنها لا تسكر، والحد يدرأ بالشبهات. عنه: أنه
يحد؛ لأن عمر وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حدا بالرائحة، وإن
وجد سكران، أو تيقنا المسكر، فعن أحمد: أنه لا يحد؛ لأنه يحتمل أن يكون
مكرهاً، أو ظن أنها لا تسكر، وعلى الرواية التي يحد بالرائحة، يجب أن يحد
هاهنا؛ لأن حصيناً قال: شهدت عثمان وأتي بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران
ورجل آخر، فشهد أحدهما أنه رآه شربها، وشهد الآخر أنه رآه يتقيأها، فقال
عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال لعلي: أقم عليه الحد، ففعل. وقال
عثمان: لقد تنطعت في الشهادة.
[باب إقامة الحد]
لا يجوز لأحد إقامة الحد إلا للإمام، أو نائبه؛ لأنه حق الله تعالى. ويفتقر
إلى الاجتهاد. ولا يؤمن في استيفائه الحيف، فوجب تفويضه إلى نائب الله
تعالى في خلقه، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقيم
الحد في حياته، ثم خلفاؤه بعده. ولا يلزم الإمام حضور إقامته؛ لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا،
فإن اعترفت
(4/106)
فارجمها» وأمر برجم ماعز ولم يحضر. وأتي
بسارق، فقال: «اذهبوا فاقطعوه» . وجميع الحدود في هذا سواء، حد القذف
وغيره؛ لأنه لا يؤمن فيه الحيف، والزيادة على الواجب. ويفتقر إلى الاجتهاد،
فأشبه سائر الحدود، إلا أن للسيد إقامة الحد على رقيقه؛ لقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد» .
وروى علي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أقيموا
الحدود على ما ملكت أيمانكم» . ولا يملك إقامته إلا بشروط أربعة:
أحدها: أن يكون مكلفاً، عالماً بالحدود وكيفية إقامتها؛ لأنه إذا لم يعلم،
لا يمكنه الإتيان به على وجهه. وهل تشترط عدالته؟ فيه وجهان:
أحدهما: تشترط؛ لأنه ولاية، فنافاها الفسق، كولاية التزويج؛ ولأنه لا يؤمن
من الفاسق التعدي بزيادة أو نقص.
والثاني: لا يشترط؛ لأنها ولاية ثبتت بالملك، أشبهت ولاية التأديب. وفي
اشتراط الذكورية وجهان، كما ذكرنا في العدالة. فإن قلنا: تشترط، ففي أمة
المرأة وجهان:
أحدهما: يفوض حدها إلى وليها، كتزويجها.
والثاني: يفوض إلى الإمام، كأمة الصغير. وهل تشترط الحرية؟ فيه وجهان.
ووجههما ما تقدم. فإن قلنا: تشترط، لم يثبت لمكاتب؛ لأنه ليس من أهل
الولاية، ويفوض إلى الإمام.
الشرط الثاني: أن يختص بالمملوك، فأما المشترك، والأمة المزوجة، والمكاتبة،
فلا يقيم الحد عليهم إلا الإمام؛ لأن ابن عمر قال ذلك، ولا مخالف له في
الصحابة، ولأنه لم تكمل ولايته عليهم، فأشبهوا من بعضه حر.
الشرط الثالث: أن يكون الحد جلداً، كحد الزنا والشرب والقذف. فأما القطع
والقتل في الردة، فلا يملكه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إنما أمر بالجلد، فلا يثبت في غيره؛ ولأن الجلد تأديب، فيملكه
السيد، كتأديبه على حقوقه. وفي تفويضه إليه ستر على عبده، كيلا يفتضح
بإقامة الإمام له، فتنقص قيمته. وهذا منتف في القطع والقتل؛ ولأن فيهما
إتلافاً فيحتاج إلى مزيد احتياط. قال القاضي: وكلام أحمد يقتضي رواية أخرى:
أنه يقيمهما؛ لعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أقيموا الحدود على ما
ملكت أيمانكم» ولأن ابن عمر قطع عبداً سرق. وحفصة قتلت أمة سحرتها.
(4/107)
الشرط الرابع: أن يثبت عنده سببه بإقرار،
أو بينة. فإن ثبت بإقرار، فللسيد أن يسمعه، ويقيم الحد به إذا كان عالماً
بشروط الإقرار وكيفيته. وإن ثبت ببينة، اعتبر ثبوتها عند الحاكم؛ لأن
للحاكم ولاية البحث عن العدالة، والاجتهاد فيها، ومعرفة شروطها، بخلاف
غيره. وذكر القاضي: أن السيد إن عرف شروطها، وأحسن استماعها، ملك سماعها،
وإقامة الحد بها، كالإقرار. ولا يقيم الحد بعلمه ورؤيته؛ لأن الإمام لا
يقيمه بعلمه، فالسيد أولى. وعن أحمد: أنه يقيمه بعلمه؛ لأنه ثبت عنده أشبه
ما لو أقر به عنده.
فصل
ولا يقام الحد على حامل حتى تضع، سواء كان الحد رجماً أو غيره؛ لأنه لا
يؤمن تلف الولد. وقد روى بريدة: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: إني فجرت، فوالله إني لحبلى، فقال لها: ارجعي
حتى تلدي فرجعت، فلما ولدت أتته بالصبي، فقال: ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه.
فجاءت به وقد فطمته وفي يده شيء يأكله، فأمر بالصبي، فدفع إلى رجل من
المسلمين، وأمر بها فحفر لها، وأمر بها فرجمت.» رواه أبو داود. فإن كان
الحد قتلاً، فالحكم فيه على ما ذكرنا في القصاص في الحامل. وإن كان جلداً،
وكانت عقيب الولادة قوية يؤمن تلفها، أقيم عليها الحد، وإن كانت ضعيفة أو
في نفاسها، فقال أبو بكر: يقام حدها بشيء يؤمن معه تلفها، ولا تؤخر،
كالمريض.
وقال القاضي: ظاهر كلام الخرقي، تأخيرها حتى تطهر من نفاسها، ويؤمن معه
تلفها؛ لما روي عن علي قال: «فجرت جارية لآل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا علي انطلق فأقم عليها الحد فانطلقت، فإذا
بها دم يسيل لم ينقطع، فأتيته فأخبرته، فقال: دعها حتى ينقطع عنها الدم، ثم
أقم عليها.» رواه مسلم بنحو هذا المعنى.
ولا يجلد السكران حتى يصحو؛ لأن المقصود زجره وتنكيله، ولا يحصل في حال
سكره.
فصل
ولا يقام الحد في المسجد، جلداً كان أو غيره؛ لما روى حكيم بن حزام، «أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يستقاد في المسجد،
وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود» ؛ ولأنه لا يؤمن أن يحدث من
المحدود شيء، فيتلوث به المسجد، فإن أقيم به سقط الفرض؛ لأن المقصود حاصل.
والمرتكب للنهي غير المحدود، فلم يمنع
(4/108)
ذلك سقوط الفرض عنه، كما لو اقتص في غير
المسجد.
فصل
ومن أقيم عليه الحد، فمات منه، فالحق قتله، ولا شيء على من حده جلداً كان
أو غيره؛ لأنه حد وجب لله، فلم يود من مات به، كالقطع في السرقة. وإن زاد
على الحد، فمات، وجب ضمانه؛ لأنه تعدى تعدياً أعان على تلفه، فوجب عليه
ضمانه، كما لو ضربه أجنبي. وفي قدره روايتان:
إحداهما: الدية كلها؛ لأنه قتل حصل بأمر من جهة الله، وعدوان، فكان الضمان
على العادي الدية، كما لو ضرب مريضاً سوطاً فقتله.
والثانية: نصف الدية؛ لأنه مات بفعل مضمون وغيره، فكان على العادي، نصف
الدية، كما لو جرح نفسه، وجرحه آخر، فمات. وسواء زاد سوطاً، أو أكثر، وسواء
زاد خطأ، أو عمداً؛ لأن الخطأ يضمن، كالعمد. ومتى كانت الزيادة من قبل
الجلاد، فالضمان على عاقلته في الخطأ، وشبه العمد. وإن كان له من يعد عليه،
إما الإمام، أو غيره، فلم يخبره بانتهاء العدد، فالضمان على من يعد؛ لأن
الخطأ منه. وإن أمره الإمام بالزيادة، فزاد جاهلاً بتحريم الزيادة، فالضمان
على الإمام، كما لو أمره بقتل معصوم يجهل المأمور حاله. وإن علم تحريم ذلك،
فالضمان عليه. وقال القاضي: هو على الإمام، كما لو جهل الحال، ومتى كانت
الزيادة من الإمام عمداً، فالضمان على عاقلته؛ لأنه عمد الخطأ، إلا أن يكون
مما يقتل غالباً، فعليه في ماله؛ لأنه عمد. وإن كان خطأ، ففيه روايتان:
إحداهما: الضمان على عاقلته؛ لأنها جناية خطأ تحمل مثلها العاقلة، فكانت
على عاقلته، كما لو أخطأ في غير الحكم.
والثانية: هي في بيت المال؛ لأنه نائب الله تعالى، فيتعلق الحكم بمال الله،
ولأن خطأه يكثر، فإيجاب عقله على عاقلته إجحاف بهم.
فصل
وإذا اجتمع عليه حدود من جنس، مثل أن زنى مرات، أو شرب الخمر مرات، ولم
يحد، فحد واحد؛ لأنها طهرة سببها واحد، فتداخلت، كالطهارة. وإن اجتمعت حدود
من أجناس لا قتل فيها، أقيمت كلها؛ لأن أسبابها مختلفة، فلم تتداخل،
كالطهارات المختلفة، ويبدأ بالأخف فالأخف؛ لأننا إذا بدأنا بالأغلظ، لم
نأمن أن يموت فيفوت به سائرها، وأخفها حد الشرب إن قلنا: هو أربعون، فيبدأ
به، ثم بحد
(4/109)
القذف. وإن قلنا: هو ثمانون، بدئ بحد
القذف؛ لأنه كحد الشرب في عدده، ويرجح لكونه حق آدمي، ثم بحد الشرب، ثم بحد
للزنا، ثم بقطع للسرقة، ولا يقام الثاني حتى يبرأ من الأول؛ لأننا لا نأمن
من تلفه بموالاتها، والمقصود زجره لا قتله. وإن اجتمع قطع السرقة، وقطع
المحاربة، قطعت يده لهما؛ لأن محلهما واحد، ثم تقطع رجله في الحال؛ لأن
قطعهما حد واحد، فتجب الموالاة فيه، كالجلدات في الزنا، فأما إن كان في
الحدود لله تعالى قتل، كالرجم في الزنا، أو القتل للمحاربة، قتل، وسقط
سائرها؛ لأن ذلك يروى عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنها حدود
لله تعالى فيها قتل، فاجتزئ به عنها، كما لو قطع في المحاربة، وأخذ المال،
ولأن زجره يحصل بالقتل، فلا حاجة إلى غيره.
فصل
وإن اجتمعت حدود للآدميين، استوفيت كلها، سواء كان فيها قتل، أو لم يكن.
ويبدأ بأخفها، لما ذكرنا. وإن اجتمعت حدود لله تعالى، وللآدمي، ولا قتل
فيها استوفيت كلها، إلا أن يتفق الحقان في محل واحد، كالقطع للقصاص
والسرقة، فإنه يقدم القصاص؛ لأنه حق آدمي، ويسقط الحد لفوات محله. وإن كان
فيها قطع، سقط ما سواه من حدود الله، وتستوفى حقوق الآدميين، ثم يقتل، لما
ذكرناه.
فصل
والضرب في الزنا أشد منه في سائر الحدود؛ لأن الله تعالى، خصه بمزيد تأكيد
بقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}
[النور: 2] ولأن الفاحشة به أعظم، فكانت عقوبته أشد، ثم بعده الضرب في حد
القذف؛ لأنه يليه في العدد، وهو حق آدمي، ثم الضرب في الشرب؛ لأنه أخف
الحدود، وهو محض حق الله تعالى، ثم التعزير؛ لأنه لا يبلغ به الحد. وذكر
الخرقي: أن العبد يضرب بدون سوط الحر؛ لأن حده أقل عدداً، فيكون أخف سوطاً،
كالشرب مع الزنا. ويحتمل التسوية بينهما في السوط؛ لأن الله تعالى قال:
{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:
25] . ولا يتحقق النصف إذا نصفنا العدد، إلا مع تساوي السوطين.
فصل
ويضرب في جميع الحدود بسوط وسط، لا جديد، ولا خلق، لما روي «أن رجلاً اعترف
عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالزنا، فدعا له رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسوط، فأتي بسوط مكسور،
(4/110)
فقال: فوق هذا وأتي بسوط جديد لم تكسر
ثمرته، فقال: بين هذين.» رواه مالك عن زيد بن أسلم مرسلاً. وقال علي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ضرب بين ضربين، وسوط بين سوطين، وهكذا الضرب يكون
وسطاً، لا شديد فيقتل، ولا ضعيف فلا يردع، ولا يرفع باعه كل الرفع، ولا
يحطه كل الحط، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يبدي إبطه في شيء من
الحدود. يعني: لا يبالغ في رفع يده؛ لأن المقصود أدبه، لا قتله.
[باب التعزير]
وهو مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، كوطء جاريته المشتركة، أو
المزوجة، ومباشرة الأجنبية فيما دون الفرج، وسرقة ما لا يوجب الحد،
والجناية بما لا يوجب القصاص ونحوه؛ لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -، أنه سئل عن قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا خبيث. قال: هن فواحش،
فيهن تعزير، ليس فيهن حد. ويجوز بالضرب، وبالحبس، والتوبيخ. ولا يجوز قطع
شيء من أعضائه، ولا جرحه؛ لأنه لم يرد الشرع بذلك، ولا يتعين الجلد، إلا في
وضعين:
أحدهما: إذا وطئ جارية زوجته بإذنها، فإنه يجلد مائة؛ لما ذكرنا من حديث
النعمان بن بشير.
والثاني: إذا وطئ الأمة المشتركة، فإنه يجلد مائة إلا سوطاً؛ لما روى سعيد
بن المسيب عن عمر في أمة بين رجلين وطئها أحدهما يجلد الحد إلا سوطاً، ولا
تقدير فيما عداهما، إلا أنه لا يزاد على عشر جلدات؛ لما روى أبو بردة قال:
«سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ولا يجلد أحد
فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله» متفق عليه.
وعنه: أن وطء الجارية المشتركة، لا يزاد فيه على عشر جلدات، للخبر. وعنه:
ما يدل على أن ما كان سببه الوطء يجلد مائة إلا سوطاً؛ لخبر عمر. وما كان
سببه غير الوطء، لم يبلغ به أدنى الحدود، فلا يعزر الحر بما يجلد به في
الخمر، ولا يبلغ بالعبد حده؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه قال: «من بلغ حداً في غير حد، فهو من المعتدين»
فصل
ويجب التعزير في الموضعين اللذين ورد الخبر فيهما، وما عداهما يفوض إلى
اجتهاد الإمام؛ لما «روي أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقال: إني لقيت امرأة، فأصبت منها
(4/111)
ما دون أن أطأها، فقال: أصليت معنا؟ قال:
نعم. فتلا عليه: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]
.» فإن جاء تائباً معترفاً يظهر منه الندم والإقلاع، جاز ترك تعزيره للخبر.
وإن لم يكن كذلك، وجب تعزيره؛ لأنه أدب مشروع لحق الله تعالى، فوجب كالحد.
فصل
وإن مات من التعزير، لم يجب ضمانه؛ لأنه مات من عقوبة مشروعة للردع والزجر،
فلم يضمن ما تلف بها، كالحد. وإن تجاوز التعزير المشروع، ضمن، كما لو تجاوز
الحد في الحد.
[باب دفع الصائل]
كل من قصد إنساناً في نفسه، أو أهله، أو ماله، أو دخل منزله بغير إذنه، فله
دفعه؛ لما روى عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أريد ماله بغير حق فقاتل
فقتل، فهو شهيد» . رواه الخلال بإسناده. وقال الحسن: من عرض لك في مالك،
فقاتله، فإن قتلته فإلى النار، وإن قتلك فشهيد؛ ولأنه لو لم يدفعه لاستولى
قطاع الطرق على أموال الناس، واستولى الظلمة والفساق على أنفس أهل الدين
وأموالهم. ولا يجب الدفع؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه قال في الفتنة: «اجلس في بيتك، فإن خفت أن يبهرك شعاع
السيف، فغط وجهك» . وفي لفظ: «فكن كخير ابني آدم» وفي لفظ: «فكن عبد الله
المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» ؛ ولأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
لم يدفع عن نفسه، إلا أن يراد أهله، فيجب الدفع؛ لأنه لا يجوز إقرار المنكر
مع إمكان دفعه، وللمسلمين عون المظلوم، ودفع الظالم؛ لقول الله تعالى:
{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي
حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] وقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قال: كيف
أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: ترده عن ظلمه» وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
«المؤمنون يتعاونون على الفتان» ولأنهم لو لم يتعاونوا على دفع الظلم،
لقهرهم الظلمة وقطاع الطريق.
فصل
ويدفع الصائل بأسهل ما يمكن الدفع به، فإن أمكن دفعه بيده، لم يجز ضربه
(4/112)
بالعصا، وإن اندفع بالعصا، لم يجز ضربه
بحديدة، وإن أمكنه دفعه بقطع عضو، لم يجز قتله، وإن لم يمكن إلا بالقتل،
قتله ولم يضمنه؛ لأنه قتل بحق فلم يضمنه، كالباغي. وإن قتل الدافع، فهو
شهيد، وعلى الصائل ضمانه، للخبر ولأنه قتل مظلوماً، فأشبه ما لو قتله في
غير الدفع. فإن أمكنه دفعه بغير قطع شيء منه، فقطع منه عضواً، ضمنه، وإن
أمكنه دفعه بقطع عضو، فقتله، أو قطع زيادة على ما يندفع به، ضمنه؛ لأنه جنى
عليه بغير حق، أشبه الجاني ابتداء، ولأنه معصوم أبيح منه ما يندفع به شره،
ففيما عداه يبقى على العصمة. فإذا ضربه فعطله، لم يجز أن يضربه أخرى؛ لأنه
قد انكف أذاه وهو المقصود. وإن قطع يده، فولى عنه، فضربه، فقطع رجله، ضمن
رجله؛ لأنها قطعت بغير حق، ولم يضمن اليد؛ لأنها قطعت بحق. وإن مات منهما،
فلا قصاص في النفس؛ لأنه من مباح ومحظور، ويضمن نصف ديته.
فصل
وإن عض يد إنسان، فانتزعها من فيه، فانقلعت ثناياه، لم يضمنها؛ لما روى
عمران بن حصين «أن يعلى بن أمية قاتل رجلاً، فعض أحدهما يد صاحبه، فانتزع
يده من فيه، فانتزع ثنيته، فاختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فقال: أيعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية له» متفق عليه؛
ولأن فعله ألجأه إلى الإتلاف، فلم يضمنه، كما لو رماه بحجر، فعاد عليه
فقتله.
وإن أراد رجل امرأة فقتلته دفعاً عن نفسها، لم تضمنه، نص عليه أحمد، وذكر
حديثاً عن عبيد بن عمير أن رجلاً ضاف ناساً من هذيل، فأراد رجل منهم امرأة
عن نفسها، فرمته بحجر فقتلته، فقال عمر: والله لا يودى أبداً. ولو وجد رجل
رجلاً يزني بامرأته فقتلهما لم يضمنهما؛ لما روى سعيد بإسناده عن إبراهيم
أن قوماً قالوا لعمر: يا أمير المؤمنين، إن هذا قتل صاحبنا مع امرأته، فقال
عمر: ما يقول هؤلاء؟ قال: ضرب الآخر فخذي امرأته بالسيف، فإن كان بينهما
أحد فقد قتله، فقال له عمر: ما تقول؟ قالوا: ضرب بسيفه، فقطع فخذي المرأة،
فأصاب وسط الرجل، فقطعه باثنين، فقال عمر: إن عادوا فعد. إلا أن تكون
المرأة مكرهة، فلا يحل قتلها. وإن قتلها، ضمنها؛ لأنه قتلها بغير حق.
فصل
ومن اطلع في بيت غيره من ثقب، أو شق باب، أو باب غير مفتوح. فرماه
(4/113)
صاحب البيت بحصاة، أو طعنه بعود، فقلع
عينه، لم يضمنها؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة،
ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح» . وعن سهل بن سعد: «أن رجلاً اطلع في جحر من
باب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحك رأسه بمدرى في يده، فقال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو علمت أنك تنظرني، لطعنت بها في
عينك» متفق عليهما. ظاهر كلام أحمد أنه لا يعتبر أن لا يمكن دفعه إلا بذلك،
لظاهر الخبر. قال ابن حامد: يدفعه أولاً بأسهل ما يمكن دفعه به، كالصائل
سواء. وليس له رميه بحجر كبير يقتله، ولا بحديدة، فإن فعل، ضمنه؛ لأنه إنما
يملك ما يقلع بع العين المبصرة التي حصل الأذى منها. فإن لم يمكن دفعه
بالشيء اليسير، جاز بالكبير حتى يأتي ذلك على نفسه، ولا ضمان عليه؛ لأنه
تلف بفعل جائز. وسواء كان في البيت حرمة ينظر إليها، أو لم يكن، لعموم
الخبر.
وإن كان المطلع أعمى، لم يجز رميه؛ لأنه لا ينظر، فصار وجهه، كقفا غيره.
وإن اطلع ذو محرم لأهله، لم يجز رميه؛ لأنه غير ممنوع من النظر إلا أن تكون
المرأة متجردة، فيجوز رميه؛ لأنه يحرم عليه النظر إليها متجردة كالأجنبي.
ولو تجرد إنسان في طريق، لم يجز له رمي من نظر إليه؛ لأنه هتك نفسه بتجرده
في غير موضع التجرد.
فصل
وإن صالت عليه بهيمة، فله دفعها بأسهل ما تندفع به، فإن لم يمكن إلا بالقتل
فقتلها، لم يضمنها؛ لأنه إتلاف بدفع جائز، فلم يضمنه، كدفع الآدمي الصائل
ولأنه حيوان قتله لدفع شره. أشبه الآدمي.
فصل
ومن قتل إنساناً، أو بهيمة، أو جنى عليهما، وادعى أنه فعل ذلك للدفع عن
نفسه، أو حرمته، أو قتل رجلاً وامرأته، وادعى أنه وجده معها، فأنكر الولي،
فالقول قول الولي، وله القصاص؛ لما روي أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
سئل عن رجل قتل امرأته ورجلاً معها، وادعى أنه وجده معها، فقال علي: إن جاء
بأربعة شهداء، وإلا دفع برمته، ولأن القتل متحقق، وما يدعيه خلاف الظاهر.
وإن أقام بينة أنه قصده بسلاح مشهور، فضربه هذا، لم يضمنه؛ لأن الظاهر أنه
قصد قتله. وإن شهدت أنه دخل بسلاح غير مشهور، لم يسقط الضمان؛ لأنه ليس
هاهنا ما يدفعه.
(4/114)
فصل
ومن اقتنى كلباً عقوراً، فأطلقه حتى عقر إنساناً أو دابة، أو اقتنى هرة
تأكل الطيور، فأكلت طير إنسان، ضمنه؛ لأنه مفرط باقتنائه وترك حفظه. وإن
دخل إنسان داره بغير إذنه، فعقره الكلب، لم يضمنه؛ لأنه متعد بالدخول،
متسبب إلى إتلاف نفسه، فلم يضمنه، كما لو سقط في بئر فيها.
فصل
وما أتلفت البهائم من الزرع ليلاً، فضمانه على صاحبها. وما أتلفت منه
نهاراً، لم يضمنه إلا أن تكون يده عليها؛ لما روى الزهري عن حرام بن سعد بن
محيصة: «أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن على أهل الأموال حفظها بالنهار،
وما أفسدت بالليل، فهو مضمون عليهم.» رواه أبو داود؛ ولأن عادة أهل المواشي
إرسالها بالنهار للرعي، وحفظها ليلاً، وعادة أهل الحوائط حفظها نهاراً دون
الليل، فكان التفريط من تارك الحفظ في وقت عادته. وذكر القاضي: أنه متى لم
يكن في القرية مرعى إلا بين زرعين، لا يمكن حفظ الزرع فيه من البهيمة،
كساقية ونحوها، فليس لصاحبها إرسالها ليلاً، ولا نهاراً، فإن فعل، فهو
مفرط، وعليه الضمان. ومتى كان التفريط في إرسال البهيمة من غير المالك، مثل
أن أرسلها غيره، أو فتح بابها لص، أو غيره، فالضمان عليه دون المالك؛ لأنه
سبب الإتلاف.
فصل
وإن أتلفت البهيمة غير الزرع، ولا يد لصاحبها عليها، لم يضمنه ليلاً كان أو
نهاراً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العجماء
جبار» . يعني هدراً؛ لأن البهيمة لا تتلف ذلك عادة، فلم يجب حفظها عنه. فإن
ابتلعت جوهرة إنسان، فطلب ذبحها ليأخذ جوهرته، فعليه ضمان ما نقص بالذبح؛
لأنه فعل ذلك لتخليص ماله، وليس على صاحب البهيمة ضمان نقص الجوهرة؛ لأنها
نقصت بفعل غير مضمون. وإن كانت يد صاحبها عليها، ضمن الجوهرة؛ لأن فعلها
منسوب إليه، ويخير بين ذبحها، ورد الجوهرة، وأرش نقصها، وبين غرمها
بقيمتها، كمن غصب خيطاً فخاط به جرح حيوان. فإن عاد فذبحها رد الجوهرة إلى
صاحبها، واسترجع القيمة، كما لو غصب عبداً فأبق، فرد قيمته، ثم قدر عليه.
(4/115)
|