الهداية
على مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني كِتَابُ العَطَايَا والهِبَاتِ
الهِبَةُ والعَطِيَّةُ: عِبَارَةٌ عَنْ تَمْلِيْكِ مَالٍ في صِحَّتِهِ لا
في مُقَابِلِةِ مالٍ ويُسْتَحَبُّ مِنْهَا ما قُصِدَ بِهِ وَجْهَ اللهِ
تَعَالَى، كالهِبَةِ لِلْعُلَمَاءِ والفُقَراءِ، وما قُصِدَ بِهِ صِلَةُ
الرَّحِمِ كالهِبَةِ للأقْرَبِيْنَ، ويُكْرَهُ ما قُصِدَ بِهِ المُبَاهَاةُ
والرِّيَاءُ ويلْزَمُ بالإيْجَابِ والقَبُولِ والقَبْضِ في إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ (5)، وفي الأخْرَى إن كَانَتْ مُعَيِّنَةً كالثَّوْبِ
والعَبْدِ والسَّهْمِ المَعْلُومِ مِنَ الضَّيْعَةِ، لَزِمَتْ بِمُجَرَّدِ
الإيْجَابِ والقَبُولِ، فإنَّ كان لَهُ في ذِمَّةِ إنْسَانٍ دَيْنٌ
فأبْرَأَهُ / 218 ظ / مِنْهُ
__________
(1) انظر: المقنع: 164، المحرر في الفقه 1/ 371.
(2) انظر: الهادي: 144، الشرح الكبير 6/ 211، الإنصاف 7/ 93.
(3) انظر: المغني: 6/ 213.
(4) جَاءَ فِي المغني: 6/ 213: ((واختلف فِي قدر مَا يحصل بِهِ الغني،
فَقَالَ أَحْمَد فِي رِوَايَة عَلِيّ بن سَعِيد فِي الرَّجُل يعطى من الوقف
خمسين درهماً، فَقَالَ: إن كَانَ الواقف ذكر فِي كتابه المساكين فَهُوَ
مِثْل الزكاة، وإن كَانَ متطوعاً أعطي مَا شَاءَ وكيف شَاءَ فَقَدْ نَصَّ
أَحْمَد عَلَى إلحاقه بالزكاة فيكون الخلاف فِيْهِ كالخلاف فِي الزكاة
والله أعلم)).
(5) انظر: الشرح الكبير: 6/ 250، والإنصاف: 7/ 119.
(1/338)
أو أحَالَهُ أو وَهَبَهُ لَهُ بَرِئَتْ
ذِمَّتُهُ، وإنْ رَدَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْبَلْهُ لأنَّهُ إسْقَاطٌ ولا
يَصِحُّ القَبْضُ في المَوْهُوبِ إلا بإذْنِ الوَاهِبِ، فإنْ وَهَبَ مِنْهُ
شَيْئاً في يَدِهِ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِقَبْضِهِ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ
فِيْهِ، ويمْضِي زَمَانٌ يَتَأتَّى قَبْضُهُ في مِثْلِهِ في إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ (1)، وفي الأُخْرَى يُحْكَمُ لَهُ بِقَبْضِهِ مِنْ غَيْرِ
إذْنٍ إِذَا مَضَى زَمَانٌ يَتَأتَّى القَبْضُ فِيْهِ فإنْ لَمْ يَقْبِضْ
حَتَّى مَاتَ الوَاهِبُ قَامَ وارِثُهُ مَقَامَهُ في القَبْضِ والفَسْخِ
ولا يصِحُّ هِبَةُ المَجْهُولِ ولا مَا لا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، ولا
ما لا يتمُّ مِلْكَهُ عَلَيْهِ، كالقَفِيْزِ مِنْ صُبْرَةٍ إِذَا
اشْتَرَاهُ وَوَهَبَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ ولا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الهِبَةِ
عَلَى شَرْطٍ مُسْتَقْبلٍ (2)، ولا يَصِحُّ إلاَّ مِنْ تَامِّ المِلْكِ
وحَائِزِ التَّصَرُّفِ في مالِهِ وتَصِحُّ هِبَةُ المُشَاعِ سَواء كَانَ
مِمَّا يَتأتَّى قسْمَتُهُ كالعِرَاصِ (3)، أو لا يَتَأَتَّى قِسْمَتُهُ
كالشِّقْصِ في يَدِ العَبْدِ والدَّابَّةِ والجَوْهَرَةِ والرحا. والهِبَةُ
المُطْلَقَةُ لا تَقْتَضِي الثَّوَابَ سواء كَانَتْ مِنَ الأعْلَى (4)
للأدنَى، ومِنَ الأعْلَى الأدْنَى (5)، فإنْ شَرَطَ فِيْهَا ثَوَاباً
مَعْلُوماً صَحَّتْ وَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ البَيْعِ في ثُبُوتِ
الخَيَارَاتِ وأحَدُهَا بالشُّفْعَةِ إنْ كَانَتْ شَقْصاً وغَيْرَ ذَلِكَ
من أحْكَامِ البَيْعِ وَعَنْهُ ما يَقْتَضِي أنْ يَغْلِبَ فِيْهَا حُكْمُ
الهِبَةِ فَلاَ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ وغَيْرَهَا مِنْ أحْكَامِ البَيْعِ،
وإنْ شرَطَ ثَوَاباً مَجْهُولاً فَقَالَ شَيْخُنَا (6): تَبْطُلُ، وظَاهِرُ
كَلامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللهُ - أَنَّهَا تَصِحُّ (7)، لأنَّهُ قَالَ
في رِوَايَةِ إِسْمَاعِيْلَ بنِ سَعِيْدٍ، إِذَا وَهَبَ لَهُ عَلَى وَجْهِ
الإنَابَةِ فَلا يَجُوزُ أنْ يُنِيْبَهُ مِنْهَا ونَحْو ذَلِكَ، قَالَ في
رِوَايَةِ بَكْرِ بنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أبِيْهِ وَرِوَايَةِ مُهَنَّا فَعَلَى
هَذَا عَلَيْهِ أن يُنِيْبَهُ حَتَّى يَرْضَى، ويُحْتَمَلُ (8) أنْ
يُعْطِيَهُ قَدْرَ قِيْمَتِهَا فإنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلِلْوَاهِبِ
الرُّجُوعُ فِيْهَا إنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، وإنْ تَلِفَتْ لَزِمَ
المَوْهُوبَ لَهُ قِيْمَتُهَا يَوْمَ التَّلَفِ، وَإِذَا شَرَطَ في عَقْدِ
الهِبَةِ ما يُنَافِي مُقْتَضَاها نَحْوُ أنْ يَقُوْلَ وَهَبْتُ لَكَ
هَذِهِ الدَّارَ سَنَةً أو عَلَى أن لا تَبِعَهَا فإنْ قَالَ أعْمَرْتُكَ
أو أرْقَبْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ وجَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ أو مُدَّةَ
حَيَاتِكَ فإنَّها تَكُوْنُ لَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ ولِوَرَثَتِهِ مِنْ
بَعْدِهِ، فإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ كَانَتْ لِبَيْتِ المَالِ فَلاَ
يَرْجِعُ إِلَى المُعَمِّرِ والمُرَقِّبِ نَصَّ عَلَيْهِ (9) فإنْ شَرَطَ
في العُمُرِيِّ والرقبِيُّ أنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ أو إِلَى
__________
(1) انظر: المقنع: 165، والإنصاف: 7/ 122.
(2) انظر: الهادي: 144، المغني 6/ 256، الشرح الكبير 6/ 264، الإنصاف 7/
133.
(3) المقنع: 165، الهادي: 144، المغني 6/ 253، الشرح الكبير 6/ 261،
الإنصاف 7/ 131.
(4) في المخطوط: ((الأعلا)).
(5) هَكَذَا فِي الأصل، ولعل الصواب: ((ومن الأدنى للأعلى)).
(6) انظر: المقنع: 164، الهادي: 144، الشرح الكبير 6/ 247، الإنصاف 7/ 117.
(7) الهادي: 144.
(8) الهادي: 144.
(9) انظر: الشرح الكبير 6/ 264، الزركشي 2/ 629 - 630.
(1/339)
وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِ المُعَمِّرِ
والمُرَقِّبِ صَحَّ العَقْدُ (1) والشَّرْطُ، وَعَنْهُ أنَّهُ يَبْطُلُ
الشَّرْطُ وَيَكُوْنُ لِوَرَثَةِ / 219 و / المُعَمِّرِ.
والمَشْرُوعُ في عَطِيَّةِ الأوْلاَدِ وغَيْرِهِمْ مِنَ الأقَارِبِ أنْ
يُعْطِهُمْ عَلَى قَدْرِ مِيْرَاثِهِمْ مِنْهُ، فإنْ خَالَفَ وفَضَّلَ
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ أو خَصَّهُ بالنُّحْلَةِ فَعَلَيْهِ أنْ
يَسْتَرْجِعَ ذَلِكَ أو يَعُمَّهُمْ بالنُّحْلَةِ عَلَى ما ذَكَرْنَا، فإنْ
مَاتَ وَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَكُنْ لِبَقِيَّةِ الوَرَثَةِ الرُّجُوعُ
عَلَيْهِ وَهِيَ اخْتِيَارُ الخَلاَّلِ وصَاحِبِهِ والخِرَقِيِّ، وَعَنْهُ
أنَّ لَهُمْ الرُّجُوعَ وَهِيَ اخْتِيَارُ ابنِ بطّةَ وصَاحِبِهِ
أَبُو حَفْصٍ العُكْبَرِيِّ، فإنْ سَوَّى بَيْنَهُمْ في الوَقفِ عَلَيْهِمْ
جازَ نَصَّ عَلَيْهِ (2)، ويُحْتَمَلُ أنْ لا يَجُوزَ كالعَطِيَّةِ (3)،
إِذَا قُلْنَا: أنَّ المِلْكَ يَنْتَقِلُ إِلَى المُوقَفِ عَلَيْهِ
وَلَيْسَ لأَحَدٍ أنْ يَرْجِعَ في هِبَتِهِ إلاَّ الأَبُ فِيْمَا وَهَبَهُ
لِوَلَدِهِ (4). وَعَنْهُ لَيْسَ للأبِ الرُّجُوعُ أَيْضاً بِحَالٍ (5)،
وَعَنْهُ إنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ أو وَهَبَهُ لَمْ يَكُنْ للأبِ
الرُّجُوعُ نَحْوَ أنْ يُفْلِسَ الابْنُ أو يزَوْجُ البِنْتِ بَعْدَ
الهِبَةِ فإنْ لَمْ يَتِعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ فَلَهُ الرُّجُوعُ، وَإِذَا
قُلْنَا لَهُ الرُّجُوعُ فَزَادَ الموْهُوبُ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً
كالسِّمَنِ والصَّنْعَةِ والكِبَرِ فَهَلْ يَمْنعُ ذَلِكَ مِنَ الرُّجُوعِ
عَلَى رِوَايَتَيْنِ (6)، وإنْ نَقَصَ فَلَهُ الرُّجُوعُ، وإنْ كَانَت
الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً كالوَلَدِ والثَّمَرَةِ فَلَهُ الرُّجُوعُ
فِيْهِ، وهل يَرْجِعُ في النَّمَاءِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ (7). فإنْ رَهَنَ
المَوْهُوبُ أو كَاتَبهُ لَمْ يَرْجِعْ فِيْهِ حتَّى يَنْفَكَّ الرَّهْنُ،
وتَنْفَسِخَ الكِتَابَةُ، فإنْ وَهَبَهُ الْمُتَّهَبُ لابْنِهِ وأرَادَ
الوَاهِبُ الرُّجُوعَ فِي الحَالِ، فإنْ بَاعَهُ الْمُتَّهَبُ لَمْ يَكُنْ
لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ، فإن انْفَسَخَ البَيْعُ بِعَيْبٍ أو مُقَايلة
فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى وَجْهَيْنِ (8)، فإنْ أفْلَسَ الْمُتَّهَبُ
وحُجِرَ عَلَيْهِ فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ (9).
وللأبِ أنْ يَأْخَذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا أَرَادَ ويَمْلِكُهُ عِنْدَ
الحَاجَةِ وعَدَمِهَا فِي صِغَرِ الابْنِ وكِبَرِهِ إلاَّ أنْ يَكُونَ
بالابْنِ حَاجَةً إِلَيْهِ فإنْ تَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالَ أبِيْهِ
قَبلَ ابْنِهِ (10) وأحْبَلَهَا انْعَقَدَ الوَلَدُ
__________
(1) انظر: المحرر في الفقه 1/ 374، الشرح الكبير 6/ 266، الإنصَاف 7/ 134.
(2) انظر: المحرر في الفقه 1/ 374، الشرح الكبير 6/ 270، الزركشي 2/ 624.
(3) انظر: المغني 6/ 270، المحرر في الفقه 1/ 374، الشرح الكبير 6/ 278،
الزركشي 2/ 626.
(4) انظر: المقنع: 165، المغني: 6/ 270.
(5) انظر: المصدر السابق.
(6) انظر: المقنع: 165، المغني: 6/ 278.
(7) انظر: المقنع: 165، الهادي: 145، المحرر في الفقه 1/ 375، الإنصاف 7/
150.
(8) انظر: المقنع: 166، المغني 6/ 288، المحرر في الفقه 1/ 375، الشرح
الكبير 6/ 283، الإنصاف 7/ 152.
(9) انظر: المقنع: 166، الهادي: 145، المحرر في الفقه 1/ 375، الإنصاف 7/
154.
(10) هنا سقط ظاهر، وجاء فِي الإنصاف: 7/ 157: ((وإن وطيء جاربةَ ابنه،
فأحبلها: صارت أم ولدٍ لَهُ)).
(1/340)
حُرّاً وصَارَتْ أمُّ وَلَدِهِ وَلَمْ يَكُنْ للابْنِ مُطَالَبَتَهُ
بِشَيْءٍ مِنْ قِيْمَتِهَا وقِيْمَةِ وَلَدِهَا ومَهْرِهَا وَلَمْ
يُلْزِمْهُ الحَدُّ وهل يُعَزَّرُ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ (1). وَلَيْسَ
للابن مُطَالَبَةَ أبِيْهِ بِمَا ثَبَتَ لَهُ في ذِمَّتِهِ مِنْ قَرْضٍ أو
ثَمَنٍ يُنْتَفَعُ أو أرْشِ جِنَايَةٍ أو قِيْمَةِ مُتْلَفٍ، وله
مُطَالَبَةُ غَيْرِهِ مِنَ الأقَارِبِ نَصَّ عَلَيْهِ وأحْكَامِ الهَدِيّةِ
وصَدَقَةِ التَطَوُّعِ وأحْكَامِ الهِبَةِ في جَمِيْعِ ما ذَكَرْنَا. |