شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [كتاب الطهارة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه
وسلم، اللهم يسر، وأعن يا كريم.
قال الشيخ الإمام، العالم العلامة، المحقق المتقن، شيخ الإسلام والمسلمين،
وحيد دهره، وفريد عصره، ناصر السنة، وقامع البدعة، أبو عبد الله شمس الدين
محمد بن عبد الله الزركشي الحنبلي تغمده الله تعالى برحمته [وأسكنه فسيح
جنته] :
كتاب الطهارة «كتاب» خبر مبتدأ محذوف،
أي: هذا كتاب الطهارة. وهو مصدر سمي به المكتوب، كالخلق سمي به المخلوق،
والكتب في اللغة الجمع، قال سالم بن دارة:
لا تأمنن فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار
(1/111)
أي اجمعها بأسيار، والقلوص في الإبل بمنزلة
الجارية في الناس، فكتاب الطهارة هو الجامع لأحكام الطهارة، من بيان ما
يتطهر به، وما يتطهر له، وما يجب أن يتطهر منه إلى غير ذلك.
والطهارة في اللغة النظافة والنزاهة عن الأقذار، ومادة (نزه) ترجع إلى
البعد:
1 - وفي الصحيحين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل على مريض قال: «لا بأس
طهور إن شاء الله» أي مطهر من الذنوب، والذنوب أقذار معنوية.
وفي اصطلاح الفقهاء - قال أبو محمد -: رفع ما يمنع الصلاة
(1/112)
من حدث أو نجاسة بالماء أو رفع حكمه
بالتراب. وأورد على عكسه الحجر وما في معناه في الاستنجاء، ودلك النعل،
وذيل المرأة، على قول، فإن تقييده بالماء والتراب يخرج ذلك، وأيضا نجاسة
تصح الصلاة معها فإن زوالها طهارة ولا تمنع الصلاة، وأيضا الأغسال
المستحبة، والتجديد، والغسلة الثانية، والثالثة، فإنها طهارة ولا تمنع
الصلاة، ثم يحتاج أن يقيد الماء والتراب بكونهما طهورين، وقد أجيب عن
الأغسال المستحبة ونحوها بأن الطهارة في الأصل إنما هي لرفع شيء، إذ هي
مصدر: طهر. وذلك يقتضي رفع شيء، فإطلاق الطهارة على الوضوء المجدد، والغسل
المستحب مجاز لمشابهته الوضوء الرافع في الصورة، وابن أبي الفتح لما استشعر
هذا زاد بعد «ما يمنع الصلاة» وما أشبهه. لتدخل الأغسال المستحبة ونحوها،
وهو على ما فيه من الإجمال يوهم أن: من حدث أو نجاسة. بيان لما أشبهه، وليس
كذلك وإنما هو لبيان ما يمنع الصلاة، وحدها بعض متأخري البغاددة بأنها:
استعمال الطهور في محل التطهير على الوجه المشروع. ولا يخفى
(1/113)
أن فيه زيادة، مع أنه حد للتطهير، لا
للطهارة، فهو غير مطابق للمحدود، وقد حدت بحدود كثيرة يطول ذكرها والكلام
عليها، والله أعلم.
قال:
[باب ما تكون به الطهارة من الماء]
ش: أي هذا باب. و «كان» هنا تامة، لأنها بمعنى الحصول والحدث، أي ما تحصل
به الطهارة، كما في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة:
280] على القراءة المشهورة، أي إن وجد ذو عسرة، أو حصل ذو عسرة، والباب ما
يدخل منه إلى المقصود، ويتوصل به إلى الاطلاع عليه.
قال: والطهارة بالماء الطاهر المطلق، الذي لا يضاف إلى اسم شيء غيره، مثل
ماء الباقلاء، وماء الحمص، وماء الورد، وماء الزعفران، وما أشبهها مما لا
يزايل اسمه اسم الماء في وقت
ش: الألف واللام للاستغراق، والجار والمجرور خبر الطهارة، وهو متعلق
بمحذوف، وذلك المحذوف في الحقيقة هو الخبر، والتقدير: كل طهارة حاصلة أو
كائنة بالماء. والطاهر «ما ليس بنجس» ، «والمطلق» غير المقيد، وقد بينه
وأوضحه بقوله: الذي لا يضاف إلى اسم شيء غيره ثم مثل للذي يضاف إلى اسم شيء
(1/114)
غيره بماء الباقلاء، وهو الفول، وماء
الورد، وماء الحمص، وماء الزعفران، وما أشبه هذه الأشياء، كماء القرنفل،
وماء العصفر، ونحو ذلك مما لا يفارق اسمه اسم الماء في وقت. واحترز بذلك عن
إضافة مفارقة في وقت كماء النهر و [ماء] البحر ونحو ذلك، لأن إضافته تزول
بمفارقته، فوجود هذه الإضافة كعدمها، هذا حل لفظه.
وأما الأحكام المستنبطة منه فقد (دل منطوقه) على أن كل طهارة - سواء كانت
طهارة حدث أو خبث - تحصل بكل ماء هذه صفته سواء نزل من السماء، أو نبع من
الأرض على أي صفة خلق عليها، من بياض وصفرة، وسواد، وحرارة وبرودة، إلى غير
ذلك، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}
[الفرقان: 48] وهذا وإن كان نكرة في سياق الإثبات لكنه في سياق الامتنان،
فيعم كل ماء.
2 - وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سأل رجل النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنا نركب البحر، ونحمل معنا
القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» رواه
الخمسة وصححه غير واحد من الأئمة.
(1/115)
3 - «وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - في بئر بضاعة: «الماء طهور لا ينجسه شيء» قال أحمد: حديث
بئر بضاعة صحيح.
4 - «وأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسماء بنت عميس أن تغسل
دم الحيض بالماء» .
5 - وقال: «صبوا على بول الأعرابي ذنوبا من ماء» .
ودل مفهومه على مسائل:
(الأولى) أن جميع الطهارات لا تجوز بغير الماء، من دهن، وخل، ونبيذ، ونحو
ذلك، أما في طهارة الأحداث فلقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] فنقلنا عند عدم الماء إلى التيمم.
(1/116)
6 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لأبي ذر: «إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر
سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته» رواه أحمد والترمذي وصححه.
7 - وأما في طهارة الأنجاس فلما «روى أبو ثعلبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أنه قال: يا رسول الله إنا بأرض أهل كتاب، فنطبخ في قدورهم ونشرب بآنيتهم.
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لم تجدوا غيرها
فارحضوها بالماء» . رواه الترمذي وصححه والرحض الغسل وأمر أسماء أن تغسل دم
الحيض بالماء.
(وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على زوال النجاسة بكل مائع طاهر
مزيل، كالخل ونحوه، إذ المقصود زوال العين، (وعنه) زوالها بالطاهر غير
المطهر، نظرا لإطلاق حديثي أبي ثعلبة وأسماء.
وعلى الأولى - وهي المذهب بلا ريب - يجوز استعماله في النجاسة تخفيفا لها،
ويستثنى من هذا المفهوم ما يتيمم به، فإنه مطهر وليس بماء، وكذلك ما يستنجى
به، وأسفل الخف إذا دلك، وذيل المرأة على قول في الثلاثة وقد يقال: لا يرد
عليه التيمم، لأن كلامه في طهارة رافعة للحدث، وطهارة التيمم مبيحة، لا
رافعة،
(1/117)
والحجر في الاستنجاء ونحوه ليس بمطهر على
المشهور، ويكون ذلك مأخوذا من كلام الخرقي وظاهر كلامه.
(المسألة الثانية) أن الطهارة لا تصح بماء نجس لتقييده الماء بالطاهر، وهو
واضح.
(المسألة الثالثة) أن الطهارة لا تصح بغير الماء المطلق، فلا تصح بماء مضاف
إضافة لازمة، ويأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك في المسألة الآتية بعد،
والله أعلم.
[حكم الماء إذا تغير أحد أوصافه]
قال: وما سقط فيه مما ذكرنا أو غيره، وكان يسيرا فلم يوجد له طعم، ولا لون
ولا رائحة كثيرة حتى ينسب الماء إليه توضئ به
ش: ما سقط في الماء مما ذكره من الباقلاء، والزعفران، والورد، والحمص، أو
غيره من الطاهرات كالعصفر، والملح الجبلي، وورق الشجر إذا وضع فيه قصدا،
ونحو ذلك، وكان الواقع يسيرا، فلم يوجد للواقع في الماء طعم، ولا لون، ولا
رائحة، حتى أنه بسبب ذلك يضاف الماء إليه، فيقال: ماء زعفران، ونحو ذلك،
فهو باق على إطلاقه فيتوضأ به، لدخوله تحت قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ونحو ذلك.
8 - وقد ثبت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل هو
وزوجته من جفنة فيها أثر عجين» .
ومفهوم كلام الخرقي أنه متى وجد للواقع لون، أو طعم أو رائحة كثيرة، بحيث
صار الماء يضاف إليه، زالت طهوريته، ومنع التوضؤ به، وهو إحدى الروايات،
اختارها أكثر
(1/118)
الأصحاب لخروجه عن الماء المطلق، فلم
يتناوله قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:
43] ودليل ذلك لو وكله أن يشتري له ماء، فاشترى له هذا الماء المتغير لم
يكن ممتثلا.
(والرواية الثانية) - وهي الأشهر نقلا، وإليها ميل أبي محمد - هو باق على
طهوريته، لأن (ماء) من قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء:
43] نكرة في سياق النفي، فيشمل كل ماء، إلا ما خصه الدليل، (والرواية
الثالثة) أنه طهور بشرط أن لا يجد غيره، وحيث أثر التغيير فإنما هو إذا كان
كثيرا، فإن كان يسيرا فثلاثة أوجه، ثالثها - وهو اختيار الخرقي - يعفى عن
يسير الرائحة، لأن تأثيرها عن مجاورة، بخلاف غيرها، وإنما قيد الخرقي
الواقع بكونه يسيرا إجراء على الغالب، إذ الغالب أن الواقع متى كان كثيرا
أثر في الماء، وأزال طهوريته على مختاره، ومحل الخلاف مع بقاء اسم الماء،
أما مع زوال الاسم - كما إذا صيره الواقع حبرا، أو خلا، أو طبيخا، ونحو ذلك
- فإن طهوريته تزول بلا ريب.
ويدخل في عموم المفهوم التراب المطروح فيه عمدا، وهو أحد الوجهين (والثاني)
- وبه قطع العامة - لا يؤثر شيئا، (نعم) إن ثخن بحيث لا يجري على الأعضاء
أثر، لخروجه عن اسم الماء، وأجرى ابن حمدان الوجهين في الملح البحري أيضا.
(1/119)
ويدخل فيه أيضا إذا كان الواقع لا يخالط
الماء، كقطع العود، والكافور والخشب والدهن والشمع، ونحو ذلك، وهو أحد
الوجهين، واختيار أبي الخطاب في انتصاره وأبي البركات (والثاني) - وهو
اختيار جمهور الأصحاب - لا يؤثر وقوعه ولو غير الماء، لأنه تغيير مجاورة لا
مخالطة، أشبه ما لو تغير بجيفة إلى جنبه.
ويستثنى من مفهوم كلام الخرقي واقع يشق الاحتراز عنه، كورق الشجر، وما
تلقيه الرياح والسيول من العيدان ونحو ذلك، فإنه لا يؤثر وقوعه في الماء
وإن غير جميع أوصافه، صرح به الشيرازي وكذلك الملح البحري، والله أعلم.
[الوضوء بالماء المستعمل]
قال: ولا يتوضأ بماء قد توضئ به
ش: هذا هو المشهور من المذهب، وعليه عامة الأصحاب.
9 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو
جنب» فقال الراوي: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا. رواه مسلم
والنسائي
(1/120)
ولولا أن الغسل فيه لا يجزئ، وأن طهوريته
تزول لم ينه عن ذلك، ولأنه أزال به مانعا من الصلاة، أشبه الماء المزال به
النجاسة، أو استعمل في عبادة على وجه الإتلاف، أشبه الرقبة في الكفارة،
وعلى هذه الرواية هو طاهر في نفسه، يجوز شربه والعجن به، والطبخ به.
10 - لأن في الصحيحين «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ وصب
على جابر من وضوئه» والأصل المساواة، (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ -
رواية أخرى أنه نجس، نص عليها، وتأولها القاضي وبعد ابن عقيل تأويله، والحق
امتناعه و (عنه) رواية ثالثة: أنه باق على طهوريته.
11 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «اغتسل بعض أزواج
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جفنة، فجاء النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت: يا رسول الله
إني كنت جنبا. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الماء لا
يجنب» رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه الترمذي.
(1/121)
وقال بعض المتأخرين: ظاهر كلام الخرقي أنه
طهور في إزالة الخبث فقط لأنه إنما منع من الوضوء به. وليس بشيء، وحكم ما
اغتسل به من الجنابة ونحوها حكم ما توضئ به.
وقد شمل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما توضئ به في طهر مستحب، كتجديد
ونحوه، وهو إحدى الروايتين، واختيار ابن عبدوس بناء
(1/122)
على أن العلة ثم استعماله في عبادة،
(والثانية) - واختارها أبو البركات - أنه باق على طهوريته، بناء على أن
العلة ثم إزالة المانع، وعكس ذلك المنفصل من غسل الذمية، في حيض ونحوه، هل
يخرجه عن طهوريته لإزالته المانع وهو الوطء، أو لا يخرجه، لعدم استعماله في
عبادة؟ على روايتين.
واعلم أن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - خرج على الغالب، إذ يندر أن
الإنسان يتوضأ بقلتي ماء، فلو اتفق ذلك لم يخرجه عن طهوريته بلا نزاع،
والله أعلم.
قال: وإذا كان الماء قلتين - وهو خمس قرب - فوقعت فيه نجاسة، فلم يوجد لها
طعم ولا لون ولا رائحة، فهو طاهر.
ش: القلة اسم لكل ما ارتفع وعلا، ومنه «قلة الجبل» وهي هنا الجرة الكبيرة،
سميت قلة لعلوها وارتفاعها، وقيل: لأن الرجل العظيم يقلها بيده أي يرفعها،
ثم المراد هنا القلال المنسوبة إلى هجر.
12 - لأن في بعض ألفاظ الحديث: «إذا كان الماء قلتين بقلال هجر» ذكره
الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مسنده، والدارقطني مرسلا
(1/123)
ولأنها كانت مشهورة معلومة، فالظاهر وقوع
التحديد بها.
13 - ولهذا في حديث المعراج قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «ثم رفعت لي سدرة المنتهى، فإذا ورقها مثل آذان الفيلة، وإذا نبقها مثل
قلال هجر» واختلف في مقدار القلة من ذلك، فقال الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وهو المشهور من الروايات، والمختار للأصحاب -: إنها قربتان ونصف.
14 - لأن ابن جريج قال: رأيت قلال هجر، فرأيت القلة منها تسع قربتين، أو
قربتين وشيئا فالاحتياط إثبات الشيء، وجعله نصفا، لأنه أقصى ما ينطلق عليه
اسم (شيء) منكرا.
(والرواية الثانية) أنها قربتان.
15 - لأن يحيى بن عقيل قال: رأيت قلال هجر، وأظن أن القلة
(1/124)
تأخذ قربتين. رواه الجوزجاني ونحوه عن ابن
جريج.
(والثالثة) قربتان وثلث، جعلا للشيء ثلثا، ومقدار القربة عند القائلين
بتحديد الماء بالقرب - مائة رطل عراقية، والرطل العراقي مائة وثمانية
وعشرون درهما، قاله في المغني القديم، وعزاه إلى أبي عبيد وقيل: وثلاثة
أسباع درهم؛ ذكره في التلخيص
(1/125)
وقيل: وأربعة أسباع. قاله في المغني
الجديد، وهو المشهور وقيل: وثلاثون درهما.
إذا تقرر هذا فقد دل منطوق كلام الخرقي على أن النجاسة إذا وقعت في القلتين
المذكورتين، ولم يتغير وصف من أوصاف الماء فهو طاهر، ولا نزاع عندنا في ذلك
في غير البول والعذرة المائعة.
16 - لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «سئل رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الماء وما ينوبه من الدواب
والسباع، فقال: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» وفي لفظ: «لم ينجسه
شيء» رواه الخمسة، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني. وقال الحاكم:
إنه على شرط الشيخين.
(1/126)
17 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: «قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر - يلقى
فيها الحيض، والنتن، ولحوم الكلاب - قال: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء»
رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، وأحمد وصححه.
ودل مفهومه على مسألتين (إحداهما) أن الماء ينجس بتغير وصف من أوصافه وإن
كثر، ولا نزاع في ذلك، وقد حكاه ابن المنذر إجماعا.
(1/127)
18 - وقد روى أبو أمامة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه» رواه ابن ماجه،
والدارقطني، ولفظه: «إلا ما غير ريحه أو طعمه» إلا أن الشافعي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - قال: هذا الحديث لا يثبت أهل العلم مثله، إلا أنه قول العامة، لا
أعرف بينهم فيه خلافا، وكذلك قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس فيه حديث،
ولكن الله تعالى حرم الميتة، فإذا صارت الميتة في الماء فتغير طعمه أو
ريحه، فذلك طعم الميتة أو ريحها، فلا تحل له. وقال أبو حاتم الرازي: الصحيح
أنه مرسل قلت: وإذا يسهل الأمر.
(1/128)
وظاهر كلام الخرقي (أنه) لا فرق بين يسير
التغير وكثيره وشذ ابن البنا فحكى وجها في العفو عن يسير الرائحة.
(المسألة الثانية) ، أن ما دون القلتين ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه وإن لم
يتغير، وهو المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين، لمفهوم خبر القلتين،
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بإراقة الإناء الذي
ولغ فيه الكلب ولم يعتبر التغير، (والثانية) : لا ينجس إلا بالتغير،
اختارها ابن عقيل، وابن المثنى وأبو العباس، وابن الجوزي فيما أظن لخبر بئر
بضاعة، ويرشحه
(1/129)
حديث أبي أمامة، وخبر القلتين قد تكلم فيه
ابن عبد البر وابن عدي وغيرهما، وعلى تقدير صحته فالتقدير بهما - والله
أعلم - بناء على الغالب، إذ الغالب أن ما دون القلتين يظهر فيه الخبث،
ويؤثر فيه فيغيره، بخلاف القلتين فإن الغالب عدم تأثرهما وتغيرهما بورود
الدواب والسباع ونحو ذلك عليهما.
وعموم كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يشمل الراكد والجاري، وهو إحدى
الروايات، واختارها السامري وغيره، فعلى هذا إن بلغ مجموع الجاري قلتين لم
ينجس إلا بالتغير، وإلا نجس، (والرواية الثانية) أن الجاري لا ينجس إلا
بالتغير، اختارها
(1/130)
الشيخان (والثالثة) وهي اختيار الأكثرين،
القاضي وأصحابه تعتبر كل جرية بنفسها، فإن كانت يسيرة نجست وإلا فلا، ثم
الجرية عند الأكثرين ما أحاط بالنجاسة، فوقها وتحتها إلى قرار النهر، وعن
يمينها وشمالها ما بين جانبي النهر، وزاد أبو محمد: ما قرب من النجاسة
أمامها وخلفها. ولابن عقيل في فنونه أنها ما فيه النجاسة، وقدر مساحتها
فوقها وتحتها، ويمينها ويسارها. انتهى.
وقول الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فوقعت فيه نجاسة. يخرج به ما إذا كانت
النجاسة إلى جنبه كميتة ونحوها، فإنها لا تؤثر فيه شيئا، إذ ذاك تغير
مجاورة لا مخالطة، ويخرج بذلك أيضا ما إذا سخن بنجاسة، ولم يعلم وصول شيء
من أجزاء النجاسة إليه، فإن طهوريته باقية بلا خلاف نعلمه، نعم في كراهيته
روايتان (إحداهما) واختارها ابن حامد: لا يكره نظرا للأصل (والثانية) -
واختارها الأكثرون - يكره، ولها
(1/131)
مأخذان (أحدهما) احتمال وصول شيء من أجزاء
النجاسة إلى الماء، وإذا يرتاب فيه.
19 - فيدخل تحت قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دع ما يريبك
إلى ما لا يريبك» فعلى هذا إذا كان الحائل حصينا، وعلم عدم وصول شيء من
أجزاء النجاسة إلى الماء لم يكره، وهذا اختيار أبي جعفر، وابن عقيل،
(والثاني) استعمال الوقود النجس، لأن هذه الصفة التي حصلت فيه، حصلت بفعل
محرم أو مكروه، على اختلاف الأصحاب في استعمال ذلك، فأثرت فيه منعا، وعلى
هذا يكره وإن كان الحائل حصينا، وهو اختيار القاضي، وأحمد - رَحِمَهُ
اللَّهُ - أومأ إلى التعليل بكل منهما.
(تنبيه) : قد تقدم بيان القلة و «لم يحمل الخبث» ، أي يدفعه عن نفسه، كما
يقال: فلان لا يحمل الضيم. إذا كان يأباه ويدفعه عنه، (والريب) الشك، تقول:
وابني فلان. إذا علمت منه الريبة، وأرابني. إذا أوهمني الريبة والله أعلم.
[حكم الطهارة بالماء الذي خالطه مائع]
قال: إلا أن تكون النجاسة بولا أو عذرة مائعة فإنه ينجس، إلا أن يكون الماء
مثل المصانع التي بطريق مكة، وما أشبهها
(1/132)
من المياه الكثيرة التي لا يمكن نزحها،
فذلك الذي لا ينجسه شيء.
ش: هذا مستثنى من منطوق المسألة السابقة، وهو أن الماء إذا كان قلتين فوقعت
فيه نجاسة لم ينجس إلا بالتغير، فاستثنى من ذلك إذا كانت النجاسة بولا أو
عذرة مائعة، فإنه ينجس وإن لم يتغير، إن لم يبلغ الماء حدا يشق معه نزحه،
وهذا أشهر الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نقلا، واختارها
الأكثرون.
قال القاضي: اختارها الخرقي، وشيوخ أصحابنا. وقال أبو العباس: اختارها أكثر
المتقدمين. قلت: وأكثر المتوسطين، كالقاضي، والشريف وابن البنا، وابن
عبدوس، وغيرهم.
20 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي
لا يجري ثم يغتسل فيه» وفي رواية: «ثم يغتسل منه» متفق عليه، وهو شامل
للقليل والكثير، خرج منه ما يشق نزحه اتفاقا، فما عداه يبقى على قضية
العموم، ويحمل خبر القلتين على غير البول.
(والثانية) أن حكم البول والعذرة حكم غيرهما، اختارها ابن عقيل، وأبو
الخطاب والشيخان، وقال أبو العباس: اختارها أكثر المتأخرين وقال السامري:
وعليها التفريع، لحديثي القلتين،
(1/133)
وبئر بضاعة، أما ما يشق نزحه فلا ينجس إلا
بالتغير إجماعا.
(تنبيهان) : (أحدهما) قال أبو محمد: لم أجد عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ولا عن أحد من أصحابه تقدير ذلك بأكثر من المصانع التي بطريق مكة.
وقال الشيرازي: ذكر المحققون من أصحابنا أن ذلك يقدر ببئر بضاعة، وكان قدر
الماء فيها ستة أشبار في ستة أشبار. انتهى.
قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة بردائي، فمددته عليها ثم ذرعته، فإذا عرضها
ستة أذرع.
ومراد الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالبول بول الآدميين، بقرينة ذكره
العذرة، فإنها خاصة بالآدميين، مع أن لنا وجها أن غير بول الآدمي كبوله،
وحكم العذرة الرطبة حكم المائعة، لاشتراكهما في السريان.
(الثاني) : «الماء الدائم» الواقف، لأنه قد دام في مكانه وسكن، والله أعلم.
(1/134)
قال: وإذا مات في الماء اليسير ما ليست له
نفس سائلة - مثل الذباب، والعقرب، والخنفساء، وما أشبهها - فلا ينجسه.
ش: النفس السائلة الدم السائل، قال ابن أبي الفتح: سمي الدم نفسا لنفاسته
في البدن.
وقال الزمخشري: النفس ذات الشيء وحقيقته، يقال: عندي كذا نفسا. ثم قيل
للقلب نفسا لأن النفس به، ألا ترى إلى قولهم: المرء بأصغريه. وكذا الروح
والدم نفس لأن قوامها بالدم انتهى.
والحيوانات على ضربين (أحدهما) ما ليس له نفس سائلة، كالذباب، والعقرب،
والخنفساء، والزنبور، والنمل، والقمل، والسرطان، ونحو ذلك، وكذلك الوزغ،
ودود القز في وجه فيهما، فلا ينجس الماء إذا مات فيه، ما لم يكن متولدا من
النجاسات، لأنه لا ينجس بالموت على المشهور المعروف من الروايتين، وإذا لم
ينجس بالموت لا ينجس الماء بالموت فيه.
21 - ودليل عدم نجاسته بالموت ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وقع الذباب
في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه شفاء، وفي الآخر
داء» رواه أحمد، والبخاري، وأبو داود، ولأحمد، والنسائي، وابن
(1/135)
ماجه، من حديث أبي سعيد نحوه والظاهر أنه
يموت بغمسه لا سيما إذا كان الطعام حارا فإنه لا يكاد يعيش غالبا، ولو نجس
الطعام لأفسده، فيكون أمرا بإفساد الطعام، وهو خلاف ما قصده الشارع، إذ قصد
بغمسه دفع مضرة حصلت فيه، كما شهد به التعليل، لا إفساده بالكلية، ولأن
الله تعالى إنما حرم الدم المسفوح، وهذا ليس بمسفوح (وعن أحمد) - رَحِمَهُ
اللَّهُ - رواية أخرى بنجاسة ذلك بالموت، فيكون حكمه إذا مات في الماء حكم
غيره من النجاسات، وقيد ابن حمدان ذلك
(1/136)
بما إذا أمكن التحرز منه غالبا، وفيه نظر،
أما إن تولد من النجاسات - كصراصير الكنيف - فهو نجس حيا وميتا، بناء على
المذهب من أن النجاسة لا تطهر بالاستحالة، ولا يرد هذا على الخرقي، لأن
موته لم يؤثر فيه شيئا، بل هو باق على ما كان عليه.
(الضرب الثاني) ، ما له نفس سائلة، وهو على ضربين أيضا (أحدهما) ما كان
نجسا في حال الحياة، وهو واضح، إذ موته لا يزيده إلا خبثا (الثاني) ما كان
طاهرا في الحياة، وهو على ثلاثة أنواع:
(أحدها) السمك وما في معناه مما لا يعيش إلا في الماء، فإن ميتته طاهرة،
وإن كان طافيا على المعروف، وكذلك الجراد وإن لم يكبس ولم يطبخ، على
المذهب.
22 - بدليل ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه
قال: «أحلت لنا ميتتان ودمان، السمك والجراد، والكبد والطحال» .
(الثاني) الآدمي، وميتته طاهرة على الصحيح من الروايتين.
(1/137)
23 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إن المؤمن لا
ينجس» .
24 - وفي حديث حذيفة: «إن «المسلم لا ينجس» وكلاهما في الصحيح وهما شاملان
للحياة والموت.
25 - وقال البخاري: قال ابن عباس: المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا.
(والثانية) نجسة ما عدا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتنجس
الماء اليسير، قياسا على غيرها مما له نفس سائلة، وقيل بتنجيس ميتة الكافر
دون المؤمن، عملا بقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المسلم لا
ينجس» وهذان النوعان يردان على مفهوم كلام الخرقي على المذهب، وقد يقول
بنجاسة الآدمي بالموت، فيرد عليه النوع الأول فقط.
(النوع الثالث) ما عدا هذين من حيوانات البر الطاهرة، مأكولا كان أو غير
مأكول، وحيوانات البحر الذي يعيش في البر، فإن ميتته نجسة، فينجس الماء
اليسير، لعموم {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] {إِنَّمَا
حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} [البقرة: 173] .
وتقييد الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الماء باليسير لأنه الذي ينجس بمجرد
الملاقاة على المذهب، أما لو كان كثيرا فإنه لا ينجس إلا بالتغير، والغالب
أن مجرد موت الحيوان في الماء الكثير لا يغيره.
(1/138)
(تنبيه) : «الذباب» هذا الحيوان المعروف،
مفرد، جمع القلة منه أذبة، والكثير ذباب، ولا يقال: ذبابة. قاله غير واحد،
والله أعلم.
[الوضوء بسؤر غير مأكول اللحم]
قال: ولا يتوضأ بسؤر كل بهيمة لا يؤكل لحمها، إلا السنور، وما دونها في
الخلقة.
ش: السؤر - مهموز - بقية طعام الحيوان وشرابه، وسؤر الحيوان مبني عليه، فإن
كان الحيوان طاهرا فهو طاهر، وإن كان نجسا فهو نجس، وإن لم يتغير، بناء على
المذهب من تنجيس الماء القليل بمجرد الملاقاة، وهو الغالب على السؤر، ولهذا
أطلق الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أما إذا كان السؤر كثيرا فإنه لا ينجس
إلا بالتغير. إذا عرف هذا فالحيوان على ضربين (بهم) جمع بهيمة وهو ما عدا
الآدمي (والآدمي) وهذا الضرب لم يتعرض الخرقي للحكم عليه بنفي ولا إثبات،
وحكمه أنه طاهر في الجملة، مسلما كان أو كافرا، طاهرا أو محدثا، وكذلك
سؤره، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن المؤمن لا ينجس» .
26 - وفي الصحيح «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت تشرب من
الإناء، فيضع فاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على موضع فيها.»
ويستثنى من ذلك سؤر المجوسي والوثني ومن في معناهما من ذمي يتظاهر بشرب
الخمر أو أكل الخنزير، أو من مسلم مدمن لشرب الخمر، أو لتناول النجاسات،
فإن سؤر هؤلاء نجس، على رواية مشهورة، مختارة لكثير من الأصحاب تغليبا
للظاهر على حكم الأصل.
(1/139)
27 - وعليه يحمل حديث أبي ثعلبة المتقدم،
وقد جاء ذلك مصرحا فيه وحكى في التلخيص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية
أخرى بتنجيس سؤر الكافر مطلقا.
والضرب الأول الذي حكم عليه الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ضربين أيضا،
مأكول وغير مأكول، فالمأكول كله طاهر في الجملة إجماعا حكاه ابن المنذر
وغيره، فيكون سؤره كذلك، كما اقتضاه مفهوم كلام الخرقي. وهل يستثنى من ذلك
الجلالة - وهي التي تأكل العذرة - بناء على نجاستها إذا أولا - وهو مقتضى
عموم مفهوم كلام الخرقي - نظرا لأصلها؟ على روايتين.
وغير المأكول على ثلاثة أضرب (أحدها) طاهر، وهو السنور - ويسمى الضيون -
بضاد معجمة، وياء مثناة من تحتها، ونون - والهر والقط - وما دونه في
الخلقة، كابن عرس والفأرة ونحو ذلك، فهو طاهر، وكذلك سؤره كما شهد بذلك
النص.
(1/140)
28 - «فعن كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت
تحت ابن أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن أبا قتادة دخل عليها،
فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة تشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت
كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم. فقال: إن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنها ليست بنجس،
إنها من الطوافين عليكم والطوافات» رواه الخمسة، وصححه الترمذي وهذا يدل
على طهارة الهر بالنص والتعليل، ويدل على طهارة ما دونها بالتعليل وإذا لا
عبرة بوجه ضعيف بنجاسة سؤر ما دون الهرة، نعم يكره سؤر ذلك على إحدى
الروايتين بخلاف الهرة.
(تنبيه) : لو أكلت الهرة أو نحوها نجاسة، ثم شربت من ماء، فثلاثة أوجه
مشهورات ثالثها: إن شربت بعد غيبتها - وقيل: قدر ما يطهر فمها بريقها -
فسؤرها طاهر، وإلا فنجس.
(الضرب الثاني) نجس بلا نزاع عندنا، وكذلك سؤره، وهو الكلب والخنزير، وما
تولد منهما أو من أحدهما.
29 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا شرب الكلب في إناء
أحدكم فليغسله سبعا» ولمسلم: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله
سبع
(1/141)
مرات، أولاهن بالتراب» » . والخنزير شر
منه، والمتولد من الخبيث خبيث، وحكى ابن حمدان رواية بطهارة سؤر الكلب
والخنزير واستغربها واستبعدها وإنها لجديرة بذلك.
(الضرب الثالث) سباع البهائم، وجوارح الطير، والبغل، والحمار، وفيها
روايتان (إحداهما) - وهي المشهورة عند الأصحاب، وظاهر كلام الخرقي -
نجاستها، فكذلك سؤرها، لظاهر حديث القلتين وإلا لم يكن للتحديد بهما فائدة.
(والثانية) طهارتها، واختارها أبو محمد في البغل والحمار، لعموم البلوى
بهما، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا
يركبونها مع حرارة بلادهم، والظاهر أنهم لا يسلمون من ملاقاتها.
30 - ويدل على ذلك في السباع ما روى مالك في الموطأ عن يحيى بن عبد الرحمن،
أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص، حتى
وردوا حوضا، فقال عمرو: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن
الخطاب: لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع، وترد علينا. قال رزين: زاد بعض
الرواة في قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وإني سمعت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لها ما أخذت في بطونها، ولنا
ما بقي طهور
(1/142)
وشراب» اهـ وإمامنا اعتمد على قول عمر،
فالظاهر عدم صحة الزيادة عنده، وعلى هذه: سؤرها طاهر. (وعن أحمد) رواية
ثالثة بالشك في سؤر البغل والحمار، فيتيمم معه إن لم يجد ماء طهورا، وينوي
بتيممه الحدث والنجاسة احتياطا لاحتمالها، وقيل: يتيمم ويصلي، ثم يتوضأ به
ويصلي.
واعلم أن المنصوص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية الشك والنجاسة على ما
ذكره القاضي في روايتيه، وأبو الخطاب في خلافه، أما رواية الطهارة فذكرها
أبو الخطاب مخرجة، والطاهر من سباع البهائم والله أعلم.
[تطهير ما لاقته نجاسة الكلب والخنزير]
قال: وكل إناء حلت فيه نجاسة من ولوغ كلب، أو بول، أو غيره، فإنه يغسل سبع
مرات، إحداهن بالتراب
ش: لا خلاف عن إمامنا فيما نعلمه أن الإناء يجب غسله من نجاسة الكلب
والخنزير سبعا إحداهن بالتراب، فكذلك ما تولد منهما أو من أحدهما.
(1/143)
30 - م - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا» متفق عليه، ولمسلم: «طهور إناء
أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب» » وله في
أخرى: «فليرقه، ثم ليغسله سبع مرات» والخنزير شر منه، نص الشارع على
تحريمه، وحرمة اقتنائه، فالحكم يثبت فيه من طريق التنبيه، وإنما لم ينص
الشارع عليه - والله أعلم - لأن العرب لم يكونوا يعتادونه، بخلاف الكلب،
فإنهم كانوا يعتادونه كثيرا، والمتولد من الخبيث خبيث. (وعن أحمد -
رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب الغسل ثمانيا) .
31 - لما روى عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات، وعفروه
الثامنة بالتراب» رواه مسلم وغيره وحمل على أنه عد التراب ثامنة، جمعا بين
الأحاديث، وفي أي موضع جعل التراب أجزأه.
31 - م - لأن في مسلم من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
«أولاهن بالتراب» وفي أبي داود فيه: «السابعة» وفي الترمذي فيه:
(1/144)
«أولاهن أو أخراهن» فدل على أن المقصود
حصول التراب في الغسلات، إلا أن الأولى جعله في الأولى، ليأتي الماء عليه
فينظفه، ويكفي هم التراب لو انتضح من الغسلات على شيء على الأشهر (وعنه) :
أن غسل ثمانيا جعله في الآخرة، لحديث ابن مغفل (وعنه) بل في الآخرة مطلقا،
(وعنه) : حيث شاء، وهل يقوم الأشنان [ونحوه، أو الغسلة الثامنة مقام
التراب، أو لا يقومان، وهو ظاهر كلام الخرقي، أو يقوم الأشنان] ونحوه دون
الماء، أو إن تعذر التراب أو تضرر المحل به أجزأ الأشنان وإلا فلا. أو إن
فسد المحل به كثوب حرير ونحوه سقط اعتباره رأسا، على خمسة أوجه.
وحكم غير الإناء من الثياب والفرش ونحوها حكم الإناء، إلا أن في وجوب
التراب فيه قولان، أصحهما يجب، وإنما نص الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على
الإناء والله أعلم - لورود النص فيه، (أما الأرض) وما اتصل بها من الحيطان،
والأحواض
(1/145)
ونحو ذلك، فالواجب مكاثرتها بالماء حتى
تزول عين النجاسة، أي نجاسة كانت، وإن كانت نجاسة كلب أو خنزير على المذهب،
وقد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا في غير هذا الموضع.
واختلف عن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في نجاسة غير الكلب والخنزير، وما
تولد منهما في غير الأرض وما اتصل بها، فعنه ثلاث روايات مشهورات.
(إحداهن) - وهي اختيار الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجمهور الأصحاب - أنها
تغسل سبعا، كنجاسة الكلب قياسا عليها، لأنه إذا وجب السبع في ولوغ الكلب،
مع الخلاف في طهارته وفي أكله ففي بول الآدمي ونحوه، مع الاتفاق على نجاسته
أولى وأخرى.
32 - وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: «أمرنا
بغسل الأنجاس سبعا» وعلى هذه الرواية وقيل: بل حيث
(1/146)
اشترط العدد، وهو ظاهر ما في التلخيص
والرعاية - هل يجب التراب - وهو اختيار الخرقي، إلحاقا له بنجاسة الكلب -
أو لا يجب - وهو اختيار أبي البركات قصرا له على مورد النص، أو لأن ذلك
للزوجة في ولغ الكلب، فيه وجهان.
(والثانية) يجب غسلها ثلاثا، اختارها أبو محمد في العمدة.
33 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا انتبه أحدكم من
نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت
يده» علل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوهم النجاسة، ولا يزيل
وهمها [إلا ما يزيل] حقيقتها.
(والثالثة) تكاثر بالماء حتى تزال، من غير اعتبار عدد، لأن النبي أمر أسماء
بغسل دم الحيض، ولم يأمرها بعدد، وأمر أن يصب على بول الأعرابي ذنوبا من
ماء ولم يأمر بعدد.
34 - وقد روى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كانت الصلاة
خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرات والغسل من البول سبع مرات فلم يزل النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل، حتى جعلت الصلاة خمسا، والغسل
من الجنابة مرة، والغسل من البول مرة» . رواه أحمد
(1/147)
وأبو داود، وهو نص لكن في إسناده ضعف وروي
أن السبع لا تعتبر في [غير] محل الاستنجاء من البدن، وتعتبر في محل
الاستنجاء [وسائر المحال، قال الخلال: وهي وهم، وروي الاجتزاء بثلاث في محل
الاستنجاء] واعتبار السبع في غيره، وضعفت أيضا.
[تنبيهات]
(أحدها) قد شمل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - محل الاستنجاء، فعلى
المشهور عند الأصحاب: يغسل سبعا كغيره. وقد صرح بذلك القاضي في التعليق
والشيرازي، وابن عقيل، وابن عبدوس ونص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في
رواية صالح، واختار أبو محمد في المغني أنه لا يجب العدد فيه، اعتمادا على
أنه لم يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك عدد، لا
من فعله، ولا من قوله وتمسكا بإطلاق أحمد في رواية أبي داود وقد سئل عن حد
الاستنجاء بالماء فقال: ينقي. ويؤيد هذا أنه لا
(1/148)
يشترط له تراب، كما نص عليه أحمد -
رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: يجزئه الماء وحده، وقطع به أبو محمد، وابن تميم،
وغيرهما.
(الثاني) : حيث اشترط التراب فهل من شرطه كونه طهورا يجوز التيمم به، أو
يكتفى بكونه طاهرا، وهو ظاهر ما في التلخيص، قولان، ثم شرط ابن عقيل أن
يكون بحيث تظهر صفته، ويغير صفة الماء.
(الثالث) : (ولغ يلغ) - بفتح اللام فيهما، وحكى ابن الأعرابي كسرها في
الماضي - إذا شرب مما في الإناء بطرف لسانه، (والتعفير) التمريغ في العفر
وهو التراب [والله أعلم] .
[اشتباه الماء الطاهر بالنجس]
قال: وإذا كان معه في السفر إناءان نجس وطاهر، واشتبها عليه] أراقهما وتيمم
ش: صورة هذه المسألة إذا لم يجد طهورا غيرهما، ولم يمكن تطهير أحدهما
بالآخر، أما إذا كان ذلك فإنه يجب اعتماده، وإنما ترك الخرقي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - بيان ذلك لوضوحه، ولذلك قيد بالسفر، لأنه حال مظنة عدم الماء،
ووجود إناء يسع قلتين، وإلا فالحكم لا يختص بالسفر، وبالجملة إذا اشتبه
طاهر بنجس والحال ما تقدم واستويا، فإنه لا خلاف في المذهب أنه يعدل إلى
التيمم، ولا يتحرى.
(1/149)
35 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «دع ما يريبك، إلى ما لا يريبك» ولأنه اشتبه المباح بالمحظور،
فيما لا تبيحه الضرورة، أشبه اشتباه أخته بأجنبية، أو ميتة بمذكاة، وإن كثر
عدد الطاهر على عدد النجس، فكذلك على المشهور، المختار للأكثرين، لما تقدم.
وأومأ الإمام في موضع إلى أنه يتحرى، فما يغلب على ظنه أنه طهور استعمله،
وهو اختيار أبي بكر، وابن شاقلا، والنجاد ولأن إصابة الطهور والحال هذه
أغلب، ثم هل يكتفى بمطلق الكثرة [أو لا بد من كثرة] عرفا - وحكي عن القاضي
في التعليق - أو لا بد وأن يكون النجس عشر الطهور وهو المشهور، فيه أوجه.
وظاهر كلام الخرقي أن (صحة) تيممه موقوف على إراقتهما، وهو إحدى الروايتين،
بشرط أن يأمن العطش، واختاره أبو البركات، ليصير عادما للماء بيقين فيدخل
تحت قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]
.
(والثانية) - واختارها أبو بكر وأبو محمد -: لا يشترط، لأنه ممنوع من
(1/150)
استعمالهما شرعا، أشبه الجريح، وحكم الخلط حكم الإراقة.
وإطلاق الخرقي يقتضي أنه إذا صلى بالتيمم لا إعادة عليه بعد، ولو علم عين
الطاهر، وهو المعروف من الوجهين، [والله سبحانه أعلم] . |