حَاشِيةُ اللبَّدِي على نَيْل المَآرِبِ

حَاشِيةُ اللبَّدِي
على
نَيْل المَآرِبِ
في الفِقهِ الحَنْبَليِّ
للِشَّيْخِ عَبْدِ الغَني بْن يَاسِيْن اللبَدِي النَّابُلسِي
(1262 - 1319 هـ)

تحقيق وتعليق
الدكتور محمد سليمان الأشقر

دار البشائر الإسلامية

(مقدمة/1)


بسم الله الرحمن الرحيم

(مقدمة/2)


حَاشِيَةُ اللبَدي على نيل المآرب في الفِقهِ الحَنْبليِّ

(مقدمة/3)


حُقوُق الطبع محَفوُظة لِلمُحَقِّق
الطّبْعَة الأولى
1419 هـ - 1999 م
دار البشائر الإسلاميّة
للطبَاعَة وَالنشرَ والتوَزيع بَيروت - لبنان - ص. ب: 5955 - 14

(مقدمة/4)


بين يدي التحقيق
الحمد لله رب العالمين، وبه أستعين. وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين محمد، وعلى آله وصحابته الغرّ الميامين.
وبعد فإنني لما عزمت على تحقيق (نيل المآرب بشرح دليل الطالب) بذلت الجهد في الحصول على ما يمكن أن يكون قد خُدِم به هذا الكتاب الجليل، ليكون مسهلًا لعملي، ومعينًا على إعطاء الكتاب حقه من العناية والإتقان. فوقعتْ إليّ نسخة من حاشية الشيخ عبد الغني اللبدي على نيل المآرب. وقد قرأتها مرّات، وأفدت منها كثيرًا. وصدر التحقيق المذكور سنة 1403 هـ.
ثم لما تجدّدت الرغبة في إصدار الطبعة الثانية من (نيل المآرب) بذلت فيها مزيدًا من العناية، وأدخلت عليها مزيدًا من التصحيحات من قبلي، ومما عَلّقه الشيخ محمد بن سليمان الجرّاح، الفقيه الحنبلي، الكويتي المعمّر، إذ كان يقرئ الطلبة في نسخة من الطبعة الأولى المنشورة بتحقيقي. بل إنه قرأ الكتاب كله بغرض التدقيق، وأمدّني بقائمتين تصحيحيتين استعنت بهما في تصحيح الكتاب، فجزاه الله خيرًا. وقد توفي مؤخرًا (1417 هـ) فرحمه الله رحمة واسعة.
ثم دفعتُ الكتاب والحاشية إلى المطبعة، وصححتُ بعض التجارب.
ووقعتْ حوادث الخليج المفجعة سنة 1990م، ففقد بسببها النصف الأول من الكتاب، والنصف الأول من الحاشية، فلم يعثر لهما على أثر.
وكان لا بد من إعادة العمل، فبالله وحده نستعين.
* قيمة هذه الحاشية:
هذه الحاشية تقويم لكتاب (نيل المآرب) وأصلِهِ (دليل الطالب) وهو المتن الذي يعتمده علماء المذهب الحنبلي في كافة الديار، وخاصة في الديار الشامية
-أ-

(مقدمة/5)


وبعض الديار السعودية، وسائر دول الخليج العربي، وإن كان يزاحمه في الديار السعودية كتاب زاد المستقنع (مختصر المقنع) للحجاوي صاحب الإقناع. إلا أن (دليل الطالب) أيسر منه، وأوضح عبارة، وأقل تعقيدًا، ولذا كان أيسر على الطلبة. وقد زاده (نيل المآرب) وضوحًا، وإفادة، وزيادة. وقد لَفَت الشيخُ ابن بدران في مدخله الأنظار إلى أن هذا الشرح "غيرُ محرَّر، وغير وافٍ بمقصود المتن". لكن الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع رحمه الله، في تقديمه لكتاب "منار السبيل في شرح الدليل"، لفَتَ الأنظار أيضًا إلى أن "حاشية اللبدي " أكملت هذا النقص، وأن "بها تحرَّرَ نيلُ الماَرب" كما قال. وكانت هذه الكلمة شهادةً لهذه الحاشية. وكان ذلك مما حفزني للبحث عنها. والعمل على إخراجها لأهل العلم.
فالحمد لله على ذلك.
لقد أضافت حاشية الشيخ عبد الغني اللبدي إلى "نيل المآرب" كثيرًا من مسائل الفقه التقليدية المتوارثة، وزادت من تقويمه بما فيها من توضيحٍ لمشكلاته، وتحرير لِمَطالبِهِ، وتقييد لتعبيراته، وصححتْ كثيرًا من الأخطاء التي وقعت فيه، بل التي وقعت في متن "دليل الطالب" وأضافت إليه مسائل ذات أهمية. واستعرضت أوضاعًا وأعرافًا خاصة، كانت جارية في الديار النابلسيّة، وفي قراها خاصة، ولا يزال بعضها موجودًا، كان الشيخ عبد الغني يطّلع عليها، أو يُسْأل عنها، فينزّل عليها ما وَعَاهُ من الأحكام الفقهية المستقرة لديه، بعد مراجعة كتب المذهب، أو يلحقها بنظائرها مما نص عليه العلماء، أو يستخرج حكمها الشرعي بثاقب نظره في الأدلة.
وربما اشتبهت عليه، فيصوّر المشكلة، ويبيّن وجه الإشكال، ويذكر أنه لم يتضح له أمره، ثم يقول: "فليحرَّر" أو "فلينظر".
...
-ب-

(مقدمة/6)


صاحب الحاشية
* اسمه ونسبه:
هو الشيخ عبد الغني بن ياسين اللبدي. وقد ذكر هو نَسَبَ نفسه مفصّلاً في خاتمة رسالته في المناسك (ص 74) فقال: "عبد الغني بن ياسين بن محمود بن ياسين بن طه بن أحمد اللبدي النابلسي".
وينطق العامة في الديار النابلسية هذه النسبة "اللَّبَدي" بفتح اللام والباء. وقد ضبطها بروكلمان في اسم خليل اللبدي بضم اللام وضم الباء "اللُّبُدي". درج المثقفون على ضبطها بضم اللام وفتح الباء "اللُّبَدي"، ولعل لذلك أصلًا في اللغة، ففي لسان العرب: يقال: "الناسُ لُبَد" أي مجتمعون، وفي التنزيل العزيز: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} قال: المال اللُّبَد: الكثير لا يخشى فناؤه، والرجل اللُّبَدَ الذي لا يسافر ولا يبرح منزله. والمُرَجَّح أن الصواب ضبطُها بفتح اللام والباء، نسبة إلى اللَّبَدِ، وهو في الأصل مصدر "لَبِدَ" بالمكان "لَبَدًا" أي لَزِقَ به ولزمه وأقام به.

*مولده ووفاته:
ولد الشيخ عبد الغني سنة 1262هـ على ما ذكره محمد جميل بن عمر الشطي في "مختصر طبقات الحنابلة".
أما وفاته فقد كانت يوم الجمعة 16 ذي الحجة سنة 1319هـ بمكة المشرفة، كما ذُكر على صفحة العنوان لرسالته "دليل الناسك لأداء المناسك" وذُكِر فيها أنه توفي بعد نزوله من مني، وأنه دفن بالمَعْلاةِ، وهي مقبرة أهل مكة. وذكر الشيخ الشطي أن وفاته كانت سنة 1317 هـ، وهكذا في معجم المؤلفين. والأول هو الصواب في نظري لأن أهل مكة أدرى بمن مات فيهم.

* أسرته:
تعرف هذه الأسرة الكريمة بهذه النسبة "اللُّبَدي" قديمًا وحديثًا. ويسميها أهل كفر اللبد: (آل الشيخ ياسين) لعله باسم أحد أجداد الشيخ عبد الغني، وهو المذكور في عمود نسبه. ويسفوْن أيضًا بعائلة "الفقهاء"، ربما لكونهم اشتهروا في تلك
-ج-

(مقدمة/7)


الديار بالفقه في الدين. فيظهر أن هذه النسبة "اللبدي" علقت بهم في ديار الاغتراب حتى اشتهروا بها.
عرف بالعلم من هذه العائلة الشيخ "طه بن أحمد اللبدي" ذكره ابن حميد في "السحب الوابلة"، وقال عنه: "الشيخ الفاضل الفقيه النبيه، أخذ عن خلقٍ، وأخذ عنه جمعٌ، أجلّهم العلاّمة الشيخ محمد السفاريني. وذكره في ثبته" ثم بيّض لسنة وفاته. ويظهر أن ياسين بن طه المذكور تتلمذ للشيخ السفاريني كما في الورقة 123 من نسخة ض من. هذه الحاشية. ووجدت لابنه الشيخ محمود بن ياسين بن طه الذي هو جد الشيخ عبد الغني، عناية بالفقه الحنبلي، ففد كتب بخطه نسخةً من (نيل المآرب) موجودة بالمكتبة الأزهرية برقم [652] 47853، وبهامشها حواشٍ بقلم محمد بن ياسين بن أحمد اللبدي. ووجدت نسخة من حاشية ابن عوض على دليل الطالب مكتوبة بخط عبد الحافظ بن ياسين بن طه اللبدي.

* بلده:
بلده "كفر اللبد" من الديار النابلسية.
وأهل هذه المنطقة يتبعون المذهب الحنبلي، وقد برّز منهم عدد غفير من علماء الحنابلة، صار لهم مكانة علمية في مجال التدريس والتأليف والإفتاء والقضاء في ديارهم وفي القدس ودمشق وحلب وسائر البلاد الشامية، وفي الديار المصرية، والديار الحجازية. وقد ابتدأ نبوغ شأنهم منذ انتقل الشيخ أبو عمر بن قدامة، من أهل "جَمّاعيل" من قرى نابلس، إلى دمشق، بأهله وذويه في الربع الأخير من القرن السادس الهجري. وانضم بعضهم إلى جيوش صلاح الدين رحمه الله، وجاهدوا معه في استعادة الأرض المقدسة من عبدة الصليب إلى حظيرة الإسلام. واشتغلوا بالعلم في دمشق، ونبغ منهم فيه كثير، منهم الموفق صاحب المغني، وابن أخيه شارح المقنع.
ومنذ ذلك الوقت أخذ التاريخ يبرز أسماء المنتمين إلى قرى هذه المنطقة من اللامعين من علماء الحنابلة نحو رامين، ومَرْدَا، وطُولْكَرْم، وبُورِين، وكَفْر سابا، والساوية، وشُوَ يْكَةَ، وحَجَّة، وعنَبْتَا، وجراع، والسِّيلة، وسفّارين وذِنَّابة، وبُرْقا،
-د-

(مقدمة/8)


وكَفْر قَدُّوم، وحارس، وزَيْتَا، وغيرها، بالإضافة إلى من ينتسب إلى مدينة نابلس نفسها وهم كثير. وقد ساهم هؤلاء مساهمة كبيرة في إعداد المؤلفات الفقهية في المذهب، مما لا يخفى على دارسيه.
تقع "كفر اللبد" على جبل على يسار الطريق الرئيسي الذاهب من نابلس إلى طولكرم، وتبعد عن نابلس مسافة 17 كيلو مترًا تقريبًا. وعن طول كرم 11 كيلو مترًا.
وانتسب إليها بعض أهل العلم، من أقدمهم محمد بن أحمد بن سعيد اللبدي (771 - 855هـ) تولى قضاء الحنابلة بحلب، ثم بمكة، وبها مات. ومنهم ياسين بن علي بن أحمد اللبدي المتوفى 1058هـ، ذكره صاحب السحب الوابلة، وقال: "له تحريرات على المنتهى نفيسة"، ومنهم مصطفى بن عبد الحق اللبدي (- 1153 هـ) من شيوخ الشيخ محمد السفاريني العلامة المشهور. ومنهم محمد وحامد ابنا مصطفى اللبدي، ذكرهم الشطي في مختصره.

* نشأة الشيخ عبد الغني وحياته ورحلاته:
لا نجد وصفًا لنشأته في الصغر.
وقد سافر الشيخ عبد الغني إلى مصر ودرس بالأزهر، كما ذكره الشطي، وكما يعلم من تقريظ ابن حميد له ولرسالته في المناسك المطبوع بآخرها، حيث يقول بعد أن ذكر شيئًا من فضله: "وقد كنت أتفرَّسُ فيه هذا وأكثر منه، منذ كان مجاورًا بالجامع الأزهر". وذكر الشيخ عبد الغني في حاشية على نيل المآرب، في كتاب الأطعمة منها، قوله في وصف الزَّرافة: "وفيها بقع في جميع بدنها، ولطول يديها وقصر رجليها لا يثبت على ظهرها راكب. وقد رأيتها في مصر، وصورتها عجيبة".
وقبل ذلك وَصَفَ النعامة، وقال: "رأيتها بمصر".
وقد حجّ الشيخ عبد الغني، واستقرّ بمكة مدة "سنين عديدة، وصار مدرسًا بحرمها الشريف، ولم يزل مجاورًا لها حتى توفي بها" كما ذكره الشطي. ويعلم ذلك أيضاً من قول ابنه محمود في مقدمة هذه الحاشية في التعريف بوالده: "نزيل مكة، والمتوفى بها" لكن لم نجد ذكرًا للسنة التي انتقل فيها إلى الحجاز. فالله
-هـ-

(مقدمة/9)


بذلك أعلم.

* طلبه للعلم، وذكر شيوخه وتلاميذه:
لم نجد ما يتبين به مراحل طلبه للعلم في صغره.
وقد أكثر في حاشيته من ذكر الشيخ حسن بن عمر بن معروف الشطّي الحنبلي الدمشقي (1205 - 1270هـ) بعنوان "شيخ مشايخنا" وصرح في موضع منها بقوله "شيخ مشايخنا الشيخ حسن الشطي". وكان الشيخ حسن الشطي رحمه الله ذا قدم في العلم راسخة. وكان رفيقًا بطلبة العلم مسعفًا لهم، يبذل لهم ماله وجاهه وعلمه. فانثالوا عليه من الآفاق، وخاصة من الديار النابلسية، كما ذكر ذلك في ترجمتِهِ الشيخُ ابن حميد في السُّحب الوابلة. ولما رجع هؤلاء النابلسيون إلى ديارهم كان الشيخ عبد الغني في سن الطلب، فيبدو أنه أخذ عنهم.
وممن صرح الشيخ عبد الغني باسمه منهم: بلديُّنا الشيخ "يوسف البرقاوي" (1250 - 1320هـ) شيخ رواق الحنابلة في الجامع الأزهر. وكان جل انتفاع الشيخ عبد الغني به. وقابَلَهُ إذ ذاك الشيخ ابن حميد صاحب السحب، وتفرس فيه خيرًا كثيرًا، وقد ذكره في مواضع من الحاشية، منها ما في (باب تعليق الطلاق). وإذا قال الشيخ عبد الغني في الحاشية: "قال شيخنا" فإنه يعني الشيخ يوسف البرقاوي. وهو من تلاميذ الشيخ حسن الشطي الدمشقي، كما في الموضع المذكور من الحاشية. وقد ترجم له الشيخ محمد جميل بن عمر الشطي في مختصره، فذكر أن مولده ببرقا بعد 1250هـ، وأنه رحل إلى دمشق، وانتفع بالشيخ حسن الشطي وغيره، ثم رجع إلى بلده فدرّس بها، ثم رحل إلى مصر وجاور في أزهرها مدة حتى صار شيخ رواق الحنابلة. ورحل إليه الطلاب من الآفاق، وانتفعوا به. وكانت وفاته في حدود 1321 هـ.
ومن تلاميذ الشيخ حسن الشطي من النابلسيين النابهين الذين عادوا بعد تحصيل العلم بدمشق إلى بلادهم واشتغلوا بالتدريس في نابلس: الشيخ أحمد بن عبيد القدّومي، (- 1314 هـ) والشيخ محمد بن عبيد القَدُّومي (1249 - 1318 هـ) والشيخ أحمد بن حسين القدومي (- 1320 هـ) والشيخ عبد الله بن
-و-

(مقدمة/10)


صوفان القدومي (- 1331 هـ) فلعل كل هؤلاء أو بعضهم هم من يعنيهم الشيخ عبد الغني بقوله: "مشايخنا" والله أعلم.

تلاميذه:
لم نجد فيما اطلعنا عليه تسمية أحد من الآخذين عن الشيخ عبد الغني اللبدي، على الرغم من علمِهِ الجمّ واشتغاله بالتدريس والفتيا. لكن لا يبعد أن يكون ابناه الشيخ محمود اللبدي والشيخ سعيد اللبدي ممن تتلمذ عليه.
ويبدو أن الشيخ عبد الغني قد مارس الفتوى والتدريس في منطقة نابلس، قبل أن يذهب إلى الحجاز، على الرغم من أننا لم نجد ذلك في معلومات تاريخية يستند إليها. لكن ما في حاشيته من التعرض للمسائل الواقعة، وخاصة في البيئة الزراعية القروية هناك، يوحي بذلك.
هذا وإن حاشيته تدل على نباهته، ودقته في الفهم، وتحريره للمسائل، وتفريقه بين المتشابهات، وغوصه على مواضع الإشكال، واستدراكِهِ على الفحول.

* مؤلفاته:
لا يعرف للشيخ عبد الغني من المؤلفات إلا كتابان:
أحدهما: هذه الحاشية.
والثاني: كتابه المسمى: (دليل الناسك لأداء المناسك" وهو منسك على المذهب الحنبلي خاصة. وقد أورد اسمه في حاشيته على نيل المآرب، في كتاب الحج منها، قبيل باب الإحرام، حيث أحال عليه بتفاصيل بعض ما أجمله في الحاشية.
وكلامه في "دليل الناسك" يجري على ما في نيل المآرب وغيره من كتب الحنابلة، وربما تعرّض للإفتاء في بعض الأمور التي جدّت في عصره، كاستظلال المُحْرِم بما يسمّى "الشمسية".
وقد ألف الشيخ عبد الغني هذا الكتاب قبل أن يتم السابعة والعشرين من عمره، ويدل لذلك أن عليه تقريظًا للشيخ ابن حميد صاحب السحب الوابلة، مؤرّخًا في سنة 1289هـ. وقد ذكر صاحب السحب في تقريظه أن أحد القادمين
-ز-

(مقدمة/11)


للحج أطلعه على هذا المنسك، مما يوحي بان الشيخ عبد الغني ألّفه في بلاده أن يقدم للحج، ويستقرّ بمكة.
نُشِر هذا الكتابُ على يد الشيخ محمد يوسف أحمد الباز الكتبي بمكة المكرمة سنة 1330 هـ، ثم أعيد نشره سنة 1398 هـ على نفقة مريم عبد الرحمن الدعيج من أهل الكويت.

* عقيدته:
اشتغال الشيخ عبد الغني كان بالفقه، يبدو أن الفقه أخذ عليه وقته وكل اهتمامه.
وهو كأغلب العلماء الحنابلة: يتبع في العقائد طريقة السلف التي عمل علماء السلف لتثبيتها، وجاهد الإمام أحمد لتأسيسها وتقعيدها، ثم تابع أصحابُهُ بعده تشييد أركانها، وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية والعلاّمة ابن القيم.
غير أنه يبدو أن الشيخ عبد الغني تأثر في بعض مراحل دراسته بعض التأثر بطريقة أهل الكلام في الصفات، كما يلحظ في كلامه في أول الحاشية على تفسير "الرحمن الرحيم"، وكما في باب شروط من تقبل شهادته ح4، وفي كلامه في "دليل الناسك" على التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.

* أولاده:
خلّف الشيخ عبد الغني ثلاثة من البنين، هم الشيخ محمود، والشيخ سعيد، وكلاهما كان على حظ من العلم الشرعي، وسليم. وخلف أيضًا ثلاث بنات: كريمة وأسماء وفاطمة.
أما الشيخ محمود والشيخ سليم فقد أصهرا إلى إحدى العائلات في قريتنا "بُرْقا". وولد للشيخ محمود ابنان هما الشيخ رضا والشيخ شمس الدين.
وولد للشيخ سعيد ابنٌ هو العلامة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي، اللغوي والأديب المعروف، زميلنا في التدريس في الجامعة الإسلامية سنة 1383 و 1384 هـ، واستمر هو في التدريس فيها قريبًا من عشرين عامًا، انتهت باعتزاله العمل وله كتابان أحدهما: "رسائل لم يحملها البريد" مطبوع، والآخر: "همزة
-ح-

(مقدمة/12)


الاستفهام في القرآن الكريم" صدر منه جزء واحد، ولا يزال لديه جزءان مخطوطان".
أما الشيخ محمود بن عبد الغني فقد اشتغل بالعلم واشتهر به، وقد حضر إلى بلدنا برقا، واستقر بها في السنوات الأخيرة من أيامه، وفرّغ نفسه للتدريس، حتى إنه كان يعقد للنساء ببيته دروسًا يوم الخميس والاثنين، أدت إلى تمسّك الكثير منهن بالدين، والتزمن بالأحكام الشرعية. واستمر على ذ لك إلى أن توفي فيها، قبيل سنة 1360 هـ، ونقل جثمانه إلى بلده ودفن بها.
وقد كان على درجة حسنة من التحقيق، كما يُعلَم من استدراكاته على كلام والده وغيره، من ذلك ما في الحاشية (5) من كتاب الاعتكاف، حيث ردّ على والده، وعلى الشيخ محمد السفاريني، بما هو عين الصواب.

* مصادر ترجمة الشيخ عبد الغني:
1 - مختصر طبقات الحنابلة، للشيخ محمد جميل بن عمر الشطي الدمشقي.
بيروت، دار الفكر، 1406 هـ.
2 - بعض ما ذكره صاحب الحاشية في أثنائها.
3 - بعض ما ذكر في رسالته دليل الناسك - نشرت بالكويت.
4 - معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة.
5 - مقابلة شخصية مع حفيده العلامة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي في منزله بعمان يوم 24/ 2/ 1998 م.
6 - كتاب أهل العلم والحكم في ريف فلسطين، لأحمد سامح الخالدي.
عمّان، جمعية عمّال المطابع التعاونية، 1968م ص 190، 191.
7 - بلادنا فلسطين، قسم الديار النابلسية، لمصطفى مراد الدبّاغ. بيروت، دار الطليعة، 1391 هـ.
استدراك: قبل دخول هذه الحاشية إلى المطبعة علمت بوجود (عقيدة) للشيخ عبد الغني في مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض وهي بخطه من 15 ورقة.
...
-ط-

(مقدمة/13)


الكتاب
* اسم الكتاب:
اشتهر هذا الكتاب باسم "حاشية اللبدي على نيل المآرب" غير أن نسخة الرياض من هذه الحاشية وضعت عليها إدارة المكتبة التي تقتنيها اسمًا هو "تيسير المطالب إلى فهم وتحقيق نيل المآرب شرح دليل الطالب" ولم أجد فيها إشارة إلى المصدر الذي أخذت عنه هذه التسمية.
لذا رأيت وجوب الإبقاء على التسمية التي اشتهر بها الكتاب.

* كيفية إعداد الشيخ عبد الغني لهذه الحاشية:
يظهر أن الشيخ عبد الغني كان يكتب ملاحظاته وتعليقاته على إحدى نسخ الطبعة البولاقية من نيل المآرب، وهي النسخة التي صدرت بمصر سنة 1288اهـ.
والذي غَلّب هذا على ظني، بل كِدْتُ أحقّقُهُ، أن في الحاشية في أول باب الهبة في (ق 48 ب) من نسخة الأصل تعليقين نبه بهما الشيخ عبد الغني على كلمتين ذكرهما مصحح الطبعة البولاقية من نيل المآرب بهامش الصفحة التاسعة من الجزء الثاني. قال الشيخ عبد الغني فيهما: "فلا معنى لتوقف المصحح في الحكم" يعني بالمصحح مصحح الطبعة البولاقية.
وإذا علمنا أن الطبعة البولاقية من نيل المآرب صدرت سنة 1288 اهـ فيمكن الافتراض أنه بدأ بالكتابة عليها بعد هذا التاريخ لا قبله.
ويبدو أن الشيخ عبد الغني قد أتم العمل في تعليق هذه الحواشي، وارتضاها على الوضع الذي هي عليه، فإنه قد ختمها بقوله "هذا آخر ما يسره الله تعالى من كتابة ما بهامش هذا الكتاب" إلخ.

* تجريد هذه الحاشية:
الذي قام بتجريد هذه الحواشي من هامش نسخة الشيخ عبد الغني هو الشيخ محمود بن عبد الغني اللبدي. وقد أتم عمله في تجريدها سنة 1321 هـ. وقد علمت من بعض المعمرين ممن كان له علاقة به، أنه بعد وفاة والده بالحجاز ذهب إلى
-ي-

(مقدمة/14)


هناك وأحضر كتب والده إلى قريته كفر اللبد.
فالذي يبدو أنه كان على علم بعمل والده في هذه التعليقات، وبقيمتها، وباهتمام والده بها، أو أنه اطّلع على عمل والده ببحثه في الكتب التي استرجعها، وخشي على جهود والده أن تضيع، فبذل الهمة في تجريدها بشكل مستقل، إبقاءًا عليها، وتسهيلاً على أهل العلم أن يستنسخوها ويتناقلوها. وهكذا كان. وقد أتمّ التجريد المطلوب قبل انتهاء السنة الثانية من وفاة والده. فجزاه الله تعالى على جهوده خيرًا وتغمده ووالده بواسع رحمته.
أما نسخة الشيخ عبد الغني نفسه فلم نَعْلَقْ لها بأثرٍ بعد السؤال والبحث. هذا ويبدو لي أن الشيخ محمودًا أثناء تجريده لحاشية والده كان يدخل بعض ملاحظاته الخاصة على كتابة والده، زيادة في تحرير المسائل، وربما ناقض كلام والده. ولا حرج في العلم. وفي تقديري أن ما بدئ من الملاحظات بعبارة "أقول" فهو من كلام الشيخ محمود، بخلاف ما بدئ بقوله "قلت" فهو من كلام الشيخ عبد الغني.

* السقط الذي في هذه الحاشية:
في هذه الحاشية سقط يقدر بخمس ورقات، وهو في أثناء باب النكاح وتوابعه. وقد نبه على ذلك السقط ناسخ نسخة الأصل في خاتمة النسخة. وأشار إلى السقط أيضًا كاتب النسخة ض، وهو محمد بن سعيد بن غباش، نبه إليه في موضع السقط من كتاب النكاح، حيث قال: "لم نجد للمحشّي كلامًا على عدة أبواب، وهي باب المحرمات في النكاح، وباب الشروط فيه، وباب العيوب فيه، وباب نكاح الكفار، وكتاب الصداق. قال: ولا ندري هل سقط ذلك من الناسخ أو لا".
أما ناسخ نسخة الأصل فقد استظهر أن الإسقاط كان من نجل المحشّي. وهو الصواب عندي، وأكاد أجزم أن ذلك الإسقاط تفويت في تجريد الشيخ محمود لكلام والده، وأن الشيخ عبد الغني قد حشّى على الأبواب المذكورة. والله أعلم بماكان.
-ك-

(مقدمة/15)


وها هنا سؤال، وهو: هل كتب الشيخ عبد الغني هذه الحاشية في بلده من الأرض المقدّسة فلسطين، أم كتبها بعد سفره إلى الديار الحجازية المقدسة واستقراره هناك، أم جمع فيها بين الموضعين. وهذا سؤال لم نجد عنه جوابًا شافيًا.

* مصادر الشيخ عبد الغني في هذه الحاشية:
يرجع المحشي في كلامه إلى الكتب المتنوعة المشهورة في المذهب، وخاصة الفروع، والإنصاف، والتنقيح، والمنتهى للفتوحي، وشرحه له، وشرحه للبهوتي، وحاشيته عليه، وإلى شرح المفردات للبهوتي، وإلى الإقناع للحجاوي، وشرحه للبهوتي، وإلى الغاية للكرمي، وشرحَيْها للرحيباني، والجراعي، وتجريد زوائدها لحسن الشطي، وإلى حاشية ابن عوض على الدليل. وهذا بالإضافة إلى الكتب المتقدمة، كمختصر الخرقي، وشروحه للزركشي والموفق، والمقنع والكافي له، وإلى ما قبل ذلك ككتب القاضي أبي يعلى وأبي الخطاب وابن عقيل. وغيرها.
وإلى كتب نادرة غير معروفة الآن. ويبدو أنه كان تحت يديه مكتبة حنبلية حافلة.
وعلى نيل المآرب وأصلِهِ دليل الطالب حواشٍ ذكرنا قسمًا منها في مقدمة تحقيقنا لكتاب نيل المآرب، فلا يبعد أن يكون الشيخ عبد الغني قد رجع إلى بعضها، والله أعلم.
...
-ل-

(مقدمة/16)


وصف النسخ المستخدمة في التحقيق
هما نسختان، كما تقدم:
الأولى: نسخة كتبت بخط رقعة حديث، في 94 ورقة مسطرتُها في الغالب 30 سطرًا. ولا يعرف اسم ناسخها. تاريخ نسخها سنة 1324 هـ. وقد اتخذناها أصلاً، لكونها منسوخة عن نسخة ابن المؤلف مباشرة، ولأنها تامّة ما عدا النقص المشار إليه سابقًا. وهي نسخة جيدة مقابلة، والأخطاء والسقط فيها قليل، استدركناه من النسخة الأخرى في كتاب البيع فما بعده. وهذا ما عدا السقط الكبير الذي سبق التنبيه عليه، وقد قال ناسخها في آخرها: "قوبلت على نسخة نجل المؤلف مقابلة تامة، ووجد فيها بعض ألفاظ لا يفهم معناها" قلت: الألفاظ التي أشار إليها أمكن حلها بفضل الله تعالى ولم يبق إلا كلمتان أو ثلاث نبهنا إليها في مواضعها.
وقد رمزنا إلى هذه النسخة في التحقيق باسم "الأصل" أو "نسخة الأصل".
النسخة الثانية: وهي صورة عن نسخةٍ موجودة بالرياض، في مجمع الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود.
وقد زوّدني بيذه الصورة الأخ النبيه الشيخ الفاضل محمد بن ناصر العجمي الكويتي، لمّا علم أني بصدد تحقيق الحاشية المذكورة.
وذكر لي أنها صُوِّرت عن نسخة الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع، من مكتبته التي آلت إلى مكتبة المجمع المذكور.
النسخة المذكورة لا تشتمل على قسم العبادات، بل تبدأ من كتاب البيع، وفيها السقط الكبير الذي نبهنا إليه وقد انتهى ناسخها من كتابتها سنة 1377 هـ، وذكر في موضع أنه كتبه سنة 1374 هـ.
أما ناسخها، فقد ذُكِرَ في مواضع منها أنه الشيخ محمد بن سعيد بن غباش (1)، وله عليها تعليقات وفوائد مضافة وتنبيهات.
__________
(1) جاء في كتاب "علامة الكويت الشيخ عبد الله الخلف الدحيّان" للأخ النبيه الشيخ محمد بن =

(مقدمة/17)


وفي مواضع أن الناسخ هو عبد الله الغزال. وفي خاتمتها أن كتابتها من أول كتاب البيوع إلى آخرها بقلم عبد الله بن محمد بن صالح بن جابر، ولعله عبد الله الغزال بعينه، فالله أعلم بما كان (1). وقد كانت كتابتها في مدينة الدوحة في قطر.
ويظهر أن هذه النسخة لم تتمّ مقابلتها، إذ فيها أخطاء وإسقاطات نبهنا إليها.
وتأكد لنا أنها ليست منقولة عن نسخة الأصل، لأن فيها مواضع على التمام مع أنها ساقطة من نسخة الأصل.
وكانت القراءة فيها متعبة، لأن ناسخها داخَلَ بين تعليقاته وبين كلام صاحب الحاشية.
...
__________
= ناصر العجمي، ص 140، ما نصّه: "هو الشيخ محمد بن سعيد بن غباش، من إحدى بلدان سواحل الخليج. وقد درس في الأزهر. وكان بينه وبين الشيخ عبد الله صلة. وقد مَرّ بالكويت عن طريق البحر، وزاره الشيخ عبد الله وهو في المركب. وكان لديه حاشية اللبدي المذكورة، ولم يمكث في الكويت إلا ليلة واحدة. ولما أخبَرَ الشيخُ عبد الله بعضَ طلابه بان لدى الشيخ ابن غباش حاشية اللبدي تاسفوا وقالوا: لو استعرتَها منه لنسخناها في هذه الليلة، كما أخبرني بذلك شيخنا محمد الجرّاح حفظه الله" اهـ.
(1) لا يبعد عندي أن يكون عبد الله الغزال نَقَل عن نسخة الشيخ محمد بن سعيد بن غباش، كما نبه إليه التعليق المتقدم. وبهذا تكون نسخة ض منسوخة عن نسخة ابن غباش، وليست عينها.
-ن-

(مقدمة/18)


منهج العمل في التحقيق
1 - عرّفت بالمؤلف حسب الطاقة.
2 - عرّفت بالحاشية مبينًا قيمتها العلمية.
3 - وصفت النسختين المخطوطتين المستعملتين في التحقيق.
4 - أجريت المقابلة بالنسختين المخطوطتين، وأتممت نقص إحداهما من
الأخرى، وأخذت عند الاختلاف بالأصح، ونبهت إلى الوجه الآخر بذيل الصفحات.
5 - علّقت في ذيل الصفحات بما يقتضيه المقام من التنبيه، مع الاقتصاد في التعليق، نظرًا إلى أن الكتاب هو في حد ذاته "حاشية" فلا يحسن الإطناب في التعليق عليها.
6 - أضفت تسميةً لعناوين الفصول تبعًا لما صنعته في "نيل المآرب".
7 - رقمت الحواشي في كل باب أو فصل بأرقام متسلسلة، ليمكن ربطها بنصّ "نيل المآرب" من أجل سهولة المراجعة والاستفادة.
8 - اتبّعت في وضع علامات الترقيم ما استقر عليه أمر مجمع اللغة بالقاهرة.
9 - أثْبَتُّ بين معقوفين أرقام صفحات النسخة الأصل.
10 - ترجمت لأسماء العلماء غير المشهورين لدى الدارسين، بإيجاز شديد. وذكرت بعض البيان لأسماء الكتب غير المشهورة، وإيضاحًا للرموز الواردة في الحاشية، وجعلت كل ذلك في ذيل الصفحات في أول موضع يرد فيه ذكر العالم، أو ذكر الكتاب، أو الرمز، وكان ذلك بالاستعانة بما يذكر في قائمة مراجع التحقيق الآتي ذكرها.
11 - أشرف في أول كل صفحة من صفحات الحاشية على يمين السطر الأول أو يساره إلى رقم صفحة (نيل المآرب) المطبوع بتحقيقنا التي ينتمي إليها هذا السطر وذلك من أجل إتقان الربط.
...
-ص-

(مقدمة/19)


خريطة تبين مدن وقرى الديار النابلسية التي ينسب إليها بعض الفقهاء
الحنابلة ممن ذكرهم ابن حُمَيد في كتابه "السحب الوابلة"

(مقدمة/20)


حَاشِيةُ اللبَّدِي
على
نَيْل المَآرِبِ
في الفِقهِ الحَنْبَليِّ
للِشَّيْخِ عَبْدِ الغَني بْن يَاسِيْن اللبَدِي النَّابُلسِي
(1262 - 1319 هـ)

تحقيق وتعليق
الدكتور محمد سليمان الأشقر

دار البشائر الإسلامية

(/)


حَاشِيةُ اللبَّدِي
على
نَيْل المَآرِبِ
في الفِقهِ الحَنْبَليِّ
للِشَّيْخِ عَبْدِ الغَني بْن يَاسِيْن اللبَدِي النَّابُلسِي
(1262 - 1319 هـ)

تحقيق وتعليق
الدكتور محمد سليمان الأشقر

الجزء الأول

(1/2)


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وفق للتفقه في الدين من أراد به خيرًا من عباده، وأسبغ عليهم جلابيب نعمه، وأسعفهم بمزيد إمداده.
أحمده تعالى أن منَّ علينا بنعمة الإسلام، وعلّمنا بالقلم ما لم نكن نعلم، وأحكَمَ لنا الأحكام أيَّ إحكام.
وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمةً للأنام، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الكرام، صلًاة وسلامًا لا يعتريهما نقصٌ ولا انثلام.
أما بعد:
فإن الكتاب الموسوم ب (نيل المآرب شرحِ دليلِ الطالب) قد بَلَغَ النهايةَ في حُسْنِ الوَقْع، وعظمِ النفع. وقد عكفَتْ على قراءته الطلاّب، واندفع على تحصيله الراغبون من ذوي الألباب. غير أنه يحتاج إلى كتابةِ حاشيةٍ عليه، تَسْفِرُ عن وجوه مخدّراته النقاب، وتُبْرِزُ من خفيّ مكنوناته ما وراء الحجاب.
وإنني لم أكن أهلاً لذلك، ولا لسلوك تلك المسالك. غير أنني لما قرأت النسخة التي كان يقرؤها والدي المرحوم الشيخ عبد الغني اللبدي، نزيل مكة، والمتوفى بها، ورأيتُ بهامشها تقريراتٍ مفيدة، ومباحث سديدة، خطر ببالي أن أُجَرِّدها وأرتبها، وأجعلها حاشية على الشرح المذكور، استظهاراً للصواب، واسترباحًا للثواب. وأرجو من الله الكريم أن يعمّم بها النفع، وأن يجعل لها في القلوب أعظم وقع، إنه جواد كريم، رؤوف رحيم (1).
(1) قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم" إنما ابتدأ بها المصنّف رحمه الله،
__________
(1) هذا المتقدم هو من كلام الشيخ محمود ابن الشيخ عبد الغني، والكلام بعده للشيخ عبد الغني رحمهما الله. ونرجو أن يكون الله تعا لي قد استجاب لدعوته بعملنا هذا في تحقيق هذه الحاشية والسعي في نشرها.

(1/3)


[1/ 33] اقتداءً بالكتاب العزيز، وعملًا بحديث: "كل أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر" أي ذاهب البركة. رواه الخطيب بهذا اللفظ في كتابه "الجامع" (1)، والحافظ عبد القادر الرُّهاوي (2). والباء في البسملة إما للمصاحبة [2أ] أو للاستعانة، متعلّقة بمحذوف. وتقديرُهُ فعلًا أولى، لأن الأصل في العمل للأفعالِ، وخاصةً لأنه أنسب بالمقام، لأن كل شارعٍ في فنٍّ يضمر ما كانت البسمَلَةُ مبدأً له، ومؤخَرًا لإفادة الاختصاص.
و"الله " علم على الذاتِ الواجب الوجود، المستحق لجميع المحامد، الموصوف بكمال الإنعام، وبما دونه. فهو عَلَمٌ على المعبود بحق، إذ لم يستعمل في غيرِه تعالى. قال تعالى: {هل تعلم له سميًّا} [مريم: 65] ومن ثَمَّ كان "لا إله إلا الله" توحيداً، أي لا معبود بحق إلا الله الواحد الحق. فهو من الأعلام الخاصة، من حيث إنه لم يُسَم به غيره تعالى، ومن الأعلام الغالبة، من حيث إن أصله "إله"، قاله بعض المحقّقين.
و"الرحمن لما وصفٌ للفظ الجلالة. وهو خاص لفطًا، من حيث إنه لم يُسَمّ به غيره تعالى، وهو أيضًا من الأعلام الغالبة؛ أي: هو عَلَم بالغَلَبة، كـ"النجم" للثريّا، و"الكتاب" لكتاب سيبويه. فهو عامٌ معنىً، لأنه صفة لمعنى كثير الرحمة، ثم غَلَب على البالغ في الرحمة غايتها. ومعناه أيضاً أنه المتفضل بجلائل النعم في
__________
(1) هو كتاب "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" في أصول الحديث. وهو مطبوع. والحديث فيه (2/ 87) بلفظ: "فهو أقطع" وليس فيه "فهو أبتر" بل هذا اللفظ للرهاوي، كما في الفتح الكبير. وفي إحدى روايات الخطيب: "بحمد الله" بدل "ببسم الله " وكلتا الروايتين من حديث أبي هريرة مرفوعًا.
وخرّجه الشيخ شعيب الأرناؤط في تحقيقه لصحيح ابن حبان تخريجًا ضافيًا (1/ 174) وضعّف إسناده. وذكر ممن أخرجه: أحمد (2/ 359) وأَبا داود (4840) والدارقطني (1/ 229) وغيرهم.
(2) عبد القادر بن عبد الله الرُّهاوي، بضم الراء، ويجوز فتحها، أبو محمد (536 - 612هـ) من أهل الموصل. ذكره إسماعيل البغدادي في هدية العارفين، وقال فيه: الحافظ، محدّث الجزيرة، له تآليف. منها: "المادح والممدوح".

(1/4)


الدنياوالآخرة، فهومن الصفات الغالبة. [1/ 33]
و"الرحيم" عامٌ لفظًا، لأنه قد يسمّى به تعالى. قال تعالى في حق نبيّه - صلى الله عليه وسلم -: {بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة: 28]
و"الرحمن الرحيم" صفتان مشبَّهتان، مشتَقّتان من "رَحِمَ" بنقْلِهِ إلى "رحُمَ" لازمًا، لأن الصفة المشبّهة لا تُشتَقّ إلا من لازمٍ، نحو طَهُرَ وحَسُنَ، فالصفة المشبّهة منهما طاهرٌ وحَسَنٌ.
و"الرحمن" أبلغ من "الرحيم" لأن زيادة المعنى تدلّ على زيادة المعنى غالبًا.
وقدّمَ "الرحمن"، لأنه كالعلم، من حيث إنه لا يوصف به غيرُه تعالى. وقيل إنه علم.
ولم يقل "بالله الرحمن الرحيم": اقتداءً بالكتاب العزيز، وتبركًا بذكر اسمه تعالى، وفرْقًا بين التيمّن واليمين. أو قدم "الرحمن" لأن "الرحيم" كالتتمّة له، لدلالة "الرحمن" على أنه هو المتفضّل بجلائل النعم وأصولها، فَرُودِفَ بـ"الرحيم" ليتناول ما خرج منه. أو قدّم "الرحمن" لمراعاة الفواصل. وهو جواب حسن عمّا يقال: إن الترقي يكون من الأدنى إلى الأعلى، لا من الإعلى إلى الأدنى كما هنا، فَيُجابُ بما ذُكِرة أي: لمراعاة الفواصل.
والرحمة في الأصل رقة في القلب تقتضي التفضل والإحسان، وهي بهذا المعنى من المحال على الله تعالى، فيراد لازمها وهو الإنعام [2ب] والإحسان، أو إرادة الإنعام والإحسان. فعلى تفسيرها بذلك تكون صفةَ فعلٍ، وعلى تفسيرها بالإرادة تكون صفة ذات.
ولهذا كله إنما يتمشّى على مذهب الخَلَف (1) القائلين بأن الرحمة والغضب
__________
(1) هذه إشارة منه رحمه الله إلى أن مذهب السلف بخلاف ذلك، وهو أن الرحمة تجرى على ظاهرها، فهي أمر معلوم هو غير الإنعام، وغير إرادة الإنعام، بل هي صفة لله تعالى تليق بجلاله، لا نكيّفها ولا نعطّل الله تعالى منها، وليست شبيهة برحمة المخلوقين، على حدّ ما ورد عن الإمام مالك رضي الله عنه، حينما سئل عن قوله تعالى: {الرحمن على =

(1/5)


[1/ 33] والرضا لها مبادئ ونهايات. فالله عزّ وجلّ يوصف بها باعتبار النهاية، لا باعتبار المبادئ.
ثم إنه ينبغي الكلام على البسملة بما يناسب الفنّ المبْدوءَ بها. فيناسبها هنا أن نقول:
تجب [البسملة] في خمسة مواضع: عند غسل اليدين من نوم الليل، وعند الوضوء، وعند الغسل، وعند التيمّم، وعند غسل الميّت.
وتشترط في موضعين: عند الذكاة، إلا أنها تسقط سهوًا لا جهلاً، وعند إرسال الآلة للصيد ولا تسقط لا سهوًا ولا جهلاً.
وتُسَنّ في مواضع كثيرة: عند الأكل والشرب ونحوهما.
وتكره على أكل محرّم.
وتحرم في بيت الخلاء ونحوه.
وتباح في غير ذلك.
(2) قوله: "المنفرد بصفات الكمال": أي الذي تفرّد بالأوصاف الكاملة. فلا تليق بغيره سبحانه وتعالى. لا يقال: قد يوصف غيره ببعض صفاته، كالعلم والحلم، والكلام، والسمع، والبصر، وغير ذلك، فما معنى قوله: "المنفرد"؟ لأنّ الصفات المذكورة إذا اتصف بها غيره لا تكون مطلقةً، بل مقيّدة. فيكون متصفًا بالعلم ببعض الأشياء لا مطلقًا. وكذا يقال فيما بعده. فهي لا توصف بالكمال المطلق، بخلاف صفاتِ البارئ سبحانه وتعالى، فإنها صفاتُ كمالٍ مطلقًا. ويؤخذ من هذا أيضًا أنه سبحانه وتعالى منزّه عن كل نقص، وعن سماتِ الحدوث، ومشابهتِهِ للحوادث. كيف وهو المحدث الموجد لها سبحانه وتعالى. وقوله: "المنعوت" أي الموصوف "بنعوت أي صفات "الجلال والجمال" أي فالبارئ عزّ وجلّ متصف بالجلال، وهو الهيبةُ والغَلَبَةُ والقهر والسلطان، والجمال، وهو
__________
= العرش استوى} كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. اهـ.

(1/6)


الرحمة والرأفة والكرم والحلم. وكل من هذه الصفاتِ صفات كمال. وقوله: [1/ 33] "المتحبب" أي المتودّد "إلى خلقه بالإنعام والإفضال" أي فهو سبحانه وتعالى كثير الإنعام والمتفضّل على- خلقه. ومن كان كنالك فالقلوب تستروح لمحبته، لأنها مطبوعة على ذلك. والله تعالى يحب من عباده أن يحبّوه. ومن لُطْفِهِ بهم أسبغ عليهم نِعَمَهُ ظاهرة وباطنة، وكانت سببًا لمحبتهم له. وقوله: "والعطاء والنوال" عطفُ مرادفٍ. وقوله: "المحسِنُ على ممرّ الأيام والليال" أي الدائم إحسانه لخلقه في سائر الأوقات. وقوله: "أحمده" أي أصفه بالجميل، وصفًا متجدّدًا يحدث شيئًا بعد شيء. "لا لغيُّرَ له" أي لا نقص له "ولا زوال" أي ولا انقطاع "لا تحوُّل له ولا انفصال" أي لا انتقال له ولا انقطاع.
(3) قوله: "ولا مثْلَ له ولا مثال" أي لا يشبهه شيء [3أ]، ولا يُشْبِهُ شيئًا. وقوله: "ولا خلال" أي مُخَالَلَة ومُوَادَّة.
(4) قوله: "أصحّ الأقوال لا أي الأقوال الصحيحة "وأسدِّ الأفعال" أي الأفعال السديدة، أي الصواب. وقوله: "المُحْكِم" أي المتُْقنِ للأحكام "الغُدُوّ" جمع غدوة، أي أول النهار، "والآصال" جمع "أَصيلٍ" أي آخر النهار.
(5) قوله: "فإن الاشتغال بالعلم" هذه العبارة من خطبة "المبْدع".
(6) قوله: "المقدسي" نسبة إلى البلاد المقدّسة، وإلا فهو من طول كَرْم (1)، من أعمال نابلس.
(7) قوله: "فاستخرت الله الخ": هذا جواب "لمَّا" فكان الأَوْلى إسقاط الفاء.
(8) قوله: "ذي بال": أي حالي وشرفٍ يُهْتَمّ به شرعًا.
(9) قوله: "واللهِ عَلَمٌ الخ" يقرأ بكسر الهاء على الحكاية، وكذا بترقيق اللام فيما يظهر، لأنه لا يُقرأ على حكايته إلا كذلك. وقوله: "الواجب الوجود": أي
__________
(1) طول كرم، والأكثر أن تكتب في هذا العصر "طولكرم"، تقع غربيّ نابلس، وتبعد عنها قريبًا من (10) كيلو مترات إلى الغرب.
وكانت تسمى قديمًا: "طور كرم" وهي الآن مدينة ومركز قضاء.

(1/7)


[1/ 34] الذي لا يتصور في العقل عَدَمُه، بخلاف "الجائز" فهو الذي يُتصوَّر في العقل وجوده وعدمه، وبخلاف "المستحيل" فإنه الذي لا يتصور في العقل وجوده.
فالأول البارئ سبحانهُ وتعالى، والثاني كالمخلوقات، والثالث كالشريك له سبحانه وتعالي.
(10) قوله: "من الوصف بالعبودية": أي لأنها تركُ الاختيار، والثقةُ بالفاعل المختار، والتسليم لأمر الواحد القهّار، وعدم منازعة الأقدار (1)، حتى لا يبقى له مع الله مراد إلا ما أراد.
(11) قوله: "من حلالٍ" أي واجب. ولو عبّر به لكان أولى. لأن الحلال يشمل الواجب والمكروه والمباح، كما هو ظاهر.
(12) [قوله]: "وعلى جميع الأنبياء والمرسلين": قد روي بيان عدد الأنبياء في بعض الأحاديث [أنهم] مائة وأربعة وعشرون ألفًا، والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر (2). والأولى أن لا يقتصر على عدد في التسمية. قال الله تعالى: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصُصْ عليك} [النساء: 164] ولا يؤمَن في ذكر العَمَد أن يَدْخلَ فيهم من ليس منهم، أو يخرج منهم من هو فيهم.
__________
(1) أقول: تفسير العبودية بهذا ليس صوابًا، بل إن اختيار الإنسان ما يرى فيه صلاحًا لنفسه وأهله وغيره ليس فيه منازعة للاقدار، بل هو أخذٌ بالأسباب التي وضعها الله تعالى موصلةً إلى مسبّباتها، كالتداوي بما جعله الله مؤدّيًا إلى الشفاء، والطعام الذي جعل الله فيه شبعًا وقوة؛ والشرب الذي جعله الله تعالى مذهبًا للعطش، وإعداد السلاح والمراكب من الخيلِ وغيرها الذي جعل الله فيه الاقتدار والنصر على الأعداء. فليس في شيءٍ من ذلك منازعة للأقدار، ولا منافاة للعبودية. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل كل ذلك، وقد كان أكمل البشر عبوديةَ لله تعالى. وأنما العبودية الحقة المبالغة في طاعة الأمر، والحرص على عدم المخالفة، والتقرّب إلى الله تعالى بمراضيه، مع الحب والخوف والإخلاص.
(2) أخرجه ابن حبان من حديث أبي ذر مرفوعًا. قال ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 152) ذكره ابن الجوزي في الموضوعات. قال وأورده ابن أبي حاتم من حديث أبي أمامة، وقال: فيه ثلاثة ضعفاء. وأخرجه الإسماعيلي من حديث أنس، إلا أن فيه أنهم كانوا ثمانية آلاف نبيّ.

(1/8)


(13) قوله: "بناء على أنّ الخ" أي وأما إذا قلنا إن مسمى الكتاب هو [1/ 36] النقوش، كما عليه بعضهم، فلا تصح الإشارة إلا إن كانت الخطبة بعد التأليف.
(14) قوله: "الفهم": هو إدراك معنى الكلام. وقيل جودة الذهن.
(15) قوله: "معرفة الأحكام": وقيل الأحكام نفسها. وقوله: "الشرعية":
خرج العقلية، وقوله: "الفرعية" خرج الأصولية. وقوله: "الفعل" أي الاستدلال.
وقوله: "أو بالقوّة القريبة" أي من الفعل. وقوله: "كذلك": أي بالفعل أو بالقوّة.
فعلى هذا: من عرف الأحكام بغير ذلك لا يسمى فقيهًا.
***

(1/9)