حَاشِيةُ اللبَّدِي على نَيْل المَآرِبِ

كتاب الأيمان [2/ 418]
(1) فائدة: الأيمان منها ما يجب، وهي التي ينجِّي بها إنسانًا معصومًا من هلكة؛ ومنها مندوب، وهي التي يتعلق بها مصلحةٌ من إصلاحٍ بين متخاصمين، أو إزالة حقدٍ من قلب مسلم على حالف أو غيره؛ ومنها مباح، وهو الحلف على فعل مباحٍ أو تركه، والحلفُ على الخبر بشيءٍ هو فيه صادق، أو يظن أنه فيه صادق؛ [81ب] ومنها مكروه، مثل الحلف على فعل مكروه أو ترك مندوب؛ ومنها محرَّم، وهو الحلف الكاذب.
وأما الحلف على فعل طاعةٍ أو ترك معصية ففيه وجهان:
الندب، وهو قول أصحابنا وأصحاب الشافعي.
والثاني ليس بمندوب. قال ذلك في شرح المقنع. اهـ. ابن قندس اهـ.
فتوحى. ذكره ابن عوض. قلت: وذكر ذلك أيضًا في المنتهى والإقناع.
وقالا أيضًا: ومن حلف على مكروه أو ترك مندوب سنَّ حِنْثُهُ، ومن حلف على فعلٍ محرمٍ أو ترك واجب وجب حنثه، ومن حلف على فعل واجب أو ترك محرم حرم حنثه ووجب بِرُّه، ومن حلف على فعلِ مندوب أو ترك مكروه كره بره وسن حنثه، ويخير في مباحٍ، وحفظهما (1) فيه أولى، انتهيا. فقد اشتملت الأيمان والحنث والبرّ على الأحكام الخمسة. اهـ.
(2) قوله: "ولا كفارة": عند الأكثر من أصحابنا إلا في حلفٍ بنبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فتجب الكفارة إذا حلف به وحنث في رواية أبي طالب، لأنه أحد شطري الشهادتين اللتين يصير بهما الكافر مسلمًا (2).
__________
(1) هكذا في ض وموضعها في الأصل مطموس. والصواب عندي: "وحفظها" أي اليمين.
(2) هذا لا يستقيم، وان قالوه، لأنه قياس في مقابلة النص الناهي عن الحلف بغير الله. فهو محرم فلا ينعقد ولا يكون فيه كفارة، وإنما كفارة الحلف به أن يقول لا إله إلا الله وأن يستغفر الله.

(2/431)


[2/ 419]
ويكره الحلف بالأمانة لحديث: "من حلف بالأمانة فليس منا" رواه أبو داود.
وفي الإقناع: كراهة تحريم. اهـ. م ص.
أقول: ظاهر هذا أن تحريم الحلف بغير الله أو صفاته يشمل نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالاتفاق، لأنهم لم يستثنوا إلاَّ وجوب الكفارة فيه.
(3) قوله: "في عُرْضِ حديثه": بضم العين، أي جانبه. وإما بالفتح فهو خلاف الطول. وتصح إرادته هنا مجازًا. وظاهره ولو على أمر مستقبلٍ. ومثله لو عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلافه. لكن يحنث في طلاقٍ وعتاقٍ فقط على المذهب. وتقدَّم في الهوامش. وعنه: لا يحنث فيهما أيضًا، واختاره الشيخ وغيره.
(4) قوله: "وإلا بأن لم يتعمد الكذب إلخ": أي كما لو حلف على ماضٍ يظن صدق نفسه، فتبيّن بخلافه، فلا شيء عليه، لأنه من لغو اليمين. وقيل: فيه كفارة. والأول المذهب.
(5) قوله:"فلم يطعه": لكن إن حلف ظانًّا أنه يطيعه فلم يطعه لا كفارة عليه، في ظاهر كلام الشيخ، كمن حلف على ماضٍ يظن صدق نفسه.
(6) قوله: "ولو كان فعل ما حلف على تركه إلخ": أي كما لو حلف على ترك الخمر فشربها، أو حلف على فعل صلاة فرض فتركها، فيكفّر.
(7) قوله: "محرَّمين إلخ": هل يؤخذ من هذا أن المانع الشرعي لا يعد إكراهًا، فلو حلف ليقتلن زيدًا يوم كذا، فلم يقتله لمنع الشرع منه، حنث، وأما لو لم يقتله لمانع حسيّ، كان مُسِكَ أو حُبِسَ ونحوه، فلا يحنث؟
أقول: لا يؤخذ هذا البحث من هذه العبارة. وإنما قد يؤخذ من قولهم: من حلف على فعل محرَّم وجب حنثه، فجعلوا عدم فعل المحرّم المحلوف عليه حِنْثًا، وإن كان المانع من فعله خوفَ الإثم فقط، لا شيء آخر، كما هو ظاهر. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(8) قوله: "جاهلاً": وكذا ناسيًا.
(9) قوله: "ومن حلف بالله إلخ": ومثله نذر وظهار ونحوهما، كقوله: هو

(2/432)


يهودي أو نصراني إن فعل كذا إن شاء الله، أو: إلا أن يشاء الله. فهذه الأشياء [2/ 422] التي تدخلها الكفارة إن وصلها بالاستثناء المذكور لا يلزمه بها شيء.

فصل في أنواع من الأيمان
(1) قوله: "ومن قال: طعامي إلخ": أي ومن حرَّم حلالاً غير زوجته من أمةٍ أو طعامٍ أو لباس ونحو ذلك لم يحرم، وعليه كفارة يمين. وأما تحريم زوجته فظهار، وتقدم حكمه، فيجوز وطء الأمة، وأكل الطعام، ونحوهما، قبل إخراج الكفارة، بخلاف تحريم الزوجة، فلا يجوز وطؤها قبل الكفارة، وتقدم، لأنها تحرم.
(2) قول الله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم إلخ} [التحريم: 1] سبب نزول هذه الآيات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - واقع مارية القبطية في بيت حفصة، وكانت غائبة، فجاءت وشق عليها ذلك لكونه في بيتها وعلى فراشها. فقال - صلى الله عليه وسلم - "هي على حرام" ليُرْضي حفصة. وقيل غير ذلك. وهل كفَّر عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال مقاتل: أعتَقَ رقبة في تحريم مارية. وقال الحسن: لم يكفر، لأنه - صلى الله عليه وسلم - مغفورٌ له. اهـ. جلال.
فائدة: ومن قال: "أيمان البيعة تلزمني" أيمان البيعة يمينٌ رتّبها الحجاج، والخليفة المعتمد، تشتمل على اليمين بالله والطلاق [82أ] والعتاق وصدقة المال.
فإن كان الحالف يعرفها، ونواها، انعقدت يمينه بما فيها، وإن لم يعرفها ولم ينوها، أو عرفها ولم ينوها، أو نواها ولم يعرفها، فلا شيء عليه.
ولو قال "أيمان المسلمين" تلزمني إن فعلت كذا، وفعله، لزمته يمين الظهار والطلاق والعتاق والنذر واليمين بالله إذا نوى ذلك. ولو حلف بشيء من هذه الخمسة، فقال له آخر: يميني مع يمينك، ونوى: عليَّ مثل يمينك (1)، يريد التزام مثل يمينه، لزمه ذلك، إلا في اليمين بالله تعالى. اهـ. إقناع.
قال م ص في شرح المنتهى: قلت: فيشكل لزومها في "أيمان المسلمين"
__________
(1) قوله: "ونوى إلخ" هكذا في الأصل. ووقع في ض: "أو أنا على مثل يمينك".

(2/433)


[2/ 423]
"وأيمان البيعة" فليحرر الفرق. اهـ. يعني أنه لو حلف بالله على شيء، فقال آخر: يميني مع يمينك، ونحوه، لا تنعقد يمينه، لأنها لا تنعقد بالكناية، لوجوب الكفَّارة فيها لما ذكر فيها من اسم الله تعالى المعظم المحترم، ولم يوجد ذلك في الكناية ولا غيرها، بخلاف غيرها من الأيمان المذكورة. فقولهم: إذا قال: "أيمان البيعة أو: أيمان المسلمين" تلزمني، يلزمه اليمين بالله تعالى، مشكل، لأنه لم يوجد في كلامه اسم الله تعالى أو صفته، فتكون قد انعقدت بالكناية، وإلا فما الفرق؟ هذا توضيح كلام م ص.
أقول: وقد يقال إن دخولها في "أيمان البيعة" و"أيمان المسلمين" بطريق التبعية، فقد يكون للشيء حكم بالتبعية خلاف حكمه بالاستقلال في كثير من الأحكام. والله أعلم.

فصل فيما يكفر به
(1) قوله: "إطعام عشرة مساكين" أي لكل مسكين مدُّ بُرٍّ أو نصف صاع من غيره مما يجزئ في فطرة.
ويعتبر أن يكون المسكين مسلمًا حرًّا، ولو صغيرًا، ويَقْبل له وليُّه في ماله.
والمراد بالمساكين ما يشمل الفقراء، لأنهما في غير الزكاة صنفٌ واحد.
وقال الزركشي: يجوز دفعها للغارم لاحتياجه، فهو كالمسكين. وكلام أبي محمد يوهم المنع. اهـ. قال ح ف: وكلام أبي محمد هو الظاهر من كلامهم، وهو ظاهر القرآن اهـ. قلت: وهو الصواب.
(2) قوله: "أو يكسو النساء من الحرير" مفهومه أنه لو كسا الرجال من الحرير لا يجزيه، وهو ظاهر قولهم: تجزئ صلاته فيه. نعم إن كان لبس الحرير مباحًا للرجل لحاجة فيتجه إجزاء كسوته به، لإجزاء صلاته فيه. ينبغي أن يحرر.
(3) قوله: "فإن أطعم المسكين بعض الطعام إلخ) أي كما لو أطعم مسكينًا مدًّا من شعيرٍ أو ونصف مدٍّ من برّ، وكساه بعض الكسوة التي تجزئ صلاته فيها.
أما لو أطعم بعض المساكين القدر الواجب، وكسا بعضهم القدر الواجب أيضاً،

(2/434)


فإنه يجزيه. [2/ 426]
(4) قوله: "وإخراج الكفّارة قبل الحنث وبعده سواء": أي وتكون قبل الحنث محلِّلة لليمين، وبعده مكفّرة، لكن قال ابن نصر الله: الأصحُّ أنه لا إثم بالحنث، لقوله عليه السلام "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير" (1). وهو عليه السلام لا يُقْدِمُ على ما فيه إثم. اهـ. ح ف.
أقول: وقد تقدّم في الهوامش أن الحنث تعتريه الأحكام الخمسة، فما يباح فعله وحلف على تركه، لا يحرم فعله. وقيل: يحرم، ولذا لزمته كفارة بالحنث.
والصواب الأول.
(5) قوله: "قبل الحنث إلخ": أي ويجب إخراجها بعد الحنث على الفور، كالنذر.

باب جامعى الأيمان
(1) أحكام هذا الباب يشترك فيها الطلاق والعتاق واليمين بالله تعالى. اهـ. خ ف.
(2) قوله:"أبدًا": لعله "ابتداءًا"، وإلا فالمعنى غير صحيح.
(3) قوله: "غير ظالمٍ بها": أي باليمين، وسواء كان مظلومًا أوْ لا، وأما الظالم الذي يستحلفه حاكم بحق عليه فيمينه على ما يقصده صاحبه. اهـ. م ص.
(4) قوله: "وكان لفظه يحتمل النية": أي كنيّتِهِ بالسقف والبناء السماء، وبالفراش والبساط الأرض، وباللباس الليل، وبالأخوّة أخوة الإسلام، وما ذكرتُ فلانًا: أي قطعت ذكره، وما رأيته: أي ما ضربت رئته، وبنسائي طوالق: أقاربه من النساء، وبجواريَّ أحرارٌ: سفنه، وما كاتبتُ فلانًا: مكاتبةَ الرقيق، وما عرفته:
__________
(1) حديث: "لا أحلف ... " أخرجه البخاري (الأيمان ب1) ومسلم (لأيمان ح 9) وأحمد (4/ 401)

(2/435)


[2/ 428] جعلته عريفًا، وما أعلمته: أي جعلته أعلم، أي شققت شفته، وما سألتُه حاجةً: أي شجرة صغيرة، وما أكلت له دجاجة: أي كُبّه من الغزل، ونحو ذلك.
(5) قوله: "قبل حكمًا": أي في غير طلاق وعتاق، وأما فيهما فلا، كما في الإقناع.
(6) قوله: "وما هَيجَها": أي أثارها.
(7) قوله: "لم يحنث إذا قصد عدم تجاوزه": أي فيكون مبنيًّا على نيته [82ب].
(8) قوله: "واقتضاه السبب": أي كما لو كانت اليمين في حال خصومةٍ مع غريمه بسبب مَطْلٍ، فيكون مبنيًّا على السبب، وهو يقوم مقام النية عند فقدها.
(9) قوله: "وكذا أكل شيء وبيعه وفعله غدًا": أي كما لو حلف لآكلن كذا غدًا، أو لأبيعنه، أو لأفعلنه، وكانت نيته أو [كان] السبب [يقتضي] تعجيل ذلك، لا يحنث باكله وبيعه وفعله قبل الغد.
(10) قوله: "إلا بمائة إلخ": فإن قال المشتري: أنا آخذه بمائة ولكن هب لي منها كذا، فقال الإمام أحمد: حيلة. اهـ.
(11) قوله: "رجع إلى التعيين": أي تتعلق اليمين بالمعيّن، ولو تغيرت صفته واسمه واستحالت أجزاؤه، كقوله "لا أكلت هذه البيضة" فصارت فرخًا، أو "هذه الحنطة" فصارت زرعًا، فأكله، حنث.
(12) قوله: "وهو الإشارة": أي وكذا الإضافة تفيد التعيين، كما لو حلف لا يدخل دار زيدٍ، أو لا كلَّمت عبده، فدخل الدار وقد باعها زيد، وكلّم العبد وقد باعه زيد، حنث حيث لا نيّة ولا سبب لتخصيص ذلك بحال ملك زيد، لأن اليمين تعلّقت بما يسمى دار زيد أو عبده حال صدورها، فهو كالتعيين بالإشارة.
(13) قوله: "ولا نية ولا سبب": أي وأما إن نوى: ما دام على تلك الحالة، أو كان السبب المهيج لليمين يقتضي التخصيص بذلك، فلا حنث.
فائدة: ومن حلف "لا يحج" أو "لا يعتمر" حنث بإحرامٍ به أو بها، لأنه يسمى حاجَّا ومعتمرًا بمجرد الإحرام. و"لا يصوم": حنث بشروع صحيح في

(2/436)


الصوم ولو نفلًا بنيةٍ من النهار حيث لم يأت بمنافٍ، فإذا صام يومًا تبينَّا أنه [2/ 429] حنث منذ شرع، فلو كان حلفه بطلاقٍ، وولدتْ بعد الشروع في الصوم، وقبل تمام اليوم، انقضت عدتها، وإن كان الطلاق بائنًا وماتت في أثناء ذلك اليوم لم يرثها.
قال م ص: قلت: فإن مات هو أو بطل الصَّوم فلا حنث، لتبيُّن أن لا صوم.
فإن كان حالة حلفه لا يحج أوْ لا يصوم حاجًّا أو صائمًا، فاستدامَهُ، حنث، خلافًا لما في الإقناع اهـ.
ومن حلف "لا يصلي" حنث بتكبيرة إحرام، ولو على جنازة، لأنها صلاة، بخلاف الطواف. وإن حلف "لا يصلي صلاةً" لم يحنث حتى يفرغ مما يقع عليه اسم الصلاة. وكذا "لا يصوم صومًالا لم يحنث حتى يصوم يومًا، ظاهره ولو بنية في أثناء النهار في نفلٍ، مع أن أول النهار عريٌّ عن النية والثواب. والله أعلم.
(14) قوله: "والصلح على مالٍ شراء": أي فيما إذا ادعى عليه شخص عينًا فأقرَّ بها، ثم صالحه على عينٍ غير المدعى بها، فيكون قد اشترى العين المدَّعى بها بذلك. وإما إن صالحه على بعض العين المدعاة فهو هبة، وتقدم.
(15) قوله: "والحلف على الماضي والمستقبل سواء": أي لا فرق بين قوله: "لا أبيع" فباع بيعًا صحيحًا، فيحنث، وفاسدًا لا، وبين قوله: "ما بعت" وكان قد باع بيعًا صحيحًا فيحنث، وفاسدًا لا، وذلك لما ذكره الشارح.
(16) قوله: "فالأيمان مبناها العرف" أي دون الحقيقة، لأنها صارت مهجورة لا يعرفها أكثر الناس. فمن حلف "لا يشتري راوية" حنث بشراء مزادة، لا بشراء جمل؛ "ولا يطأ ظعينة" حنث بوطء المرأة لا الناقة، "ولا ينظر إلى غائط" حنث بالرّوث الخارج دون المكان المنخفض من الأرض. ولا يحنث إذا قصد معناه الحقيقي. وكذا كل ما في معناه فتدبر.
(17) قوله: "لأن ظاهر حلفه إرادة الامتناع" أي ما لم ينو حقيقة ذلك، أو اقتضاه السبب، فإنه لا يحنث إلا بها.
(18) قوله: "وبيت الشعر" ظاهره سواء كان الحالف بدويًا أو لا، وهو

(2/437)


[2/ 431]
كذلك، صرح به في الإقناع. والأَدَم بفتح الهمزة والدال الجلد.
(19) قوله: "ولا يضرب فلانة، فخنقها إلخ لا أي ما لم ينو حقيقة الضرب، فإنه لا يحنث بذلك. وقوله: "وإن ضربها بعد موتها لم يبَرّ" يؤخذ منه أنه لو حلف لا يضربها، فضربها بعد موتها، لا يحنث أيضاً. فتدبر.
(20) قوله: "من حلف [83أ]، لا يشم الريحان فشم وردًا إلخ" وقال القاضي: يختص يمينه بالريحان الفارسي، لأنه مسماه عرفًا، وقدمه في المقنع، وجزم به في الوجيز اهـ. م ص.
(21) قوله: "فإن عدم العرف": أي بان اشتهرت حقيقته دون مجازه، أو لم يكن له مجاز، فيرجع إلى الحقيقة اللغوية.
(22) وقوله: "لا بما لا يسمى لحمًا، كالشحم ونحوه": أي ومحل ذلك ما لم يقصد اجتناب الدسَم، فإن قصد ذلك حنث بأكل الشحم ونحوه، لأن فيه دَسَمًا. وكذا لو اقتضاه سبب اليمين وما هيّجها، وهو معلوم مما تقدم، فليتنبه له.
ومن حلف لا يأكل شحمًا، فأكل شحم الظهر أو الجنب، أو سمينهما، أو الألية، أو السنام، حنث، لأن الشحم ما يذوب من الحيوان بالنار.
أقول: لكن لا يطلق الشحم على الألية عرفًا (1). ينبغي أن يحرر، والله أعلم.
(23) قوله: "يسمى رأاسًا لا لحّامًا": وعبارة م ص على المنتهى: وبائع الرؤوس يسمّى روّاسًا لا لحّامًا، فتأمله.
(24) قوله: "ولو من لبن آدمية": أي أو من لبن محرم، كما ذكره م ص بحثًا منه قياسًا على اللحم اهـ.
(25) قوله: "لا إن أكل زبدًا إلخ": أي لا يحنث من حلف لا يأكل لبنًا بأكل
__________
(1) يعني في عرف أهل بلادنا فلسطين. فليست "الألية" عندهم شحمًا. فلا يحنث واحدهم بأكلها إن حلف لا يأكل شحمًا.

(2/438)


زبد إلخ، لأنه لا يدخل في مسمّى اللبن. [2/ 432]
(26) قوله: "ما سأل من الأقطِ": بكسر القاف، وهو اللبن المجفف. وكذا من حلف "لا يأكل زبدًا" فأكل سمنًا لا يحنث، كعكسه، ما لم يظهر في أحدهما طعم الآخر. فإن ظهر فيه طعمه حنث اهـ. م ص.
(27) قوله: "كبلح وعنب ورمان": فإن قيل: قوله تعالى {فيهما فاكهة ونخل ورمان} [الرحمن: 68] يقتضي أن البلح والرمان ليسا من الفاكهة؟ فالجواب أن العطف هنا للتشريف، لا للمغايرة، فهي كقوله تعالى {من كان عدوًّا لِلهِ وملائكته ورسله وجبريل وميكال} [البقرة: 98] الآية.
(28) قوله: "كثمر القيقب والعفص": قال م ص: بخلاف الخرنوب.
فظاهره أنه من الفاكهة. اهـ.
(29) قوله: "لا يتغدى فأكل بعد الزوال": ظاهره ولو كان الغداء في عرف الحالف هو الأكل بعد الزوال، كما هو في عرف أهل بلادنا، مع أنه تقدم أن المعتبر بعد النية والسبب العرف، وهو قد يختلف باختلاف الناس.
والذي يتجه عندي أنه لا يحكم على كل الناس بعرف بعضهم، بل يعتبر عرف كل ناحية لحدتها، والله أعلم.
والغداء والعشاء أن يأكل أكثر من نصف شِبَعِهِ، والأكلة ما يعده الناس أكلةً، وبالفم اللقمة. اهـ. م ص.
ومن حلف "لا يأكل سمنًا" فأكله في خبيصٍ، أو: "لا يأكل بيضًا" فأكل ناطفًا، أو "لا يأكل شعيرًا" فأكل حنطة فيها حبات شعير، لم يحنث إلا إذا ظَهَرَ طعم شيء من محلوف عليه. اهـ. منتهى.
(30) قوله: "فإنه لا يحنث" أي ما لم ينو الشرب من مائه، أو يقتضيه السبب، كما يعلم مما تقدم.
(31) قوله:"حنث بما جعله لعبده من دارٍ إلخ" أي ما لم ينو مسكنه، أو ما اختص به من ذلك، فإنه لا يحنث.
(32) قوله: "أو بما استأجره فلان" وكذا يحنث بدخوله الدار الموصى له

(2/439)


[2/ 434] بمنفعتها، والموقوفة على عينه. أما الموقوفة على الجنس فهي أقوى من المعارة، لأن المنفعة مستحقة للجنس. اهـ. ح ف.
أقول: وكذا يحنث بدخوله داره الموصى بنفعها لغيره، لأنها كالمؤجرة. والله أعلم.
(33) قوله: "لا بما استعاره" أي ما لم ينو مسكنه، أو كان السبب المهيّج لليمين يقتضيه، كما علم مما تقدم.
(34) قوله: "لا بمِلْكِهِ الذي يسكنه" أي لا يحنث بدخوله دارًا لزيد غير مسكونة له.
(35) قوله: "حنث بكلامِ كل إنسان" أي ما لم ينو إنسانًا بعينه، أو كان سبب اليمين يقتضيه.
(36) وقوله: "حتى بقوله: تنحَّ، أو: اسكُتْ" أي إلا أن ينوي كلامًا غير هذا.
(37) وقوله: "ولا كلمت فلانًا، فكاتبه أو راسله" أي أرسل له رسولاً. وكذا إن أشار إليه حنث. قاله القاضي. وإن سلّم على قومِ هو فيهم ولم يعلم فكناس.
وإن علم به ولم ينوه ولم يستثنه بقلبه ولا بلسانه كان يقول: "السلام عليكمَ إلا فلانًا"، حنث.
(38) وقوله: "ولا بدأت فلانًا بكلامٍ" فتكلما معًا، لم يحنث، أي بخلاف قوله: "لا كلمته حتى يكلمني أو يبدأني بكلامٍ" فيحنث بكلامهما معًا.
(39) قوله: "وبمالٍ غير زكويّ": لو قال "وبمال ولو غير زكوي" [83ب] لكان أوضح، لأنه يحنث بالزكوي من باب أولى.
(40) قوله: "وليضربن فلانًا بمائة إلخ": قال ع ن: لعل الفرق بينها وبين التي بعدها أن ما دخلت عليه الباء صادق على الآلة، فُرِّقَتْ أو جمعت، وما لم تدخل عليه الباء صادق في الفعلات، وهي لا تكون من شخصٍ إلا مرتّبة. اهـ.
أقول: وقوله تعالى {وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به ولا تحنث} [ص: 44]

(2/440)


لسيدنا أيوب عليه السلام، وكان قد حلف ليضربن زوجته مائة ضربة، لعله [2/ 436] خصوصية (1). والله سبحانه وتعالى أعلم.
(41) قوله: "لزمه الخروج بنفسه وأهله ومتاعه المقصود": المراد بأهله زوجته أو عائلته، وبمتاعه المقصود ما لا يستغني عنه الساكن، فإن انتقل بدون ذلك [حنث] (2).
(42) قوله: "ولا يمكنه إجبارها، فخرج وحده". وكذا إذا لم يخرج وكان لا يمكنه النقلة بدونها، لكن بنية النقلة متى قدر عليها. ومثل الزوجة عائلته.
(43) قوله: "فخرج وحده": أي بمتاعه المقصود له، وإلا حنث، كما ذكره ح ف.
(44) قوله: "إلا أنه يبرّ بخروجه وحده": إذا حلف ليخرجن منه. علم منه أنه لو حلف ليرحلنّ من البلد لا يَبَرُّ بخروجه وحده، بل بأهله ومتاعه المقصود، كالدار.
(45) قوله: "ولا يحنث في الجميع بالعود إلخ": أي ولهذا بخلاف ما لو حلف لا يسكنها، فإنه إن خرج ثم عاد إليها وسكنها يحنث، لا إن دخلها زائرًا ولو أقام أيلمًا، فإن الزيارة ليست بسكن (3) اتفاقًا.
(46) قوله: "فخدمه وهو ساكت": أي لم ينهه. ومفهومه أنه إذا نهاه فلم ينته لا يحنث. اهـ. ح ف.
(47) قوله: "فوكل فيه من يفعله حنث": وفي المستوعب أنه إذا قصد بيمينه أنه لا يتولى هو فعله فلا يحنث إذا أمر غيره بفعله ففعله. ذكره ابن أبي موسى.
__________
(1) الحمل على الخصوصية خلاف الأصل. ومما يؤيد أن الآية للعموم ما ورد في مسند أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه من حديث سعيد بن سعد بن عبادة في المريض الذي زنى بأمَةٍ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "خذوا له عِثكالًا فيه مائة شِمراخ، ثم اضربوه به ضربة واحدة" وانظر شرحه في شرح المنتقى (7/ 120).
(2) جواب إن ساقط من النسختين، وأثبتناه هكذا لأن المعنى لا يحتمل غيره.
(3) كذا في الأصل. ووقع في ض: "ليست سكنى".

(2/441)


[2/ 437] ولعله مراد من أطلق. اهـ. ح ف. وهو كما قال. والله أعلم.
(48) قوله: "وإنما الحالق غيرهما": الصواب غيرهم. ومن هذا الباب قوله تعالى: {قال يا هامان ابن لي صرحًا] [غافر: 36] ونحوه مما تدخله النيابة. وكذا لو حلف لا يبيع، فتوكل عن غيره في بيعٍ فباع، لا يحنث، لإضافة فعله لموكله.
قال م ص: قلت: إلاّ أن يكون نيتُهُ أو سبب اليمين الامتناع من فعل ذلك لنفسه وغيره، فيحنث إذن بذلك. اهـ.

باب النذر
(1) قوله: "هو لغة الإيجاب": وشرعًا إلزام مكلفٍ مختارٍ نفسه لله تعالى شيئًا غير لازمٍ بأصل الشرع بالقول، كعليَّ لله، أو نذرت لله، ونحوه. فلا تعتبر له صيغة خاصة. ويصح من كافر بعبادةٍ، لقول عمر: "إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلةً. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أوف بنذرك" (1) ولأن نذر العبادة ليس بعبادة.
(2) قوله: "وهو مكروه": قال م ص: وحرَّمه طائفة من أهل الحديث.
(3) قوله:"ولو عبادة": ظاهره أنه يصلي النفل كما هو، لا ينذره ثم يصليه، كما يفعله بعض الناس المتعبدين.
(4) قوله: "لا يأتي بخير": أي لا يجلب نعمة ولا يردّ قضاء، أي لا يدفع نقمة (2).
(5) قوله: "ولا يضر قوله: على مذهب من يُلزِم بذلك": أي بالمنذور أي كمالك، لأن ذلك توكيد، والشرع لا يتغير بالتوكيد. قاله الشيخ.
(6) قوله: "فيخيَّر أيضًا": أي كما لو حلف عليه. وقد روى أبو داود: "أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدفّ. فقال لها
__________
(1) حديث عمر في النذر: أخرجه البخاري في الاعتكاف (ب 5، 15) ومسلم في الأيمان (ح27، 28).
(2) لحديث: "إن النذر لا يأتي بخير، ولكن يستخرج به من البخيل" أخرجه أحمد (2/ 61) والبخاري (4/ 254) ومسلم (5/ 77) (الإرواء 8/ 209).

(2/442)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوفي بنذرك" (1). اهـ. م ص. [2/ 440]
(7) قوله: "كشرب خمر إلخ": ومن ذلك إسراج القبر، والشجرة، والنذر لها، أو المغارة، أو القبر، إذا نذر لذلك أو نذر لسكّانه، أو المضافين إلى ذلك المكان. قاله الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى.
(8) قوله: "فيحرم الوفاء": أي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" (2).
(9) قوله: "غير صوم يوم حيض": أي فلا يقضي، لأن الحيض منافٍ للصوم لمعنى فيه، فلا ينعقد نذره، كنذر صوم ليلةٍ، لأنها ليست محل صوم.
(10) قوله: "ولو واجبين": هذا على القول بانعقاد النذر في الواجب، كلله عليَّ صوم رمضان ونحوه، فيكفِّر إن لم يصم، كحلفه عليه، وهو الذي قدمه في المنتهى والإقناع. ثم قالا: وعند الأكثر: لا. [84أ] أي لا ينعقد النذر في الواجب. والله أعلم.
فائدة: ومن نَذْرِ التبرُّرِ لو حلف بقصد التقرب. فقال: والله إن سلم مالي لأتصدقن بكذا، فوجد الشرط، لزمه.
ومن نَذَرَ الصدقة بكلِّ ماله نذر قربةٍ، لا نذرَ لجاجٍ وغضبٍ، أجزأه ثلثه. ولا كفارة. وثلث المال معتبر يوم نذره. وإن نذر بعضًا مسمًّى من ماله، كنصفه أو ألْفٍ وهو بعض ماله، لزمه.
أقول: وظاهر هذا: لو نذر الصدقة بتسعة أعشار ماله، أو بتسعةٍ وتسعين جزأً من مائة جزءٍ من ماله، أنه يلزمه ذلك ولا يجزيه الثلث كنذر الصدقة بجميع ماله. والله أعلم.
(11) قوله: "قال الشيخ تقي الدين إلخ": أي لا يشترط ذكر النذر، ولا قوله "لله علي" لأن دلالة الحال تدل على إرادة النذر. فمتى وجد شرطه انعقد نذره
__________
(1) أخرجه أبو داود (ح 3312) ومن طريقه البيهقي. وهو حديث صحيح (الإرواء 8/ 213).
(2) حديث عائشة مرفوعًا: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" أخرجه أحمد (6/ 36) ومالك (2/ 476) والبخاري (4/ 274) (الإرواء 4/ 0 4 1).

(2/443)


[2/ 440] ولزمه فعله. ونص عليه الإمام في: "إن قدم فلان تصدقت بكذا" وقال الشيخ: من قال عنه ليس بنذر فقد أخطأ. وقال: قول القائل: لئن ابتلاني الله لأصبرن، ولئن لقيت العدو لأجاهدنه، ولو علمت أيُّ العمل أحب إلى الله لعملتُه، نذر معلق بشرط، كقول آخر {لئن آتانا من فضله لنصَّدَّقَنَّ} الآية [التوبة: 75]. ونظير ابتداءِ الإيجاب تمنّي لقاء العدو. ويشبهه سؤال الإمارة. فإيجاب المؤمن على نفسه إيجابًا لم يحتج إليه، بنذرٍ وعهد وطلب وسؤالٍ، جهل منه وظلم.
(12) قوله: "قال الشيخ: النذر للقبور إلخ": أي ومحل ذلك إن قال الناذر: للنبي فلان، أو الوليّ فلان، عليَّ كذا. وأما إن قال: "لله عليَّ أن أذبح ذبيحةً وأطبخ كذا من الأرز ونحوه في محل النبيِّ فلانٍ، أو الوليّ فلانٍ"، وأطعمه لفقراء ذلك المحل فهذا يجب الوفاء به، لكن لا على ما يفعله أهل زماننا هذا من أخذهم تلك النذور، وصحبتهم النساء الشوابَّ الحسان، ومرد الشبان، ويركبون الهوادج، ويضربون البارود، مع ترنُّم النساء بالغناء والأصوات المُفْتنة (1). فهذا لا يشك عاقل في عدم جوازه. وإذا كان هذا مقصود الناذر فهو نذر معصية لا يجوز الوفاء به.
والله سبحانه وتعالى أعلم (2).
(13) قوله: "وإن تصدق بما نَذَرهُ إلخ": ظاهره إن ذلك ليس بواجب عليه، مع أنه تقدم: من نَذَرَ صوم يوم عيد ونحوه لا يجوز الوفاء به، ويلزمه أن يصوم يومًا مكانه ويكفّر. فمقتضاه أن هذا أيضًا يلزمه أن يتصدق بما نذره على الفقراء (3).
__________
(1) الأولى أن يقول: "الفاتنة" لأن فتَن متعدٍّ، واختلف اللغويون في صحة "أفْتَنَ" فأنكره بعضهم، كما في لسان العرب.
(2) هذا من المحشي رحمه الله فيه نظر، فسواء نذر لصاحب القبر، أو لسكانه، أو المضافين إليه، فكل ذلك داخل في المحظور ولو لم يكن معه طبل ولا زمر ولا فتنة. وإطعام هؤلاء المقيمين حول القبر المضافين إليه تعظيم للفتنة به، وصرف لهم عن عبادة الله الواحد القهار، فيكون إطعامهم من باب تقوية البدعة والذريعة إلى الشرك، فلا يجب الوفاء به كما قال، بل لا يجوز الوفاء به. وهو ظاهر.
(3) الظاهر أن هذا إنما يتم على القول بأن نذر المعصية ينعقد ويحرم الوفاء به وتجب الكفارة؛=

(2/444)


والله سبحانه وتعالى أعلم. [2/ 441]
(14) قوله: "من نذر إسراج بئر إلخ": أي وأما من نذر للمساجد ما تنوّر به أو يصرف في مصالحها فهذا نذرُ بِرٍّ فيوفى به. قاله الشيخ.
(15) قوله: "ويكفر لفوات التتابع،: أي ولفوات المحل. فانه يقضي ما أفطره في غير الشهر المنذور. ويلزمه تتابع القضاء.
161) قوله: "مما نذره": وظاهره: ولا كفارة. اهـ. م ص.
فائدة: ولا يلزم الوفاء بالوعد.
...
__________
= والقول الآخر: أن نذر المعصية لا ينعقد، ولا كفارة له إلا تركه. فعليه لا يلزم الناذر في هذه المسألة شيء، لأن النذر للقبر أو لسكانه معصية وذريعة إلى الشرك. والله أعلم.
وانظر المَغنى (9/ 23) ط 3.

(2/445)