شرح الزركشي على مختصر الخرقي

[باب الحيض]
قال:
باب الحيض ش: الحيض مصدر: حاضت المرأة تحيض، حيضا ومحاضا ومحيضا، فهي حائض، وحائضة في [لغة] ، وتحيضت: قعدت أيام عادتها عن الصلاة.
وأصله [من] السيلان، يقال: حاض الوادي؛ إذا سال، والحيض دم يرخيه الرحم عند البلوغ، في أوقات معلومة، لحكمة تربية الولد، فعند الحمل ينصرف ذلك الدم بإذن الله تعالى إلى تغذية الولد، ولذلك لا تحيض الحامل، وعند الوضع يخرج ما فضل عن غذاء

(1/405)


الولد من ذلك الدم، ثم يقلبه الله تعالى لبنا يتغذى به الولد، ولذلك قل ما تحيض المرضع، فإذا خلت من حمل ورضاع بقي ذلك الدم لا مصرف له في محلة، ثم يخرج غالبا في كل شهر ستة أيام أو سبعة، وقد يزيد على ذلك ويقل، ويطول ويقصر، على حسب ما ركبه الله في الطباع، والله أعلم.

[أقل الحيض]
قال: وأقل الحيض يوم وليلة ش: هذا [هو] المشهور من الروايتين، والمختار للعامة. قال ابن الزاغوني: اختارها عامة المشايخ. والثانية: أقله يوم. اختارها أبو بكر على ما حكاه [عنه] جماعة، والذي في التنبيه يوم وليلة، وقد قيل يوم، والأصل في ذلك عدم التقدير من الشرع، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغتسلي [وصلي] » ولم يقيد ذلك بقدر، بل وكله إلى ما تعرفه من عادتها، وما لا تقدير فيه من الشرع المرجع فيه إلى العرف، إذ الشارع إنما ترك تقديره لذلك، وإلا يكون أهمل حكمه، وأنه لا [يجوز] وأهل العرف قد ورد عنهم ذلك.

(1/406)


287 - (فعن) [عطاء] : رأيت من النساء من كانت تحيض يوما، ومن كانت تحيض خمسة عشر يوما. (وعن: الشافعي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] : رأيت امرأة قالت: إنها لم تزل تحيض [يوما لا يزيد] ، وقال لي عن نساء: إنهن لم يزلن يحضن أقل من ثلاثة أيام، (وعن) ابن مهدي، عن امرأة أنها قالت: حيضي يومان. وعن إسحاق: صح في زماننا عن غير واحدة أنها قالت: حيضي يومان فثبت بنقل هؤلاء الأئمة الأعلام أن في النساء جماعة يحضن يوما، ويومين، فمن قال باليوم دون ليلته أخذ بظاهر [إطلاق] اليوم، ويؤيده قول الأوزاعي: عندنا امرأة تحيض بكرة، وتطهر عشية. ومن اعتبر اليوم مع ليلته قال: إنه المفهوم من إطلاق اليوم، ومن ثم قال القاضي في الروايتين: يمكن حمل قول أحمد: أقله يوم. [أي] : بليلته، فتكون المسألة رواية واحدة، وهذه طريقة الخلال، وما حكاه الأوزاعي فعن امرأة واحدة، ومثله

(1/407)


لا يثبت حكما شرعيا في حق سائر النساء، وما نقل من التقدير بثلاثة أيام، (فإما) صريح غير صحيح.
288 - كما روى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام» رواه الدارقطني وغيره من طرق وروي - أيضا - عن بعض الصحابة، لكن كلها ضعيفة، بل فيها ما قيل: إنه موضوع. قال أحمد [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] في رواية الميموني:) ما صح عن أحد من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في الحيض: عشرة أيام، أو خمسة عشرة. (وإما) صحيح

(1/408)


غير صريح، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمستحاضة: «لتنظر قدر الليالي والأيام التي كانت تحيضهن» .
289 - وقوله لفاطمة بنت أبي حبيش: «اجتنبي الصلاة أيام حيضك» رواه أحمد وأقل الجمع ثلاثة، فهذا ونحوه مما خرج على الغالب، إذ الغالب أن حيض النساء أكثر من اليوم، بل ومن الثلاثة أيام، والله أعلم.

[أكثر الحيض]
قال: وأكثره خمسة عشر يوما ش: هذا هو المذهب - أيضا - والمشهور من الروايتين، لما تقدم عن عطاء، ونقل ذلك [أيضا] عن الشافعي، وإسحاق، ويحيى بن آدم، وشريك.

(1/409)


290 - ويرشحه ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، وأما نقصان دينها فإنها تمكث شطر عمرها لا تصلي» قال القاضي: رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في سننه. والشطر النصف، والظاهر أنه أراد منتهى نقصانهن، وقول البيهقي: إنه لم يجده في شيء من كتب الحديث يرده ما حكاه القاضي، لكن قال ابن منده: لا يثبت هذا بوجه من الوجوه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (والثانية) : أكثره سبعة عشر يوما، لأن ذلك يحكى

(1/410)


عن نساء الماجشون، وحكاه ابن مهدي عن غيرهن، اهـ.
ولم يذكر الخرقي أقل الطهر، فيحتمل أنه لا حد لأقل الطهر عنده، وهو إحدى الروايات عن أحمد، رواها عنه جماعة، قاله أبو البركات، واختاره بعض الأصحاب، ولا عبرة بحكاية ابن حمدان ذلك [قولا] ثم تخطئته، (والمختار) في المذهب أن أقله ثلاثة عشر يوما.

(1/411)


291 - لما رواه أحمد واحتج به - عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن امرأة جاءت إليه قد طلقها زوجها، زعمت أنها حاضت في شهر ثلاث حيض، طهرت عند كل قرء وصلت، فقال علي لشريح: قل فيها. فقال شريح: إن جاءت ببينة من بطانة أهلها، ممن يرضى دينه وأمانته، شهدت أنها حاضت في شهر ثلاثا، وإلا فهي كاذبة. فقال علي: قالون. أي جيد، بالرومية، وثلاث حيض في شهر دليل على أن الثلاثة عشر طهر صحيح يقينا أما على الاثني عشر وما دونها فمشكوك فيه.
(والرواية الثالثة) : أقله خمسة عشر يوما، لما تقدم من حديث «تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي» وزعم أبو بكر في روايتيه أن هاتين الروايتين مبنيتان على أكثر الحيض، [فإذا] قيل: أكثره خمسة عشر. فأقل الطهر خمسة عشر، وإن قيل: أكثره سبعة عشر. فأقل الطهر ثلاثة عشر. والمشهور عند الأصحاب خلاف هذا، إذ المشهور أن أكثر الحيض خمسة عشر وأقل الطهر ثلاثة عشر. ثم إنما يلزم هذا [أن] لو كانت المرأة تحيض في كل شهر حيضة، لا تزيد على ذلك ولا تنقص، وليس كذلك.

(1/412)


(تنبيه) : غالب الطهر بقية الشهر، «واللب» العقل، والله أعلم.

[علامات إقبال الحيض وإدباره]
قال: فمن طبق بها الدم، وكانت ممن تميز، فتعلم إقباله، بأنه أسود ثخين منتن، وإدباره بأنه رقيق أحمر، تركت الصلاة في إقباله، فإذا أدبر اغتسلت، وتوضأت لكل صلاة وصلت، وإن لم يكن دمها منفصلا، وكانت لها أيام من الشهر تعرفها، أمسكت عن الصلاة فيها، واغتسلت إذا جاوزتها، وإن كانت لها أيام أنسيتها، فإنها تقعد ستا أو سبعا في كل شهر
ش: لما ذكر - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أكثر الحيض، أراد أن يبين حكم المرأة إذا زاد دمها على ذلك، فقال: من طبق بها الدم. أي استمر بها، وجاوز الخمسة عشر يوما، وهذه هي المستحاضة، التي قال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن ذلك عرق، وليس بالحيضة» أي أن دمها يسيل من عرق، وليس هو دم الحيض، وهذا العرق يسمى «العاذل» بالمعجمة، ويقال بالمهملة، حكاهما ابن سيده، «والعاذر» لغة فيه.

(1/413)


والمستحاضة على ضربين، مبتدأة [ومعتادة] وغيرهما لها أربعة أحوال، وهذه التي كلام الشيخ فيها (الحال الأولى) المميزة، وهي التي [لها] دمان، أحدهما أقوى من الآخر، كأن [يكون] أحدهما ثخين منتن، والآخر رقيق أحمر، أو أحدهما أحمر مشرق، والآخر دونه، ونحو ذلك.
(الثانية) أن تكون معتادة، وهي التي لها أيام من الشهر تعرفها، وشهر المرأة ما اجتمع لها فيه حيض وطهر، وأقل ذلك على المذهب أربعة عشر يوما.
(الحالة الثالثة) أن تكون معتادة ومميزة، بأن يكون لها أيام من الشهر تعرفها، ثم استحيضت، فصار لها دمان، أحدهما أقوى من الآخر.
(الحال الرابعة) عكسها، وهي من لا عادة لها ولا تمييز.
إذا عرف هذا فلا نزاع عندنا أنه متى انفرد التمييز عمل به، فتجلس زمن الدم الأقوى.
292 - لما في الصحيحين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: «لا، إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة

(1/414)


، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي» وظاهره إناطة الحكم بإقبال الحيضة وإدبارها، من غير نظر إلى عادة.
293 - وأصرح من ذلك ما روي عن عروة بن الزبير، «عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كان دم الحيض، فإنه أسود يعرف، فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي، فإنما هو عرق» رواه أبو داود، والنسائي.
294 - وروى البيهقي في سننه عن مكحول، عن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دم الحيض أسود خاثر، تعلوه حمرة، ودم المستحاضة أصفر رقيق» لكنه مرسل، إذ مكحول لم يسمع من أبي أمامة، قال الدارقطني: مع أن في سنده مجهولا وضعيفا، نعم ذكر ذلك أبو داود عن مكحول من قوله، وأيضا فإن مع الاشتباه يرجع إلى الصفات، كما لو اشتبه المني بالمذي، ونحو ذلك، (ويشترط) للعمل بالتمييز أن لا ينقص الأقوى عن أقل الحيض، ولا يزيد على

(1/415)


أكثره، وأن يكون بين الدمين القويين أقل الطهر.
قلت: إن قلنا: لأقله حد. وهل يشترط كون مجموع الدمين الأقوى والأضعف لا يزيدان على أكثر من شهر؟ فيه وجهان، أصحهما: لا يشترط، إذ أكثر الطهر لا حد له، والثاني: يشترط، نظرا لغالب عادات النساء، ومتى اختل شرط من ذلك فكأن لا تمييز. اهـ.
ولا نزاع أيضا أنه متى انفردت العادة عمل بها.
295 - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، «أن أم حبيبة بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف شكت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدم، فقال لها: «امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي» فكانت تغتسل عند كل صلاة» ، رواه مسلم.
296 - «وعن أم سلمة أنها استفتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في امرأة تهراق الدم، فقال: «لتنظر قدر الأيام والليالي التي كانت تحيضهن، وقدرهن من الشهر، فتدع الصلاة، ثم لتغتسل، ولتستثفر ولتصل» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وقال

(1/416)


أحمد في رواية المروذي، وإسحاق بن إبراهيم، وغيرهما: الحيض يدور عندي على ثلاثة أحاديث، حديث فاطمة بنت أبي حبيش، وحديث حمنة بنت جحش، وحديث سليمان ابن يسار، وهو حديث أم سلمة. اهـ.
ولا تثبت العادة إلا بتكرار مرتين على رواية، لوجود المعاودة، وعلى أخرى - وهي المذهب، واختيار الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] ، وقال ابن الزاغوني: إنها اختيار عامة المشايخ - لا بد من تكرار ثلاثا، لظاهر ما تقدم، إذ «كان» في مل هذا التركيب إنما تستعمل في ما دام وتكرر، وهل يعتبر التكرار في التمييز، حيث يعمل به؟ فيه وجهان (أحدهما) - وهو اختيار القاضي، والآمدي - نعم، كالعادة بل أولى، إن قلنا: تقدم عليه. لأنه إذا اعتبر في الأقوى، ففي الأضعف أولى (والثاني) : وهو ظاهر كلام الإمام والخرقي واختيار ابن عقيل - لا، لأن النص دل على الرجوع إلى صفة الدم مطلقا. اهـ.
وإن اجتمعت العادة والتمييز فروايتان (إحداهما) يقدم التمييز على العادة، فتعمل عليه وتتركها، وهي ظاهر كلام الخرقي، لقوله: وكانت ممن تميز. وهو شامل لما إذا كان لها عادة، ثم قال: وإن لم يكن دمها منفصلا. أي بعضه من بعض، بل كان كله شيئا واحدا، فلم ينقلها للعادة إلا عند عدم

(1/417)


التمييز، وذلك لأن التمييز أمارة قائمة في نفس الدم، موجودة حال الاشتباه، فقدم على العادة لانقضائها، وتحمل أحاديث العادة على من لا تمييز لها (والثانية) تقدم العادة، وهو اختيار الجمهور، لورودها في غالب الأحاديث من غير تفصيل، وجعلهن كلهن غير مميزات فيه بعد، ولم يرد العمل بالتمييز إلا في حديث فاطمة المتقدم، وحديثها الذي في الصحيح ليس فيه تصريح بذلك.
297 - بل في الصحيح من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي» فردها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى العادة، وقد نقل حرب عن أحمد أنها نسيت أيامها فالظاهر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ردها للتمييز حين ذكرت أنها ناسية. اهـ.
وإن عدمت العادة والتمييز، وهي التي كانت لها أيام فأنسيتها ودمها غير متميز، وتلقب «بالمتحيرة» ، وهي التي قد تحيرت في حيضها، ولها ثلاثة أحوال (أحدها)

(1/418)


أن تنسى وقتها وعددها، وهذه [التي] قال الخرقي: إنها تجلس ستا أو سبعا، نظرا لغالب عادات النساء.
298 - كما قد صرح بذلك في حديث حمنة بنت جحش، وسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن استحاضتها، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام، أو سبعة أيام في علم الله تعالى، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أن قد طهرت، واستنقأت فصلي أربعا وعشرين ليلة، أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها، وصومي، فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي كل شهر، كما تحيض النساء وكما يطهرن، لميقات حيضهن [وطهرهن] » مختصر، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح (وهذا) إحدى الروايتين، وهو المختار للأصحاب (والثانية) : تجلس الأقل، لأنه المتيقن، وخرج القاضي فيها (رواية ثالثة) من المبتدأة أنها تجلس الأكثر (ورابعة) من المبتدأة - أيضا - تجلس عادة نسائها، وهي

(1/419)


الرواية الثانية التي في الكافي، وجعل الأقل مخرجا، وهو سهو، وإنما الأقل منصوصا، وكذلك الأول.
وعلى كل حال ففي وقت إجلاسها وجهان (أحدهما) - وهو المشهور - أنها تجلس من أول [كل] شهر، لظاهر حديث حمنة [والثاني) - واختاره أبو بكر، وابن أبي موسى - تجلس بالتحري، لأنه أمارة مغلبة على الظن، ورؤوس الأهلة لا تأثير لها عقلا ولا عرفا، بل ولا شرعا في ابتداء الحيض، وفصل أبو البركات فقال: إن طال عهدها بزمن افتتاح الدم، ونسيته، جلست بالتحري، في أصح الوجهين، وإن ذكرت زمن افتتاح الدم، كمعتادة انقطع عنها الحيض، ثم جاءها الدم في خامس يوم من الشهر، واستمر، فهذه تحيض من خامس الشهر لا بالتحري على أصح الوجهين.
(الحال الثاني) : من أحوال الناسية أن تذكر العدد وتنسى الوقت، كأن قالت: حيضي خمسة أيام [من] النصف الأول، ولا أعلم هل هي الأولى أو الثانية، أو الثالثة، فهذه تجلس خمسة [أيام] بلا ريب، لكن هل تجلسها بالتحري، أو بالأولوية؟ وصححه أبو البركات، فيه وجهان، ومتى تعذر أحدهما عمل بالآخر. اهـ.
وكل موضع أجلسناها بالتحري، أو بالأولوية فإنها تحيض من كل

(1/420)


شهر حيضة، لخبر حمنة، إلا أن تذكر لها وقتا من الطهر بين الحيضتين يخالفه، فإنها تبنى عليه.
(الحال الثالث) تذكر الوقت وتنسى العدد كأن تقول: كنت أحيض من خامس الشهر، لكن لا أعرف قدر ذلك. فإنها تحيض من الخامس الغالب أو الأقل، على الروايتين المنصوصتين، والأكثر أو عادة نسائها على المخرجتين، وحيث قلنا: تجلس الناسية ستا أو سبعا. فإن ذلك تخيير اجتهاد أو تحر، على أصح الوجهين، كما في قَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] وعلى الثاني تخيير مطلق، نظرا لظاهر (أو) كما في كفارة اليمين ونحوها.
إذا عرف هذا فالمستحاضة [في] الأيام المحكوم بحيضها فيها حكمها [فيها] حكم الحيض في جميع أحكامها، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة» فإذا انقضى ما حكم بحيضها فيه فهي إذا في حكم الطاهرات فيلزمها الغسل، والعبادات وغير ذلك، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة أيضا: «فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي» وفي رواية «فاغتسلي وصلي» إلا أن في وطئها خلافا كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(1/421)


ويلزمها أن تتوضأ لوقت كل صلاة، على المشهور من الروايتين والمختار لجمهور الأصحاب.
299 - لأن في «حديث حمنة: أنها كانت تهراق الدم، وأنها سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرها أن تتوضأ لوقت كل صلاة» . رواه ابن بطة بإسناده، وتصلي بوضوئها ما شاءت من فرائض ونوافل، ما لم يخرج الوقت، كما تجمع بين فرض ونفل اتفاقا، (والثانية) وهي ظاهر كلام الخرقي تتوضأ لكل فريضة.
300 - لأن في حديث فاطمة: «وتوضئي لكل صلاة» رواه البيهقي مرسلا ومتصلا، وقال: الصحيح أنه من قول عروة.

(1/422)


301 - وعن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المستحاضة «تدع الصلاة أيام أقرائها. ثم تغتسل وتصلي، والوضوء عند كل صلاة» رواه الترمذي، وأبو داود وضعفه، ورواه البيهقي، وقال: «وتتوضأ لكل صلاة» .
302 - وعن جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة» ، وقد جاء عن عائشة - أيضا - أنها قالت: «تتوضأ لكل صلاة» . وفي رواية عنها: «عند كل صلاة» . رواهما البيهقي (فعلى الأولى) يبطل وضوءها بخروج الوقت ودخوله، على ظاهر كلام أحمد، واختيار القاضي، وعلى اختيار أبي البركات لا يبطل إلا بالدخول وتنوي استباحة الصلاة، لا رفع الحدث، فإن نوته فقال في التلخيص: لا أعلم لأصحابنا فيه قولا، وقياس المذهب أنه لا يكفي، لتعذر رفعه للحدث الطارئ ولا يشترط تعيين النية للفرض، على ظاهر قول

(1/423)


الأصحاب، قاله أبو البركات، إذ هذه الطهارة ترفع الحدث الذي أوجبها.
ويلزمها قبل الوضوء أن تغسل فرجها وتعصبه، وتسد محل الدم ما أمكن.
303 - لما تقدم من «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم سلمة في حق المستحاضة «لتستثفر بثوب» .
304 - «وقال لحمنة: «أنعت لك الكرسف، فإنه يذهب الدم» قالت: إنه أكثر من ذلك. قال: «فاتخذي ثوبا» قالت: هو أشد من ذلك. قال: «فتلجمي» فإن غلب الدم، وخرج بعد إحكام [الشد] والتلجم لم يضرها ذلك.
305 - لأن في حديث فاطمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي لكل صلاة، وصلي وإن قطر الدم على الحصير» رواه أحمد، وابن ماجه، وهل يلزمها إعادة الشد، وغسل الفرج لوقت كل صلاة كما في الوضوء؟ فيه وجهان، أصحهما لا يجب، والأولى أن تصلي عقب الطهارة، نعم لها التأخير لبعض مصالح الصلاة، من انتظار جماعة، وأخذ سترة ونحو ذلك، فإن أخرت لغير مصلحة فوجهان.

(1/424)


(تنبيه) : قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما ذلك عرق» قد تقدم أن هذا العرق يسمى: «العاذل» «والعاذر» ، قال القرطبي: أي عرق انقطع.
وقوله: «خاثر» . أي ثخين. «وتهراق الدم» أي يجري دمها كما يجري الماء وقوله: «ركضة» من ركضات الشيطان، أي أن الشيطان قد حرك هذا الدم الذي ليس بدم حيض، و «الكرسف» القطن، «وتلجمي» ، التلجم كالاستثفار، وهو أن تشد المرأة فرجها بخرقة عريضة، توثق طرفيها في شيء آخر قد شدته على وسطها، بعد أن تحتشي قطنا، فتمنع بذلك الدم أن يجري أن يقطر، «والاستثفار] مأخوذ من ثفر الدابة، لأنه يكون تحت ذنب الدابة، قيل: وأصله للسباع، وإنما استعير، «وتحيضي» أي اقعدي أيام حيضتك، والله أعلم.

[أحكام المبتدأة في الحيض]
قال: والمبتدأ بها الدم تحتاط، فتجلس يوما وليلة [وتغتسل] وتتوضأ لكل صلاة وتصلي، فإن انقطع الدم في خمسة عشرة يوما اغتسلت عند انقطاعه، وتفعل مثل ذلك ثانية وثالثة، فإن كان بمعنى واحد عملت عليه، وأعادت الصوم إن كانت صامت - في هذه الثلاث مرات - لفرض
ش: الجارية إذا رأت الدم في زمن يصلح لكونه حيضا - وأقله استكمال تسع سنين على المذهب أو اثنتي عشرة سنة على رواية - فإنها تترك له الصوم والصلاة، وغيرهما مما تشترط له الطهارة، ويعطى حكم الحيض، لأن الحيض دم جبلة وعادة، وهو «شيء كتبه الله على بنات آدم» ، وقد وجد سببه

(1/425)


فاعتمد ذلك، وكونه دم فساد الأصل عدمه، ثم إن انقطع لأقل من أقل الحيض، فقد تبين أنه دم فساد، فتعيد ما تركته من الصلاة، وإن انقطع لأقل الحيض - وهو يوم على رواية، ويوم وليلة على المذهب - فهو حيض جزما فتغتسل إذا، وتفعل ما تفعله الطاهرات بلا ريب، وإن جاوز الأقل فإنها تجلس يوما وليلة فقط، على المشهور والمنصوص في رواية صالح، وعبد الله، والمروذي، والمختار للأصحاب، احتياطا للعبادة، كما أشار إليه الخرقي، إذ الزائد على الأقل محتمل للحيض والاستحاضة، ولم يوجد تكرار يرجح أحدهما، فالأحوط أن لا يجعل حيضا.
(وعنه) : تجلس الزائد ما لم يجاوز [أكثر] الحيض، لصلاحيته لذلك، (وعنه) : تجلسه إلى تمام ست أو سبع، عملا بغالب عادة النساء، (وعنه) : تجلسه إلى تمام عادة نسائها، كأختها، وأمها، وعمتها، وخالتها، إذ الظاهر شبهها بهن، هذه طريقة أبي بكر، وابن أبي موسى، وابن الزاغوني، والشيخين في شرحيهما، وغير واحد من الأصحاب، وهي ظاهر كلام أحمد في رواية جماعة، وطريقة القاضي وابن عقيل في تذكرته، والشيخين في مختصريهما، وطائفة أن المبتدأة لا تجلس فوق الأقل بلا نزاع، وإنما محل الخلاف فيما إذا تبين أنها مستحاضة، (وشذ أبو محمد) في الكافي، فجعل [في] المبتدأة أول ما ترى الدم الروايات

(1/426)


الأربع، وقال فيما إذا تبين أنها مستحاضة أنها تجلس غالب الحيض، ثم قال: وذكر أبو الخطاب فيها الروايات الأربع. (وهو سهو) فإنه لا نزاع نعلمه بين الأصحاب في جريان الروايات الأربع في المبتدأة المستحاضة، وإنما النزاع في جريانهن فيها أول ما ترى الدم.

(1/427)


إذا عرف هذا، وقلنا على المذهب: إنها [إنما] تجلس الأقل. فإنها تغتسل عقبه، وتصوم، وتصلي، ولا يطؤها زوجها احتياطا، ثم إن انقطع لأكثر الحيض فما دون اغتسلت غسلا ثانيا عند انقطاعه، لجواز كون الجميع حيضا، وتفعل مثل ذلك في الشهر الثاني، والثالث، فإذا كان في الأشهر الثلاثة بمعنى واحد، أي على أسلوب واحد، وقدر واحد، تبينا أن الجميع عادة لها، وأنه حيض، وإذا تجلسه جميعه في الشهر الرابع، وهذا على المذهب كما تقدم [من] كون العادة لا تثبت إلا بثلاث، أما على الرواية الأخرى فتجلسه في الشهر الثالث، لوجود شرط العادة وهو التكرار، ثم قد تبينا أنها كانت حائضا في تلك الأيام، فلا تعتد بما فعلته فيها مما يشترط له الطهارة، من صلاة، وصوم، واعتكاف، وطواف، وإذا يلزمها قضاء الواجب من ذلك لتبين عدم

(1/428)


صحته، وبقائه في ذمتها، عدا الصلاة فإنها لا تجب على حائض، والله أعلم.
قال: فإن استمر بها الدم، ولم يتميز قعدت من كل شهر ستا أو سبعا، لأن الغالب من النساء هكذا يحضن
ش: إذا استمر بالمبتدأة الدم، بأن جاوز أكثر الحيض، فهذه هي المستحاضة المبتدأة، ولها حالتان (إحداهما) : أن يكون لها تمييز معتبر، فتعمل عليه بلا ريب، لكن في اشتراط التكرار له - كما يشترط للعادة - (وجهان) تقدما، (الثانية) لا تمييز لها أصلا، أو لها تمييز غير معتبر، فهذا في قدر ما تجلسه الروايات الأربع السابقة، والمذهب منهن - الذي اختاره الخرقي، وابن أبي موسى، والقاضي، وجمهور أصحابه، والشيخان، وغير واحد - أنها تجلس غالب الحيض ستا أو سبعا كما تقدم، عملا بالغالب، وللاتفاق على أنها ترد إلى غالب الحيض وقتا، بأن تحيض من كل شهر حيضة، فلذلك ترد إلى الغالب قدرا، وتفارق المبتدأة أول ما ترى الدم في كونها تجلس الأقل، من حيث إنها أول ما ترى الدم ترجو انكشاف أمرها عن قرب، ولم يتيقن لها دم فاسد، وإذا

(1/429)


تبين استحاضتها فقد اختلط الحيض بالفاسد يقينا، ولا حالة لها قريبة تنتظر، فلذلك ردت إلى الغالب، اعتمادا على الظاهر، واختار أبو بكر، وابن عقيل في تذكرته أنها تجلس الأقل، كقوليهما، وقول غيرهما من الأصحاب في حال الابتداء.
ثم هل تثبت استحاضتها بدون التكرار، فيه وجهان، (أحدهما) : وهو اختيار القاضي - لا تثبت، وإذا تجلس قبل التكرار [الأقل على المذهب، وعند القاضي بلا خلاف، (والثاني) - وهو اختيار أبي البركات - تثبت بمجرد مجاوزة الدم الأكثر، لظاهر حديث حمنة، وعلى هذا تجلس في الشهر الثاني غالب الحيض على المختار، وأما الشهر الأول فلا تجلس منه إلا] الأقل على المذهب بلا ريب، لأن استحاضتها فيه غير معلومة، والله أعلم.

[الصفرة والكدرة في أيام الحيض]
قال: والصفرة والكدرة في أيام الحيض من الحيض
ش: الصفرة والكدرة في أيام الحيض - وهو زمن العادة - من الحيض، لعموم قول الله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ومن رأت صفرة أو كدرة في [أيام] العادة صدق عليها أنها لم تطهر.
306 - وعن مرجانة - مولاة عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كانت النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة، فيها الكرسف، فيه الصفرة من دم

(1/430)


الحيضة، يسألنها عن الصلاة. فتقول: لا تعجلن، حتى ترين القصة البيضاء. تريد بذلك الطهر من الحيض. رواه مالك في الموطأ.
ومفهوم كلام الخرقي أن الصفرة والكدرة بعد زمن العادة ليس بحيض، وهو كذلك.
307 - لقول أم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئا. رواه أبو داود، والنسائي.
308 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - – «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر قال: «إنما هو عرق، أو إنما هو عروق» رواه أحمد، وأبو داود، والبيهقي في سننه.

(1/431)


وعموم مفهوم كلام الخرقي يقتضي عدم الالتفات إلى الصفرة والكدرة بعد العادة وإن تكرر ذلك، وهو المنصوص، والمختار للشيخين، اعتمادا على العادة، وعنه ما يدل - وهو اختيار القاضي، وابن عقيل، وصاحب التلخيص [فيه]- على أنه إن تكرر بعد العادة فهو حيض، لأن التكرار يجعله كالموجود في العادة.
(تنبيهان) . (أحدهما) : إذا ابتدئت البكر بصفرة أو كدرة فهل تلتفت إليه - وهو اختيار القاضي، كما لو رأته في العادة - أو لا تلتفت إليه - وهو اختيار أبي البركات، وظاهر كلام الإمام - اعتمادا على أنه قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -؟ قال الخطابي: على وجهين.
(الثاني) : «الدرجة» - بكسر الدال وفتح الراء والجيم - وعاء يحط فيه حق المرأة وطيبها، والجمع أدراج، وقيل: هي بضم الدال، وسكون الراء، وأصلها شيء يدرج أي يلف، «والقصة» معناه أن تخرج الخرقة أو القطنة التي

(1/432)


تحتشي بها المرأة كأنها قصة، لا يخالطها صفرة ولا كدرة، وقيل: إن القصة شيء كالخيط [الأبيض] ، يخرج بعد انقطاع الدم كله، والله أعلم.

[الاستمتاع بالمرأة في مدة الحيض]
قال: ويستمتع من الحائض بدون الفرج.
ش: لقول الله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] والمحيض اسم لمكان الحيض، كالمبيت، والمقيل، ومصدر: حاضت المرأة حيضا ومحيضا، والمراد هنا والله أعلم - الأول، بقرينة التعليل بكونه أذى، وذلك يختص بالفرج، وللإجماع على جواز القربان في حال الحيض في الجملة، وقد شهد لذلك النص.
309 - فعن ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض» .
310 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في تفسير الآية: اعتزلوا نكاح فروج النساء، رواه عنه أبو بكر في تفسيره.

(1/433)


311 - ولما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] الآية، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» رواه الجماعة إلا البخاري، ولفظ النسائي، وابن ماجه «إلا الجماع» واللام فيه لمعهود ذهني، وهو الوطء في الفرج، للإجماع على جواز القربان فيما عدا محل الإزار.
312 - وقد روى أبو داود عن عكرمة، عن بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد من الحائض شيئا، ألقى على فرجها ثوبا» .
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يستمتع [بها] في الفرج] ولا ريب في ذلك لما تقدم، والله أعلم.

[وطء الحائض]
قال: فإن انقطع دمها فلا توطأ حتى تغتسل
ش: لقوله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] أي من الحيض {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] أي اغتسلن.
313 - كذلك فسرها ابن عباس. رواه عنه البيهقي، وإبراهيم

(1/434)


الحربي، وحملا لكل من التطهيرين على فائدة، على أن الإمام إسحاق بن راهويه قال: أجمع أهل العلم من التابعين أن لا يطأها حتى تغتسل. وإذا حصل الإجماع من التابعين فلا عبرة بمن بعد اهـ.
ويقوم مقام الاغتسال التيمم، لعدم الماء، ثم إذا وجد الماء حرم [عليه] الوطء، والله أعلم.

[وطء المستحاضة]
قال: ولا توطأ مستحاضة إلا أن يخاف على نفسه العنت، [وهو الزنا]
ش: أما مع خوف العنت وهو الزنا فلا نزاع في حل وطء المستحاضة، دفعا لأعلى المفسدتين بارتكاب، أدناهما، ولما فيه من الضرر المستدام، وألحق ابن حمدان بخوف العنت خوف الشبق. اهـ.
وأما مع أمن [ذلك] فروايتان (إحداهما) : يجوز.

(1/435)


314 - لما روى عكرمة عن حمنة أنها كانت تستحاض، فكان زوجها يجامعها.
315 - وأن أم حبيبة كانت تستحاض، وكان زوجها يغشاها، رواهما أبو داود.
316 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه أباح وطأها ثم إن أم حبيبة كانت تحت عبد الرحمن بن عوف - كذا في مسلم - وقد سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن حكم الاستحاضة فبينها لها ولم يذكر لها تحريم الجماع، ولو كان حراما لبينه لها.
317 - وفي حديث مكحول الذي رواه البيهقي عن أبي أمامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المستحاضة يغلبها الدم في الصلاة «فلا تقطع الصلاة وإن قطر، ويأتيها زوجها» إلا أنه مرسل وضعيف كما تقدم وعلى هذه هل يكره وطؤها لما فيه من الخلاف، أو لا يكره إذ الأصل عدم الكراهة، فيه روايتان.
(والثانية) : وهي المشهورة عند الأصحاب، اختارها الخرقي، وأبو حفص، وابن أبي موسى، وغير واحد - لا يجوز لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]

(1/436)


فمنع سبحانه من الوطء معللا بكونه أذى وهذا أذى.
318 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: المستحاضة لا يغشاها زوجها. وما روى من وطء أم حبيبة ومن وطء حمنة ففعل لا عموم له، إذ يحتمل أن ذلك عند خوف العنت، وحديث أبي أمامة لا تقوم بمثله حجة، على أنه قد يحمل على ذلك، وتأخيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للبيان لعدم الحاجة إليه.
والذي يظهر الأول، إذ الآية الكريمة لا دليل فيها، إذ دم الاستحاضة غير دم الحيض، كما نص عليه صاحب الشريعة، ولا يلزم من كون دم الحيض أذى أن يكون غيره من الدماء أذى، وما روى عن عائشة فقد قال البيهقي: الصحيح أنه من قول الشعبي. والله سبحانه أعلم.

[ما له حكم الاستحاضة]
قال: والمبتلى بسلس البول أو كثرة المذي فلا ينقطع كالمستحاضة، يتوضأ لكل صلاة بعد أن يغسل فرجه
ش: قد تقدم أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة أو لوقت كل [صلاة] بعد أن تغسل فرجها وتحكم شده، وحكم المبتلى بسلس البول، أو كثرة المذي، أو الرعاف الدائم، والمجروح

(1/437)


الذي لا يرقأ دمه ونحوهم، حكم المستحاضة في ذلك، لتساويهما معنى، وهو عدم التحرز من ذلك، فيتساويان حكما.
319 - وقد روى الإمام أحمد، والبيهقي، والدارقطني عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لما طعن كان يصلي وجرحه يثعب دما.
320 - وقال إسحاق بن راهويه: كان بزيد بن ثابت سلس البول، وكان يداويه ما استطاع، فإذا غلبه صلى، ولا يبالي ما أصاب ثوبه.
وقوله: فلا ينقطع. هذا الشرط في المستحاضة ومن لحق بها، وهو أن لا ينقطع حدثها زمنا يسع الطهارة والصلاة، إذ ما دونه لا يفيد، فهو كالعدم، فإن كان من عادتهم انقطاعه زمنا يسع لذلك لزمهم تحريه والطهارة فيه، لتمكنهم بالإتيان بالعبادة بشرطها، ولو عرض هذا الانقطاع المتسع لمن عادته الاتصال، أبطل الطهارة، فإن حصل انقطاع قبل الشروع في الصلاة لم يجز الدخول فيها، لاحتمال دوامه، فإن خالف ودخل واستمر الانقطاع قدرا يسع

(1/438)


الطهارة والصلاة فصلاته باطلة، وإن عاد الحدث قبل ذلك فطهارته صحيحة، وفي بطلان صلاته وجهان، أصحهما تبطل، لمخالفته الأمر، ولو وجد الانقطاع المتسع في الصلاة أبطلها وأبطل الوضوء، وخرج ابن حامد عدم البطلان من رواية مضي المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة، وفرق أبو البركات بأن الحدث هنا متجدد، ولم يوجد عنه بدل.
وإذا بطلت الصلاة استأنفها كالمتيمم، وينصرف من الصلاة بمجرد الانقطاع عند الأصحاب، إذ الظاهر الدوام، فلو خالف فعاد الحدث قبل مدة الاتساع فالوجهان في الانقطاع قبل الشروع، واختار المجد أنه لا ينصرف ما لم تمض مدة الاتساع حذارا من إبطال متيقن بموهوم، ولو توضأ من له عادة من هؤلاء بانقطاع غير متسع فاتصل حتى اتسع أو برأت بطلت طهارته إن وجد منه حدث معه أو بعده، وإلا فلا، ولو كثر الانقطاع واختلف فتقدم وتأخر، ووجد مرة وعدم أخرى فهذه كمن عادتها الاتصال عند الأصحاب، في بطلان وضوئها بالانقطاع المتسع دون ما دونه، وفي الأحكام إلا في شيء واحد، وهو أنها لا تمنع من الدخول في الصلاة والمضي فيها بمجرد الانقطاع، قبل تبين اتساعه، واختار أبو البركات - مدعيا أنه ظاهر كلام الإمام - أنه لا عبرة ها هنا بهذا الانقطاع، بل يكفي وجود الدم

(1/439)


في شيء من الوقت، دفعا للحرج والمشقة. والله أعلم.

[أكثر النفاس]
قال: وأكثر النفاس أربعون يوما
ش: هذا هو المذهب المختار والمعروف من الروايات.
321 - لما روى عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين يوما، وكنا نطلي وجوهنا بالورس من الكلف» . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وقال الخطابي: أثنى محمد بن إسماعيل على هذا الحديث ومعناه: كانت تؤمر أن تجلس، وإلا كان الخبر كذبا، إذ محال - عادة - اتفاق عادة نساء عصر في نفاس أو حيض، مع أن هذا إجماع سابق أو كالإجماع.

(1/440)


322 - وقد حكاه إمامنا، وابن المنذر عن عمر، وابن عباس، وأنس، وعثمان بن أبي العاص، وعائذ بن عمرو، وأم سلمة ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم، ومن ثم قال الطحاوي: لم يقل بالستين أحد من الصحابة، وإنما قاله من بعدهم وقال أبو عبيد: وعلى هذا جماعة الناس. وقال إسحاق: هو السنة المجتمع عليها.
(والثانية) أن أكثره ستون اتباعا للوجود.
وأول المدة من [حين] الوضع، لأن في رواية أبي داود في حديث أم سلمة: تجلس بعد نفاسها وإن خرج بعض

(1/441)


الولد فالدم قبل انفصاله نفاس، يحسب من المدة وخرج أنه كدم الطلق، بناء على عدم إرثه إذا استهل والحال هذه، أما إن ولدت توأمين فأول النفاس من الأول وآخره منه، على المشهور والمختار لجمهور الأصحاب من الروايات، فعلى هذا لو كان بين الولدين أربعون يوما فلا نفاس بعد الثاني (وعنه) : أوله من الأول وآخره من الثاني، فعلى هذه فقد يجيء جلوسها ستين يوما وأكثر (وعنه) : هما - الأول والآخر - من الثاني فعلى هذا ما بين الولدين ليس بنفاس، وإن بلغ أربعين يوما إلا أن يكون يومين أو ثلاثة، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
(تنبيه) : الورس نبت أصفر يصبغ به، ويتخذ منه غمرة للوجه، يحسن اللون «والكلف» لون يعلو الوجه، يخالف لونه، يضرب إلى السواد والحمرة، والله أعلم.

[أقل النفاس]
قال: وليس لأقله حد، أي وقت رأت الطهر اغتسلت وهي طاهر.
323 - ش: لما روى «عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كم تجلس المرأة إذا ولدت؟ قال: «أربعين يوما لا أن ترى الطهر قبل ذلك» .

(1/442)


324 - وعن معاذ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مضى للنفساء سبع ثم رأت الطهر فلتغتسل ولتصل» رواهما الدارقطني وقد حكى ذلك الترمذي إجماعا فقال: أجمع أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك.
325 - وحكى البخاري في تأريخه أن امرأة ولدت بمكة، فلم تر دما، فلقيت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - – فقالت: أنت امرأة طهرك الله. اهـ فعلى هذا أي وقت رأت الطهر اغتسلت للنفاس وهي طاهر، والله أعلم.

[وطء النفساء]
قال: ولا يقربها زوجها في الفرج حتى تتم الأربعين استحبابا
ش: إذا رأت المرأة الطهر قبل تمام الأربعين واغتسلت جاز وطؤها على المشهور من الروايتين، لظاهر ما تقدم، ولأن المانع من الوطء الدم ولا دم (والثانية) لا يجوز.
326 - لما روي عن علي، وابن عباس، وعثمان بن أبي العاص، وعائذ بن عمرو أنهم قالوا: لا توطأ نفساء. وعلى المذهب لا

(1/443)


يستحب لاحتمال عود الدم، وهل يكره؟ فيه روايتان، أشهرهما نعم، يكره حملا لما روي عن الصحابة على ذلك (والثانية) لا يكره نظرا للأصل.
وقوله: لا يقربها في الفرج. مفهومه أن له أن يقربها في غير الفرج، وهو كذلك كالحائض، إذ دم النفاس في الحقيقة دم حيض كما تقدم، يجتمع لغذاء الولد، ثم يخرج بقيته عند الولادة.
(تنبيه) : الولد الذي يتعلق به أحكام النفاس الولد الذي تصير به المستولدة أم ولد والله أعلم.

[حكم من كانت لها أيام حيض فزادت على ما كانت تعرف]
قال: ومن كانت لها أيام حيض فزادت على ما كانت تعرف، لم تلتفت إلى الزيادة إلا أن تراه ثلاث مرات، فتعلم حينئذ أن حيضها قد انتقل، فتصير إليه وتترك الأول، وإن كانت صامت في هذه الثلاث مرات أعادته إذا كان صوما واجبا
ش: إذا زادت عادة المرأة بأن كانت تحيض مثلا خمسة

(1/444)


أيام من كل شهر أو من كل عشرين يوما، فحاضت ستة أو سبعة، فإنها لا تلتفت إلى الزيادة على المذهب المعروف والمنصوص من الروايتين، لما تقدم من حديث عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر «إنما هو عرق» أو قال: «عروق» وقول أم عطية: كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئا.
(والثانية) : أومأ إليها في رواية ابن منصور - تلتفت إليه، فتجلسه من أول مرة، وهو اختيار أبي محمد، اعتمادا على عادات النساء في ذلك، ولما تقدم من قول عائشة: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء.
327 - ولأن عائشة لما حاضت في حجة الوداع لم يسألها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل ذلك في زمن عادتك أم لا؟ وما تقدم إنما يدل على ما بعد الطهر لا على ما إذا استمر وهي مسألتنا، فعلى المذهب متى تكرر ثلاثا على المذهب أو مرتين على رواية - علمنا إذا أن عادتها قد تغيرت فتجلس في الشهر الرابع أو الثالث، وتقضي ما صامته أو اعتكفته أو طافته من واجب في مدة التبين، لتبين حيضها فيه، فإن يئست قبل التبين أو ارتفع حيضها لمرض ونحوه ولم يعد [إليها] لم يلزمها

(1/445)


القضاء على الأصح، لعدم تحقق الفساد، ولا يحل لزوجها وطؤها في مدة التبين، والله أعلم.

قال: وإذا رأت الدم قبل أيامها التي كانت تعرف فلا تلتفت إليه حتى يعاودها ثلاث مرات
ش: المسألة السابقة فيما إذا زادت العادة، وهذه فيما إذا تقدمت، وتحتها صورتان (إحداهما) : تتقدم جملة بأن تكون تحيض الخمسة الثانية من الشهر، فتصير تحيض الخمسة الأول (الثانية) : أن يتقدم بعضها بأن تكون تحيض اليوم السادس، فتحيض اليوم الخامس أو الرابع ونحو ذلك، وبالجملة هذه المسألة والتي قبلها من مسلك واحد، والكلام على إحداهما كالكلام على الأخرى، والله أعلم.

قال: ومن كانت لها أيام حيض، فرأت الطهر قبل ذلك فهي طاهر، تغتسل وتصلي
ش: إذا كانت للمرأة عادة كأن كانت تحيض عشرة أيام [مثلا] من كل شهر، فرأت الطهر قبل انقضائها، فإن رأته بعد مضي ستة أيام ونحو ذلك فهي طاهر، لظاهر ما تقدم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - للنسوة: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. وهذه قد رأت القصة البيضاء.
328 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أما ما رأت الدم البحراني فإنها

(1/446)


لا تصلي، وإذا رأت الطهر ساعة فلتغتسل ولتصل. رواه أبو داود.
وظاهر قول الخرقي والأصحاب أنه لا فرق بين قليل الطهر وكثيره، لما تقدم عن ابن عباس، واختار أبو محمد أنها لا تعتد بما دون اليوم، من رواية في النفاس أنها لا تلتفت إلى ما دون اليوم، ولم يعتبر ابن أبي موسى النقاء الموجود بين الدمين، وأوجب عليها فيه قضاء ما صامته فيه من واجب ونحوه، قال: لأن الطهر الكامل لا يكون أقل من ثلاثة عشر يوما. إذا تقرر هذا فتغتسل وتصلي للحكم بطهارتها.
(تنبيه) : «البحراني» قال أبو السعادات) الشديد الحمرة، كأنه قد نسب إلى قعر الرحم وهو البحر، وزادوه في النسبة ألفا ونونا للمبالغة. وقال الخطابي: يريد الدم الغليظ الواسع، ونسب إلى البحر لكثرته وسعته والله أعلم.

قال: فإن عاودها الدم فلا تلتفت إليه حتى تجيء أيامها.
ش: إذا طهرت المرأة قبل تمام عادتها ثم عاودها الدم، فلا يخلو إما أن يعاودها في العادة أو بعدها ثم إذا عاودها في العادة فلا يخلو إما أن يجاوزها أو لا يجاوزها، فإن عاودها في العادة ولم يجاوزها فهل تلتفت إليه بمعنى أنها تجلسه من غير تكرار

(1/447)


- وهو اختيار القاضي في روايته، وأبى محمد في الكافي، لمصادفته زمن العادة أشبه ما لو لم ينقطع - أو لا تلتفت إلهي حتى يتكرر - وهو اختيار الخرقي، وابن أبي موسى، وقال أبو بكر: إنه الأغلب عنه، لعوده بعد طهر صحيح، فأشبه ما لو عاد بعد العادة -؟ على روايتين فعلى الثانية تصلي وتصوم وتقضي الصوم احتياطا، قاله ابن أبي موسى، ونص عليه أحمد.
وإن عاد في العادة وجاوزها لم يخل من أن يجاوز أكثر الحيض أم لا، فإن جاوز الأكثر فليس بحيض إذ بعضه ليس بحيض يقينا، والبعض الآخر متصل به، فأعطي حكمه لقربه منه وإن انقطع لأكثر الحيض فما دون فمن قال: إنما لم يعبر العادة ليس بحيض. فهذا أولى، ومن قال: إنه حيض.
ففي هذا إذا ثلاثة أوجه (أحدها) : جميعه حيض، بناء على مختار أبي محمد في أن الزائد على العادة حيض ما لم يعبر الأكثر (والثاني) : ما وافق العادة حيض، لموافقته العادة، وما زاد عليها ليس بحيض، لخروجه عنها (والثالث) : الجميع ليس بحيض لاختلاطه - على المذهب - بما ليس بحيض.
وإن عاودها بعد العادة فلا يخلو إما أن يمكن جعله حيضا، بأن يكون تضمه مع الأول لا يكون بين طرف فيهما أكثر من أكثر الحيض، فيلفقا ويجعلا حيضة واحدة، ويكون

(1/448)


بينهما أقل الطهر ثلاثة عشر يوما على المذهب، وكل من الدمين يصلح أن يكون حيضا، فيكونان حيضتين، أو لا يمكن جعل الثاني حيضا، لمجاوزته مع الأول أكثر الحيض، وليس بينه وبين الأول أقل الطهر، ويظهر ذلك بالمثال فنقول: إذا كانت العادة عشرة أيام مثلا، فرأت منها خمسة دما، ثم طهرت الخمسة الباقية، ثم رأت خمسة دما، فإن الخمسة الأولى والثالثة حيضة واحدة بالتلفيق، ولو كانت رأت يوما دما، ثم ثلاثة عشر طهرا، ثم يوما دما، فهما حيضتان، لوجود طهر صحيح بينهما، ولو كانت رأت يومين دما، ثم اثني عشر يوما طهرا، ثم يومين دما، فهنا لا يمكن جعلهما حيضة واحدة، لزيادة الدمين مع ما بينهما من الطهر على أكثر الحيض، ولا جعلهما حيضتين على المذهب، لانتفاء طهر صحيح بينهما، وإذا الحيض منهما ما وافق العادة، والآخر استحاضة، وعلى هذا، وشرط الالتفات إلى ما رأته بعد الطهر فيما خرج عن العادة التكرار المعتبر بلا نزاع.
(تنبيه) : اختلف الأصحاب في مراد الخرقي بقوله: فإن عاودها الدم. فقال التميمي، والقاضي، وابن عقيل: مراده إذا عاود بعد العادة، وعبر أكثر الحيض، بدليل أنه منعها أن تلتفت إليه مطلقا، ولو أراد غير ذلك لقال: حتى يتكرر. وقال أبو حفص: مراده المعاودة في كل حال، في العادة وبعدها، وهذا اختيار أبي محمد، وهو الظاهر اعتمادا على الإطلاق، وسكت عن التكرار، لتقدمه له فيما إذا زادت العادة أو تقدمت، وعلى هذا إذا عبر أكثر الحيض فإنه لا يكون

(1/449)


حيضا، وإن تكرر، لما تقدم له من أن الدم إذا جاوز أكثر الحيض لا يكون حيضا، والله أعلم.

[الحامل إذا رأت الدم]
قال: والحامل إذا رأت الدم فلا تلتفت إليه، لأن الحامل لا تحيض.
329 - ش: الأصل في كون الحامل لا تحيض ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في سبايا أوطاس «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة» فجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجود الحيض علما عرى براءة الرحم من الحبل، ولو اجتمعا لم يكن علما على انتفائه.

(1/450)


330 - واستدل إمامنا [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» مع منعه لطلاقه لها في حال الحيض [فعلم أن الحيض] لا يجامع الحمل.
331 - وقد روى ابن شاهين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: إن الله رفع الحيض عن الحبلى وجعل الدم رزقا للولد.
332 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: الحامل لا تحيض. رواه الدارقطني.
333 - وما روي عنها من أنها لا تصلي إذا رأت الدم فمحمول على ما قبل الولادة، وعلى هذا إذا رأت دما لم تلتفت إليه، ويكون حكمها فيه حكم دم الاستحاضة على ما تقدم، والله أعلم. .
قال: إلا أن تراه قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة فيكون دم نفاس

(1/451)


ش: لما ذكر أن ما تراه الحامل من الدم يكون دم فساد، استثنى من ذلك ما تراه قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة، فإنه يكون دم نفاس، لأنه خارج بسبب الولادة، أشبه ما بعد الولادة، ولا يحسب من مدة النفاس، لما تقدم في حديث أم سلمة: أن النفساء كانت تقعد بعد نفاسها.
(تنبيه) : يعلم ذلك بأماراته من المخاض ونحوه، أما مجرد رؤية الدم من غير علامة فلا تترك له العبادة، عملا بالأصل من غير معارضة ظاهر له، ثم إن تبين قربه من الوضع بالمدة المذكورة أعادت ما صامته فيه من صوم واجب [ونحوه ولو رأته مع العلامة فتركت العبادة ثم تبين بعده عن الوضع أعادت ما تركت فيه من واجب] ونحوه والله أعلم.

قال: وإذا رأت الدم ولها خمسون سنة فلا تدع الصوم ولا الصلاة وتقضي الصوم احتياطا، وإذا رأته بعد الستين فقد زال الإشكال، وتيقن أنه ليس بحيض، فتصوم وتصلي ولا تقضي
ش: لا نزاع عندنا فيما نعلمه - أن ما تراه المرأة من الدم بعد الستين دم فساد، وليس بدم حيض، وأن ما رأته قبل

(1/452)


الخمسين دم حيض بشرطه، واختلف فيما بينهما (فعنه) - وهو اختيار الشيرازي، وقال ابن الزاغوني: إنه اختيار عامة المشايخ أنه دم فساد مطلقا.
334 - لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لن ترى المرأة في بطنها ولدا بعد الخمسين سنة؛ ومن لا تحبل لا تحيض. رواه الدارقطني وفي لفظ - ذكره أحمد عنها في رواية حنبل - إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض. (وعنه) أنه حيض مطلقا، اختاره أبو الخطاب في خلافه الصغير، وأبو محمد، لأنه [قد] وجد بنقل نساء ثقات، فرجع إليهن فيه، كما رجع إليهن في أقل الحيض [وأكثره] (وعنه) أنه حيض في حق العربيات، لأنهن أشد جبلة دون العجميات.
335 - وقد روى الزبير بن بكار في كتاب النسب عن بعضهم أنه قال: لا تلد لخمسين إلا عجمية، ولا تلد لستين إلا قرشية وكأن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعارضت عنده هذه الأقوال

(1/453)


فأعرض عنها وقال: إن ما بينهما مشكوك فيه، فتصوم وتصلي، لاحتمال كونه دم فساد، وتقضي الصوم لاحتمال كونه دم حيض، وأداء الصلاة لا يلزمها، والصوم الواجب ونحوه تقضيه لعدم صحته منها على هذا التقدير، والله أعلم.

[أحكام المستحاضة]
قال: والمستحاضة إن اغتسلت لكل صلاة فهو أشد ما قيل فيها، وإن توضأت لكل صلاة أجزأها، [والله أعلم] .
ش: قد تقدم حكم المستحاضة في أنها هل تتوضأ لكل صلاة أو لوقت كل صلاة، والكلام الآن في اغتسالها، ولا ريب أنه يجب عليها الاغتسال عقب الأيام التي حكم بحيضها فيها [ثم] عندنا وعند الجمهور يستحب لها أن تغتسل لكل صلاة. ولا يجب.
336 - ولأن «أم حبيبة استحيضت فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فأمرها أن تغتسل، فكانت تغتسل [لكل صلاة] » . متفق عليه. ففهمت من الأمر بالاغتسال الاغتسال لكل صلاة. وفي رواية في غير الصحيح: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها بالاغتسال لكل صلاة» .

(1/454)


337 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن زينب بنت جحش استحيضت، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغتسلي لكل صلاة» . رواه أبو داود. وإنما لم يجب ذلك لأن الروايات الصحيحة في حديث أم حبيبة، وفاطمة، وزينب وغيرهم ليس فيها أمر من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالاغتسال لكل صلاة، ولو وجب ذلك لبينه.
338 - مع أن في أبي داود، والترمذي في «حديث حمنة: وقالت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني أستحاض؛ فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر، وإن قويت عليهما فأنت أعلم، تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أن قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثا وعشرين ليلة أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها وصومي، فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي كل شهر، كما تحيض النساء وكما يطهرن، لميقات حيضهن وطهرهن، وإن قويت عليه أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر، فافعلي وصومي إن قدرت على

(1/455)


ذلك» . قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وهذا أعجب الأمرين إلي» . اهـ.
ثم أشد ما قيل في المستحاضة أنها تغتسل لكل صلاة، تمسكا بما تقدم من الأمر بذلك لأم حبيبة، وأختها زينب. ويحكى هذا رواية عن أحمد، وهو قول طائفة من الصحابة، والتابعين، وإحدى الروايتين عن علي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (ثم) الاغتسال لوقت كل صلاة، (ثم) لكل

(1/456)


صلاتي جمع في وقت الثانية و [للصبح] قاله بعض التابعين.
339 - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن سهلة بنت سهيل بن عمرو استحيضت، فأتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته عن ذلك، فأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل» ، رواه أحمد، وأبو داود (ثم) لكل يوم مرة. روي ذلك عن ابن عمر، وأنس، وهو إحدى الروايتين عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقول بعض التابعين.

(1/457)


340 - وقد جاء في حديث رواه البيهقي «في قصة المستحاضة قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثم تغتسل في كل يوم عند كل طهر وتصلي» . والجمهور على ما تقدم [أولا] نعم يستحب ذلك لا أنه واجب. والله أعلم.

(1/458)