المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل

كتاب الشهادات
مدخل
...
كتاب الشهادات
تحمل الشهادة في المال وكل حق لآدمي فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين وإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه وإن كان عبدا لم يجز لسيده منعه.
وأداؤها فرض عين على من يحملها متى دعى إليه وقدر عليه بلا ضرر نص عليه وقيل هو فرض كفاية أيضا.
ولا يجوز أحد الجعل على تحملها ولا على أدائها وقيل يجوز إذا لم تتعين وقيل يجوز فيه بشرط الحاجة.
ويجوز لمن عنده شهادة بحد الله تعالى إقامتها وتركها وللحاكم أن يعرض له بالتوقف عنها وقيل لا يجوز.
__________
كرهه لم ترد شهادته ومن حرمه قال إن دوام عليه ردت شهادته كسائر الصغائر وإن لم يداوم عليه لم ترد شهادته وإن فعله من يعتقد حله فقياس المذهب أن لا ترد شهادته بما لا يشتهر به منه كسائر المختلف فيه من الفروع ومن كان يغشى بيوت الغناء أو يغشاه المغنون للسماع متظاهرا بذلك وكثر منه ردت شهادته في قولهم جميعا لأنه سفه ودناءة.
قال ابن عقيل فإن قلنا إنه يحرم على الرواية الأخرى ردت شهادته ولو بدفعة واحدة.
قال في المغني وإن كان مستترا به فهو كالمغني لنفسه على ما ذكر من التفصيل انتهى كلامه.
فظهر أن المستتر بأحد هذه الأشياء هل ترد شهادته فيه خلاف في المذهب في المستتر بالغناء إن قلنا بتحريمه لم ترد شهادته مرة واحدة في المشهور.

(2/243)


ومن عنده شهادة لآدمي يعلمها لم يقمها حتى يسأله وإن لم يعلمها فالأولى أن يعلمه بها ابتداء فإن أقامها قبل إعلامه جاز ولا يحل كتمانها بالكلية ويستحب الإشهاد على البيع وكل عقد سوى النكاح والرجعة ففي وجوبه فيهما خلاف سبق.
ولا يجوز للشاهد أن يشهد إلا بما يعلمه برؤية أو سماع فالرؤية تخص الأفعال كالقتل والغصب والسرقة والرضاع والولادة ونحو ذلك.
والسماع ضربان سماع من المشهود عليه كالطلاق والعتاق والإبراء والعقود وحكم الحاكم والأقارير وغيرها فيلزمه أن يشهد به على من سمعه وإن لم يشهده لاختفائه أو مع العلم به وعنه في سماع الحكم والأقارير لا يجوز حتى يشهده على نفسه وعنه يجبر في ذلك وعنه إن أقر بحق في الحال كقوله له على كذا شهد به وإن أقر بسابقه فقط كقوله أقرضني فكان له على أو كان له علي
__________
وإن قلنا بعدم تحريمه فهل ترد أم لا أم إن قلنا بكراهته ردت وإن قلنا بإباحته لم ترد فيه ثلاثة أقوال والقول المفتى به1.
فصل
إذا قصد تعليم الحمام حمل الكتب مما تدعو الحاجة إليه أو استفراخها أو الأنس بأصواتها من غير أذى جاز.
وقد روى عن عبادة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الوحشة فقال:.
"اتخذ زوجا من حمام" .
وإن قصد المراهنة أو أخذ حمام غيره ونحوه حرم وإن كان عبثا ولعبا فهو دناءة وسفه.
__________
1 كذا في الأصل

(2/244)


وقضيته إذا جعلناها إقرارا ونحوه لم يشهد به حتى يشهده به وهذا أصح.
وعلى الأولى إذا قال المتحاسبان لا يشهدوا علينا بما يجري بيننا لم يمنع ذلك الشهادة ولزم إقامتها وعنه يمنع وسماع من جهة الاستفاضة فيما يتعذر علمه غالبا بدونها كالموت والنسب والملك المطلق والنكاح والوقف ومصرفه والعتق والولاء والولاية والعزل وكذلك الخلع والطلاق نص عليه.
ولا يشهد بالاستفاضة إلا عن عدد يقع العلم بخبرهم في ظاهر كلام أحمد والخرقي وقال القاضي يكفي عدلان فصاعدا والأصح أنه متى وثق بمن أخبره وسكنت نفسه إليه فليشهد وإلا فلا.
ومن رأى شيئا في يد إنسان مدة طويلة يتصرف فيه تصرف الملاك من نقض وبناء وإجارة وإعارة جاز أن يشهد له بالملك وقيلا لا يشهد إلا باليد والتصرف.
وإذا شهدا على رجل أنه طلق من نسائه أو أعتق من إمائه أو أبطل من وصاياه واحدة بعينها وقالا أنسينا عينها لم تقبل هذه الشهادة وقيل تقبل.
ومن شهد بالنكاح فلا بد من ذكر شروطه.
__________
قال الإمام أحمد من لعب بالحمام الطيارة يراهن عليها أو يسرحها من المواضع لعبا وفي لفظ أو يسيرها في المزارع فلا يكون هذا عدلا لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسرح حماما ثم أتبعه بصره فقال "شيطان يتبع شيطانة" وهذا الحديث في السنن.
فصل
قد تقدم أن اللعب إذا لم يتضمن ضررا ولا شغلا عن فرض وليس فيه دناءة لا ترد به الشهادة.

(2/245)


ومن شهد برضاع أو سرقة أو زنا أو شرب أو قذف أو قتل فإنه يصفه ويذكر ما يعتبر للحكم ويختلف به وهل يعتبر في وصف الزنا ذكر الزمان والمكان والمزنى بها على وجهين.
وإذا قال من شهد بقتل جرحه فقتله أو مات من ذلك أو لم يزل ضمنا حتى مات ونحوه صح وإن قال جرحه فمات لم يحكم به.
ومن شهد لرجل أن هذا الغزل من قطنه والطير من بيضه أو الدقيق من حنطته حكم له بذلك.
وإذا شهد لمن ادعي إرث ميت شاهدان أنه وارثه لا يعلمان له وارثا سواه حكم له بتركته إن كانا من أهل الخبرة الباطنة وإلا ففي الاستكشاف معها وجهان ولا يجب أخذ كفيل في ذلك بحال.
وإن قالا لا نعلم له وارثا غيره في هذا البلد فكذلك وقيل إن كان قد سافر عنه يوقف الحاكم حتى يكشف خبره في بلاد سفره.
__________
قال الشيخ تقي الدين قول النبي صلى الله عليه وسلم "كل لهو يلهو به فهو باطل إلا رمية بقوس وتأديب فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق" يدل في معني الثلاثة ما كان من جنسهن فإن ملاعبة السرية كملاعبة المرأة سواء.
وأما تأديب الفرس فقريب منه تأديب البعير لأن كلاهما يشتركان في الإيجاف والسباق ولهذا أسهم للبعير في إحدى الروايتين إذا كان للقتال لا للحمولة فقط كما كانت زمن بدر.
فأما تأديب الحمولة من البغال والحمير والإبل فهل لها نصيب من تأديب الموجفة في القتال؟.
وكذلك رميه بقوسه في معناه عمله برمحه وسيفه فإنه صلى الله عليه وسلم

(2/246)


باب شروط من تقبل شهادته
وهي في ظاهر المذهب ستة العقل والحفظ والعدالة والإسلام إلا حيث نذكره والبلوغ والنطق.
فلا تقبل شهادة مجنون ولا معتوه ولا مغفل ولا من يعرف بكثرة الغلط والسهو وتقبل ممن يخنق أحيانا في حال إفاقته ولا تقبل شهادة غير العدل.
ويعتبر للعدالة شيئان الصلاح في الدين والمروءة فالصلاح في الدين أداء
__________
"أقر الحبشة في المسجد يوم العيد على اللعب بالحراب" وقد قال الإمام أحمد في العمل بالرمح والقوس إنه أفضل من الصلاة في الثغر وأما في غير الثغر فسوى بينهما ولأنه سبحانه وتعالى قال: [60:8] {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} يتناول كلما يستطاع من القوة فيدخل فيه ما يرمى به وما يضرب به وما يطعن به سواء كان المرمى به سهما أو حربة وسواء كان السهم منفردا أو جاريا في مجري وسواء كان يؤثر باليد أو بالرجل الذي يسمى الجرخ.
وكذلك المضروب به يدخل فيه ما يقتل بحده كالسيف والخنجر والسكين وما يقتل بثقله كاللت وما يقتل بهما كالدبوس فأما قوله صلى الله عليه وسلم "ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي" فقد أراد به القوة الكاملة وهذا كثيرا ما يكون لحصر الكمال لا لحصر أصل الاسم كقوله تعالى: [15:30] {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} وقوله صلى الله عليه وسلم ."ولكن المسكين الذي لا يجد غناء يغنيه" ونحو ذلك وذلك لأن الرمى يصيب العدو البعيد مع الحائل من نهر ونحوه ويدفع العدو عن الإقدام ففيه ثلاثة فوائد لا توجد في غيره من السلاح انتهى كلامه.

(2/247)


الفرائض وسننها الراتبة وتجنب المحارم بأن لا يأتى كبيرة ولا يدمن على صغيره وفي رد الشهادة بالكذبة الواحدة روايتان وقيل العدل من لم تظهر منه ريبة.
ولا تقبل شهادة من فسقه لبدعة كمن يعتقد مذهب الرافضة أو الجهمية أو المعتزلة تقليدا ويتخرج أن تقبل إذا لم يتدين بالشهادة لموافقة على مخالفة.
ولا تقبل شهادة القاذف حتى يتوب سواء حد أو لم يحد.
__________
قوله: "ولا تقبل شهادة القاذف حتى يتوب سواء حد أو لم يحد".
أطلق جماعة من الأصحاب أن شهادة القاذف لا تقبل منهم الشيخ في الكافي وقاسه على الزنا.
وقال في المغني وعندنا تسقط شهادته بالقذف إذا لم يحققه وعند أبي حنيفة ومالك لا تسقط إلا بالجلد ثم احتج بالآية وقال رتب على رمي المحصنات ثلاثة أشياء إيجاب الجلد ورد الشهادة والفسق فيجب أن يثبت رد الشهادة بوجود الرمي الذي لا يمكنه تحقيقه بالجلد ولأن الرمي هو المعصية والذنب الذي يستحق به العقوبة وتثبت به المعصية الموجبة لرد شهادته والحد كفارة وتطهير فلا يجوز تعليق رد الشهادة به وإنما الجلد ورد الشهادة حكمان للقذف فيثبتان جميعا به وتخلف استيفاء أحدهما لا يمنع ثبوت الآخر.
وقولهم إنما يتحقق بالجلد لا يصح لأن الجلد حكم القذف الذي تعذر تحقيقه فلا يستوفى قبل تحقق القذف وكيف يجوز أن يستوفى قبل تحقق القذف وكيف يجوز أن يستوفى حتى قبل تحقق سببه ويصير مستحقا بعده هذا باطل انتهى كلامه.
وقالت الحنفية الزاني ونحوه يفسق بنفس الفعل الموجب للحد والقاذف لا يفسق بنفس القذف لجواز أن يكون صادقا.

(2/248)


ـ
وقال القاضي إذا عجز عن تصديق نفسه بإقامة البينة صار فاسقا وسقطت شهادته.
وقولهم يجوز أن يكون صادقا في قذفه غير صحيح لأنه إذا عجز عن إقامة البينة حكمنا بكذبه ألا ترى أنه يوجب الحد عليه ولا يجوز أن نوجب الحد عليه ولم نحكم بكذبه.
قال الشيخ تقي الدين عن كلام القاضي هذا وهذا الكلام يقتضي أنه يفسق حين يجب عليه الحد وذلك يستدعي مطالبة المقذوف وقالت الحنفية الحاكم لو شاهد رجلا يزني أو يسرق يحكم بفسقه ولم يقبل شهادته ولو رآه يقذف لم يحكم بفسقه لجواز كونه صادقا قال القاضي إذا عجز عن إقامة البينة حكم بفسقه.
وقال أبو الخطاب في الانتصار ولا فرق بينهما ولأنه لم يذكر شهادته بصورة الزنا والسرقة لجواز الشبهة فإن انكشف له الحال بأنه زنى بانتفاء الشبهة رد حينئذ كالقذف سواء إذا عجز عن إقامة البينة على صدقه وشهادته وحكم بفسقه وحده ولا فرق بينهما.
وقال القاضي بعد ذلك لا يحكم بكذبه بنفس القذف وإنما يحكم بالقذف والعجز عن تصديقه بالبينة وذلك متأخر عن حال القذف بدليل قوله تعالى: [13:24] {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فحكم بكذبهم بالعجز عن الإيتاء بالشهادة1.
ثم قال فإن قيل فيجب أن تقبل شهادته قبل عجزه عن إقامة البينة لأنه لم يحكم بكذبه قيل إنما لم تقبل شهادته قبل ذلك لأن القذف سبب في القدح في العدالة فأكسب ذلك شبهة في قبولها كطعن الخصم في الشهود.
__________
1 بهامش الأصل: الذي في النكت عن شيخ السلامية: عن الإتيان بالشهادة

(2/249)


ـ
قال الشيخ تقي الدين هذا يدل على أنه يتوقف عن القبول1 بعد القذف وقبل العجز ثم قال واحتج بأنه يجوز أن يأتي بالبينة قبل وقوع2 الحد عليه فلا يتبين عجزه عن إقامة البينة قبل وقوع الحد عليه فيجب أن تقبل شهادته.
والجواب أن هذا التجويز لم يمنع من إقامة الحد عليه كذلك لا يمنع من رد الشهادة لأن الحد لا يجوز استيفاؤه إلا بعد ثبوت سببه كسائر الحدود فلما جاز استيفاؤه في هذا الحال وجب الحكم بفسقه ورد شهادته.
قال الشيخ تقي الدين فقد تحرر أن القاذف له ثلاثة أحوال أحدها أن لا تطلب منه البينة الثاني أن تطلب منه فيعجز الثالث أن تطلب منه فيذهب ليأتي بها وهنا يتوجه أن ينظر ثلاثة أيام فمن عجز فهو فاسق ومتى ذهب ليأتي بها فهو بمنزلة المطعون فيه وإن لم يطالب بالحد ولا بالبينة فهنا على مقتضى كلام القاضي لم تزل عدالته وهو ظاهر القرآن ويحتمل كلامه الثاني أن يكون مطعونا فيه وعلى عموم كلامهم في أن القذف يوجب الفسق لا تقبل شهادته انتهى كلامه.
وكلام أبي الخطاب المذكور يقتضى أن الحكم بالفسق ورد الشهادة والحد يتعلق بالعجز عن إقامة البينة وأن ما كان ثابتا من قبول الشهادة وغيره يستصحب إلى حين العجز ولم أجده ذكر في بحث المسألة ما ينافيه بخلاف القاضي فصار فيما إذا طلبت منه البينة فذهب ليأتي بها أو لم تطلب منه ثلاثة أقوال الثالث تقبل إذا لم يطالب بها وفي المسألة أيضا قول غريب.
قال القاضي في العدة فأما أبو بكرة ومن جلد معه فلا يرد خبرهم لأنهم جاءوا مجيء الشهادة وليس بصريح في القذف وقد اختلفوا في وجوب الحد فيما
__________
1 بهامش الأصل: "على القبول"
2 بهامش الأصل: "إقامة الحد"

(2/250)


يسوغ في الاجتهاد ولا ترد الشهادة بما يسوغ فيه الاجتهاد ولأن نقصان العدد من معنى وجهة غيره فلا يكون سببا في رد شهادته انتهى كلامه.
ويوجه بأنه أحد نوعي القذف فاستوت فيه الشهادة والرواية في القبول كالنوع الآخر فإن القاذف في الشتم لا تقبل شهادته ولا روايته حتى يتوب وحكي هذا عن الشافعي.
قال الشيخ تقي الدين عقيب كلام القاضي المذكور مضمون هذا الكلام أنه يقبل خبره وشهادته وهو خلاف المشهور والمحفوظ عن عمر في قوله لأبي بكرة "تب أقبل شهادتك" ولكن الناس قبلوا رواية أبي بكرة فيجوز أن ترد شهادته كما لو جلد ويقبل خبره كالمتأول في شرب النبيذ ونحو ذلك ولأن الخبر لا يرد بالتهمة التي ترد بها الشهادة من قرابة أو صداقة أو عداوة أو نحو ذلك أو لاشتراك المخبر والمخبر فيه بخلاف الشهادة انتهى.
فصل
وقوله: "حتى يتوب".
يعني إذا تاب قبلت شهادته جلد أو لم يجلد وقال أيضا في رواية عبد الله حدثنا عبد الصمد حدثنا سليمان يعني ابن كثير حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب "أن عمر حين ضرب أبا بكرة ونافعا وشبلا1 استتابهم وقال من تاب منكم قبلت شهادته".
__________
1 نافع بن علقمة قال ابن السكن: سكن الشام، ولم يزد على ذلك. وقال ابن عبد البر: سمع النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن حديثه مرسل.اهـ. وشبل بن معبد أخو أبي بكر لأمه.روى أبو عثمان النهدي قال: "شهد أبو بكر ونافع –يعني ابن علقمة- وشبل بن معبد على المغيرة: أنهم نظروا إليه كما ينظرون المرور في المحكمة: فجاء زياد فقال عمر: جاء رجل لا يشهد إلا بحق. فقال: رأيت مجلساً قبيحاً ونهزا. فجلدهم عمر".

(2/251)


ـ
وقال في رواية ابن منصور في المحدودين إذا تابوا جازت شهادتهم.
وقال حرب قال الإمام أحمد في القاذف إذا تاب قبلت شهادته.
وكذا نقل عنه جماعة منهم صالح وزاد أذهب إلى قول عمر بن الخطاب وقال له بكر بن محمد تعتمد على حديث عمر في قوله لأبي بكرة إن تبت قبلت شهادتك قال نعم وقول الله تعالى: [5:24] {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} .
وقال في رواية حنبل إذا تاب ورجع جازت شهادته على فعل عمر وإلا لم تقبل كذا قال الله تعالى: [4:24] {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فإذا تاب قبلت شهادته.
وقال في رواية حرب شهادة القاذف إذا تاب قبلت شهادته حد أو لم يحد وكذلك كل محدود تقبل شهادته إذا كان عدلا قيل للإمام أحمد جلد أو لم يجلد قال نعم فذهب إلى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا تقبل وتقبل في رؤية الهلال على ما ذكره القاضي عنه.
وتقبل شهادة الذمي إذا حد بالقذف ثم أسلم واعتذر عن رؤية الهلال بأنه خبر وليس بشهادة فقال القاضي لو لم تكن شهادة لم يعتبر فيها العدد وقد قال أبو حنيفة إذا لم تكن في السماء علة اعتبر فيه عدد كثير وكذلك يعتبر فيها مجلس الحكم.
قال الشيخ تقي الدين وهذا من القاضي يقتضي أن شهادة الواحد عند غير الحاكم لا تؤثر وقد ذكرت اعتبار اللفظ في موضعه انتهى كلامه.
واعتذر الحنفي عن الذمي بأنه اجتلب بإسلامه عدالة لم يبطلها حد القذف بخلاف المسلم فإنه أبطل عدالته بحده في القذف فلم يستفد بتوبته عدالة لم تكن فلهذا لم تقبل شهادته فقال أبو الخطاب لا فرق بينهما فإن الذمي كان عدلا

(2/252)


وتوبته إكذابه نفسه.
__________
في دينه لا سيما عندهم وعلى رواية لنا بأن شهادة بعضهم على بعض مقبولة وولايته على بنيه ثابتة فأبطل عدالته بالقذف والحد ثم استحدث عدالة بالإسلام ومثله المسلم أبطل عدالته ثم بالتوبة استحدث عدالة أخرى ثم تبطل في المسلم إذا زنى وسرق وشرب وحد فإنه قد أبطل عدالته وإذا تاب قبلت شهادته وإن لم تتجدد عدالة بإسلامه على زعمهم ثم يجب أن يعلل بهذا في رد شهادته في رؤية الهلال وأخبار الديانات وولايته على أولاده في أموالهم وقد قال يصح منه جميع ذلك انتهى كلامه.
قوله: "وتوبته إكذابه نفسه".
قال القاضي فيقول كذبت فيما قلت وهذا ظاهر كلام الإمام أحمد توبة القاذف أن يكذب نفسه وإن كان صادقا ورجحه بعضهم قال الإمام أحمد في رواية المروزي وحرب وابن منصور ويعقوب وصالح توبة القاذف أن يكذب نفسه وقال في رواية الميموني توبته عندي أن ينزع عن القذف ويكذب نفسه وحديث عمر رضي الله عنه يدل على هذا وقال في رواية الحارث وقد قيل له عن القاذف ماتوبته قال يكذب نفسه يقول إني قد قذفت فلانا وإني قد تبت من قذفي إياه قلت وإن كان قد شهد وقد رآه يزني يتوب من حق قد شهد به قال ماأدري هذه توبة القاذف قال وإنما أذهب إلى حديث أبي بكرة.
وقال في رواية حنبل لا تقبل شهادته حتى يقول إني تائب لأن أبا بكرة قال له عمر "إن تبت قبلت شهادتك".
وقال في رواية حنبل أيضا يكذب نفسه ويرجع عن قوله ويتوب

(2/253)


ـ
ليس بالتوبة خفاء وقال أبو طالب سمعت أحمد قال وتوبة القاذف أن يقوم فيكذب نفسه ويقول إني تائب مما قلت.
وقال أيضا في رواية أبي طالب وقد سأله عن توبة القاذف قال توبته إذا رجع فقال قد رجعت وتاب وأعلن مثل قول عمر لأبي بكرة "إن تبت قبلت شهادتك".
وقال مهنا قال أحمد تجوز شهادة المحدود في القذف إذا عرفت توبته يقول إني قد رجعت عما كنت قلت في فلان لا بد من هذا.
وقال له مهنا في موضع آخر لا بد من أن يتكلم به قال لا بد أن يتكلم به وإلا من أين تعلم بتوبته فقد روى عن ابن المسيب عن عمر مرفوعا توبته إكذاب نفسه ولأن إكذاب نفسه يزيل تلوث عرض المقذوف الحاصل بقذفه فتكون التوبة به وبه قال مالك وهو منصوص الشافعي.
وقيل إن علم صدق نفسه فتوبته أن يقول قد ندمت على ما قلت ولا أعود إلى مثله وأنا تائب إلى الله تعالى منه لأن المقصود يحصل بذلك ولأن الندم توبة وإنما اعتبر القول ليعلم تحقق الندم.
وتتمة هذا القول وإن لم يعلم صدق نفسه فتوبته إكذاب نفسه سواء كان القذف بشهادة أو سب لأن قد يكون كاذبا في الشهادة صادقا في السب وهذا معنى ما اختاره في المغني وقطع به في الكافي وقيل إن كان سبا فالتوبة إكذاب نفسه وإن كان شهادة فبأن يقول القذف حرام باطل ولست أعود إلى ما قلت قال القاضي وهو المذهب لأنه قد يكون صادقا فلا يؤمر بالذنب1 وقطع به في المستوعب إلا أنه قال يقول ندمت على ما
__________
1 بهامش الأصل: الذي في نكت ابن شيخ السلامية: "فلا يؤمر بالكذب"

(2/254)


ـ
كان مني ولا أعود إلى ما أتهم فيه ولا يقول ولا أعود إلى مثل ما كان مني لأن في ذلك أن لا يشهد.
وقال الشيخ تقي الدين ويتوجه أن يحمل قوله إذا أكذب نفسه على الشهادة بالقذف كقضية أبي بكرة.
فرع
وتقبل شهادة القاذف بمجرد التوبة في ظاهر كلام الإمام أحمد وقطع به في المستوعب وغيره وقدمه في الكافي وهو المشهور وقطع به ابن هبيرة عن الإمام أحمد ويحتمل أن يعتبر مضي مدة يعلم توبته فيها.
وذكر في الرعاية أنه إن كان شهادة قبل بمجرد التوبة وإن كان شتما وقذفا فيعد إصلاح العمل سنة وذكر ابن هبيرة عن مالك أنه يعتبر ظهور أفعال الخير من غير حد وعن الشافعي أنه قدره بسنة.
وقال القاضي في بحث المسألة على أن في الآية ما يمنع رجوعه إلى مايليه وهو زوال تتمة الفسق من وجوه.
أحدها أنه لو عاد إلى زوال تتمة الفسق لم يشترط فيه صلاح العمل ولكان يقتصر على قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} لأن الفسق يرتفع بمجرد التوبة وإنما قبول الشهادة يشترط فيه صلاح العمل فثبت أن الاستثناء عاد إليه1.
واحتجوا للمسألة بما رواه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس في قوله تعالى: [5،4:24] {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: "إذا قال بعد ضربه أستغفر الله وأتوب إليه من قذف المحصنات حين يفرغ من ضربه ولم يعلم منه بعد إلا خيرا قبلت شهادته".
__________
1 بهامش الأصل: "عائد إليه"

(2/255)


ـ
ثم إن القاضي ذكر بعد ذلك المسألة بخلاف ذلك وقال إن شهادته تقبل بمجرد التوبة لأنا قد حكمنا بصحة التوبة في الباطن فلم نعتبر في قبول الشهادة إصلاح العمل كالتوبة عن الردة.
وقال الشيخ تقي الدين عند قوله إن القاذف تقبل شهادته إذا تاب معناه التوبة الصحيحة التي يعلم صحتها وذلك لا يكون إلا بعد سنة وصلاح العمل المذكور في القرآن إنما هو لتصحيح التوبة وسقوط العقوبة لا يستلزم قبول الشهادة فإن العقوبة تسقط بالشهادات وبالدخول في أوائل الخير وعلى هذا فلا فرق بين التوبة من الردة وغيرها وقوله -يعني القاضي- "قد حكمت بصحة التوبة في الباطن" فيه نظر ونصوص أحمد تخالف ذلك فإنه إن أراد أنه هو الذي حكم بذلك فقد يصدق وأما نحن فلم نحكم بصحتها في الباطن.
قال القاضي ولأن القذف على ضربين قذف بلفظ الشتم كقوله زنيت وأنت زان وقذف بلفظ الشهادة المردودة ثم إذا كان بلفظ الشهادة المردودة قبلت شهادته بمجرد التوبة كما دل عليه حديث عمر فكذلك إذا كان بلفظ الشتم قال ولأنه يقبل خبره بمجرد التوبة ولا يعتبر فيه صلاح العمل كذلك في باب الشهادة واستشهد بآية الفرقان والبقرة وفي كلاهما نظر قاله الشيخ تقي الدين.
قال القاضي ولأن التوبة الباطنة بحكم بصحتها في الحال وهو إذا وجد التركي والندم والعزم على الخروج من المظلمة أو يكون فيما بينه وبين الله تائبا ولا يشترط فيها صلاح العمل كذلك التوبة الحكمية بعلة أنها إحدى التوبتين.
فقد ظهر من ذلك أن لنا في قبول شهادة القاذف بمجرد التوبة خمسة أقوال.
والمعروف في المذهب أن التوبة من الردة ليست كغيرها كما أن المعروف الحكم بصحة التوبة في الباطن.

(2/256)


وإذا تاب الفاسق قبلت شهادته بمجرد توبته وعنه يعتبر معها في غير القاذف إصلاح العمل سنة.
__________
وظاهر كلام بعضهم التسوية بين قبول الخبر والشهادة بمجرد التوبة وعدمه خلاف ما صرح به القاضي فتكون المسألة على وجهين.
فرع
رجل حلف بالطلاق أنه رأى شخصا يزني فهل تطلق امرأته.
ينبغي أن يقال إن علم كذب نفسه طلقت باطنا وظاهرا وإن علم صدق نفسه طلقت في الحكم.
قوله: "وإذا تاب الفاسق قبلت شهادته بمجرد توبته".
هذا هو الراجح في المذهب لما تقدم وقوله عليه الصلاة والسلام: "التوبة تجب ما قبلها" رواه مسلم وعن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ولم يسمع منه عن النبي صلى الله عليه وسلم."التائب من الذنب كمن لا ذنب له" إسناده ثقات رواه ابن ماجة وغيره.
قوله: "وعنه يعتبر معها في غير القاذف إصلاح العمل".
سنة لما تقدم لأن فيها يتبين صلاحه لاختلاف الأهوية وتغير الطباع وعن الشافعي كالروايتين وقيل إن فسخ بفعل وإلا فلا يعتبر فيه إصلاح ذلك.
وقيل يعتبر مضى مدة يعلم فيها حالة بذلك.
وذكر القاضي في موضع أن التائب من البدعة يعتبر له مضى سنة لحديث صبيغ "أن عمر رضي الله عنه لما ضربه أمر بهجرانه حتى بلغته توبته فأمر أن لا يكلم إلا بعد سنة" رواه الإمام أحمد رضي الله عنه.
وروى المروزي عن أحمد أنه قال لا يكلم التائب عن البدعة إلا بعد أن

(2/257)


ـ
يأتي عليه سنة كما أمر عمر بن الخطاب أن لا نكلم صبيغ إلا بعد سنة وقال من علامة توبته في هذه السنة أن ينظر إليه فان كان يوالي من عاداه على بدعته ويعادي من والاه فهذه توبة صحيحة واختار القاضي في موضع أن التائب من البدعة كغيره في أنه لا يعتبر إصلاح العمل وقال عن هذا النص محمول على طريق الاختيار الإحتياط وقال وقد قال الإمام أحمد في رواية يعقوب في رجل من الشكاك أظهر التوبة فقال يتوب فيما بينه وبين الله وبجانب أهل مقالته حتى يعرف الناس أنه تائب قال وظاهر هذا أنه لم يجعل مجانبته شرطا في صحة توبته وإنما جعلها ليكون ذلك دلالة على توبته عند من عرف ذلك منه ولم يشترط معنى زائدا على ذلك وهذا اختياره في المغني قال والصحيح أن التوبة من البدعة كغيرها إلا أن تكون التوبة بفعل يشبه الإكراه كتوبة صبيغ فتعتبر له مدة تظهر أن توبته عن إخلاص لا عن إكراه.
وقال الشيخ تقي الدين من تأمل كلام أحمد وجده إنما يعتبر في جميع المواضع التوبة لكن نحن لا نعلم صدقه في توبته بمجرد قوله قد تبت فلا بد من انكفافه عن ذلك الذنب وعلاماته سنة ليكون هذا دليلا لنا على صدق توبته فيما بينه وبين الله وبجانب أهل مقالته حتى يعرف الناس أنه تائب فجعل التوبة فيما بينه وبين الله صحيحه في الحال وأما عند الناس فيترك مواضع الذنب وهو مجانبة أصحاب الذنب وقول القاضي إنما أمر بذلك ليكون دليلا على توبته عند من عرف ذلك منه ضعيف لأن المجانبة لأهل المقالة المبتدعة واجبة وإنما أمر به لأن ملازمته دليل على القيام بموجب التوبة ولأنه قال حتى يعرف الناس منه ذلك وهذا يقتضي معرفة من عرف أنه قد تاب ومن لم يعرف أنه تاب ألا ترى أن المسألة أنه أظهر التوبة فحقيقة

(2/258)


ومن أتى شيئا من الفروع المختلف فيها كمن تزوج بلا ولي أو شرب من النبيذ مالا يسكره أو أخر زكاة أو حجا مع إمكانهما ونحوه متأولا لم ترد شهادته.
__________
التوبة عن إظهار وكذلك قوله من علامة توبته موالاة من عاداه على البدعة ومعاداة من والاه عليها وقال فهذه توبة صحيحة فعلمت أنه لا بد من علامة تدلنا على صحة التوبة وإلا فلو كان مجردالتكلم بالتوبة موجبا لصحتها لم يحتج إلى علامة.
ثم ذكر الشيخ تقي الدين كلامه المكتوب في القاذف وذكر ابن عقيل أن المبتدع إذا تاب هل تقبل شهادته أو يعتبر به صلاح العمل قال والقياس قبول شهادته لصحة توبته كما قدمناه في الردة والقذف لكن طرحنا القياس ههنا لأجل الإثم والأثر ثم ذكر رواية المروزي المذكورة لقول عمر لأبي بكرة "إن تبت قبلت شهادتك" وقال مالك لا أعرف هذا قال الشافعي وكيف لا يعرفه وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة وقاله عمر لأبي بكرة.
قوله: "ومن أتى شيئا من الفروع المختلف فيها كمن تزوج بلا ولى أو شرب من النبيذ مالا يسكره أو أخر زكاة أو حجا مع إمكانهما ونحوه متأولا لم ترد شهادته".
نص عليه الإمام أحمد في رواية صالح وغيره وأنه يحد شارب النبيذ ويصلى خلفه وتقبل شهادته وهذا هو المشهور من المذهب وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في الفروع فلم يكن بعضهم يعيب من خالفه ولا يفسقه.
ونقل عنه علي بن الموفق في الصلاة خلف من يشرب النبيذ لا يصلى خلف من يشرب هذا ولا خلف من يجلس إلى من يشرب هذا.
قال القاضي وهذا محمول على ما يسكر ويجوز أن يحمل على ظاهره

(2/259)


ـ
فيخرج روايتان ويشهد لذلك ما قاله في رواية أبي الحارث في إمام يبيع كرمه ممن يتخذه خمرا لا يصلون خلفه.
وقال في رواية عبد الله وإبراهيم من استطاع الحج ولم يحج لا تجوز شهادته انتهى كلام القاضي وكذا نقل أبو الحارث.
قال القاضي في موضع آخر وهذا مبالغة في الفور لأنه قد أسقط عدالته في الموضع الذي يسوغ فيه الاجتهاد وقال أيضا وظاهر هذا أنه لم يسوغ الاجتهاد في تأخيره أي تأخير الحج.
وذكره في المغني قولا واحتج له في المغني يقول عمر "ما هم بمسلمين".
وقال ابن أبي موسى الأظهر من قول الإمام أحمد أنه لا تقبل شهادة من شرب النبيذ متأولا ولم يسكر قال في الرعاية لفسقه إذا وهذا قول مالك واختاره الشيخ تقي الدين وقال ترد شهادته لاستحقاقه الهجر والعقوبة كالمبتدع والعلة أنه موجب للحد وهذا لا يتعداه.
وقال الإمام أحمد في رواية العباس بن محمد في شارب النبيذ أنا أجيز شهادته ولا أصلي خلفه إن وجدته في الجامع.
ولعل "لا" زائدة.
ونقل غير واحد عن الإمام أحمد فيمن ترك الوتر متعمدا ساقط العدالة.
وقال في رواية سندي قيل له فترى أن يكتب عمن يبيع هذه العينة قال لا يعجبني أن يكتب عن معين وفي اللاعب بالشطرنج خلاف سيأتي.
وقال الشيخ تقي الدين في المصرين على ترك الجماعة ترد شهادتهم بل يقاتلون في أحد القولين وهذا عند من لا يقول بوجوبها فأما من قال بوجوبها فإنه يقاتل تاركها ويفسق المصرين على تركها إذا قامت عليهم الحجة التي تبيح القتال والتفسيق كما يقاتل أهل البغي بعد إزالة الشبهة ورفع المظلمة.
قوله في المحرر "متأولا".

(2/260)


ـ
وكذا من قلد متأولا ويدخل في كلامه وكلام غيره من قال يقول عليه الصلاة والسلام.
الماء من الماء أو أجاز بيع درهم بدرهمين نقدا.
وظاهر كلامه في الرعاية أنه يفسق في هاتين الصورتين اتفاقا وذكر في المستوعب المسألة كما ذكر غيره وقال وذكر ابن أبي موسى أنه لا تقبل شهادة من يقول الماء من الماء ولا من يجوز بيع درهم بدرهمين نقدا وتعليل هذا أنه لضعف الخلاف فيهما وفي هذا نظر وأما لاعتقاد أن فيهما إجماعا بعد اختلاف وأن هذا إجماع صحيح ففيه نظر أيضا.
فصل
قال القاضي على ظهر أجزاء العدة نقلت من المجموع لأبي حفص البرمكي من خط ولده أبي إسحاق عبد الله سمعت أبي يقول لو أن رجلا عمل بكل رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في المشاع وأهل مكة في المتعة لكان فاسقا.
قال القاضي هذا محمول على أحد وجهين إما أن يكون من أهل الاجتهاد ولم يؤده اجتهاده إلى الرخص فهذا فاسق لأنه ترك ما هو الحق عنده واتبع الباطل أو يكون عاميا فأقدم على الرخص من غير تقليد فهذا أيضا فاسق لأنه أخل بفرضه وهو التقليد فأما إن كان عاميا وقلد في ذلك لم يفسق لأنه قلد من يسوغ اجتهاده.
قال الشيخ تقي الدين قد فسق العاصي المجتهد إذا عمل برخصة مختلف فيها من غير اجتهاد والعامي إذا عمل بها من غير تقليد ومع هذا فكلام الإمام أحمد إنما هو فيمن يتبع الرخص مطلقا المختلف فيها مع ضعفها وهذا فاسق لأنه يفعل الحرام قطعا انتهى كلامه.

(2/261)


وإن اعتقد تحريمه ردت نص عليه.
__________
ولم يقل في موضع آخر مع ضعفها انتهى كلامه.
وما ذكره القاضي هو ظاهر كلام الأصحاب رحمهم الله تعالى وقد ذكروا فيمن صلى وترك شرطا أو ركنا ساغ فيه الخلاف من غير تأويل ولا تقليد أنه لا تصح صلاته في أصح الروايات لأن فرضه التقليد وقد تركه والثانية لا إعادة إن طال الزمن والثالثة تصح مطلقا لخفاء طرق هذه المسائل وعلى هذه الرواية يخرج عدم الفسق في مسألتنا.
ويوافق كلام القاضي قول ابن عقيل لو شرب النبيذ عامي بغير تقليد لعالم فسق.
ووجدت بخط القاضي تقي الدين الزريراني البغدادي الحنبلي الآخذ برخص العلماء هل يفسق أم لا فيه روايتان مثل الآخذ برخص مالك في ترك الشهادة في النكاح والقول بطهارة الكلب والخنزير في حال الحياة وكاستباحة النبيذ على قول النعمان وتزويج ابنته من الزنا على قول الشافعي ونحو ذلك مما ليس له شبهة قوية فأما ما قويت شبهته كمس الذكر في حق المتوضى ء وخروج الدم من بقيه البدن وما أشبه ذلك فلا يفسق وهذا كله في حق العالم فأما العامي فموسع عليه في ذلك انتهى كلامه.
فظهر من ذلك أن من فعل مختلفا فيه بغير تأويل ولا تقليد أنه يفسق في المشهور وإن تأول أو قلد إن لم يترخص فلا يفسق وإن تتبع الرخص فهل يفسق أم لا أم يفرق بين ما قوى دليله وما ضعف أم لا يقال بهذه التفرقة في حق العالم فقط أم يفرق بين العامي والعالم مطلقا فيه أقوال.
قوله: "وإن اعتقد تحريمه ردت نص عليه وقد تقدم".
وقال في رواية الأثرم في المحتجم يصلي ولا يتوضأ فإن كان ممن يتدين بهذا

(2/262)


وقيل لا ترد أيضا.
__________
فلا وضوء فيه فلا يعيدون وإن كان يعلم أنه لا يجوز يعيدون كلهم.
قال القاضي فقد أبطل إمامته مع اعتقاده التحريم وإبطال الإمامة ههنا كإبطال الشهادة لأن العدالة شرط فيها وهذا هو المشهور لأنه فعل يحرم على فاعله فأشبه المتفق على تحريمه.
واعتبر في المغني على هذا أن يتكرر ولم أجده في غيره.
وذكر في المستوعب في الصلاة أنه يفسق ولهذا قال في الرعاية فسق على الأصح.
وقوله في المحرر "وقيل لا ترد أيضا".
وهو قول الشافعية لأن لفعله مساغا في الجملة فأشبه المتفق على حله.
ونقض على الشافعية بنص الشافعية في المعتاد مع خلاف إبراهيم بن سعيد وعبيد الله بن الحسن وبمن طلق ثلاثا وأمسك امرأته مع خلاف الحسن.
فأما اعتقاد استباحة هذا المحرم فلا يسقط الشهادة ذكره القاضي وغيره من الأصحاب محل وفاق.
وقد قال عبد الله سئل أبي عن عبد الصمد بن النعمان قال نحن لا نكتب عن عبد الصمد قيل لعبد الله فلم كرهه قال كان يرى العينة.
فصل
هل يجوز أن يشهد العقد الفاسد المختلف فيه ويشهد به؟.
ينبغي أن يقال يدخل في كلام الأصحاب فإن كان متأولا أو مقلدا لمتأول جاز وفي بعض المواضع خلاف سبق وإلا لم يجز.
وقال الشيخ تقي الدين قال القاضي هل يجوز أن يشهد العقد الفاسد

(2/263)


ـ
ويشهد به فإن كان ذلك في عقد متفق على فساده كعقد الربا والعقد المشروط فيه الخيار المجهول أو شرط باطل بإجماع لم يجز شهوده ولم تجز الشهادة به فأما إن كان فساده مما يسوغ الاجتهاد فيه فلا يمنع لأنه لا يقطع على فساده نص عليه في رواية أحمد بن صدقة وقد سأله فإن كانوا يشهدون على ربا قال لا يشهدون على ربا إذا علموا.
وقال في رواية حرب في الرجل يدعى إلى الشهادة ويظن أنه ربا أو بيع فاسد قال إذا علم ذلك فلا يشهد.
وقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه في الرجل يفضل بعض ولده يشهد قال لا يشهد قيل له فقد شهد فقال لا تشهد للذي أشهدك ولا لولده.
وكذلك نقل إسماعيل بن سعيد لا تشهد على عطية من لم يعدل فيها وكذلك نقل أبو الحارث إذا علمت أنه يريد أن يزوى ميراثه عن ورثته يصيره لبعض دون بعض لا تشهد له بشيء.
قال وظاهر هذا يقتضي أنه لا يشهد وإن كان مختلفا فيه لأن تفضيل بعضهم على بعض مختلف فيه واحتج بقوله: "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يشهد".
ولحديث النعمان بن بشير ولحديث."لعن شاهدا الربا" قال ولأن فعل الفاسد منكر وحضور المنكر منكر.
فإن قيل ما رويتموه من الأخبار في أحكام يسوغ فيها الاجتهاد وهو الشهادة في نكاح المحرم وإذا خص بعض أولاده قيل في هذا تنبيه على تحريم ذلك فيما اتفق على فساده وإذا قام الدليل على المختلف فيه خصصناه وبقي تنبيهه على ظاهره.
فان قيل فالشاهد لا يلزم بشهادته وإنما ذلك إلى اجتهاد الحاكم.
قيل وإن لم يلزم فلا يجوز له أن يحضر المنكر لأن حضوره منكر.

(2/264)


ـ
فإن قيل فلله حكم في الفاسد كما له حكم في الصحيح فهو ينقل الفساد فينفذه الحاكم؟
قيل فيجب أن يحضر المؤاجر المشاهد بيع الخمر فيشهد بذلك وكذلك دور الفسق لشاهد الزنا فيشهد بذلك لأن لله فيه حكما وهو سقوط ثمن الخمر ومهر الزانية.
قال الشيخ تقي الدين الشهادة عليه إعانة على حصوله والإعانة على المحرم محرمة فأما إذاغلب على ظنه أنه يشهد عليه ليبطله فذلك شيء آخر انتهى كلامه.
وظاهر قول الشيخ تقي الدين كما تقدم في أول الفصل وعليه ما ذكره القاضي في نص الإمام أحمد.
وكذا ما رواه أبو النصر العجلي أنه سمع أبا عبد الله يكره العينة ويكره أن يشهد الرجل على شيء منها هذا إن حملت الكراهة على التحريم وإطلاق القاضي عدم المنع يقتضى جواز الشهادة مطلقا وهو خلاف كلام الإمام أحمد.
وقد يقال ما ضعف دليله وكان خلاف خبر واحد لم يشهد فيه وإلا شهد كعطية الأولاد وما في معناها.
وقال القاضي سعد الدين الحارثي في شرحه العلم بالتفضيل أو التخصيص يمنع تحمل الشهادة به وأداؤها مطلقا حكاه الأصحاب ونص عليه ثم ذكر النصوص السابقة وأن الإمام أحمد قال في رواية أحمد بن سعيد وإن سأله بما استمع عند قاض يرى ذلك جائزا لم يشهد له به وعلله الحارثي بأنه جور فامتنعت الإعانة عليه وذكر أنه قول إسحاق.
ونقل أبو طالب عن الإمام أحمد أنه سئل عن رجل نحل نحلة لابنه ولم يعلم الشهود أن له ابنا غيره ثم علموا بعد أن له غيره فدعاهم إلى الشهادة قال إن لم يشهدوا له أرجو ليس عليهم شيء انتهى كلامه.

(2/265)


وأما المروءة فاستعمال ما يجمله ويزينه وتجنب ما يدنسه ويشينه فلا تقبل
__________
فأما إن احتمل عند الشاهد أن العقد فاسد فإنه يشهد وكذلك ينبغي إن ظن فساده على مقتضى كلام الإمام أحمد السابق لكن هنا ينبغي أن يقال يكره وقد يقال بتحريمه كما في ظن جعل العصير خمرا وظن جعل الدار المستأجرة مكانا يباع فيه الخمر.
وقال الشيخ تقي الدين في موضع آخر فصل الشهادة على الإقرار الذي يعلم أنه تلجئه أو كاذب أو فيه تأويل وقد أبطل الإمام أحمد إقرار التلجئة ونصه مكتوب عند مسألة الإقرار للزوجة إذا أبانها ثم تزوجها وقال في موضع آخر إن الأمر بإقرار باطل مثل أمر المريض أن يقر لوارث بما ليس بحق ليبطل به حق بقية الورثة فإن الأمر بذلك والشهادة عليه باطل.
قوله: "وأما المروءة فاستعمال ما يجمله ويزينه وتجنب في يدنسه ويشينه إلى آخره".
المروءة الإنسانية وقال ابن فارس الرجولية وقيل صاحب المروءة من يصون نفسه عن الأدناس ولا يشينها عند الناس وقيل هو الذي يسير بسيرة أمثاله في زمانه ومكانه قال أبو زيد يقال مرؤ الرجل أي صار ذا مروءة فهو مري على وزن فعل وتمرأ إذا تكلف المروءة.
والرقاص الذي يعتاد الرقص ويقال رقص يرقص.
والشطرنج قال الجواليقي فارسي معرب وهو بالشين المعجمة المفتوحة ومكسورة وحكى فيه بعضهم بالسين المهملة والمعروف في المذهب تحريم اللعب بالشطرنج.
قال حرب قيل للإمام أحمد أترى بلعب الشطرنج بأسا قال البأس

(2/266)


شهادة المصافع والمتمسخر والمغني والرقاص والمشعوذ ومن يلعب بالنرد أو الشطرنج.
__________
كله قيل فإن أهل الثغر يلعبون بها للحرب قال لا يجوز هكذا وجدت هذا النص.
ونقل الشيخ تقي الدين من زاد المسافر لأبي بكر عن حرب قال قلت لأبي إسحاق أترى بلعب الشطرنج بأسا قال البأس كله قلت فإن أهل الثغر يلعبون بها للحرب قال هو فجور.
وذكرها أبو حفص عن الإمام أحمد انتهى كلامه.
وقال ابن عقيل وقد قال أبو بكر قياس قول الإمام أحمد ومعناه قول الشافعي بالشطرنج وأنه إذا لم يأخذ العوض لم ترد شهادته انتهى كلامه.
وظاهره أنه لا ترد شهادة لاعب الشطرنج بها إذا لم يأخذ العوض.
وقال في الرعاية وقيل يكره فتقبل شهادة من لم يكثر.
فظهر من ذلك أنه لا يحرم في وجه وأن عليه هل تقبل شهادة من أكثر منه فيه وجهان.
وعلى التحريم قال القاضي في موضع هو كالنرد في رد الشهادة وهو قول أبي حنيفة ومالك.
وقال أيضا في موضع اللعب بالشطرنج وسماع الغناء بغير آلة نقول فيه ما نقول في شرب النبيذ وأنه إذا فعل ذلك متأولا لم ترد شهادته وقد أومأ إليه أبو بكر في كتاب الخلاف من الشهادات لأنه حكى قول الشافعي في سماع المغني واللعب بالشطرنج وقال قياس قول أبي عبد الله على مذهب الشافعي لأن التأويل يحتملها وكذا حكى في المغني قول أبي بكر إن فعله من يعتقد تحريمه فهو كالنرد وإن فعله من يعتقد إباحته لم ترد شهادته إلا أن يشغله عن الصلاة عند أوقاتها أو يخرجه إلى الحلف الكاذب أو نحوه من المحرمات أو

(2/267)


أو الحمام أو يدخل الحمام بلا مئزر أو يأكل في السوق أو يمد رجليه في مجمع
__________
يعلب بها على الطريق أو يفعل في لعبة ما يستخف به من أجله ونحو هذا مما يخرجه عن المروءة وهذا مذهب الشافعي كسائر المختلف فيه انتهى كلامه.
وكذا مثل غير واحد من الأصحاب بحكاية ما يضحك منه الناس ونارنجيات وتعزيم وأكله في طريق الناس يرونه وبوله في شارع ومشرعة وكشف رأسه أو بطنه أو صدره أو ظهره في موضع لم تجر عادته بكشفه فيه وخطاب زوجته أو أمته حيث يسمع الناس بلا عذر واستماع الغناء وكشف عورته في حمام أو غيره وتحريش البهائم والجوارح للصيد ودوام اللعب والمعالجة بشيل الأحجار الثقال والمقيرات والأخشاب وما عده الناس سفها وإسقاط مروءة وما فيه المخاطرة بالنفوس والثقاف.
وقال في الرعاية ويستحب تأديب الخيل والثقاف واللعب بالحراب وسائر اللعب إذا لم يتضمن ضررا ولا شغلا عن فرض إذا لم يكن فيه دناءة ولا ترد به الشهادة.
وقال ابن عقيل في الفنون مثل الأكل على الطريق ومد الرجلين بين الجلساء وكشف الرأس بين الملأ والقهقهة وقال في موضع آخر الأرجوحة والتعلق عليها والترجيح فيها مكروه نهى عنه السلف وقيل إنها لعبة الشيطان فلا تقبل شهادة المدمن لها وقال في موضع آخر وتكره الأراجيح وكل ما يسمى لعبا إلا ما كان إعانة على الحرب كاللعب بالحراب والأسلحة والرماية وقال في موضع آخر فأما حبس المطربات من الأطيار كالقمارى والبلابل لترنهما في الأقفاص فقد كرهه أصحابنا لأنه ليس من الحاجات لكنه من البطر والأشر ورقيق العيش وحبسها تعذيب فيحتمل أن ترد باستدامته الشهادة ويحتمل أن لا ترد لأن ذلك ليس من الأمور البعيدة عن المباح وقال أيضا في موضع آخر في هذه المسألة أفيحسن بعاقل أن يعذب حيا

(2/268)


الناس أو يتحدث بمباضعة أهله ونحوه.
__________
لينوح فيستلذ بنياحته وقد منع من هذا أصحابنا وسموه سفها1.
فإنما جازت شهادته لأن الإمام أحمد قد نص على أن القاضي إذا شهد بعد عزله على قضية أن شهادته تقبل فأولى أن تقبل شهادة القاسم وبهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف والأصطخري.
قال القاضي دليلنا أن القاسم بغير أجر يتصرف من جهة الحكم فوجب أن يقبل قوله فيه دليله الحاكم يقبل قوله فيما يحكم به به في حال ولايته عندهم وعندنا يقبل في حالة الولاية وبعد الولاية ولا يلزم عليه إذا قسم بأجرة لأن تصرفه لا يكون من جهة الحكم لأنه أجير وشهادة الأجير لا تجوز فيما يستحق عليه الأجرة لأن لهما فيه منفعة وهو استحقاق الأجرة متى صحت القسمة وهذا معنى كلام أصحاب القاضي كأبي الخطاب والشريف.
قال الشيخ تقي الدين والتعليل الأول يقتضي أن قول القاسم خبر لا شهادة كالحاكم والتعليل الثاني ضعيف لأنه يوجب أن لا تقبل شهادتهما بالقيمة والقدر لأنهما يستحقان عليه الأجرة ولأن الأمناء تقبل أقوالهم فيما يستحقون عليه أجرة كالوصي في العمل والإنفاق وذلك لأنهما تراضيا بأن يكون حكما بينهما يجعل كالحاكم لو أعطيناه جعلا على ما ذكره بعض أصحابنا وشبيه بهذا ما لو رضي الخصم بشهادة عدوه أو أبى خصمه ومن يتهم عليه أو رضي بقضائه وكذلك شهادة الظئر المستأجرة بالرضاع وشهادة القابلة بالولادة انتهى كلام الشيخ تقي الدين.
وقال أيضا بناها القاضي على أن شهادة الإنسان على فعل نفسه تقبل
__________
1 سقط من الأصل ورقة أو أكثر.

(2/269)


وأما أصحاب الصناعة الدنية عرفا كالحارس والحائك والنخال والصباغ والحجام والكساح والقمام والزبال والكناس والدباغ والنفاط ونحوهم فتقبل شهادتهم إذا عرف حسن طريقهم في دينهم.
__________
كالمرضعة ضعف مأخذهما من وافقه أنهما ليسا شهادة على فعل نفسه انتهى كلامه.
وقال القاضي قال مالك والشافعي لا تجوز شهادتهما.
قال الشيخ تقي الدين وكذلك قال القاضي في مسألة الحكم بالعلم في حكمه بعلمه سبب يوجب التهمة وهو أنه يثبت حكمه بقوله فهو كقاسمي الحاكم إذا شهدا بالقسمة لم يحكم بشهادتهما لأنهما أثبتا فعلهما بشهادتهما.
وقوله: "وأما أصحاب الصناعة الدنيئة عرفا إلى آخره".
فالنخال: الذي يغربل في الطريق على فلوس وغيرها والقمام الذي يجمع القمامة وهي الكناسة ويحملها والفعل منه قم يقم والجمع قمام والمقمة المكنسة وقممت البيت كنسته.
قوله: "فتقبل شهادتهم إذا عرف حسن طريقتهم في دينهم".
لأن للناس حاجة إلى ذلك فرد شهادة فاعله تمنع من تعاطيه ومن الأصحاب من ذكر المسألة على الوجهين ومنهم من ذكر فيها روايتين.
ووجه عدم القبول أن تعاطي ذلك يتجنبه أهل المروءات وقطع في الكافي أن الحائك والدباغ والحارث تقبل شهادتهم لغيرهم.
وقطع في المغني بأن الكساح والكناس لا تقبل شهادتهم لغيرهم وهو معنى ما روى عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما.
قال في الرعاية بعد حكاية الخلاف وكذا الخلاف في النخاس والدباب والوقاد والصائغ.

(2/270)


ولا يقبل مستور الحال منهم وإن قبلناه من غيرهم.
__________
قال ابن حمدان وكذا الجصاص والطفيلي والقيم والمصارع والمصور والمكاري والحمال والجزار ومن لبس من الرجال زي النساء أو زي أهل الذمة أو غير زي بلده الذي يسكنه أو غير الزي المعتاد بلا عذر أو أكثر الضحك والاستهزاء بالناس وكلامهم وإطراحهم ومناكدتهم.
وقال في المغني فأما سائر الصناعات التي لا دناءة فيها فلا لا ترد الشهادة إلا من كان منهم يحلف كاذبا أو يعد ويخلف وغلب هذا عليه فلا شك أن شهادته ترد وكذلك من كان يؤخر الصلاة عن أوقاتها أولا يتنزه عن النجاسات فلا شهادة له ومن كانت صناعته محرمة كصانع الزمامير والطنابير فلا شهادة له ومن كانت صناعته يكثر فيها الربا كالصائغ والصيرفي ولم يتق ذلك ردت شهادته.
قال ولا تقبل شهادة الطفيلي وهو الذي يأتي طعام الناس من غير دعوى وبه قال الشافعي ولا نعلم فيه خلافا قال لأنه يأكل محرما ويفعل ما فيه سفه ودناءة وذهاب مروءة فإن لم يتكرر هذا منه لم ترد شهادته فإنه من الصغائر.
وقال الأزجي الحنبلي في نهاية المطلب له والصناعات تنقسم إلى مباح وهي مالا دين فيه ككتابة وبناء وخياطة وإلى حرام كتصوير ونحوه وإلى مكروه وهو ما يباشر فيه النجاسة كحجام وجزار.
قال وهل يدخل الفاصد في هذه الكراهة الظاهر أنه يلتحق بذلك وكذلك الختان بل أولى لكونه يباشر العورات وعلى هذا يكره كل كسب

(2/271)


ولا تقبل شهادة الكفار إلا بالوصية في السفر ممن حضره الموت من مسلم أو كافر إذا لم يوجد غيرهم.
__________
دنيء كدباغ وسماك وقيم وحلاق وقد قيل إن الحمامي يلتحق بهؤلاء والصحيح أنه لا يلتحق بهم انتهى كلامه.
وذكره السماك في هؤلاء فيه نظر وصرح ابن عقيل في الفنون أنه لا تقبل شهادة الخياط وفي ذكره الخياط نظر.
قوله: "إلا بالوصية في السفر ممن حضره الموت من مسلم أو كافر إذا لم يوجد غيرهم".
كذا ذكره الأصحاب تصريحا وظاهرا قال القاضي نص عليه في رواية عبد الله فقال قال الله تعالى: [282:2] {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وليس ممن يرضى وقال تعالى: [95:5] {ذَوَا عَدْلٍ} وليسوا بعدول.
فظاهر الآية يدل على أن لا شهادة لهم في المواضع التي أجازها أبو موسى الأشعري في السفر في الوصية.
وكذلك نقل المروزي فقال الآية تدل على ذلك فيقسمان بالله ثم أقبل شهادتهم إذا كانوا في سفر ليس فيه غيرهم وهذه ضرورة.
قال الشيخ تقي الدين وهل تعتبر عدالة الكافرين في الوصية في دينهما عموم كلام الأصحاب يقتضي أنه لا يعتبر وإن كنا إذا قبلنا شهادة بعضهم على بعض اعتبرنا عدالتهم في دينهم.
وصرح القاضي بأن العدالة غير معتبرة في هذه الحال والقرائن تدل عليه وكذلك الآثار المرفوعة والموقوفة.
وأما المسلمون فصرح القاضي أنه لا تقبل شهادة فساق المسلمين في هذه الحال جعله محل وفاق واعتذر عنه انتهى كلامه.

(2/272)


وفي اعتبار كونهم من أهل الكتاب روايتان ويحلفهم الحاكم بعد العصر ما خانوا ولا حرفوا وإنها لوصية الرجل.
__________
وسيأتي في ذكر مسألة ومالا يطلع عليه الرجال كعيوب النساء من كلامه ما يخالفه وقال أكثر العلماء منهم الأئمة الثلاثة لا تقبل شهادتهم على المسلمين بحال ولم أجد بهذا قولا في مذهبنا.
وقد قال الإمام أحمد في رواية حرب وغيره لا تجوز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض ولا على غيرهم لأن الله تعالى يقول: [282:2] {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وليسوا ممن نرضى وظاهره كقول الأئمة الثلاثة إلا أنه صرح بخلافه في غير موضع.
قوله: "وفي اعتبار كونهم من أهل الكتاب روايتان".
إحداهما يعتبر قطع به في المستوعب والكافي وغيرهما لأن الأصل عدم قبول خولف في أهل الكتاب لأن الأخبار المروية في ذلك إنما هي في أهل الكتاب فيقتصر عليها.
والثانية لا يعتبر قدمه في الرعاية وهو ظاهر كلام جماعة في ظاهر قوله تعالى: [106:5] {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} .
فعلى الأولى هل يعتبر كونهم من أهل الذمة ظاهر كلامه في المستوعب والمغني وابن هبيرة وغيرهم كلام أنه يعتبر وظاهر كلامه في الكافي وغيره أنه لا يعتبر وقدمه في الرعاية فهذا وجهان على هذه الرواية وقطع بعضهم بأنه يعتبر أن يكونوا رجالا ولم أجد ما يخالفه صريحا.
قوله ويحلفهم الحاكم بعد العصر ما خانوا ولا حرفوا وإنها لوصية الرجل للآية وتصريح خبر أبي موسى.
قال ابن قتيبة لأنه وقت يعظمه أهل الأديان.

(2/273)


ـ
قال الشيخ تقي الدين هذا يناسب الشهادة والأمانة على المال ما خانوا في الأمانة ولا حرفوا الشهادة انتهى كلامه.
قال في الرعاية يجب ذلك وقيل يستحب قال القاضي في ضمن مسألة تغليظ اليمين في الدعاوي يحمل الاستحلاف في الآية عليه إذا رآه الإمام أزجر للحالف يعني كاستحلاف الخصم.
وقال القاضي في احكام القرآن يستحلف الشهود بعد صلاة العصر إذا كانوا من غير أهل ملتنا إذا اتهمهم الورثة في الشهادة لأنه قال: [106:5] {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} ولو كان الموصي المشهود له من ذوي قربى الشهود {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} فيما أوصى به الميت وأشهدهما عليه ولذلك قال فيما بعد: [108:5] {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} يعني أيمان الشهود عند ارتياب الورثة.
قال الشيخ تقي الدين وهذا يقتضي أن استحلاف الشهود حق للمشهود عليه فإن شاء حلفهم وإن شاء لم يحلفهم ليست حقا لله وهو ظاهر القرآن.
فصل
لو حكم حاكم بخلاف قولنا في هذه المسألة فهل ينقض حكمه.
احتج به في المغني بالآية الكريمة ثم قال وهذا نص الكتاب وقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه انتهى كلامه.
وقد عرف من مذهبنا أن حكم الحاكم ينقض إذا خالف نص كتاب أو سنة.
وهذا يوافق ما قاله في الروضة "أن النص إذا تطرق إليه الاحتمال ولا دليل عليه لا يخرجه عن كونه نصا".
قال الشيخ تقي الدين يتوجه أن ينقض حكم الحاكم إذا حكم بخلاف هذه الآية فإنه خالف نص الكتاب بتأويلات غير متجهة انتهى كلامه.

(2/274)


ـ
وهذه المسألة قد يعايى بها يقال أين لنا مفردة لا يتحقق فيها خلاف عندنا لو حكم حاكم بخلاف قولنا فيها نقض حكمه.
فصل
المذهب أنه لا تقبل شهادة الكافر في غير الوصية في السفر وسيأتي الكلام في شهادة بعضهم على بعض وقال أبو حفص البرمكي تقبل شهادة السبي بعضهم على بعض في النسب إذا ادعى الآخر أنه أخوه.
قال ابن عقيل ولا أعرفه التعليل يجب أن يكون تصحيحا لشهادة بعضهم على بعض في الجملة.
وقال القاضي أبو الحسين في التمام لا تختلف الرواية إذا سبى قوم ثم عتقوا فادعوا أنسابهم لم يقبل إقرارهم حتى يقيموا البينة واختلفت الرواية هل من شرط البينة أن يكونوا من المسلمين؟ على روايتين.
أصحهما لا تسمع إلا من مسلم وبه قال الشافعي والثانية تسمع من الكافر.
وجه الأولى اختارها الخرقي ما روى الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى شريح أن لا تورث حميلا حتى تقوم بينة من المسلمين والحميل المجهول من النسب على غيره وقد جاء عن العرب حميل بمعنى محمول.
ووجه الثانية أنه يتعذر إقامة المسلمين فأشبه الوصية في السفر تقبل فيها شهادة أهل الذمة لتعذر المسلمين هناك انتهى كلامه.
وقد ذكر القاضي أبو يعلى هذه المسألة فقال وقد قال الإمام أحمد في السبي إذا ادعوا نسبا وأقاموا بينة من الكفار قبلت شهادتهم نص عليه في رواية حنبل وصالح وإسحاق بن إبراهيم لأنه قد تتعذر البينة العادلة ولم يجز ذلك في رواية عبد الله وأبي طالب لأنه لا نص في ذلك.

(2/275)


ـ
قال الشيخ تقي الدين فعلى هذا كل موضع ضرورة غير المنصوص فيه روايتان لكن التحليف هنا لم يتعرضوا له فيمكن أن يقال لأنه إنما يحلف حيث تكون شهادتهم بدلا في التحميل بخلاف ما إذا كانوا أصولا قد علموا من غير تحميل.
وقال أيضا نقل ابن صدقة عن الإمام أحمد سئل الإمام أحمد عن الرجل يوصي بأشياء لأقاربه ويعتق ولا يحضر إلا النساء هل تجوز شهادتهن قال نعم تجوز شهادتهن في الحقوق ذكرها القاضي مستشهدا بقبول الشهادة حال الضرورة.
وظاهر هذه أنه تقبل شهادة النساء منفردات في الوصية مطلقا كما تقبل شهادة الكفار وهذا يؤيد ما ذكرته يعني ما تقدم من أنها تقبل في السفر والحضر إذا لم يكن ثم مسلم.
وفي موضع آخر قال يعني القاضي نقلت من خط أبي حفص عن سندى1 القزاز قال وسئل عن الرجل يوصي بأشياء لأقاربه ويعتق ولا يحضره إلا النساء هل يجوز شهادتهن في الحقوق يحتمل أنها تقبل مع يمين الموصى له كأحد الزوجين.
ويتوجه أن يكون ذلك فيما ليس له منكر فإن الشهادة على الميت ليست كالشهادة على الحي فإنه إما أن يقر أو يجحد فإن جحد كل جحده معارضا لأحدهما وسلم الآخر بخلاف مالا معارض له ولهذا قلنا إن الإمام لا يرجع حتى يسبح به اثنان في الصلاة وهذا فرق معنوي.
وقال أيضا قول الإمام أحمد أقبل شهادتهم إذا كانوا في سفر ليس فيه غيرهم هذه ضرورة فيقتضي عمومه أنها لا تقبل في السفر على كل شيء عند عدم
__________
1 بهامش الأصل: في نسخة عن حبيب القزاز.

(2/276)


المسلمين فتقبل على الإقرار وعلى نفس الموت لأجل انتقال الإرث وزوال النكاح وعلى القتال وعلى غير ذلك وهذا هو القياس الجلي فإنها إذا قبلت على الوصية فلأن تقبل على الموت أولى وأحرى وليس في الوصية معنى إلا وقد يوجد في غيرها مثله أو أقوى أو قريب ولذلك قلنا شهادتهم في إحدى الروايتين بالنسب والولادة في مسألة الحميل إذ ليس هناك من يعلم النسب من المسلمين.
قال وقوله: "هذه ضرورة" يقتضى هذا التعليل قبولها في كل ضرورة حضرا وسفرا وعلى هذا فشهادة بعضهم على بعض ضرورة فلو قيل إنهم يحلفون في شهادة بعضهم على بعض كما يحلفون في شهادتهم على المسلمين وأصحابهم في وصية السفر لكان متوجها ولو قيل بقبول شهادتهم مع أيمانهم في كل شيء عدم فيه المسلمون لكان له وجه وتكون شهادتهم بدلا مطلقا يؤيد ما ذكرته ما ذكره القاضي وغيره محتجا به وهو في الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد "أن رجلا من المسلمين خرج فمر بقرية فمرض ومعه رجلان من المسلمين فدفع إليهما ماله ثم قال ادعوا لي من أشهده على ما قبضتماه فلم يجدوا أحدا من المسلمين في تلك القرية فدعوا أناسا من اليهود والنصارى فأشهدهم على ما دفع إليهما وذكر القصة فانطلقوا إلى ابن مسعود فأمر اليهود أن يحلفوا بالله لقد ترك من المال كذا ولشهادتنا أحق من شهادة هذين المسلمين ثم أمر أهل المتوفى أن يحلفوا أن شهادة اليهود والنصارى حق فحلفوا فأمرهم ابن مسعود أن يأخذوا من المسلمين ما شهدت به اليهود والنصارى وكان ذلك في خلافة عثمان رضي الله عنه".
قال أبو العباس فهذه شهادة الميت على وصيته قد قضى بها ابن مسعود مع يمين الورثة لأنهم المدعون والشهادة على الميت لا تفتقر إلى يمين الورثة.

(2/277)


ـ
ولعل ابن مسعود أخذ هذا من جهة أن الورثة يستحقون بأيمانهم على الشاهدين إذا استحقا إثما فلذلك يستحقون على الوصيين بشهادة الذميين بطريق الأولى وهذا يؤيد ما ذكرته باطنها انتهى كلامه يعني باطن الورقة وسيأتي ذلك.
فظهر من مجموع ذلك أنه هل تقبل شهادة الكفار في غير الوصية في السفر في كل شيء عند عدم المسلمين حضرا وسفرا أو لا تقبل في غير الوصية في السفر أو تقبل ضرورة في السفر خاصة أو تقبل في مسألة الحميل خاصة أربع روايات.
وإذا قبلت شهادتهم فهل يحلفون فيه تفصيل سبق وقد قال ابن حزم اتفقوا على أنه لا يقبل مشرك على مسلم في غير الوصية في السفر.
فصل
قال الشيخ تقي الدين سنح لي في الآية[118:5-106] أن ورثة السهمي1 لما ادعوا الجام المفضض والمخوص فأنكر الوصيان الشاهدان أنه كان هناك جام على ظهر الجام المدعي وذكر مشتريه أنه كان اشتراه من الوصيين صار هذا لوثا يقوي دعوى المدعيين فإذا حلف الأوليان أن الجام كان لصاحبهم صدقا في ذلك وهذا لوث في الأموال نظير اللوث في الدماء لكن هناك ردت اليمين على المدعي بعد أن حلف المدعى عليه فصارت يمين المطلوب وجودها كعدمه كما أنه في الدم لا يستحلف ابتداء وفي كلا الموضعين يعطى المدعي بدعواه مع يمينه وإن كان المطلوب حالفا أو باذلا للحالف وفي استحلاف الله للأوليين دليل على مثل ذلك في الدم حتى تصير يمين الأوليين مقابلة ليمين المطلوبين في حديث ابن عباس رضي الله عنهما "حلفا أن الجام لصاحبهم" وفي حديث عكرمة "ادعيا أنهما اشترياه منه فحلف الأوليان على
__________
1 اسمه بديل بن أبي مريم.

(2/278)


ـ
أنهما ما كتما ولا غيبا" وهي أشياء فكان في هذه الرواية أنه لما كذبهما بأنه لم يكن له جام ردت الأيمان على المدعيين في جميع ما ادعوه.
فجنس هذا الباب أن المطلوب إذا حلف ثم ظهر كذبه هل يقضي للمدعى بيمينه فيما يدعيه لأن اليمين مشروعة في جانب الأقوى فإذا ظهر صدق المدعي في البعض وكذب المطلوب قوى جانب المدعي فحلف كما يحلف مع شاهد واحد وكما يحلف صاحب اليد العرفية مقدما على اليد الحسية.
قال وقال القاضي في أحكام القرآن قوله تعالى [107:5] {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} يعني ظهور شيء من مال الميت في يد الوصي لم يشهدا به {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} يعني في اليمين لأن الوصي يحصل مدعيا والورثة ينكرونه فصارت اليمين عليهم وعسي أنه لو لم يكن للميت إلا وارثان فكانا يدعيا عليها لأن هذه الآية وردت على سبب معين فيحتمل أن يكون الورثة اثنان.
وقال في مسألة القضاء بالنكول هذه الآية وردت في شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر إذا شهدوا على الميت وحلف الشهود إذا كانوا من أهل الذمة ثم ظهر في يد الوصي شيء من مال الميت لم يشهد به الشهود فإن للورثة أن يحلفوا أنه لم يوص به لأنهم منكرون لدعوى الوصي أنه موصى له فيكون قوله تعالى: [108:5] {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} يعني أيمان الورثة فيما ظهر أنه لم يكن موصى به بعد أيمان الشهود أنه كان موصى به.
قال الشيخ تقي الدين كيف بعد أيمان الشهود أنه كان موصى به وقد قال لم يشهد به الشهود لكن كأنه قصد بعد أيمان الشهود فيما شهدوا أنه موصى به وهذا المعنى ضعيف لأن رد اليمين بهذا الاعتبار لأوصيتم1 على
__________
1 كذا في الأصل.

(2/279)


ـ
به حتى يحلفوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم اللهم إلا أن يقال هذا يحملهم على أن يشهدوا بجميع ما قبضه الوصي ولا يكتموا الشهادة ببعض ما قبضه لئلا ترد لكن الشهادة عليه بالقبض ليست شهادة على الميت وهل حكمها حكمها قد بينته في غير هذا الموضع.
وقال يعني القاضي من يقول يرد اليمين على المدعي إذا نكل المطلوب يقول معنى الآية أقر برد أيمان عند عدم أيمانهم.
وقال الشيخ تقي الدين وقد ذكر المالكية مسألة يحكم فيها بيمين المدعيين على أحد القولين وهو ما إذا غار قوم على بيت رجل فأخذوا ما فيه والناس ينظرون إليهم ولم يشهدوا على معاينة ما أخذوه ولكن على أنهم أغاروا وانتبهوا فقال ابن القاسم وابن الماجشون القول قول المنتهب مع يمينه لأن مالكا قال في منتهب الصرة يختلفان في عددها القول قول المنتهب مع يمينه وقال مطرف وابن كنانة وابن حبيب القول قول المنتهب منه مع يمينه فيما يشبه ويحمل على الظالم قال مطرف ومن أخذ من المغيرين ضمن ما أخذه رفاقه لأن بعضهم عون لبعض كالسراق المحاربين ولو أخذوا جميعا وهم أملياء كل واحد منهم ما ينوبه وقال ابن الماجشون وأصبغ في الضمان قالوا والمغيرون كالمحاربين إذا شهروا السلاح على وجه المكابرة كان ذلك على أصل ما مره بينهم1 أو على وجه الفساد وكذلك والى البلد يغير على أهل ولايته وينهب ظلما مثل ذلك في المغيرين.
قال الشيخ تقي الدين المحاربون قصدهم المال مطلقا والمغيرون قصدهم من قوم بأعيانهم.
قال ابن القاسم ولو ثبت أن رجلين غصبا عبدا ففات فله به أخذ قيمته من المليء ويتبع المليء ذمة رفيقه المعدم بما ينوبه انتهى كلامه.
__________
1 كذا في الأصل.

(2/280)


وعنه تقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض.
__________
فصل
قال القاضي لا يحلف الشاهد على أصلنا إلا في موضعين هنا وفي شهادة المرأة بالرضاع.
قال الشيخ تقي الدين هذان الموضعان قبل فيهما الكافر والمرأة وحدها للضرورة فقياسه أن كل من قبلت شهادته للضرورة استحلف.
قوله: "وعنه تقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض".
نقل الجماعة المروذي وأبو داود وحرب والميموني لا تجوز شهادة بعضهم على بعض ولا على غيرهم لأن الله تعالى قال: [282:2] {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وليس الذمي ممن نرضى وبه قال مالك والشافعي.
قال القاضي ونقل حنبل عنه تجوز شهادة بعضهم على بعض.
واختلف أصحابنا في ذلك فقال أبو بكر الخلال وصاحبه غلط حنبل فيما نقل والمذهب أنه لا تقبل.
وكان شيخنا1 يحمل المسألة على روايتين إحداهما تجوز شهادة بعضهم على بعض على ظاهر ما رواه حنبل والثانية لا تجوز وهو الصحيح انتهى كلامه.
قال أبو الخطاب وقال ابن حامد وشيخنا المسألة على روايتين قال وهو الصحيح فإن حنبلا ثقة ضابط وروايته أقوى في باب القياس ويعضد هذا أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أجاز شهادتهم على المسلمين في الوصية في السفر فلولا كونهم أهلا للشهادة لما جازت ونصر أبو الخطاب هذه الرواية وهي قول أبي حنيفة وجماعة.
__________
1 لعله يعني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. لأنه شيخ ابن مفلح

(2/281)


ـ
قال الشيخ تقي الدين وهي إن شاء الله أصح انتهى كلامه وقد روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة بعضهم على بعض رواه ابن ماجة وغيره من رواية مجالد وهو ضعيف عند الأكثر ويحتمل أنه أراد اليمين فإنها تسمى شهادة قال الله تعالى: [6:24] {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} .
وقال الشيخ تقي الدين وهذا الخلاف على أصلنا إنما هو حيث لا نجيز شهادتهم على المسلمين فأما إذا أجزنا شهادتهم على المسلمين فعلى أنفسهم أولى كما ذكره الجد في الوصية في السفر وقد ذكر في قبول شهادتهم في كل ضرورة غير الوصية روايتين كالشهادة على الأنساب التي بينهم في دار الحرب فعلى هذه الرواية تقبل شهادة بعضهم على بعض في كل موضع ضرورة كما تقبل على المسلمين وأولى بنفي التحليف وضرورة شهادة بعضهم على بعض أكثر من ضرورة المسلمين فيقرب الأمر انتهى كلامه وقد تقدمت هذه الرواية التي ذكرها.
وأما على الرواية التي تقبل شهادة بعضهم على بعض فتقبل مطلقا بعضهم تصريحا وبعضهم ظاهرا لما في تكليفهم إشهاد المسلمين من الحرج والمشقة وعلى هذه الرواية لا يختلف.
وتقدم كلام الشيخ تقي الدين فتارة مال إليه مطلقا وتارة فصل وعلى هذه الرواية تعتبر عدالته في دينه صرح به القاضي وأبو الخطاب وغيرهما ولم أجد ما يخالفه صريحا.
فصل
ترجم القاضي وغيره المسألة بقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض.
وترجم أبو الخطاب وغيره المسألة بقبول شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض وقال في أثناء بحث المسألة فأما الحربي فلا تقبل شهادته على أهل ذمتنا.

(2/282)


وفي اعتبار اتحاد الملة وجهان والأول المذهب.
ولا تقبل شهادة الصبيان بحال.
__________
لعلوه على ذمة الإسلام ولانقطاع الولاية بينه وبين أهل الذمة فأما شهادته على حربي مثله فتقبل.
فظهر من ذلك أنه هل تقبل شهادة المستأمن والحربي أولا أو تقبل على مثله خاصة فيه ثلاثة أقوال وأنه هل تقبل شهادة الذمي على المستأمن والحربي فيه قولان.
قوله: "وفي اعتبار اتحاد الملة وجهان".
ذكر أبو الخطاب وغيره ما معناه أنه إنما لم تقبل شهادتهم على المسلمين لأنهم يعادونهم بالباطل وشهادة العدو لا تقبل ولا يلزمنا شهادة اليهود على النصارى فإنا لا نقبلها إذا قلنا الكفر ملل وهو رواية لنا وبه قال قتادة والزهري وابن أبي ليلى وأبو عبيدة وإسحاق.
وإذا قلنا الكفر ملة واحدة وهي رواية لنا قبلناها وهو قول أبي حنيفة وبينهم عداوة ظاهرة وهي عداوة بباطل ويجوز أن يقال بل وعدواتهم بحق لأن اليهود تنكر على النصارى قولهم المسيح ابن الله وهو إنكار بحق والنصارى تنكر على اليهود جحد نبوة عيسى وقولهم عزيز ابن الله وهو إنكار بحق فقبلت شهادتهم كشهادة المسلمين عليهم.
قوله: "ولا تقبل شهادة الصبيان بحال".
هذا هو المذهب وذكر جماعة أنه أصح الروايات منهم القاضي وقال نقل ذلك الميموني وحرب وابن منصور فقال لا تجوز شهادة الصبي حتى يحتلم أو يتم له خمسة عشر سنة وهو اختيار الخرقي وأبي بكر انتهى كلامه واختاره غيرهما من الأصحاب وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي.

(2/283)


وعنه تقبل من المميزين إذا وجدت فيهم بقية الشروط وعنه لا تقبل إلا في الجراح إذا أدوها قبل تفرقهم عن الحال التي تجارحوا عليها.
__________
قوله: "وعنه تقبل من المميزين إذا وجدت فيهم بقية الشروط".
قال القاضي وفي رواية أخرى تجوز شهادته في الجملة إذا كان مميزا وهو ظاهر ما رواه ابن إبراهيم وسئل هل تجوز شهادة الغلام قال إذا كان ابن عشر سنين أو اثنى عشرة سنة وأقام شهادته جازت شهادته انتهى كلامه.
وهذا النص إنما يدل لما ذكره بعض الأصحاب من أنه تقبل شهادة ابن عشر لأنه يضرب على الصلاة أشبه البالغ ولم أجد ما ذكره المصنف نصا عن الإمام أحمد ووجهه أنه مأمور بالصلاة أشبه البالغ وقد يقال إذا وجدت فيه بقية الشروط يدخل في قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} قال ابن حامد تقبل على هذه الرواية في غير الحدود والقصاص كالعبد.
قوله: "وعنه لا تقبل إلا في الجراح إذا أدوها قبل تفريقهم عن الحال التي تجارحوا عليها".
لأن الظاهر صدقهم وضبطهم وإذا تفرقوا احتمل أن تلغو.
قال القاضي وفيه رواية أخرى تجوز شهادتهم في الجراح والقتل إذا جاءوا مجتمعين على الحال التي تجارحوا عليها أو يشهد على شهادتهم قبل أن يتفرقوا ولا يلتفت بعد ذلك إلى رجوعهم فأما إن تفرقوا ثم شهدوا بها لم تقبل وهذا ظاهر ما نقله حنبل عنه تجوز شهادة الصبيان فيما بينهم في الجراح فإذا كانوا في المالا1 بأنهم عقلوا.
__________
1 كذا في الأصل غير منقوطة ولعلها "تثبتنا شهادتهم إذا عقلوا" أو نحو هذا.

(2/284)


ـ
قال القاضي فقد أطلق القول بجوازها في الجراح لكنه محمول على التفصيل الذي ذكرناه لأنه صار في ذلك إلى قول على وهو على ذلك الوجه وذكر القاضي أن هذا قول مالك ومن الأصحاب من جمع ذلك وذكر روايتين.
قال القاضي بعد كلامه المذكور وقد ذكر أبو بكر هذه الرواية على التفصيل الذي ذكرنا في تعاليق أبي إسحاق فقال روى عن علي رضي الله عنه قال شهادة الصبيان بعضهم على بعض تجوز ما كانوا في الموضع فإذا تفرقوا لم تقبل قال أحمد ابن حنبل كذلك وزاد فإذا تفرقوا لم تقبل لأنه يمكن أن يجيبوا انتهى كلامه وليس ما ذكره موافق لما ذكره القاضي وإنما هو رواية أخرى بقبول شهادتهم بعضهم على بعض في كل شيء ما كانوا في الموضع فإذا تفرقوا لم تقبل.
قال الإمام أحمد في رواية المروزي حدثنا محمد بن جعفر حدثنا سعيد عن قتادة عن خلاس أن عليا قال شهادة الصبيان على الصبيان جائزة وذكره في المغني عن علي وعن جماعة وهو قول في الرعاية فقال وقيل تقبل على مثله وعن أحمد ما يدل عليه قال عبد الله سألت أبي عن شهادة الصبيان فقال علي أجاز شهادة الصبيان الذين عرفوا بعضهم على بعض وروى سعيد حدثنا هاشم عن مغيرة عن إبراهيم قال "كانوا يجيزون شهادة الصبيان بعضهم على بعض فيما كان بينهم" فهذه ثمانية أقوال في المذهب إن لم يكن رواية عن الإمام أحمد وسيأتي في الفصل بعد هذا حكاية القاضي أن شهادتهم بالمال لا تقبل.
فصل
قال الشيخ تقي الدين وذكر القاضي أنه لا يقبل إقراره وفاقا قال وهذا عندي عجيب واعتذروا عنه بأن إقراره لا يكون إلا بالمال إما عليه وإما

(2/285)


ولا تقبل شهادة الأخرس بالإشارة نص عليه.
__________
على غيره قال وذكر عنهم أن الخلاف في الشهادة على الجراح الموجب للقصاص فأما الشهادة بالمال فلا تقبل قال الشيخ تقي الدين وهذا أيضا عجيب فإن الصبيان لا قود بينهم وإنما الشهادة بما يوجب المال وما أظن إلا أنهم أسقطوا الإقرار لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف بخلاف المشهود به ولا تقبل في إتلاف بعضهم ثياب بعض وهل تقبل شهادة الصبيان على المعلم ذكرابن القصار فيه خلافا بين أصحابه انتهى كلامه.
وذكر في المغني أن إقرار الصبي لا يصح بغير خلاف نعلمه واحتج بقوله عليه الصلاة والسلام."رفع القلم عن ثلاث فذكر منهم الصبي حتى يبلغ" ولأنه التزام حق بالقول فلم يصح منهم كالبلغ وما ذكره القاضي من أن الخلاف عنهم في الشهادة على الجراح الموجب للقصاص فأما الشهادة بالمال فلا تقبل تقدم أنا قبلنا شهادتهم وقال ابن حامد في غير الحدود والقصاص كالعبد.
وما ذكره من أنها لا تقبل في إتلاف بعضهم ثياب بعض هذا ينبغي أن يكون على رواية حنبل لا تقبل إلا في الجراح أما على غيرها من روايات القبول فتقبل وحكاية ابن القصار الخلاف في قبول شهادتهم على المعلم يدخل في الأقوال السابقة القبول وعدمه والمذهب عدم القبول مطقا كما تقدم.
قوله: "ولا تقبل شهادة الأخرس بالإشارة نص عليه".
فقال في رواية حرب من كان أخرس فهو أصم لا تجوز شهادته وهذا هو المذهب المنصور وبهذا قال أبو حنيفة وحكاه القاضي وغيره عن الشافعي لأنها محتملة والشهادة يعتبر فيها اليقين فلم تقبل كإشارة الناطق وإنما قبلت في أحكامه المختصة به كالطلاق والعتق والنكاح والبيع واللعان واليمين للضرورة

(2/286)


وتوقف فيما إذا أداها بخطه واختار أبو بكر أن لا تقبل وعندي أنها تقبل.
وقيل تقبل بالإشارة ممن فهمت منه فيما طريقة الرؤية وقد أومأ إليه أيضا.
وتجوز شهادة الأصم في المرئيات وبما سمعه قبل صممه.
__________
وهي هنا معدومة وهي أن تلك الأشياء لا تستفاد إلا من جهته بخلاف الشهادة وقال القاضي وقد قيل إن تلك الأشياء ينبنى أمرها على غالب الظن دون الشهادة.
قوله: "وتوقف فيما إذا أداها بخطه واختار أبو بكر أن لا تقبل وعندي أنها تقبل".
قيل للإمام أحمد في رواية حرب فإن كتبها فقال لم يبلغني فيه شيء قال أبو بكر عبد العزيز لا يعمل على الكتاب والشهادة لا تجوز على من لا يعرف.
وكأن وجه قول أبي بكر وصاحب المحرر الاختلاف في الكتابة هل هي صريحة حتى لو كتب طلاق امرأته ولم ينو فيه قولان.
قوله: "وقيل تقبل بالإشارة الخ".
هذا قول مالك لأنها أقيمت مقام نطقه في أحكامه فكذا في شهادته وحكاه في المغني عن الشافعي وهذا أحد الوجهين في مذهبه والأصح فيه عدم القبول.
قوله: "وتجوز شهادة الأصم في المرئيات وفيما سمعه قبل صححه".
لأنه في ذلك كمن لا صمم به ولأنه فيما رآه كغيره من الناس وقال الشيخ تقي الدين قال القاضي في مسألة الأعمى العمى فقد حاسة لا تمنع النظر1
__________
1 كذا بالأصل. ولعله "تمنع النظر ولا تمنع السمع"

(2/287)


وتجوز شهادة الأعمى في المسموعات.
__________
والسمع فلم تمنع من تحمل الشهادة كفقد الشم والذوق ولا يلزم عليه الخرس لأنه يمنع النطق ولا يلزم عليه الصمم لأنه يمنع السمع ولذلك قال بعد ذلك لا ينتقض بالأخرس وبالأطرش ثم قال الأصم لا يجوز قضاؤه ويصح أداء الشهادة منه ذكره محل وفاق.
قوله: "وتجوز شهادة الأعمى في المسموعات".
يجوز للأعمى تحمل الشهادة فيما طريقه الصوت كالنسب والموت والملك المطلق والوقف والعتق والولاء وسائر العقود كالنكاح والبيع والصلح والإجارة والإقرار نص عليه في رواية مهنا فقال تجوز شهادة الأعمى في نسب الرجل إذا عرف أنه فلان وتجوز في النكاح شهادة مكفوفين ولا تجوز شهادة أعمى في الزنا ولذلك نقل الأثرم عنه قال إذا كان شيئا يضبطه مثله في النسب وما أشبهه ودار قد عرف حدودها قبل عماه فإن كان أعمى لم يزل فعلى ما يشبه أن يقوم به مثله ذكره القاضي وهو معنى كلام غيره وهو قول مالك وابن المنذر وروى عن علي وابن عباس قال أحمد في رواية مهنا قد أجاز على شهادة أعمى يروى من حديث أبي عوانة عن الأسود بن قيس أن عليا "أجاز شهادة أعمى" واحتج في الرواية محمد بن الحكم بالذين سمعوا من عوانة مثل الأسود وغيره وهذا أعظم لأنه يؤخذ به ويعمل به ويحكم لأنه يحصل له العلم بذلك وتجوز روايته بالسماع واستماعه لزوجته فجازت شهادته كالبصير وهذا بخلاف ما طريقه الرؤية لأنه لا رؤية له وقال أبو حنيفة لا تقبل في شيء أصلا مع تسليمه أن النكاح ينعقد بشهادة أعميين قال الإمام أحمد في رواية مهنا شهد قتادة عند إياس بن معاوية وهو أعمى فرد شهادته وقال الشافعي تقبل في ثلاث مواضع أحدها ما طريقه الاستفاضة كالنسب

(2/288)


وبما رآه قبل عماه إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه فإن لم يعرفه إلا بعينه فوصفه فوجهان.
__________
والموت والنكاح ونحوه والثاني الضبط وهو أن يتعلق بإنسان فيسمع إقراره فيجوز أن يشهد عليه الثالث في الترجمة.
قوله وبما رآه قبل عماه إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه.
وبه قال الشافعي لما تقدم ولحدوث الصمم وروى الخلال عن إسماعيل بن سعيد سألت الإمام أحمد عن شهادة الأعمى فيما قد عرفه قبل أن يعمى فقال جائز في كل ما ظنه مثل النسب ولا تجوز في الحدود وقال أبو حنيفة لا تجوز أصلا وذكر أحمد عن أصحاب أبي حنيفة الجواز في هذه المسألة.
قوله: "فإن لم يعرفه إلا بعينه فوصفه فوجهان".
من الأصحاب من يعيد هذا إلى المسألة الأخيرة قال القاضي فإن تحمل الشهادة على الأفعال ثم آداها وهو أعمى جاز سواء كان على الاسم والنسب أو على الأعيان دون الاسم والنسب على ظاهر ما رواه الأثرم عنه.
وقوله: "إذا كان شيئا يضبطه وقد عرفه قبل عماه".
قال وقال أصحاب الشافعي إن كان قد تحملها على الاسم والنسب جاز وجها واحدا وإن كان على الأعيان فعلى وجهين.
وقال بعض أصحابنا بعد أن ذكر هذين الوجهين وكذا قيل إن عرفه بصوته فوصفه للحاكم بما يميزه فيه الوجهان ووجه الجواز عموم ما تقدم ووجه عدمه أن هذا مما لا ينضبط غالبا.
فصل
فأما الشهادة على الأفعال فلا تجوز ذكره القاضي محل وفاق واعتذر

(2/289)


ـ
بأن الأفعال طريقها المشاهدة وذلك لا يمكن حصوله من الأعمى وكذلك ذكره غير القاضي.
قال الشيخ تقي الدين ما علمه بالاستفاضة كالولادة شهد به على قول الخرقي انتهى كلامه وهو معنى كلام القاضي والشيخ موفق الدين وغيرهما لأنه فيما علم بالاستفاضة كالبصير.
فصل
قال الشيخ تقي الدين بعد مسألة شهادة الأعمى كذلك إذا تعذر وجود1 المشهود عليه بموت أو غيبة أو حبس فشهد البصير على حليته إذ في الموضعين تعذرت الرؤية من الشاهد فأما الشاهد نفسه هل له أن يعين من رآه وكتب صفته أو ضبطها ثم رأى شخصا بتلك الصفة هذا أبعد فإن ذاك تعريف من الحاكم وهذا تعريف من الشاهد وهو شبيه بخطه إذا رآه ولم يذكر الشهادة انتهى كلامه.
فصل
فإن قال الأعمى أشهد أن لفلان علي هذا شيئا ولم يذكر اسمه ونسبه أو شهد البصير على رجل من وراء حائل ولم يذكر اسمه ونسبه لم يصح ذكره القاضي محل وفاق أصلا للمخالف وفرق بأن المشهود عليه مجهول.
قال الشيخ تقي الدين قياس المذهب أنه إذا سمع صوته صحت الشهادة عليه أداء كما تصح الشهادة عليه تحملا فإنا لا نشترط رؤية المشهود عليه حين التحمل ولو كان الشاهد بصيرا فكذلك لا نشترطها عند الأداء وهذا نظير إشارة البصير إلى الحاضر إذا سماه ونسبه وهو لا يشترط في أصح الوجهين فكذلك
__________
1 في نسخة أخرى: حضور

(2/290)


ـ
إذا أشار إليه لا تشترط رؤيته قال وعلى هذا فتجوز شهادة الأعمى على من عرف صوته وإن لم يعرف اسمه ونسبه ويؤديها عليه إذا سمع صوته.
فصل
قال القاضي ضمن المسألة وأيضا فإن حدوث العمى بعد تحمل الشهادة لم يتعذر معه إلا معاينة المشهود عليه والإشارة إليه وهذا لا يمنع من سماع شهادته وقبولها لأن المقصود بمعاينته والإشارة إليه هو تعيينه وتمييزه عن غيره ليصير معلوما عند الحاكم فيتمكن بذلك من إنفاذ الحكم عليه وهذا يحصل مع حدوث العمى بما يصفه بلسانه من اسمه ونسبه وصفاته التي تميزه وتعينه.
فإن قيل لو كان التعيين باللسان يقوم مقام الإشارة لوجب أن يصح في البصر إذا شهد قيل يصح ذلك من البصير من غير حضور الخصم ويكون التعيين باللسان بناء على قولنا في القضاء على الغائب وسماع البينة عليه فإن حضر الخصم احتمل أن تقبل الشهادة عليه من غير إشارة إليه إذا ذكر اسمه ونسبه وهو الصحيح واحتمل أن تجب الإشارة إليه مع الحضور لأنه أقرب إلى علم الحاكم به وفصل الحكم بينه وبين خصمه بخلاف الأعمى فإن فصل الحكم يحصل بسماع كلامه لتعذر الإشارة من جهته بدليل جواز الشهادة على الغائب عند المخالف بلا إشارة وإذا حضر وجبت الإشارة.
قال الشيخ تقي الدين الأعمى تمكن منه الإشارة إذا عرف الصوت قال القاضي وأيضا فإنه ليس من شرط صحة الشهادة معاينة المشهود عليه بدليل اتفاقهم على جواز الشهادة على الميت والموكل الغائب.
وقال أيضا تعيين الشهود عليه للحاكم يحصل بالتسمية والنسبة والصفة.

(2/291)


ولا تقبل شهادة من يجر إلى نفسه بها نفعا.
__________
قال الشيخ تقي الدين فقد سووا بين شهادة الأعمى وبين شهادة البصير على الغائب والميت وفي شهادة الأعمى بالصفة دون الاسم والنسب وجهان فكذلك الشهادة على الغائب والميت والضابط أن كل شهادة على غير معاين فإنه يشهد فيه بالاسم والنسب إن عرفه وإن لم يعرفه ففي الشهادة بالجلية وجهان.
فصل
وقد تقدم بعض ذلك عند قوله في المحرر "والسماع على ضربين".
فصل
ولا يمتنع أن تقبل شهادة الأعمى قياسا على شهادة غيره على ظاهر كلامه وإطلاقه.
قوله: "ولا تقبل شهادة من يجر إلى نفسه بها نفعا".
للتهمة وقد تقدم الحديث في ذلك قال صالح قال أبي كل من شهد بشهادة يجر بها إلى نفسه شيئا شهادته وكذا نقل عنه أبو الحارث ونص أحمد في رواية أبي الصقر أن كل من جر إلى نفسه منفعة لا تجوز شهادته ويدخل في كلامه وكلام غيره ما صرح به ابن عقيل وغيره من أنه لو لم يحكم بشهادتهما حتى مات المشهود له فورثاه لم يحكم بشهادتهما لأنه لو حكم حكم بشهادة الشاهدين لأنفسهما.
ومراده في المحرر "من يجر إلى نفسه بها نفعا" حال الشهادة بدليل ما يأتي وهو معنى كلام الأصحاب رحمهم الله تعالى فلو شهد غير وارث فصار عند الموت وارثا سمعت دون العكس كذا ذكر بعضهم هذه المسألة.

(2/292)


كشهادة السيد لمكاتبه والمكاتب لسيده والوصي للميت والغرماء للمفلس بالمال بشرط الحجر.
__________
وتحريرها على ما ذكره بعضهم أن طرآن الإرث بعد الحكم بالشهادة لا يضر كطرآن الفسق وإن كان طرأ قبل الحكم بالشهادة لم يحكم بها لأنهما صارا مستحقين كما لو طرأ الفسق قبل الحكم.
قوله: "كشهادة السيد لمكاتبه والمكاتب لسيده".
وذكر القاضي شهادة المرء لنفسه أو لعبده لا تجوز جعله محل وفاق في مسألة مجهول النسب.
قوله: "والوصي للميت".
لأنه يأكل منه عند الحاجة ولأنه يثبت له فيه حق التصرف قال ابن منصور قلت للإمام أحمد سئل سفيان عن شهادة الوصي قال إذا شهد على الورثة جاز وإذا شهد لهم لم يجز وقال حرب سمعت الإمام أحمد يقول شهادة الوصي إذا كان لا يجر إلى نفسه شيئا جائزة وهذا مذهب الأئمة الثلاثة.
قال في المغني والحكم في أمين الحاكم يشهد للأيتام الذين هم تحت ولايته كالحكم في الوصي قياسا عليه فأما شهادته عليه فمقبولة كما نص عليه الإمام أحمد وهو ظاهر كلام الأصحاب قال في المغني لا نعلم فيه خلافا.
وقال القاضي ويخرج على ذلك ما قاله في الأب من الروايتين يعني في شهادته على ولده.
وذكر الشيخ تقي الدين أنها تجوز قال إلا أن يقال قد يستفيد بهذه الشهادة نوع ولاية في تسليم ومثله شهادة المودع وفي مثله أودعنيها فلان وملكها فلان.
قوله: "والغرماء للمفلس بالمال بشرط الحجر لتعلق حقوقهم به".

(2/293)


وأحد الشفيعين يعفو الآخر عن شفعته والوكيل لموكله أو الشريك لشركيه بما هو وكيل أو شريك فيه.
__________
وقيل الحجر إنما يتعلق حقوقهم بذمته وثبوت المطالبة لهم لم تثبت بشهادتهم بل بيساره وإقراره لدعواه الحق الذي شهدوا به وذكر القاضي أنه إذا شهد لغريمه المعسر بمال قبلت شهادته وإن كان يستفيد القضاء جعله محل وفاق لأن دينه ثابت في ذمة غريمه سواء كان غنيا أو فقيرا وحق المطالبة ثابت أيضا وليس يثبت بشهادته له حقا لنفسه لم يكن ثابتا قبل ذلك وإختار ابن حمدان أنه لا تقبل شهادته قبل الحجر مع إعساره وذكر القاضي أيضا وغيره أنه إذا شهد الأخ المعسر لأخيه المعسر بمال قبلت شهادته وله النفقة1 جعله محل وفاق كما تقبل الشهادة على رجل أنه أخذ من بيت المال وإن جاز أن يثبت له حق في بيت المال.
قوله: "وأحد الشفيعين بعفو الآخر عن شفعته".
لأنه متهم لتوفرها عليه وتقبل بعد إسقاطه شعفته لعدم التهمة.
قوله: "والوكيل لموكله والشريك لشريكه بما هو وكيل أو شريك فيه".
نص عليه الإمام أحمد في الشريك لشريكه في رواية ابنيه وغيرهما وعلل بجر المنفعة وقال في المغني بعد أن ذكر أنه قول جماعة منهم الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا فإن شهد الوكيل لموكله بعد العزل فوجهان وإن كان
__________
1 الذي نقله الشيخ تقي الدين بن تيمية عن القاضي: أنه في التعليق: وإذا شهد الأخ المعسر لأخيه المعسر بمال. فإن شهادته مقبولة، وإن كان يجر بشهادته له النفقة.

(2/294)


والوارث يجرح موروثه قبل اندماله ونحوهم وفي شهادة الوارث لموروثه في مرضه بدين وجهان فإن قلنا تقبل فحكم بها لم يتغير الحكم بالموت بعده.
ولا تقبل شهادة من يدفع بها عن نفسه ضررا.
__________
قد خاصم فيه ردت وكذلك شهادة الوصي ليتيم في حجره فإن شهد على موكله قبلت وذكر الشيخ تقي الدين فيه كلامه المكتوب في شهادة الوصي على الميت.
قوله: "والوارث يجرح موروثه قبل اندماله ونحوهم" لأنه قد يسرى إلى النفس فتجب الدية للشاهد ابتداء.
قوله: "وفي شهادة الوارث لموروثه في مرضه بدين وجهان".
أحدهما لا تقبل لأنه قد انعقد سبب استحقاقه بدليل أن عطيته للوارث وفي الزائد على الثلث يقف على الإجازة وكالمسألة قبلها والثاني تقبل ذكر في المغني أنه الأظهر كما لو شهدا له وهو صحيح والحق المشهود به في هذه المسألة إنما يحب للمشهود له ثم احتمال انتقاله إلى الشاهد لا يمنع الشهادة له كالشهادة لغريمه.
قوله: "فإن قلنا تقبل فحكم بها لم يتغير الحكم بالموت بعده".
وكذا ذكر الشيخ موفق الدين وغيره لما تقدم من أن طرآن المانع بعد الحكم بالشهادة لا يؤثر فيها كالفسق.
قوله: "ولا تقبل شهادة من يدفع بها عن نفسه ضررا كشهادة من لا تقبل شهادته لإنسان يجرح الشاهد عليه".
قال حرب سمعت الإمام أحمد يقول لا تجوز شهادة دافع الغرم لأنه يدفع عن نفسه وقد تقدم الحديث في ذلك وقد قال الزهري مضت السنة في الإسلام أن لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين والظنين المتهم وروى سعيد

(2/295)


كشهادة من لا تقبل شهادته للانسان يجرح الشاهد عليه.
__________
حدثنا عبدالعزيز بن محمد أخبرني محمد بن زيد بن المهاجر عن طلحة بن عبد الله ابن عوف قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اليمين على المدعى عليه ولا شهادة لخصم ولا ظنين مرسل جيد.
قوله: "كشهادة من لا تقبل شهادته".
ليس مثالا ومراده والله أعلم شهادة من يدفع عن نفسه بها ضررا لا تقبل ولو كان قال ولا شهادة من لا تقبل شهادته كان حسنا.
قال الشيخ تقي الدين عن كلامه في المحرر هذا ما دفع الضرر عن نفسه وإنما دفعه عمن لا يشهد له فهو بمنزلة من جر بشهادته إلى من لا يشهد لا يشهد له فلو قيل لا تقبل شهادة من يجر إلى نفسه أو إلى من يتهم له أو يدفع عن نفسه أو من يتهم له لعم نعم لو جرح الشاهد على نفسه انتهى كلامه.
وقد ذكر في الرعاية الكبرى في شهادة الوالد لولده والعكس أن مكاتب والديه وولده كهما في ذلك وذكر ابن عقيل أنه لا تقبل شهادة العبد لمكاتب سيده.
قال ويحتمل على قياس ما ذكرناه أن لا تصح شهادته لزوج مولاته بالحقوق لأن في ذلك جر نفع لسيدته وبعضها يعود بنفعه انتهى كلامه.
وكلام أكثرهم يدل على القبول ويدخل في كلامه في المحرر شهادة العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ لدفعهم الدية عنهم وظاهره قبول شهادته إذا كان لا يحمل من الدية شيئا لفقره أو لبعده وهو ظاهر كلام غيره.
وذكر غير واحد احتمالين أحدهما هذا والثاني لا تقبل لجواز أن يؤسر أو يموت قبل الحلول فيحمل.
فظهر أن احتمال تجدد الحق له لا يمنع قبول الشهادة إلا أن يجب له ابتداء

(2/296)


ولا تقبل شهادة العدو على عدوه كمن شهد على قذفه أو قطع الطريق عليه.
__________
كشهادة الوارث لموروثه بالجرح قبل الاندمال وإلا لمن يعتقد سبب استحقاقه كشهادة الوارث لمورثه في المرض فإن في هذه المسألة وجهين كما تقدم واحتمال تجدد الحق عليه لا يمنع إلا بعد وجود السبب كمسألة العاقلة.
قوله: "ولا تقبل شهادة العدو على عدوه كمن شهد على من قذفه أو قطع الطريق عليه".
أطلق العداوة وليس كذلك ولعل المثال يؤخذ منه تقييد المطلق وهو مراده قال القاضي شهادة العدو على عدوه غير مقبولة ذكره الخرقي فقال لا تقبل شهادة خصم وإنما يكون هذا في عداوة لا تخرجه عن العدالة مثل الزوج يقذف زوجته ولا تقبل شهادته عليها وكذلك من قطع عليه الطريق لا تقبل شهادته على القاطع وقد أومأ إليه أحمد في رواية ابن منصور في رجل خاصم مرة ثم ترك ثم شهد لم تقبل وهو قول مالك والشافعي وقال أبو حنيفة تقبل وهذا في عداوة لا تخرج إلى الفسق فإذا أخرجت فلا خلاف فيها واحتج القاضي وغيره بالأحاديث السابقة قال القاضي ولأنه متهم في شهادته بسبب منهى عنه فوجب أن لا تقبل شهادته كالفاسق.
قال الشيخ تقي الدين وهذا جيد والمقطوع والمقذوف ليس في حقه سبب منهى عنه فهذا يخالف ما ذكره أولا اللهم إلا أن يراد به عادي قاذفه وقاطعه فإن هجره المنهي عنها فهذا أقرب لكن يخالف ما ذكر أولا في الظاهر.
وكذلك قال القاضي في الفرق بين عداوة المسلم للذمي وعداوته للمسلم مع أن عداوة المسلم للذمي مأمور بها وعداوة المسلم للمسلم منهي عنها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :. "لا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عبادا لله إخوانا" .

(2/297)


ـ
فلم يكن اعتبار إحداهما بالأخرى لأن المسلم يعادي الذمي من طريق الدين وهو لا يدعوه إلى ما يخاف من ذنبه ومن الكذب عليه وعداوة المسلم للمسلم عدواة تحاسد وتنافس وتباغض وهذا يحمل من طريق العادة والجبلة على مخالفة الدين والإضرار به بالكذب والمين.
قال الشيخ تقي الدين وهذا يقتضي أن عدواة المتدين بذلك متأولا لا تمنع قبول الشهادة فصار على الظاهر فيها ثلاثة أوجه انتهى كلامه.
وقال أيضا ليس في كلام أحمد ولا الخرقي تعرض للعدو وإنما هو الخصم والتفريق بين الخصم في الحديث موافق لما قلت وقد يخاصم من ليس بعدو وقد يعادي من ليس بخصم وإنما الخصم هو المدعي أو المدعى عليه فشهادته شهادة مدع أو مدعى عليه ولا يجوز أن يراد به أن كل من خاصم شخصا في شيء مرة لم تقبل شهادته عليه في غير ذلك إذا لم يكن بينهما إلا مجرد المحاكمة فإن محاكمته في ذلك الشيء بمنزلة مناظرته في علم وقد يكون المتحاكمان عارفين للحق لا يدعي أحدهما ظلم الآخر بمنزلة المحاكمة في المواريث وموجبات العقود وهو أحد نوعي القضاء الذي هو إنشاء من غير إنكار ولا بينة ولا يمين ولا يحمل كلام أحمد على هذا وإنما أراد والله أعلم أن من خاصم في شيء مرة ثم شهد به لم تقبل شهادته لأنه بمنزلة من ردت شهادته لتهمة ثم أعادها بعد زوال التهمة وهنا المخاصم طالب فإذا شهد بعد ذلك فهو متضمن تصديق نفسه فيما خاصم فيه أولا وهذا يدخل فيه صور.
منها أن يخاصم في حقوق عين هي ملكه ثم تنتقل العين إلى غيره فيشهد ومنها أن يكون وليا ليتيم أو وقف ونحوهما ويخاصم في شيء من أموره ثم يخرج عن الولاية ويشهد به.
ومنها أن يكون وكيلا فيخاصم ثم تزول وكالته فيشهد فيما خاصم فيه.

(2/298)


ـ
فإذا قيل شهادة العدو غير مقبولة فإنما هو من عادى أما المقطوع عليه الطريق إذا شهد على قاطعه فهذا لا معنى له إذ يوجب أن لا يشهد مظلوم على ظالمه مع أنه لم يصدر منه ما يوجب التهمة في حقه.
والتحقيق أن العداوة المحرمة تمنع قبول الشهادة وإن لم تكن فسقا لكونها صغيرة أو صاحبها متأولا مخطئا وفيه نظر كعداوة الباغي للعادل وكما كان بين بعض السلف وكذلك مداعاة القاضي كذلك وقد كتبته قبل1 فأما المباحة ففيه نظر انتهى كلامه.
وقال أيضا الواجب في العدو والصديق ونحوهما أنه إن علم منهما العدالة الحقيقية قبلت شهادتهما وأما إن كانت عدالتهما ظاهرة مع إمكان أن يكون الباطن بخلافها لم تقبل ويتوجه مثل هذا في الأب وسائر هؤلاء انتهى كلامه.
وذكر في المستوعب والرعاية وغيرهما أن شهادة العدو لا تقبل على عدوه وجعلوا من ذلك الخصم على خصمه وقيد جماعة العداوة بكونها لغير الله.
قال في المغني المراد بالعداوة هنا العداوة الدنيوية ومثل كما في المحرر وغيره أما العداوة في الدين كالمسلم يشهد على الكافر أو المحق من أهل السنة يشهد على المبتدع فلا ترد شهادته لأن العداوة في الدين والدين يمنعه من ارتكاب محظور في دينه وزاد في الرعاية على قيد كونها لغير الله ظاهرة.
وقد قال القرطبي وغيره في قوله تعالى: [135:4] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} الآية في هذا دليل على نفوذ حكم العدو على عدوه في الله ونفوذ شهادته عليه لأنه أمره بالعدل
__________
1 بهامش النكت: هذا المضروب بالأحمر ليس من كلام الشيخ تقي الدين ولا فهمت ما هو. وهو الكلام الموضوع تحته خط.

(2/299)


ـ
وإن أبغضه ولو كان حكمه عليه وشهادته لا تجوز مع البغض له لما كان لأمره بالعدل فيه وجه.
وقال ابن عقيل التهم إنما تقدح إذا كانت تهمة قادحة لفرط الإشفاق في الأبوة والعداوة بين المتعادين والفسق الذي يزيل العدالة وتزول معه الثقة فأما ما بعد التهمة التي إذا علق الرد عليها انسد باب الشهادة فلا بدليل أن الأختان والأصهار يتضاغنون وأهل الصناعة الواحدة يتحاسدون والمختلفون في المذاهب يتخارصون ولكن لما بعد ذلك ولم يخل منه أحد سقط اعتباره ولم يمنع قبولها لئلا ينسد باب الشهادة وكذلك القرابة كلها تعطى إشفاقا وعصبية حتى القبيلة انتهى كلامه.
واحتج الخصم أن هذه العداوة فلا تمنع قبول الشهادة كالصداقة كشهادته له.
وأجاب القاضي وغيره بأن الشرع ورد بالتفرقة بين العداوة والصداقة فإنه صلى الله عليه وسلم قبل شهادته خزيمة بن ثابت لنفسه ونحن نعلم أن صداقة الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم تزيد على كل صداقه ورد شهادة العدو بقوله: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين" "ولا تقبل شهادة ذي طعن" ولأن الصداقة لا تحمل على الكذب للصديق والعداوة تحمل على الكذب ولا تمنع العدالة منه وهذا معلوم بالعادة من طباع الناس وخلقهم وجبلتهم.
وأما شهادة العدو لعدوه فتقبل ذكره القاضي محل وفاق غير مرة لأنه متهم عليه غير متهم له فهو على ما قلنا في شهادة الأب تقبل على ولده ولا تقبل له.
وقال أيضا وقال شيخنا أبو عبد الله فيه وجه آخر لا تقبل شهادته له لأنه متهم أيضا في ذلك بأن يقصد الصلح والصداقة فيشهد له بذلك.

(2/300)


وفي شهادة البدوي على القروي وجهان.
__________
وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية ابن منصور وقيل له رجل خاصم في خصومة مرة فردت ثم شهد بعدالة الشاهد قال لا تقبل انتهى كلامه.
فصل
ومن سره إساءة أحد وغمه فرحه فعدو وقال ابن حمدان أو حاسد قال ابن عقيل ولا تقبل شهادة من عرف بالعصبية كعصبية أهل البادية على أهل القرى فإن البدوي يميل إلى البادية ولا يميل إلى أهل القرى وكذلك قبيلة على قبيلة تعرف بينهم مساوات1 ومباينة فتكون في حيز العداوة وكذلك شهادة أهل المحال المتباين أهلها بالعصبيات وهذا يدخل تحت قوله عليه الصلاة والسلام "ولا ظنين" وهو المتهم والعصبية توجب التهمة.
فصل
قوله: "وفي شهادة البدوي على القروي وجهان".
أحدهما تقبل وهو ظاهر كلام الخرقي واختاره أبو الخطاب وصححه في المستوعب وهو قول ابن سيرين وأبي حنيفة والشافعي للعمومات ولأن من قبلت شهادته على أهل البلد قبلت شهادته على أهل القرى.
قال ابن عقيل العدالة تجمع والمساكن لا تقدح في العدالة ولا توجب التهمة ولو جاز أن توجب تهمة لما قبلت شهادة عربي على عجمي ولا العكس لأن المنافرة والمباينة بين العجم والعرب أكثر من تباين البدو والحضر مع التساوي في العربية.
__________
1 بهامش الأصل: كذا في الأصل "مساوات" جمع أسية. أهـ، والصحيح في جمعها "إساءات"

(2/301)


ـ
وقال أيضا بعد أن حكى عن بعض أصحابنا أنه قال البدوي يعادي القروي في العادة قال وهذا بعيد لأن القبائل من البدو يتعادون أكثر عداوة ويصول بعضهم على بعض في مطرد العادة.
والثاني لا تقبل قطع به ابن هبيرة وغيره عن أحمد قال في المغني وهو قول جماعة من أصحابنا ومذهب أبي عبيد ورواه الخلال عن عمر بن عبد العزيز وقطع به القاضي في التعليق واحتج بقول أحمد في رواية حرب تجوز شهادة الأعراب على الأعراب وعلى القروي أخشى ألا تجوز لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:.
"لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية" إسناده جيد رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني وغيرهم.
قال في المغني ويحمل الحديث على من لم تعرف عدالته وخصه بهذا لأن الغالب أنه لا يكون له من يسأله الحاكم عنه.
قال أبو عبيد ولا أرى شهادتهم إلا لما فيهم من الجفاء لحقوق الله تعالى والجفاء في الدين.
قال الشيخ تقي الدين وبناه القاضي على أن العادة أن القروي إنما يشهد أهل القرية دون أهل البدو فإذا كان البدوي قاطنا مع المدعين في القرية قبلت شهادته لزوال هذا المعنى انتهى كلامه.
وقد ذكر غير واحد من الأصحاب هذا التعليل فيكون هذا قولا ثالثا.
وقيل للقاضي التهمة هنا ممن اشهد لا من الشاهد فقال التهمة هنا واقعة بهما لأن صاحب الحق لا يعدل عن أهل بلده إلا لعلة في الملك والشاهد أيضا في العادة إنما يشهد على أهل بلده ولا يخرج إلى بلد آخر فيشهد فيه على غيره.
وقال الشيخ تقي الدين البدوي على الوصية في السفر ينبغي أن يقبل لأنه ضرورة وهو أولى من الذميين انتهى كلامه وهو حسن لكنه قول

(2/302)


ولا تقبل شهادة عمودي النسب بعضهم لبعض وعنه تبل فيما لا يجر به نفعا في الغالب بأن يشهد له بعقد نكاح أو قذف وعنه تقبل شهادة المولود للوالد وبالعكس لا تقبل.
__________
رابع قال مالك لا تجوز شهادة البدوي على القروي إلا في الجراح والقود احتياطا للدماء.
فصل
تقبل شهادة البدوي برؤية الهلال اتفاقا وتقبل شهادة القروي عليه اتفاقا.
قوله: "ولا تقبل شهادة عمودي النسب بعضهم لبعض".
فنص أحمد أنه لا تجوز شهادة الولد لوالده ولا الوالد لولده1 انتهى كلامه.
وهو كالصريح إن لم يكن صريحا في أنه لا فرق بين الداعية وغيره وبين من يكفر أو يفسق وصرح به الشيخ تقي الدين على هذا التخريج.
وهذا التخريج قد يقال هو خلاف المذهب.
وإن قلنا برواية حنبل في قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض كما هو ظاهر قول جماعة من الأصحاب وقد يقال المذهب التسوية على رواية حنبل كما هو قول أبي الخطاب وظاهر كلام غيره ممن بعده.
ومن لم يذكر التخريج فإما أنه لم يثبت رواية حنبل هنا وإما لأنها خلاف المذهب فلم يشتغل بالتفريع عليها.
__________
1 قال بهامش الأصل: هنا سقط ثلاث ورقات

(2/303)


وفي شهادة أحد الزوجين الآخر روايتان.
وتقبل شهادة بعض هؤلاء على بعض.
وتقبل شهادة الأخ لأخيه والصديق لصديقه والمولى لعتيقه وولد الزنا في الزنا وغيره والمرضعة على إرضاعها والقسام على قسمته.
__________
والأول اختيار الشيخ تقي الدين فانه قال والفرق بينهما أن الذمي يقر على كفره والداعية إلى البدعة لا يقر على بدعته كذا قال.
والبدعة إن كانت مفسقة أقر عليها الداعية وغيره وإن كانت مكفرة لم يقر عليها الداعية ولا غيره لكن قد يفرق بينهما بأن أهل الذمة إنما قبلت شهادة بعضهم على بعض لمظنة الحاجة إلى ذلك لانفرادهم وعدم اختلاطهم بالمسلمين ولأنه لا يلزم من قبول شهادة كافر على كافر قبول شهادة كافر أو فاسق على مسلم.
قال الشيخ تقي الدين والواجب أن روايته وشهادته واحدة وفي روايته الخلاف المسطور في أصول الفقه ومأخذ رد شهادته إنما هو استحقاقه الهجران وعلى هذا فينبغي قبول شهادته حيث لا يهجر إما للغلبة وإما للتألف وتقبل عند الضرورة كما قبلنا شهادة الكتابي على المسلم عند الضرورة وأولى فإن من كان من أصله قبول شهادة الكافر على المسلم للحاجة فقبول شهادة المبتدع للحاجة أولى وكذلك شهادة النساء وكذلك شهادة بعض الفساق كما كتبته في موضع آخر وهذا هو الاقتصاد في هذا الباب فإنه إذا كثر أهل البدعة في مكان بحيث يلزم من رد شهادتهم فتنة وتعطيل الحقوق لم يهجروا بل يتألفوا وأما إذا كانوا مقهورين بحيث يهجرون لم تقبل شهادتهم ولو قيل في الامامة أيضا مثل ذلك لتوجه كما في علم الحديث والفرق بين الاضطرار والاختيار بين القدرة والعجز أصل عظيم.

(2/304)


وتقبل شهادة العبد والأمة فيما تقبل فيه شهادة الحر والحرة.
__________
فصل
قد عرف مما تقدم أنه هل تقبل شهادة من كفر أو فسق ببدعة أم لا تقبل أو تقبل مع الفسق خاصة أو تقبل إذا لم يكن داعية أو تقبل مع الحاجة والمصلحة خاصة؟ فيه أقوال.
قوله: "وتقبل شهادة العبد والأمة فيما تقبل فيه شهادة الحر والحرة" قال الخلال عن الميموني سأل رجل أحمد بن حنبل عن شهادة العبد تجوز قال لا أعرف إلا ذلك قلت من احتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة أمة في الرضاع على شهادة العبد هل يكون ذا حجة له قال نعم ورأيت أبا عبد الله يستحسنه ثم قال وأي شيء أكثر من هذا يفرق بينهما بقولها؟.
وقال حمدان بن علي الوراق سمعت أبا عبد الله يسأل عن شهادة العبد فقال كان أنس يجيز شهادة العبد وحديث عقبة بن الحارث "تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت إني قد أرضعتكما".
وقال الخلال أخبرنا المروذي حدثنا أبو عبد الله حدثنا محمد بن فضيل حدثنا مختار بن فلفل قال سألت أنس بن مالك عن شهادة العبد قال فيه اختلاف قلت حديث حفص عن المختار بن فلفل عن أنس قال ليس شيء يدفعه وقد أجاز شهادته وقال الله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فإذا كان عدلا ينبغي أن تجوز شهادته.
وقال الخلال حدثنا المروذي عن أبي عبد الله حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن سعيد عن قتادة عن الحسن قال قال علي "شهادة العبد جائزة" وقال أيضا عن المروزي "شهادة العبد جائزة".

(2/305)


وعنه لا تقبل شهادة الرقيق في القود والحد خاصة.
__________
وقال أيضا عن المروذي حدثنا أبو إسحق بن يوسف حدثنا عوف بن محمد ابن سيرين قال "لا أعلم شهادة الحر تفضل على شهادة العبد إذا كان مرضيا".
وقدم هذا في الرعاية تبعا للمحرر واختاره أبو الخطاب في الانتصار فقال والأولى المنع1 فإنه لا فرق حتى العدل بين شهادة وشهادة.
وقال الإمام أحمد في رواية ابن منصور العبد إذا كان عدلا جازت شهادته والمكاتب أحرى أن تجوز شهادته قال وهذا يدل على أنها تقبل في جميع الأشياء وكذا قال في رواية مهنا إذا تزوج بشهادة عبدين جاز إذا كانا عدلين والنكاح عنده جار مجرى القصاص ولهذا لا يجيز فيه شهادة النساء انتهى كلامه.
ووجه هذه الرواية تقدم ولأنه ذكر مكلف يقبل إخباره فقبلت شهادته كالحر أو نقول ذكر مكلف تقبل شهادته في رؤية هلال رمضان وهي شهادة يعتبر لها مجلس الحكم وتحتاج إلى العدد ويخص أمانه وولايته في الصلاة وعلى أقاربه وتصح توليته أسباب السرايا2 وولايته فيما يوصى إليه ويوكل فيه فقبلت شهادته كالحر هذا معنى كلام أبي الخطاب والقاضي إلا أنه قال الشهادة برؤية الهلال شهادة عند أبي حنيفة يعتبر لها العدد وقد قيل يعتبر فيها مجلس الحاكم.
قوله: "وعنه لا تقبل شهادة الرقيق في القود والحد خاصة".
قال الإمام أحمد في رواية الميموني لا تجوز شهادتهم يعني العبيد في الحدود.
__________
1 كذا في الأصل. والجملة كلها مطربة فيما يظهر لي
2 كذا في الأصل.

(2/306)


ـ
ولم يقيموا الحدود مقام الحقوق في الحقوق شاهد ويمين والحد ليس كذلك قلت قول أنس لم يفرق في حد ولا حق.
وذكره أحمد عن إبراهيم النخعي جوازها في الشيء اليسير قال أحمد والناس اليوم على ردها فليس نرى أحدا يقبلها قلت وما يستوحش من هذا قال في الحدود كأنها أشنع وإنما ذاك عنده لتهيب الناس لردها.
وقطع به القاضي في التعليق وتبعه جماعة وذكر في المغني أنه ظاهر المذهب وذكر ابن هبيرة أنه المشهور من مذهب الإمام أحمد وعلل بعضهم بأنه ناقص فلم تقبل شهادته فيها كالمرأة.
قال الخرقي تجوز شهادة العبد في كل شيء إلا في الحدود وتبعه بعضهم على هذه العبارة وهو أحد احتمالين في المغني والكافي.
قال ابن القاسم سألت الإمام أحمد عن أربعة شهدوا على رجل بالزنا أحدهم عبد قال تمت الشهادة هم أربعة العبد منهم يدرأ عنهم الحد.
قال محمد بن موسى سئل الإمام أحمد عن أربعة أعبد شهدوا على الزنا قال قد أحرزوا ظهورهم وإن كانوا عبيدا لأن الحدود مبناها على الدرء والإسقاط يغلظ في طريق ثبوتها ولهذا لا تقبل شهادة النساء ولا شاهد ويمين ولا يقضي فيها بالنكول ولا يستحلف فيها وتسقط بالشبهة بخلاف غيرها فجاز أن لا تسمع فيها شهادة العبد.
وعن أحمد التوقف في هذه المسألة قال أبو الحارث قلت للإمام أحمد شهادة العبد قال قد اختلف الناس في ذلك وأبى أن يجيب فيها وقال أيضا أحب العافية من ذلك وأبى أن يجيب قال وكذلك المكاتب والمدبر وعن أحمد رواية خامسة لا تقبل بحال قال في رواية أبي طالب العبد في جميع أمره ناقص ليس مثل الحر ولا تقبل له شهادة في الطلاق والأحكام

(2/307)


ومن شهد عند الحاكم فرد شهادته لكفره أو رقه أو صغره أو جنونه أو خرسه ثم أعادها بعد زوال المانع قبلت في الأصح عنه.
__________
وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي لأنها مبنية على المروءة والكمال.
قال الشيخ تقي الدين قد يؤخذ عن الإمام أحمد رواية كذلك وسيأتي في المسألة بعدها.
قوله: "ومن شهد عند الحاكم فردت شهادته لكفره أو رقه أو صغره أو جنونه أو خرسه ثم أعادها بعد زوال المانع قبلت في الأصح عنه".
نقل عنه حنبل في الصبي إذا بلغ جازت شهادته وكذلك إذا شهد وهو عبد لم تجز فإذا أعتق جازت إذا كان عدلا واحتج القاضي أيضا مع أنه ذكر أن أحمد نص عليه بقول الإمام أحمد في رواية أبي طالب في الصبي إذا حفظ الشهادة ثم كبر فشهد جازت شهادته وكذلك العبد إذا عتق وكذلك اليهودي والنصراني إذا كان عدلا جازت شهادته إذا أسلم.
قال الشيخ تقي الدين في رواية أبي طالب الظاهر أنها فيما إذا لم ترد في زمان المنع انتهى كلامه.
وهو الذي نصره القاضي وأصحابه وغيرهم.
وذكر في المستوعب أنه أصح الوجهين وبه قال أبو حنيفة والشافعي لأن هذا المانع زال قطعا ولا تهمة فيه فهو كما لو ابتدأ بها في هذه الحال بخلاف الفسق1.
__________
1 بهامش الأصل: قال شيخ عز الدين ابن شيخ السلامية في نكته على المحرر، ومن خطه نقلت: هذه الرواية أنص عن أحمد من الأولى، بل لوقيل: إن المذهب رواية واحدة على المنع: لم يستبعد، فإن رواية أبي طالب في الجواز ليس فيها الرد. كما تقدم.

(2/308)


وعنه لا تقبل أبدا.
وإن ردت لتهمة رحم أو زوجية أو عداوة أو جلب نفع أو دفع ضرر ثم زال المانع فأعادها لم تقبل على الأصح كما لو ردت لفسق وقيل تقبل.
__________
قوله: "وعنه لا تقبل أبدا".
قال في رواية يعقوب بن بختان في الصبي إذا ردت شهادته ثم أدرك لم تجز شهادته لأن الحكم قد مضى ونقل ابن بختان أيضا في موضع آخر إذا ردت شهادة العبد أو الذمي أو الصبي ثم أسلم الذمي وعتق العبد وأدرك الصبي لم تجز شهادتهم لأن الحكم قد مضى وهذه اختيار أبي بكر وابن أبي موسى وهي قول مالك لأنها ردت بمانع أشبه الفسق.
قوله: "وإن ردت بتهمة رحم أو زوجية أو عداوة أو جلب نفع أو دفع ضرر ثم زال المانع فأعادها لم تقبل على الأصح".
وذكر في الكافي أنه الأولى وقدمه في الرعاية لأن ردها باجتهاده فلا ينقض ذلك باجتهاده ولأنها ردت للتهمة كالمردودة بالفسق والثاني تقبل صححه في المغني لأن الأصل قبول شهادة العدل وقياسه على الفسق لا يصح لأن هذه ردت بسبب لا عار فيه فلا يتهم في قصد نفي العار بإعادتها بخلاف الفسق وقبول الشهادة هنا من نقض الاجتهاد في المستقبل وهو جائز وهذا معنى قوله: "تقبل".
قوله كما لو ردت لفسق.
نص عليه قال في رواية أحمد بن سعيد في شهادة الفاسق إذا ردت مرة ثم تاب وأصلح فأقامها بعد ذلك لم تجز لأنه حكم قد مضى ولم أجد فيه خلافا إلا قوله في الرعاية الكبرى لم تقبل على الأصح وهو مذهب الأئمة

(2/309)


وقيل لا تقبل في كل مانع ما زال باختيار الشاهد كإعتاق القن وتطليق الزوجة وتقبل فيما سواه.
ومن شهد عند الحاكم ثم عمى أو خرس أو صم أو جن أو مات لم يمنع الحكم بشهادته.
__________
الثلاثة ورواية القبول قال بها أبو ثور والمزني وداود قال ابن المنذر والنظر يدل على هذا لغير هذه الشهادة كالمسائل المتقدمة وقد تقدم دليل المنع والفرق.
قال الشيخ تقي الدين وتعليلهم الفرق بين الكفر والفسق بأن الكفر يتدين به يقتضى أن يلحق به الفسق بالاعتقاد أو بعمل يستند إلى اعتقاد كشرب النبيذ إن قيل به انتهى كلامه.
وقوله: "وقيل لا تقبل في كل مانع زال باختيار الشاهد كإعتاق القن وتطليق الزوجة وتقبل فيما سواه".
يحتمل أن يكون هذا القول في هذه المسألة خاصة ويحتمل أن يكون فيها وفي التي قبلها وهذا الأمر قريب ووجهه أن زوال المانع باختيار الشاهد يورث تهمة تشبه الفسق.
فرع
لو عزل من وظيفة للفسق مثلا ثم تاب وأظهر العدالة فهل يعود يتوجه أن يقال فيها ما قيل في مسألة الشهادة أو أولى لأن تهمة الإنسان في حق نفسه ومصلحته أبلغ من حق الغير1 أما لو رأى الحاكم رده إليها بتأويل أو تقليد كان له ذلك كسائر مسائل الخلاف وكما لو رأي قبول الشهادة في مسألتنا.
قوله: "ومن شهد عند الحاكم ثم عمى أو خرس أو صم أو جن أو مات لم يمنع الحكم بشهادته".
__________
1 بهامش الأصل: قال ابن شيخ السلامية هذا فيه نظر

(2/310)


وإن حدث مانع من فسق أو تهمة منع الحكم بها إلا عداوة ابتدأها المشهود عليه بأن قذف الشهود فإنها لا تمنعه.
ولا يصح أداء الشهادة إلا بلفظها فإن قال أعلم أو أحق ونحوه لم يحكم بها
__________
قال القاضي على قياس حدوث العمى بعد التحمل وقبل الأداء وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد لعدم التهمة في حال أداء الشهادة فهو كالموت فإنه محل وفاق وقال أبو حنيفة لا يحكم بها كما لو طرأ الفسق.
قوله: "وإن حدث مانع من فسق أو تهمة منع الحكم بها".
لم أجد فيه خلافا كما تقدم وذكره القاضي محل وفاق أن الشهود إذا ارتدوا أو فسقوا أو رجعوا قبل الحكم أنه لا يحكم بها قال لأنه يورث تهمة في حال الأداء.
قال الشيخ تقي الدين إدخال الردة في هذا مشكل قال وقد علل بأن الفسق والردة مما يستسر به فيدل على نظائره مما قبله انتهى كلامه.
فصل
فإن حدث ما يمنع الحكم بها بعد الحكم والاستيفاء لم ينقض الحكم وإن كان ذلك قبل الاستيفاء لم يستوف إن كان حدا الله تعالى لأنه يدرأ بالشبهة وإن كان مالا استوفي وإن كان قودا أو حد قذف فوجهان.
قوله: "ولا يصح أداء الشهادة إلا بلفظها".
فإن قال أعلم أو أحق ونحوه لم يحكم بها ذكره القاضي محل وفاق في مواضع منها شهادة المرأة الواحدة فيما لا يطلع عليه الرجال وذكر أنه يعتبر فيه لفظ الشهادة جعله محل وفاق ذكره الشيخ تقي الدين ولم يحك فيه خلافا وقال أبو الخطاب في الانتصار في بحث شهادة امرأة فيما لا يطلع عليه الرجال

(2/311)


باب عدد الشهود وما يتبعه
لا يقبل في الزنا واللواط إلا شهادة أربع رجال وهل يكفي في ثبوت الإقرار بهما رجلان أو يشترط أربعة على روايتين.
ويكفي في الشهادة على من أتى بهيمة إذا قلنا يعزر رجلان وقيل يعتبر أربعة ولا يقبل في بقية الحدود والقصاص إلا رجلان.
ويقبل في المال وما يقصد به كالبيع والأجل والخيار فيه والرهن والوصية.
__________
لخصمه أين أنت من القياس على خبر الديانات ورؤية الهلال لرمضان لما قبل فيه شهادة النساء منفردات لم يلتفت إلى العدد وعلى هذا يجب أن لا يلتفت إلى لفظ الشهادة ولا مجلس الحكم كالخبر سواء وهو قول بعض الحنفية ولا أعرف عن إمامنا ما يرد هذا المنع انتهى كلامه ولم يذكر الأصحاب هذه المسألة في مسائل الخلاف فدل على أنها محل وفاق.
وذكر أبو الخطاب في التمهيد في بحث مسألة رواية الحديث بالمعنى أن الفقهاء يسلمون هذا ثم قال ويقوى عندي أن الشاهد إذا قال أعلم أو أعرف أو أتحقق أو أتيقن أن لفلان عند فلان كذا أن الحاكم يقبل ذلك لأن ظنه يقوى بذلك كما يقوى بقوله أشهد انتهى كلامه.
وذكره القاضي احتمالا وذكره في الرعاية قولا وذكر في المغني أن عدم الحكم مذهب الشافعي قال ولا أعلم فيه خلافا لأن الشهادة مصدر فلا بد من الإتيان بفعلها المشتق منها وهذه دعوى مجردة قال ولأن فيها معنى لا يحصل في غيرها بدليل أنها تستعمل في اللعان ولا يحصل ذلك في غيرها ومراده من هذه الألفاظ لأن لنا في اللعان في إبدال "أشهد" بأقسم أو أحلف وجهين وهذا معنى حسن إن شاء الله تعالى.

(2/312)


لمعين أو الوقف عليه ودعوى رق مجهول النسب وتسمية المهر ونحوه رجلان ورجل وامرأتان ورجل ويمين المدعي بما ادعاه وإن كان كافرا أو امرأة.
__________
وذكر الشيخ تقي الدين في موضع آخر الحكم بذلك عن أحمد وأخذه من مناظرته لعلي بن المديني و أن أحمد شهد بالجنة لكل من جعله الرسول صلى الله عليه وسلم من أهلها فقال ابن المديني أقول ولا أشهد فقال له أحمد إذا قلت فقد شهدت1.
قوله: "ورجل ويمين المدعي بما ادعاه وإن كان كافرا أو امرأة".
قال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول في الشاهد واليمين جاز الحكم به قيل لأبي عبد الله إيش معنى اليمين قال قضى النبي صلى الله عليه وسلم بشاهد ويمين شهادة الشاهد مع اليمين.
__________
1 بهامش الأصل: صورة ما ذكره الشيخ تقي الدين في هذا الموضع قال: اختلف الفقهاء في جواز أداء الشهادة عند الحاكم بغير لفظ الشهادة، مثل: أعلم وأثبت، وأحق على وجهين لأصحابنا وغيرهم ذكرها القاضي أبو يعلى، والمنع قول المتأخرين، والجواز هو مقتضى كلام أحمد لما ناظر علي بن المديني في الشهادة للعشرة بالجنة، فقال أحمد: أنا أشهد لهم بالجنة، فقال له علي: أنا أقول: هم في الجنة، ولا أقول: "أشهد" فقال أحمد: إذا قلت هم في الجنة: فقد شهدت أنهم في الجنة.
وهذا الذي قاله أحمد هو الراجح في الكتاب والسنة، ولا أعلم عنه نصا يوافق الوجه الآخر، وعلى هذا فنفس الإخبار شهادة، وإن لم يذكر عن نفسه فعلا، فإذا قال: لهذا عند هذا ألف درهم، أو قال: هذا سرق مال هذا، أو قال: هذا ضرب هذا، أو قال: باعه هذا العبد بكذا، فنفس هذا الإخبار شهادة، وإن لم يذكر عن نفسه "أعلم أو أحق أو أشهد" كما قال أحمد: إذا قلت: هم في الجنة فقد شهدت أنهم في الجنة.
وذكر في شهادة الاستفاضة قول أحمد: أنا أقول: بأن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أشهد بأنها ابنته.

(2/313)


ـ
قال أبو عبد الله وهم لعلهم يقضون في مواضع بغير شهادة شاهد وكذلك نقل المروزي وأبو طالب وقال هارون بن عبد الله سمعت أبا عبد الله يذهب إلى اليمين والشاهد قيل لأبي عبد الله في المال قال في المال.
وقال علي بن زكريا قيل لأبي عبد الله شهادة شاهد ويمين قال في الحقوق.
قال الشيخ تقي الدين هذا اللفظ يعم جميع الحقوق وكذلك قال في رواية الميموني نحن نذهب إلى شهادة واحد في الحقوق ويمينه انتهى كلامه.
وقال علي بن سعيد سألت أحمد عن الشاهد الواحد مع اليمين قال في الحقوق جائز.
وقال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل ادعى وجاء بشاهد وليس المدعي بعدل أيحلف مع شاهده قال نعم قلت لأبي عبد الله إنما هذا في الأموال خاصة فقال نعم في الأموال خاصة.
وقال موسى بن سعيد وقد روى عن أحمد قول عمرو بن دينار في الأموال قال أحمد بن حنبل وهكذا أقول في الأموال والحقوق وقال له أبو طالب تذهب إلى الشاهد واليمين قال نعم في الحقوق وقال له أبو الحارث فإن كان الشاهد عدلا والمدعي غير عدل قال فإن كان غير عدل أو كانت امرأة أو رجل من أهل الذمة يهودي أو نصراني أو مجوسي إذا ثبت له شاهد واحد حلف وأعطى ما ادعى وإنما الحكم فيه هكذا وليس يقوم اليمين مقام الشاهد هذا حكمه.
وقال له أحمد بن القاسم أنت لا تقبل شهادته فكيف تقبل يمينه قال ولم شهد هو لنفسه إنما الحديث شاهد مع يمين الطالب فنحن نعمل به.
وكذا نقل غيره وهذا قول أكثر العلماء منهم مالك والشافعي لما روى

(2/314)


ـ
ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد" رواه مسلم وغيره وهو في السنن من وجوه قال ابن عبد البر عن حديث ابن عباس لا مطعن لأحد في إسناده ولا خلاف بين أهل المعرفة في صحته قال وحديث أبي هريرة وجابر وغيرهما حسان.
وروى الخلال من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده "أن عمر كان يقضي باليمين مع الشاهد العدل ويقول: قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقال أبو حنيفة والليث والأندلسيون من أصحاب مالك وغيرهم لا تقبل.
وقال الشيخ تقي الدين قصة خزيمة وقصة أبي قتادة وقصة ابن مسعود في قوله: "رأيته يذكر الإسلام" تنبيها بلا يمين وقد قال اليمين حق للمستحلف وللإمام فله أن يسقطها وهذا أحسن انتهى كلامه.
ويوافقه ما ذكره القاضي في بحث المسألة قال فإن قيل ما ذهبتم إليه يؤدى إلى أن يثبت الحق بشاهد واحد قيل هذا غير ممتنع كما قاله المخالف في الهلال في الغيم وفي القابلة وهو ضرورة أيضا لأن المعاملات تكثر وتتكرر فلا يتفق في كل وقت شاهدان انتهى كلامه.
وهو يدل على أن اليمين ليست كشاهد آخر وهو مخرج على ما إذا رجع الشاهد هل يضمن الجميع أو النصف.
ولهذا قال القاضي في بحث المسألة واحتج يعني الخصم بأنه لو كان يمين المدعي كشاهد آخر لجاز له أن يقدمه على الشاهد الذي عنده كما لو كان عنده شاهدان جاز أن يقدم أيهما شاء والجواب أنا لا نقول إنها بمنزلة شاهد آخر ولهذا يتعلق الضمان بالشاهد وإنما اعتبرناها احتياطا وقاسها على احتياط الحنفية بالحبس مع شاهد الإعسار ويمين المدعي مع البينة على الغائب

(2/315)


ولا يشترط أن يقول فيها وأن شاهدي صادق في شهادته1 وقيل يشترط.
ولا يقبل امرأتان ويمين مكان رجل ويمين وقيل يقبل.
__________
والصبي والمجنون وقال أيضا إنما يحلفه الحاكم بعد أن تثبت عدالة الشاهد عنده.
وذكر القاضي أيضا أن لا تقدم اليمين على الشاهد جعله محل وفاق كما لا يقدم في البينة على الغائب.
قوله: "ولا يشترط أن يقول فيها وأن شاهدي هذا صادق في شهادته".
وقطع به القاضي ضمن المسألة وعليه يدل كلام الأصحاب لظاهر ما تقدم وكسائر من أحلفناه فإنه لا يشترط أن يقول في يمينه ذلك.
قوله: "وقيل يشترط".
لأن الشاهد هنا حجة ضعيفة ولهذا لم نكتف به فاشتراط أن يقول في يمينه ذلك تقوية له واحتياطا كما اشترطت اليمين معه.
قوله: "ولا يقبل امرأتان ويمين مكان رجل ويمين".
وكذا قطع به القاضي ولم يخرجه من المذهب.
قال الشيخ تقي الدين وقطع به أيضا أبو الخطاب والشريف وغيرهما في كتب الخلاف ونصره في المغني وغيره لأنه انضم ضعيف إلى ضعيف فلا يحكم به كما لو شهد أربع نسوة أو حلف المدعي يمينين فإنه محل وفاق مع مالك وغيره ذكره القاضي وغيره في المغني بالإجماع.
قوله: "وقيل يقبل".
لأن المرأتين في المال مقام رجل وهو مذهب مالك.
قال الشيخ تقي الدين هذا يقتضيه كلام أحمد يعني ما نقله ابن صدقة:
__________
1 في منتهى الإرادات "ولا يشترط قول مدع ي حلفه: وأن شاهدي صادق في شهادته".

(2/316)


وهل يقبل الرجل والمرأتان والشاهد واليمين في العتق والوكالة في المال والإيصاء إليه.
__________
سئل أحمد عن الرجل يوصي بأشياء لأقاربه ويعتق ولا يحضر إلا النساء هل تجوز شهادتهن قال نعم تجوز شهادتهن في الحقوق وذكر ابن حزم أنهم اختلفوا في شهادة امرأة مع يمين الطالب ودون يمينه.
قوله: "وهل يقبل الرجل والمرأتان أو الشاهد واليمين في العتق".
قال القاضي في التعليق يثبت العتق بشاهد ويمين في أصح الروايتين وعلى قياسه الكتابة والولاء نص عليه في رواية مهنا وقال أيضا نص على الشاهد واليمين في قدر العوض الذي وقع العتق عليه وهو اختيار الخرقي وأبي بكر انتهى كلامه لأن الشارع متشوف إليه وذكر في المغني أن القاضي قال المعمول عليه في المذهب أن هذا لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين وذكر ابن عقيل أنه ظاهر ونصره في المغني ونصره جماعة منهم أبو الخطاب غير الرواية الأولى وبه قال مالك والشافعي لأنه ليس بمال ولا يقصد منه ويطلع عليه الرجال أشبه العقوبات وعن الإمام أحمد رواية ثالثة تقبل فيه شهادة رجل وامرأتين وهو قول جماعة منهم أصحاب الرأي لأن ذلك لا يسقط بالشبهة أشبه المال.
قوله: "والوكالة في المال والإيصاء إليه".
تبع فيه القاضي وغيره قال القاضي لأنها إن لم تكن مالا فإنها تتضمن التصرف في المال والدليل كما تقدم وقد نقل عنه البرزاطي في الرجل يوكل وكيلا ويشهد على نفسه رجلا وامرأتين إن كانت الوكالة بمطالبة بدين فأما غير ذلك فلا وقال في رواية بكر بن محمد عنه لا يقبل قوله إن وصى حتى يشهد الموصى رجلان عدلان أو رجل عدل.

(2/317)


ـ
قال القاضي فظاهر هذا قبول الشاهد واليمين في الوصية والوكالة وكلام جماعة يقتضى أنه لا فرق بين الوكالة في المال وغيره والإيصاء إليه فيه وغيره بل صريح كلام بعضهم وأنه هل يقبل في ذلك وامرأتان أو شاهد ويمين أو لا يقبل إلا رجلان فيه روايتان.
وقال الشيخ تقي الدين نصه في الوكالة فرق فيه بين الوكالة بمال وبين الوكالة بغيره وأما الوصية فقد أطلق فيها رجل عدل وتقدم نصه أيضا أنه يقبل فيها شهادة النساء منفردات فقد يقال لا يفتقر في هذا إلى يمين لأنه لا خصم جاحد فيه لا في الحال ولا في الاستقبال وهو يشبه القتل لاستحقاق السلب وتحليف الوصي فيه نظر لأنه لا يجر بهذا إلى نفسه منفعة بخلاف الموصى له وقد قبل الناس شهادة رجاء بن حيوة بالعهد إلى عمر بن عبد العزيز وهو وحده وما زال الولاة يرسلون الواحد في الولاية والعزل.
وقال أيضا وعلى طريقة أصحابنا في البينة هو الشاهد الواحد وإنما اليمين احتياط فهذا يقتضى شيئين أحدهما أنه لا يحتاج إليها إلا إذا كان ثم معارض وفي دعوى السلب لا معارض وعلى هذا يخرج حديث أبي قتادة.
والثاني أنه لو كان الحق لصبي أو مجنون لم يحتج إلى يمين وفي هذا نظر إلا إذا كان على ميت أو صبي أو مجنون ولعل حديث خزيمة بن ثابت يخرج على هذا ونص أحمد في الوصية أو رجل عدل ظاهر هذا أنه يقبل في الوصية شهادة رجل واحد.
وقال عقيب رواية ابن صدقة في شهادة النساء في الوصية ظاهر هذا أنه أثبت الوصية بشهادة النساء على الانفراد إن لم يحضره الرجال قال القاضي المذهب في هذا كله أنه لا يثبت إلا بشاهدين انتهى كلامه وقال ابن عقيل عقيب رواية ابن صدقة وهذا يشهد له من أصله قوله: "تقبل شهادة أهل

(2/318)


ودعوى قتل الكافر لاستحقاق سلبه.
__________
الذمة على الوصية في السفر" انتهى كلامه.
ووجه رواية القبول بأنه عقد لا يفتقر في صحته إلى الشهادة فهو كعقد البيع.
قال القاضي في بحث المسألة ولا يلزم القضاء لأنه قد يجوز أن يثبت بشهادة رجل وامرأتين وهو إذا كانت ولايته خاصة في المال فادعى أنه قاض فأنكره أهل ذلك البلد وأقام شاهدا وامرأتين قبل ذلك والخلاف فيما إذا كانت الوكالة بعوض وبغير عوض سواء ونسلم أن الأجل وخيار الشرط يثبت بشاهد وامرأتين جعله محل وفاق ولأنه يوكل في استيفاء حق فتثبت الوكالة له بما يثبت به ذلك الحق كالوكالة بعقد النكاح والحد والقصاص واحتج به القاضي وسلم لهم أن الوكالة بالنكاح والطلاق والقصاص والحدود لا تثبت إلا بذكرين قاله الشيخ تقي الدين.
قال القاضي واحتج بعضهم بأنها ولاية فلم تثبت إلا بشاهدين كولاية القضاء قال الفاضي الوكالة ليست ولاية بل استنابة وأما القضاء فهو يتضمن ما يثبت بشاهد وامرأتين وهو المال وما يثبت بشاهدين وهو الحقوق وعقد النكاح والوكالة المختلف فيها هي المتضمنة للمال حسب.
قال الشيخ تقي الدين القضاء وإن كان في المال فقط فهو متضمن الإلزام والعقوبة بالحبس ونحوه والوكالة لا تتضمن إلا مجرد القبض ومعلوم أن المدعي لو ادعي الملك ليثبت هو ولوازمه فوكالة المالك أخف من دعوى الملك لأن أحق الوكيل دون حق المالك فإذا ثبت الكل فجزؤه أولى بخلاف القاضي فإنه يثبت له مالا يثبت للمالك.
قوله: "ودعوى قتل الكافر لاستحقاق سلبه".

(2/319)


ودعوى الأسير إسلاما سابقا لمنع رقه.
__________
ذكر القاضي في هذه الروايتين نقل حنبل عن أحمد فيمن قتل قتيلا فأقام شاهدا ويمينا لم يجز.
وقال القاضي ظاهر كلامه فيما روينا عنه قبول ذلك في السلب لأنه يتضمن إثبات مال فهو كما لو شهد رجل وامرأتان بسرقة ثبت الغرم دون القطع.
وقد ذكر هذه المسألة الشيخ موفق الدين في الجهاد فقال قال أحمد لا يقبل إلا شاهدان وقالت طائفة من أهل الحديث يقبل شاهد ويمين لأنها دعوى في المال ويحتمل أن يقبل شاهد بغير يمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل قول الذي شهد لأبي قتادة من غير يمين.
ووجه الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر البينة وإطلاقها ينصرف إلى شاهدين ولأنها دعوى للقتل فاعتبر شاهدان لدعوى قتل العمد انتهى كلامه.
قوله: "ودعوى الأسير إسلاما سابقا لمنع رقه".
قال القاضي إذا ثبت أن إسلام الأسير لا يمنع الرق فادعى إسلاما سابقا وأظهره لم تقبل دعواه إلا ببينة لأنه يدعي إسقاط الرق والأصل بقاؤه وإن أقام شاهدا واحدا وخلف معه فالمنصوص عنه أنه يقبل ذلك ولا يسترق فقال في رواية أبي الحارث فيمن أخذ علجا فقال كنت أسلمت قبل أن تأخذوني أسيرا لم يقبل منه وإن شهد له من أسره من المسلمين أنه قد كان أسلم قبل أن يؤخذ قبلت شهادته مع يمين المدعي فلا تقبل1 وكذلك إن شهد عبد وحلف معه أو شهدت امرأة وحلف معها نص عليه في رواية أبي طالب إذا قال إنما كنت مسلما لم يصدق فإن شهد له رجل قبل مع يمينه وإن شهدت
__________
1 كذا بالأصل والظاهر: أن "فلا تقبل" زائدة".

(2/320)


ـ
امرأة أيضا قبلت شهادتها وإن شهد صبي لم تقبل شهادته وكذلك نقل يعقوب بن بختان.
وإذا قال قد أسلمت وشهد رجل من الأسرى جازت شهادته مع يمين المدعي وكذلك إن شهدت له امرأة وعبد مسلم.
واستدل القاضي بحديث عبد الله بن مسعود "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر:.
لا يبقى منهم أحد إلا أن يفدى أو تضرب عنقه فقال عبد الله بن مسعود إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم إلا سهيل" رواه أحمد والترمذي وحسنه.
وقال القاضي يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استحلفه ولم ينقله الراوي وكذلك ذكر أن عمر درأ القتل عن الهرمزان بشهادة رجل له بالصلاة وليس فيه استحلاف وعلله القاضي بأنه قد يتعذر إقامة البينة الكاملة في دار الحرب على إسلامه فجاز أن يقبل فيه شهادة رجل وشهادة امرأة كما أجاز الإمام أحمد شهادة أهل الذمة على وصية المسلمين في السفر إذا لم يوجد مسلم وكذلك قال في السبي إذا ادعوا نسبا وأقاموا البينة من الكفار قبلت في رواية حنبل وصالح وإبراهيم ولم تقبل في رواية عبد الله وأبي طالب.
وكذلك قال في الأسير إذا ادعى إسلاما سابقا يرجع إلى شاهد الحال فإنه لم يكن معه سلاح قبل منه ولم يقتل وإن كان معه سلاح قتل نص عليه في رواية إبراهيم لأن الدعوى قد ترجح بالظاهر وكما قلنا في تداعي الزوجين قال وبنى المخالف هذا على أن الحرية لا تثبت بشاهد ويمين لأنه ليس بمال ولا المقصود منه المال وهذه الدعوى تتضمن الحرية قال ونحن نبنيها على ذلك الأصل وأن الحرية تثبت بشاهد ويمين على الصحيح من الروايتين وهي اختيار الخرقي وفيه رواية أخرى لا تثبت إلا بشاهدين فعلى هذا وبيض في التعليق

(2/321)


وجناية العمد والخطأ التي لا قود فيها بحال أم لا على روايتين.
فإن قلنا بالقبول في الجناية المذكورة ففيما إذا كان القود في بعضها كالمأمومة والهاشمة روايتان.
__________
الجديد وكان قبل هذا قد قال وإن قلنا لا تثبت الحرية إلا بشاهدين فإنها هنا تثبت من طريق الحكم كما تثبت الولادة بشهادة النساء وتتضمن ثبوت النسب وإن لم يثبت النسب بشهادة النساء ثم قال وإذا قلنا لا تثبت إلا بشاهدين لم يثبت الإسلام هنا إلا بشاهدين انتهى كلامه.
ورواية الشاهدين في المسألة قول الشافعية.
وقطع الشيخ موفق الدين في هذه المسألة وجماعة في رءوس المسائل بشاهد ويمين منهم الشريف وأبو الخطاب وقال هذه المسألة مبنية على أن الحرية تثبت بشاهد ويمين قال غير واحد عقب المرأة وحدها1 فنص على قبول شهادة المرأة الواحدة في الإسلام وقال ابن عقيل فهذه الرواية إن لم يقع لنا فيها حديث يكون الإمام أحمد ذهب إليه وإلا فلا وجه لها.
قوله: "وجناية العمد والخطأ التي لا قود فيها بحال أم لا على روايتين".
إحداهما تقبل ذكر في الكافي أنه ظاهر المذهب وقول الخرقي وقطع به القاضي في غير موضع وقدمه غير واحد لأنها لا توجب إلا المال أشبهت البيع.
والثانية لا يقبل إلا رجلان وهو قول أبي بكر وابن أبي موسى لأنها جناية فأشبهت ما يوجب القصاص والفرق ظاهر وكلام بعضهم يقتضي الفرق بين جناية الخطأ وجناية العمد وإن كان موجبها المال.
قوله: "فإن قلنا بالقبول في الجناية المذكورة ففيما إذا كان القود في بعضها كالمأمومة والهاشمة روايتان".
__________
1 كذا في الأصل.

(2/322)


وما عدا ذلك مما ليس بعقوبة ولا مال وتطلع عليه الرجال غالبا كالنكاح والرجعة والطلاق والنسب والولاء والإيصاء والتوكيل في غير مال فلا يقبل فيه إلا رجلان وعنه يقبل رجل وامرأتان في النكاح والرجعة من ذلك1.
__________
إحداهما يقبل ويثبت المال قطع به غير واحد لأن هذه الشهادة والجناية توجب المال والقود فإذا قصرت عن أحدهما ثبت الآخر.
والثانية لا تقبل ولا يثبت المال لأنها لما بطلت في البعض بطلت في الجميع وهذه المسألة تشبه مسألة من أقام بينة بسرقة لا تثبت بها هل يثبت المال وفيها قولان كهذه المسألة وسوى أبو الخطاب بينهما قاطعا بثبوت المال وكذا غيره.
وقد فرق المصنف بينهما فأطلق في هذه الخلاف وقطع بثبوت المال هناك وقال ابن عبد القوي في هذه المسألة ما يجتمع فيه قصاص ودية كشجة ما فوق الموضحة كالهاشمة لا تقبل في الأولى كمردودة في جميع ما شهد به في بعضه وقال في مسألة إذا شهد بقتل العمد رجل وامرأتان لقائل أن يقول لم لا يجب القصاص أولا يجب المال ولا يجب القصاص كالوجهين فيما إذا شهد اثنان أو رجل وامرأتان بالهاشمة أو المأمومة ونحوه فيما فيه مال بقود وموضحة كذا قال.
قوله: "وما عدا ذلك إلى قوله خاصة".
توجيه ذلك يعرف مما تقدم وتقدم الكلام في الإيصاء والتوكيل في غير مال.
وقد قال الشيخ تقي الدين قال القاضي في تعليقه في ضمن مسألة تعديل المرأة هذا مبني على أن شهادة النساء هل تقبل فيما لا يقصد به المال ويطلع
__________
1 في نسخة بهامش الأصل "من ذلك خاصة".

(2/323)


ويقبل في معرفة الموضحة وداء الدابة ونحوهما طبيب وبيطار واحد إذا لم يوجد غيره نص عليه.
__________
عليه الرجال كالنكاح وفيه روايتان فجعل الروايتين عامتين في هذا الصنف حتى أدرج فيه التزكية إذا قلنا هي شهادة انتهى كلامه.
وقال القاضي في المجرد عن نص الإمام أحمد على قبول شهادة المرأة الواحدة في الإسلام يخرج من هذا أن كل تعقد ليس من شرط صحته الشهادة كالوصية سواء كانت في المال أو بالنظر والوكالة والكتابة فإنه يثبت بشهادة رجل وامرأتين وبشاهد ويمين لأنه لا يفتقر إلى الشهادة فجاز أن يثبت بذلك كالبيع.
وذكر أبو الخطاب في المسألة شهادة القابلة أنه إذا شهد أربعة على رجل بالزنا فادعى أنه غير محصن فشهد رجل وامرأتان بإحصانه فانه يرجم وإن لم يكن للنساء مدخل في الشهادة بالحد.
قوله: "وقبل في معرفة الموضحة وداء الدابة وغيرهما1 طبيب وبيطار واحد إذا لم يوجد غيره نص عليه".
كذا قطع بهذه المسألة جماعة من الأصحاب منهم صاحب المستوعب والكافي لأنه مما يعسر عليه إشهاد اثنين فقبل فيه قول الواحد كالرضاع ونحوه ولأنه إذا أمكن إشهاد اثنين اعتبر لأنه الأصل.
قال الإمام أحمد في رواية أحمد بن منصور كل موضع يضطر الناس إليه مثل القابلة تجوز فيه شهادة الطبيب وحده وقال أيضا إذا كان في موضع يضطر إليه إذا لم يكن إلا طبيب واحد وبيطار جاز إذا كان ثقة وقال أيضا يجوز
__________
1 في نسخة: ونحوهما.

(2/324)


ومن أتى برجل وامرأتين أو شاهد ويمين فيما يوجب القود لم يثبت به قود ولا مال وعنه يثبت المال إن كان المجنى عليه عبدا نقلها ابن منصور.
__________
قول بيطار واحد ولم يقيده بضرورة ولا حاجة.
قوله: "ومن أتى برجل وامرأتين أو شاهد ويمين فيما يوجب القود لم يثبت به قود ولا مال".
قطع به القاضي في التعليق وجماعة من الأصحاب وعللوا ذلك بأن القتل يوجب القصاص والمال بدل منه فإذا لم يثبت الأصل لم يجب بدله وإن قلنا موجبة أحد شيئين لم يتعين أحدهما إلا بالاختيار فلو أوجبنا الدية وحدها أوجبنا معينا وقد تقدم كلام ابن عبد القوي في قوله فإن قلنا بالقبول في الجناية المذكورة.
وقد علل الشيخ تقي الدين هذه المسألة بأن المشهود عليه غير معين قال وهذا التعليل أنما يجئ في بعض الصور إذا كان على العاقلة.
قوله: "وعنه يثبت المال إن كان المجني عليه عبدا نقلها ابن منصور".
قال الشيخ تقي الدين لاختلاف المستحق في العبد كما في الحدود والحقوق لكن في الواجب أحدهما وهناك جميعهما كما أن في القود شيئين لو أخذ فهي أربعة أقسام لأنه إما الاثنان أو أحدهما على البدل لواحد أو لاثنين لكن إن كان الحقان لاثنين متلازمين كالخلع لم يقبل وإن كانا غير متلازمين كالقطع والتعزيز قبلت فصارت خمسة انتهى كلامه.
وقال بعض أصحابنا الموجودين في هذا الزمان إن تعليل الرواية باختلاف المستحق فيه نظر قال وإنما وجهها أن العبيد أموال هذا هو الأصل والمقصود بهم وإن قلنا بالقود بخلاف الأحرار انتهى كلامه وفيه نظر أيضا.
وذكر ابن عبد القوي هذه الرواية فقال وعنه يثبت المال إن كان المجني عليه رقيقا للمدعي لأوليائه نقلها ابن منصور ولم يعللها وقال في الرعاية الكبرى

(2/325)


ومن أتى بذلك في سرقة ثبت له المال دون القطع.
وإن أتى بذلك رجل في خلع ثبت له العوض.
فأما البينونة فتثبت بمجرد دعواه.
وإن أتت بذلك امرأة ادعت الخلع لم يثبت به.
__________
وعنه إن كان المجني عليه عبدا أو حرا أولا قود فيه ثبت المال.
قوله: "ومن أتى بذلك في سرقة ثبت له المال دون القطع".
تقدمت في قوله فإن قلنا بالقود في الجناية المذكورة.
وقال ابن عبد القوي ولقائل أن يقول ولم لا يثبت القطع تبعا لثبوت السرقة كما يثبت رجم المحصن تبعا لثبوت الإحصان باثنين انتهى كلامه.
وفيه نظر لأنه لا يلزم من ثبوت الأدنى وهو المال بشاهده ثبوت الحد وهو الأعلى مع عدم شاهده وهو انتفاؤه بالشبهة والرجم لم يثبت تبعا وإنما ثبت بشهود الزنا وشاهدي الإحصان والسرقة لم تثبت ولهذا قال أبو الخطاب في هذه المسألة تثبت شهادتهن في أخذ مال مطلق لا أخذ يوجب الحد.
قوله: "وإن أتى بذلك رجل في خلع ثبت له العوض".
لأنه يدعي مالا كما يثبت مقدار عوضه والمهر بها إذا اختلفا فيها.
قوله: "فأما البينونة فتثبت بمجرد دعواه" لإقراره بها.
قال في الرعاية الكبرى وقيل بل بذلك.
قوله: "وإن أتت بذلك امرأة ادعت الخلع لم يثبت به".
لأنه ليس بمال ولا يقصد منه بخلاف دعوى الزوج فإن قصده عوضه لقدرته على مفارقتها بالطلاق.

(2/326)


وإن أتى بذلك رجل ادعى على آخر بيده أمة لها ولد أنها أم ولده وإن ولدها ولده حكم له بالأمة وأنها أم ولد وفي ثبوت حرية الولد ونسبه منه روايتان وقيل يثبت نسبه بدعواه وإن بقيناه للمدعى عليه.
ومالا يطلع عليه الرجال كعيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والولادة والحيض والرضاع ونحوه تقبل فيه امرأة.
__________
قوله: "وإن أتى بذلك رجل ادعى على آخر بيده أمة لها ولد أنها أم ولده وأن ولدها ولده حكم له بالأمة".
لأنه يدعي ملكها لأن أم الولد مملوكة له وقد أقام بينة كافية في الملك.
قوله: "وأنها أم ولده".
أما حكم ثبوت الاستدلال فواضع لكن هل حصل بقول البينة أو بإقراره ظاهر كلام غير واحد أنه حصل بقول البينة وصرح بعضهم بأنه ليس بمراد وأنه إنما حصل بإقراره وقطع به في المغني لأن المدعي مقر بأن وطأها كان في ملكه وإقراره يثبت في ملكه.
قوله: "وفي ثبوت حرية الولد ونسبه منه روايتان".
أي من مدعيه وللشافعي أيضا قولان أحدهما يثبت لأن الولد نماء الجارية وقد ثبتت له ومن ثبت له العين له نماؤها زاد بعضهم في تعليلها ثم يثبت نسبة وحريته بإقراره والثانية لا يثبت نصره في المغني بأنه إنما يدعي حريته ونسبه وهذه البينة لا تصلح لإثبات ذلك فعلى هذا يبقى الولد في يد المدعي عليه مملوكا له.
قوله: "وقيل يثبت نسبه بدعواه وإن بقيناه للمدعى عليه".
احتياطا للنسب مع أنه لا ضرر على أحد فيه وهو منفعة للولد.
قوله: "ومالا يطلع عليه الرجال كعيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والولادة والحيض والرضاع ونحوه تقبل فيه امرأة".

(2/327)


وعنه يفتقر إلى امرأتين.
__________
لا بد من عادة أو غالبا قاله الشيخ تقي الدين وغيره وهو صحيح وهذا هو المنصوص في المذهب وذكر القاضي أنه أصح الروايتين وأن الإمام أحمد نص عليه في رواية الجماعة.
قال في رواية ابن منصور تجوز شهادة امرأة واحدة في الاستهلال والحيض والعدة وفيما لا يطلع عليه إلا النساء وكذلك نقل أبو طالب عنه تقبل شهادة القابلة بالاستهلال هذا ضرورة ويقبل في الرضاع امرأة واحدة.
وقال في رواية الميموني هو موضع ضرورة لا يحضره الرجال ونص في رواية إسماعيل بن سعيد على قبول شهادة امرأة في الاستهلال وقال في رواية أحمد بن سعيد وغيره الشهادة شهادة امرأة واحدة في الرضاع.
قوله: "وعنه يفتقر إلى امرأتين".
قال حنبل قال عمي يجوز في الاستهلال شهادة امرأتين صالحتين وقال الفضل بن عبد الصمد سمعت أبا عبد الله وسئل عن شهادة امرأة واحدة في الرضاع وهل تريد الإضرار قال لا تقبل شهادتها وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم في شهادة السوداء: "كيف وقد قيل".
وقال مهنا سألت الإمام أحمد عن شهادة القابلة وحدها في استهلال الصبي فقال لا تجوز شهادتها وحدها وقال لي أحمد بن حنبل قال أبو حنيفة تجوز شهادة القابلة وحدها وإن كانت يهودية أو نصرانية.
وسألت أحمد هو كما قال أبو حنيفة فقال أنا لا أقول لا تجوز شهادة واحدة عليه فكيف أقول بيهودية وهذه الرواية قول مالك لأن كل جنس يثبت به الحق يكفي فيه اثنان كالرجال.
قال الشيخ تقي الدين وعن أحمد ما يقتضي أن قبول الواحدة إنما هو إذا

(2/328)


ـ
لم يكن غيرها وقوله في رواية أبي طالب "تقبل شهادة القابلة بالاستهلال هذه ضرورة" يدل عليه وذكر القاضي عند مسألة تعديل الواحد أنه تجوز شهادة الطبيب في الجراحة وكل موضع يضطر إليه فيه مثل القابلة إذا لم يكن إلا طبيب واحد أو بيطار واحد ومقتضى هذا أنه في العيوب التي تحت الثياب إن وجد امرأتان وإلا اكتفى بواحدة كما في البيطار انتهى كلامه.
وذكر أيضا أن القاضي جعل الشرط في ذلك دون القابلة وقد تقدم وجه هذا.
وقال ابن عقيل في الفنون وهو قول في الرعاية لا تقبل في الولادة شهادة امرأة حاضرة بدلا من القابلة بل يختص ذلك بالقابلة لأنها تتولى ذلك بنفسها وتعمله بيدها وأن الطفل خرج من هذه المرأة وعن الإمام أحمد رحمه الله التوقف في هذه المسألة قال صالح قلت لأبي تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال قال فيها اختلاف كثير قلت إلى أي شيء تذهب قال دعها وقال أبو حنيفة لا يقبل في ذلك إلا رجلين أو رجل وامرأتين ووافق على الولادة وروى ذلك عن عمر رواه سعيد بن منصور بإسناد فيه ضعف وانقطاع وقال تعالى: [282:2] {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية وقال الشافعي لا يقبل من النساء أقل من أربع لأن كل امرأتين كرجل.
ولنا ما تقدم من قبول النبي صلى الله عليه وسلم شهادة أمة في الرضاع.
وعن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما يجوز من الشهود في الرضاع؟ قال: "رجل أو امرأة" قال البيهقي إسناد ضعيف وقد اختلف في متنه وروى المدايني عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة "أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة" وعن علي "أنه أجاز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال" رواه أحمد وسعيد

(2/329)


ـ
من رواية جابر الجعفي ولأن هذه شهادة على عورة فقبل فيها شهادة النساء منفردات فقبل فيه شهادة امرأة كالخبر.
قال أبو الخطاب واحتج يعني الخصم بأنها شهادة على الولادة فلم يقبل فيها امرأة كما لو ادعت المطلقة البائن أنها ولدت وجحد المطلق فشهدت امرأة بولادتها فإنه لا يقبل ذلك ولا يلحق النسب بالمطلق كذلك هنا في مسألتنا قالوا وكذلك لو علق طلاقها بالولادة فشهدت امرأة بالولادة وكذلك إذا شهدت باستهلال الولد لا يقبل منها في الإرث.
قلنا لا نسلم جميع ذلك ونقول يثبت النسب ويقع الطلاق ويستحق الميراث ذكره شيخنا وقال هو ظاهر كلام الإمام أحمد في رواية ابن منصور وأبي طالب وهو مذهب أبي يوسف ومحمد وإنما سلمه أبو حنيفة وقال إنما يثبت قول القابلة في الولادة ويثبت الولد بالفراش فإذا زال الفراش بالبينونة لم يثبت النسب وفي الطلاق والميراث لا يثبت إلا بشاهدين أو شاهد وامرأتين يشهدان بالولادة ثم أفرد أبو الخطاب مسألة وقال أبو حنيفة لا يثبت النسب إلا أن يكون النكاح قائما أو يكون الحمل ظاهرا ويقر بالحبل ولا يقبل في الاستهلال والطلاق إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين.
وكذا ذكر القاضي المسألة والخلاف مع أبي حنيفة وقال فلا يجوز أن يقال ثبت هناك بإقراره وبظهور الحمل لأن هذا الإقرار والظهور لا عبرة به بدليل أنه لا يصح اللعان عليه ولا الإقرار به لأنه يصير تعلقا بشرط.
ومن الحجة قول علي السابق لأن هذه حجة تامة في ثبوت الولادة فيثبت بها ذلك كرجل وامرأتين وهذا لأن ثبوت النسب يترتب على ثبوت الولادة في حال قيام النكاح بلا خلاف فرتب على ثبوتها مع بقاء حكم النكاح وهو العدة كما لو كان ثبوت الولادة برجلين.

(2/330)


ـ
فصل
قال الشيخ تقي الدين قال أصحابنا والاثنتان أحوط وليس الرجل أحوط من المرأة جعله القاضي محل وفاق انتهى كلامه.
وقال أبو الخطاب فإن قيل فلم قلتم إن الاثنين أحوط فأجاب للخروج من الخلاف قال فأما الحجة فالواحدة والجماعة فيه سواء.
فصل
قال الشيخ تقي الدين حديث أبي مسروعة في الأمة الشاهدة بالرضاع يستدل به على شهادة المرأة الواحدة وعلى شهادة الأمة وعلى أن الإقرار بالشهادة بمنزلة الشهادة على الشهادة وعلى أن الشهادة بالرضاع المطلق تؤثر حملا للفظ المطلق على ماله قدر انتهى كلامه.
فصل
روى الخلال عن الإمام أحمد أنه قال وسئل هل تجوز شهادة امرأة في الاستهلال والحيض والعدة والسقط والحمام كل مالا يطلع عليه إلا النساء تجوز شهادة امرأة واحدة إذا كانت ثقة.
ونص الإمام أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه على قبول شهادة المرأة في الحمام يدخله النساء بينهن جراحات.
وقال حنبل قال عمي ولا تجوز إلا فيما لا يراه الرجال.
ووجه ابن عقيل عدم قبول شهادة الصبيان في الجراح في الصحراء بأن قال لأنه لو قبل لأجل العذر لقبل شهادة النساء بعضهن على بعض في الجراح في الحمامات بل حمام النساء لا يدخله رجل قط والصحراء قد لا تخلو من رجل.
فلو جاز هنا لعذر لجاز في شهادة النساء في تجارحهن في الحمامات.

(2/331)


ـ
وقالت المالكية وإحدى الروايات عن أحمد إن الجراحة تدعو إلى قبول شهادتهم في هذا الموضع كما دعت الحاجة إلى قبول شهادة النساء منفردات في الولادة لأنهن يخلون بها قالوا ولهذا قال الإمام أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه في المرأة تشهد على مالا يحضره الرجال من إثبات إهلال الصبي وفي الحمام يدخله النساء فيكون بينهن الجراحات.
قال القاضي في التعليق ضمن مسألة شهادة الصبيان الجواب أنه ليس العادة أن الصبيان يخلون في الأهداف أن يكون معهم رجل بل لا بد أن يكون معهم من يعلمهم أو ينظر إليهم فلا حاجة تدعو إلى قبول شهادتهم على الانفراد.
ثم نقول إذا كان الشخص على صفة لا تقبل شهادته لم يجز قبولها وإن لم يكن هناك غيره ألا ترى أن النساء يخلو بعضهن ببعض في المواسم والحمامات وربما يجني بعضهن على بعض ولا تقبل شهادة بعضهن على بعض على الإنفراد وكذلك قطاع الطريق والمحبسون بها لا تقبل شهادة بعضهم على بعض وإن لم يكن معهم غيرهم.
قال الشيخ تقي الدين الصورة التي استشهد بها قد نص الإمام أحمد على خلاف ما قاله لكنه ملحق وعلى المنصوص هنا أن كل مجمع للنساء لا يحضره الرجال لا تقبل شهادتهن فيه كالشهادة على الولادة وليس بين هذا وبين ماسلمه القاضي وغيره فرق إلا أن المشهود به في الحمام ونحوها لا يقع غالبا بخلاف الاستهلال ونحوه فإنه يقع غالبا ولا يشهده إلا النساء ولهذا فرق المالكية بين الصبيان والنساء بأن الصبيان اجتماعهم مظنة القتال بخلاف النساء وأيضا فان الاستهلال ونحوه هو جنس لا يطلع عليه الرجال وجراح الحمام ونحوها جنس يطلع عليه الرجال وإنما كونه في الحمام هو الذي منع الاطلاع وهذا نظير نص أحمد على قبول شهادة البيطار والطبيب ونحوه للضرورة فصارت الضرورة

(2/332)


والرجل فيه كالمرأة.
__________
مؤثر في الجنس وفي العدد فيتوجه على هذا أن تقبل شهادة المعروفين بالصدق وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود عند الضرورة مثل الحبس وحوادث البر وأهل القرية الذين لا يوجد فيهم عدل وله أصول أحدها شهادة أهل الذمة في الوصية إذا لم يكن مسلم وشهادتهم على بعضهم في قول الثاني شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال الثالث شهادة الصبيان فيما لا يشهده الرجال ويظهر ذلك بمحتضر في السفر إذا حضر إثنان كافران واثنان مسلمان مصدقان ليسا بملازمين للحدود واثنان مبتدعان فهذان خير من الكافرين والشروط التي في القرآن إنما هي شروط التحمل لا الأداء وقد ذكر القاضي هذا المعنى في مسألة شهادة أهل الكتاب على الوصية فقال لما قاس على شهادة النساء منفردات فقال الضرورة قد تؤثر في الشهادات بدليل شهادة النساء على الإنفراد فيما لا يطلع عليه الرجال.
فإن قيل الأنوثة لا تؤثر في الدين وفي العدالة وهذا يؤثر في العدالة فيما قد اعتبرت فيه.
قيل لا يمنع أن يسقط اعتبارها لأجل الضرورة كما قالوا العدالة معتبرة في ولاية النكاح فسقط اعتبارها بالضرورة وهو إذا كان الأب كافرا والبنت مسلمة جاز أن يزوجها لأنها حال ضرورة وفقد العدالة ليس بأكثر من فقد الصفة في الشهادة وهذا يجوز مع الضرورة كالذكورية هي شرط في الشهادة وتسقط عند الضرورة وهي في الحال التي لا يطلع عليها الرجال.
قوله: "والرجل فيه كالمرأة".
وفي عبارة جماعة كأبي الخطاب والشيخ موفق الدين أنه أولى لكماله ولأن ما قبل فيه قول الرجال كالرواية.

(2/333)


باب الشهادة على الشهادة والرجوع عن الشهادة
لا تجوز الشهادة على الشهادة إلا في حق يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي.
__________
باب الشهادة على الشهادة والرجوع عن الشهادة
قوله: "لا تجوز الشهادة على الشهادة إلا في حق يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي".
أما جواز الشهادة على الشهادة فذكره في المغني بالإجماع.
وقال الإمام أحمد في رواية أبي طالب إنها لا تجوز في الحدود وتجوز في الحقوق قال ليس تختلف الناس في هذا وذلك لأن الحاجة داعية إليها فإنها لو لم تقبل لبطلت الشهادة على الوقوف وما يتأخر ثبوته عند الحاكم ثم يموت أو يموت شهوده وفي ذلك ضرر ومشقة فوجب القبول كشهود الأصل ونصب القاضي وأصحابه الخلاف في هذه المسألة مع داود فإنه قال لا تجوز الشهادة على الشهادة وتقبل في المال وما يقصد منه المال عند الأئمة الأربعة وهل يختص القول في ذلك كقول أبي بكر وابن حامد وهو قول أبي حنيفة والشافعي في قول لأنه لا يثبت إلا بشاهدين أو لا يختص فيقبل في الجميع كقول مالك والشافعي في قول وهو الصحيح عند أصحابه لعموم الدليل في ذلك أولا يقبل في حد الله ويقبل فيما سواه قدمه غير واحد وهو ظاهر كلام الخرقي لأن حد الله مبني على الستر والدرء بالشبهات بخلاف غيره أولا يقبل في النسب والحد ويقبل فيما عدا ذلك فيه روايتان.
وذكر في المغني أن الدم كالحد ونصر أبو الخطاب والشريف وغيرهما أن الدم كالأموال وذكر القاضي وغيره أن الحد رواية واحدة في عدم القبول ورواية القبول ذكرها في الإفصاح والرعاية وغيرها وقد قال جعفر بن محمد سمعت أبا عبد الله يسأل عن الشهادة على الشهادة فقال جائزة.

(2/334)


ولا يحكم بها إلا إن تعذر شهادة الأصل بموت أو مرض أو غيبة إلى مسافة القصر وقيل إلى مسافة لا تتسع للذهاب والعود في اليوم.
__________
قوله: "ولا يحكم بها إلا إن تعذر شهادة شهود الأصل بموت أو مرض أو غيبة".
زاد في المغني وغيره أو خوف من السلطان أو غيره وهذا قول الأئمة الثلاثة لأن الأدنى لا يقبل مع القدرة على الأقوى وكسائر الإبدال.
وقال ابن عبد القوي مع ذلك أ حبس وفي معناه الجهل بمكانهم ولو في المصر انتهى كلامه.
وقال أبو يوسف ومحمد تقبل شهادة حاضر في المصر.
وقال الشيخ تقي الدين متوجه على قولنا إن شهادة الفرع خبر ولو كان الأصل في المجلس لم تقبل الفروع ذكره يعني القاضي محل وفاق وقد علل يعني القاضي بالمشقة على شهود الأصل في الحضور وهذا تتعدد أسبابه قال يعني القاضي ويحتمل أن نعتبر سفرا تقصر فيه الصلاة ويحتمل أن لا يعتبر ذلك وتجوز مع الغيبة القصيرة لأن مشقة السفر القصير أكثر من مشقة المريض المقيم في البلد انتهى كلامه.
قوله إلى مسافة القصر.
قطع به في المستوعب وغيره ورجحه غير واحد وهو قول الثلاثة لأن مادونه في الحاضر.
قوله وقيل إلى مسافة لا تتسع للذهاب والعود في اليوم الواحد.
ذكره القاضي في موضع وبه قال أبو يوسف وأبو حامد والشافعي للمشقة في ذلك بخلاف مادون اليوم وفي المسألة قول آخر تقدم.

(2/335)


وعنه لا يحكم بها حتى يموت الأصول.
فعلى الأولى إن شهد الفروع فلم يحكم حتى حضر الأصول أو صحوا وقف حكم الحاكم على سماعه منهم وإن حدث فيهم مالو حدث فيمن أقام الشهادة منع الحكم بها منعه ههنا.
__________
قوله: "وعنه لا يحكم بها حتى يموت الأصول".
نص عليه في رواية جعفر بن محمد وغيره إذا كان حيا وهو غائب لم يشهد على شهادته إلا أن يكون موتا لأنه لا يؤمن أن يتغير عن حاله لما يحدث من الحوادث انتهى كلامه وروى عن الشعبي.
قوله: "فعلى الأولى إن شهد الفروع فلم يحكم حتى حضر الأصول أو صحوا وقف حكم الحاكم على سماعه منهم".
لأنه قدر على الأصل قبل العمل بالبدل فأشبه المتيمم يقدر على الماء.
قوله: "وإن حدث فيهم مالو حدث فيمن أقام الشهادة منع الحكم بها منعه ههنا".
هذا قول الحنيفة وهو ظاهر كلام الإمام أحمد في رواية جعفر بن محمد المذكورة قاله القاضي لإن الحكم مبني عليها كشهود الفرع وغيرهم.
فصل
وإنكار شهود الأصل يمنع قبول شهادة شهود الفرع ذكره القاضي وغيره محل وفاق وكذلك احتج المخالف في الرواية لأنه لو شهد شاهدان على شهادة شاهدين فقال شاهدا الأصل لا نذكر ذلك ولا نحفظه لم يجز للحاكم أن يحكم بشهادتهما كذلك الخبر وكذلك الحاكم إذا ادعى رجل أنه قضى له بحق على فلان ولم يذكر القاضي فأحضر المدعي بينة على حكمه لم يرجع إليها كذلك ههنا

(2/336)


ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلا أن يسترعيه شاهد الأصل.
__________
قال القاضي والجواب أنا لا نسلم هذا في القاضي بل نقول يرجع وأما شهود الفرع فإننا لم نسمع شهادتهم لأن الشهادة أغلظ حكما وأشق طريقا من الخبر.
قال الشيخ تقي الدين القول في الشهود كالقول في الحكام والمحدثين متوجه.
قوله: "ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلا أن يسترعيه شاهد الأصل".
نقله محمد بن الحكم وغيره وقال في رواية الميموني لا تجوز شهادة على شهادة إلا أن يشهدك فأما إذا سمعه يتحدث فإنما هو حديث.
ونقل ابن منصور قلت للإمام أحمد قال ابن أبي ليلى السمع سمعان إذا قال سمعت فلانا أجزته وإذا قال سمعت فلانا يقول سمعت فلانا لم يجزه كان هذا شهادة على شهادته لم يشهد عليه قال ما أحسنه.
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وغيرهما لأن الشهادة على الشهادة فيها معنى النيابة والنيابة بغير إذن لا تجوز ولأنه يحتمل أن يكون له في تحمله عذر فلم يشهد مع الاحتمال بخلاف الاسترعاء فانه لا يكون إلا على واجب.
وخرج ابن عقيل هذه المسألة على شهادة المستخفي قياسا فقال في الفصول وهذا يخرج على ما قدمنا في شهادة المستخفي ووجهه أن هذا ينقل شهادته ولا ينوب عنه لأنه لا يشهد مثل شهادته وإنما ينقل شهادته وقال ابن حمدان وإن شهد عدل عند حاكم فعزل فهل الحاكم المعزول يصير فرعا على الشاهد يحتمل وجهين.
قال المغني فإن قيل فلو سمع رجلا يقول لفلان على ألف درهم جاز أن يشهد بذلك فكذا هذا قلنا الفرق بينهما من وجهين.
أحدهما أن الشهادة تحتمل العلم ولا يحتمل الإقرار ذلك.

(2/337)


فيقول أشهده على شهادتي بكذا.
__________
الثاني أن الإقرار أوسع في لزومه من الشهادة بدليل صحته في المجهول وأنه لا يراعى فيه العدد بخلاف الشهادة ولأن الإقرار قول الإنسان على نفسه وهو غير متهم عليها فيكون أقوى منها ولهذا لا تسمع الشهادة في حق المقر ولا يحكم بها.
قوله: "فيقول أشهده على شهادتي بكذا".
قال في المغني فأما إن قال أشهد أني أشهد على فلان بكذا فالأشبه أنه يجوز أن يشهد على شهادته وهو قول أبي يوسف لأن معنى ذلك اشهد على شهادتي أني أشهد لأنه إذا قال أشهد فقد أمره بالشهادة ولم يسترعه وما عدا هذه المواضع لا يجوز أن يشهد فيها على الشهادة انتهى كلامه.
وفي كلام الشيخ تقي الدين أشهد على أني أشهد وقال في الرعاية فيقول أشهدك أو أشهد على شهادتي أني أشهد لزيد على عمرو بكذا أو أني أشهد له عليه بكذا أو أنه عندي طوعا بكذا أو أشهد به عليه إلى أن قال فان سمعه فرعه يقول أشهد له عليه بكذا لم يشهد على شهادته به أو قال أشهدني فلان بكذا أو عندي شهادته عليه بكذا أو لفلان على فلان كذا أو شهدت عليه به أو أقر عندي به فوجهان أقواهما منعه قال وإن سمعه خارج مجلس الحكم يقول عندي شهادة لزيد أو أشهد بكذا لم يصر فرعا.
قال في المغني ولو قال شاهد الأصل أنا أشهد أن لفلان على فلان ألفا فاشهد به أنت عليه لم يجز أن يشهد على شهادته لأنه ما استرعاه بشهادة فيشهد عليها ولا هو شاهد بالحق لأنه ما سمع الاعتراف به ممن هو عليه ولا شاهد بسببه.

(2/338)


ـ
فصل
قال في الكافي ويؤدي الشهادة على الصفة التي تحملها فيقول أشهد أن فلانا يشهد أن لفلان على فلان كذا وأشهدني على شهادته وإن سمعه يشهد عند الحاكم أو يعزو الحق إلى سببه ذكره.
قال في المستوعب في الصورتين الأخيرتين فيقول أشهد على شهادة فلان عند الحاكم بكذا أو يقول أشهد على شهادته بكذا وأنه عزاه إلى واجب فيؤدى على حسب ما تحمل فإن لم يؤدها على ذلك لم يحكم بها الحاكم.
وقال في المسألة الأولى ويشترط أن يؤدي شاهد الفرع إلى الحاكم ما تحمله على صفته وكيفيته.
وقال الشيخ تقي الدين الفرع يقول أشهد على فلان أنه يشهد له أو أشهد على شهادة فلان بكذا فإن ذكر لفظ المسترعي فقال أشهد على فلان أنه قال أشهد أني أشهد فهو أوضح فالحاصل أن الشاهد بما يسمع تارة يؤدي اللفظ وتارة يؤدي المعنى وقال أيضا والفرع يقول أشهد أن فلانا يشهد أو بأن فلانا يشهد فهو أول رتبة والثانية أشهد عليه أنه يشهد أو بأنه يشهد والثالثة أشهد على شهادته.
وقال في الرعاية ويحكي الفرع صورة تحمله ويكفي العارف أشهد على شهادة فلان بكذا والأولى أن يحكي ما سمعه أو يقول شهد فلان عند الحاكم بكذا أو أشهد أن فلانا أشهد على شهادته بكذا.
فرع
فإن سمع شاهدا يشهد عند حاكم فقال آخر أشهد بمثل ما شهد به أو قال وبذلك أشهد أو قال وكذلك أشهد أو قال أشهد بما وضعت به خطي ولم يذكر وقت الأداء ما تحمله وكتب به خطه فقال ابن حمدان يحتمل

(2/339)


أو يسمعه يشهد بها عند الحاكم أو يعزوها إلى سبب وجوبه من قرض أو بيع ونحوه فيجوز وعنه لا يجوز بدون الاسترعاء بحال.
ولا تثبت شهادة شاهدي الأصل إلا بشاهدين فتثبت سواء شهدا على كل واحد منهما أو شهدا على كل شاهد شاهد نص عليه.
وقال ابن بطة لا تثبت إلا بأربعة على كل أصل فرعان.
__________
أوجها الثالث أنه يصح في كذلك وبذلك فقط والقول بالصحة في الجميع أولى.
قوله: "أو يسمعه يشهد بها عند الحاكم أو يعزوها إلى سبب وجوبه من قرض أو بيع ونحوه فيجوز وعنه لا يجوز بدون الاستبرعاء بحال".
منهم من يحكي وجهين ومنهم من يحكي روايتين ورواية الجواز ذكر في الرعاية أنها أشهر وهو مذهب الشافعي لأنه يزول الاحتمال بذلك فهو كما لو استرعاه ورواية المنع قطع به القاضي في التعليق وبه قال أبو حنيفة لما تقدم.
قوله: "سواء شهدا على كل واحد منهما أو شهدا على كل شاهد شاهد نص عليه".
في رواية المروزي وجعفر بن محمد وحرب وحكاه أيضا إجماعا قال إلا أن أبا حنيفة أنكره لأن شهادة شاهدي الأصل تجري مجرى الإقرار الواحد لأنهما لو كانا مجرى الإقرارين من رجلين لجاز شهادة أحد شاهدي الأصل مع أجنبي على شهادة الآخر وإذا ثبت هذا فالإقرار الواحد اذا شهد عليه نفسان صح وجاز الحكم به وكما لو شهدا بنفس الحق ولأنهم بدل فاكتفى بمثل عدد الأصل.
قوله: "وقال ابن بطة لا تثبت إلا بإربعة على كل أصل فرعان".
ذكره أبو حفص في تعليقه وكذا حكاه غير واحد وهو أحد قولي الشافعي وذكره في الخلاصة رواية عن الإمام أحمد كما لا يثبت إقرار مقرين بشهادة اثنين

(2/340)


ويتخرج أن تكفي شهادة فرعين بشرط أن يشهدا على كل واحد من الأصلين.
ولا مدخل للنساء في شهود الفرع ولا في أصولهم.
__________
يشهد كل واحد منهما على شاهد واحد ولا من ثبت به أحد طرفي الشهادة لا يثبت به الطرف الآخر كما لا يجوز أن يكون شاهد أصل فرعا مع آخر على شاهد أصل والفرق ظاهر.
قوله: "ويتخرج أن تكفى شهادة فرعين بشرط أن يشهدا على كل واحد من الأصلين".
وقطع به ابن هبيرة عن الإمام أحمد وهو ظاهر ما ذكره في المغني والكافي عن ابن بطة وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي في القول الآخر لأنه إثبات حق آدمي بقول عدلين فهو كالشهادة على إقرار نفسين وقد قال في رواية حرب لا تجوز شهادة رجل على شهادة امرأة.
قال القاضي فقد منع أن يكون شهود الأصل نساء فأولى أن يمنع أن يكون شهود الفرع نساء وحملها أبو الخطاب على أنها لا تقبل شهادة الرجل حتى ينضم إليه غيره قال فيخرج من هذه الرواية أنه لا يكفي شاهد واحد.
وذكر القاضي رواية أخرى أنه تقبل شهادة شاهد من شهود الفرع على شاهدي الأصل قال في رواية حرب تقبل شهادة رجل على شهادة رجلين.
وذكر أبو الحسين أن القول الأول الصحيح من المذهب واحتج له بالقياس على أخبار الديانات ثم قال فإن قيل لو كان جاريا مجرى الخبر لجاز أن تقبل شهادة شاهد واحد من شهود الفرع على شهادة شاهدي الأصل كما يقبل خبر الواحد على اثنين قيل في ذلك روايتان.
قوله: "ولا مدخل للنساء في شهود الفرع ولا في أصولهم".

(2/341)


وعنه يدخلن فيهما وعنه يدخلن في الأصول دون الفروع وهو الأصح فإذا شهد رجل وامرأتان على مثلهم أو على رجلين لم يجز إلا على الوسطى ولو شهد رجلان على رجل وامرأتين جاز إلا على الأولى.
__________
نصره القاضي في التعليق ونصره أصحابه أيضا لأنه ليس بمال ولا يقصد منه ويطلع عليه الرجال أشبه القود والنكاح ولأن في الشهادة على الشهادة ضعفا فاعتبر تقويتها باعتبار الذكورية فيها.
قوله: "وعنه يدخلن فيهما".
نصره في المغني وقدمه في الرعاية وقيد جماعة هذه الرواية فيما تقبل فيه شهادتهن مع النساء أو منفردات وحكاه في الرعاية قولا وليس كذلك.
قال القاضي في التعليق إن حربا نقل عن الإمام أحمد ما يقتضي هذه الرواية فقال شهادة امرأتين على شهادة امرأتين تجوز قال ورأيت في جامع الخلال أن هذا قول إسحاق قال شهادة رجل على شهادة امرأتين جائز يحكم به فلا يضاف هذا إلى أحمد وبهذا قال أبو حنيفة لأن القصد من شهادتهن إثبات الحق فكان لهن مدخل كالبيع.
قال الشيخ تقي الدين هذا قياس المذهب في التي قبلها بناء على أن الشهادة على الشهادة تجري مجرى الخبر وإن ألحقناها بثبوت حكم الحاكم قوى المذهب وهذا متوجه جدا فإن شاهد الفرع مسترعى كالحاكم انتهى كلامه.
قوله: "وعنه يدخلن في الأصول دون الفروع وهو الأصح".
هذه طريقته في الكافي وغيره لأنهم قدموا الدخول في الأصول وأطلقوا روايتين في الفروع وبه قال الشافعي لأنها شهادة بمال بخلاف شهادتهن في الفروع.
قوله: "فإذا شهد رجل وامرأتان إلى آخره".

(2/342)


ولا يجوز أن يحكم بالفروع حتى تثبت عدالتهم وعدالة أصولهم وإذا حكم ثم رجع شاهدا الفرع ضمنا ولو قالا لقد بان لنا كذب الأصول أو غلطهم لم يضمنا شيئا.
__________
تفريع واضح على الروايات.
فرع
قال القاضي ولو شهد على شاهدين بأن هذه الدار لزيد وعلى آخرين بأنها لعمرو صح ذكره محل وفاق.
قوله: "ولا يجوز أن يحكم بالفروع حتى تثبت عدالتهم وعدالة أصولهم".
لأن الحاكم يبنى على شهادتهما ومقتضى كلامه الاكتفاء بتعديل شهود الفرع كغيرهم وهو صحيح وذكر في المغني أنه لا يعلم فيه خلافا وقال في الرعاية وفيه نظر ووجهه أن فيه تهمة كما لا يزكى ففيه في الشهادة.
قوله: "وإذا حكم ثم رجع شاهدا الفرع ضمنا".
لأنهما تسببا إلى إتلافه بشهادة الزور فأشبه مالو أتلفوه بأيديهم.
قوله: "ولو قالا لقد بان لنا كذب الأصول أو غلطهم لم يضمنا شيئا".
وفي كلام بعضهم إشارة إلى هذا لأنهما لم يفرطا ولم يتسببا في إتلافه ولأنهما لو ضمنا في هذه الحال أفضى إلى عدم الشهادة على الشهادة وظاهر كلام جماعة الضمان لأن إتلافه حصل بشهادتهم كالتي قبلها والافتراق في الكذب لا يمنع الضمان ويعرف من كلامه أنهما لو قالا لا نعلم أنهم كذبة أو غالطون ضمنا.
وصرح به الشيخ تقي الدين قال لأنه من حدث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين وكذلك كل من شهد على أقرار أو حكم يعلم أنه باطل وإن شهدوا على عقد يعلمون تحريمه انتهى كلامه.

(2/343)


وإن رجع الأصول فقالوا كذبنا أو غلطنا ضمنوا وقيل لا يضمنون ولو قالوا ما أشهدناهم بشيء لم يضمن الفريقان شيئا.
وإذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض سواء قبض المال أو لم يقبض تالفا كان أو باقيا.
__________
قوله: "وإن رجع الأصول فقالوا كذبنا أو غلطنا ضمنوا".
وقدمه في الرعاية لأن الحكم مبنى على شهادتهم وكذلك تعتبر عدالتهم ولأنهم سبب فضمنوا كالمزكين.
قوله: "وقيل لا يضمنون".
قدمه الشيخ وغيره وتبع أبا الخطاب في ذكره احتمالا بالضمان وقطع به القاضي ونصب الخلاف مع محمد بن الحسن بحصول الإتلاف عقيب شهادة الفروع كالمباشر مع المتسبب.
قوله: "ولو قالوا ما أشهدناهم بشيء لم يضمن الفريقان شيئا".
أما الأصول فلعدم ثبوت ذلك عليهم وأما الفروع فإنه لا تفريط منهم والأصل صدقهم فلا ضمان.
قوله: "وإذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض سواء قبض المال أو لم يقبض تالفا كان أو باقيا".
قد أطلق في مواضع أن الشاهد يضمن ولم يفرق بين ما قبل التلف وبعده قاله الشيخ تقي الدين وسيأتي في الشاهد واليمين وذكره القاضي محل وفاق وذكر في المغني أنه قول أهل الفتيا من علماء الأمصار لأن حق المشهود له قد وجب فلا يزول إلا ببينة أو إقرار ولم يوجد واحد منهما.
قال الشيخ تقي الدين في كلام أحمد ما ظاهره أنه ينقض الحكم إذا رجعا بعد الحكم ثم إن كان المال باقيا أعيد وإن كان تالفا ضمناه ولفظ رواية ابن

(2/344)


ـ
منصور يقتضي ذلك فإنه قال إذا شهد شهادة ثم رجع عنها وقد أتلف مالا فهو ضامن لحصته فإنما أوجب الضمان إذا تلف المال وقال الأثرم سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل قضى عليه بشهادة شاهدين فرجع أحد الشاهدين قال يلزمه ويرد الحكم قيل لأبي عبد الله وإذا قضى له بحق بشهادة شاهد ويمين المدعي ثم رجع الشاهد فقال إذا تلف الشيء كان على الشاهد لأنه إنما ثبت ههنا بشهادته ليس اليمين من الشهادة في شيء فقد نص على أن يرد الحكم.
قال إذا تلف الشيء كان على الشاهد وقال أحمد بن القاسم قلت لأبي عبد الله فإن رجع الشاهد عن الشهادة كم يغرم قال المال كله لأنه شاهد وحدة قضى بشهادته ثم قال لي كيف قول مالك فيها قلت لا أحفظه قلت له بعد هذا المجلس إن مالكا كان يقول إن رجع الشاهد فعليه نصف الحق لأني إنما حكمت بشيئين بشهادة ويمين الطالب فلم أره رجع عن قوله وسألته عن رجوع الشهود قبل الحكم وبعده سواء قال لا كيف يكون سواء وقبل الحكم لم يقع شيء ولم يؤخذ من الرجل شيء كيف يكون هذا وذاك سواء هذا قائم بعد بحاله.
فعلم أن الموجب للضمان بعد هذا فعل تلف المال لا مجرد الحكم ولكن جوابه بأن الضمان جميعه على الشاهد دون المال قد يظن أنه لا ضمان معه على الطالب فلا ينقض الحكم لكن مقصود أحمد أن الشاهد هنا يطالب بجميع المشهود به بخلاف ما لو كانا شاهدين فإنه إذا رجع أحدهما لم يطالب إلا بنصفه وروى الأثرم عن ابن أبي شيبة عن وكيع قال قال سفيان إذا مضى الحكم جازت الشهادة ويغرم الشاهد إذا رجع وعن ابن أبي شيبة عن ابن مهدي وغندر عن شعبة عن حماد قال: "يرد الحكم" ثم ذكر نص أحمد قال يلزمه ويرد الحكم انتهى كلامه.

(2/345)


ويلزمهم الضمان ولا يلزم من زكاهم شيء.
وإن رجع شهود العتق غرموا القيمة.
__________
وعن ابن المسيب والأوزاعي ينقض الحكم وإن استوفى الحق كما لو تبين أنهما كانا كافرين قلنا في الأصل لم يوجد شرط الحكم وفي الفرع وجد ظاهرا وكذا باقي الرجوع.
قوله: "ويلزمهم الضمان".
نص عليه ذكره القاضي وغيره كما تقدم وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي في المذهب القديم وقال في الجديد لا ضمان عليهما ووافق في العتق والطلاق.
ووجه قولنا أن شهادتهما صارت سببا في الإتلاف وهما متعديان في السبب فضمنا لمحل الوفاق.
فرع
ذكر القاضي أنه لو أقر المشهود له بالعين للمشهود عليه بعد ما حكم له بها الحاكم فإنها تعود إليه على حكم ملك مستقبل1.
قوله: "ولا يلزم من زكاهم شيء".
ذكره القاضي محل وفاق في مسألة رجوع الأصول لأن من زكاه صدقة محتمل وإنما كذبه في رجوعه فلا يلزمهم شيء مع الشك.
قوله: "وإن رجع شهود العتق غرموا القيمة".
وكذا لو صدق العبد الشهود في بطلان الشهادة لم يرجع إلى الرق لأن في الحرية حقا لله تعالى ذكره القاضي محل وفاق فيه وفي الطلاق.
__________
1 بهامش الأصل: فإنها تعود على حكم ملك المستقبل، كذا ذكره القاضي.

(2/346)


وإن رجع شهود بطلاق قبل الدخول غرموا نصف المسمى وإن كان بعده لم يغرموا شيئا وعنه يغرمون المسمى كله.
وإن رجع شهود القود أو الحد قبل الاستيفاء لم يستوف وقيل يستوفى فإذا كان لآدمي كما في الفسق الطارئ.
__________
قوله: "وإن رجع شهود بطلاق قبل الدخول غرموا نصف المسمى".
وفاقا لأبي حنيفة ومالك لا مهر المثل ولا نصفه خلافا لقولي الشافعي لأن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم بدليل مالو أخرجته من ملكه بردة أو رضاع وقد ألزم الزوج نصف المسمى بشهادتهما فرجع كما يرجع به على من فسخ نكاحه.
قوله: "وإن كان بعده لم يعزموا شيئا".
هذا هو الراجح في المذهب وفاقا لأبي حنيفة ومالك خلافا للشافعي في ضمان مهر المثل لأنهما لم يقررا على الزوج شيئا ولم يخرجا من ملكه متقوما كما لو أخرجاه أو غيرهما برضاع أو غيره.
قوله: "وعنه يغرمون المسمى كله".
فإن عدم فما يلزم الزوج من مهر المثل لأنهما فوتا عليه نكاحها كما قبل الدخول وهذه الرواية تدل على أن المسمى لا يتقرر بالدخول فيرجع الزوج على من فوت عليه نكاحها برضاع أو غيره.
قوله: "وإن رجع شهود القود أو الحد قبل الاستيفاء لم يستوف".
هذا هو المشهور وقطع به غير واحد لأنه يدرأ بالشبهة والمال يمكن جبره والقود شرع للتشفى لا للجبر فعلى هذا ذكره ابن الزاغوني في الواضح أن المشهود عليه له الدية إلا أن نقول الواجب القصاص حسب فلا يجب شيء.
قوله: "وقيل يستوفى إذا كان لآدمي كما في الفسق الطارئ".

(2/347)


وإن كان بعده وقالوا أخطانا لزمهم دية ما تلف ويتقسط الغرم على عددهم بحيث لو رجع شاهد من عشرة غرم العشر وإن رجع منهم خمسة غرموا النصف.
وإن شهد بالمال رجل وثمان نسوة ثم رجعوا لزم الرجل الخمس وكل امرأة العشر.
__________
على خلاف فيه وفرق بأن الشاهد هنا يقر بأن شهادته زور حين شهادته وحين الحكم بها فهو أقوى في الشبهة لأن من طرأ فسقه لا يقر بشيء من ذلك ولو أقر لم يتحقق صدقه في فسقه ولو بعد الاستيفاء لم يضمن شيئا بخلاف الراجع.
قوله: "وإن كان بعده وقالوا أخطأنا لزمهم دية ما تلف".
مخففة لا تحمله العاقلة ويعزران.
قوله: "ويتقسط الغرم على عددهم بحيث لو رجع شاهد من عشرة غرم العشر وإن رجع منهم خمسة غرموا النصف".
قطع به جماعة ونص عليه أحمد لأنه حصل بقول الجميع كما لو رجعوا جميعا ويحتمل أن يجب على الراجع الجميع لأن الحق إنما ثبت به ذكره ابن الزاغوني وعلى الأول إذا شهد بالقتل ثلاثة وبالزنا خمسة فرجع أحدهم في القتل فالثلث وفي الزنا فالخمس قال في الرعاية الكبرى وقيل لا يلزمهما شيء لبقاء من يكفي فيهما وهو أقيس وهو قول أبي حنيفة ومنصوص الشافعي وإن رجع من ثلاثة القتل اثنان فهل يغرمان النصف أو الثلثين على الوجهين وإن رجع من خمسة الزنا اثنان فهل عليهما الخمسان أو الربع على الوجهين.
قوله: "وإن شهد بالمال رجل وثمان نسوة ثم رجعوا لزم الرجل الخمس وكل امرأة العشر".

(2/348)


وقيل يلزمه النصف وكل امرأة نصف الثمن.
وإذا شهدوا أربعة بالزنا واثنان بالإحصان فرجم ثم رجع الستة لزمتهم الدية أسداسا وقيل يلزم شهود الزنا النصف وشاهدي الإحصان النصف.
__________
قطع به غير واحد وهو قول أبي حنيفة والشافعي لما تقدم ولأن كل امرأتين كرجل.
قوله: "وقيل يلزمه النصف وكل امرأة نصف الثمن".
ذكره القاضي في الجامع الصغير وهو قول أبي يوسف ومحمد لأن الرجل نصف البينة بدليل رجوعه وحده قبل الحكم وقيل الرجل كأنثى وفيه وعن أبي حنيفة وأصحابه متى رجع من النسوة ما زاد على اثنتين فليس على الراجعات شيء ويكون قولا لنا كما تقدم في التي قبلها وهو قول بعض الشافعية.
قوله: "وإذا شهدوا أربعة بالزنا واثنان بالإحصان فرجم ثم رجع الستة لزمتهم الدية أسداسا".
لأن القتل حصل بقول جميعهم كما لو شهدوا جميعا على الزنا.
قوله: "وقيل يلزم شهود الزنا النصف وشاهدي الإحصان النصف"
لأنه قتل بنوعين فتقسم الدية عليهما وذكر ابن هبيرة عن الإمام أحمد روايتين كالوجهين وقال أبو حنيفة والأظهر عن مالك وأحد الوجهين للشافعية لا ضمان على شهود الإحصان لأنهم شهدوا بالشرط لأن السبب الموجب للقتل ثبت بشهادة الزنا وذكر ابن عقيل مثل هذا في تعليل مسألة الحكم بشاهد ويمين وتشبه هذه المسألة ما لو شهد اثنان بتعليق عتق أو طلاق واثنان بوجود شرطه ثم رجعوا قال في الرعاية فالعزم على كل جهة نصفه وقيل يغرم كله شهود التعليق.

(2/349)


وقيل يلزمه النصف وكل امرأة نصف الثمن.
وإذا شهدوا أربعة بالزنا واثنان بالإحصان فرجم ثم رجع الستة لزمتهم الدية أسداسا وقيل يلزم شهود الزنا النصف وشاهدي الإحصان النصف.
__________
قطع به غير واحد وهو قول أبي حنيفة والشافعي لما تقدم ولأن كل امرأتين كرجل.
قوله: "وقيل يلزمه النصف وكل امرأة نصف الثمن".
ذكره القاضي في الجامع الصغير وهو قول أبي يوسف ومحمد لأن الرجل نصف البينة بدليل رجوعه وحده قبل الحكم وقيل الرجل كأنثى وفيه وعن أبي حنيفة وأصحابه متى رجع من النسوة ما زاد على اثنتين فليس على الراجعات شيء ويكون قولا لنا كما تقدم في التي قبلها وهو قول بعض الشافعية.
قوله: "وإذا شهدوا أربعة بالزنا واثنان بالإحصان فرجم ثم رجع الستة لزمتهم الدية أسداسا".
لأن القتل حصل بقول جميعهم كما لو شهدوا جميعا على الزنا.
قوله: "وقيل يلزم شهود الزنا النصف وشاهدي الإحصان النصف"
لأنه قتل بنوعين فتقسم الدية عليهما وذكر ابن هبيرة عن الإمام أحمد روايتين كالوجهين وقال أبو حنيفة والأظهر عن مالك وأحد الوجهين للشافعية لا ضمان على شهود الإحصان لأنهم شهدوا بالشرط لأن السبب الموجب للقتل ثبت بشهادة الزنا وذكر ابن عقيل مثل هذا في تعليل مسألة الحكم بشاهد ويمين وتشبه هذه المسألة ما لو شهد اثنان بتعليق عتق أو طلاق واثنان بوجود شرطه ثم رجعوا قال في الرعاية فالعزم على كل جهة نصفه وقيل يغرم كله شهود التعليق.

(2/350)


وإذا حكم في مال بشاهد ويمين ثم رجع الشاهد غرم المال كله نص عليه.
__________
قوله: "وإذا حكم في مال بشاهد ويمين ثم رجع الشاهد عن الشهادة غرم المال كله نص عليه".
في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحارث وأبي الحارث يضمن الشاهد جميع المال ولا يرجع بنصفه على المشهود له وقال إنما ثبت الحق بشهادته.
وكذلك نقل ابن مشيش وابن بختان وهذا قول مالك.
قال الشيخ تقي الدين بنى القاضي المسألة على أن الحكم إنما وقع بالشهادة وإنما اليمين للاحتياط كاليمين مع الشاهدين على الغائب وأن اليمين قول المدعي فلا يحكم له بها وهذه بحوث تشبه بحوث الحنفية فإنهم لا يجعلون اليمين في جنبة المدعي قط ويتوجه للمسألة مأخذ آخر وهو أن اليمين هنا قول آخر فأشبهت دعواه وقبضه فإن الشاهد هو الذي مكنه من أن يحلف ويأخذ كما أن الشاهدين هما اللذان مكناه من أن يأخذ ألا ترى أنه لا يحلف إلا بعد الشهادة بخلاف أحد الشاهدين مع الآخر وحقيقته أن الشاهد متسبب في الإتلاف والحالف مباشر ولم يمكن إحالة الحكم عليه فيحال على السبب وكل واحد من الشاهدين متسبب وهذا فقه جيد يبين به حسن فقه أبي عبد الله.
وقال القاضي في التعليق ضمن مسألة الشاهد إذا ادعى على ميت أو صبي أو مجنون واستحلفه الحاكم مع بينته فإن الحكم بالبينة لا باليمين ذكره محل وفاق فلو رجع الشاهدان هنا ضمنا جميع المال قال وهو يستحلف عندنا إذا ألزمه الحاكم وفيها روايتان مطلقا فاعتذر المخالف بأن اليمين هناك على وجه الاستظهار لأن المدعى عليه لا يعبر عن نفسه واليمين هنا لإثبات الحق فقال لا نسلم أنها لإثبات الحق وإنما هي للاحتياط وإنما يثبت الحق بالشاهد

(2/351)


وقيل يغرم النصف ويضمن شهود التزكية إذا رجعوا عنها ما يضمنه من زكوهم لو رجعوا.
__________
قال الشيخ تقي الدين وهذا يؤيد أن الروايتين في مسألة الغائب أن يحلف على ثبوت الحق المشهود به لا على بقائه كما في الشاهد واليمين إذ لولا ذلك لكان عذر المخالف عن تلك المسألة ظاهرا لأن المحلوف عليه المشهود به.
قوله: "وقيل يغرم النصف".
خرجه أبو الخطاب من رد اليمين على المدعي وهو قول الشافعي وحكاه بعضهم عن مالك ورواية عن الشافعي يرجع بنصفه على المشهود له.
قال الشيخ تقي الدين وهذه العبارة ليست بجيدة إلا فيما إذا رجعا معا وفي هذه الصورة قرار الجميع على المشهود له وأما الشاهد فيضمن إما الجميع وإما النصف ويرجع به.
قوله: "ويضمن شهود التزكية إذا رجعوا عنها ما يضمنه من زكوهم لو رجعوا".
وكذا ذكره الشيخ موفق الدين محل وفاق قاس عليه رجوع شهود الأصل لأن الحكم ينبنى على شهادتهم كشهود الفرع
فصل
قال الشيخ تقي الدين وإذا تبين خطأ الشهود أو كذبهم أو خطأ المزكين فهنا الحكم باطل لكن ينبغي أن تكون الشهادة أو التزكية سببا للضمان والقرار على المتلف بخلاف الرجوع فإنه لا ضمان إلا على الراجع انتهى كلامه.
ولعل هذه المعنى يؤخذ من كلام الشيخ موفق الدين وغيره.
وقال القاضي لو شهدا عليه بالقرض فحكم الحاكم عليه بالمال وسلمه إلى المقرض ثم أقام المشهود عليه البينة بعد ذلك أنه كان قضاه لم يضمن شهود

(2/352)


وإذا رجع شهود الحق قبل الحكم لغت شهادتهم ولم يضمنوا.
__________
القرض لأنه لم يكن في شهادتهم إثبات المال في الحال ولو كانوا شهدوا بأن لفلان عليه ألف درهم فحكم الحاكم بشهادتهم ثم أقام المقضي عليه البينة أنه كان قضاه قبل ذلك ضمن الشهود الذين شهدوا بالمال ذكره محل وفاق مع الحنفية.
قال الشيخ تقي الدين وهذا يقتضى أن خطأ المشهود موجب للضمان كرجوعهم وإن ظهر ذلك ببينة كما قيل في شاهد الزور قد يظهر كذبة بإقرار أو تبيين لكن هنا قالوا ببينة.
قال الشيخ تقي الدين وكذا يجب فإن الشهادة إذا كانت باطلة فسواء علم بطلانها برجوعهم أو بطريق آخر وكذلك التزكية لو ظهر فسق الشهود ضمن المزكون وكذلك يجب أن يكون في الولاية لو أراد الإمام أن يولي قاضيا أو واليا لا يعرفه فسأل عنه فزكاه أقوام ووصفوه بما يصلح معه للولاية ثم رجعوا أو ظهر بطلان تزكيتهم فينبغي أن يضمنوا ما أفسده الوالي والقاضي وكذلك لو أشاروا عليه أو أمروه بولايته فإن الآمر بالأمر بمنزلة الشهادة بالشهادة لكن الذي لا ريب في ضمانه من تعمد المعصية مثل أن يعلم منه الخيانة أو العجز ويخبر عنه بخلاف ذلك أو يأمر بولايته أو يكون لا يعلم بحاله ويزكيه أو يشير به فأما إذا اعتقد صلاحه وأخطأ فهذا معذور والسبب هنا ليس محرما وعلى هذا فالمزكي للعامل من المقرض والمشتري والوكيل كذلك فالتزكية أبدا جنس واحد وأما الأمر فهو نظير التزكية التي هي خبر انتهى كلامه.
قوله: "وإذا رجع شهود الحق قبل الحكم لغت شهادتهم ولم يضمنوا".
وهذا قول عامة العلماء لأنها شرط الحكم فيشترط استدامتها إلى انقضائه كعدالتها ولأن رجوعها يظهر كذبها ولأنه يزول ظنه في أن ما شهد به حق.

(2/353)


وإذا زاد العدل في شهادته أو نقص قبل الحكم.
__________
كما لو تغير اجتهاده وقد قال الإمام أحمد في رواية الأثرم في شاهدين شهدا على رجل بألف درهم فقال أحدهما بعد إقامة الشهادة قد قضاه منها خمسمائة درهم قد أفسد ما شهد به إذا كان بحضرة ذلك ولو جاء بعد هذا المجلس فقال أشهد أن قضاه منها خمسمائة لم يقبل لأنه قد أمضى الشهادة قال ابن عقيل وظاهر هذا من كلامه أنه لم يعتبر حكم الحاكم وإنما اعتبر انقضاء المجلس وهو محمول على أن الإمام أحمد أبطل شهادته في قدر المرجوع فيه قبل أن يحكم الحاكم بشهادتهما.
وقال الشيخ تقي الدين عقيب هذا النص وشهادته بالقضاء رجوع أو بمنزلة الرجوع وقد قال إذا كان في غير ذلك المجلس لم يقبل لأن الشهادة عند الحاكم قد تعلق بها حق المشهود له وثبتت عنده فرجوعه حينئذ كرجوعه بعد الحكم لكن لم يذكر ضمانه للمشهود عليه إما لعدم الحاجة أو كمذهب الشافعي انتهى كلامه.
قوله: "وإذا زاد العدل في شهادته أو نقص قبل الحكم".
قال ابن منصور قلت للإمام أحمد الرجل يغير شهادته ويزيد وينقص قال من الرجل العدل ليس به بأس وقطع به في المستوعب والكافي وغيرهما.
وبه قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق أنها شهادة من عدل كغيرها والشهادة شرط الحكم فيجب استمراره على شهادته إلى تمامه لأن ما ذكره محتمل لاحتمال سبق اللسان وقيل يؤخذ بقوله الأول وهو قول مالك لأنه أداها غير متهم كما لو اتصل بها الحكم وقيل ترد شهادته في ذلك مطلقا وهو قول الزهري لأنه مقر بغلط في الأولى ولا يؤمن مثله في الثانية.

(2/354)


أو أداها بعد إنكارها قبلت نص عليه.
وإذا علم الحاكم بشاهد الزور بإقراره أو تبين كذبه يقينا عزره وطاف به حتى يشتهر أمره ويقال إنا وجدناه شاهد زور فاجتنبوه.
__________
قوله: "أو أداها بعد إنكارها قبلت نص عليه".
في رواية ابن منصور إذا قيل له عندك شهادة قال لا ثم شهد بها شهادته جائزة وكذلك ذكره القاضي محل وفاق إذا أنكر الشاهد شهادته ثم شهد بها قبلت وكذلك قطع به جماعة كالمستوعب والكافي لأن ما ذكره محتمل لاحتمال النسيان وقد أشار أحمد إلى هذا فقال ذكر ما لم يقبل ذلك وقيل لا تقبل كالمدعي إذا أنكر أن تكون له بينة فان بينته لا تقبل في المشهور والتفريق بينهما فيه إشكال وفرق القاضي بين مسألة الكتاب وبين المدعي إذا أنكر الشهادة له بأن البينة غير متهمة وصاحب الحق متهم.
قوله: "وإذا علم الحاكم بشاهد الزور بإقراره أو تبين كذبه يقينا عزره وطاف به حتى يشتهر أمره ويقال إنا وجدناه شاهد زور فاجتنبوه".
قال الإمام أحمد في رواية عبد الله وإسحاق بن إبراهيم في شاهد الزور يطاف به في حيه ويشهر أمره ويؤدب أيضا ما به بأس.
وقال في رواية ابن منصور ويقام للناس ويعرف ويؤدب وهكذا في رواية يعقوب يشهر أمره وبهذا قال مالك والشافعي لأنه قول محرم يضر به الناس لا كفارة فيه أشبه السب والقذف ولأن فيه زجرا وذكر القاضي في تعزير الإمام على الظهار وجهين وفرق غيره بأن فيه كفارة وبأنه يختص بنفسه ولو سب نفسه أو شتمها لم يعزر ولو سب غيره وشتمه عزر.
قال الشيخ تقي الدين هذا مع قوله إن كل معصية لا حد فيها ولا كفارة يجب فيها التأديب والتعزير انتهى كلامه.

(2/355)


ـ
وقال أبو حنيفة لا يعزر ثم حكى أنه يوقف في قومه ويقال إنه شاهد زور وحكي عنه عدمه ووافق أنه إذا كان مصرا فعل به ذلك لكن إذا ظهر منه الندم والتوبة لم يعزر وقد روى عن عمر رضي الله عنه أنه كتب فيه أن يجلد ظهره وفي رواية أربعين ويسخم وجهه ويطال حبسه ويطاف به وفي رواية يحلق رأسه والأسانيد فيها ضعف.
فتأولت الحنفية ذلك على أنه كان مصرا ولهذا جمع بين التعزير والحبس والتسخيم قالوا وعندكم يفعل التسخيم والحبس والتعزير فقال القاضي الظاهر يقتضي الجمع بينهما لكن قام دليل الإجماع على إسقاط الحبس.
قال الشيخ تقي الدين قال الإمام أحمد يؤدب والأثران عن عمر هو رواهما فلعل الأدب عنده هو ما رواه عن عمر انتهى كلامه.
ونقل عنه حنبل يحكم فيه السلطان بما يرى وقال في رواية مهنا يبعث به إلى مجلسه ثم يقولون هذا فلان شهد بالزور اعرفوه فقلت له ثم يضرب قال نعم قلت كم قال يعزر كم قال نصف الحد لا أقل قلت ويسود وجهه قال قد روى عن عمر "أنه سود وجه شاهد الزور" قلت ترى أنت أن يسود وجهه قال لا أرى فرأيت أنه كره تسويد الوجه.
ونقل عنه حنبل أيضا قال يبين أمره قلت له فعليه عقوبة في نفسه قال يبين للناس أمره ويشهر لئلا يغر غيره ولا يغتر به وذاك إلى السلطان إن شاء عاقب.
وقال القاضي وغيره لا يزيد في التعزير على عشر جلدات والله أعلم بمعنى قول الإمام أحمد نصف الحد.
قال ابن عقيل ولا أدري من أين له هذا التقدير يعني القاضي وقال ابن عقيل أيضا قال أصحابنا ولا يركب ولا يحلق رأسه ولا يمثل به وهذا

(2/356)


ـ
إنما يكون بحسب حاله فعندي أنه لا يفعل ذلك بمن ندرت منه نادرة وهو من أهل البيوتات وذوي الهيئات فأما إن كان معروفا بذلك يتكرر منه أشباه ذلك فردعه بما يراه الحاكم رادعا لمثله وإن أفضى إلى إشهاره راكبا والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مثل بالعرنيين لما رأى ذلك حدهم وعقوبتهم والصحابة رضي الله عنهم بعده مثلت لما رأت ذلك فأبو بكر أحرق في اللواط وعلي أحرق الزنادقة في الأخاديد ولما شاور أبو بكر في حد اللواط وفي الذي يلاط به اختلف الصحابة في أنواع المثلة فقيل يحرق وقيل يرجم وقيل يرمى من شاهق أعلى بيت في القرية وقيل يحبس إلى أن يموت انتهى كلامه.
وكلام الإمام أحمد في رواية حنبل السابق يشهد له.
واحتج الحنفية فقالوا الرجوع عن القول الموجب وهو الإقرار بالزنا أسقط عنه الحد فالرجوع عن القول الذي يوجب التعزير وهو التزوير على المشهود عليه أولى أن يسقط عنه.
فقال القاضي والجواب أنه ليس الخلاف فيمن تاب وإنما الخلاف فيمن ثبت عليه أنه شهد بالزور إما بقيام البينة على إقراره بذلك أو بعلم الحاكم به قطعا بأن شهد بقتل رجل والحاكم يعلم أنه لم يقتل وهو أن يكون الرجل عنده وقت القتل أو يكون الذي يدعي أنه مقتول حي لم يقتل فأما إذا تاب فإنا لا نعزره وقيل لا يسقط التعزير بالتوبة لأنه قد تعلق بحق آدمي وهو شهادته عليه وحقوق الآدميين لا تؤثر فيها التوبة.
قال الشيخ تقي الدين أما إذا تاب بعد الحكم فيما لا يبطل برجوعه فهنا قد تعلق به حق آدمي ثم تاره يجيء إلى الإمام تائبا فهذا بمنزلة قاطع الطريق إذا تاب قبل القدرة عليه وتارة يتوب بعد ظهور تزويره فهنا لا ينبغي أن يسقط

(2/357)


ـ
عنه التعزير وقد احتج الحنفية بأنه ساع في الأرض بالفساد فهو كقاطع الطريق وذلك لو جاءنا تائبا قبل القدرة عليه لم نعزره كذلك شاهد الزور إذا جاء تائبا فقال القاضي والجواب عنه ما تقدم.
فصل
قال الشيخ تقي الدين الإقرار بالشهادة هل يكون بمنزلة الشهادة على الشهادة فيه حديث الأمة السوداء في الرضاع فإن عقبة بن الحارث "أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة أخبرته أنها أرضعتهما" فنهاه عنها من غير سماع من المرأة وقد احتج به الأصحاب من قبول شهادة المرأة الواحدة في الرضاع فلولا أن الإقرار بالشهادة بمنزلة الشهادة ما صحت الحجة وهو ظاهر يؤيده أن الإقرار كحكم الحاكم بالعقد الفاسد مسوغ للحاكم الثاني أن ينفذه مع مخالفته لمذهبه والشهادة على الشهادة بمنزلة كتاب القاضي إلى القاضي فإذا كان الإقرار بالحكم يجوز العمل به كالشهادة فكذلك الإقرار بالشهادة إلا أنه إنما لم يجب العمل بالإقرار بالكتاب إذا خالف رأي القاضي الثاني لأن إقرارهم لا يقبل عليه.
فلو كان الإقرار بكتاب لا يرى مخالفته وجب عليه العمل به وعلى هذا فمتى أقر أهل الوقف بكتاب يتضمن شرط الواقف أو غيره وجب العمل به في حقهم وضابطه أن الإقرار ثلاثة أنواع إقرار بنفس الحكم كإقراره بأن له علي ألفا أو بأن هذا العين ملكه أو بأني عبده أو أنه أخوه أو أني زوجه ونحو ذلك وإقرار بسببه كالإقرار بالبيع والهبة والإرث ونحو ذلك وإقرار بحجة الحكم كالإقرار بالإقرار والإقرار بالشهادة والإقرار بالحكم وكل هذه شهادات على نفسه فأما الإقرار بالسبب فمعروف.
وأما الإقرار بالحكم فمقبول إلا أن يكون فيه حق لله تعالى وهو مما يجهل المقر ثبوته مثل إقراره بأنه يجب رجمه أو يجب قطع يده أو يجب حد قذفه

(2/358)


ـ
أو يجب قتله قودا أو أن هؤلاء يستحقون دمه فالأشبه في مثل هذا أن يستفسر عن صفة الإقرار كما استفسر النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا أو يفرق بين الحق المحض لله تعالى وبين القود وحد القذف.
وأما الإقرار بالحجة فمقبول أيضا لكن لو قال أقررت بهذا المال وكنت غالطا فهنا يتوجه أن لا يحكم بهذا الإقرار كما لو قال كان له علي وقضيته لأن الإقرار الأول لم يثبت والثاني إنما أثبته على صفة لا يحكم بها فهو كما لو قال شهد على شاهد وهو كاذب والشاهد لم تعلم عدالته وفيه نظر.
يوضح هذا أن أصحابنا شبهوا الشهادة على الشهادة بالشهادة على الإقرار وقبلوا على كل شاهد شاهدا والرجل هنا أعني عقبة بن الحارث مقر شاهد على الشهادة والاحتجاج بحديث الأمة السوداء على أن الإقرار بالشهادة بمنزلة الشهادة على الشهادة فيه نظر لأنه فتيا من النبي صلى الله عليه وسلم لعدم شروط الحكم من الدعوى وغيرها واقتصار الأصحاب في الشهادة على الشهادة على مجرد المعنى يدل على أنه لا أثر في المسألة عندهم.

(2/359)