شرح الزركشي على مختصر الخرقي

[باب الآنية]
قال:
باب الآنية ش: (الآنية) جمع إناء، كسقاء وأسقية، وجمع الآنية أواني، والأصل: ءآني. أبدلت الهمزة الثانية واوا، كراهة اجتماع همزتين، ومثله: آدم وأوادم.
قال: وكل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس
ش: مراد الخرقي - والله أعلم - الميتة النجسة، وقد تقدم بيان الميتة النجسة من الطاهرة، وجلد الميتة قبل الدبغ نجس، أما بعد الدبغ ففيه روايتان: أشهرهما: - وهي اختيار الخرقي وعامة الأصحاب - أنه نجس، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] والجلد جزء منها، وهذا على القول بعمومها، كما هو ظاهر كلام إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه استدل بها على ذلك، وكثير من أصحابنا، منهم القاضي في الكفاية، وعلى هذا إما

(1/151)


أن يمنع صحة الأحاديث الواردة في الدباغ، كما أشار إليه أحمد كما سيأتي، أو يلتزم صحتها ويمنع تخصيص عام القرآن بالسنة على أنا نلتزم أن الآية الكريمة ليست عامة، وإنما المحرم تحريم الفعل المقصود من كل جزء منها، والمقصود من الجلد الانتفاع به، كما أن المقصود من اللحم الأكل.
36 - ويؤيد ذلك حديث عبد الله بن عكيم قال: كتب إلينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» وفي رواية أبي داود: قبل موته بشهر: «أن لا تنتفعوا» وفي رواية للترمذي: بشهرين. رواه الخمسة وحسنه الترمذي، وقال أحمد: ما أصلح إسناده. وفي رواية ابنه صالح: قال: ليس عندي في الدباغ حديث صحيح، وحديث ابن عكيم أصحها. وفي لفظ للدارقطني: «كنت رخصت لكم في جلود الميتة، فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» وهو مشعر بنهي بعد رخصة، وأن ما ورد من

(1/152)


الرخصة كان أولا. ولا يقال الإهاب اسم للجلد قبل الدبغ. قاله النضر بن شميل وغيره، لأنا نمنع ذلك، كما قاله طائفة من أهل اللغة ويؤيد قولهم أنه لم يعلم من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه قبل الدبغ رخصة، ولا عادة الناس الانتفاع به.
فعلى هذه - وقيل: وإن لم يدبغ - هل يجوز استعماله في اليابس ونحوه؟ على روايتين، أما في المائع فقال كثير من الأصحاب: لا ينتفع بها رواية واحدة، قال ابن عقيل: ولو لم ينجس الماء، بأن كانت تسع قلتين. قال: لأنها نجسة العين، أشبهت جلد الخنزير، وجوز أبو العباس في فتاويه الانتفاع بها في ذلك إن لم ينجس الماء، وقيل: يجوز الانتفاع بها في اليابس انتهى. فعلى رواية الجواز يجوز الدبغ، وعلى رواية المنع فيه (وجهان) .
(والثانية) أن الدباغ مطهر في الجملة، اختارها أبو العباس، وإليها ميل جده في المنتقى، وابن حمدان في الكبرى، وقيل: إنها آخر قولي أحمد، قال أحمد بن الحسن الترمذي كان أحمد يذهب إلى هذا الحديث لما ذكر: قبل وفاته بشهرين. ويقول: هذا آخر الأمرين من

(1/153)


رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم تركه للاضطراب في إسناده، حيث روى بعضهم: عن عبد الله بن عكيم، عن أشياخ من جهينة.
37 - وذلك لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «تصدق على مولاة لميمونة بشاة، فماتت، فمر بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به» .
38 - (وعنه أيضا) قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» رواهما مسلم وغيره وفي رواية في الصحيح أيضا: «إنما حرم أكلها» » .
39 - – ولأحمد، وأبي داود، والنسائي، والدارقطني - وصححه - في حديث شاة ميمونة: «يطهرها الماء والقرظ» .
40 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جلد الميتة قال: «إن دباغة ذهب بخبثه أو رجسه أو نجسه» رواه البيهقي

(1/154)


في سننه وصححه وإذاً يمنع العموم في الآية الكريمة، ويدعى فيها إما الإجمال كما قاله القاضي في العدة، أو أن المحرم تحريم الأكل، لأنه المقصود منها عرفا، أو يلتزم العموم ويدعى تخصيصه بما تقدم، وحديث ابن عكيم لا يقاوم حديث ابن عباس.
41 - ثم قد ورد نحوه من حديث عائشة، وعالية بنت سبيع، وسلمة بن المحبق، وكلها في السنن على أن حديث ابن عكيم يحمل على ما قبل الدبغ، جمعا بين الأحاديث.
وعلى هذه الرواية هل الدباغ يصيره كالحياة، بدليل رواية ابن عباس التي رواها البيهقي، وهو اختيار أبي محمد، وصاحب التلخيص فيه، فيطهر جلد كل ما حكم بطهارته في الحياة كالهر

(1/155)


ونحوها، ما سوى الكلب والخنزير، والمتولد منهما على رواية، أو كالذكاة.
42 - لأن في رواية: «ذكاتها دباغها» وهو اختيار أبي البركات فلا يطهر إلا ما تطهره الذكاة، فيه وجهان، وقد يخرج عليهما جلد الآدمي، فإن في طهارته - إن قيل بنجاسته بالموت - بالدبغ وجهان، والله أعلم.

[آنية عظام الميتة]
قال: وكذلك آنية عظام الميتة.
ش: يعني أنها نجسة إذا كانت من ميتة نجسة؛ لما تقدم من حديث عبد الله بن عكيم.
43 - وفي بعض ألفاظه: «أن «لا تنتفعوا من الميتة بشيء» رواه البيهقي في سننه، ولأن الحياة تحله فينجس بالموت كالجلد، ودليل الوصف قَوْله تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]

(1/156)


الآية، وحكى أبو الخطاب ومن تبعه قولا بالطهارة، وهو مختار أبي العباس.
44 - لما روى أبو داود عن ثوبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اشتر لفاطمة سوارين من عاج» والعاج عظم الفيل، وحكم القرن، والظفر، والحافر، كالعظم، إن أخذ من مذكى فهو طاهر، ومن حي طاهر في الحياة ينجس بالموت فهو نجس، وكذلك ما سقط عادة من قرون الوعول ونحوها، ولأبي محمد (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) فيه احتمال بالطهارة، والله أعلم.

[الوضوء في آنية الذهب والفضة]
قال: ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة.
ش: أراد بالكراهة (كراهة) التحريم، كما هو دأب السلف كثيرا، وقد صرح بذلك في غير هذا الموضع، فقال: والمتخذ آنية الذهب والفضة عاص، وفيها الزكاة وإذا حرم الاتخاذ

(1/157)


فالاستعمال أولى، وقال: والشرب في آنية الذهب والفضة حرام.
45 - وذلك لما روى حذيفة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا» وفي رواية: «ولكم في الآخرة» متفق عليه.
46 - وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» متفق عليه وفي رواية لمسلم: «الذي يأكل ويشرب» » وغير الأكل والشرب في معناهما.
وعموم كلام الخرقي يشمل الرجل والمرأة، وهو كذلك، لعموم الدليل، وتخصيصه المنع بالذهب والفضة يقتضي إباحة ما عداهما، وهو كذلك في الجملة.
47 - لأن في «حديث عبد الله بن زيد: أتانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخرجنا له ماء في تور (من صفر) فتوضأ» . رواه البخاري.
48 - وجاء «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ هو وأصحابه من مخضب من حجارة، ومن قدح من زجاج، وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له قدح من خشب يشرب فيه ويتوضأ» . ويدخل في المفهوم الثمين، وهو ما

(1/158)


كثر ثمنه، قال أبو البركات: هو ما كان جنسه أكثر قيمة من جنس النقدين، كالجوهر والبلور، ونحوهما وهو كذلك، لتخصيص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النهي بالذهب والفضة، ومفهومه إباحة ما عداهما، فمفهوم اللقب حجة عندنا على الأشهر، ثم العلة فيهما الخيلاء، وكسر قلوب الفقراء، وهي غير موجودة هنا، إذ الجوهر ونحوه لا يعرفه إلا خواص الناس، ولا عبرة بكراهة الشيرازي الوضوء من الصفر والنحاس لما تقدم.
ويستثنى من العموم النجس، كآنية عظام الميتة ونحو ذلك، وقد

(1/159)


يؤخذ من كلامه ثم، والمحرم، كالمغصوبة ونحوها، والمضبب والمطعم بالذهب أو الفضة.
49 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شرب من إناء ذهب، أو فضة، أو إناء فيه شيء من ذلك، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم» رواه البيهقي في سننه وقال: والمشهور عن ابن عمر في المضبب من قوله، وعن عمرة قالت: ما زلنا بعائشة حتى رخصت لنا في الحلي، ولم ترخص لنا في الإناء المفضض. رواه البيهقي أيضا.
ويستثنى من المضبب [المضبب] بضبة من الفضة، ويأتي الكلام على هذا - إن شاء الله - في كتاب الأشربة، أبسط من هذا.
[تنبيهان: (أحدهما) : «يجرجر في بطنه» أي يحدر، جعل الشرب جرجرة، وهو صوت وقوع الماء في الجوف] (الثاني) : «التور» شبه الطست، وقال ابن الأثير: إناء صغير

(1/160)


«والمخضب» مثل الإجانة التي تغسل فيها الثياب. والله أعلم.
قال: فإن فعل أجزأه
ش: إذا خالف وتوضأ فيها أجزأه عند الخرقي، وأبي محمد، إذ استعمال الماء في الوضوء حصل بعد فعل المعصية، وبهذا فارق الصلاة في البقعة الغصب، ولم يجزه عند أبي بكر، وأبي الحسين، وأبي العباس لإتيانه بالعبادة على وجه المحرم، أشبه الصلاة في المحل الغصب، ودليل الوصف وصف الشارع الأكل والشرب بالتحريم، مع حصولهما بعد فعل الأكل والشرب، حيث توسل إليهما بالمحرم.
وقول الخرقي: يتوضأ في آنية الذهب والفضة. يحتمل أنه غطس فيها وكانت تسع قلتين، ووجد الترتيب، بأن أخرج وجهه أولا، ثم يديه، ثم مسح رأسه، أو غسله وقلنا: يجزئ عن المسح، ثم أخرج رجليه، وعلى هذا يصح فيما إذا توضأ منها، أو بها، أو جعلها مصبا للماء بطريق الأولى، ويحتمل أن يريد أنه جعلها مصبا للماء، وعلى هذا لا يلزم الصحة فيما إذا توضأ فيها، أو بها، أو منها، لأنا إذا قلنا بعدم الصحة في

(1/161)


هذه الصور، ففي جعلها مصبا احتمالان، أصحهما الصحة، والله أعلم.

[صوف الميتة وشعرها]
قال: وصوف الميتة وشعرها طاهر
ش: يعني من الميتة الطاهرة في الحياة، وإلا فالنجسة في الحياة؛ الموت لا يزيدها إلا خبثا، وهذا هو المعروف المشهور من نص أحمد، وعليه أصحابه، لقول الله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} [النحل: 80] الآية. ساقه - سبحانه وتعالى - في سياق الامتنان، فالظاهر شموله لحالتي الحياة والموت، وفي الصحيح عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجد شاة ميتة فقال: «هلا انتفعتم بجلدها» ؟ فقالوا: إنها ميتة. فقال: «إنما حرم أكلها» (وعن أحمد) رواية أخرى أنها نجسة، أومأ إليها في شعر الآدمي الحي - ومن ثم يعلم أن حكاية صاحب التلخيص الخلاف في شعر غير الآدمي، والقطع فيه بالطهارة ليس بشيء - وذلك لما تقدم من حديث عبد الله بن عكيم: «لا تنتفعوا من الميتة بشيء» ولعموم {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]

(1/162)


(وأجيب) : بأن المراد بالآية الحياة الحيوانية، ومن خاصيتها الحس والحركة الإرادية، وهما منتفيان في الشعر، وحكم الوبر والريش حكم الشعر.
وقد دخل في قولنا: من الميتة الطاهرة في الحياة شعر الهرة ونحوها، وهو اختيار أبي محمد وابن عقيل، وقيل بنجاسة شعر ذلك بعد الموت، إذ طهارته في الحياة لعلة مشقة الاحتراز منه، وقد زالت بالموت وجعل القاضي الخلاف في المنفصل في حياته أيضا، وألحق ابن البنا بذلك سباع البهائم ونحوها، على القول بطهارتها - والله أعلم -.