الكافي
في فقه الإمام أحمد [كتاب
الشهادات]
تحملها وأداؤها فرض؛ لقول الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا
دُعُوا} [البقرة: 282] .
وقوله سبحانه: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ
آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، ولأنها أمانة، فيلزمه أداؤها عند طلبها،
كالوديعة، وهي فرض كفاية، إن لم يوجد من يكتفى به غير اثنين، تعين عليهما؛
لأن المقصود لا يحصل إلا بهما، وإن قام بها من يكفي، سقطت عمن سواهم؛ لأن
القصد حفظ الحقوق، وقد حصل.
ويستحب الإشهاد على العقود كلها؛ لقول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا
تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]- يعني: في المداينة -.
ولا يجب في عقد غير النكاح والرجعة؛ لأن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يتبايعون في عصره في الأسواق من غير إشهاد، فلم
ينكر عليهم، ولأن في إيجابه حرجاً، فسقط بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
فصل
ومن كانت عنده شهادة لآدمي عالم بها، لم يشهد حتى يسأله صاحبها، لما روي عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «خير الناس قرني، ثم
الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم ينذرون ولا يوفون، ويشهدون ولا
يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون» ، متفق عليه.
وإن لم يعلم بها، استحب إعلامه بها، وله أداؤها قبل إعلامه؛ لقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أنبئكم بخير الشهداء؟ الذي يأتي
بشهادته قبل أن يسألها» رواه أبو داود، فتعين حمل الحديث على هذه الصورة،
جمعاً بين الخبرين.
(4/270)
ومن كانت عنده شهادة في حد الله، لم يستحب
أداؤها؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ستر
عورة مسلم، ستره الله في الدنيا والآخرة» .
وتجوز الشهادة به؛ لقول الله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ
هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] ، والله أعلم.
[باب من تقبل شهادته ومن ترد]
يعتبر في الشاهد المقبول شهادته ستة شروط: أحدها: العقل، فلا تقبل شهادة
طفل، ولا مجنون، ولا سكران، ولا مبرسم؛ لأن قولهم على أنفسهم لا يقبل، فعلى
غيرهم أولى.
والثاني: البلوغ، فلا تقبل شهادة صبي؛ لقول الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ، والصبي ليس من رجالنا،
ولأنه ليس بمكلف، أشبه المجنون، وعنه: تقبل شهادة ابن العشر إذا كان
عاقلاً؛ لأنه يؤمر بالصلاة، ويضرب عليها، أشبه البالغ.
وعنه: تقبل شهادته في الجروح خاصة، إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحال التي
تجارحوا عليها؛ لأنه قول ابن الزبير، والمذهب الأول.
والثالث: الضبط فلا تقبل شهادة من يعرف بكثرة الغلط والغفلة؛ لأنه لا تحصل
الثقة بقوله، لاحتمال أن يكون من غلطه، وتقبل شهادته من يقبل ذلك منه؛ لأن
أحداً لا يسلم من الغلط.
والرابع: النطق، فلا تقبل شهادة الأخرس بالإشارة؛ لأنها محتملة، فلم تقبل،
كإشارة الناطق، وإنما قبلت في أحكامه المختصة به، للضرورة، وهي ها هنا
معدومة.
والخامس: الإسلام، فلا تقبل شهادة كافر بحال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وقال تعالى: {مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، والكافر ليس بعدل، ولا
مرضي، ولا هو منا، إلا أن شهادة أهل الكتاب، تقبل في الوصية في السفر إذا
لم يكن غيرهم، ويستحلف مع شهادته بعد العصر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ
آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] الآيات، نزلت في تميم الداري
وعدي وكانا نصرانيين، شهدا بوصية مولى
(4/271)
لعمرو بن العاص، روى هذه القصة أبو داود
وغيره، وروى حنبل عن أحمد: أن شهادة بعضهم على بعض جائزة، لما روى جابر «أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز شهادة بعض أهل الذمة على
بعض» ، رواه ابن ماجة، ولأن بعضهم يلي بعضاً، فتجوز شهادتهم عليهم،
كالمسلمين، والمذهب الأول.
قال الخلال: غلط حنبل فيما رواه لا شك فيه، والخبر يرويه مجالد، وهو ضعيف،
ويحتمل أنه أراد اليمين فإنها شهادة.
فصل
الشرط السادس: العدالة، فلا تقبل شهادة فاسق؛ لقول الله تعالى: {إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا
بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] ، وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] ،
إلى قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا
تجوز شهادة خائن، ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه» ، رواه أبو داود.
ويعتبر في العدالة شيئان: أحدهما: اجتناب الكبائر، والإدمان على الصغائر،
والكبائر كل ما فيه حد، أو وعيد، فمن فعل كبيرة، أو أكثر من الصغائر، فلا
تقبل شهادته؛ لأنه لا يؤمن من مثله شهادة الزور، ولأن الله تعالى نص على
القاذف، فقسنا عليه مرتكب الكبائر، واعتبرنا في مرتكب الصغائر الأغلب؛ لأن
الحكم للأغلب، بدليل قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] ، والآية التي بعدها.
ولا يقدح فيه في عمل صغيرة نادراً؛ لأن أحداً لا يسلم منها، ولهذا روي عن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «إن تغفر اللهم
تغفر جما وأي عبد لك لا ألما» والثاني: المروءة، فلا تقبل شهادة غير ذي
المروءة، كالمغني، والرقاص، والطفيلي، والمتمسخر، ومن يحدث بمباضعة أهله،
ومن يكشف عورته في الحمام، أو غيره، أو يكشف رأسه في موضع لا عادة بكشفه
فيه، ويمد رجليه في مجمع الناس
(4/272)
وأشباه ذلك مما يجتنبه أهل المروءات؛ لأنه
لا يأنف من الكذب، بدليل ما روى أبو مسعود البدري، أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة
الأولى إذا لم تستح، فاصنع ما شئت» ، وفي أصحاب الصنائع الدنيئة، كالكساح،
والزبال، والقمام، والقراد، والكباش، والمشعوذ، والحجام وجهان: أحدهما: لا
تقبل شهادته؛ لأن هذا دناءة يجتنبه أهل المروءات، فأشبه ما قبله.
والثاني: تقبل شهادتهم إذا حسنت طريقتهم في دينهم؛ لأن الله تعالى قال:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وألحق
أصحابنا بهذه الصنائع، الحياكة، والدباغة، والحراسة، لدناءتها، والأولى في
هذه قبول الشهادة؛ لأنه قد تولاها كثير من الصالحين وأهل المروءة.
ومن كانت صناعته محرمة، كصانع المزامير، والطنابير، لا تقبل شهادته؛ لأنه
مدمن على المعاصي، ساقط المروءة، وكذلك المقامر؛ لأن القمار من الميسر الذي
أمر الله باجتنابه، وفيه دناءة، وسفه، وأكل مال بالباطل.
فصل
ويحرم اللعب بالنرد والشطرنج، وإن خلا من القمار، لما روى أبو موسى قال:
سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من لعب
بالنردشير، فقد عصى الله ورسوله» ، رواه أبو داود.
وعن واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إن لله تعالى ثلاثمائة وستين نظرة، ليس لصاحب الشاه فيها
نصيب» ، رواه أبو بكر.
ومر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على قوم يلعبون بالشطرنج، فقال: {مَا
هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] ،
ولأنه لعب يصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، فأشبه القمار، والنرد أشد من
الشطرنج، نص عليه أحمد للاتفاق عليه، وثبوت الخبر.
(4/273)
فأما اللعب بالحمام، فإن كان يقصد به
تعليمها حمل الكتب ونحوها مما تدعو الحاجة إليه، فلا بأس به؛ لأنه كتأديب
الفرس، وإن كان لغرض محرم من القمار، أو أخذ حمام غيره ونحوه، فهو محرم،
وإن كان عبثاً، فهو دناءة وسفه، فما دام عليه صاحبه من المحرم والسفه، لم
تقبل شهادته، لزوال عدالته، وما ندر لم يمنع؛ لأنه من الصغائر، فأما اللعب
بآلات الحرب، كالمناضلة، وتأديب الفرس، والثقاف، فمندوب إليه، لما فيه من
القوة للجهاد، وقد لعب الحبشة بالحراب والدوق، بين يدي رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجده.
فصل
وهي نوعان: محرم: وهي الآلات المطربة، من غير غناء كالمزمار، وسواء كان من
عود أو قصب، كالشبابة، أو غيره، كالطنبور، والعود، والمعزفة، لما روى أبو
أمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله
بعثني رحمة للعالمين، وأمرني بمحق المعازف والمزامير» رواه سعيد في " سننه
"، ولأنها تطرب، وتصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، فحرمت كالخمر.
النوع الثاني: مباح، وهو: الدف في النكاح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف» رواه
الترمذي، وابن ماجة.
وفي معناه، ما كان في حادث سرور، ويكره في غيره، لما روي عن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، أنه كان إذا سمع صوت الدف، بعث فنظر، فإن كان في وليمة
سكت، وإن كان في غيره، عمد بالدرة، وهو مكروه للرجل على كل حال، لتشبهه
بالنساء.
وأما الضرب بالقصب، فليس بمطرب، فلا يحرم، وإنما هو تابع للغناء، فيتبعه في
الكراهة، ومن أدمن على شيء من ذلك، ردت شهادته؛ لأنه إما معصية، وإما دناءة
وسقوط مروءة.
فصل
قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يعجبني الغناء؛ لأنه ينبت النفاق
في القلب، وقال: من خلف ولداً يتيماً له جارية مغنية تباع ساذجة، واختلف
أصحابنا فيه، فذهب طائفة إلى تحريمه؛ لأنه يروى عن ابن عباس، وابن مسعود،
عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الغناء ينبت
النفاق في القلب» ، وذهب أبو بكر والخلال، إلى إباحته مع الكراهة، وهو
(4/274)
قول القاضي: «لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - قالت: كانت عندي جاريتان تغنيان، فدخل أبو بكر، فقال: مزمور
الشيطان في بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! فقال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دعهما فإنها أيام عيد» .
قال أبو بكر: الغناء والنوح واحد، مباح ما لم يكن معهما منكر، ولا فيه طعن،
وفي الجملة، من اتخذه صناعة يؤتى له، أو اتخذ غلاماً أو جارية مغنيين يجمع
عليهما الناس، فلا شهادة له؛ لأنه سفه وسقوط مروءة، ومن كان يغشى بيوت
الغناء، أو يغشاه المغنون للسماع متظاهراً به، وكثر منه، ردت شهادته، ومن
استتر بذلك، أو غنى لنفسه قليلاً، لم ترد شهادته، فإن كثر مع الاستتار به،
ردت شهادة صاحبه عند من حرمه؛ لأنه معصية، ومن أباحه، لم يردها؛ لأنه لا
معصية فيه، ولم يتظاهر به، وأما الحداء، فمباح، لما روي عن عائشة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: «كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في سفر، وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء، وكان مع الرجال،
وكان أنجشة مع النساء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لابن رواحة: حرك بالقوم، فاندفع يرتجز فتبعه أنجشة، فأعنقت الإبل، فقال
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنجشة: رويدك، رفقاً
بالقوارير» .
ونشيد الأعراب لا بأس به؛ لأنه كالحداء، وكذلك سائر الأصوات، إلا القراءة
بالألحان، قال القاضي: هي مكروهة، وقال غيره: إن فرط فيها، فأشبع الحركات،
حتى صارت الفتحة ألفاً، والضمة واواً، والكسرة ياء، حرم، لما فيه من تغيير
القرآن، وإن لم يكن كذلك، فلا بأس به، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قد قرأ ورجع، وقال: «ما أذن الله لشيء، كإذنه لنبي حسن الصوت،
يتغنى بالقرآن، يجهر به» أي: استمع.
«وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستمع إلى أبي موسى،
وقال: لقد أوتيت مزماراً، من مزامير آل
(4/275)
داود فقال أبو موسى: لو علمت أنك تستمع،
لحبرته لك تحبيراً» .
فصل
والشعر كالكلام، حسنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه؛ لأنه كلام موزون مشغوله، وقد
روى عمرو بن العاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«الشعر كالكلام حسنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه» ، وقول الشعر مباح؛ لأن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له شعراء، ويأتيه الشعراء فيسمع
منهم.
فصل
وتمنع التهمة قبول الشهادة، وهي ستة أنواع؛ أحدها: كونه والداً وإن علا، أو
ولداً وإن سفل، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «لا تجوز شهادة خائن، ولا
خائنة، ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في قرابة، ولا ولاء» ، والظنين
المتهم، وكل واحد منهما، متهم في حق صاحبه؛ لأنه يميل إليه بطبعه، ولهذا
قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فاطمة بضعة مني، يريبني
ما أرابها» .
ويستحق أحدهما النفقة على صاحبه، ويعتق عليه إذا ملكه، وعنه: تقبل
شهادتهما؛ لأنهما عدلان من رجالنا، فيدخلان في عموم الآيات والأخبار، وعنه:
تقبل شهادة الولد لوالده، لدخوله في العموم، ولا تقبل شهادة الأب لابنه؛
لأن ماله كماله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت
ومالك لأبيك» فكانت شهادته لنفسه، فأما شهادة أحدهما على صاحبه، فمقبولة؛
لأنه لا يتهم عليه، ولذلك قال الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ
الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] .
وحكى القاضي رواية أخرى عن أحمد: أن شهادته عليه لا تقبل؛ لأن من لم تقبل
(4/276)
شهادته له، لم تقبل عليه، كغير العدل،
والمذهب الأول كما ذكرنا، ولأن شهادته له ردت للتهمة، ولا تهمة في الشهادة
عليه.
الثاني: لا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه؛ لأنه ينتفع بشهادته لتبسط كل
واحد منهما في مال الآخر عادة، واتساعه سعته، وإضافة مال كل منهما إلى
الآخر.
قال ابن مسعود لرجل قال له: إن غلامي سرق مرآة امرأتي قال: غلامكم سرق
مالكم، لا قطع عليه، ولأنه إن كان الزوج الشاهد، فهو يجر إلى نفسه نفعاً؛
لأن قيمة بضع المرآة المملوك له، يزداد بيسارها، وإن كان الشاهد المرأة،
فنفقتها تزداد بيساره، وعنه: أن شهادة أحدهما للآخر مقبولة، لدخوله في
العموم.
الثالث: الجار إلى نفسه، أو الدافع عنها، كشهادة الغرماء للمفلس أو الميت
بدين، أو عين، فإنه لو ثبت له، تعلقت حقوقهم به بخلاف غيرهما من الغرماء،
فإنه لا يتعلق حق الشاهد بما يشهد به، وكذلك لا تقبل شهادة الورثة للمورث،
للجرح قبل الاندمال؛ لأنه قد يسري إلى نفسه، فتجب الدية لهم، ولا شهادة
الوصي بمال الميت؛ لأنه يثبت له فيه حق التصرف، وكذلك شهادة الشريك لشريكه
بمال الشركة، ولا الوكيل لموكله، فيما هو موكل فيه، ولا الشفيع ببيع الشقص
المشفوع، ولا السيد لعبده المأذون، ولا لمكاتبه.
قال القاضي: ولا تقبل شهادة الأجير لمستأجره، نص عليه أحمد.
وأما الدافع عن نفسه، فمثل شهادة المشهود عليه بجرح الشهود، أو شهادة
العاقلة بجرح شهود القتل الذين يحملون عقله، وشهادة الضامن بقضاء الدين، أو
البراءة منه، فلا تقبل شهادة أحد؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولا
ظنين في قرابة» ولا الظنين المتهم.
فإن شهد الشريك لشريكه بغير مال الشركة، أو الوكيل بغير ما وكل به، أو
العاقلة بما لا تحمل عقله، قبلت شهادتهم، لعدم التهمة فيهم، وإن شهد من
العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ من لا يحمل العقل، لفقره أو بعده، احتمل أن
تقبل شهادته كذلك، واحتمل أن لا تقبل؛ لأنه قد يوسر عند الحول فيحمل، أو
يموت القريب فيحمل البعيد.
الرابع: من ترد شهادته لفسقه، ثم أعادها بعد عدالته، لم تقبل للتهمة في
أدائها، لكونه تعير بردها، فربما قصد بأدائها أن تقبل لإزالة العار الذي
لحقه بردها، ولأنها ردت بالاجتهاد، فقبولها ينقض لذلك الاجتهاد، وإن شهد
عبد فردت شهادته، ثم عتق، وأعادها، ففيه روايتان:
(4/277)
إحداهما: لا تقبل؛ لأنها شهادة مجتهد فيها،
فإذا ردت لم تقبل مرة أخرى، كشهادة الفاسق.
والثانية: تقبل؛ لأن العتق يظهر، وليس من فعله فيتهم في إظهاره، بخلاف
العدالة، وإن شهد السيد لمكاتبه، أو الوارث لمورثه بالجرح قبل الاندمال،
فردت شهادتهم، ثم زالت الموانع، فأعادوا الشهادة، ففي قبولها وجهان،
كالروايتين والأولى أنها لا تقبل؛ لأنها شهادة ردت للتهمة، فلا تقبل إذا
أعيدت، كالمردود للفسق.
الخامس: من شهد بشهادة ترد في البعض، ردت في الكل، مثل من شهد على رجل، أنه
قذفه وأجنبياً، أو قطع الطريق عليه، أو على أجنبي، أو شهد الأب لابنه
وأجنبي بدين، أو لشريكه وأجنبي، فلا تقبل؛ لأنها شهادة متهم فيها، فلم
تقبل.
السادس: العداوة تمنع قبول شهادة العدو على عدوه؛ لقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر
على أخيه» ولأنه يتهم في إرادة الضرر بعدوه، فلا تقبل شهادة الرجل على
زوجته بالزنا؛ لأنه يقر بعدواته لها، ولأنه دعوى جناية في حقه، فلم تقبل؛
لأنه خصم، ولا تقبل شهادة المقطوع عليه الطريق على القاطع، ولا المقذوف على
القاذف؛ لأنه عدو، فأما المتحاكمان على مال، فلا يمنع ذلك قبول شهادة
أحدهما على صاحبه؛ لأنه ليس بعدواة.
فصل
وتقبل شهادة العدو لعدوه؛ لأنه غير متهم في شهادته له وشهادة الرجل لأبيه
من الرضاع، وابنه، وسائر أقاربه، جائزة؛ لأنه لا نسب بينهما يوجب الإنفاق
والصلة، وعتق أحدهما على صاحبه، بخلاف قرابة النسب، وتقبل شهادة الأخ من
النسب لأخيه؛ لأنه عدل غير متهم، فيدخل في عموم الآيات والأخبار، ولا يصح
قياسه على الوالد والولد، لما بينهما من التقارب، وتقبل شهادة الصديق
الملاطف، وسائر الأقارب، لما ذكرنا، وتقبل شهادة ولد الزنى، والجندي، إذا
سلما في دينهما كذلك، وتقبل شهادة الوصي والوكيل بعد العزل في أحد الوجهين
كذلك، إلا أن يكونا قد خاصما فيما شهدا به؛ لأنهما صارا خصمين فيه، وتقبل
شهادة الوارث بالجرح بعد الاندمال، لما ذكرناه.
فصل
ومن شهد شهادة زور، فسق، وردت شهادته؛ لأنها من الكبائر؛ لقول رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا: بلى
يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق
(4/278)
الوالدين وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول
الزور، وشهادة الزور، فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت» متفق عليه.
ويثبت أنه شاهد زور بأحد ثلاثة أشياء: أحدهما: أن يقر بذلك.
والثاني: أن تقوم البينة به.
الثالث: أن يشهد بما يقطع بكذبه، مثل أن يشهد بموت من تعلم حياته، أو يقتله
في مكان، والمشهود عليه في ذلك الوقت في بلد آخر.
ولا يثبت ذلك بتعارض الشهادتين؛ لأنه ليس تكذيب إحداهما أولى من الأخرى،
ومتى ثبت أنه شاهد زور، عزره الحاكم، بما يراه من الضرب أو الحبس، وشهره،
بأن يقيمه للناس في موضع يشتهر أنه شاهد زور؛ لأن فيه زجراً له ولغيره عن
فعل مثله، فأما الغلط والنسيان، فلا يصير به شاهد زور؛ لأنه لم يتعمده، ولو
غير العدل شهادته بحضرة الحاكم، فزاد فيها، أو نقص، قبلت ما يحكم بشهادته؛
لأنه يجوز أن يكون نسيه.
فصل
ومن قذف، أو فعل معصية توجب رد شهادته، فتاب، قبلت شهادته؛ لقول الله
تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
[النور: 4] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] ، نص على قبول شهادة
القاذف إذا تاب، وقسنا عليه سائر من ذكرنا.
إن قذف ولم يتب، لم تقبل شهادته، سواء جلد أو لم يجلد، للآية، ولأن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لأبي بكرة: تب، أقبل شهادتك، ولأن القذف معصية
توجب حداً، فوجب أن ترد بها الشهادة قبل التوبة، وتقبل بعد التوبة، كالزنا،
والتوبة من الذنب: الاستغفار، والندم على الفعل، والعزم على أن لا يعود،
والإقلاع عن الذنب؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] ، الآية، والتي بعدها، وإن كانت مظلمة
لآدمي، فالإقلاع عنها، والتخلص
(4/279)
منها، بإيفاء صاحبها، أو التحلل منه؛ لأن
الحق لأدمي، فلا يبرأ منه إلا بأدائه أو إبرائه، وإن عجز عن ذلك، عزم على
إيفائه متى قدر، وإن كان قذفاً فإقلاعه عنه، إكذابه لنفسه؛ لما روي عن عمر
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: توبة القاذف إكذابه نفسه، ولأنه بالقذف
ألحق العار به، فإكذابه نفسه يزيله، فإن لم يكن كاذباً، قال: قذفي لفلان
كان باطلاً، وقد ندمت عليه، ولا يعتبر مع التوبة إصلاح العمل؛ لأن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لأبي بكرة: تب، أقبل شهادتك، ويحتمل أن يعتبر
مضي مدة تعلم توبته فيها؛ لأن الله تعالى قال: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:
5] ، وقال: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء:
16] .
فصل
وتقبل شهادة العبد، فيما خلا الحد، والقصاص لقول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، والعبد عدل تقبل روايته، وفتياه،
وأخباره الدينية، فيدخل في العموم.
وعن عقبة بن الحارث، أنه قال: «تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة
سوداء، فقالت: أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فقال: كيف وقد زعمت ذلك» متفق عليه، ولأنه عدل غير متهم،
فأشبه الحر، ولا تقبل شهادته في الحد؛ لأنه يدرأ بالشبهات، وفي شهادة العبد
شبهة، لوقوع الخلاف فيها، وفي القصاص احتمالان: أحدهما: لا تقبل فيه كذلك.
والثاني: تقبل؛ لأنه حق آدمي، لا يصح الرجوع عن الإقرار به، فأشبه الأموال،
وذكر الشريف، وأبو الخطاب في جميع العقوبات روايتين.
فصل
وتجوز شهادة الأمة، فيما تجوز به شهادة النساء، لحديث عقبة بن الحارث، وحكم
المدبر، والمكاتب، وأم الولد، حكم القن في ذلك؛ لأنهم أرقاء.
فصل
ويعتبر استمرار شروط العدالة حتى يتصل بها الحكم، فإن شهد عند الحاكم، فلم
يحكم بشهادته، حتى حدث منه ما لا تجوز معه شهادته، لم يحكم بها؛ لأن
العدالة أن الإنسان يستبطن الفسق، ويظهر العدالة، فلا يؤمن أن يكون فاسقاً
حين أداء شهادته، فلم يجز الحكم بها مع الشك فيها، وإن حدث ذلك منه بعد
الحكم وقبل الاستيفاء، فإن
(4/280)
كان ذلك حداً لله تعالى، لم يستوف؛ لأنه
يدرأ بالشبهات ولا مطالب به، وهذه شبهة، وإن كان مالاً، استوفي؛ لأن الحكم
قد تم، وثبت الاستحقاق بأمر ظاهر الصحة، فلا نبطله بأمر محتمل، وإن كان حد
قذف، أو قصاص، ففيه وجهان: أحدهما: يستوفى؛ لأنه حق آدمي له مطالب، فأشبه
المال.
والثاني: لا يستوفى؛ لأنه عقوبة على البدن، تدرأ بالشبهات، أشبه الحد، فأما
إن أديا الشهادة وهما من أهلها، ثم ماتا قبل الحكم بها، أو جنا، أو أغمي
عليهما، حكم بها؛ لأن ذلك لا يؤثر في شهادتهما، فلا يدل على الكذب فيها.
[باب عدد الشهود]
والحقوق تنقسم ستة أقسام؛ أحدها: ما لا يكفي فيه إلا أربعة شهداء وهو
الزنا؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}
[النور: 4] .
واللواط زناً، فلا يقبل فيه إلا أربعة كذلك، ولأنه فاحشة، بدليل قول الله
تعالى لقوم لوط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80] ، فيعتبر فيه
الأربعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ
نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:
15] ، فأما إتيان البهيمة، فإن قلنا: يجب به الحد، فهو كالزنا في الشهادة؛
لأنه فاحشة موجبة للحد، فأشبه الزنا، وإن قلنا: الواجب به التعزير، ففيه
وجهان: أحدهما: يعتبر فيه الأربعة؛ لأنه فاحشة.
والثاني: يثبت بشاهدين؛ لأنه لا يوجب الحد، فأشبه قبلة الأجنبية، وفي
الإقرار بالزنا، وجهان: أحدهما: تعتبر له الأربعة؛ لأنه سبب يثبت به الزنا،
فاعتبر فيه أربعة، كالشهادة.
والثاني: يثبت بشاهدين؛ لأنه إقرار، فثبت بشاهدين، كسائر الأقارير، وإن كان
المقر أعجمياً، ففي الترجمة وجهان، كالشهادة على الإقرار، فأما المباشرة
دون الفرج، وسائر ما يوجب التعزير، فيكتفى فيه بشاهدين؛ لأنه ليس بزنا موجب
للحد، فأشبه ظلم الناس.
(4/281)
فصل
الثاني: سائر العقوبات كالقصاص وسائر الحدود، فلا يقبل فيه إلا شهادة
رجلين، لما روي عن الزهري قال: «جرت السنة، من عهد رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ألا تقبل شهادة النساء في الحدود،» ولأنها
عقوبة مشروعة، فلا يقبل فيها إلا شهادة الرجال الأحرار، كحد الزنا، وسواء
كان القصاص في النفس، أو ما دونها، كالموضحة، والأطراف،، فأما جنايات العمد
التي لا توجب القصاص، كالجائفة، والمأمومة، وجناية الأب، فقال الخرقي: يقبل
فيه رجل وامرأتان، أو رجل ويمين، وهذا ظاهر المذهب؛ لأنه لا يوجب إلا
المال، فأشبه البيع، وقال ابن أبي موسى: فيه روايتان: إحداهما: كما ذكرنا.
والثانية: لا يقبل إلا رجلان، قال: وهذا اختياري، وهو قول أبي بكر؛ لأنه
جناية عمد، فأشبه الموضحة، وقيل: يقبل في الجائفة؛ لأنها لا توجب قصاصاً
بحال، ولا يقبل في المأمومة وشبهها؛ لأنها لا توجب القود في الموضحة، ومن
قال بالأول، لم يوجب القصاص في الموضحة، حتى يشهد بها من يثبت القصاص
بشهادته.
فصل
القسم الثالث: المال وما يوجبه، كالبيع، والإجارة، والهبة، والوصية له،
والضمان، والكفالة، فيقبل فيه شهادة رجل وامرأتين؛ لقول الله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282]
إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، نص على المداينة،
وقسنا عليه سائر ما ذكرنا.
وقال ابن أبي موسى: لا تثبت الوصية إلا بشاهدين؛ لقول الله سبحانه: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:
106] .
فصل
القسم الرابع: ما ليس بمال ولا عقوبة، كالنكاح، والطلاق، والرجعة، والعتق،
والوكالة، والوصية إليه، والولاية، والعزل وشبهه، ففيه روايتان: إحداهما:
لا يقبل فيه إلا رجلان؛ لقول الله تعالى في الرجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فنقيس عليه سائر ما ذكرنا، ولأنه ليس بمال،
ولا المقصود منه المال، أشبه العقوبات.
(4/282)
والثانية: يقبل فيه رجل وامرأتان، أو يمين؛
لأنه ليس بعقوبة، ولا يسقط بالشبهة، أشبه المال، وقال القاضي: النكاح
وحقوقه لا يثبت إلا بشاهدين، وما عداه يخرج فيه روايتان، وكل ما يثبت بشاهد
ويمين، لا يقبل فيه شهادة امرأتين ويمين، ولا أربع نسوة؛ لأن شهادة النساء
ناقصة، وإنما انجبرت بانضمام الذكر إليهن، فلا يقبلن منفردات وإن كثرن.
فصل
وإن اختلف الزوجان في الصداق، ثبت بشهادة رجل وامرأتين؛ لأنه مال، وإن
اختلفا في الخلع فادعاه الرجل، وأنكرته المرأة، قبل فيه رجل وامرأتان؛ لأنه
بينة لإثبات المال، فإن ادعته المرأة وأنكره الرجل، لم يقبل فيه إلا رجلان؛
لأنه بينتهما لإثبات الفسخ، وإن اختلفا في عوضه خاصة، ثبت برجل وامرأتين؛
لأن الخلاف في المال، وإن شهد رجل وامرأتان بسرقة، ثبت المال دون القطع،
وإن شهدوا بقتل عمد، لم يجب قصاص ولا دية؛ لأن السرقة توجب المال والقطع،
فإذا قصرت عن أحدهما، ثبت الآخر، والقتل يوجب القصاص، والمال بدل، فإذا لم
يثبت الأصل، لم توجب بدله، وإن قلنا: موجبه أحد شيئين، لم يتعين أحدهما إلا
بالاختيار، فلو أوجبنا الدية وحدها، أوجبنا معيناً، وقال ابن أبي موسى: لا
يجب المال فيما إذا شهدوا بالسرقة؛ لأنها شهادة لا توجب الحد، وهو أحد
موجبيها، فإذا بطلت في أحدهما، بطلت في الآخر ولو كان في يد رجل جارية ذات
ولد، فادعى رجل أنها أم ولده، وولدها منه، وشهد بذلك رجل وامرأتان، قضي له
بالجارية؛ لأنها مملوكته، فثبت ذلك برجل وامرأتين، وإذا مات عتقت بإقراره،
وفي الولد وجهان: أحدهما: يثبت نسبه وحريته؛ لأن الولد نماء الجارية، وقد
ثبتت له، فتبعها الولد في الحكم، ثم ثبت نسبه وحريته بإقراره.
والثاني: لا يثبتان؛ لأنهما لا يثبتان إلا بشاهدين، فإن ادعى أنها كانت
ملكه فأعتقها، لم يثبت ذلك بشاهد وامرأتين؛ لأن البينة شهدت بملك قديم، فلم
يثبت، والحرية لا تثبت برجلين وامرأتين، ويحتمل أن تثبت كالتي قبلها.
فصل
القسم الخامس: ما لا يطلع عليه الرجال، من الولادة، والرضاع، والعيوب تحت
الثياب، والحيض، والعدة، فيقبل فيه شهادة امرأة عدلة، لحديث عقبة بن
الحارث، ولأنه معنى يقبل فيه قول النساء المنفردات، فأشبه الرواية، وعنه:
لا يقبل فيه إلا شهادة امرأتين؛ لأن الرجال أكمل منهن، ولا يقبل منهم إلا
اثنان، فالنساء أولى، وتقبل شهادة
(4/283)
النساء في الاستهلال؛ لأنه يكون عند
الولادة، ولا يحضرها الرجال، وتقبل شهادة المرضعة على الرضاع، لحديث عقبة،
وإن شهد الرجل الواحد بما تقبل فيه شهادة المرأة الواحدة، فقال أبو الخطاب:
يكتفى به؛ لأنه أكمل منها، ولأن ما يقبل فيه قول المرأة، يقبل فيه قول
الرجل، كالرواية.
فصل
القسم السادس: ما لا يعرفه إلا أهل الطب، كالموضحة وشبهها، وداء الدواب
الذي لا يعرفه إلا البيطار، فإذا لم يقدر على اثنين، قبل فيه قول الواحد
العدل من أهل المعرفة؛ لأن مما يعسر عليه إشهاد اثنين، فيقبل فيه قول
الواحد، كالمسألة قبلها، وإن أمكن إشهاد اثنين، لم يكتف بدونهما؛ لأنه
الأصل.
[باب تحمل الشهادة وأدائها]
لا يجوز تحملها، وأداؤها، إلا عن علم؛ لقول الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ، وقوله سبحانه: {إِلا مَنْ شَهِدَ
بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] ، فإن كانت الشهادة على فعل،
كالخيانة والغصب، لم تجز إلا عن مشاهدة؛ لأنه لا يعمل إلا بها، فإن أراد أن
ينظر إلى فرجي الزانيين، ليتحمل الشهادة عليهما، جاز؛ «لأن سعد بن عبادة
قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرأيت لو وجدت مع امرأتي
رجلاً، أمهله حتى آتي بأربعة شهداء قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: نعم» ولأن أبا بكرة، ونافعاً، وشبل بن معبد، شهدوا على
المغيرة بالزنا عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلم ينكر عليهم نظرهم.
فصل
وإن كانت الشهادة على قول، كالبيع، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والإقرار،
لم يجز التحمل فيها إلا بسماع القول، ومعرفة القائل يقيناً؛ لأن العلم لا
يحصل بدونهما، وإن لم يحصل العلم إلا بمشاهدة القائل، اعتبر ذلك، لتوقف
العلم عليه، وإن حصل العلم بدونه، لمعرفته صوت القائل، كفى؛ لأنه علم
المشهود عليه، فجازت الشهادة عليه، كما لو رآه.
فصل
وتجوز الشهادة بما علمه بالاستفاضة، في تسعة أشياء: النسب، والنكاح، والملك
المطلق، والوقف، ومصرفه، والموت، والعتق، والولاية، والعزل؛ لأننا نشهد أن
فاطمة
(4/284)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ابنة رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وزوج علي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -، وأن نافعاً مولى ابن عمر، وأنهم قد ماتوا، ونعلم ذلك يقيناً، ولم
نشاهده، قال مالك: ليس عندنا أحد يشهد على أجناس أصحاب رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا على السماع، ولأن هذه الأمور، يتعذر في
الغالب معرفة أسبابها، ويحصل العلم فيها بالاستفاضة، فجاز أن يشهد عليها
بها، كالنسب، وظاهر كلام أحمد والخرقي، أنه لا يشهد بذلك، حتى يسمعه من عدد
كثير يحصل له به العلم؛ لأن الشهادة لا تجوز إلا على ما علمه، وقال القاضي:
يكفي أن يسمع من عدلين يسكن قلبه إلى خبرهما، فإن الحق يثبت بقول اثنين،
فإن سمع رجلاً يقر بنسب أب، أو ابن، وصدقة المقر به، جاز أن يشهد به؛ لأنها
شهادة على إقرار، وإن سكت، شهد به أيضاً؛ لأن السكوت في النسب إقرار به،
بدليل أن من بشر بولد فسكت، كان مقراً به، ويحتمل أن لا يشهد به حتى يكرر؛
لأن السكوت محتمل، فاعتبر له التكرار، ليزول الاحتمال، وإن كذبه المقر به،
لم يشهد به.
فصل
وإن سمع إنساناً يقر بحق، جاز أن يشهد عليه، وإن لم يقل له: اشهد علي؛ لأنه
سمع إقراره يقيناً، فجاز أن يشهد به، كما يشهد على الفعل برؤيته، وعنه: لا
يشهد حتى يستدعيه المقر ذلك، فيقول: اشهد علي، قياساً على الشهادة، وعنه:
إن سمعه يقر بالدين، شهد عليه؛ لأنه معترف بثبوته، وإن سمعه يقر بسببه،
كالقرض ونحوه، لم يشهد به؛ لأنه يجوز أن يكون قد وفاه، وعنه: يجوز أن يشهد
بما سمعه، ولا يجب أداؤه حتى يقول له: اشهد علي، فإذا قاله، وجب عليه
الأداء، إذا دعي لقول الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا
دُعُوا} [البقرة: 282] ، قال: إذا أشهدوا، والأول المذهب؛ لأنه يشهد بما
سمعه يقيناً، فأشبه الشهادة بالاستفاضة، وفارق الشهادة على الشهادة؛ لأنها
ضعيفة، فاعتبر تقويتها، بالاستدعاء.
فصل
ومن رأى في يد إنسان شيئاً مدة يسيرة، لم يجز أن يشهد له بالملك؛ لأن ملك
غيره قد يكون في يده، ويجوز أن يشهد له باليد؛ لأنه شاهدها، وإن رآه في يده
مدة طويلة يتصرف فيه تصرف الملاك، من النقص، والبناء، والسكنى، والاستغلال
ونحوه، جاز أن يشهد له بالملك في قول ابن حامد؛ لأن اليد دليل الملك،
واستمرارها من غير منازع يقويها، فجرت مجرى الاستفاضة، ويحتمل أن لا يشهد
له إلا باليد؛ لأن اليد قد
(4/285)
تكون من غصب، وتوكيل، وإجارة، وعارية، فلم
تحصر في الملك، فلم تجز الشهادة به مع الاحتمال.
فصل
وتجوز شهادة الأعمى بالاستفاضة؛ لأنه يحصل له العلم بها، كالبصير،
وبالترجمة؛ لأنه يترجم ما يسمعه عند الحاكم، وفيما طريقه السماع، إذا عرف
القائل يقيناً؛ لأنه تجوز روايته بالسماع، واستمتاعه بزوجته، فجازت شهادته،
كالبصير، ولا يجوز أن يشهد على ما طريقه الرؤية؛ لأنه لا رؤية له، فإن تحمل
الشهادة عليها وهو بصير، ثم عمي، جاز أن يشهد، إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه؛
لأنه يشهد على ما يعلمه، فإن لم يعرفه إلا بعينه، لم يشهد عليه، إلا أن
يتيقن صوته، فيجوز أن يشهد عليه، لعلمه به.
قال القاضي: يجوز أن يشهد عليه إذا وصفه بما يتميز به، ويحتمل ألا يشهد؛
لأن هذا مما لا ينضبط غالباً.
فصل
ولا تجوز الشهادة حتى يعرف المشهود عليه، والمشهود له، نص عليه أحمد، وقال:
لا يشهد على امرأة، حتى ينظر إلى وجهها، ويعرف كلامها، فإن كانت ممن عرف
اسمها، ودعيت، وذهبت، وجاءت فليشهد، وإلا فلا يشهد، ولا يجوز أن يقول لرجل:
أتشهد أن هذه فلانة؟ ويشهد على شهادته.
قال القاضي: يجوز أن يحمل هذا على الاستحباب، لتجويز الشهادة بالاستفاضة.
قال: ولا يشهد على امرأة إلا بإذن زوجها، ولا يشهد لرجل على رجل بحق وهو لا
يعرف اسميهما، إلا إذا كانا شاهدين، فقال أشهد أن لهذا على هذا كذا، فأما
إذا كانا غائبين، فلا.
فصل
ولا يجوز أن يشهد إلا بما يعلم، قال أحمد: لا يشهد على الوصية المختومة حتى
يقرأها، فإن حضر جماعة، فقرأ الكتاب بعضهم، وسمعه بعضهم، جاز لجميعهم
الشهادة به.
فصل
ويعتبر في أداء الشهادة الإتيان بلفظها فيقول: أشهد بكذا، فإن قال: أعلم
وأتيقن، أو أحق ونحوه، لم يعتد به؛ لأنها مشتقة من اللفظ، وإذا شهد بأرض،
أو دار، فلا بد من ذكر حدودها؛ لأنها لا تعلم إلا بذلك، وإن شهد بنكاح،
اشترط ذكر شروطه، من الولي، والشهود، والإيجاب، والقبول؛ لأن الناس يختلفون
فيها، وإن شهد بالرضاع، احتاج إلى وصفه، وأنه ارتضع من ثديها، أو من لبن
حلب منه، وذكر عدد الرضعات
(4/286)
وأنه في الحولين، ولو شهد أنه ابنها من
الرضاع، لم يكف، لاختلاف الناس فيما يصير به ابناً.
وإن رأى امرأة أخذت صبياً تحت ثيابها فأرضعته، لم يجز أن يشهد برضاعه؛ لأنه
يجوز أن يتخذ شيئاً على هيئة الثدي يمتصه، غير الثدي، وإن شهد بالجناية،
ذكر صفتها، فيقول: ضربه بالسيف، فقتله، أو أماته، أو فمات منه، أو فضربه
فأوضحه، وإن قال: ضربه بالسيف، فمات، أو فاتضح، أو فوجدته ميتاً، أو
موضحاً، لم تصح شهادته؛ لأنه قد يموت، أو يتضح من غير ضربة، وإن قال: ضربه
فسال دمه، لم تثبت البازلة كذلك، وإن قال: فأسال دمه، ثبتت، وإن قال: ضربه
فأوضحه، فوجدت في رأسه موضحتين، وجب دية موضحة؛ لأنه قد أثبتها، ولم يجب
قصاص؛ لأننا لا ندري أيتهما التي شهد بها.
فصل
ومن شهد بالزنا، فلا بد من ذكر الزاني والمزني بها، لئلا يراه على بهيمة،
أو جارية ابنه، فيعتقده زنا، ويحتمل أن لا يقتصر إلى ذكر المزني بها؛ لأنه
لا يفتقر إليه في الإقرار، ويفتقر إلى ذكر صفة الزنا، وأنه رأى ذكره في
فرجها؛ لأن زياداً شهد على المغيرة، فلم يذكر ذلك، فلم يقم الحد عليه، فإن
لم يذكر الشهود ذلك، سألهم الحاكم عنه، وهل يفتقر إلى ذكر الزمان والمكان؟
يحتمل وجهين: أحدهما: لا يفتقر إلى ذكرهما؛ لأن الأزمنة في الزنا واحد، فلا
تختلف.
والثاني: يفتقر إلى ذكره، لتكون شهادتهم على فعل واحد، لئلا يكون ما شهد به
أحدهما غير ما شهد به الآخر، ولأن الناس اختلفوا في الشهادة بالحد مع تقادم
الزمان، فقال ابن أبي موسى: لا تقبل؛ لأن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: من شهد على رجل بحد، فلم يشهد عليه حين يصيبه، فإنما يشهد
على ضغن، وقال غيره من أصحابنا: تقبل؛ لأنها شهادة بحق، فجازت مع تقادم
الزمان، كالقصاص، ولأنه قد يعرض ما يمنعه الشهادة في حينها، ويتمكن منها
بعد ذلك، ومن شهد على سرقة، ذكر السارق، والمسروق منه، الحرز، والنصاب؛ لأن
الحكم يختلف باختلافها.
ومن شهد بالردة بين ما سمع منه لاختلاف الناس فيما يصير به مرتداً، فلم يجز
الحكم به قبل البيان، كما لا يجوز الحكم بجرح الشاهد قبل بيان الجرح.
فصل
ويجوز للحاكم أن يعرض للشهود بالوقوف عن الشهادة في حدود الله تعالى؛ لأن
(4/287)
عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عرض لزياد
في شهادته على المغيرة، فقال: إني لأرجو أن لا يفضح الله على يدك أحداً من
أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال أبو الخطاب: في
ذلك وجهان.
فصل
وكل حق لله تعالى، كالحدود، والحقوق المالية، وما كان حقاً لآدمي غير معين،
كالوقوف على الفقراء، والمساجد، والمقبرة المسبلة، فلا يفتقر أداء الشهادة
فيه إلى تقدم دعوى؛ لأنه لا يستحقها آدمي معين فيدعيها، وكذلك شهد أبو بكرة
وأصحابه من غير دعوى، وما عدا ذلك، فلا تسمع الشهادة فيه إلا بعد تقدم
الدعوى؛ لأن الشهادة فيه حق لآدمي، فلا يستوفى إلى بمطالبة وإذنه.
فصل
ومن كان له على غيره حق، فقضى بعضه، وأشهد البينة بقضائه، ثم جحد الباقي،
شهد الشهود للمدعي بالدين، وعليه بما اقتضى، وإن قال: أشهد أن عليه ألفاً،
ثم قال: قضاه منه بعضه، أفسد شهادته؛ لأن ما قضاه لم يبق عليه، وإن لم يقبض
منه شيئاً، فقال المدعي للشاهد: اشهد لي ببعض الدين، فعنه: أنه لا يشهد إلا
كما تحمل؛ لقول الله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ
عَلَى وَجْهِهَا} [المائدة: 108] ، وقال أبو الخطاب: عندي يجوز ذلك؛ لأن من
شهد بألف، فهو شاهد بخمسمائة، وإن غير العدل شهادته بحضرة الحاكم، فزاد، أو
نقص، قبلت ما لم يحكم بشهادته، وإن ادعت عنده شهادة، فأنكر، ثم شهد بها
وقال: كنت أنسيتها، قبلت؛ لأن ما قاله محتمل، فلا يجوز تكذيبه مع إمكان
تصديقه.
[باب الشهادة على الشهادة]
تجوز الشهادة على الشهادة فيما يثبت بشاهد وامرأتين؛ لأنه مبني على
المساهلة، فجازت فيه الشهادة، كالأموال، ولا يقبل في حد الله تعالى؛ لأن
مبناه على الدرء بالشبهات، وهذه لا تخلو من شبهة، ولهذا اشترطنا لها عدم
شهود الأصل، وظاهر كلام أحمد: أنها لا تقبل في قصاص، ولا حد قذف؛ لأنه
عقوبة، فأشبه سائر الحدود.
ونص على قبولها في الطلاق؛ لأنه لا يدرأ بالشبهات، فيخرج من هذا، وجوب
قبولها في كل ما عدا الحدود والقصاص كذلك، وقال ابن حامد: لا تقبل في
النكاح، ونحوه قول أبي بكر، فعلى قولهما: لا تقبل في غير المال، وما قصد به
المال؛ لأنه لا يثبت إلا بشاهدين، فأشبه الحد، وما ثبت بالشهادة على
الشهادة ثبت بكتاب القاضي إلى القاضي
(4/288)
وما لا فلا؛ لأن الكتاب لا يثبت إلا بتحمل
الشهادة من جهة القاضي فكان حكمه، حكم الشهادة على الشهادة.
فصل
ولها أربعة شروط
أحدهما: تعذر شهود الأصل، لموت، أو مرض، أو غيبة، أو خوف، أو غيره؛ لأن
شهادة الأصل أقوى؛ لأنها تثبت بنفس الحق وهذه لا تثبته ولأن سماع القاضي
منهما متيقن، وصدق شاهدي الفرع عليهما مظنون فلم يقبل الأدنى مع القدرة على
الأقوى، وفي قدر الغيبة وجهان: أحدهما: مسافة القصر؛ لأن من دونها في حكم
الحاضر، ذكره أبو الخطاب.
والثاني: أن يكون بمكان لا يمكنه الرجوع إلى منزله من يومه؛ لأن في تكليفه
الحضور مع ذلك ضرراً، وقد نفاه الله تعالى بقوله: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ
وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] ، وما دون ذلك؛ لا مشقة فيه فوجب حضورهما منه.
والشرط الثاني: أن يتحقق شروط الشهادة، من العدالة، وغيرها، في كل واحد من
شهود الأصل والفرع؛ لأن الحكم ينبني على الشهادتين معاً، فإن عدل شهود
الفرع شهود الأصل، فشهدوا على شهادتهم وعدالتهم، كفى ذلك؛ لأن شهادتهما
بالحق مقبولة، فكذلك في العدالة، وإن لم يشهدوا بعدالتهم، تولى الحاكم ذلك.
الشرط الثالث: أن يعين شهود الفرع شهود الأصل بأسمائهم، وأنسابهم، ولو
قالوا: نشهد على شهادة عدلين، لم تقبل؛ لأنهما ربما كانا عدلين عندهما غير
عدلين عند الحاكم، ولأنه يتعذر على الخصم جرحهما إذا لم يعرف عينهما.
الشرط الرابع: أن يسترعيه شاهد الأصل الشهادة، فيقول: اشهد على شهادتي، آني
أشهد لفلان على فلان بكذا، أو أقر عندي بكذا، نص عليه، ولو سمع رجلاً يقول:
أشهد أن لفلان على فلان كذا، لم يجز أن يشهد به؛ لأنه يحتمل أنه أراد أن له
ذلك عليه من وعد، فلم يجز أن يشهد مع الاحتمال بخلاف ما إذا استرعاه؛ لأنه
لا يسترعيه إلا على واجب، وإن سمعه يسترعي غيره، جاز أن يشهد به كذلك،
ويحتمل ألا يجوز؛ لأن في الشهادة على الشهادة معنى النيابة، فلا ينوب عنه
إلا بأذنه، وإن سمعه يشهد عند الحاكم، أو سمعه يشهد بحق يعزيه إلى سببه
كقوله: أشهد أن لفلان على فلان ألفاً، من ثمن مبيع، ففيه روايتان:
(4/289)
إحداهما: لا يشهد به لما ذكرنا.
والثانية: يجوز أن يشهد به؛ لأنه لا يحتمل مع ذلك إلا الوجوب، فيزول به
الاحتمال، ويرتفع به الإشكال، فجاز أن يشهد به، كما لو استرعاه.
فصل
ويعتبر دوام هذه الشروط، إلى حين الحكم، فلو شهد الفروع عند الحاكم، فلم
يحكم حتى حضر شهود الأصل، أو صحوا من المرض، وقف الحكم على سماع شهادتهم؛
لأنه قدر على الأصل قبل العمل بالبدل فأشبه المتيمم يقدر على الماء، وإن
فسق شهود الأصل، أو رجعوا عن الشهادة قبل الحكم، لم يحكم بها؛ لأن الحكم
ينبني عليها، فأشبه ما لو فسق شهود الفرع، أو رجعوا.
فصل
واختلفت الرواية، في شرط خامس: هو اعتبار الذكورية في شهود الفرع، فعنه: لا
يشترط؛ لأن الغرض إثبات المال، فجاز أن يثبت بشهادة النساء مع الرجال،
كشهادة الأصل، والثانية يشترط؛ لأنه شهادتهم على شهادة الشاهدين، وليس ذلك
بمال، ولا المقصود منه المال، ويطلع عليه الرجال، أشبه النكاح، وأما شهود
الأصل، فلا تعتبر فيهم الذكورية؛ لأنها شهادة بمال، وعنه: أنها تعتبر؛ لأن
في الشهادة على الشهادة ضعفاً، فاعتبر تقويتها باعتبار الذكورية فيها.
فصل
ويجوز أن يشهد على كل واحد من شهود الأصل، شاهد فرع، فيشهد شاهدا فرع، على
شاهدي أصل؛ لأن شهود الفرع، بدل من شهود الأصل، فاكتفي بمثل عددهم، وذكر
ابن بطة أنه يشترط أن يشهد على كل واحد من شاهدي الأصل، شاهدا فرع؛ لأن
شاهدي الفرع، يثبتان شهادة شاهدي الأصل، فلا يثبت كل واحد منهما إلا
باثنين، كما لو كانت الشهادة على إقراره، لكن إن شهد شاهدا الفرع على كل
واحد من شاهدي الأصل، جاز؛ لأنه إثبات قول اثنين، فجاز بشاهدين، كالشهادة
على إقرار نفسين.
فصل
ويؤدي الشهادة على الصفة التي تحملها، فيقول: أشهد أن فلاناً يشهد أن لفلان
على فلان كذا، وأشهدني على شهادته، وإن سمعه يشهد عند الحاكم، أو يعزي الحق
إلى سبب، ذكره.
(4/290)
[باب اختلاف
الشهود]
إذا ادعى ألفين على رجل فشهد له شاهد بهما، وشهد له آخر بألف، ثبت له الألف
بشهادتهما، لاتفاقهما، ويحلف مع شاهده على الألف الآخر؛ لأن له بها شاهداً،
وسواء شهدت البينة، بإقرار الخصم، أو ثبوت الحق عليه، وسواء ادعى ألفاً، أو
أقل منه؛ لأنه يجوز أن يكون له حق فيدعي بعضه، ويجوز أن لا يعلم أن له من
يشهد له بجميعه والله أعلم.
فصل
وإن شهد اثنان أنه زنى بها في بيت، وشهد آخران أنه زنى بها في بيت آخر، أو
شهد اثنان أنه زنى بها غدوة، وشهد اثنان أنه زنى بها عشياً، فهم قذفة،
وعليهم الحد، وقال أبو بكر: تكمل شهادتهم، ويحد المشهود عليه، وحكاه عن
أحمد؛ لأنه قد شهد عليه أربعة بالزنا، فيدخل في عموم قوله سبحانه:
{فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا
فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] ، والأول المذهب؛ لأنه لم
يشهد الأربعة على فعل واحد، فأشبه ما لو شهد اثنان على رجل أنه زنا بامرأة،
وشهد اثنان أنه زنا بامرأة أخرى، فيلزم الشهود الحد، دون المشهود عليه، وإن
شهد اثنان أنه زنا بها في هذه الزاوية، واثنان أنه زنا بها في الزاوية
الأخرى، وهما متباعدتان، فكذلك؛ لأنهما فعلان، وإن كانتا متقاربتين، كملت
الشهادة؛ لأنه أمكن صدقهم، بأن تكون كل بينة نسبية إلى إحدى الروايتين،
لقربه منهما.
وإن شهد اثنان، أنه زنا بها مطاوعة، واثنان أنه زنا بها مكرهة، فلا حد على
المرأة، ولا على الرجل؛ لأن الشهادة لم تكمل على واحد من الفعلين، فإن زنا
المكرهة غير الزنا من المطاوعة، فأشبهت التي قبلها هذا قول أبي بكر
والقاضي، واختار أبو الخطاب: أن الحد يجب على الرجل دون المرأة لاتفاق
الأربعة على الشهادة بزناه، ولا حد على الشهود في قوله لكمالها، وعلى قول
أبي بكر: فيهم وجهان: أحدهما: عليهم الحد؛ لأن البينة لم تكمل على فعل
واحد، أشبه ما لو اختلفوا في البيت.
والآخر أن الحد على شهود المطاوعة؛ لأنهم قذفوا المرأة، ولم تكمل البينة
عليها.
فصل
وإن شهد أحدهما أنه قتله عمداً، وشهد الآخر أنه قتله خطأ، ثبت القتل،
لاتفاقهما
(4/291)
عليه، ولم يثبت العمد، والقول قول المشهود
عليه مع يمينه في أنه خطأ، ولا تحمله العاقلة؛ لأنه لم يثبت ببينة، وإن شهد
أحدهما أنه قتله غدوة، وشهد الآخر أنه قتله عشياً، أو شهد أحدهما أنه قتله
بسيف، وشهد الآخر أنه قتله بسكين، لم يثبت القتل، اختاره القاضي؛ لأنهما لم
يشهدا بفعل واحد، وعند أبي بكر: يثبت كالتي قبلها، فإن شهد شاهد أنه قذفه
غدوة، وشهد آخر أنه قذفه عشياً، أو اختلفا في المكان، أو شهد أحدهما أنه
قذفه بالعربية، وشهد الآخر أنه قذفه بالعجمية، لم تكمل شهادتهما؛ لأن
البينة لم تكمل على قذف واحد، وكذلك إن كانت الشهادة بالنكاح أو بفعل،
كالقتل، والسرقة، والغصب فاختلفا في المكان، أو الزمان، لم تكمل البينة
كذلك، إلا على قول أبي بكر فإنها تكمل، ويثبت المشهود به، والمذهب: الأول،
وإن شهد أحدهما أنه أقر بقذفه، أو بقتله يوم الجمعة، وشهد الآخر: أنه أقر
بذلك يوم الخميس، أو اختلفا في المكان، أو شهد أحدهما أنه أقر بالعربية،
وشهد الآخر أنه أقر بالعجمية، ثبت المشهود به؛ لأنه المشهود به واحد وإن
اختلفت العبارة، وإن كانت الشهادة بعقد غير النكاح، كالبيع، والطلاق،
والرجعة، فقال أصحابنا: تكمل الشهادة؛ لأن المشهود به، قول، فأشبه الإقرار،
ويحتمل أن لا تكمل الشهادة؛ لأن كل بيع أو طلاق لم يشهد به إلا واحد، فلم
تكمل البينة، كالنكاح، وإن شهد أحدهما أنه غصبه هذا، وشهد الآخر أنه أقر
بغصبه، كملت الشهادة، نص عليه أحمد في القتل؛ لأنه يجوز أن يكون الإقرار
بالغصب الذي شهد به الآخر، فتكمل البينة على شيء واحد.
وقال القاضي: لا تكمل؛ لأن ما شهد به أحدهما غير ما شهد به الآخر.
فصل
وإن شهد أحدهما أنه سرق ثوباً غدوة، وشهد الآخر أنه سرقه بعينه عشياً، لم
يجب الحد؛ لأن البينة لم تكمل على سرقة واحدة، وله أن يحلف مع أحدهما،
ويغرم المشهود عليه؛ لأن الغرم يثبت بشاهد ويمين، فإن كان مكان كل شاهد
شاهدان، تعارضت البينتان.
ذكره القاضي لأن كل شاهدين بينة، والتعارض إنما يكون في البينة، بخلاف التي
قبلها، فإن كل شاهد، ليس بينة، فلا يتعارضان، ويحتمل أن لا يتعارضا هاهنا؛
لأنه يمكن الجمع بينهما بأن يسرقه غدوة، ثم يعود إلى مالكه فيسرقه عشية،
ومع إمكان الجمع لا تعارض، فعلى هذا يجب على السارق الحد والغرم، وإن لم
تعين البينة الثوب، فلا تعارض بينهما وجهاً واحداً، ويجب للمسروق منه
الثوبان، وعلى السارق القطع، وإن شهد أحدهما أنه سرق ثوباً قيمته ثمن
دينار، وشهد الآخر أنه سرق ذلك الثوب وقيمته ربع دينار.
لم تكمل بينة الحد، لاختلافهما في النصاب، ووجب للمشهود له ثمن دينار،
لاتفاقهما عليه، وحلف مع الآخر على الثمن الآخر إن أحب؛ لأن الغرم
(4/292)
يثبت بشاهد واحد ويمين، وإن كان مكان كل
شاهد شاهدان، تعارضت البينتان، ولا حد، ووجب ما اتفقوا عليه، وسقط الزائد،
لتعارض البينتين فيه.
فصل
وإذا شهد عدلان على ميت أحدهما شهد) أنه أعتق سالماً في مرضه: وهو ثلث
ماله، وشهد الآخر أنه أعتق غانماً، وهو ثلث ماله، عتق السابق منهما، فإن
جهل السابق منهما، أقرع بينهما فأعتق من تخرج له القرعة، كما لو أعتقهما
بكلمة واحدة، وإن شهدت إحداهما أنه وصى بعتق سالم، وشهدت الأخرى أنه وصى
بعتق غانم، أقرع بينهما، فأعتق أحدهما بالقرعة، سواء تقدمت وصيته أو تأخرت؛
لأن الوصية يستوي فيها المقدم والمؤخر.
وقال أبو بكر وابن أبي موسى: يعتق من كل واحد منهما نصفه؛ لأنهما سواء في
الوصية، فيجب أن يتساويا في الحرية، والأول قياس المذهب، بدليل ما لو
أعتقهما بكلمة واحدة، وإن كانت إحدى البينتين وارثة عادلة، ولم تطعن في
شهادة الأجنبية، فالحكم كذلك، وإن كذبت الأجنبية، وقالت: ما أعتق إلا سالما
وحده، عتق سالم كله، لإقرار الورثة بحريته، ولم يقبل تكذيبهم، لأنه نفي
فيكون حكم غانم على ما تقدم، في أنه يعتق إذا تقدم تاريخ عتقه، ويرق إذا
تأخر ويقرع بينهما إذا استويا، أو جهل الحال، وإن كانت الوارثة غير عادلة،
عتق غانم كله، ولم يزاحمه من شهدت به الوارثة؛ لأن شهادة الفاسق كعدمها، ثم
إن طعنت في شهادة الأجنبية، عتق سالم كله، لإقرارها بحريته، وإن لم تطعن
فيها، فذكر القاضي: أنه يعتق من سالم نصفه؛ لأنه ثبت عتقه بإقرارهم، وعتق
غانم بالبينة، فصار كأنه أعتق العبدين معاً إلا في أنه لا ينتقض عتق غانم،
لشهادة الوارثة لفسقها.
فصل
فإن شهد اثنان على اثنين بقتل رجل، فشهد الآخران أن الأولين قتلاه، فصدق
الولي الأولين، حكم بشهادتهما؛ لأنهما غير متهمين، وإن صدق الآخرين وحدهما،
لم يحكم له بشيء؛ لأنهما متهمان، لكونهما يدفعان عن أنفسهما القتل، وإن صدق
الجميع، فكذلك لأنهما متعارضتان، فلا يمكن الجمع بينهما.
فصل
وإن ادعى على رجل، أنه قتل وليه عمداً، وأقام شاهداً، فأقر بقتله خطأ، ثبت
قتل الخطأ بإقراره، وعليه الدية، ولم يثبت العمد؛ لأنه لا يثبت إلا
بشاهدين، وهل يحلف على نفيه؟ على وجهين، وإن قتل رجل رجلاً عمداً، وله
وارثان، فشهد أحدهما على الآخر أنه عفا عن القود والمال، سقط القود، وإن
كان الشاهد فاسقاً؛ لأنه شهادته تضمنت
(4/293)
الإقرار بسقوطه، ويثبت نصيب الشاهد من
الدية؛ لأنه ما عفا، وأما نصيب المشهود عليه، فإن كان الشاهد فاسقاً، حلف:
ما عفوت، واستحق نصيبه من الدية، وإن كان عدلاً، حلف القاتل معه، وسقط نصف
الدية؛ لأن ما طريقه المال يثبت بشاهد ويمين، وفي كيفية اليمين وجهان:
أحدهما: أنه قد عفا عن المال؛ لأن القود سقط بغير يمين.
والثاني: يحلف أنه قد عفا عن القود والمال؛ لأنه قد يعفو عن الدية ولا يسقط
حقه منها، إذا قلنا: موجب العمد القصاص عيناً.
فصل
وإذا ادعى على رجلين، أنهما رهناه عبداً لهما بدين له عليهما، فأنكراه وشهد
كل واحد منهما، على صاحبه، فشهادتهما صحيحة، وله أن يحلف مع كل واحد منهما
ويصير رهناً، أو مع أحدهما ويصير نصفه رهناً؛ لأن إنكاره لا يقدح في
شهادته، كما لو كانت الدعوى في عين أخرى، ويحتمل أن لا تقبل شهادتهما؛ لأنه
يدعي أن كل واحد منهما كاذب.
[باب الرجوع عن الشهادة]
إذا رجع الشاهدان قبل الحكم بشهادتهما، لم يحكم بها؛ لأنها شرط الحكم،
فيشترط استدامتها إلى انقضائه، كعدالتهما.
فإن رجعا بعد الحكم بها في حد، أو قصاص، قبل الاستيفاء، لم يجز استيفاؤه؛
لأنه يدرأ بالشبهات، وهذا من أعظمها، وإن كان المشهود به غير ذلك، وجب
استيفاؤه؛ لأن حق المشهود له قد وجب وحكم به، فلم يسقط بقولهما المشكوك
فيه، وإن رجعا بعد الاستيفاء في حد، أو قصاص، وقالا: عمدنا ذلك ليقتل،
فعليهما القصاص، لما ذكرنا في الجنايات، وإن قالا: عمدنا الشهادة، ولم نعلم
أنه يقتل، فعليهما دية مغلظة؛ لأنه شبه عمد وإن قالا: أخطأنا، فعليهما
الدية مخففة، ولا تحملها العاقلة؛ لأنها وجبت باعترافهما، وإن اتفقا على أن
أحدهما عامد، والآخر مخطىء، فلا قصاص عليهما، وعلى العامد نصف دية مغلظة،
وعلى الآخر نصفها مخففة، وإن قال أحدهما: عمدنا جميعاً.
وقال الآخر: أخطأنا جميعاً، فعلى العامد القود، لإقراره بما يوجبه، وعلى
المخطئ نصف الدية مخففاً، وإن قال كل واحد منهما: عمدت، وأخطأ صاحبي، ففيه
وجهان: أحدهما: لا قود عليهما؛ لأنه لا يؤاخذ كل واحد منهما إلا بإقراره،
ولم يقر بما يوجب القصاص؛ لأنه أقر بعمد فيه شركة خطأ.
(4/294)
والثاني: عليهما القود؛ لأن كل واحد منهما
مقر بالعمد، وإن قال أحدهما: عمدنا معاً، وقال الآخر: عمدت وأخطأ صاحبي
فعلى الأول القود.
وفي الثاني وجهان.
وإن قال: كل واحد منهما عمدت، ولا أدري ما فعل صاحبي فعليهما القود؛ لأننا
تبينا وقوعهما عمداً، وإن رجع أحدهما وحده، فحكمه حكم ما لو رجع صاحبه معه.
فصل
إذا شهد خمسة بالزنا على رجل، فقتل ثم رجعوا وقالوا: عمدنا، قتلوا كلهم،
وإن قالوا: أخطأنا غرموا الدية أخماساً؛ لأن القتل حصل بقول جميعهم، وإن
رجع واحد منهم، وقال: عمدنا اقتص منه، وإن قال: أخطأنا فعليه خمس الدية،
لأنه يقر بما لو وافقه أصحابه عليه، لزمهم القود أو قسطه من الدية، فلزمه
ذلك وإن لم يوافقوه، كما لو كانوا أربعة، وإن رجع اثنان، فعليهما خمسا
الدية، وإن كانوا ثلاثة، فعليهم ثلاثة أخماس الدية؛ لأن الإتلاف حصل
بشهادتهم، فأشبه ما لو رجعوا كلهم، وإن شهد أربعة بالزنا واثنان بالإحصان،
فقتل، ثم رجعوا عن الشهادة، فالضمان على الجميع؛ لأن القتل حصل بقولهم،
فأشبه ما لو شهد الجميع بالزنا.
وفي كيفية الضمان وجهان: أحدهما: توزع الدية على عددهم؛ لأن القتل حصل
بجميعهم، أشبه ما لو اتفقت شهادتهم.
والثاني: على شهود الإحصان النصف، وعلى شهود الزنا النصف؛ لأنه قتل بنوعين
من البينة، فقسمت الدية عليهما، وإن شهد أربعة بالزنا، واثنان منهم
بالإحصان، فعلى الوجه الأول على شهود الإحصان ثلثا الدية، وعلى الآخر ثلاثة
أرباعها، ويحتمل أن لا يجب عليهما إلا النصف، لأنهم كأربعة أنفس، جنى اثنان
جنايتين، وجنى الآخران أربع جنايات.
فصل
وإن شهدا بمال، ثم رجعا بعد الحكم به، غرماه، ولا يرجع على المحكوم له به
سواء كان المال تالفاً، أو قائماً؛ لأنهما حالا بينه وبين ماله بعدوان،
فلزمهما الضمان، كما لو غصباه، فإن رجع أحدهما غرم النصف، وإن كانوا ثلاثة،
فالضمان بينهم على عددهم، وإن رجع أحدهم، فعليه بقسطه، لما ذكرنا.
وإن شهد رجل وامرأتان، ثم رجعوا، فعلى الرجل النصف، وعلى كل واحدة منهما
الربع؛ لأنهما كرجل، وإن شهد رجل وعشر نسوة، ثم رجعوا، فعلى الرجل السدس،
وعليهن خمسة أسداس، وإن رجع بعضهم، فعلى الراجع بقسطه، لما ذكرناه، وإن حكم
له بشاهد ويمين، ثم رجع الشاهد، فعليه غرامة المال كله في أحد الوجهين؛ لأن
الحكم بشهادته، وإنما اليمين مقوية له.
(4/295)
والثاني: يلزمه نصف المال؛ لأن الملك استند
إلى شهادته ويمين المدعي، فتوزع الحق عليهما، كالشاهد والمرأتين.
فصل
وإن شهد اثنان بحرية عبد، فحكم بشهادتهما، ثم رجعا، غرما للسيد قيمته، لما
ذكرنا، وإن شهدا بطلاق قبل الدخول، فحكم به، ثم رجعا، فعليهما نصف الصداق
المسمى؛ لأنهما أغرماه للزوج، فلزمهما ذلك، كما لو شهدا بالنصف، وإن كان
ذلك بعد الدخول، فلا ضمان عليهما لأن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم،
فلم يضمناه، كما لو أخرجته عن ملكه بالردة، أو بالقتل، وإن شهدا بكتابة
عبده، فحكم بها، ثم رجعا، فعليهما ما بين قيمته سليماً ومكاتباً، فإن أدى
وعتق، فعليهما ما بين قيمته وكتابته، لأنهما فوتاه ذلك، ويحتمل أن يرجع
عليهما بجميع قيمته؛ لأن ما أداه كان من كسبه الذي يملكه، وإن لم يعتق، لم
يرجع عليهما بشيء، وإن شهدا لأمة بالاستيلاد، فرجعا، فعليهما ما نقص من
قيمتها، فإن عتقت بموت سيدها، ضمنا تمام قيمتها؛ لأنهما فوتا رقها على
الورثة.
فصل
وإذا حكم بشهادة الفروع، ثم رجعوا عن الشهادة، ضمنوا ولو رجع شهود الأصل،
لم يضمنوا، ذكره القاضي؛ لأنه لم يلجئوا الحاكم إلى الحكم، ويحتمل أن
يضمنوا؛ لأنهم سبب في الحكم، فيضمنوا كالمزكيين، وشهود الإحصان.
فصل
وإذا شهد الشهود بحد فزكاهم اثنان، فبان أنهم ممن لا تقبل شهادتهم، لفسق،
أو كفر، فالضمان على المزكيين، لأنهم شهدوا بشهادة زور أفضت إلى الحكم،
فلزمهم الضمان، كالشهود إذا رجعوا عن الشهادة، ولا شيء على الشهود؛ لأنهم
يقولون: شهدنا بحق، ولا على الحاكم؛ لأن المزكيين ألجآه إلى الحكم، وقال
القاضي: الضمان عليه؛ لأنه فرط في الحكم بمن لا يجوز الحكم بشهادته، ولا
شيء على المزكيين؛ لأنهما لم يشهدا بالحق، وقال أبو الخطاب: الضمان على
الشهود؛ لأنهم فوتوا الحق على مستحقه بشهادتهم الباطلة، فلزمهم الضمان، كما
لو رجعوا عن الشهادة، والأول أصح؛ لأن الحاكم أتى بما عليه، والشهود لم
يعترفوا ببطلان شهادتهم، وإنما التفريط من المزكيين، فكان الضمان عليهما.
فإن تبين أن المزكيين فاسقان، أو كافران، فالضمان على الحاكم لتفريطه،
وكذلك إن حكم بشهادة فاسقين، أو كافرين، من غير تزكية، فالضمان عليه كذلك،
وإن كانت الشهادة بمال، نقض
(4/296)
الحكم، وأمر برد المال إن كان قائماً، أو
قيمته إن كان تالفاً؛ لأنهما ليسا من أهل الشهادة، فوجب نقض الحكم، كما لو
كانا صبيين، وعنه: أنه لا ينقض الحكم إذا كانا فاسقين، ويغرم الشاهدان
المال؛ لأنهما سبب الحكم بشهادة ظاهرها الزور، فأشبه ما لو رجعا.
والأول أولى؛ لأنهما لم يعترفا ببطلان شهادتهما، لكن تبين فقد شرط الحكم،
فوجب أن يقضى بنقضه، كما لو تبين أن حكمه بالقياس مخالف للنص.
فصل
ومن حكم له بمال، أو بضع، أو غيرهما بشهادة زور أو يمين فاجرة، لم يحل له
ما حكم به، لما روت أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: «إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من
بعض، فأقضي له بما أسمع، وأظنه صادقاً، فمن قضيت له، بشيء من حق أخيه،
فإنما أقطع له قطعة من النار فليأخذها أو يدعها» متفق عليه، ولأنه يقطع
بتحريم ما حكم له به قبل الحكم، فلا يحل له بالحكم كما لو حكم له بما يخالف
النص، أو الإجماع، وحكي عن أحمد رواية أخرى: أن حكم الحاكم ينفذ في الفسوخ،
والعقود؛ لأنه حكم باجتهاده، فنفذ حكمه، كما لو حكم في المجتهدات.
(4/297)
|