الكافي
في فقه الإمام أحمد [كتاب الأقضية]
القضاء فرض على الكفاية، بدليل قول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم بين الناس، وبعث علياً إلى اليمن للقضاء، وحكم
الخلفاء الراشدون، وولوا القضاة في الأمصار؛ ولأن الظلم في الطباع، فيحتاج
إلى حاكم ينصف المظلوم، فوجب نصبه، فإن لم يكن من يصلح للقضاء إلا واحداً،
تعين عليه، فإن امتنع أجبر عليه؛ لأن الكفاية لا تحصل إلا به، وعن أحمد:
أنه سئل هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره ممن يوثق به؟ قال: لا يأثم. وهذا
يدل على أنه لا يجب عليه الدخول فيه؛ لأن عليه في التولي خطراً وغرراً، فإن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من جُعل قاضياً، فقد
ذبح بغير سكين» . رواه الترمذي وقال: حديث حسن. فلم يلزمه الإضرار بنفسه
لنفع غيره، فعلى هذا القول يكره له طلبه، لما فيه من الخطر؛ ولأن السلف -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يأبون القضاء أشد الإباء ويفرون منه. وإن
طلب فالأولى أن لا يدخل فيه؛ لأنه أسلم له. وقال ابن حامد: إن كان خاملاً،
إذا ولي نشر علمه، فالأفضل الدخول فيه، لما يحصل من نشر العلم. وإن كان
ينشر علمه بغير ولاية، فالأفضل أن لا يدخل فيه؛ لأن الاشتغال بنشر العلم مع
السلامة أفضل. فأما من يوجد غيره ممن يصلح للقضاء، فلا يجب عليه الدخول
فيه، ويكره له طلبه، لما روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره
عليه أنزل الله عليه ملكاً يسدده» . قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وإن طُلِبَ، فالأفضل له الامتناع إلا على قول ابن حامد على التفصيل الماضي.
وأما من لا يُحسن القضاء، فيحرم عليه الدخول فيه؛ لأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القضاة ثلاثة:
(4/221)
واحد في الجنة، واثنان في النار، إلى قوله:
ورجل قضى بين الناس بجهل فهو في النار» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه
فصل:
ويجوز للقاضي أخذ الرزق عند الحاجة، لما روي أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -، لما ولي الخلافة، أخذ الذراع، وخرج إلى السوق، فقيل له: لا يسعك
هذا، فقال: ما كنت لأدع أهلي يضيعون من أجلكم، ففرضوا له كل يوم درهمين.
وبعث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الكوفة عمار بن ياسر والياً، وابن
مسعود قاضياً، وعثمان بن حنيف ماسحاً، وفرض لهم كل يوم شاة، نصفها لعمار،
والنصف الآخر بين عبد الله وعثمان. وكتب إلى معاذ، وأبي عبيدة في الشام: أن
انظروا رجالاً من صالحي مَن قبلكم، فاستعلموهم على القضاء، وارزقوهم
وأوسعوا عليهم من مال الله. فأما مع عدم الحاجة. ففيه وجهان:
أحدهما: الجواز، لما ذكرنا؛ ولأنه يجوز للعامل الأخذ على العمالة مع الغنى،
فكذلك القضاء.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه يختص أن يكون فاعله من أهل القربة، فلم يجز أخذ
الأجرة عليه؛ كالصلاة. قال أحمد: ما يعجبني أن يأخذ على القضاء أجراً، وإن
كان فبقدر شغله، مثل ولي اليتيم. وإذا قلنا: يجوز أخذ الرزق، فلم يجعل له
شيء، فقال: لا أقضي بينكما إلا بجُعْل، جاز.
فصل:
ويشترط للقضاة عشرة أشياء: أن يكون مسلماً، عدلاً، بالغاً، عاقلاً؛ لأن هذه
شروط الشهادة، فأولى أن تشترط للقضاء.
الخامس: الذكورية، فلا يصح تولية المرأة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» رواه البخاري؛ ولأن
المرأة ناقصة العقل، غير أهل لحضور الرجال ومحافل الخصوم. ولا يصح تولية
الخنثى؛ لأنه لم يعلم كونه ذكراً.
السادس: الحرية. فلا يصح تولية العبد؛ لأنه منقوص برقه، مشغول بحقوق سيده،
لا تقبل شهادته في جميع الأشياء، فلم يكن أهلاً للقضاء، كالمرأة.
السابع: أن يكون متكلماً، لينطق بالفصل بين الخصوم.
(4/222)
الثامن: أن يكون سميعاً ليسمع الدعوى،
والإنكار، والبينة، والإقرار.
التاسع: أن يكون بصيراً، ليعرف المدعي من المدعى عليه، والمقر من المقر له،
والشاهد من المشهود عليه.
العاشر: أن يكون مجتهداً، وهو العالم بطرق الأحكام، لما روي أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القضاة ثلاثة واحد في الجنة،
واثنان في النار. فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضى به، فهو في
الجنة. ورجل عرف الحق فحكم فجار في الحكم، فهو في النار. ورجل قضى للناس
على جهل، فهو في النار» . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه؛ ولأنه إذا لم
يجز أن يفتي الناس وهو لا يلزمهم الحكم، فلئلا يقضي بينهم وهو يلزمهم الحكم
أولى. ولا يشترط كونه كاتباً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - سيد الحكام، وهو أمي. وقيل: يشترط؛ ليعلم ما يكتبه كاتبه،
فيأمن تحريفه.
فصل:
ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف، لئلا يطمع فيه الظالم، فينبسط عليه. ليناً
من غير ضعف، لئلا يهابه صاحب الحق، فلا يتمكن من استيفاء حجته بين يديه.
حليماً ذا أناة وفطنة ويقظة، لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة. ذا ورع وعفة،
ونزاهة، وصدق. قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا ينبغي للقاضي أن يكون
قاضياً حتى يكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي
الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم.
فصل:
ولا تصح ولاية القضاة إلا بتولية الإمام، أو من فوض إليه الإمام؛ لأنه من
المصالح العظام، فلم يصح إلا من جهة الإمام، كعقد الذمة. ومن شرط صحة
التولية، معرفة المولي للمولى، وأنه على صفة تصلح للقضاء. فإن كان يعرفه،
وإلا سأل عنه، فإذا علم ذلك ولاه.
وألفاظ التولية تنقسم إلى صريح وكناية، فصريحها سبعة: وليتك الحكم، وقلدتك،
واستنبتك، واستخلفتك، ورددت إليك الحكم، وفوضت إليك، وجعلت إليك، فإذا أتى
بواحدة منها واتصل بها القبول، انعقدت الولاية.
وأما الكناية، فهي أربعة: اعتمدت عليك في الحكم، وعولت عليك، ووكلت
(4/223)
إليك وأسندت إليك الحكم، فلا تنعقد التولية
بها حتى تقترن بها قرينة، نحو: فاحكم فيما وكلت إليك، وانظر فيما أسندت
إليك وتول فيما عولت عليك فيه؛ لأن هذه الألفاظ تحتمل التولية وغيرها، من
كونه يأخذ برأيه، وغير ذلك، فلا تنصرف إلى التولية إلا بقرينة.
فصل:
فإن تحاكم رجلان إلى من يصلح للقضاء، فحكماه ليحكم بينهما، جاز، لما روى
أبو شريح أنه «قال: يا رسول الله إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت
بينهم، فرضي علي الفريقان، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ما أحسن هذا» . رواه النسائي؛ ولأن عمر وأبياً - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا -، تحاكما إلى زيد بن ثابت وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير
بن مطعم. فإذا حكم بينهما، لزم حكمه؛ لأن من جاز حكمه، لزم، كقاضي الإمام.
فإن رجع أحد الخصمين عن تحكيمه، قبل شروعه في الحكم، فله ذلك؛ لأنه إنما
صار حكماً لرضاه به، فاعتبر دوام الرضى. وإن رجع بعد شروعه فيه، وقبل
تمامه، ففيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن الحكم لم يتم، أشبه ما قبل الشروع.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما، إذا رأى من الحكم ما
لا يوافقه، رجع، فيبطل المقصود بذلك. واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه
التحكيم، فقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أن تحكيمه يجوز في كل ما يتحاكم
فيه الخصمان، قياساً على قاضي الإمام. وقال القاضي: يجوز حكمه في الأموال
الخاصة. فأما النكاح والقصاص، وحد القذف، فلا يجوز التحكيم فيها؛ لأنها
مبنية على الاحتياط، فيعتبر للحكم فيها قاضي الإمام، كالحدود.
فصل:
ويجوز أن يولي في البلد الواحد قاضيين فأكثر، على أن يحكم كل واحد منهما في
موضع، وأن يجعل إلى أحدهما القضاء في حق، وإلى الآخر في حق آخر، أو إلى
أحدهما في زمن، وإلى الآخر في زمن آخر؛ لأنه نيابة عن الإمام، فكان على حسب
الاستنابة. وهل يجوز أن يجعل إليهما القضاء في مكان واحد وزمن واحد، وحق
واحد؟ فيه وجهان:
(4/224)
أحدهما: يجوز؛ لأنه نيابة، فجاز جعلها إلى
اثنين، كالوكالة.
والثاني: لا يجوز، فقد يختلفان، فتقف الحكومة.
فصل:
ولا يجوز تقليده القضاء على أن يحكم بمذهب معين، لقول الله تعالى:
{فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] . وإنما يظهر له الحق
بالدليل، فلا يتعين ذلك في مذهب بعينه. فإن قلد على هذا الشرط، بطل الشرط.
وفي فساد التولية وجهان، بناء على الشروط الفاسدة في البيع.
فصل:
إذا ولاه قاضياً في غير بلده، كتب إليه العهد بما ولاه؛ لأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب لعمرو بن حزم، حين بعثه إلى اليمن.
وروى حارثة بن مضرب، أن عمر كتب إلى أهل الكوفة: أما بعد، فإني بعثت إليكم
عماراً أميراً، وعبد الله قاضياً وأميراً، فاسمعوا لهما وأطيعوا، فقد
آثرتكم بهما. فإن كان البلد الذي ولاه بعيداً، أشهد على التولية شاهدين
لتثبت التولية بهما. وإن كان قريباً، فإن شاء أشهد، وإن شاء اكتفى
بالاستفاضة؛ لأنها تثبت الولاية. ويستحب للقاضي السؤال عن حال البلد الذي
وليه، ومن فيه من العلماء والأمناء؛ لأنه لا بد له منهم، فاستحب تقدم العلم
بهم.
ويستحب أن يدخل البلد يوم الخميس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك. فإذا دخل قصد الجامع، فصلى فيه ركعتين، وأمر
بجمع الناس، فقرأ عليهم عهده ليعلموا التولية، وما فوض إليه، ويعد الناس
يوماً لجلوسه، ثم يصير إلى منزله، ويجعل منزله في وسط البلد إن أمكن
ليتساووا في قربه.
فصل:
وإن نهاه الذي ولاه عن الاستخلاف، لم يكن له ذلك؛ لأنه نائب فيتبع قول من
استنابه. وإن لم ينهه، جاز له الاستخلاف؛ لأن الغرض من القضاء الفصل بين
المتخاصمين وإيصال الحق إلى مستحقه، فجاز أن يليه بنفسه وبغيره. فإذا
استخلف القاضي خليفة، انعزل بموته وعزله؛ لأنه نائبه، فأشبه الوكيل. وإن
ولى الإمام قاضياً، فهل ينعزل بموته وعزله؟ فيه وجهان:
(4/225)
أحدهما: ينعزل كذلك، ولما روي عن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لأعزلن أبا مريم - يعنى عن قضاه البصرة -
وأولي رجلاً إذا رآه الفاجر فرقه، فعزله وولى كعب بن سوار. وولى علي أبا
الأسود، ثم عزله فقال: لم عزلتني وما خنت ولا جنيت؟ فقال: إني رأيتك يعلو
كلامك على الخصمين.
والثاني: لا ينعزل؛ لأنه عقده لمصلحة المسلمين، فلم يملك عزله مع سداد
حاله، كما لو عقد الولي النكاح على موليته، لم يملك فسخه. وإن اختل أحد
الشروط، بأن يفسق، أو يختل عقله، أو بصره، انعزل بذلك؛ لأنه فات الشرط،
فانتفى المشروط كالصلاة.
فصل:
وليس له أن يقضي ولا يولي ولا يسمع البينة، ولا يكاتب قاضياً في حكم في غير
عمله، ولا يعتد بذلك إن فعله؛ لأنه لا ولاية له في غير عمله، أشبه سائر
الرعية.
فصل:
ولا يجوز له أن يحكم لنفسه؛ لأنه لا يجوز أن يكون شاهداً لها، ويتحاكم هو
وخصمه إلى قاض آخر. ويجوز أن يحاكمه إلى بعض خلفائه؛ لأن عمر حاكم أبياً
إلى زيد. وحاكم عثمان طلحة إلى جبير. ولا يجوز أن يحكم لوالده وإن علا، ولا
لولده وإن سفل؛ لأنه متهم في حقهما، فلم يجز حكمه لهما، كنفسه. وقال أبو
بكر: يجوز حكمه لهما؛ لأنهما من رعيته، فجاز حكمه لهما، كالأجانب، وإن
اتفقت حكومة بين والديه، أو ولديه، أو والده وولده، فالحكم فيهما، كما لو
انفرد أحدهما؛ لأن ما منع منه في حق أحدهما إذا كان خصمه أجنبيا، منع منه
إذا ساواه خصمه، كالشهادة. ويجوز له استخلاف والده وولده في أعماله؛ لأن
غاية ما فيه أنهما يجريان مجراه.
فصل:
ولا يجوز له أن يرتشي في الحكم، لما روى عبد الله بن عمرو قال: «لعن رسول -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الراشي والمرتشي» . قال الترمذي: هذا
حديث صحيح؛ ولأنه أخذ مال على حرام، فكان حراماً، كمهر البغي.
ولا يجوز له قبول الهدية ممن لم تجر عادته بها قبل الولاية، لما روى أبو
حميد قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً من
الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقه، فقال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي،
فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر، فقال: ما
بال العامل نبعثه فيقول:
(4/226)
هذا لكم وهذا أهدي إلي، ألا جلس في بيت
أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه شيء أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يبعث أحد
منكم فيأخذ شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته» . متفق عليه. فدل
على أن أهدي إليه مما كانت الولاية سبباً له محرم عليه.
فأما من كانت عادته الهدية إليه قبل الولاية، فجائز قبولها؛ لأن قول النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر
أيهدى إليه أم لا» . يدل على تعليل تحريم الهدية، لكون الولاية سببها، وهذه
لم تكن سببها الولاية فجاز قبولها إلا أن تكون في حال الحكومة بينه وبين
خصم له، فلا يجوز قبولها؛ لأنه يتهم، فهي كالرشوة. والأولى الورع عنها في
غير حال الحكومة؛ لأنه لا يأمن أن تكون الحكومة منتظرة.
فصل:
ويكره أن يباشر البيع والشراء بنفسه، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما عدل وال اتجر في رعيته» .
وقال شريح: شرط علي عمر حين ولاني القضاء: أن لا أبيع، ولا أبتاع، ولا
أرشي، ولا أقضي وأنا غضبان؛ ولأنه يعرف، فيحابى، فيجري مجرى الهدية.
ويستحب أن يوكل من لا يعرف أنه وكيله. فإذا عرف استبدل به حتى لا يحابى،
فإن لم يمكنه الاستنابة، تولاه بنفسه؛ لأن أبا بكر الصديق أخذ الذراع وقصد
السوق ليتجر فيه؛ ولأنه لا بد له منه. فإن كان لمن بايعه حكومة، استخلف من
يحكم بينه وبين خصمه، كيلا يميل إليه.
فصل:
ويجوز للقاضي حضور الولائم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أمر بإجابة الداعي. ولا يخص بإجابته قوماً دون قوم؛ لأنه جور. فإن كثرت
عليه وشغلته، ترك الجميع؛ لأنه يشتغل بها عما هو أوكد منها. وله عيادة
المرضى، وشهود الجنائز، ويأتي مقدم الغائب؛ لأنه قربة وطاعة. وله أن يخص
بذلك قوماً دون قوم؛ لأن هذه الأمور لحق نفسه طلباً لثواب الله تعالى، فكان
له فعل ما أمكن منها دون ما لم يمكن. وحضور الوليمة لحق الداعي. فإذا خص
بعضهم بها، حصل مراعياً لبعضهم دون بعض، فكان ذلك ميلاً.
فصل:
ولا يقضي في حال الغضب، ولا الجوع، والعطش، والحزن، والفرح المفرط،
(4/227)
والنعاس الشديد، والمرض المقلق، ومدافعة
الأخبثين، والحر المزعج، والبرد المؤلم، لما روى أبو بكرة قال: سمعت رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحكم أحد بين اثنين
وهو غضبان» . متفق عليه. فثبت النص في الغضب، وقسنا عليه سائر المذكور؛
لأنه في معناه؛ ولأن هذه الأمور تشغل قلبه، فلا يتوفر على الاجتهاد في
الحكم وتأمل الحادثة. فإن حكم في هذه الأحوال، ففيه وجهان:
أحدهما: ينفذ حكمه، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- اختصم إليه الزبير، ورجل من الأنصار في شراج الحرة فقال النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزبير: اسق زرعك ثم أرسل الماء إلى جارك
فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ثم قال للزبير: اسق زرعك ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر» . متفق
عليه. فحكم في غضبه.
والثاني: لا ينفذ حكمه؛ لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه،
وقيل: إنما يمنع الغضب الحكم قبل أن يتضح حكم المسألة؛ لأنه يشغله عن
استيضاح الحق. أما إذا حدث بعد اتضاح الحكم، لم يمنع حكمه فيها، كقصة
الزبير.
فصل:
ويستحب للحاكم الجلوس للحكم في موضع بارز واسع يصل إليه كل أحد، ولا يحتجب
من غير عذر، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه
قال: «من ولي من أمر الناس شيئاً فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم، احتجب الله
دون حاجته وفقره» رواه الترمذي
ويكون موضعاً لا يتأذى فيه بحر ولا برد ولا دخان ولا رائحة منتنة؛ لأن عمر
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى أبي موسى: إياك والقلق والضجر. وهذه
الأشياء تفضي إلى الضجر، وتمنعه من التوفر على الاجتهاد، ويمنع الخصوم من
استيفاء الحجة، ولا بأس بالقضاء في المساجد، لما روي عن عمر وعثمان وعلي -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم كانوا يقضون في المسجد. وقال مالك: هو من
أمر الناس القديم. فإن اتفق لأحد الخصمين مانع من دخول المسجد، كالحيض،
والكفر، وكل له وكيلاً أو انتظره حتى يخرج، فيحاكم إليه.
فصل:
وإن احتاج إلى أعوان لإحضار الخصوم، اتخذ أمناء كهولاً أو شيوخاً من أهل
الدين،
(4/228)
ويوصيهم بالرفق بالخصوم. وإن دعت الحاجة
إلى اتخاذ حاجب اتخذه أميناً بعيداً من الطمع، ويوصيه بما يلزمه من تقديم
من سبق.
فصل:
ويتخذ حبساً؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشترى داراً بمكة بأربعة
آلاف اتخذها سجناً. واتخذ علي سجناً؛ ولأنه قد يحتاج إليه للتأديب واستيفاء
الحق من المماطل، والاحتفاظ بمن عليه قصاص أو حد، حتى يستوفى.
فصل:
وينبغي أن يتخذ كاتباً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
استكتب زيداً وغيره؛ ولأن الحاكم يكثر اشتغاله ونظره فلا يتمكن من الجمع
بينهما وبين الكتابة. فإن أمكنة ولاية ذلك بنفسه، جاز. ومن شرط الكاتب أن
يكون عارفاً بما يكاتب به القضاة من الأحكام. وما يكتبه من المحاضر،
والسجلات؛ لأنه إذا لم يعرفه، أفسد ما يكتبه بجهله. وأن يكون عدلاً لأن
الكتابة موضع أمانة، ولا تؤمن خيانة الفاسق. وأن يكون مسلماً؛ لأن الإسلام
من شروط العدالة، ويستحب أن يكون ورعاً نزهاً، لئلا يستمال بالطمع. جيد
الحفظ، ليكون أكمل. حراً، ليخرج من الخلاف. فإن كان عبداً، جاز؛ لأنه من
أهل الشهادة.
فصل:
ولا يتخذ شهودا معينين، لا يقبل غيرهم؛ لأنه من ثبتت عدالته وجب قبول
شهادته، فلم يجز تخصيص قوم بالقبول دون قوم.
فصل:
ويتخذ أصحاب مسائل يتعرف بهم أحوال من جهل عدالته من الشهود. ويجب أن
يكونوا عدولاً برآء من الشحناء، بعداء من العصبية في نسب أو مذهب، كيلا
يحملهم ذلك على تزكية فاسق، أو جرح عدل. وأن يكونوا وافري العقول ليصلوا
إلى المطلوب. ولا يسألوا عدواً ولا صديقاً؛ لأن الصديق يظهر الجميل ويستر
القبيح. والعدو بخلاف ذلك. فإذا شهد عنده من يعرفه بالعدالة، قبل شهادته.
وإن علم فسقه لم يقبلها، ويعمل بعلمه في العدالة والفسق. وإن جهل إسلامه
سأل عنه، ولم يعمل بظاهر الدار؛ لأن أعرابياً شهد عند النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برؤية الهلال، فلم يحكم بشهادته حتى سأله عن
إسلامه؛ ولأنه يتعلق بشهادته حق على غيره، فلم يعمل بظاهر الدار. ويقبل
قوله في إسلام نفسه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل
قول الأعرابي في ذلك؛ ولأنه بقوله يصير مسلماً. وإن لم تعرف عدالته لم يحكم
حتى تثبت عدالته.
(4/229)
وعنه: يحكم بشهادة من جهل عدالته ما لم يقل
المشهود عليه: هو فاسق، لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: المسلمون عدول
بعضهم على بعض؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما شهد
عنده الأعرابي برؤية الهلال، لم يسأل عن عدالته؛ ولأن العدالة تخفى ويدل
عليها الإسلام، فاكتفى به. والأول: المذهب لقول الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ
يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ
الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . وقال سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ
مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وروى سليمان بن حرب قال: شهد رجل عند عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له عمر: إني لست أعرفك، ولا يضرك أنني لا أعرفك،
فائتني برجل يعرفك، فقال رجل: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين. قال: بأي شيء
تعرفه. قال: بالعدالة. قال: فهو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره، ومدخله
ومخرجه؟ قال: لا، قال: فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على
الورع؟ قال: لا، قال: فصاحبك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟
قال: لا، قال: فلست تعرفه. ثم قال للرجل: ائتني بمن يعرفك؛ ولأنه لا يؤمن
أن يكون فاسقاً. فإذا أراد أن يعرف عدالته، كتب اسمه، ونسبه، وكنيته،
وحليته، وصنعته، ومسكنه، حتى لا ينسبه، ومن شهد له وعليه، لئلا يكون ممن لا
تقبل شهادته للمشهود له، من والد أو ولد، ولا تقبل شهادته على المشهود عليه
من عدو، وقدر ما يشهد به لئلا يكون ممن يقبل قوله في القليل دون الكثير.
ويبعث ما كتبه مع أصحاب المسائل، ويجتهد أن لا يعرفهم المشهود له، ولا
المشهود عليه، لئلا يحتالا في تعديل الشهود أو جرحهم، ولا المسؤولون، لئلا
يحتال أعداؤهم في جرحهم، وأصدقاؤهم في تعديلهم. ويجتهد أن لا يعلم بعض أهل
المسائل ببعض، كيلا يجمعهم الهوى على التواطؤ على جرح أو تعديل. ويأمرهم
القاضي: أن يسألوا عنه معارفه من أهل سوقه، ومسجده، وجيرانه. فإذا عاد أهل
المسائل بجرح أو تعديل، ففيه وجهان:
أحدهما: يكتفي بقولهم؛ لأن الجيران لا يلزمهم الحضور للشهادة بما عندهم،
فعلى هذا: يشهد أصحاب المسائل عند الحاكم بلفظ الشهادة، ويعتبر عدولهم كما
في سائر المعدلين.
والثاني: لا يكتفي بهم؛ لأنهم شهود فرع، فلا يكتفى بهم مع القدرة على شهود
الأصل. لكن يعينون من أخبرهم بالجرح أو العدالة، ليستحضر الحاكم اثنين
منهم، فيسمع منهم الجرح والتعديل بلفظ الشهادة والعدد، فعلى هذا: لا يعتبر
العدد في أصحاب المسائل، بل يجوز أن يكون واحداً؛ لأنه مخبر عن شاهد، ليس
بشاهد.
(4/230)
فصل:
ولا يقبل الجرح والتعديل من أقل من اثنين؛ لأنه إخبار عن صفة من يبنى الحكم
على صفته، فأشبه الإحصان. وعنه: يكتفى بواحد. اختارها أبو بكر؛ لأنه إخبار
عن حال من لا حق له، فأشبه أخبار الديانات؛ ولأنه يكتفى في تعديل راوي
الحديث وجرحه بقول واحد، فكذلك في غيره. والأول: المذهب، لما ذكرنا. وإنما
اكتفي في تعديل الراوي بواحد؛ لأنه فرع على الرواية المنقولة من واحد،
بخلاف الشهادة، ويعتبر فيه اللفظ بالشهادة؛ لأنه شهادة إلا على الرواية
التي قلنا: هو خبر، فلا يعتبر فيه لفظ الشهادة، ويكفي في التعديل قوله:
أشهد أنه عدل. وإن لم يقل: علي ولي؛ لأنه لا يكون عدلاً، إلا له وعليه. ولا
يكفي أن يقول: لا أعلم فيه إلا الخير؛ لأنه لم يصرح بالتعديل. وإن شهد
بالجرح واحد، وبالتعديل اثنان، ثبتت العدالة؛ لأن بينة الجرح لم تكمل. وإن
شهد بالجرح اثنان، قدم الجرح على التعديل؛ لأن الشاهد به يخبر عن أمر باطني
خفي على المعدل، وشاهد العدالة يخبر عن أمر ظاهر، فقدم من يخبر عن الباطن؛
ولأن الجارح مثبت، والمعدل ناف، فقدم الإثبات. وإن شهد بالجرح اثنان،
وبالعدالة أربعة، قدم الجرح؛ لأن بينته كملت، ولا يقبل الجرح إلا مفسراً
بأن يذكر السبب الذي به جرح، ولا يكفي أن يشهد أنه فاسق، أنه ليس بعدل،
وعنه: يكتفى بذلك، كما يكتفى في التعديل أن يشهد أنه عدل. والأول: المذهب؛
لأن الناس يختلفون فيما يفسق به الإنسان، فيحتمل أن يعتقد الشاهد فسقه بما
لا يعتقده الحاكم فسقاً. والجرح والتعديل إلى الحاكم، فوجب بيانه، لينظر
فيه. ولا يجوز أن يشهد بالجرح إلا من يعلم ذلك بمشاهدة الأفعال، كالسرقة،
وشرب الخمر. أو بالسماع في الأقوال، كالقذف، والبدعة، أو بالاستفاضة
بالخبر؛ لأنه شهادة عن علم. فإن قال: بلغني كذا، أو قيل لي، لم يجز أن يشهد
به، لقول الله تعالى: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
[الزخرف: 86] ولا يقبل التعديل إلا من أهل الخبرة الباطنة ممن تقدمت
معرفته، وطالت صحبته، لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وأن المقصود
علم عدالته في الباطن، ولا يعلم ذلك إلا من تقدمت معرفته، ولا يقبل الجرح
والتعديل من النساء؛ لأنه شهادة بما ليس بمال، ولا المقصود منه المال،
ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال، أشبه الحدود.
فصل:
وإذ لم تثبت عدالته، فقال المشهود عليه: هو عدل، حكم بشهادته؛ لأن البحث
(4/231)
عن عدالته لحق المشهود عليه، وإنه ممن يثبت
بالحق بقوله، فوجب الحكم به. وفيه وجه آخر: إنه لا يثبت؛ لأن اعتبار
العدالة في الشاهد حق لله تعالى، ولهذا لو رضي المشهود عليه، أن يحكم عليه
بشهادة فاسق، لم يحكم عليه بها.
فصل:
ومن ثبتت عدالته، ثم شهد عند الحاكم بعد ذلك بزمن قريب، حكم بشهادته. وإن
كان بعده بزمن طويل، ففيه وجهان:
الوجه الأول: يحكم بشهادته؛ لأن عدالته قد ثبتت، والأصل بقاؤها.
والثاني: يعيد السؤال؛ لأن مع طول الزمان تتغير الأحوال. وإن شهد عنده
عدول، فارتاب بشهادتهم، استحب له تفريقهم، وسؤال كل واحد منهم على الانفراد
عن صفه التحمل، ومكانه، وزمانه. فإن اختلفوا سقطت شهادتهم. وإن اتفقوا،
وعظهم، لما روى أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: كنت عند محارب بن
دثار، وهو قاضي الكوفة، فجاءه رجل، فادعى على رجل حقاً، فأنكره، فأحضر
المدعي شاهدين، فشهدا له، فقال المشهود عليه: والذى تقوم به السماوات
والأرض لقد كذبا علي، وكان محارب بن دثار متكئاً، فاستوى جالساً، وقال:
سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يقول: «إن الطير لتخفق بأجنحتها، وترمى بما في حواصلها من هول يوم القيامة،
وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار» . فإن صدقتما
فاثبتا، وإن كذبتما، فغطيا رؤوسكما وانصرفا، فغطيا رؤوسهما وانصرفا.
فصل:
ويستحب أن يحضر مجلسه الفقهاء من أهل كل مذهب، يشاورهم فيما يشكل عليه،
لقول الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال الحسن:
إن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مشاورتهم
لغنياً، ولكن أراد أن يستن بذلك الحكام. وروى عبد الرحمن بن القاسم: أن أبا
بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة
أهل الرأي والفقه، دعا رجالاً من المهاجرين والأنصار، دعا عمر، وعثمان،
وعلياً، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت،
فمضى أبو بكر على ذلك، ثم ولي عمر، فكان يدعو هؤلاء النفر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ -، فإذا اتفق أمر مشكل شاورهم. فإن اتضح له الحق، حكم به. وإن لم
يتضح له أخره، ولم يقلد غيره، ضاق الوقت أو اتسع؛ لأنه مجتهد فلم يقلد
غيره، كما لو اتسع الوقت. وإن فوض الحكم في
(4/232)
الحادثة إلى من اتضح له الحق، فحكم فيها،
جاز. وإن حكم باجتهاده ثم تبين له الخطأ بنص أو إجماع، نقضه، لما روي عن
عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ردوا الجهالات إلى السنة. وكتب إلى
أبي موسى: لا يمنعنك قضاء قضيت به، ثم راجعت نفسك، فهديت لرشدك، أن تراجع
الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، وإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في
الباطل؛ ولأنه مفرط في حكمه، غير معذور فيه، فوجب نقضه. وإن تغير اجتهاده،
ولم يخالف نصاً، ولا إجماعاً، لم ينقض حكمه، لما روي عن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، أنه حكم في المشركة بإسقاط ولد الأبوين، ثم شرك بينهم
بعد، وقال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما قضينا. وقضى في الحد بقضايا
مختلفة، ولم يرد الأولى؛ ولأنه لو نقض الحكم بمثله، لأدى إلى نقض النقض،
والى أن لا تثبت قضية.
فصل:
وليس على القاضي تتبع قضايا من قبله؛ لأن الظاهر أنه لا يولى للقضاء إلا من
يصلح، والظاهر إصابته الحق. وإن علم أن القاضي قبله لا يصلح للقضاء، نقض من
أحكامه ما خالف الحق، وإن لم يخالف نصاً ولا إجماعاً؛ لأنه ممن لا يجوز
قضاؤه، أشبه حكم بعض الرعية، ويبقي ما وافق الحق؛ لأن الحق وصل إلى مستحقه،
فلا حاجة إلى نقضه. وقال أبو الخطاب: ينقضه أيضاً ليحكم به. وإن كان يصلح
للقضاء، لم يجز أن ينقض من قضاياه، إلا ما خالف نصاً أو إجماعاً، لما ذكرنا
في حكم نفسه. وإن تظلم متظلم من القاضي قبله وسأل إحضاره، لم يحضره حتى
يسأله عما بينهما؛ لأنه ربما قصد تبديله. فإن قال: لي عليه مال من معاملة،
أو غصب، أو رشوة، أحضره، وإن قال: حكم علي بشهادة فاسقين، أو عدوين، أو جار
علي في الحكم، وله بينة، أحضره، أو وكيله، وحكم له بها. وإن لم يكن له
بينة، ففيه وجهان:
أحدهما: يحضره، كما لو ادعى عليه مالاً.
والثاني: لا يحضره لأنه لا تتعذر إقامة البينة عليه. فإن أحضره فاعترف، حكم
عليه، وإن أنكر، قبل قوله بغير يمين؛ لأن قوله مقبول بحال ولايته.
فصل:
ويخرج القاضي إلى مجلس قضائه على أعدل أحواله، ويقول عند خروجه: بسم الله،
آمنت بالله، واعتصمت بالله وتوكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ويدعو بما روت أم سلمة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذا خرج من بيته قال: «اللهم إني أعوذ بك أن أزل أو
أزل، أو أضل أو أضل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي» رواه أبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حديث حسن
(4/233)
صحيح، ويسأله أن يعصمه، ويعينه.
ويجلس مستقبل القبلة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«خير المجالس ما استقبل به القبلة» ويكون عليه سكينة ووقار في مشيه وجلوسه،
ويبسط تحته شيئاً يجلس عليه، ليكون أوقر له، ويترك القمطر مختوماً بين
يديه، ليترك فيه ما يجتمع من المحاضر، والسجلات، ويجلس الكاتب قريباً منه،
ليرى ما يكتبه فإن غلط رد عليه.
فصل:
ويبدأ في نظره بالمحبوسين؛ لأن الحبس عقوبة، وربما كان فيهم من يجب إطلاقه،
فاستحب البداءة بهم، فيكتب أسماء المحبوسين، وينادي في البلدان: القاضي
ينظر في أمرهم يوم كذا، فليحضر من له محبوس، فإذا حضروا، أخرج رقعة، فأخرج
صاحبها فنظر بينه وبين خصمه، فإن وجب إطلاقه أطلقه، وإن وجب حبسه أعيد. فإن
قال: حبست بدين أنا معسر به، فصدقه خصمه، أو ثبت إعساره ببينة، أطلقه، وإن
كذبه ولم يثبت إعساره، أعيد إلى الحبس. فإن ادعى خصمه أن له داراً، وأقام
بها بينة، فقال المحبوس: هي لزيد، فكذبه زيد، بيعت الدار، وقضي الدين؛ لأن
إقراره سقط بإكذابه، وإن صدقه زيد وله بينة، فهي له؛ لأن بينته قويت بإقرار
صاحب اليد.
وإن قال: حبست في ثمن كلب، أو خمر أرقته لذمي. فقال القاضي: يطلقه لأن غرمه
ليس بواجب. وفيه وجه آخر: أن الثاني ينفذ حكم الأول؛ لأنه ليس له نقض حكم
غيره باجتهاده، ويحتمل أن يتوقف ويجتهد في أن يصطلحا على شيء؛ لأنه لا
يمكنه فعل الأمرين المتقدمين. وإن قال: حبست ظلماً، ولا حق علي، نادى
الحاكم بذلك. فإن لم يظهر له خصم، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه لا خصم له،
ولا حق عليه، ويخلي سبيله، والله أعلم.
فصل:
ثم ينظر في أمر الأوصياء والأمناء؛ لأنهم يتصرفون في حق من لا يملك
المطالبة بماله. فإن ادعى رجل أنه وصي ميت، لم يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل
عدم الوصية. فإن أقام بينة، وكان عدلاً قوياً، أقره على الوصية، وإن كان
فاسقاً أو ضعيفاً، ضم إليه أميناً يتقوى به، أو أبدله إن رأى إبداله. وإن
أقام بينة أن الحاكم الذي قبله أنفذ الوصية، أنفذها، ولم يسأل عن عدالته؛
لأن الظاهر أنه لا ينفذ ذلك إلا لمن هو أهل. وإن كان وصياً في تفرقة ثلثه،
ففرقه وهو عدل، فلا شيء عليه. وإن كان فاسقاً والوصية لمعينين، فلا شيء
عليه أيضاً؛ لأنه دفعه إلى مستحقه، وإن كان لغير معين، ففيه وجهان:
(4/234)
أحدهما: لا غرم عليه؛ لأنه دفعه إلى مستحقه
بإذن الميت، أشبه ما لو كان لمعينين.
والثاني: يغرم لأنه فرقه ولم تكن له تفرقته، فغرمه، كما لو جعلت تفرقته إلى
غيره، والله تعالى أعلم
[باب ما على القاضي في الخصوم]
يلزمه أن يسوي بين الخصمين في الدخول عليه، والمجلس، والخطاب، والإقبال
عليهما، والسماع منهما، لما روت أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتلي بالقضاء بين المسلمين، فليعدل بينهم
في لحظه، وإشارته، ومقعده، ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين، ما لا يرفعه
على الآخر» رواه عمر بن شيبة في كتاب قضاة البصرة.
وكتب عمر إلى أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: واس الناس في وجهك
ومجلسك وعدلك، حتى لا ييأس الضعيف من عدلك، ولا يطمع شريف في حيفك.
وجاء رجل إلى شريح وعنده السري، فقال: اعدل بي على هذا الجالس إلى جنبك،
فقال شريح للسري: قم فاجلس مع خصمك. قال: إني أسمعك من مكاني، قال: لا. قم
فاجلس مع خصمك، إن مجلسك برتبته، وإني لا أدع النصرة وأنا عليها قادر؛ ولأن
إيثار أحد الخصمين في بعض ما ذكرنا يكسر خصمه. والمستحب أن يجلسهما بين
يديه، لما روى ابن الزبير قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي» . رواه أبو داود ولأنه أمكن
لخطابهما، فإن كان أحدهما مسلماً والآخر ذمياً، جاز رفع المسلم عليه، لما
روى إبراهيم التيمي: أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حاكم يهودياً إلى
شريح، فقام شريح من مجلسه، فأجلس علياً فيه، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -: لو كان خصمي مسلماً لجلست معه بين يديك، ولكني سمعت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تساووهم في المجالس» . ولا
ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه، لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه
نزل به رجل، فقال: ألك خصم؟ قال: نعم. قال: تحول عنا، فإني سمعت رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تضيفوا أحد الخصمين إلا
ومعه خصمه» .
ولا يسار أحدهما، ولا يلقنه حجته، ولا يأمره بإقرار ولا إنكار، لما فيه من
الضرر. فإن لم يحسن الدعوى، ففيه وجهان:
(4/235)
أحدهما: لا يجوز له تلقينه كيف يدعي؛ لأن
في تلقينه ما يثبت حقه به، أشبه تلقينه الحجة.
والثاني: يجوز؛ لأنه لا ضرر على الآخر في تصحيح دعواه، وله أن يزن عن
أحدهما ما وجب عليه؛ لأنه نفع لخصمه، ولا يكون إلا بعد انقضاء الحكم، وله
أن يشفع لأحدهما إلى الآخر؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - شفع إلى كعب بن مالك في أن يحط عن ابن أبي حدرد بعض دينه» .
متفق عليه.
وإن أحب غلبة أحدهما ولم يظهر منه ذلك بقول، ولا فعل، فلا شيء عليه؛ لأن
التسوية في المحبة والميل بالقلب لا يستطاع، فأشبه التسوية بين النساء. ولا
ينتهر خصماً دون الآخر، لئلا يكسره، إلا أن يظهر منه لدد، أو سوء أدب،
فينهاه فإن عاد زجره. فإن عاد، عزره. ولا يزجر شاهداً، ولا يتعيبه؛ لأن ذلك
يمنعه أداء الشهادة على وجهها ويدعوه إلى ترك القيام بتحملها وأدائها، وفيه
تضييع للحقوق.
فصل:
وإذا حضر القاضي خصوم كثيرة، قدم الأول، فالأول؛ لأن الأول سبق إلى حق له،
فقدم، كما لو سبق إلى موضع مباح. فإن حضروا دفعة واحدة أو أشكل السابق،
أقرع بينهم، فمن قرع، قدم؛ لأنهم تساووا، فقدم أحدهم بالقرعة، كالنساء إذا
أراد السفر بإحداهن. وإن ثبت السبق لأحدهم، فآثر غيره بسبقه، جاز؛ لأن الحق
له، فجاز إيثاره به، كما لو سبق إلى مباح. ولا يقدم السابق في أكثر من
حكومة واحدة، كيلا يستوعب المجلس بدعاويه، فيضر بغيره. وإن حضر مقيمون
ومسافرون قليل في وقت واحد، وهم على الخروج، قدموا؛ لأن عليهم ضرراً في
المقام، وإن كانوا مثل المقيمين. ولا يزال ضرر بمثله. وإن تقدم خصمان،
فادعى أحدهما حقاً على الآخر فقال الآخر: أنا جئت به، وأنا المدعي، قدم
السابق بالدعوى؛ لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل، وللسابق حق السبق،
فقدم.
فصل:
وإذا كان بين اثنين خصومة، فدعا أحدهما صاحبه إلى مجلس الحكم، لزمته
إجابته، لقول الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا
دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] . فإن لم يحضر فاستعدي عليه، لزم
الحاكم أن
(4/236)
يعديه؛ لأن تركه يفضي إلى تضييع الحقوق.
فإن استدعاه الحاكم، لزمته الإجابة، فإن أبى تقدم إلى صاحب الشرط ليحضره.
وإن استعدى على غائب، وكان الغائب في بلد فيه حاكم، كتب إليه، لينظر
بينهما، وإن لم يكن ثم حاكم، وكان ثم من يتوسط بينهما، كتب إليه لينظر
بينهما. فإن لم يكن ثم من ينظر بينهما، لم يحضره حتى يحقق الدعوى؛ لأنه
يجوز أن يكون المدعى ليس بحق، كثمن الكلب، والخمر، فلا يكلفه مشقة الحضور،
كما لا يقضي به فإذا حقق الدعوى أحضره، بعدت المسافة أو قربت، لما روي أن
أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى المهاجر بن أبي أمية: أن ابعث
إلي بقيس بن المكشوح في وثاق، فأحلفه خمسين يميناً، على منبر رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ما قتل داذويه؛ ولأننا لو لم
نلزمه الحضور، جعل البعد طريقاً إلى إبطال الحقوق. وإن استعداه على امرأة
برزة، فهي كالرجل؛ لأنها مثله في الخروج إلى الحاجات. وإن كانت غير برزة.
لم تكلف الحضور، وتوكل من يحاكم عنها. فإن توجهت اليمين عليها، بعث إليها
من يحلفها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «واغد يا
أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» ولم يكلفها الحضور.
[باب صفة القضاء]
إذا حضر القاضي خصمان، فادعى أحدهما على الآخر شيئاً تصح دعواه، فللقاضي
مطالبة الخصم بالخروج من دعواه قبل سؤاله؛ لأن شاهد الحال يدل على طلب
المطالبة، فيقول له الحاكم: ما تقول فيما يدعى عليك؟ فإن أقر لزمه الحق.
ولا يحكم به إلا بمطالبة المدعي؛ لأن الحكم حق له، فلم يجز استيفاؤه بغير
إذنه. فإذا طالبه حكم له. فيقول: قد ألزمتك ذلك، أو قضيت عليك، أو أخرج له
منه. ويحتمل جواز الحكم من غير مطالبة؛ لأن قرينة حاله تدل على إرادة ذلك؛
ولأن أكثر الناس لا يعلمون توقف الحكم على طلبهم، فتوقف الحكم عليه يفضي
إلى فوات حقه؛ ولأنه لم ينقل هذا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، ولا عن خلفائه، فاشتراطه يخالف ظاهر حالهم. وإن أنكر، فلم
يعرف المدعي وقت البينة، قال له القاضي: ألك بينة؟ وإن كان يعلم فللقاضي أن
يقول ذلك، وله أن يسكت. فإن قال: ما لي بينة، قال له الحاكم: فلك يمينه.
فإن سأله إحلافه، أحلفه. ولا يجوز إحلافه قبل مطالبة المدعي، فإن فعل لم
يعتد بها؛ لأنها يمين قبل وقتها، وللمدعي المطالبة بإعادتها. وإن أمسك
المدعي عن إحلافه. ثم أراد إحلافه، فله ذلك؛ لأن حقه لم يسقط بالتأخير. وإن
قال: أبرأتك من اليمين، سقط حقه
(4/237)
منها في هذه الدعوى. وله استئناف الدعوى،
والطلب باليمين فيها؛ لأن حقه لم يسقط بالإبراء من اليمين. وهذه الدعوى غير
التي أبرأه من اليمين فيها. فإذا حلف سقطت الدعوى، لما روى وائل بن حجر:
«أن رجلاً من حضرموت ورجلاً من كندة أتيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الحضرمي: إن هذا غلبني على أرضي ورثتها من أبي،
وقال الكندي: أرضي وفي يدي لا حق له فيها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: شاهداك أو يمينه، فقال: إنه لا يتورع من شيء، فقال:
ليس لك إلا ذلك.» رواه مسلم بمعناه.
فإن امتنع عن اليمين لم يسأل عن سبب امتناعه، فإن بدا فقال: أريد أن أنظر
في حسابي، أمهل ثلاثة أيام؛ لأنها قريبة، ولا يمهل أكثر منها؛ لأنه كثير.
وقال أبو الخطاب: لا يمهل لأن الحق توجه عليه حالاً، فلا يمهل به، كالمال.
وإن لم يذكر عذراً لامتناعه، قال له الحاكم: إن حلفت وإلا جعلتك ناكلاً
وقضيت عليك، ويكرر ذلك عليه ثلاثاً، فإن حلف، وإلا حكم عليه، لما روى أحمد
أن ابن عمر باع زيد بن ثابت عبداً، فادعى عليه زيد أنه باعه إياه عالماً
بعيبه، فأنكر ابن عمر، فتحاكما إلى عثمان، فقال له عثمان: احلف أنك ما علمت
به عيباً، فأبى ابن عمر أن يحلف، فرد عليه العبد؛ ولأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اليمين على المدعى عليه» فحصرها في
جنبته، فلم يشرع لغيره. واختار أبو الخطاب أنه لا يحكم بالنكول، ولكن ترد
اليمين على خصمه، وقال: قد صوبه أحمد، وقال: ما هو ببعيد، يحلف ويستحق،
فيقول الحاكم لخصمه: أتحلف وتستحق؟ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد اليمين على صاحب الحق» . رواه الدارقطني.
وروي أن المقداد اقترض من عثمان مالاً، فتحاكما إلى عمر، فقال عثمان: هو
سبعة آلاف، وقال المقداد: هو أربعة آلاف، فقال المقداد لعثمان: احلف أنه
سبعة آلاف، فقال عمر: أنصفك. فإن حلف المدعي حكم له، وإن نكل سئل عن سبب
نكوله؛ لأنه لا يجب بنكوله لغيره حق، بخلاف المدعى عليه. فإن قال: امتنعت؛
لأن لي بينة أقيمها، أو حساباً أنظر فيه، فهو على حقه من اليمين، ولا يضيق
عليه في المدة؛ لأنه لا يتأخر بتركه إلا حقه، بخلاف المدعى عليه. فإن قال:
لا أريد أن أحلف، فهو ناكل. فإن عاد فبذل اليمين، لم تسمع منه في هذه
الدعوى؛ لأنه أسقط حقه منها. فإن عاد في مجلس آخر، واستأنف الدعوى، أعيد
الحكم بينهما، كالأول. فإن بذل اليمين هاهنا حكم بها؛ لأنها يمين في دعوى
أخرى.
(4/238)
فصل:
وإن كان للمدعي بينة عادلة، قدمت على يمين المدعى عليه، للخبر؛ ولأنها لا
تهمة فيها؛ لأنها من جهة غيره، واليمين بينهم فيها. ولا يجوز سماع البينة
والحكم بها إلا بمسألة المدعي؛ لأنه حق له، فلا يستوفى إلا بإذنه. فإن شهدت
البينة، فقال المدعى عليه: أحلفوه أنه يستحق ما شهدت به البينة، لم يحلف؛
لأن في ذلك طعناً في البينة. وإن قال: قضيته، أو: أبرأني منه، أو: أحلته
به، فأنكر المدعي، فسأل إحلافه، أحلف له؛ لأن ذلك ليس بتكذيب للبينة. فإن
كانت البينة غير عادلة، قال له الحاكم: زدني شهوداً، فإن قال المدعي: لي
بينة غائبة فأحلف المدعى عليه، أحلف؛ لأن الغائبة كالمعدومة، لتعذر
إقامتها. ومتى حضرت بينته وطلب سماعها وجب سماعها والحكم بها، لما روي عن
عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: البينة العادلة أحق من اليمين
الفاجرة؛ ولأن البينة كالإقرار، ثم يجب الحكم بالإقرار بعد اليمين كذلك
بالبينة، وإن قال: لي بينة حاضرة، ولكني أريد يمينه ثم أقيم بينتي، لم
يستحلف؛ لأنه أمكن فصل الخصومة بالبينة وحدها، فلم يشرع معها غيرها، كما لو
أقامها. وإن قال: أحلفوه ولا أقيم بينتي، حلف؛ لأن له في هذا غرضاً وهو أن
يخاف، فيقر، فيثبت الحكم بإقراره، وهو أسهل من إثباته بالبينة. فإذا حلف
فهل يمكن المدعي من إقامة البينة؟ على وجهين. وإن قال: ما لي بينة، ثم جاء
ببينته، لم تسمع؛ لأنه أكذبها بإنكاره. وإن قال: ما أعلم لي بينة، ثم أقام
بينة، أو قال شاهدان: نحن نشهد لك، فقال: هذان بينتي، سمعت؛ لأنه لم يكذب
بينته. وإن قال: ما أريد أن تشهدا لي، وأريد يمينه، حلف لما ذكرناه. وإن
قال: لي بينة، وأريد ملازمة خصمي، أو حبسه حتى أقيمها، لم يكن له ذلك، لقول
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «شاهداك أو يمينه ليس لك
إلا ذلك» .
فصل:
وإذا شهد شاهدان، فلم يعلم خصمه أن له جرحهما، قال له الحاكم: قد أطردتك
جرحهما. وإن كان يعلم، فله أن يقول له ذلك، وله أن يسكت. فإن سأل خصمه
الإنظار ليجرحهما، أنظر ثلاثاً، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -،
أنه قال في كتابه إلى أبي موسى: واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أمداً ينتهي
إليه، فإن أحضر بينة، أخذت له حقه، وإلا استحللت القضية عليه، فإنه أنفى
للشك، وأجلى للعمى. وإن قال: لي بينة بالقضاء أو الإبراء، أمهل ثلاثاً، فإن
لم يأت بها، حلف المدعي على نفي ذلك، وقضى له، وله ملازمته إلى أن يقيم
بينة بالجرح أو القضاء؛ لأن الحق قد ثبت في الظاهر. وإن شهد شاهدان، ولم
تثبت عدالتهما في الباطن، فسأل المدعي حبس الخصم إلى أن يسأل عن عدالة
الشهود، حبس؛ لأن الظاهر العدالة، وعدم الفسق،
(4/239)
ويحتمل أن لا يحبس؛ لأن الأصل براءة ذمته.
وإن شهد له واحد، فسأله حبسه حتى يقيم له شاهداً آخر، ففيه وجهان:
أحدهما: يحبس كما لو جهل عدالة الشهود.
والثاني: لا يحبس؛ لأن البينة لم تتم.
فصل:
وإن علم الحاكم الحال، لم يجز أن يحكم بعلمه، في حد ولا غيره، في ظاهر
المذهب، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه تداعى عنده رجلان،
فقال له أحدهما: أنت شاهدي، فقال: إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا
أشهد. وقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو رأيت رجلاً على حد، لم
أحده حتى تقوم البينة عندي؛ ولأنه متهم في الحكم بعلمه، فلم يجز، كالحكم
لولده. وعنه: يجوز له الحكم بعلمه سواء علمه في ولايته أو قبلها، «ولأن
هنداً قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني لي
ولولدي. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذي ما
يكفيك وولدك بالمعروف» فقضى بعلمه؛ ولأنه حق علمه، فجاز الحكم به، كالتعديل
والجرح، وكما لو ثبت بالبينة.
فصل:
وإن كان للمدعي شاهد واحد عدل، في المال، أو ما يقصد به المال، حلف المدعي
مع شهادته، وحكم له به؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
قضى بشاهد ويمين» . رواه مسلم.
فإن أبى أن يحلف، وقال: أريد يمين المدعى عليه أحلفناه. فإن نكل المدعى
عليه، قضي عليه. ومن قال: ترد اليمين، فهل ترد هاهنا؟ يحتمل وجهين:
أحدهما: لا ترد؛ لأنها كانت في جنبته، وقد أسقطها بنكوله عنها، وصارت في
جنبة غيره، فلم تعد إليه، كالمدعى عليه إذا نكل عن اليمين، فردت على
المدعي، فنكل عنها.
والثاني: ترد عليه؛ لأن هذه غير اليمين الأولى؛ ولأن سبب الأولى قوة جنبة
المدعي بالشاهد. وسبب الثانية نكول المدعى عليه، فسقوط إحداهما لا يوجب
سقوط الأخرى. فإن سكت المدعى عليه، فلم ينكر ولم يقر، حبسه الحاكم حتى
يجيب، ولم يجعله بذلك ناكلاً. ذكره القاضي في المجرد. وذكر أبو الخطاب أن
الحاكم
(4/240)
يقول له: إن أجبت وإلا جعلتك ناكلا، وحكمت
عليك، ويكرر ذلك ثلاثاً، فإن أجاب وإلا حكم عليه؛ لأنه ناكل عما يلزمه
جوابه، فأشبه الناكل عن اليمين.
فصل:
ومتى اتضح الحكم للقاضي، لزمه الحكم به، ولم يجز ترديد الخصمين؛ لأن الحكم
لازم، وأداء الحق واجب، فلم يجز تأخيره. وإن كان فيه لبس أمرهما بالصلح،
فإن أبيا، أخرهما، ولا يحكم حتى يزول اللبس، ويتضح وجه الصواب؛ لأن الحكم
بالجهل حرام.
[باب القضاء على الغائب وحكم كتاب القاضي]
إن حضر رجل يدعي على رجل غائب عن البلد ولا بينة معه، لم تسمع دعواه؛ لأن
سماعها لا يفيد. وإن كانت له بينة، سمع الدعوى، والبينة وحكم بها؛ لأنها
بينة مسموعة، فيحكم بها، كما لو شهدت على حاضر. وعن أحمد: لا يجوز القضاء
على الغائب. وهو اختيار ابن أبي موسى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذا تقاضى إليك رجلان،
فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فإنك لا تدري بما تقضي» . رواه
الترمذي. وقال: حديث حسن؛ ولأنه قضى لأحد الخصمين وحده، فلم يجز، كما لو
كان الآخر في البلد؛ ولأنه يحتمل القضاء والإبراء، وكون الشاهد مجروحاً،
فلم يجز الحكم، كالأصل. ولو ادعى على حاضر لم تسمع البينة، حتى يحضر، لما
ذكرنا؛ ولأنه يمكن سماع قوله، فلم يحكم قبل سماعه، كحاضر المجلس. وتعتبر
الغيبة إلى مسافة القصر؛ لأنها الغيبة التي تبنى عليها الأحكام. فإن امتنع
الخصم في البلد من الحضور عند الحاكم، وتعذر إحضاره، حكم عليه؛ لأنه لو لم
يحكم عليه، لجعل الامتناع والاستتار طريقاً إلى تضييع الحقوق، ويكون حكمه
حكم الغائب. وإن هرب المدعى عليه بعد الدعوى، فهو كما لو هرب قبلها في
الحكم عليه. ولو كانت الدعوى على صبي أو مجنون، لحكم عليه بالبينة؛ لأنه لا
يعبر عن نفسه، فهو كالغائب، ولا يمين على المدعي في هذه المواضع كلها؛ لأنه
أقام البينة بحقه فلم يستحلف، كما لو كان خصمه حاضراً. وعنه: يستحلف؛ لأنه
يجب الاحتياط. ويحتمل أن يكون قد قضاه أو أبرأه، أو غير ذلك، وكذلك لو كان
حاضراً، فادعى بعض ذلك وطلب اليمين، أجيب إليها، فمع الغيبة أولى، وكذلك
الحكم إن كانت الدعوى على مجنون، أو صبي؛ لأنه لا يعبر عن نفسه، فهو
كالغائب.
فصل:
ويجوز للقاضي أن يكتب إلى قاض آخر بما ثبت عنده، ليحكم به، وبما حكم به
(4/241)
لينفذه، لما روى الضحاك بن سفيان قال: «كتب
إلي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أورث امرأة أشيم
الضبابي من دية زوجها» . أخرجه أبو داود والترمذي؛ ولأن الحاجة تدعو إلى
ذلك. فإن كتب بما حكم به لينفذه، جاز في المسافة القريبة والبعيدة؛ لأن
إمضاء حكم القاضي لازم لكل قريب وبعيد. وإن كتب بما ثبت عنده ليحكم به، لم
يجز إلا إذا كان بينهما مسافة القصر؛ لأن القاضي الكاتب فيما حمل شهود
الكتاب، كشاهد الأصل، وشهود الكتاب كشاهد الفرع. ولا تقبل شهادة الفرع مع
قرب الأصل.
فصل:
ولا يقبل الكتاب إلا أن يشهد به شاهدان عدلان لأن ما أمكن إثباته بالشهادة،
لم يجز الاقتصار فيه على الظاهر، كالمفقود. ويتخرج أن يجوز قبوله بغير
شهادة، إذا عرف المكتوب إليه خط القاضي الكاتب وختمه، كقولنا في الوصية.
والأول أولى؛ لأن الخط يشبه الخط، والختم يشبه الختم، فلا يؤمن التزوير
عليه. فإذا أراد إنفاذ كتاب، أحضر شاهدين وقرأ الكتاب عليهما، أو يقرؤه
غيره وهو يسمعه، والمستحب أن ينظر الشاهدان في الكتاب حتى لا يحرف ما فيه.
وإن لم ينظرا جاز؛ لأنهما يؤديان ما سمعا. فإذا وصلا إلى القاضي المكتوب
إليه، قرآ الكتاب عليه، وقالا: نشهد أن هذا كتاب فلان إليك سمعناه وأشهدنا
به، كتب إليك بما فيه. فإن قالا: نشهد أن فلاناً هذا كتب إليك بما في هذا
الكتاب، وسلماه إليه من غير قراءته عليه، لم يقبله؛ لأنه ربما زور عليهما،
وإن لم يختم الكتاب، أو ختمه فانكسر الختم، لم يضر؛ لأن المعول على ما فيه.
وإن انمحى بعضه وهما يحفظان ما فيه، أو معهما نسخة أخرى، شهدا، وقبل
الحاكم. وإن لم يحفظاه، ولا معهما نسخة أخرى، لم يشهدا؛ لأنهما لا يعلمان
ما انمحى منه.
فصل:
وإن مات الكاتب، أو عزل، جاز للمكتوب إليه قبول الكتاب، والعمل به؛ لأنه إن
كان الكتاب بما حكم به، وجب تنفيذه عل كل أحد، وإن كان فيما ثبت لينفذ،
فالكاتب كشاهد الأصل. وموت شاهد الأصل لا يمنع قبول شاهد الفرع. وإن فسق
الكاتب، ثم وصل كتابه، وجب قبوله فيما حكم به؛ لأن الحكم لا يبطل بالفسق
بعده، ولم يقبل فيما ثبت عنده؛ لأنه كشاهد الأصل. وشاهد الأصل إذا فسق قبل
الحكم، لم يحكم بشهادة الفرع. وإن مات المكتوب إليه أو عزل، أو ولي غيره،
قبل الثاني الكتاب؛ لأن المعول عل ما حفظه الشهود وتحملوه. ومن تحمل شهادة
وشهد بها، وجب على كل قاض الحكم بشهادته.
(4/242)
فصل:
وإذا وصل الكتاب إليه، فأحضر الخصم، فقال: لست فلان ابن فلان، فالقول قوله
مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته. فإن أقام المدعي بينة أنه فلان ابن فلان،
ثبت ذلك، فإن قال: المحكوم عليه غيري، لم يقبل قوله إلا ببينة تشهد أن له
من يشاركه في جميع ما سمي ووصف به؛ لأن الأصل عدم المشاركة. فإن قامت
بالمشاركة بينة، توقف عن الحكم حتى يثبت من المحكوم عليه منهما. فإذا ثبت،
حكم به. فإن قال المحكوم عليه: اكتب إلى الحاكم الكاتب أنك حكمت علي حتى لا
يدعى ثانياً، ففيه وجهان. أحدهما: تلزمه إجابته ليخلص مما يخافه. والثاني:
لا يلزمه؛ لأن الحاكم إنما يكتب بما حكم به، أو ثبت عنده، والحاكم هو الذي
حكم به، أو ثبت عنده دون غيره.
فصل:
إذا ثبت عنده حق بالإقرار، فسأله المقر له أن يشهد على نفسه بما ثبت عنده
من الإقرار، لزمه ذلك؛ لأنه لا يؤمن أن ينكر المقر، فلزمه الإشهاد، ليكون
حجة له إذا أنكر. وإن ثبت عنده الحق بنكول المدعى عليه، فسأله المدعي أن
يشهد على نفسه بثبوت النكول، لزمه؛ لأنه لا يؤمن أن ينكر بعد ذلك، ويحلف.
وإن ثبت عنده بيمين المدعي بعد نكول المدعى عليه، فسأله أن يشهد على نفسه
بذلك، لزمه؛ لأنه لا حجة للمدعي غير الإشهاد. وإن ثبت ببينة، فسأله المدعي
الإشهاد، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه؛ لأن له بالحق بينة، فلم يلزم القاضي تجديد بينة أخرى،
وإن ادعى عليه حقاً.
الثاني: يلزمه؛ لأن في الشهادة على نفسه تعديلاً لبينته، وإثباتاً لحقه،
وإلزاماً لخصمه. وإن ادعى عليه حقاً، فأنكره، وحلف عليه، وسأله الحالف أن
يشهد على براءته، لزمه، ليكون حجة له في سقوط الدعوى، حتى لا يطالبه بالحق
مرة أخرى. وإن سأله في هذه المسائل أن يكتب له محضراً بما جرى، وما ثبت له
به الحق. فإن لم يكن قرطاس من بيت المال، ولم يأته المكتوب له بقرطاس، لم
يلزمه أن يكتب له؛ لأن عليه الكتاب دون الغرم. وإن كان عنده قرطاس من بيت
المال، أو أتاه صاحبه بقرطاس. فهل يلزمه كتابة المحضر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه لأنه وثيقة بالحق، فلزمه كالإشهاد على نفسه.
والثاني: لا يلزمه؛ لأن الحق يثبت باليمين، أو البينة دون المحضر. وإن سأله
أن يسجل به، وهو أن يذكر ما يكتبه في المحضر، ويشهد على إنفاذه أسجل له.
وهل يلزمه ذلك؟ على وجهين كما ذكرنا في المحضر.
(4/243)
فصل:
وصفة المحضر: حضر القاضي فلان ابن فلان، قاضي عبد الله الإمام على كذا. وإن
كان خليفة قاض قال: خليفة فلان: قاضي الإمام فلان، بمجلس حكمه وقضائه، فلان
ابن فلان الفلاني، وأحضر معه فلان ابن فلان الفلاني، ويرفع في نسبهما، حتى
يتميزا، وإن ذكر حليتهما، كان آكد. وإن كان الحاكم لا يعرف الخصمين، قال:
مدع ذكر أنه فلان ابن فلان الفلاني، وأحضر معه مدعى عليه، ذكر أنه فلان ابن
فلان الفلاني، ويرفع في نسبهما، ويذكر حليتهما؛ لأن الاعتماد عليهما، فادعى
عليه كذا، فأقر له به. ولا يحتاج أن يذكر بمجلس حكمه وقضائه؛ لأن الإقرار
يصح في غير مجلس الحكم. وإن كتب أنه شهد على إقراره شاهدان، كان آكد. وإن
أنكر وحلف، قال: فأنكر فسأل الحاكم المدعي: ألك بينة؟ فلم يكن له بينة،
فقال: لك يمينه، فسأله أن يستحلفه، فأحلفه في مجلس حكمه وقضائه في وقت
واحد؛ لأن الاستحلاف لا يكون إلا في مجلس الحكم. وإن قضى بالنكول قال: فعرض
اليمين على المدعى عليه، فنكل عنها، فسأل خصمه أن يقضي عليه بالحق، فقضى
عليه في مجلس حكمه وقضائه في وقت كذا. وإن رد اليمين على المدعي فحلف، وحكم
له، ذكر ذلك، ويعلم في رأس المحضر: الحمد لله رب العالمين، أو نحوه، وإن
ثبت الحق ببينة، كتب الحاكم في آخر المحضر: شهد عندي بذلك فلان مع علامته
في رأس المحضر. وصفة السجل أن يكتب: هذا ما أشهد عليه القاضي فلان ابن
فلان، قاضي الإمام فلان، في موضع كذا في وقت كذا، أنه ثبت عنده، بشهادة
فلان وفلان، وينسبهما، وقد عرفهما بما ساغ له به قبول شهادتهما عنده، بما
في كتاب نسخته، وينسخ الكتاب، ثم يكتب بعد ذلك: فحكم به وأنفذه وأمضاه، بعد
أن سأله فلان ابن فلان أن يحكم له به. ولا يحتاج أن يذكر له بمحضر المدعى
عليه؛ لأن القضاء على الغائب جائز. فإن ذكره احتياطاً، قال: بعد أن أحضر من
ساغ له للدعوى عليه، ويكتب المحضر، أو المسجل نسختين، يدفع إحداهما إلى
صاحب الحق، والأخرى في ديوان الحكم، فإن هلكت إحداهما وجدت الأخرى. وما
يحصل عنده من المحاضر والسجلات في كل شهر، أو أسبوع على قدر كثرتها أو
قلتها، يشد عليها إضبارة، ويكتب عليها: سجلات كذا، ومحاضر كذا، في شهر كذا،
في سنة كذا، ليسهل إخراجه عند طلبه. فإن تولى ذلك بنفسه، وإلا وكل أمينه.
فإن حضر رجلان عند الحاكم، فادعى أحدهما أن له في ديوان الحكم حجة على
خصمه، فوجدها وكان حكماً حكم به غيره، لم يحكم به، إلا أن يشهد شاهدان أن
هذا حكم حكم به فلان القاضي، ولا يكفي الخط والختم؛ لأنه يحتمل التزوير في
الخط والختم. وإن كان حكماً حكم هو به، فذكر الحكم وعلم به، عمل به، وألزم
(4/244)
خصمه حكمه. وإن لم يذكر الحكم به، ففيه
روايتان:
إحداهما: لا يجوز له الحكم به؛ لأنه يحتمل التزوير في الخط والختم، فلم يجز
له الحكم به. كحكم غيره.
والثانية: يجوز الحكم به؛ لأنه إذا كان بخطه تحت ختمه، لم يحتمل أن يكون
غير صحيح إلا احتمالا بعيداً، كاحتمال كذب الشاهدين، فلا يعول على مثله.
فإن شهد به شاهدان، وجب الحكم به؛ لأنه حكم شهد به عدلان، فوجب قبوله، كحكم
غيره، أو كما لو شهدا به عند غيره.
فصل:
وإذا قال: حكمت لفلان بكذا، قبل قوله؛ لأنه يملك الحكم به فملك الإقرار به،
كالزوج لما ملك الطلاق، ملك الإقرار به. وإن قال ذلك بعد عزله، قبل أيضاً؛
لأن عزله لا يمنع قبول قوله كما لو كتب إلى غيره، فوصل الكتاب بعد عزله؛
ولأنه أخبر بما حكم به، وهو غير متهم، فيجب قبوله، كحال الولاية. ويحتمل أن
لا يقبل قوله؛ لأنه لا يملك الحكم، فلم يملك الإقرار به.
[باب القسمة]
الأصل في القسمة، الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب، فقوله تعالى:
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} [النساء: 8] . وأما السنة:
فقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم،
فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة» . وقسم النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغنائم بين أصحابه، وأجمعت الأمة على جوازها.
والعبرة تقتضيها لحاجة الشركاء، ليتخلصوا من سوء المشاركة وكثرة الأيدي،
ويتصرف كل واحد في المال على الكمال، على حسب الاختيار.
فصل:
ويجوز للشركاء أن يقتسموا بأنفسهم، وأن ينصبوا قاسماً يقسم بينهم، وأن
يسألوا الحاكم قاسماً يقسم بينهم؛ لأن الحق لهم، فجاز ما تراضوا عليه. ويجب
أن يكون القاسم عالماً بالقسمة، ليوصل إلى كل ذي حق حقه، كما يجب أن يكون
الحاكم عالماً
(4/245)
بالحكم، ليحكم بالحق. فإن كان منصوباً من
جهة الحاكم، فمن شرطه أن يكون عدلاً؛ لأنه نصبه لإلزام الحكم، فاشترطت
عدالته، كالحاكم. وإن كان منصوباً من جهتهما، لم تشترط عدالته؛ لأنه
نائبهما، فأشبه الوكيل، إلا أنه إن كان عدلاً، كان القاسم كالحاكم في لزوم
قسمته؛ لأنه يصير بتراضيهما، كالمنصوب من جهة الحاكم، وإن لم يكن عدلاً، لم
تلزم قسمته إلا بتراضيهما، كما لو اقتسما بأنفسهما. ويجزئ قاسم واحد، إن
خلت القسمة من تقويم؛ لأنه حكم بينهما، فأشبه الحاكم. وإن كان فيها تقويم،
لم يجز أقل من قاسمين؛ لأن التقويم لا يثبت إلا باثنين.
فصل:
وعلى الإمام أن يرزق القاسم من بيت المال؛ لأنه من المصالح. وقد روي أن
علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، اتخذ قاسماً جعل له رزقاً في بيت المال؛
ولأن هذا من المصالح، فأشبه رزق الحاكم. فإن لم يعط من بيت المال شيئاً،
فأجرته على الشركاء على قدر أملاكهم، سواء طلباها معاً، أو أحدهما؛ لأنها
مؤنة تتعلق بالملك، فكانت على قدر الأملاك، كنفقة العبد. وإن كان الشركاء
نصبوا قاسماً، فأجرته بينهم على ما شرطوه؛ لأنه أجيرهم.
فصل:
وإذا كان في القسمة رد عوض، فهي بيع، لأن صاحب الرد بذل المال عوضاً عما
حصل له من حق شريكه، وهذا هو البيع. وإن لم يكن فيها رد، فهي إفراز
النصيبين، وتميز الحقين، وليست بيعاً، ولذلك جاز تعليقها على القرعة،
وتقدرت بقدر الحق، ودخلها الإجبار. ولو كانت بيعاً حتماً لم يجز ذلك فيها،
كما في سائر البيوع. وحكي عن أبي عبد الله بن بطة: أنها بيع؛ لأن أحدهما
يبذل نصيبه من أحد السهمين بنصيب صاحبه من السهم الآخر، وهذا حقيقة البيع.
والمذهب الأول. فيجوز قسمة الثمار على الشجر خرصاً، وقسمة المكيل وزنا،
والموزون كيلاً، والتفرق قبل القبض. ولا يحنث بها من حلف أن لا يبيع. وإن
كان العقار وقفاً أو نصفه، جازت القسمة، وإن قلنا: هي بيع، لم يجز شي من
ذلك؛ لأن بيعه غير جائز. وإن كان فيها رد، لم تجز قسمة الوقف؛ لأنه لا يجوز
بيع شيء منه، وإن كان بعضه طلقاً، وبعضه وقفاً، والرد من صاحب الطلق، لم
يجز؛ لأنه يشتري بعض الوقف. وإن كان صاحب الوقف، جاز؛ ولأنه يشتري بعض
الطلق.
فصل:
إذا طلب أحد الشريكين القسمة، فأبى الآخر من غير ضرر، كالحبوب والأدهان،
(4/246)
والثياب الغليظة، والأراضي، والدور التي
يمكن قسمتها بالتعديل من غير رد عوض، ولا ضرر، أجبر الممتنع عليها؛ لأن
طالبها يطلب إزالة الضرر عنه وعن شريكه من غير ضرر بأحد، فوجب إجابته إليه.
وسواء كانت الأرض متساوية الأجر، أو مختلفة، بعضها عامر، وبعضها خراب، أو
بعضها ذو بناء، أو شجر، أو بئر، وبعضها بياض، أو يسقى بعضها سيحاً، وبعضها
بناضح. وإن كان عليهما ضرر في القسمة، كالجواهر، والثياب التي ينقصها
القطع، والرحى الواحدة، والبئر، والحمام الصغير، لم يجبر الممتنع، لما روى
مالك في موطئه عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا ضرر ولا ضرار» . من المسند؛
ولأنه إتلاف مال، وسفه يستحق به الحجر، فلم يجبر عليه، كهدم البناء. وإن
كان على أحدهما ضرر دون الآخر، كدار لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها، يستضر
صاحب الثلث بالقسمة دون شركائه، فطلبها المستضر، ففيه وجهان:
أحدهما: يجبر الممتنع؛ لأنه مطالب بقسمة لا ضرر عليه فيها، فلزمته الإجابة،
كالتي قبلها.
والثاني: لا يجبر؛ لأن طلب المستضر سفه، فلم تلزم إجابته، كما لو استضرا
معاً. وإن طلبها غير المستضر، فقال أبو الخطاب: لا يجبر الممتنع. وهذا ظاهر
كلام أحمد؛ لأنه قال: كل قسمة فيها ضرر لا أرى قسمتها. وذلك، لقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا ضرر ولا ضرار» ؛ ولأنها قسمة
تضره، فلم يجبر عليها، كما لو استضر. وقال القاضي: يجبر؛ لأنه يطالب بحق
ينفع الطالب، فوجبت إجابته، كقضاء الدين. وفي الضرر المانع روايتان:
إحداهما: هو أن لا يتمكن أحدهما من الانتفاع بنصيبه مفرداً، كالدار الصغيرة
التي لا يمكن سكنى نصيب أحدهما منفرداً. وهذا قول الخرقي؛ لأن ضرر نقص
القيمة ينجبر بزوال ضرر الشركة، فيصير كالمعدوم.
والثانية: هو أن تنقص قيمة نصيب أحدهما بالقسمة عن حال الشركة؛ لأنه ضرر،
فمنع وجوب القسمة، للخبر، والقياس الأول.
فصل:
وإن كان بينهما أرض مختلفة الأجزاء، وأمكنت التسوية، بأن يكون الجيد في
مقدمها، والرديء في مؤخرها، فيقسمانها نصفين فيحصل في كل قسم من الجيد
والرديء مثل ما في الآخر، قسم كذلك. وإن لم يمكن، لكون الجيد في أحد
النصفين، وأمكن التعديل بجعل ثلثيها في المساحة في مقابلة ثلثها الجيد،
أجبر الممتنع؛ لأنه
(4/247)
يوجب التساوي بالتعديل من غير رد، فأشبه ما
لو تساويا في الذرع، وأجرة القاسم بينهما سواء، لتساويهما في أصل الملك.
ويحتمل أن يجب على صاحب الثلث ثلثها، وعلى الآخر ثلثاها، لتفاضلهما
بالمأخوذ بالقسمة. فإن أمكن القسمة بالتعديل والرد فدعى كل واحد منهما إلى
أحدهما، أجيب من طلب قسمة التعديل؛ لأن ذلك مستحق. ولا يلزم إجابة الآخر؛
لأنه بيع، فلا يجبر عليه غيره.
فصل:
وإن كان بينهما دور، أو أرض مختلفة في بعضها نخل، وفي بعضها شجر، وبعضها
يسقى سيحاً، وبعضها يسقى بالنواضح، فطلب أحدهما قسمتها أعياناً بالقيمة،
وطلب الآخر قسمة كل عين على حدة، قسمت كل عين على حدة؛ لأن لكل واحد منهما
حقاً في الجميع، فجاز له طلبه من الجميع. وإن كانت بينهما عضائد متلاصقة،
فطلب أحدهما قسمتها أعياناً، وطلب الآخر قسمة كل واحدة منهما، لم يجبر واحد
منهما؛ لأن كل واحدة مسكن منفرد في قسمته ضرر. وإن كانت كباراً يمكن قسمتها
بغير ضرر، قسمت كل واحدة على حدتها، كالدور المتفرقة.
وإن كانت بينهما دار، لها علو وسفل، فطلب أحدهما أن يجعل العلو لأحدهما،
والسفل للآخر، فأبى الآخر، لم يجبر؛ لأن العلو تابع للعرصة، فلا يجوز جعله
في القسمة متبوعاً. وإن طلب قسمة السفل وحده، أو العلو وحده، لم تجب
إجابته؛ لأن القسمة تراد للتمييز، ومع بقاء الإشاعة في أحدهما لا يحصل
التمييز. وإن طلب قسمة السفل منفرداً والعلو منفرداً، لم تجب إجابته؛ لأنه
قد يحصل لكل واحد منهما علو سفل الآخر، أو بعضه، فلا يتميز الحقان. وإن
طلبا قسمتهما معاً وكانت لا تضر، أجبر الممتنع، لما تقدم.
فصل:
وإن كان بين ملكيهما عرصة حائط، فطلب أحدهما قسمتها طولاً، ليحصل لكل واحد
منهما نصف الطول في كمال العرض، فقال أصحابنا: يجبر الممتنع؛ لأنه لا ضرر.
ويحتمل أن لا يجبر؛ لأنه يفضي إلى بقاء ملكه الذي يلي نصيب صاحبه بغير
حائط. وإن طلب قسمتها عرضاً، ليحصل لكل واحد نصف العرض في كمال الطول، وكان
يحصل لكل واحد منهما ما لا يمكن أن يبنى فيه حائط، لم يجبر الممتنع؛ لأنه
يتضرر. وإن حصل له ما يمكنه بناء حائط فيه، أجبر الممتنع؛ لأنه ملك مشترك
يمكن كل واحد منهما الانتفاع به مقسوماً، ويحتمل أن لا يجبر؛ لأنه لا تدخله
القرعة خوفاً من أن يحصل لكل واحد منهما ما يلي ملك الآخر. وإن كان بينهما
حائط، فطلب
(4/248)
أحدهما قسمته طولاً في كمال العرض، ففيه
وجهان:
أحدهما: تجب إجابته، لما ذكرنا في العرصة.
والثاني: لا تجب؛ لأنه إن قطع الحائط، ففيه إتلاف. وإن لم يقطع أفضى إلى
الضرر؛ لأن في تجميل أحدهما له ثقلاً على نصيب صاحبه. وإن طلب قسمته عرضاً
في كمال الطول، لم يجبر الممتنع؛ لأن فيه إفساداً، وفي جميع ذلك متى اتفقا
على القسمة، جاز.
فصل:
وإن كان بينهما أرض مزروعة، فطلب أحدهما قسمة الأرض دون الزرع لزم إجابته؛
لأن الزرع لم يمنع جواز القسمة، فلم يمنع وجوبها، كالقماش في الدار، فإذا
قسماها بقي الزرع بينهما مبقى إلى الحصاد. ذكره أصحابنا، والأولى أنها لا
تجب؛ لأنه يلزم منها إبقاء الزرع المشترك في الأرض المقسومة إلى الحصاد،
بخلاف القماش، كما لو بيعت الأرض. وإن طلب قسمة الزرع منفرداً، لم يلزم
إجابته؛ لأنه لا يمكن تعديله. ويشترط بقاؤه في الأرض المشتركة. وإن طلب
قسمة الأرض مع الزرع، وكان قصيلاً، لزمته إجابته؛ لأن الزرع، كالشجر في
الأرض، فلم يمنع الإجبار. وإن كان سنابل مشتداً حبها فكذلك، إلا عند من جعل
له القسمة بيعاً، فلا يجوز؛ لأنه يبيع بعضه ببعض من غير كيل. وإن كان بذراً
لم تجز قسمته؛ لأنه مجهول، لا يمكن تعديله، فيكون قسمة مجهول ومعلوم،
ويحتمل الجواز؛ لأنه بيع لا يمنع البيع إذا اشترطه المبتاع، فكذلك لا يمنع
القسمة.
فصل:
إذا كان بينهما ثياب، أو حيوانات، أو خشب، أو عمد، أو أحجار متفاضلة، فطلب
أحدهما قسمتها أعياناً بالقيمة، لم تجب إجابته؛ لأن ذلك بيع. وإن كانت
متماثلة، فقال القاضي: تجب إجابته؛ لأنها متماثلة، أشبهت أجزاء الأرض
المتماثلة، ويحتمل أن لا يلزم إجابته؛ لأنها أعيان متفرقة، فأشبهت العضائد
والدور المتفرقة.
فصل:
إذا كانت بينهما عين، فأرادا قسمة منافعها بالمهايأة، بأن تجعل في يد
أحدهما مدة، وفي يد الآخر مثلها، جاز؛ لأن المنافع كالأعيان، فجازت قسمتها.
وإن امتنع أحدهما، لم يجبر؛ لأن حق كل واحد منهما معجل، فلم يجبر على
تأخيره بالمهايأة، فإن تهايآه، اختص كل واحد منهما بمنفعته في مدته، وكسبه.
وفي الأكساب النادرة، كاللقطة، والهبة، والركاز، وجهان:
(4/249)
أحدهما: يدخل فيها؛ لأنها كسب، أشبه
المعتاد.
والثاني: لا يدخل؛ لأن المهايأة، كالبيع، فلا يدخل فيها، إلا ما يقدر عليه
في العادة، والنادر لا يقدر عليه عادة، فلا يدخل فيها، ويكون بينهما. ونفقة
الحيوان في مدة كل واحد منهما عليه؛ لأن نفعه له، فكانت مؤنته عليه،
كالمنفرد به.
فصل:
وصفة القسمة أن يحصي القاسم عدد أهل [السهمان] ثم يعدل السهمان بالأجزاء،
أو بالقيمة، أو بالرد، وإن كانت تقتضيه. ثم لا يخلو من حالين:
أحدهما: أن تتساوى سهمانهم، كأرض بين ستة، لكل واحد سدسها. فهذا يخير فيه
بين إخراج الأسماء على السهام، بأن يكتب اسم كل واحد في رقعة، ويدرجها في
بنادق شمع متساوية، ويطرح عليها ثوباً، ويقال لمن لم يحضر ذلك: أدخل يدك
فأخرج بندقة على هذا السهم الأول. فمن خرج اسمه، فهو له: ثم على الثاني،
والثالث، والرابع، والخامس، ويتعين السهم السادس للسادس. وبين إخراج السهام
على الأسماء، بأن يكتب في رقعة السهم الأول، وفي أخرى الثاني حتى يستوفي
جميع السهام، ثم يأمر بإخراج بندقة على اسم أحد الشركاء، فما خرج، فهو له،
كذلك إلى آخرها.
الحال الثاني: أن تختلف سهمانهم، مثل أن يكون لأحدهم نصفها، ولآخر ثلثها،
ولآخر سدسها، فإنه يعدل السهام بعدد أقلها، ويجعلها ستة، ويخرج الأسماء على
السهام لا غير، فيخرج بندقة على السهم الأول. فإن خرج اسم صاحب النصف أخذه،
والثاني، والثالث. ثم يخرج بندقة على السهم الرابع. فإن خرجت لصاحب الثلث
أخذه، والخامس. ويتعين السادس لصاحب السدس. وإنما قلنا: يأخذه والذي يليه،
ليجتمع حقه، ولا يتضرر بتفرقته. ولا يخرج في هذا القسم السهام على الأسماء،
لئلا يخرج السهم الرابع لصاحب النصف، فيقول: خذه وسهمين قبله، فيقول
صاحباه: يأخذه وسهمين بعده، فيختلفان؛ ولأنه لو خرج لصاحب السدس السهم
الثاني، ثم خرج لصاحب النصف السهم الأول، لتفرق نصيبه.
فصل:
وإذا قسم بينهما قاسم الحاكم قسمة إجبار، فأقرع بينهما، لزمت قسمته بغير
رضاهما؛ لأن رضاهما لا يتعين في ابتداء القسمة، فلا يتعين في أثنائها. وإن
نصبا عدلاً عالماً يقسم بينهما، لزمتهما قسمته بالقرعة؛ لأن الحاكم الذي
ينصبانه كحاكم الإمام في لزوم حكمه، فقاسمهما كقاسم الإمام في لزوم قسمته.
وإن كان فاسقاً، أو جاهلاً بالقسمة، أو قسما بأنفسهما لم يلزم إلا
بتراضيهما؛ لأن رضاهما معتبر في الأول، ولم
(4/250)
يوجد ما يزيله، فوجب استمراره. وإن كان في
القسمة رد، فتولاها قاسم الحاكم، ففيها وجهان:
أحدهما: لا يلزم إلا بالتراضي كذلك؛ ولأنها بيع، فلا يلزم بغير التراضي،
كسائر البيع.
والثاني: يلزم بالقرعة؛ لأن القاسم، كالحاكم. وقرعته كحكمه، وإن تراضيا على
أن يأخذ كل واحد منهما، سهماً بغير قرعة، أو خير أحدهما صاحبه، فاختار أحد
السهمين، جاز ويلزم بتراضيهما وتفرقهما، كالبيع.
فصل:
وإن ادعى أحدهما غلطاً في قسمة الإجبار، لم يقبل إلا ببينة؛ لأن القاسم
كالحاكم، فلم تقبل دعوى الغلط عليه بغير بينة، كالحاكم. فإن أقام البينة
نقصت القسمة. وإن لم يكن له بينة، وطلب يمين شريكه، أحلف له. وإن ادعى
الغلط في قسمة لا تلزم إلا بتراضيهما، لم تسمع دعواه؛ لأنه رضي بذلك، ورضاه
بالزيادة في نصيب شريكه تلزمه.
فصل:
وإن ظهر بعض نصيب أحدهما مستحقاً، بطلت القسمة؛ لأنه بقي له حق في نصيب
شريكه، فعادت الإشاعة. وإن كان المستحق في نصيبهما على السواء وكان معيناً،
لم تبطل القسمة؛ لأن الباقي مع كل واحد قدر حقه، ويحتمل أن تبطل القسمة؛
لأنه لم يتعين الباقي لكل واحد منهما في مقابلة ما بقي للآخر. وإن كان
مشاعاً بطلت القسمة؛ لأن الثالث شريكهما لم يأذن في القسمة، ولم يحضر،
فأشبه ما لو علما به. وإن قسما أرضاً نصفين، وبنى أحدهما في نصيبه داراً،
ثم استحق ما في يده، ونقض بناؤه، رجع على شريكه بنصف البناء؛ لأن القسمة
كالبيع. ولو باعه نصف الدار، رجع عليه بنصف ما غرم، كذا ها هنا.
فصل:.
إذا اقتسم الوارثان، فظهر على الميت دين متعلق بالتركة، انبنى ذلك على أن
الدين، هل يمنع تصرف الورثة في التركة؟ وفيه وجهان:
أحدهما: يمنع، فلا تصح القسمة.
والثاني: لا يمنع، فتكون القسمة صحيحة، هذه هي المذهب؛ لأن تعلق الدين
بالتركة لا يمنع صحة التصرف فيها، لكن إن امتنعا من وفاء الدين، بيعت في
الدين
(4/251)
وبطلت القسمة، هذا هو المذهب. وإن وفى
أحدهما دون الآخر، صح في نصيب من وفى، وبطل في نصيب الآخر.
فصل:
وإذا سأل أحد الشريكين الحاكم القسمة بينه وبين شريكه فيما تدخله قسمة
الإجبار، لم يجبه إلى ذلك حتى يثبت عنده ملكها؛ لأن في قسمة الإجبار حكماً
عليه، فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك. وإن سأله الشريكان القسمة أجابهما
إليها، ولم يحتج إلى إثبات الملك؛ لأن يدهما دليل ملكهما، ولا منازع لهما،
فيثبت لهما من حيث الظاهر. ولكنه يثبت في القضية أن قسمه إياه بينهما
بإقرارهما، لا ببينة شهدت لهما بملكهما، وكل ذي حجة على حجته، لئلا يتخذ
القسمة حجة على من ينازعه في الملك.
[باب الدعاوى]
لا تصح دعوى المجهول في غير الوصية والإقرار؛ لأن القصد في الحكم فصل
الخصومة والتزام الحق، ولا يمكن ذلك في المجهول. فإن كان المدعى ديناً، ذكر
الجنس والنوع والصفة. وإن كان عيناً باقية ذكر صفتها. وإن ذكر قيمتها، كان
أحوط. وإن كانت تالفة لها مثل، ذكر صفتها. وإن ذكر القيمة كان أحوط. وإن لم
يكن لها مثل ذكر قيمتها. وإن كان سيفاً محلى بذهب، أو فضة، قومه بغير جنس
حليته. وإن كان محلى بهما، قومه بما شاء منهما للحاجة. وإن ادعى حقاً من
وصية أو إقرار، جاز أن يدعي مجهولاً؛ لأنهما يصحان بالمجهول. وإذا ادعى
مالاً، لم يحتج إلى ذكر سببه الذي ملك به؛ لأن أسبابه كثيرة، فيشق معرفة كل
درهم منه.
فصل:
وإن ادعى عقد نكاح، لزم ذكر شروطه، فيقول: تزوجتها بولي مرشد، وشاهدي عدل،
وإذنها، إن كان إذنها معتبراً؛ لأنه مبني على الاحتياط. وتتعلق العقوبة
بجنسه، فاشترط ذكر شروطه، كالقتل. وإن ادعى استدامة النكاح، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه ذكر الشروط؛ لأنه يثبت بالاستفاضة التي لا يعلم معها
اجتماع الشروط.
والثاني: يلزم؛ لأنها دعوى في النكاح، أشبه العقد. وإن ادعى عقداً يستحق به
المال، كالبيع والإجارة، لم يحتج إلى ذكر شروطه؛ لأن مقصوده المال، أشبه
دعوى العين. ويحتمل أن يفتقر إلى ذلك لأنه عقد، فأشبه النكاح. وإن ادعى
قصاصاً في
(4/252)
نفس أو طرف، فلا بد من ذكر صفة الجناية،
وأنها عمد، منفرداً بها، أو مشاركاً فيها، ويذكر صفة العمد؛ لأنه قد يعتقد
ما ليس بعمد عمداً. والقتل مما لا يمكن تلافيه، فلا يؤمن أن يقتص ممن لا
يجب القصاص فيه، وهو ما لا يمكن تلافيه، فوجب الاحتياط فيه.
فصل:
وما لزم ذكره في الدعوى، فلم يذكره، سأله الحاكم عنه ليذكره، فتصير الدعوى
معلومة، فيمكن الحكم بها، والله أعلم.
فصل:
واذا ادعت المرأة النكاح على رجل، وذكرت معه حقاً من حقوق النكاح، سمعت
دعواها؛ لأن حاصل دعواها دعوى الحق من المهر، والنفقة، ونحوهما، وذكر
النكاح لبيان السبب. وإن لم تذكر معه حقاً، فذكر القاضي أن دعواها تسمع
أيضاً؛ لأن النكاح يتضمن حقوقاً، فصح دعواها له، كالبيع. وقال أبو الخطاب:
فيه وجه آخر، أن دعواها لا تسمع؛ لأنه حق عليها، فدعواها له إقرار، ولا
يسمع مع إنكار المقر له.
فصل:
وإذا ادعى مالاً مضافاً إلى سببه، فقال: أقرضته ألفاً، أو أتلف علي ألفاً،
فقال: ما أقرضني، وما أتلفت عليه، صح الجواب؛ لأنه نفى ما ادعى عليه. وإن
قال: لا يستحق علي شيئاً، ولم يتعرض لما ذكر المدعي، صح الجواب أيضاً؛ لأنه
إذا لم يستحق عليه شيئاً، برئ منه.
فصل:
وإذا ادعى على رجل عيناً في يده، أو ديناً في ذمته، فأنكره، ولا بينة له،
فالقول قول المنكر مع يمينه، لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أن الناس
أعطوا بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى
عليه» . رواه البخاري ومسلم. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في قصة الحضرمي والكندي: «شاهداك أو يمينه» ؛ ولأن الأصل براءة
ذمته من الدين، والظاهر من اليد الملك. وإذا تداعيا عيناً في أيديهما، ولا
بينة، حلفا، وجعلت بينهما نصفين، لما روى أبو موسى الأشعري: «أن رجلين
تداعيا دابة ليس لأحدهما بينة، فجعلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بينهم» . رواه مسلم.
ولأن يد كل واحد منهما على نصفها، فكان القول قوله فيه، كما لو كانت العين
في يد أحدهما.
(4/253)
وإن تداعيا عيناً في يد غيرهما، ولا بينة
لواحد منهما، أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، حلف أنها له وسلمت إليه،
لما روى أبو هريرة «أن رجلين تداعيا عيناً لم يكن لواحد منهما بينة،
فأمرهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يستهما على
اليمين، أحبا أم كرها» . رواه أبو داود؛ ولأنهما تساويا، ولا بينة لهما،
فيقرع بينهما، كالزوجتين إذا أراد الزوج السفر بإحداهما. وإن كانت للمدعي
أو لأحد المتداعيين بينة، حكم له بها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث الحضرمي: «ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك
يمينه» ؛ ولأن البينة حجة صريحة في إثبات الملك، لا تهمة فيها، فكانت أولى
من اليمين التي يتهم فيها.
فصل:
وإن ادعيا عيناً في يد غيرهما، فأقام كل واحد منهما بينة، ففيها ثلاث
روايات، إحداهن، تقدم بينة المدعي، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» فجعل البينة
للمدعي؛ ولأن بينة المدعي أكثر فائدة؛ لأنها تثبت شيئاً لم يكن. وبينة
المنكر إنما تثبت ظاهراً دلت اليد عليه، فلم تفد؛ ولأنه يجوز أن يكون مستند
بينة المنكر، رؤية التصرف، ومشاهدة اليد، فأشبهت اليد المفردة.
والثانية: تقدم بينة المنكر؛ لأنهما تعارضتا، ومع صاحب اليد ترجيح بها،
فقدمت، كالنصين إذا تعارضا والقياس مع أحدهما.
والثالثة: إن شهدت بينة المدعى عليه بالسبب من نتاج، أو نسج، أو قطيعة، أو
كانت أقدم تاريخاً، قدمت وإلا فلا، لما روى جابر «أن رجلين اختصما إلى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دابة، أو بعير، فأقام كل
واحد منهما البينة أنها له أنتجها، فقضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي هي في يده» ؛ ولأنها إذا شهدت بالسبب، أفادت ما
لا تفيد اليد، وترجحت باليد، فوجب ترجيحها، وكل من قضي له ببينة، لم يستحلف
معها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «شاهداك، أو
يمينه، ليس لك إلا ذلك» ؛ ولأن اليمين تكفي وحدها في حق من شرعت في حقه،
فالبينة أولى؛ لأنها أقوى. وسواء كان الخصم ممن يعبر عن نفسه، كالمكلف، أو
ممن لا يعبر عن نفسه، كغيره، لما ذكرنا.
فصل:
فإن ادعى الخارج أن الدابة ملكه، أودعها إياه، أو أجره إياها، وأنكر الآخر،
وأقاما بينتين، فبينة الخارج أولى. وقال القاضي: بينة الداخل أولى؛ لأنه
الخارج في المعنى، ولنا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«البينة على المدعي» ؛ ولأن اليمين على الداخل، فكانت بينة الخارج مقدمة،
كما لو لم يدع الوديعة.
(4/254)
فصل:
وإن تداعيا عيناً في يديهما، وأقام كل واحد منهما بينة أنها ملكه، تعارضتا،
وقسمت العين بينهما نصفين، لما روى أبو موسى: «أن رجلين اختصما إلى النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعير، فأقام كل واحد منهما شاهدين،
فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالبعير بينهما
نصفين» . رواه أبو داود؛ ولأن بينة الداخل أو الخارج مقدمة، فكل واحد خارج
في نصفها، داخل في نصفها الآخر، فقدمت بينته في أحد النصفين. وهل يلزم
اليمين كل واحد منهما في النصف المحكوم له به؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يلزم، لما ذكرنا.
والثانية: تجب اليمين؛ لأن البينتين تساوتا فتساقطتا، فصارا كمن لا بينة
لهما.
وذكر أبو الخطاب رواية أخرى: أنه يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، حلف
وأخذها؛ لأنهما لما تساويا وجب المصير إلى القرعة، كالعبيد في العتق؛
والأول أولى؛ للخبر والمعنى.
فصل:
وإن تداعيا عيناً في يد غيرهما، فاعترف أنه لا يملكها، وأقام كل واحد منهما
البينة أنها له، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: تسقط البينتان، ويقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، حلف أنها له
وسلمت إليه؛ لأنهما تساويا من غير ترجيح بيد ولا غيرها، فوجب أن يسقطا،
كالنصين ويصار إلى القرعة، كالعبيد إذا تساووا. وقد روى الشافعي حديثاً
رفعه إلى ابن المسيب «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في أمر، وجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدة واحدة، فأسهم
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما» .
والثانية: تقسم العين بينهما، لحديث أبي موسى؛ لأنهما تساويا في الدعوى
والبينة واليد، فوجب أن تقسم العين بينهما، كما لو كانت في أيديهما.
والثالثة: يقرع بينهما، فمن قرع صاحبه، أخذها بغير يمين؛ لأن القرعة أوجبت
العمل بإحدى البينتين، ولا حاجة إلى اليمين مع البينة.
فصل:
وإذا ادعى عيناً في يد إنسان، فأقر بها لغيره وصدقه المقر له، حكم له؛ لأنه
مصدق فيما بيده، وقد صدقه المقر له، فصار كصاحب اليد، وتنتقل الخصومة إليه،
وعلى المقر اليمين لأنه لا يعلم أنها للمدعي لأنه لو أقر بها له، لزمه
غرمها، ومن لزمه
(4/255)
الغرم مع الإقرار، لزمته اليمين مع
الإنكار. فإن نكل عنها مع طلبها منه، قضي عليه بالغرم وإن أكذبه المقر له،
وقال: ليست لي، وكان للمدعي بينة حكم له.
وإن لم يكن له بينة، ففيه وجهان:
أحدهما: تدفع إليه؛ لأنه يدعيها ولا منازع له فيها، أشبه التي في يده؛ ولأن
صاحب اليد لو ادعاها ثم نكل، قضي عليه، فمع عدم ادعائه لها أولى.
والثاني: لا تدفع إليه؛ لأنه ليس له إلا مجرد الدعوى، فلا يحكم بها، كما لو
أنكره الآخر، فعلى هذا يأخذها الإمام، يحفظها حتى يظهر صاحبها؛ لأنه لم
يثبت لها مستحق، فهي كالضالة. ويحتمل أن تقر في يد المقر؛ لأنه لم يثبت صحة
إقراره. فإن أقر المقر له بها للمدعي، سلمت إليه؛ لأنه قام مقام صاحب اليد
لو ادعاها، فقام مقامه في الإقرار بها.
وإن أقر بها صاحب اليد لغائب معين، صار الغائب الخصم فيها. فإن أقام المقر
بينة أنها للغائب، سمعها الحاكم لإزالة التهمة، وإسقاط اليمين عنه، ولم
يحكم بها للغائب؛ لأنه إنما يقضي بها إذا أقامها المدعي أو وكيله. وليس
المدعي واحداً منهما. ومتى لم يكن للمدعي بينة، لم يقض له بها؛ لأنه لا
يقضى على الغائب بغير حجة. فإن أقام بينة سمعها الحاكم، وقضى بها. والغائب
على خصومته متى حضر، فإذا حضر فأقام بينة أنها ملكه، تعارضت البينتان،
وأقرت في يد المدعي إن قلنا: إن بينة الخارج مقدمة؛ لأنه خارج. وإن قلنا:
تقدم بينة الداخل، فهي للغائب؛ لأنه صاحب اليد، وإن ادعى الحاضر أنها معه
بأجرة، أو عارية، وأقام بينة، لم يقض له بها؛ لأن ثبوت الإجارة والعارية
يترتب على الملك، ولا يثبت الملك بها، فكذلك فرعها. وإن أقر الحاضر بها
لمجهول، لم تسمع. وقيل: إن أقررت بها لمعروف، وإلا جعلناك ناكلاً، وقضينا
عليك له. فإن أصر، قضي عليه بنكوله. فإن قال بعد ذلك: هي لي، لم يقبل في
أحد الوجهين؛ لأنه اعترف أنها ليست له.
والثاني: تسمع؛ لأن قوله ذلك لم يصح، فلم يمنع صحة الدعوى لنفسه.
فصل:
وإن ادعى أن هذه العين كانت ملكه، لم تسمع دعواه حتى يدعي ملكها في الحال؛
لأن الخلاف في ملكه لها في الحال. وإن ادعى ملكها في الحال، فشهدت بينته
أنها كانت ملكه أمس، أو أنها كانت في يده أمس، لم تسمع لأنها شهدت بغير ما
ادعاه. ويحتمل أن تسمع، ويقضى بها؛ لأنها تثبت الملك في الزمن الماضي، فيجب
استدامته حتى يعلم زواله. فإن انضم إليها بيان سبب يد الثاني، فقالت: نشهد
أنها ملك
(4/256)
هذا أمس، فغصبها هذا منه، أو سقطت،
فالتقطها هذا، حكم له بها؛ لأنه تثبت أن يد الثاني عدوان، ليست دليلاً
للملك، فيجب القضاء باستدامة الملك الماضي، وإن ادعى جارية أو ثمرة، فشهدت
بينة أن الجارية بنت أمته، والثمرة ثمرة شجرته، لم يحكم له بها؛ لأنه يجوز
أن تلدها، أو تثمرها قبل ملكه. فإن قالت مع ذلك: ولدتها في ملكها، وأثمرتها
في ملكه، حكم له بها؛ لأنها شهدت أنها نماء ملكه، فصار كما لو شهدت أن
الغزل من قطنه، وإن شهدت بينة أن الغزل من قطنه، أو الطير من بيضته، أو
الدقيق من حنطته، حكم له بها؛ لأن الجميع عين ماله، وإنما تغيرت صفته.
فصل:
وإن كانت في يد زيد دار، فادعى آخر أنه ابتاعها من غيره وهي ملكه، فأقام
ذلك بينة، حكم له بها؛ لأنه ابتاعها من مالكها. وإن شهدت أنه باعه إياها،
وسلمها إليه، حكم له بها؛ لأنه لم يسلمها إليه إلا وهي في يده. وإن لم يذكر
الملك ولا التسليم، لم يحكم بها؛ لأنه لا يمكن أن يبيعه ما لا يملكه، فلا
تزال يد صاحب اليد. وإن ادعاها رجلان، فشهد لأحدهما رجلان، أن صاحب اليد
غصبه إياها، وشهد للآخر شاهدان، أن صاحب اليد أقر له بها، حكم للمغصوب منه؛
لأنه ثبت أن صاحب اليد غاصب، وإقرار الغاصب غير مقبول.
فصل:
وإذا تداعى رجلان داراً ذكر كل واحد منهما أنه ابتاعها من زيد، ونقده
ثمنها، أو ادعى أحدهما أنه اشتراها من زيد وهي ملكه، وادعى آخر أنه اشتراها
من عمرو وهي ملكه، ولكل واحد منهما بينة بدعواه، واختلف تاريخهما، فهي
للأول؛ لأنه ابتاعها من مالكها، وإن استوى تاريخهما أو أطلقتا، أو أطلقت
إحداهما وأرخت الأخرى، تعارضتا، فإن كانت الدار في يد أحدهما، ابتنى على
بينة الداخل والخارج، وإن كانت في يد غيرهما، فادعاها لنفسه، وقلنا: تسقط
البينتان، حلف لكل واحد منهما يميناً وأخذها. وإن قلنا: يستعملان، بأن يقرع
بينهما، قرع بينهما، فمن قرع صاحبه، حلف، وأخذها. وإن قلنا: تقسم بينهما،
فلكل واحد منهما نصفها بنصف الثمن. وقد نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في
رواية الكوسج، في رجل أقام البينة أنه اشترى سلعة بمائة، فأقام الآخر بينة
أنه اشتراها بمائتين، فكل واحد منهما يستحق نصف السلعة بنصف الثمن، فيكونان
شريكين. فإن لم يدعها صاحب اليد، فإن قلنا: تسقط البينتان، رجع إليه، فإن
أقر بها لأحدهما، سلمت إليه، ويحلف كل واحد منهما للذي أنكره. وإن أقر بها
لهما، قسمت بينهما، ويحلف لكل واحد منهما يميناً، ويحلف كل واحد منهما
لصاحبه على النصف المحكوم له به، وإن قلنا: تستعمل البينتان، لم يفد إقراره
شيئاً؛ لأنه قد ثبت زوال
(4/257)
ملكه، وأن يده لا حكم لها، فصار كالأجنبي،
ولو كان في يده عبد، فادعى رجل أنه اشتراه منه، وادعى العبد أنه أعتقه،
وأقاما بينتين، فالحكم على ما مضى من التفصيل، ومتى قلنا: تقسم العين
بينهما، عتق نصف العبد، وللآخر نصفه بنصف الثمن.
فصل:
فإن كان في يده دار، فادعى رجل أنه باعه إياها بمائة في رمضان، وأنه يستحق
ثمنها عليه، وادعى آخر أنه باعه إياها في شوال، وأنه استحق عليه ثمنها، ولا
بينة لهما، فأنكرهما حلف لكل واحد منهما يميناً، وبرئ. وإن أقاما بينتين
بدعواهما، لزمه اليمين لكل واحد منهما؛ لأنه يمكن أن يشتريها من الأول في
رمضان، ثم تصير للثاني، فيبيعها الآخر في شوال. وإن اتفق تاريخهما تعارضتا.
فإن قلنا بسقوطهما، صارا كمن لا بينة لهما. وإن قلنا: يستعملان، قسم الثمن
بينهما على رواية، ويقدم أحدهما بالقرعة رواية أخرى. وإن أطلقتا، أو أطلقت
إحداهما وأرخت الأخرى، لزمه الثمنان لهما؛ لأنه أمكن صدق البينتين بأن
يكونا في زمنين، فوجب تصديقهما كالمختلفي التاريخ، ويحتمل تعارضهما،
لاحتمال استواء تاريخهما. والأصل براءة الذمة. والأول أولى.
فصل:
إذا قال لعبده: إن قُتِلْت، فأنت حر، فادعى العبد أنه قُتِلَ، وادعى الوارث
أنه مات، ولا بينة لهما، فالقول قول الوارث مع يمينه. وإن أقام كل واحد
منهما بينة، ففيه وجهان:
أحدهما: يتعارضان، ويبقى العبد رقيقاً لأن كل واحدة منهما تثبت ما شهدت به،
وتنفي ما شهدت به الأخرى، فهما سواء.
والثاني: تقدم بينة العبد؛ لأنها تثبت القتل، وهو صفة زائدة على الموت، فقد
تضمنت زيادة أثبتتها. وقول المثبت مقدم. وإن قال لأحد العبدين: إن مت في
رمضان، فأنت حر، وقال للآخر: إن مت في شوال، فأنت حر، ولا بينة لهما،
فأنكرهما الوارث، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه يحتمل موته في غيرهما. والأصل
بقاء الرق. وإن اعترف لهما، فالقول قول من يدعي موته في شوال؛ لأن الأصل
بقاء الحياة. وإن أقام كل واحد منهما بينة بموجب عتقه، ففيه وجهان:
أحدهما: يتعارضان؛ لأن موته في أحد الزمانين ينفي موته في الآخر، فيبقى
العبدان على الرق. ذكره أصحابنا. وقياس المذهب أن يقرع بينهما ويعتق
أحدهما؛ لأنا علمنا حرية أحدهما لا بعينه.
(4/258)
والوجه الثاني: تقدم بينة رمضان؛ لأنه
يحتمل أنه خفي موته في رمضان على البينة الأخرى، وعلمته الأولى.
وإن قال لعبد: إن مت من مرضي هذا، فأنت حر، وقال لآخر: إن برئت، فأنت حر،
ولا بينة لهما، فالقول قول الأول؛ لأن الأصل عدم البرء، وإن أقام كل واحد
منهما بينة بموجب عتقه، تعارضتا، والحكم فيها كالتي قبلها؛ لأن كل واحدة
منهما تنفي ما أثبتته الأخرى، ويحتمل تقديم بينة البرء، ولأنه يجوز أن
تعلمه إحداهما، وتخفى على الأخرى.
فصل
وإذا كان في يد رجل عين، فادعاها نفسان، وعزيا الدعوى إلى سبب يقتضي
اشتراكهما فيها، كالإرث، والشراء في صفقة واحدة، فأقر لأحدهما بنصفها،
شاركه الآخر فيه؛ لأن دعواهما تقتضي اشتراكهما في كل جزء منها، وكذلك لو
كان طعاماً، فهلك بعضه، كان باقيه بينهما، فيجب أن يكون المجحود، والمقر به
بينهما، وإن لم يعزيا الدعوى إلى سبب يقتضي الاشتراك، فأقر لأحدهما بنصفها،
لم يشاركه الآخر؛ لأن دعواه لا تقتضي الاشتراك في كل جزء، وإن أقر له
بجميعها، وكان المقر له قد أقر لشريكه في الدعوى بنصفها، لزمه دفعه إليه؛
لأنه أقر له به، فإذا وصل إليه، لزمه حكم إقراره، وإن لم يكن أقر له، وادعى
جميعها، حكم له به، وانتقلت الخصومة في النصف إليه؛ لأنه يجوز أن يكون
الجميع له، ويخص النصف بالدعوى؛ لأن له عليه بينة، أو يظن أنه يقر له به،
ومن يملك الجميع، فهو يملك النصف، فإن قال: النصف لي، والباقي لا أعلم
صاحبه، أعطي النصف الذي ادعاه، وفي النصف الباقي ثلاثة أوجه، تقدم ذكرها
فيمن ادعى عيناً في يد رجل، فأقر بها لغيره، وكذبه المقر له.
فصل
فإن كان في أيديهما دار، ادعى أحدهما نصفها، وادعاها الآخر كلها، ولا بينة
لهما، فهي بينهما نصفين، وعلى مدعي النصف اليمين لصاحبه؛ لأن يده على
نصفها، فالقول قوله فيه مع يمينه، ولا منازع لصاحبه في نصفها الآخر وهو في
يده، فإن أقام كل واحد منهما بينة، تعارضتا، وأيهما يقدم؟ ينبني على الخلاف
في تقديم بينة المدعي والمنكر.
وظاهر المذهب تقديم بينة المدعي، فتكون الدار كلها لمدعي الكل، وإن كانت
الدار في يد ثالث لا يدعيها، فلصاحب الكل نصفها الذي لا ينازع فيه، فإن لم
يكن لهما بينة، أقرع بينهما، فمن قرع صاحبه، حلف، وأخذ النصف الآخر، وإن
كان لأحدهما بينة، حكم بها، وإن كانت لكل واحد منهما بينة، تعارضتا،
وسقطتا، وصارا كمن لا بينة لهما، يقرع بينهما، فمن قرع صاحبه، حلف وأخذ
النصف، وعنه: تقسم بينهما، فيصير لمدعي الكل ثلاثة أرباعها، على ما مضى
فيمن تداعيا عيناً في يد غيرهما.
(4/259)
فصل
ولو ادعى إنسان أن أباه مات، وخلفه وأخاً له غائباً، أو صغيراً أو مجنوناً،
وخلف عيناً لهما في يد إنسان، فأنكر المدعى عليه، فأقام المدعي بينة
بدعواه، ثبتت العين للميت، وانتزعت من يد المنكر، ودفع نصفها إلى المدعي،
وحفظ الحاكم نصيب الغائب له، ولو ادعى الدار له ولأجنبي، لم ينزع الحاكم
نصيب الأجنبي من المنكر؛ لأن الشريك ينوب عن نفسه، وها هنا يثبت الحق
للميت، فتقضى ديونه منه، وتنفذ وصاياه، ولأن الأخ ها هنا يشارك أخاه فيما
أخذه إذا تعذر عليه أخذ الباقي، بخلاف الأجنبي، وإن كان المدعى ديناً في
ذمة إنسان، فهل يقبض الحاكم نصيب أخي المدعي؟ فيه وجهان: أحدهما: يقبضه؛
لأنه أنفع لصاحبه؛ إذ قد تتعذر البينة عليه عند قدومه، أو يعزل الحاكم،
فوجب أن يقبضه كالعين.
والثاني: لا يقبضه؛ لأن الذمة أحوط له من يد الأمين؛ لأنه قد يتلف إذا
قبضه.
فصل
إذا مات رجل وخلف ولدين، مسلماً وكافراً، فادعى كل واحد منهما أن أباه مات
على دينه، ليرثه دونه أخيه، فإن عُلم أصل دينه، فالقول قول من يبقيه عليه
مع يمينه؛ لأنه الأصل، فلا يُزال بالشك، وإن لم يُعرف أصل دينه، فقال
الخرقي: القول قول الكافر؛ لأنه لو كان مسلماً أصلياً، لم يقر ولده على
الكفر في دار الإسلام، فيكون ذلك دليلاً على أنه كان كافراً، قال ابن أبي
موسى: وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: أن الميراث بينهما نصفين،
فإن أقام كل واحد منهما بينة أن أباه مات على دينه، فقال الخرقي وابن أبي
موسى: يكونان كمن لا بينة لهما، وقد ذكرنا أن البينتين إذا تعارضتا، قدم
أحدهما بالقرعة في وجه، وتقسم العين بينهما في وجه، ويحتمل أن تقدم بينة
المسلم ها هنا؛ لأنه يجوز أن تكون اطلعت على أمر خفي على البينة الأخرى،
وإن قالت إحدى البينتين: نعرفه مسلماً، وقالت الأخرى: نعرفه كافراً، واختلف
تاريخهما، عمل بالآخرة منهما؛ لأنه ثبت بها أنه انتقل عما شهدت به الأولى،
وإن اتفق تاريخهما، تعارضتا، وإن أطلقتا، أو أطلقت إحداهما، قدمت بينة
المسلم؛ لأن الإسلام يطرأ على الكفر، وذكر القاضي أن قياس المذهب فيهما إذا
لم يكن لهما بينة، مثل ما إذا تداعيا عيناً، وإن كانت التركة في أيديهما،
تحالفا، وكانت بينهما، وإن كانت في يد غيرهما، أقرع بينهما، والأول أولى؛
لأن صاحب اليد معترف أن هذه تركة للميت، فلا تدل يده على الملك، وإن ادعى
كل واحد منهما أن هذه التركة لي ورثتها عن أبي، ولم يعترف
(4/260)
أحدهما بأخوة الآخر، فهي كما قال القاضي،
سواء ذكرا أباً واحداً أو أبوين، وإن خلف ابناً مسلماً، أو أخاً كافراً،
فاختلف في دينه عند موته، فالحكم على ما ذكرناه، وإن خلف أبوين وابنين،
فادعى الأبوان، أنه مات على دينهما، وادعى الابنان، أنه مات على دينهما،
فذلك بمنزلة معرفة أصل دينه؛ لأن الولد قبل بلوغه محكوم له بدين أبويه،
فيكون القول قولهما ما لم تقم بينة بخلافه.
فصل
وإن خلف ابنين، كان أحدهما عبداً، فادعى أنه عتق قبل موت أبيه، وأنكره
أخوه، فالقول قول المنكر؛ لأن الأصل عدم العتق، فإن اتفقا على أنه عتق في
رمضان، واختلفا في وقت موت الأب، فقال الحر: مات في شعبان، وقال الآخر: مات
في شوال، فالقول قول المعتق؛ لأن الأصل بقاء الحياة، وكذلك إن مات مسلم،
وله ولدان مسلم وكافر، فأسلم الكافر، واختلفا في وقت إسلامه.
فصل
وإذا مات رجل، فادعى إنسان أنه وارثه، لم تسمع الدعوى حتى يبين سبب الإرث،
لجواز أن يعتقد أنه وارث بسبب لا يرث به، ولا يقبل إلا ببينة تشهد أنه
وارثه، لا نعلم له وارثاً سواه، ويبين السبب، كما يبين المدعى، فيدفع إليه
ميراثه؛ لأن الظاهر عدم وارث، فإن لم يقولا: لا وارث له سواه، وكان للمشهود
له فرض، لا يمكن إسقاطه، أعطي اليقين كالزوج يعطى ربعاً عائلاً، والزوجة
تعطى ربع تسع، وكل واحد من الأبوين يعطى سدساً عائلاً، ولا يعطى من سوى
هؤلاء شيئاً؛ لأنه يحتمل أن يكون محجوباً، أو لا يعلم ماله بيقين كالولد،
فإن قالا: نشهد أن هذا ولد فلان، ولا نعلم له ولداً سواه، قبلت شهادتهما،
ويدفع إليه ربع وسدس، إن كان ذكراً؛ لأنه أقل ما يرث، مع زوج وأبوين،
والخمسان إن كان أنثى؛ لأنه أقل ما يرث مع زوج وأبوين وبنت ابن، فإن كان
الميت رجلاً، فأقل ما يرث الابن نصف وثلث ثمن، والبنت النصف عائلاً، ويبعث
الحاكم إلى البلدان التي دخلها الميت، فيسأل عن أحواله، ويستكشف، فإن لم
يظهر له وارث، توقف مدة بحيث لو كان له وارث، ظهر، فإن لم يظهر له غيره،
دفع إليه كمال ميراثه؛ لأن البحث مع هذه الشهادة، كشهادة أهل الخبرة، أنهم
لا يعلمون وارثاً سواه.
فصل
ولو مات رجل، وخلف ابناً وزوجة وداراً، فادعت الزوجة أنه أصدقها إياها،
وأنكر الابن، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الصداق، فإن أقامت بينة
بدعواها
(4/261)
وأقام الابن بينة، أن أباه تركها ميراثاً،
قدمت بينة الزوجة؛ لأنها تشهد بأمر حادث على الملك خفي على بينة الإرث،
وكذلك إن ادعت هي أو غيرها شراءها، أو اتهابها، فالحكم كذلك لما ذكرنا.
فصل
وإذا تنازع الزوجان في متاع البيت حال الزوجية، أو بعد الفرقة، أو تنازع
ورثتهما بعد موتهما، أو أحدهما وورثة الآخر، ولا بينة لهما، حكم بما يصلح
للرجال من ثيابهم، وعمائمهم، وسلاحهم، ونحو ذلك للرجل، وما يصلح للنساء من
ثيابهن، ومقانعهن، وحليهن، ومغازلهن، ونحو ذلك للمرأة، وما يصلح لهما من
الفرش، والحصر، والآنية، ونحو ذلك، فهو بينهما؛ لأن الظاهر أن من يصلح له
شيء، فهو له، فرجح قوله فيه، كصاحب اليد.
قال القاضي: هذا إذا كانت أيديهما عليه من طريق الحكم، بأن يكون في
منزلهما، فإن كان في يد أحدهما المشاهدة، فهو له، وإن كان في أيديهما، فهو
بينهما؛ لأن اليد المشاهدة أقوى، فرجح بها.
فصل
وإن اختلف صانعان في دكان في الآلات التي فيه، حكم بآلة كل صناعة لصاحبها؛
لأن الظاهر معه، وإن تنازعا في شيء خارج من الدكان، لم يرجح دعوى أحدهما،
بصلاحية المدعى له؛ لأنه إنما يصلح للترجيح مع اليد الحكمية، ولا يكفي مع
انفراده، كما لو اختلف الزوجان في متاع خارج من البيت.
فصل
وإن تنازع رب الدار، والمكتري في شيء في الدار المكتراة، وكان مما يتبع
الدار في البيع، كالسلم المسمر، والرف المسمر، والخابية المنصوبة،
والمفاتيح، فهو لرب الدار؛ لأنه من توابعها، فأشبه الشجرة المغروسة فيها،
فإن كان مما لا يتبعها، كالفرش، والأواني، فهو للمكتري؛ لأن يده عليه،
والعادة أن الإنسان يؤجر داره فارغة، وإن تنازعا في رفوف موضوعة على أوتاد
فعن أحمد: أنه لرب الدار؛ لأن الظاهر أنه يترك الرفوف فيها، فأشبه المتصلة،
وقال القاضي: يتحالفان ويكون بينهما؛ لأن هذا الظاهر معارض بكون الرفوف لا
تتبع الدار في البيع، فاستويا.
وقال أبو الخطاب: إن كان لها شكل منصوب في الدار فهو لصاحبها؛ لأن أحدهما
له، فكان الآخر له، وإن لم يكن لها شكل منصوب، فهو للمكتري؛ لأن يده عليه،
وهو مما لا يتبع الدار، فأشبه الفرس.
وإن اختلفا في مصرع باب مقلوع، فالحكم فيه، كالحكم في الرف، إلا أن القاضي
قال: إن كان له شكل في الدار، فالقول قول رب الدار، وإلا فالقول قول
المكتري.
(4/262)
فصل
وإن اختلف رب الدار والخياط الذي فيها، في الإبرة والمقص، فهما للخياط؛ لأن
تصرفه فيهما أظهر، وإن اختلفا في الثوب، فهو لصاحب الدار؛ لأن الظاهر أنه
لا يحمل قميصه يخيطه في دار غيره، وإن اختلف النجار ورب الدار، فالقول قول
النجار في القدوم والمنشار، والقول قول رب الدار في الرفوف والخشب، لما
ذكرناه، وإن تنازع رجلان دابة، أحدهما راكبها، أو له حمل عليها، والآخر آخذ
بزمامها، فهي لراكبها؛ لأن تصرفه فيها أقوى، ويده آكد، فإن كان لأحدهما
عليها حمل، والآخر راكبها، فهي للراكب؛ لأن يده عليها وعلى الحمل، وإن
اختلف صاحب الدابة وراكبها في حملها، فهو لراكبها؛ لأن يده على الدابة،
فتكون يده على حملها، وإن تنازعا في رحل الدابة وسرجها، فهو لصاحبها؛ لأنه
تابع للدابة، والعادة جارية بأن ذلك يكون لصاحبها.
فصل
وإن تنازعا حائطاً معقوداً ببناء أحدهما عقداً، لا يمكن إحداثه، فالقول
قوله فيه؛ لأن الظاهر أنه بناه مع ملكه، وإن كان له عليه أزج فهو له؛ لأن
الظاهر أنه لا يضع أزجه إلا على ملكه، ولا يرجح أحدهما بوضع خشبه عليه؛ لأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أن لا يمنع المرء جاره من
وضع خشبه على حائطه، وإن كان معقوداً ببناء كل واحد منهما، أو محلولاً
منهما، أو لكل واحد منهما عليه أزج، أو لا أزج لواحد منهما تحالفا، وكان
بينهما؛ لأنهما استويا فيه مع ثبوت يديهما عليه، فأشبه ما لو تنازعا داراً
في يديهما.
وإن تنازع صاحب العلو والسفل السقف الذي بينهما، فهو بينهما؛ لأنه حاجز
توسط بين ملكيهما، أشبه الحائط بين الملكين، وإن تنازعا درجة تحتها مسكن،
فهي بينهما؛ لأنهما تساويا في الانتفاع بها، وإن لم يكن تحتها مسكن، أو
تنازعا سلماً منصوباً، فهو لصاحب العلو؛ لأنها وضعت لنفعه، وإن كانت تحتها
جب، فهي لصاحب العلو؛ لأن المقصود بها نفعه، وإن تنازعا حائط العلو، فهو
لصاحبه؛ لأنه مختص بنفعه، وإن تنازعا حائط السفل، احتمل أن يكون بينهما؛
لأنه لنفعهما، فهو كالسلم تحته مسكن واحتمل أن يكون لصاحب السفل؛ لأنه لم
تجر العادة ببيت لا حائط له، وإن تنازعا صحن الدار والدرجة فيه، فهو
بينهما؛ لأن لكل واحد منهما عليه يداً، وإن لم يكن فيه درجة، فهو لصاحب
السفل، ولهذا يملك منع صاحب العلو من الاستطراق فيه، وإن تنازعا مسناة بين
أرض أحدهما، ونهر الآخر، فهي بينهما؛ لأنه حائط بين ملكيهما، ينتفع به كل
واحد منهما، أشبه الحائط بين الدارين، وإن تنازعا عمامة في يد أحدهما
طرفها، وباقيها في يد الآخر، تحالفا وكانت بينهما؛ لأن يد كل واحد منهما
ثابتة عليها.
وإن كان
(4/263)
أحدهما لابسها، والآخر آخذ بطرفها، أو
تنازعا قميصاً، أحدهما لابسه، والآخر آخذ بكمه، فهو للابسه؛ لأن المنتفع به
المتصرف فيه، وإن تنازعا عبداً، عليه ثياب لأحدهما، فهما سواء؛ لأن نفع
الثياب تعود إلى العبد لا إلى صاحبه.
فصل
وإن كان في يده غلام بالغ عاقل، فادعاه عبداً له، فصدقه، حكم له بملكه، وإن
كذبه، فالقول قوله؛ لأن الظاهر الحرية، وإن كان طفلاً لا يميز، فهو للمدعي؛
لأنه لا يعبر عن نفسه، أشبه البهيمة، فإن بلغ فقال: إني حر، لم يقبل منه؛
لأنه حكم برقه قبل دعواه، وإن لم يدع ملكه، لكنه كان في يده يتصرف فيه، فهو
كما لو ادعى رقه؛ لأن اليد دليل الملك، فإن ادعى أجنبي نسبه، ثبت ولم يزل
ملك سيده؛ لأنه يجوز أن يكون ولده وهو مملوك إلا أن يكون المدعي امرأة،
فتثبت حرية ولدها، أو يكون رجلاً عربياً، فإن فيه روايتين: إحداهما: لا
يسترق ولده فيحكم بحريته حينئذ، وإن كان الصبي مميزاً، فأنكر رق نفسه، ففيه
وجهان: أحدهما: لا يثبت رقه؛ لأنه معرب عن نفسه في دعوى الحرية، فأشبه
البالغ.
والثاني: يثبت الملك عليه؛ لأنه لا قول له، فأشبه الطفل، ولو ادعى رجلان رق
كبير في أيديهما، فأقر لأحدهما، فهو لمن أقر له؛ لأن رقه إنما يثبت
بإقراره، وإن جحدهما، فالقول قوله، فإن أقام كل واحد منهما بينة بملكه
تعارضتا، فإن قلنا بسقوطهما، رجع إلى قوله، وإن قلنا بقسمته بينهما أو
بقرعته بينهما، عمل على حسب ذلك.
فصل
ولو كان في يده صغيرة، فادعى نكاحها، لم تقبل دعواه، ولا يخلى بينه وبينها
إلا أن تكون بينة؛ لأن النكاح لا يثبت إلا بعقد وشهادة، بخلاف الرق، فإذا
كبرت، واعترفت له بالنكاح، قبل إقرارها والله أعلم.
فصل
ومن كان له حق على من يقر به ويبذله، لم يكن له أن يأخذ من ماله إلا ما
يعطيه؛ لأن الخيرة إلى الغريم في تعيين ما يقضيه، فإن أخذ من ماله شيئاً
بغير اختياره، لزمه رده؛ لأنه لا يجوز أن يتملك غير ماله بغير ضرورة، فإن
أتلفه، صار ديناً في ذمته، فإن كان من جنس حقه تقاص الدينان، وتساقطا، وإن
كان من غير جنسه، صار دين كل واحد منهما فى ذمة الآخر.
وإن كان من عليه الدين مانعاً له، بجحد، أو تعد، فالمذهب أنه ليس له الأخذ
أيضاً؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أد الأمانة إلى
من ائتمنك، ولا
(4/264)
تخن من خانك» والأخذ من ماله بغير علمه
خيانة، ولأنه إن أخذ من غير جنس حقه، فهي معاوضة بغير تراض منهما، فلا
يجوز؛ لقول الله تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ
مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وإن أخذ من جنسه، فليس له تعيين الحق بغير رضى
صاحبه، كحالة البذل، قال ابن عقيل: وجعل أصحابنا المحدثون لجواز الأخذ
وجهاً، وخرجه أبو الخطاب احتمالاً؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» حين أخبرته أن أبا سفيان
رجل شحيح، لا يعطيها ما يكفيها، ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الرهن
محلوب ومركوب بنفقته» ، فعلى هذا إن أخذ من جنس حقه، أخذ قدره، وإن أخذ من
غير جنسه، اجتهد في تقويمه، كقولنا في المرتهن: يركب ويحلب بقدر العلف.
فصل
وإذا ادعى حقاً على إنسان، وأقام به شاهدين، فلم يعرف الحاكم عدالتهما،
فسأل حبس غريمه حتى تثبت عدالة شهوده، أجيب إليه؛ لأن الظاهر عدالة المسلم،
ولأن الذي على الشاهد قد أتى به، وإنما بقي ما على الحاكم، وهو الكشف عن
عدالة الشهود.
وإن أقام شاهداً واحداً في حق، لا يثبت إلا بشاهدين، وسأل حبس غريمه، ليقيم
آخر، لم يحبس؛ لأن الحبس عذاب، فلا يتوجب قبل تمام البينة، وإن كان الحق
مما يثبت بشاهد واحد، احتمل أن يحبس؛ لأن الشاهد حجة فيه، واليمين إنما هي
مقوية، واحتمل أن لا يحبس؛ لأن الحجة ما تمت، ويحتمل أنه إن كان المدعي
باذلاً لليمين، ولم تثبت عدالة الشاهد، حبس؛ لأنها في معنى التي قبلها، وإن
كان التوقف عن الحكم لغير ذلك، لم يحبس؛ لأنه إن حبس ليقيم شاهداً آخر، فهي
كالتي لا تثبت إلا بشاهدين، وإن حبس ليحلف الخصم، فلا حاجة إلى الحبس مع
إمكان اليمين في الحال، وكل موضع حبس على تعديل الشهود، استديم حبسه حتى
تثبت عدالتهم، أو فسقهم، وإن حبس، ليقيم شاهداً آخر، حبس ثلاثاً، فإن أقام
الخصم شاهداً، وإلا خلي سبيله، وإن ادعى العبد أن سيده أعتقه، وأقام
شاهدين، فلم يعدلا، فسأل الحاكم أن يحول بينه وبين سيده إلى أن يبحث الحاكم
عن عدالة شهوده، فعل ذلك، ويؤخره الحاكم، وينفق عليه من كسبه لما ذكرنا
فيما تقدم.
(4/265)
[باب اليمين في
الدعاوى]
ومن ادعى حقاً من المال، أو يقصد به المال، كالبيع، والإجارة، فأنكر المدعى
عليه، فعليه اليمين؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين، على
المدعى عليه» رواه مسلم ورواه البخاري بمعناه.
ولحديث الحضرمي والكندي، فأما غير ذلك من الحقوق، وهو ما لا يثبت إلا
بشاهدين، وهو القصاص، والقذف، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والنسب،
والاستيلاد، والرق، والعتق، والولاء، ففيه روايتان: إحداهما: لا يستحلف
فيها؛ لأن البدل لا يدخلها، فلم يستحلف فيها، كحقوق الله تعالى.
والثانية: يستحلف في الطلاق، والقصاص، والقذف.
وذكر الخرقي: أنه يستحلف في مدة الإيلاء، وتستحلف المرأة إذا ادعت انقضاء
عدتها، قبل رجعة زوجها، وذكر أبو الخطاب: أنه يستحلف في كل حق لآدمي، لعموم
الخبر، وهو ظاهر في القصاص؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لادعى قوم
دماء رجال وأموالهم» ، ولأنها دعوى صحيحة في حق آدمي فيستحلف عليه، كدعوى
المال، فإذا توجهت اليمين عليه في المال، فحلف، برىء، وإن نكل، قضي عليه
بعد أن يقول له الحاكم: إن حلفت، وإلا قضيت عليك ثلاثاً.
ولا ترد اليمين على المدعي؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: «اليمين على المدعى عليه» ، فحصرها في جانبه.
وادعى زيد بن ثابت على ابن عمر: أنه باعه عبداً يعلم عيبه عند عثمان -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: أحلف أنك ما بعته وبه عيب علمته، فأبى
ابن عمر أن يحلف، فرد عليه العبد، ولم يرد اليمين، وقال أبو الخطاب: ترد
اليمين على المدعي، فيحلف، ويحكم له بما ادعاه.
(4/266)
وقال: قد صوبه أحمد، وقال: ما هو ببعيد،
يحلف ويستحق، لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «رد اليمين على طالب الحق» رواه الدارقطني.
ولا ترد إلا أن يردها المدعى عليه، فإن نكل المدعي عن اليمين أيضاً، أخر
الحكم حتى يحتكما في مجلس آخر.
فإن كانت الدعوى في غير المال، فنكل المدعى عليه، لم يقض بالنكول، وهل يحبس
حتى يقرأ ويحلف، أم يخلى سبيله؟ على وجهين: أصلهما إذا نكلت الزوجة عن
اللعان، وروي عن أحمد في القذف والقصاص فيما دون النفس: أنه يقضى فيه
بالنكول، إلا أن أبا بكر قال: هو قول قديم، المذهب على خلافه.
فصل
واليمين المشروعة التي يبرأ بها المطلوب هى اليمين بالله تعالى؛ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ
بِاللَّهِ} [المائدة: 106] ، وقال سبحانه: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ
أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] ، وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] «وقال النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لركانة بن عبد يزيد في الطلاق: الله ما أردت
إلا واحدة؟ قال: الله ما أردت إلا واحدة» .
وسواء كان الحالف مسلماً، أو كافراً، عدلاً أو فاسقاً؛ «لأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للحضرمي المدعي على الكندي: ليس لك إلا
يمينه، فقال الحضرمي: إنه رجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، قال: ليس لك
منه إلا ذلك» .
«وقال الأشعث بن قيس: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني فقدمته إلى
النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لي النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك بينة؟ قلت لا، قال لليهودي: احلف
ثلاثاً، قلت: إذاً يحلف، فيذهب بمالي، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ
لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] » رواه أبو داود وأين حلف، ومتى حلف، أجزأ، لظاهر
ما روينا، وحلف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حكومة لأبي في النخل في
مجلس زيد، فلم ينكره أحد.
واختار الخرقي تغليظها في حق الكافر خاصة في المكان واللفظ، فقال: واليمين
التي يبرأ بها المطلوب، هي اليمين بالله، إلا أنه إن كان
(4/267)
يهودياً، قيل له: قل: والله الذي أنزل
التوراة على موسى، وإن كان نصرانياً، قيل له: قل: والله الذي أنزل الإنجيل
على عيسى، وإن كان لهم مواضع يعظمونها، ويتوقون أن يحلفوا فيها كاذبين،
حلفوا فيها، لما روى أبو هريرة قال: «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يعني لليهود: نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما
تجدون في التوراة على من زنى؟» رواه أبو داود.
وعلى هذا يحلف المجوسي: قل: والله الذي خلقني ورزقني، ويحلف الوثني، ومن لا
يعبد الله، بالله وحده، واختار أبو الخطاب: أن الحاكم إن رأى تغليظها في حق
المسلم والكافر في اللفظ، والمكان، والزمان، فعل وتغليظها في حق المسلم
باللفظ، مثل قوله: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن
الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية.
وفي الزمان أن يحلف بعد العصر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا
مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة: 106] ويحلف بين الأذانين، وفي المكان: أن
يحلف بين الركن والمقام بمكة، وعند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة، وعند الصخرة بالقدس، وعند المنبر في سائر
المساجد، لما روى مالك في الموطأ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه قال: «من حلف على منبري هذا بيمين آثمة فليتبوأ مقعده من
النار» ولأنه ثبت التغليظ في أهل الذمة، فنقيس عليهم غيرهم، ولا تغلظ إلا
فيما له خطر، كالنصاب من المال، والقصاص، والطلاق، والعتق ونحوه.
فصل
ويستحلف على حسب جوابه، فإذا ادعى عليه قرضاً، أو بيعاً فأجاب بأنه: ما
أقرضني، ولا باعني، حلف على ذلك، وإن أجاب: بأنه لا يستحق علي شيئاً، حلف
عليه؛ لأن اليمين شرعت لتحقيق جوابه، وتأكيد صدقه فيما أخبر به، فكانت على
حسبه، فإن ادعى ألفاً، فجوابه لا يستحق علي الألف، ولا شيئاً منها، أو لا
يستحق علي شيئاً، ويحلف كذلك، ولا يكتفى منه بأنه لا يستحق علي الألف؛ لأن
ذلك لا ينفي استحقاقه بعضها، وإن ادعى على معسر حقاً هو عليه، لم يجز له أن
يحلف أنه لا يستحق علي شيئاً؛ لأنه كذب، فإن الحق في ذمته.
فصل
ومتى كانت الدعوى على الخصم في نفسه، حلف على البتات في النفي
(4/268)
والإثبات، لما روى ابن عباس أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «استحلف رجلاً، فقال: قل: والله الذي
لا إله إلا هو ما له عندي شيء، رواه» أبو داود ولأن له طريقاً إلى العلم
به، فلزمه القطع بنفيه.
فإن كانت الدعوى عليه في حق غيره في الإثبات، حلف على البت؛ لأن له طريقاً
إلى العلم به، وفي النفي يحلف على نفي علمه، نص عليه أحمد وذكر حديث القاسم
بن عبد الرحمن عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تضطروا
الناس في أيمانهم أن يحلفوا على ما لا يعلمون.
» وفي حديث الحضرمي: «ولكن أحلفه: والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه»
رواه أبو داود: ولأنه لا يمكنه الإحاطة بنفي فعل غيره، فلم يكلف ذلك، وذكر
ابن أبي موسى عنه: أنه قال: على كل حال اليمين على العلم فيما يدعي عليه في
نفسه، أو فيما يدعي على ميته، قال: وبالأول أقول، قال: وعنه فيمن باع سلعة،
فظهر المشتري على عيب بها، وأنكره البائع، هل اليمين على علمه، أو على
البتات؟ على روايتين.
وإن باع عبداً فأبق عند المشتري، هل يحلف على علمه، أو على أنه لم يأبق
عنده؟ على روايتين.
فصل
وإذا ادعى عليه جماعة حقاً، فأنكر، لزمه لكل واحد يمين؛ لأنه منكر لحق كل
واحد منهم، فإن قال: أنا أحلف للجميع يميناً واحدة، لم يقبل منه، وإن رضي
الجماعة بيمين واحدة، جاز؛ لأن الحق لهم، لا يخرج عنهم.
(4/269)
|