الكافي في فقه الإمام أحمد

 [كتاب الإقرار]
والحكم به واجب؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» .
ورجم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماعزاً والغامدية، والجهنية، بإقرارهم، ولأنه إذا وجب الحكم بالبينة، فلأن يجب بالإقرار مع بعده من الريبة أولى، فإن كان المقر به حقاً لآدمي، أو لله تعالى، لا يسقط بالشبهة، كالزكاة، والكفارة، ودعت الحاجة إلى الإقرار به لزمه ذلك؛ لقول الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] ، وقوله: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] ، والإملال: الإقرار وإن كان حداً لله، لم يلزمه الإقرار به؛ لأنه مندوب إلى الستر على نفسه.

فصل
ولا يصح الإقرار إلا من عاقل مختار، فأما الطفل والمجنون، والنائم، والمبرسم، فلا يصح إقرارهم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة» ولأنه التزام حق بالقول، فلم يصح منهم كالبيع، فإن قال: أقررت قبل البلوغ، فالقول قوله مع يمينه إذا كان اختلافهما بعد بلوغه في أحد الوجهين، فأما السكران بسبب مباح، فهو كالمجنون؛ لأنه غير عاقل، والسكران بمعصية، حكم إقراره حكم طلاقه، ولا يصح إقرار المكره؛ لقول

(4/298)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» رواه سعيد، ولأنه قول أكره عليه بغير حق، فلم يصح كالبيع.
وإذا ادعى أنه أقر مكرهاً، لم يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل السلامة.
فإذا ثبت أنه كان مقيداً، أو محبوساً، أو موكلاً به، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن هذه دلالة الإكراه، وإن ادعى أنه كان زائل العقل، لم يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل السلامة، فإن أكره على الإقرار بشيء، فأقر بغيره، لزمه إقراره؛ لأنه غير مكره على ما أقر به، وكذلك إن أكره على الإقرار لإنسان، فأقر لغيره، ولا يصح إقرار الصبي المحجور عليه، وإن كان عاقلاً؛ لأنه لا يصح بيعه، وإن كان العاقل مأذوناً له في التجارة، جاز إقراره فيما أذن له فيه، وقال أبو بكر: لا يصح إقراره إلا في الشيء اليسير، والأول أصح؛ لأنه يصح تصرفه فيه، فصح إقراره به كالبالغ.

فصل
ويصح إقرار العبد بالحد والقصاص فيما دون النفس؛ لأن الحق له، دون مولاه، ولأن إقرار مولاه عليه به لا يصح، فلو لم يقبل إقراره به لتعطل، وأما القصاص في النفس، فظاهر قول الخرقي أنه يصح إقراره به، وهو اختيار أبي الخطاب كذلك.
وعن أحمد: أنه لا يصح إقراره به؛ لأنه يسقط به حق سيده، أشبه الإقرار بقتل الخطأ، ولأنه متهم في أن يقر لمن يعفو على مال، فتستحق رقبته ليتخلص من سيده، ولا يقبل إقراره بجناية الخطأ، ولا بعمد موجبه المال؛ لأنه إيجاب حق في رقبة مملوكة لمولاه، فلم يقبل كإقراره على عبد سواه، ويقبل إقرار المولى عليه بذلك؛ لأنه يقر بحق في ماله، فأشبه ما لو أقر لرجل بملك العبد، ولا يقبل إقراره عليه بحد ولا قصاص؛ لأنه لا يملك منه إلا المال، لكن إن أقر عليه بقصاص قبل إقراره فيما يتعلق بالمال، فيملك المقر له مطالبته بالمال؛ لأنه أقر بما يضمن وجوب المال، فلزمه، كما لو أقر الموسر بعتق نصيبه من العبد المشترك، وإن أقر العبد المشترك بسرقة موجبها المال، لم يقبل، ويقبل إقرار المولى عليه لذلك، وإن كان موجبها القطع دون المال، قبل إقرار العبد بها دون المولى، وإن كان موجبها القطع والمال، فأقر بها العبد، وجب قطعه دون المال، سواء كان في يده أو يد سيده، باقياً، أو تالفاً، لما تقدم وإن أقر العبد غير المأذون له بدين، لم يقبل، ويتعلق بذمته، يتبع به بعد العتق، وإن أقر المأذون له قبل إقراره في دين المعاملة في قدر ما أذن له فيه، وإن أقر بقرض أو أرش جناية، لم يقبل؛ لأنه أقر بغير مأذون له فيه، فلم يقبل، كغير المأذون له.
وإن حجر السيد عليه، ثم أقر بدين، لم يقبل؛ لأنه محجور عليه بالرق، فلم

(4/299)


يصح إقراره، كما لو كان عليه دين يحيط بتركته، وإن أقر السيد أنه باع عبد نفسه، فكذبه العبد، عتق، ولم يلزمه شيء سوى اليمين على الثمن؛ لأن السيد أقر بحريته وادعى الثمن، فإن ادعى أنه باعه أجنبياً فأعتقه، فأنكره، عتق العبد على سيده، وحلف المنكر على الثمن.
فأما المكاتب، فحكمه حكم الحر في إقراره؛ لأن تصرفه صحيح، وحكم أم الولد والمدبر حكم القن؛ لأن تصرفه بغير إذن سيده لا يصح.

فصل
وإقرار المريض بدين الأجنبي صحيح؛ لأنه غير متهم في حقه، وعنه: لا يقبل في مرض موته؛ لأن حق الورثة تعلق بماله، فلم يقبل إقراره به، كالمفلس، وعنه: يقبل إقراره بثلث المال دون ما زاد؛ لأنه يملك التصرف فيه بالوصية، فملك الإقرار به، والأول: ظاهر المذهب، لما ذكرنا، فإن ثبت عليه دين في الصحة، ثم أقر بدين في مرض موته، واتسع ماله لهما، تساويا، وإن ضاق عنهما، فظاهر كلام الخرقي، والتميمي، أنهما يتحاصان فيه؛ لأنهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال، فتساويا كدين الصحة، وقال القاضي: قياس المذهب، أنه يقدم الدين الثابت على الدين الذي أقر به في المرض؛ لأنه أقر بعد تعلق حق الأجنبي بماله، فلم يشارك المقر له من ثبت حقه قبل التعلق، كما لو أقر بعد الفلس، وإن أقر لهما جميعاً في المرض، تساويا، ولم يقدم السابق منهما؛ لأنهما تساويا في الحال، فأشبه غريمي الصحة، وإن أقر المريض لوارث، لم يقبل إلا ببينة؛ لأنه إيصال للمال إلى الوارث بقوله، فلم يصح، كالوصية، إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فما دون، فيصح؛ لأن سببه ثابت، وهو النكاح وإن أقر لوارثه، فلم يمت حتى صار غير وارث، لم يصح، وإن أقر لغير وارث، فصار وارثاً قبل الموت، صح إقراره له، نص عليهما أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه إقرار لوارث في الأولى، ولغير وارث في الثانية، متهم في الأولى، غير متهم في الثانية، فأشبه الشهادة، وذكر أبو الخطاب في المسألتين رواية أخرى خلاف ما قلنا؛ لأنه معنى يعتبر فيه عدم الميراث، فاعتبر بحالة الموت، كالوصية، فإن أقر المريض بوارث، ففيه روايتان: إحداهما: يصح؛ لأنه عند الإقرار غير وارث.
والثانية: لا يصح؛ لأنه حين الموت وارث، ويمكن أن تكون هذه مبنية على المسألتين قبلها، وإن ملك ابن عمه، وأقر أنه كان أعتقه في صحته، وهو أقرب عصبته، عتق ولم يرثه؛ لأنه توريثه يوجب إبطال الإقرار بحريته، لكونه إقراراً لوارثه، وإذا بطلت حريته، سقط ميراثه، فيفضي توريثه إلى إسقاط ميراثه، ويحتمل أن يرث؛ لأنه حين الإقرار غير وارث، فأشبه الإقرار بوارث.

(4/300)


فصل
ويصح الإقرار لكل من يثبت له الحق المقر به، فإن أقر لعبد بالنكاح، أو القصاص، أو تعزير القذف، صح الإقرار به وإن كذبه المولى؛ لأن الحق له دون المولى، وإن أقر له بمال، فالإقرار لمولاه، يلزم بتصديقه، ويبطل برده؛ لأن يد العبد كيد سيده، وإن أقر لبهيمة لم يصح، ولم يكن لمالكها، لأن البهيمة لا تملك ولا لها أهلية الملك، وإن أقر لحمل بمال، وعزاه إلى إرث، أو وصية، صح؛ لأنه يملك بهما، وإن لم يعزه، فقال ابن حامد: يصح أيضاً؛ لأنه يجوز أن يملك بوجه صحيح، فصح له الإقرار المطلق، كالطفل، وقال أبو الحسن التميمي: لا يصح؛ لأنه لا يثبت له الملك بغيرهما، فعلى قول ابن حامد: إن ولدت ذكراً وأنثى، كان بينهما نصفين؛ لأنه شرك بينهما في الإقرار، فأشبه ما لو أقر لهما بعد الولادة، وإن قال: لهذا الحمل علي ألف أقرضتها، فقياس المذهب، صحة إقراره؛ لأنه وصله بما يسقطه، فسقطت الصلة دون الإقرار، كما لو قال: له علي ألف لا يلزمني، وإن قال: أقرضني ألفاً، لم يصح؛ لأن القرض إذا سقط، لم يبق شيء يصح به الإقرار، ومتى أقر لحمل بمال وعزاه إلى وصية، فخرج الطفل ميتاً، عاد إلى ورثة الموصي، وإن عزاه إلى إرث، عاد إلى شركائه في الميراث، وإن أطلق، كلف ذكر السبب ليعمل به، فإن مات قبل التفسير، بطل الإقرار، كالمقر لرجل لا يعرف مراد إقراره، وإن أقر لمسجد، أو مصنع وعزاه إلى سبب صحيح، من غلة وقفه ونحوه صح، وإن أطلق، فيه وجهان بناء على ما تقدم.

فصل
ومن أقر لرجل بمال في يده وكذبه المقر له، بطل إقراره له؛ لأنه لا يقبل قوله عليه في ثبوت ملكه، ويقر المال في يد المقر في أحد الوجهين؛ لأنه كان في يده، فإذا بطل إقراره، بقي كأنه لم يقر به، وفي الآخر يأخذه الإمام، فيحفظه حتى يظهر مالكه؛ لأنه بإقراره خرج عن ملكه، ولم يدخل في ملك المقر له، وكل واحد منهما ينكر ملكه، فهو كالمال الضائع، فإن ادعاه ثالث، فأقر له المقر له، صح؛ لأنه صار بمنزلة صاحب اليد.

فصل
إذا قال: لي عليك ألف، فقال: نعم، أو أجل أو صدقت، أو إي لعمري، كان مقراً بها؛ لأن هذه الألفاظ وضعت للتصديق، وإن قال: أعطني عبدي هذا، أو اقضني الألف التي لي عليك، فقال: نعم، كان مقراً؛ لأنه تصديق، وإن قال: أنا مقر بدعواك، كان مقراً؛ لأنه صدقه، وإن لم يقل: بدعواك، ففيه وجهان:

(4/301)


أحدهما: يكون مقراً؛ لأنه جواب الدعوى، فانصرف إليها.
والثاني: لا يكون مقراً؛ لأنه يحتمل أنه أراد: إني مقر ببطلان دعواك، وإن قال: أنا أقر، لم يكن مقراً؛ لأنه وعد بالإقرار، وإن قال: أنا لا أنكر، لم يكن مقراً؛ لأنه يحتمل: لا أنكر بطلان دعواك، وإن قال: لا أنكر أن تكون محقاً، لم يكن مقراً؛ لأنه يحتمل أن يريد: محقاً في اعتقادك، ويحتمل أن يكون مقراً؛ لأنه جواب الدعوى، فانصرف إليها، وإن قال: لا أنكر أنك محق في دعواك، كان مقراً؛ لأنه لا يحتمل إلا الدعوى التي عليه، وإن قال: "لعل" أو "عسى" لم يكن مقراً؛ لأنهما للترجي، وإن قال: "أظن" أو أحسب أو أقدر لم يكن مقراً؛ لأن هذه وضعت للشك، وإن قال: لك علي ألف في علمي، كان مقراً بها؛ لأن ما عليه في علمه لا يحتمل غير الوجوب، وإن ادعى عليه ألفاً، وقال: خذ، أو اتزن، أو افتح كمك، لم يكن مقراً؛ لأنه يحتمل ضد الجواب، أو اتزن من غيري، أو افتح كمك للطمع، وإن قال: خذها، أو اتزنها، فكذلك؛ لأنه لم يقر أنه واجب، ويحتمل أن يكون مقراً؛ لأن هذه الكناية ترجع إلى المذكور في الدعوى، وإن قال: هي صحاح، ففيها وجهان، كالتي قبلها، وإن قال: له علي ألف إن شاء الله، كان مقراً؛ لأنه وصل إقراره بما يسقط جملة، فسقطت الصلة وحدها، كما لو قال: له علي ألف لا تلزمني، وإن قال: له علي ألف إلا أن يشاء الله، صح إقراره كذلك، وإن قال: له علي ألف إن شاء زيد، فقال القاضي: يكون إقراره صحيحاً كذلك؛ ولأن الحق الثابت في الحال لا يقف على شرط مستقبل، فسقط الاستثناء، ويحتمل أن لا يكون إقراراً؛ لأنه علقه على شرط مقيد، يمكن الوقوف عليه، أشبه ما لو قال: له علي ألف إن شهد بها فلان، وإن قال: له علي ألف إن شهد بها فلان، أو إن شهد علي فلان بها فهو صادق، ففيه وجهان: أحدهما: يكون مقراً؛ لأنه أقر بها عند الشرط، ولا تكون عند الشرط إلا وهي عليه في الحال وإن قال: إن شهد بها فلان صدقته، لم يكن مقراً؛ لأنه قد يصدقه بما لم يصدق فيه، وإن قال: له علي ألف إذا جاء رأس الشهر، كان مقراً؛ لأنه بدأ بالإقرار، وبين بالثاني المحل، وإن قال: إذا جاء رأس الشهر، فله علي ألف، فليس بإقرار؛ لأنه بدأ بالشرط، وأخبر أن الوجوب إنما يوجد عند رأس الشهر، والإقرار لا يتعلق على شرط.

فصل
إذا قال: له علي ألف قضيتها إياه، لزمه الألف، ولم تسمع دعوى القضاء؛ لأنه أقر أن الألف عليه في الحال، وقوله قضيتها، يرفع ما أقر به كله، فلم يقبل، كاستثناء

(4/302)


الكل، ولأنه بدعوى القضاء يكذب نفسه في الإقرار، فلم تسمع، كما لو قال: له علي ألف، ولا شيء له علي، وقال القاضي: يقبل؛ لأنه ما أقر به بكلام متصل، أشبه استثناء البعض، وإن قال: قضيته منها مائة، ففيه روايتان: إحداهما: يقبل؛ لأنه رفع بعض ما أقر به بكلام متصل، أشبه استثناء المائة.
والثانية: لا يقبل؛ لأنه يكذب نفسه؛ لأنه لو قضاه مائة، لم يكن له عليه ألف، والاستثناء لا يرفع ما أقر به، وإنما يمنع دخول ما استثناه في المستثنى منه، وإن قال: كان له علي ألف فقضيتها ففيه روايتان: إحداهما: لا تقبل دعوى القضاء؛ لأنه أقر بالدين وادعى براءته منه، فقبل إقراره، ولا تسمع دعواه إلا ببينة، كما لو ادعى ذلك بكلام منفصل.
والثانية: يقبل، اختاره الخرقي؛ لأنه قول يمكن صحته، ولا تناقض فيه من جهة اللفظ، فوجب قبوله، كاستثناء البعض.
قال القاضي: المذهب أن هذا ليس بإقرار، وإن قال: لي عليك ألف، فقال: قضيتك منها مائة، فقال القاضي: ليس هذا إقراراً بشيء؛ لأن المائة قد رفعها بقوله، والباقي لم يقر به، وقوله: منها، يحتمل أنه أراد مما يدعيه، وإن قال: كان له علي ألف وسكت، فهو مقر بها؛ لأنه أقر بوجوبها عليه، وثبوتها في ذمته، والأصل بقاؤه حتى يوجد ما يرفعه.

[باب الاستثناء في الإقرار]
باب الاستثناء الاستثناء يمنع أن يدخل في الإقرار ما لولاه لدخل، ولا يرفع ما ثبت؛ لأنه لو ثبت بالإقرار شيء، لم يقدر المقر على رفعه، فيصح استثناء ما دون النصف؛ لأنه لغة العرب، قال الله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] ولا يصح استثناء أكثر من النصف، لأنه ليس من لسانهم، قال أبو إسحاق الزجاج: لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير.
ولو قال: له علي مائة إلا تسعة وتسعين، لم يكن متكلماً بالعربية، وفي استثناء النصف وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه ليس بالأكثر.
والثاني: لا يصح لأنه لم يأت في لسانهم إلا في القليل من الكثير، فإذا قال: له

(4/303)


علي عشرة إلا درهمين، لزمته ثمانية، وإن قال: إلا ثمانية، لزمته العشرة، وإن قال: إلا خمسة، ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه خمسة.
والآخر: يلزمه عشرة.

فصل
ولا يصح الاستثناء من غير الجنس، ولا من غير النوع، فلو قال: له علي عشرة دراهم إلا ثوباً، لزمته العشرة، وإن قال: له علي قفيز تمر معقلي، إلا مكوكاً برنياً، لزمه القفيز كله، ولم يصح الاستثناء؛ لأن الاستثناء صرف اللفظ بحرف الاستثناء عما كان يقتضيه لولاه، ولأنه مشتق من: ثنيت فلاناً عن رأيه، إذا صرفته عما كان عازماً عليه، وثنيت عنان دابتي، إذا رددتها عن وجهها الذي كانت ذاهبة إليه، ولا يوجد هذا في غير الجنس والنوع، ولأن الاستثناء من غير الجنس لا يكون إلا في الجحد بمعنى "لكن" والإقرار إثبات، فإن استثنى أحد النقدين من الآخر، لم يصح في إحدى الروايتين، اختارها أبو بكر، لما ذكرنا.
والأخرى: يصح، اختارها الخرقي؛ لأنهما كالجنس الواحد، لاجتماعهما في أنهما قيم المتلفات، وأروش الجنايات، ويعبر بأحدهما عن الآخر، وتعلم قيمته منه، فأشبها النوع الواحد، بخلاف غيرهما.

فصل
وإن أقر بدار إلا بيتاً منها عينه، لم يدخل البيت في إقراره؛ لأنه استثناه، وإن قال: هذا البيت لي، وهذه الدار له أو هذه الدار له وهذا البيت لي، صح؛ لأنه في معنى الاستثناء، لكونه أخرج بعض ما دخل في اللفظ بكلام متصل، وإن قال: إلا ثلثها، أو إلا ربعها، صح، وكان مقراً بالباقي، فإن قال: له هذه الدار إلا نصفها، صح، وكان مقراً بالنصف؛ لأن هذا بدل البعض، وهو سائغ.
قال الله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} [المزمل: 3] ، ويصح ذلك فما دون النصف، كقوله: له هذه الدار إلا ربعها، أو أقل، كقولهم: رأيت زيداً وجهه، وإن قال: له هذه الدار سكناها، أو قال: هي له سكنى، أو عارية، صح، وهذا بدل الاشتمال، كقوله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] ، فهو في معنى الاستثناء في كونه إخراجاً للبعض، ويفارقه في جواز إخراج أكثر من النصف.

(4/304)


فصل
وإن قال: له هؤلاء العبيد إلا هذا، كان مقراً بمن دون المستثنى، وإن قال: إلا واحداً، رجع في تعيين المستثنى إليه؛ لأنه لا يعرف إلا من جهته، وكذلك إن قال: غصبتك هؤلاء العبيد إلا واحداً، رجع في تفسير الواحد إليه، فإن هلكوا إلا واحداً، ففسر به المستثنى، قبل في الغصب، وجهاً واحداً؛ لأنه يلزمه غرامة ما تلف، وفي الإقرار وجهان: أحدهما: يقبل أيضاً؛ لأنه يحتمل ما قاله.
والثاني: لا يقبل، ذكره أبو الخطاب؛ لأنه يرفع جميع ما أقر به، وإن قتلوا إلا واحداً، قبل تفسيره به، وجهاً واحداً؛ لأنه، لا يرفع جملة الإقرار، لوجوب قيمة الباقين للمقر له.

فصل
إذا استثنى بعد الاستثناء بحرف العطف، كان مضافاً إلى الاستثناء الأول، فإذا قال: له علي عشرة إلا ثلاثة، وإلا درهمين، كان مستثنياً لخمسة من العشرة، وإن كان الثاني غير معطوف، كان مستثنياً من الاستثناء، فيكون استثناؤه من الإثبات نفياً، ومن النفي إثباتاً، وهو جائز في اللغة.
قال الله تعالى: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 58] {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 60] .
فأذا قال: له علي عشرة إلا ثلاثة، إلا درهماً، كان مقراً بثمانية، وإن قال: له علي عشرة إلا خمسة، إلا ثلاثة، إلا درهمين، إلا درهماً، لم يصح على قول من منع استثناء النصف، ولزمته عشرة، وعلى قول غيره يصح، ويكون مقراً بسبعة، ولو قال: عشرة إلا ستة، إلا أربعة، إلا درهمين، فهو مقر بستة؛ لأنه أثبت عشرة، ثم نفى ستة، ثم أثبت أربعة، ثم نفى درهمين، بقي ستة.

فصل
وإن عطف جملة على جملة بالواو، ثم استثنى، ففيه وجهان: أحدهما: يعود الاستثناء إليهما جميعاً؛ لأن العطف جعل الجملتين كالجملة الواحدة، فعاد الاستثناء إليهما، كقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤمن الرجل الرجل في بيته، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه» .

(4/305)


والثاني: لا يعود إلا إلى التي تليه؛ لأن عوده إلى ما يليه متيقن، وما زاد مشكوك فيه، فلا يثبت بالشك، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] .
فلو قال: علي أربعة وثلاثة، إلا درهمين، صح على الوجه الأول، وبطل على الثاني؛ لأنه استثناء الأكثر، فإن وجدت قرينة صارفة إلى أحد الاحتمالين، انصرف إليه، وكذلك إن عطف على المستثنى، مثل قوله: له علي عشرة إلا أربعة وثلاثة، ففيه وجهان: أحدهما: يصيران كجملة واحدة، فيبطل الاستثناء كله لزيادته على النصف.
والثاني: لا يصيران كجملة واحدة فيبطل الاستثناء الثاني وحده.

فصل
وإذا قال: له عندي تمر في جراب، أو سكين في قراب، أو دراهم في كيس، أو في صندوق، وثوب في منديل: وزيت في زق، وفص في خاتم، فقال ابن حامد: يكون مقراً بالمظروف وحده؛ لأن إقراره، لم يتناول الظرف، فيحتمل أنه أراد: في ظرف لي، وفيه وجه آخر: أنه يكون مقراً بالجميع؛ لأنه ذكره في سياق الإقرار، فكان مقراً به، كالمظروف، وقال: له عندي جراب فيه تمر، أو قراب فيه سكين، وسائر ما مثلنا، أو دابة عليه سرج، أو عبد عليه عمامة، فعلى الوجهين كما ذكرنا، وإن قال: له عندي ثوب مطرز، أو خاتم بفص، أو سرج مفضض، وأطلق، لزمه الثوب بتطريزه، والخاتم بفصه، والسرج بفضته؛ لأنه صفة له.

فصل
وإذا قال: له علي ألف درهم زيوف، أو ناقصة، أو مكسرة، أو إلى شهر، بكلام متصل، لزمه ما أقر به على صفته؛ لأنه إنما يلزمه بقوله، فأتبع قوله فيه، إلا أن يفسر الزيوف بما لا قيمة له، فلا يقبل؛ لأنه أثبت في ذمته شيئاً، وما لا قيمة له لا يثبت في الذمة، وذكر أبو الخطاب: احتمالاً في أنه لا يقبل قوله: مؤجلة؛ لأن التأجيل يمنع استيفاء الحق في الحال، والمذهب: أنه يقبل؛ لأنه يحتمل ما قاله، فوجب اتباعه، كما لو قال: ناقصة، فأما إن سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه، ثم وصفها بشيء من هذه الصفات، لم يقبل، ولزمه ألف جياد وازنة صحاح حالة؛ لأن إطلاقها يقتضي ذلك، بدليل ما لو باعه: بألف درهم وأطلق، فإنها تلزمه كذلك: فإذا سكت، استقرت في ذمته

(4/306)


كذلك، فلا يتمكن من تغييرها، ولا فرق بين الإقرار بها من غصب، أو وديعة، أو قرض، أو غيره، وإن كان المقر في بلد أوزانهم ناقصة، أو مغشوشة، ففسر إقراره، بدراهم البلد، قبل؛ لأن إطلاقه ينصرف إليها، بدليل إيجابها في ثمن المبيع، ويحتمل أن لا يقبل تفسيره بها؛ لأن إطلاق الدراهم تنصرف إلى دراهم الإسلام، وهو: ما كان عشرة منه وزن سبعة مثاقيل، وتكون فضة خالصة، وهي: التي قدر بها الشرع نصب الزكوات، والديات، والجزية، ونصاب القطع في السرقة، ويخالف الإقرار البيع من حيث إنه أقر بحق سابق، والبيع إيجاب في الحال، وإن أقر بدراهم صغار، فظاهر كلام الخرقي: أنه يقبل تفسيره بدراهم ناقصة؛ لأن الصغر في الذات وصف لا يثبت في الذمة، فلا ينصرف الإقرار إليه؛ لأنه إخبار عما في الذمة، ويحتمل أن لا يقبل تفسيره بناقص؛ لأنه يحتمل صغيراً في ذاته، وهو وازن، وإن أقر بدرهم كبير، لزمه درهم من دراهم الإسلام؛ لأنه كبير في العرف، وإن قال: له علي دراهم عدداً، لزمته وازنة؛ لأن الدراهم تقتضي أن تكون وازنة، وذكر العدد لا ينفي كونها وازنة، فوجب الجميع، وإن فسر الدراهم بسكة البلد، أو سكة تزيد عليها، قبل؛ لأنه غير متهم، وإن كانت تنقص عنها، ففيه وجهان: أحدهما: لا يقبل؛ لأن إطلاقه يحمل على دراهم البلد، كما في البيع.
والثاني: يقبل؛ لأنه فسرها بدراهم الإسلام، وإن قال: له علي دريهم، لزمه درهم وازن؛ لأنه هو المعروف، والتصغير قد يكون لقلته عنده، أو لمحبته، أو غير ذلك، وإن قال: له علي دراهم، لزمه ثلاثة؛ لأنها أقل الجمع، وإن قال: دراهم كثيرة، لم يلزمه أكثر من ثلاثة؛ لأنها كثيرة بالإضافة إلى ما دونها، ويحتمل أنها كثيرة عنده، أو في نفسه، وإن قال: له علي ما بين درهم إلى عشرة، لزمه ثمانية؛ لأنها الذي بينهما.
وإن قال: من درهم إلى عشرة، ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه تسعة؛ لأن الواحد أول العدد، فيدخل فيه، ولا يدخل العاشر؛ لأنه غاية ينتهي إليها، فلم يدخل.
والثاني: يلزمه عشرة؛ لأن العاشر أحد الطرفين، فيدخل فيه كالأول، ويحتمل أن يلزمه ثمانية كالتي قبلها.

فصل
وإذا قال: له علي ألف لا يلزمني، أو من ثمن خمر، أو خنزير، أو تكفلت به عن فلان على أني بالخيار، لزمه ما أقر به، وسقط ما وصله به؛ لأنه يسقط ما أقر به، فلم يقبل، كاستثناء الكل، وإن قال: هذا العبد لفلان رهن عندي على دين لي عليه، فأنكر

(4/307)


المقر له الدين، لزمه العبد، والقول قول المالك في نفي الدين مع يمينه؛ لأن العين ثبتت له بالإقرار، وادعى المقر ديناً، فكان القول قول من ينكره، وكذلك لو أقر بدار، وقال: قد استأجرتها، أو بثوب، وادعى أنه قصره أو خاطه بأجرة، أو بعبد، وادعى استحقاق خدمته، أو أقر بسكنى دار غيره، فادعى أنه سكنها بإذنه، فالقول قول المالك مع يمينه لما ذكرناه.
وإن قال: له علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه، ففيه وجهان: أحدهما: القول قول المالك كما ذكرنا.
والثاني: القول قول المقر؛ لأنه أقر بحق في مقابلة حق لا ينفك أحدهما عن الآخر، فإذا لم يسلم له ماله، لم يسلم ما عليه، كما لو قال لرجل: بعتك هذا بألف، وقال بل ملكتنيه بغير شيء، وفارق ما لو قال: لك عندي رهن، فقال المالك: بل وديعة؛ لأن الدين بنفسك عن الرهن، والثمن لا ينفك عن المبيع، ولو قال: له علي ألف من ثمن مبيع، ثم سكت، ثم قال: لم أقبضه قبل، كالمتصل؛ لأن إقراره تعلق بالمبيع، والأصل عدم القبض، فقبل قوله فيه، ولو قال: له علي ألف، ثم سكت، ثم قال: من ثمن مبيع لم أقبضه، لم يقبل؛ لأنه فسر إقراره بما يمنع وجوب التسليم بكلام منفصل، كما لو قال: له علي ألف، ثم سكت، ثم قال قبضتها.

فصل
وإذا قال: له عندي ألف، ثم قال: هي وديعة، قبل تفسيره، سواء قال ذلك متصلاً أو منفصلاً؛ لأنه فسر لفظه بما يقتضيه، فقبل، كما لو قال: له علي ألف وفسره بدين، فعند ذلك تثبت أحكام الوديعة، بحيث لو ادعى تلفها، كان القول قوله، ولو قال: له عندي ألف فطالبه به بعد مدة، فقال: كانت وديعة، فتلفت، أو قال: رددتها عليك، فالقول قوله، نص عليه أحمد، كما ذكرنا، ولو قال: لك عندي وديعة وقد تلفت، فقال القاضي: يقبل قوله كذلك، ويتوجه أن لا يقبل ها هنا؛ لأن الألف المردود والتالف ليس عنده، ولا هي وديعة: وإن قال: كانت عندي فظننتها باقية، ثم عرفت أنها هلكت، فالحكم فيها كالتي قبلها.
ولو قال: له عندي ألف، ثم فسره بدين عليه، قبل؛ لأنه يقر بما هو أغلظ، وإن قال: له علي ألف، ثم قال: وديعة، وقال المقر له: بل هي دين، فالقول قول المقر له؛ لأن "علي" للإيجاب في الذمة، والإقرار يؤخذ فيه بظاهر اللفظ، بدليل أنه لو أقر بدراهم، أخذ بثلاثة، فعند ذلك تثبت أحكام الدين، فلا تسمع دعواه تلفها.
وإن قال: لك علي ألف، ثم أحضرها وقال: هذه التي أقررت بها، وهي وديعة، فقال المقر له: هذه وديعة، والمقر به غيرها، دين عليك، فالقول قول المقر له، لما ذكرناه.
هذا ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي: القول قول المقر، إلا أن يكون قال:

(4/308)


علي ألف في ذمتي، فيكون القول قول المقر له، قال: وقد قيل: القول قول المقر؛ لأنه يحتمل أنه أراد: في ذمتي أداؤها، أو يكون وديعة تعدى فيها، وإذا لم يقل: في ذمتي، قبل قوله؛ لأن الوديعة عليه حفظها وأداؤها؛ لأن حروف الصلة يخلف بعضها بعضاً، قال الله تعالى إخباراً عن موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} [الشعراء: 14] أي: عندي.
وإن قال: له علي ألف وديعة، قبل؛ لأنه وصل كلامه بما يحتمله، فصح، كما لو قال: ألف نقص، وإن قال: له علي ألف وديعة ديناً، أو مضاربة ديناً، صح؛ لأنه قد يتعدى فيها فتكون ديناً.

[باب الرجوع عن الإقرار]
ومن أقر بحق لآدمي، أو حق لله تعالى، لا تسقطه الشبهة، كالزكاة، والكفارة، ثم رجع عن إقراره لم يقبل رجوعه؛ لأنه حق ثبت لغيره، فلم يسقط بغير رضاه، كما لو ثبت ببينة، وإن أقر بحد، ثم رجع عنه، قبل رجوعه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أتاه ماعز، فشهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: هل بك جنون» ؟ متفق عليه، فلو لم يسقط بالرجوع، لما عرض له به، ولو أقيم عليه بعض الحد، ثم رجع، قبل رجوعه، ويخلى سبيله، لما روي «أن ماعزاً هرب في أثناء رجمه، قال جابر: فأدركناه بالحرة، فرجمناه حتى مات، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فهلا تركتموه يتوب، فيتوب الله عليه» ، ولأنه إذا سقط جميعه بالرجوع، فبعضه أولى وإن هرب في أثناء الحد ترك، لما رويناه، ولأنه يحتمل الرجوع، فإن لم يتركوه حتى قتلوه، لم يضمنوه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يضمنهم ديته، ولأن الهرب ليس بصريح في الرجوع، فلم يسقط به المتيقن.

فصل
وإذا قال: هذه الدار لزيد، بل لعمرو، أو غصبتها من زيد، بل من عمرو، حكم بها لزيد؛ لأن إقراره له بها، ولم يقبل رجوعه عن إقراره له؛ لأنه حق لآدمي، ويلزمه أن يغرم قيمتها لعمرو؛ لأنه حال بينه وبين ماله، لإقراره به لغيره، فلزمه ضمانه، كما لو أتلفه، وإن قال: غصبتها من أحدهما، طولب بالتعيين، فإن عين أحدهما، لزمه دفعها إليه، وعليه اليمين للآخر، فإن نكل عنها، غرم له، لما ذكرنا.
وإن قال: غصبتها من زيد، وملكها لعمرو، لزمه دفعها إلى زيد، لإقراره له باليد، ولا يقبل قوله: ملكها لعمرو؛ لأنه إقرار على غيره، ولا يغرم لعمرو شيئاً؛ لأنه لا تفريط منه، إذ يجوز أن يكون ملكها لعمرو، وهي في يد زيد بإجارة، أو غيرها.
وإن قال: ملكتها لزيد

(4/309)


وغصبتها من عمرو، فالحكم فيها كالتي قبلها.
لا فرق بين التقديم والتأخير، ويحتمل أن يلزمه تسليمها إلى زيد، ويلزمه ضمانها لعمرو، كما لو قال: غصبتها من زيد، بل من عمرو.
وإذا مات رجل وخلف ألفاً، فادعاها رجل، فأقر له بها الوارث، ثم ادعاها آخر، فأقر له بها، فهي للأول، ويغرمها للثاني، لما ذكرنا في أول الفصل، وإن ادعى رجل على ميت ألفاً، فصدقه الوارث، ثم ادعى آخر على الميت ألفاً، فصدقه الوارث، فقال الخرقي: إن كان في مجلس واحد، فهي بينهما؛ لأن حكم المجلس الواحد حكم الحال الواحد.
وإن كان في مجلسين، فهي للأول؛ لأنه استحق تسليمها كلها بالإقرار له، فلا يقبل إقرار الوارث بما يسقط حقه؛ لأنه إقرار على غيره.

[باب الإقرار بالمجمل]
إذا قال: له علي شيء، أو كذا، قيل له: فسره، فإن أبى، حبس حتى يفسره؛ لأنه أقر بالحق، وامتنع من أدائه، فحبس عليه، وقال القاضي: إذا امتنع من البيان، قيل للمقر له: فسره أنت، ثم يسأل المقر: فإن صدقه، ثبت عليه، وإن أبى، جعل ناكلاً، وقضي عليه، وإذا مات، أخذ ورثته بمثل ذلك، وإن فسره بمال قبل وإن قل؛ لأنه شيء، وإن فسره بقشر جوزة، وحبة حنطة، ونحوهما مما لا يتمول عادة، لم تقبل؛ لأن إقراره اعتراف بحق عليه، وهذا لا يثبت في الذمة، وكذلك إن فسره بكلب، أو حيوان يحرم اقتناؤه، وإن فسره بكلب يجوز اقتناؤه أو جلد ميتة، غير مدبوغ، ففيه وجهان: أحدهما: يقبل؛ لأنه يجب عليه رده، فالوجوب ثابت عليه.
والثاني: لا يقبل؛ لأن إقراره يقتضي وجوب ضمانه عليه، وهذا لا يضمنه، وإن فسره بحد قذف، أو شفعة، قبل؛ لأنه حق عليه في ذمته، وإن قال: غصبتك لم يلزمه شيء؛ لأنه قد يغصبه نفسه، وإن قال: غصبتك شيئاً، لزمه حق يؤخذ بتفسيره على ما بيناه.

فصل
وإن أقر بمال، قبل تفسيره بالقليل والكثير؛ لأن اسم المال يقع عليه، وإن قال له علي مال عظيم، أو كثير، أو جليل، أو خطير، فكذلك؛ لأنه ما من مال إلا وهو عظيم كثير بالنسبة إلى ما دونه، ويحتمل أنه أراد عظمه عنده، لقلة ماله، وفقر نفسه.
وإن قال: له علي أكثر من مال فلان، قبل تفسيره بالقليل والكثير؛ لأنه يحتمل أنه أراد أكثر بقاء نفعاً، أو لكونه حلالاً، سواء علم مال فلان، أو جهله، هذا قول أصحابنا.
والأولى أنه يلزمه أكثر منه قدراً؛ لأنه ظاهر اللفظ السابق إلى الفهم، فلزمه، كما لو أقر

(4/310)


بدراهم، لزمه ثلاثة، ولم يقبل تفسيره بما دونها.

فصل
إذا قال: له علي كذا درهم بالجر، قبل تفسيره بجزء من درهم؛ لأن "كذا" يحتمل، أن يكون جزءاً مضافاً إلى درهم، وإن قال: كذا درهم مرفوعاً، لزمه درهم؛ لأن تقديره: شيء هو درهم، وإن قال: كذا درهماً، فكذلك، ويكون نصبه على التمييز.
وإن قال: كذا كذا درهم، فالحكم فيها كغير المكررة؛ لأن التكرير للتأكيد، وإن قال: كذا وكذا درهم، فكذلك؛ لأنه بمنزلة قوله: شيئان هما درهم، وفي الخفض بمنزلة: جزء درهم، وفي النصب وجهان: أحدهما: يلزمه درهم، اختاره ابن حامد والقاضي؛ لأن الدرهم الواحد يجوز أن يكون تفسيراً لشيئين، كل واحد بعض درهم.
والثاني: يلزمه درهمان، اختاره التميمي؛ لأنه ذكر جملتين فسرهما بدرهم، فيعود التفسير إلى كل واحد منهما، كقوله: عشرون درهماً، وحكي عن التميمي أيضاً: أنه يلزمه، أكثر من درهم، جعل الدرهم تفسيراً لما يليه، ورجع في تفسير الأولى إليه.

فصل
وإن قال: له علي ألف، رجع في تفسير جنسها إليه، فإن فسرها بأجناس، قبل منه؛ لأنه يحتمل ذلك، وإن قال: له علي ألف ودرهم، أو درهم وألف، ففيه وجهان: أحدهما: الجميع دراهم، اختاره ابن حامد، والقاضي؛ لأنه ذكر مبهماً مع مفسر، فكان المبهم من جنس المفسر، كما لو قال: مائة وخمسون درهماً، ولأن العرب تكتفي بتفسير إحدى الجملتين عن الأخرى، كقول الله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25] .
والثاني: يرجع في تفسير الألف إليه؛ لأن العطف لا يقتضي التسوية بين المعطوفين في الجنس، بدليل أنه يجوز أن يقول: رأيت رجلًا وحماراً، وإن قال: له علي ألف، إلا خمسين درهماً، فعلى الوجهين.
أحدهما: يكون الجميع دراهم؛ لأن الاستثناء، المطلق، ينصرف إلى الاستثناء من الجنس، بدليل ما لو قال: له علي ألف درهم إلا خمسين.

(4/311)


والثاني: يرجع في تفسير الألف إليه؛ لأنه يحتمل أنه أراد الاستثناء من غير الجنس، وإن قال: له علي ألف وخمسون درهماً، أو ألف وثلاثة دراهم، فالجميع دراهم؛ لأن الدرهم المفسر في كلامهم يفسر جميع ما قبله، كقوله سبحانه: {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص: 23] وقوله: {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} [يوسف: 4] والفرق بينها وبين التي قبلها أن الدرهم هاهنا للتفسير، لا يجب به زيادة على العدد، وفي التي قبلها، ذكر للإيجاب، ولهذا يجب به زيادة على الألف، ويحتمل أن يرجع في تفسير الألف إليه، لما ذكرنا في التي قبلها.

فصل
وإذا أقر بألف في وقت، ثم أقر بألف في وقت آخر، لزمه ألف واحد؛ لأنه خبر، فيجوز أن يكون الثاني خبراً عما أخبر به في الأول، وإن قال: ألف من قرض، ثم قال ألف من ثمن مبيع، لزمه الألفان؛ لأن الثاني غير الأول، وإن قال: ألف وألف، أو فألف، أو ثم ألف، لزمه ألفان؛ لأن العطف يقتضي كون المعطوف غير المعطوف عليه.
وإن قال: له علي درهم ودرهمان، لزمه ثلاثة كذلك، وإن قال: له علي درهم، ودرهم، ودرهم، لزمه ثلاثة كذلك، وقال بعض أصحابنا: إن قال: أردت بالثالث التوكيد، قبل؛ لأنه في لفظ الثاني وكذلك الحكم إن قال: له علي درهم، فدرهم، فدرهم، أو درهم، ثم درهم، ثم درهم، وإن قال: له علي درهم، ودرهم، ثم درهم، لزمته ثلاثة؛ لأن الثالث لا يصلح للتأكيد، لمخالفته للثاني، وإن قال: له علي درهم، بل درهم، لزمه درهم؛ لأنه لم يقر بأكثر منه، ويحتمل أن يلزمه درهمان؛ لأنه أضرب عن الأول، فلم يسقط بإضرابه، وأثبت الثاني معه، ذكره أبو بكر، وابن أبي موسى.
وإن قال: له علي درهم، بل درهمان، لزمه درهمان، وإن قال: له علي درهم، بل دينار، لزمه درهم ودينار؛ لأنه أضرب عن الدرهم فلم يسقط، وأثبت معه ديناراً، فلزماه، وإن قال: له علي هذا الدرهم، بل هذان الدرهمان، لزمه ثلاثة كذلك، وإن قال: له علي قفيز حنطة بل، قفيزا شعير، لزمه الثلاثة كذلك، وإن قال: له علي درهم، نصفه، لزمه نصف درهم؛ لأن هذا بدل البعض، وهو سائغ، فينزل منزلة الاستثناء.
وإن قال: له علي درهم، أو دينار لزمه أحدهما، يرجع في تعيينه إليه، ويؤخذ به؛ لأنه أقر بأحدهما.
وإن قال: له علي درهم في دينار، لزمه درهم؛ لأنه يجوز أن يريد: في دينار لي، وإن قال: له علي درهم فوق درهم، أو تحت درهم، فقال القاضي: يلزمه درهم؛ لأنه يحتمل فوق درهم، أو تحته في الجودة، فلم يلزمه زيادة مع الاحتمال، وقال أبو

(4/312)


الخطاب: يلزمه درهمان؛ لأنه إقرار بدرهم، مقرون بآخر، فلزماه جميعاً، وإن قال: له علي درهم مع درهم، أو معه درهم، أو قبله درهم، أو بعده درهم، لزمه درهمان؛ لأن "قبل" و "بعد" يستعملان للتقديم والتأخير في الوجوب، فحمل عليه، وإن قال: له علي درهم في عشرة، وفسره بإرادة الحساب، لزمه عشرة، وإن فسره بدرهم مع عشرة، لزمه أحد عشر، وإن لم يفسره لزمه درهم؛ لأنه يحتمل: في عشرة لي، إلا أن يكون عرفهم استعمالهم "في" ذلك، بمعنى "مع" فيحتمل وجهين.

فصل
وإن قال: له في هذا العبد شركة، أو هو شركة بيننا أو هو لي وله، كان مقراً بجزء من العبد، يؤخذ بتفسيره، ويقبل بتفسيره بالقليل والكثير؛ لأن اللفظ يقع عليه، وإن قال: له في هذا العبد ألف، طولب بالبيان.
فإن قال: وزن في ثمنه ألفاً عني، كانت قرضاً، وإن لم يقل: عني، كان شريكاً بقدرها، وإن قال: أوصي له بألف من ثمنه، قبل، وإن فسرها: بألف من جناية جناها العبد، قبل أيضاً؛ لأنه يحتمل ذلك، وإن قال: هو رهن عندي بألف ففيه وجهان: أحدهما: يقبل؛ لأن الدين يتعلق بالرهن، فصح تفسيره به، كالجناية.
والثانية: لا يقبل؛ لأن حق المرتهن في الذمة لا في العبد، وإن قال: له في ميراث أبي ألف، لزمه تسليمها إليه؛ لأن حق المرتهن في الذمة لا في العبد، وإن قال له في ميراث أبي ألف لزمه تسليمها إليه، وإن قال: له في ميراثي من أبي ألف، وقال: أردت هبة، وبدا لي من تقبيضها، قبل منه؛ لأنه أضاف الميراث إلى نفسه، ولا ينتقل ماله إلى غيره إلا من جهته وإن قال: له في هذا المال ألف، لزمه، وإن قال: له في مالي هذا ألف، أو من مالي هذا ألف، وفسره بدين، أو وديعة، قبل منه؛ لأنه يحتمل صدقه فقبل كالأول.

فصل
ومن شهد بحرية عبد غيره، أو أقر بها، ثم اشتراه، عتق عليه، لاعترافه بحريته، ويكون بيعاً في حق البائع، واستخلاصاً في حق المشتري، وولاؤه موقوف؛ لأن أحداً لا يدعيه، فإذ مات وخلف مالاً، فقال القاضي: للمشتري منه قدر ثمنه عوضاً عما استخصله به، كما لو استنقذ أسيراً من بلد الروم بثمن، وإن رجع البائع فصدق المشتري في إعتاقه، لزمه رد الثمن عليه، والولاء له؛ لأنه إقرار بسبب للميراث لا منازع له فيه، فقبل، كالإقرار بالنسب، وإن رجع المشتري عن الشهادة بالحرية، لم يقبل في الحرية؛ لأنه حق لغيره، وقيل في الولاء لعدم المنازع له.

(4/313)


[باب الإقرار بالنسب]
إذا أقر رجل بنسب مجهول النسب يمكن كونه منه، وهو صغير، أو مجنون، ثبت نسبه منه؛ لأنه أقر له بحق، فثبت، كما لو أقر له بمال، فإن بلغ الصبي، وأفاق المجنون، وأنكر النسب، لم يسقط؛ لأنه نسب حكم بثبوته، فلم يسقط برده، كما لو قامت به بينة.
وإن كان المقر به بالغاً عاقلاً لم يثبت نسبه حتى يصدقه؛ لأن له فيه قولاً صحيحاً، فاعتبر تصديقه، كما لو أقر له بمال، وإن كان المقر به ميتاً، ثبت نسبه وإن كان بالغاً؛ لأنه لا قول له، أشبه المجنون.
ومتى ثبت نسب المقر له به، فرجع المقر عن الإقرار، لم يقبل رجوعه؛ لأنه حق لغيره، وإن صدقه المقر له في الرجوع، ففيه وجهان.
أحدهما: لا يسقط؛ لأن النسب إذا ثبت، لم يسقط بالاتفاق على نفيه، كالثابت بالفراش.
والثاني: يقبل؛ لأنهما اتفقا على الرجوع عن الإقرار، أشبه الرجوع عن الإقرار بالمال.

فصل
وإن أقر على أبيه أو غيره بنسب في حياته، لم يقبل إقراره؛ لأن إقرار الرجل على غيره غير مقبول، وإن أقر بعد موته وكان الميت قد نفاه، لم يثبت؛ لأنه يحمل على غيره نسباً قد حكم بنفيه، وإن لم يكن نفاه، ولكن المقر غير وارث، لم يقبل إقراره؛ لأنه لا يقبل إقراره في المال، فكذا في النسب، وإن كان وارثاً ومعه شريك في الميراث لم يثبت النسب بقوله؛ لأنه لا يثبت في حق شريكه، فوجب أن لا يثبت في حقه، وإن كان هو الوارث وحده، ثبت النسب بقوله، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «اختصم سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي؛ وُلد على فراشه، وقال سعد: ابن أخي عهد إلي فيه أخي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش» ، متفق عليه؛ ولأن الوارث يقوم مقام موروثه في حقوقه، وهذا من حقوقه، وإن كان المقر بنتاً واحدة، ثبت النسب بقولها؛ لأنها ترث المال كله بالفرض والرد، وإن خلف زوجة، فأقرت بابن لزوجها، فوافقها الإمام، ثبت نسبه، وإلا فلا.
وإن خلف ابنين عاقلاً، ومجنوناً، فأقر العاقل بأخ، لم يثبت النسب؛ لأنه لا يرث المال كله، فإن مات المجنون، وله وارث غير أخيه، لم

(4/314)


يثبت النسب إلا باتفاقهم جميعاً، وإن لم يخلف وارثاً إلا أخاه، قام مقامه في الإقرار، وإن كانا عاقلين، فأقر أحدهما بنسب صغير ثم مات الآخر، ففيه وجهان: أحدهم: يثبت النسب؛ لأن المقر صار جميع الورثة.
والثاني: لا يثبت؛ لأن تكذيبه لشريكه يبطل الحكم بنسبه، فلم يثبت، كما لو أنكر الأب نسبه في حياته، فأقر به الوارث، وإن خلف ابناً، فأقر بأخ، ثبت نسبه. فإن أقر الثالث، ثبت نسبه أيضاً، فإن أنكر الثالث الثاني ففيه وجهان: أحدهما: يسقط نسبه؛ لأن الثالث ابن، فاعتبر إقراره في ثبوت نسب الثاني.
والثاني: لا يسقط؛ لأنه ثبت نسبه: قبل الثالث، ولأن الثالث فرع على نسب الثاني، فلا يسقط الفرع أصله، وإن خلف أبناً، فأقر بأخوين له في وقت واحد، فصدق كل واحد منهما لصاحبه، ثبت نسبهما، وإن تكاذبا، لم يثبت نسب واحد منهما في أحد الوجهين؛ لأنه لم يجتمع كل الورثة على الإقرار لهما، وفي الآخر يثبت نسبهما؛ لأنه ثبت بقول ثابت النسب قبلهما، فلم يؤثر إنكارهما، وإن صدق أحدهما بصاحبه، وكذب به الآخر، ثبت نسب المصدق به، وفي الآخر وجهان، وإن أقر ابن الوارث، بنسب أحد التوأمين، ثبت نسبهما، فإن كذب أحدهما بصاحبه، لم يؤثر التكذيب لأنهما لا يفترقان في النسب، وإن أقر الوارث بنسب من يحجبه، كأخ أقر بابن للميت، ثبت نسبه، وورث دونه؛ لأن حجبه لو منع إقراره، لما صح إقرار الابن بأخ؛ لأنه يخرج بإقراره عن كونه كل الورثة.

فصل
إذا كان لرجل أمة لها ثلاثة أولاد، ولم يقر بوطئها، ولا زوج لها فقال: أحد أولادها ابني، أخذ ببيان النسب والتعيين، فإذا عين أحدهما، ثبت نسبه وحريته، فإن قال: هو من نكاح فعليه الولاء لأبيه؛ لأنه قد مسه رق، والأمة وولداها الآخران رقيق قن؛ لأنها لم تعلق منه بِحُرّ في ملكه، وإن قال: من وطء شبهة، فالولد حر الأصل، وأمه وأخواه مملوكون، وإذا قال: استولدتها في ملكي، فالولد حر الأصل، ولا ولاء عليه، والجارية أم ولد، فإن كان المعين الأكبر، فأخواه ابنا أم ولد، حكمهما حكمها؛ لأنها ولدتهما بعد استيلادهما وثبوت حكم أم الولد لها، وإن عين الأوسط، فالأكبر رقيق، والأصغر له حكم أمه، وإن عين الأصغر، فأخواه رقيق؛ لأنها ولدتهما قبل كونها أم ولده وإن مات قبل البيان، أخذ ورثته بالبيان، ويقوم بيانهم مقام بيانه، فإن بينوا النسب دون الاستيلاد، ثبت النسب وحرية الولد، ولم تصر الأمة أم ولد؛ لاحتمال كونه من نكاح وغيره، وإن لم يعينوا أحداً منهم، عرضوا على القافة، فإن ألحقوا به واحداً

(4/315)


ألحقناه به، ولا يثبت حكم الاستيلاد لغيره، وإن لم يكن قافة، وأشكل، أقرعنا بينهم، لتميز الحرية، فمن وقعت عليه القرعة، عتق، وورث، ويحتمل أن تصير الأمة أم ولد في هذه المواضع؛ لأنه أقر بولدها وهي في ملكه، فالظاهر أنه استولدها في ملكه.

فصل
فإن كان له أمتان لكل واحدة منهما ولد، ولا زوج لواحدة منهما، ولم يقر بوطئها، فقال: أحد هذين ابني، أخذ بالبيان، فإن عين أحدهما، ثبت نسبه وحريته، ويطالب ببيان الاستيلاد فإن قال: استولدتها في ملكي، فالولد حر الأصل، وأمه أم ولد، وإن قال: من نكاح، أم وطء شبهة، فالأمة رقيق قن، وترق الأخرى وولدها.
فإن ادعت الأخرى أنها المستولدة، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم استيلادها، وإن مات قبل البيان، قام وارثه مقامه على ما بينا في المسألة التي قبلها، فإن لم يكن له وارث،، أو لم يعين الوارث، عرضا على القافة، فألحق بمن ألحقته به القافة، وإن لم يكن قافة، أو أشكل أقرع بينهما، فيعتق أحدهما بالقرعة، وقياس المذهب أنه يثبت نسبه ويرث أيضاً.

فصل
وإن خلف رجل ابنين، فأقر أحدهما بدين على أبيه لأجنبي، وكان عدلاً، فللغريم أن يحلف مع شهادته، ويأخذ دينه، وإن لم يكن عدلاً، حلف المنكر، وبرئ، ويلزم المقر من الدين بقدر ميراثه؛ لأنه لو لزمه بإقراره جميع الدين، لم تقبل شهادته على أخيه، لكونه يدفع بها عن نفسه ضرراً، ولأنه لا يرث إلا نصف التركة، فلم يلزمه أكثر من نصف الدين، كما لو وافقه أخوه، وإن لم يخلف الميت تركة، لم يلزم الوارث من الدين شيء؛ لأنه لا يلزمه أداء دينه إذا كان حياً مفلساً، فكذلك إذا كان ميتاً.
وإن كانت له تركة، تعلق الدين بها، فإن أحب الوارث تسليمها في الدين، لم يلزمه سوى ذلك، وإن أحب استخلاصها وإيفاء الدين من ماله، فله ذلك، ويلزمه أقل الأمرين من قيمتها، أو قدر الدين بمنزلة دين الجناية في رقبة الجاني، وإذا قال الرجل في مرضه: هذه الألف لقطة، فتصدقوا بها، ولا مال له سواها، فقال أبو الخطاب: يلزمهم التصدق بثلثها؛ لأنها جميع ماله، والأمر بالصدقة بها وصية بجميع المال، فلا يلزمهم منها إلا الثلث، وقال القاضي: يلزمهم الصدقة بجميعها؛ لأن أمره بالصدقة بها يدل على تعديه فيها على وجه تلزمهم الصدقة بجميعها، فيكون ذلك إقراراً منه لغير وارث، فيجب امتثاله والله أعلم.
تم بحمد الله ومنته الجزء الرابع من الكافي في فقه الإمام أحمد وبه تمام الكتاب والحمد لله رب العالمين.

(4/316)