شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [باب ذكر الحج ودخول مكة]
نبدأ وبالله التوفيق قبل الشروع في ذلك بحديث جابر في صفة حج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه حديث عظيم، يعرف منه غالب المناسك.
1612 - «قال جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: دخلنا على جابر بن عبد الله، فسأل عن القوم حتى انتهى إلي فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين. فأهوى بيده إلى رأسي، فنزع زري الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثديي، وأنا يومئذ غلام شاب، فقال: مرحبا بابن أخي، سل عما شئت. فسألته - وهو أعمى، وحضر وقت الصلاة، فقام في ساجة ملتحفا بها، كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب، فصلى بنا، فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال بيده، فعقد تسعا، فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(3/175)


ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه، حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف أصنع؟ فقال «اغتسلي واستثفري بثوب، وأحرمي» فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت مد بصري بين يديه، من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فأهل بالتوحيد «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك له لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئا منه، ولزم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلبيته، قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فجعل المقام بينه

(3/176)


وبين البيت، فكان أبي يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يقرأ في الركعتين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] و: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] «أبدأ بما بدأ الله» فبدأ بالصفا، فرقي عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، ووحد الله وكبره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي، [سعى] حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر الطواف عند المروة قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة» [فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان معه الهدي] فقام سراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله

(3/177)


ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصابعه [واحدة] في الأخرى، وقال «دخلت العمرة في الحج» مرتين «لا بل لأبد أبد» وقدم علي بن أبي طالب من اليمن ببدن [رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثيابا صبيغا، واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: أبي أمرني بهذا، قال: وكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرشا على فاطمة، للذي صنعت. مستفتيا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: «صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟» قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: «فإن معي الهدي، قال: فلا تحل» قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به على من اليمن، والذي أتى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مائة، قال: فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان معه هدي، فلما كان يوم الروية توجهوا إلى منى، وأهلوا بالحج، فركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، فأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر

(3/178)


الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس وقال: «إن دماءكم، وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي [موضوع، ودماء الجاهلية تحت قدمي] وإن أول دم أضعه من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد، فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم

(3/179)


تسألون عني، فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت، ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس «اللهم اشهد، اللهم اشهد» ثلاث مرات ثم أذن ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا، حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى «أيها الناس السكينة السكينة» كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء [بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح] بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله، ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن العباس، وكان رجلا حسن الشعر، أبيض وسيما، فلما دفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرت ظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[يده] على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق

(3/180)


الآخر ينظر، فحول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده [من الشق] الآخر [على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق] ينظر حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على بئر زمزم، فقال: «انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» فناولوه دلوا فشرب منه» . رواه أبو داود، وابن ماجه، [ومسلم] وهذا لفظه، وله في رواية أخرى «نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف» » .

(3/181)


(تنبيه) : محمد بن علي بن حسين هو الباقر، والذي فعله معه جابر من وضع كفه بين ثدييه ونحره تأنيسا به، ورقا عليه، أو تبركا بالذرية الطاهرة، «ومرحبا» كلمة تقال عند المسرة للقادم، ومعناها: صادفت رحبا، أي سعة. «والساجة» الطيلسان، ويقال لها أيضا «الساج» وقيل: هي الخضر خاصة وفي رواية أبي داود «نساجة» بكسر النون، ضرب من الملاحف المنسوجة، وقوله: بشر كثير. قيل حضر معه حجة الوداع أربعون ألفا. «والمشجب» بكسر الميم وبالشين المعجمة، وباء موحدة بعد الجيم [عيدان تضم رءوسها] ، ويفرج بين قوائهما، توضع الثياب عليها، وقد تعلق عليها الأسقية، لتبريد الماء، «واستثفري» بالثاء المثلثة، وقد تقدم معناه، وفي أبي داود «واستفذري» بذال معجمة، قيل: مأخوذ من «الذفر» وهو كل ريح ذكية من طيب أي تستعمل طيبا يزيل هذا الشيء عنها، «والقصوى» بفتح القاف ممدود وقيل ومقصور - ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[والقصواء هي

(3/182)


الناقة التي قطع طرف أذنها. فقيل: كانت ناقته [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] كذلك وقيل - وهو المشهور: إنما كان [هذا] لقبا لها، لأنها كانت لا تكاد تسبق، كان عندها أقضى الجري.
وقوله في الصفا: فرقي عليه. أي صعد، بكسر القاف على الأشهر.
وقوله: محرشا على فاطمة. التحريش الإغراء بين القوم والبهائم، وتهييج بعضهم على بعض، وهو ههنا ذكر ما يوجب عتابه لها.
ويوم التروية هو [اليوم] الثامن من ذي الحجة، سمي بذلك لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده، وقيل: لأن قريشا كانت تحمل الماء من مكة إلى منى للحجاج تسقيهم وتطعمهم، فيروون منه. وقيل: لأن الإمام يروي للناس فيه من أمر المناسك. وقيل: لأن إبراهيم تروى فيه في ذبح

(3/183)


ولده. «والمورك» بكسر الراء المرفقة التي تكون عند قادمة الرحل، يضع الراكب رجله عليها، يستريح من وضع رجليه في الركاب، شبه المخدة الصغيرة و «الوسامة» الحسن الوضيء الثابت «والإفاضة» الدفع في السير، قيل: أصلها الصب، فاستعيرت لذلك «والبضعة» بفتح الباء القطعة من اللحم. «وحبل المشاة» بفتح الحاء المهملة، أي صفهم ومجتمعهم في مشيهم، وقيل: طريقهم الذي يسلكونه في الرمل. وقوله: «كلما أتى حبلا» الحبل المستطيل [من الرمل] وقيل: الحاج دون الحبال.
وقوله: ينكتها. بالتاء ثالث الحروف، هذه الرواية، وروي: ينكبها. بالباء الموحدة، قال المنذري: وهو الصواب أي يميلها إليهم، يشهد الله عليهم.
وقوله: «بكلمة الله» قيل: قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وقيل: إباحة الله الزواج، وإذنه فيه.
وقوله: «تكرهونه» قيل: أن لا يستخلين مع الرجال، وليس المراد الزنا، لأنه حرام مع من يكرهه أو [من] لا يكرهه، «مبرح» أي غير مؤثر ولا شاق. «والظعن» بضم العين المهملة وسكونها، جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج، فإذا لم تكن فيه فليست بظعينة.
وتحريكه في بطن محسر: قال الشافعي: يجوز أنه فعله لسعة الموضع، أو لأنه مأوى الشياطين.

(3/184)


1613 - و «حصى الخذف» قال الشافعي: أصغر من الأنملة طولا وعرضا، وقال عطاء: مثل طرف الإصبع.
1614 - و «الناس» في قوله {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] قيل: آدم، وقيل: إبراهيم، وقيل: سائر العرب. والله أعلم.

قال: وإذا دخل المسجد الحرام فالاستحباب له أن يدخل من باب بني شيبة.
ش: اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1615 - فعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل مكة دخل من الثنية العليا التي بالبطحاء، وإذا خرج خرج من الثنية السفلى» . متفق عليه. وعلى هذا استمر فعل الأمة سلفا بعد سلف، والله أعلم.

(3/185)


قال: فإذا رأى البيت رفع يديه.
1616 - ش: لما روي عن ابن جريج «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال اللهم زد هذا البيت تشريفا، وتكريما، وتعظيما [ومهابة، وزد من شرفه وكرمه - ممن حجه واعتمره - تشريفا، وتعظيما، وتكريما] وبرا» رواه الشافعي في مسنده، والله أعلم.

قال: وكبر.
ش: إشعارا بعظمة الرب سبحانه وتعالى.
1617 - وفي حديث ابن عباس قال: «طاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعير،

(3/186)


كلما أتى على] الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر» . رواه البخاري والرائي للبيت آت على الركن، والله أعلم.

[طواف التحية وتقبيل الحجر الأسود]
قال: ثم أتى الحجر الأسود - إن كان - فاستلمه إن استطاع وقبله.
ش: لما تقدم في حديث جابر: «حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن» .
1618 - «وعن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر يقبل الحجر، ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبلك ما قبلتك» . رواه الجماعة.
وقوله: ثم أتى الحجر الأسود إن كان. أي إن كان الحجر في مكانه، [أما إن لم يكن الحجر في مكانه] والعياذ بالله - كما وقع ذلك في زمن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لما أخذته القرامطة - فإنه يقف مقابلا لمكانه، ويستلم الركن، عملا بما استطاع، والله أعلم.

(3/187)


قال: فإن لم يستطع قام حياله، ورفع يديه، وكبر الله تعالى وهلله.
ش: إذا لم يستطع الاستلام والتقبيل المندوبين وأمكنه الاستلام بشيء في يده فعل.
1619 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على بعير يستلم الركن بمحجنه، وإن لم يمكنه قام حياله، ورفع يديه مشيرا بهما إليه، وكبر الله عز وجل وهلله.
1620 - لما روي «عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له «يا عمر إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلل وكبر» رواه أحمد.
1620 - م - وله أيضا عن ابن عباس: «طاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعير، كلما أتى [على] الركن أشار إليه بشيء في يده [وكبر» ] .
1621 - وقال بعض الأصحاب: يقول إذا استلمه «بسم الله، والله أكبر، إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا

(3/188)


لسنة نبيك محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» لأن ذلك يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(تنبيه) : والاستلام مسح الحجر باليد، أو بالقبلة، افتعال من السلام وهو التحية، ولذلك أهل اليمن يسمون الركن الأسود المحيا، أي أن الناس يحيونه، قاله الأزهري، وقال القتيبي والجوهري: افتعال من السلام وهي الحجارة، واحدها «سلمة» بكسر اللام، يقول: استلمت الحجر. إذا لمسته، كما يقول: اكتحلت من الكحل، وقيل: افتعال من المسالمة، كأنه فعل ما يفعله المسالم [انتهى. وقيل: الاستلام] أن يحيى نفسه عند الحجر بالسلام لأن الحجر لا يحييه، كما يقال: اختدم. إذا لم يكن له خادم، وقال ابن الأعرابي: هو مهموز الأصل، ترك همزه، مأخوذ من المسالمة وهي الموافقة، وقيل: من الملاءمة وهي السلاح، كأنه خص نفسه بمس الحجر. انتهى.

(3/189)


و «المحجن» عصا محنية الرأس. والله أعلم.

قال: واضطبع بردائه.
1622 - ش: لما روى يعلى بن أمية «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف مضطبعا، وعليه رداؤه» . رواه ابن ماجه، والترمذي، وأبو داود، وأحمد ولفظه: «لما قدم طاف بالبيت وهو مضطبع ببرد له أخضر» . والاضطباع أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر [سمي بذلك لإبداء الضبعين، وهما ما تحت الإبط، وهل يسير إلى آخر الطواف أو إلى آخر الرمل؟ فيه روايتان، والله أعلم] . قال: ورمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعا.
ش: كذلك قال جابر: رمل ثلاثا، ومشى أربعا.
1623 - وفي الصحيح أيضا عن ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا، ومشى أربعا» ، لا يقال: فالرسول [إنما] فعل هذا لإظهار الجلد للكفار.

(3/190)


1624 - كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدا قوم وقد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا بين الركنين، ليرى المشركون جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وهنتهم، ولا أجلد من هؤلاء. قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم» . وقد زال ذلك. لأنا نقول: قد فعل ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع، كما ثبت في حديث جابر وغيره، بعد زوال ذلك المعنى.
1625 - وقد جاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «رمل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجته وفي عمره كلها، وأبو بكر، وعمر، والخلفاء» . رواه أحمد.
1626 - وعن أسلم: سمعت عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: فيم الرملان، والكشف عن المناكب، وقد أطأ الله تعالى الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟ لكن مع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه أبو داود.

(3/191)


(تنبيه) : «الرمل» قال الجوهري: الرمل الهرولة، وقال الأزهري: الإسراع، وفسر الأصحاب الرمل بإسراع المشي، مع تقارب الخطا من غير وثب، «والوهن» الضعف، «والجلد» القوة والصبر. «والأشواط» جمع شوط، والمراد به المرة الواحدة من الطواف بالبيت، و «أطأ» مهد وثبت، والهمزة بدل من الواو، مثل (أقت) من وقت. والله أعلم.

قال: كل ذلك من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود.
ش: أي ما تقدم من أن الرمل في الثلاثة الأشواط، والمشي في الأربعة يكون من الحجر إلى الحجر. لما تقدم من حديثي جابر وابن عمر.
1627 - وفي الصحيح عن جابر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه» .
1628 - وكذلك في حديث ابن عمر في الصحيح: رمل من الحجر إلى الحجر. وهذان يقدمان على حديث ابن عباس: أنه لم

(3/192)


يرمل بين الركنين، لتأخرهما عنه، واحتمال أن ذلك مختص بالذين كانوا في عمرة القضية لضعفهم. يؤيد هذا عمل جلة الصحابة على ما قلناه.
وقد فهم من مجموع ما تقدم أن الداخل للبيت أول ما يبدأ بالطواف، ما لم تقم الصلاة ونحو ذلك، اقتداء بفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفعل أصحابه، إذ هو تحية المسجد، كما أن الصلاة تحية بقية المساجد، وقال صاحب التلخيص تبعا لابن عقيل: أول ما يبدأ بتحية المسجد، اعتمادا على عموم «إذا دخل أحدكم المسجد» الحديث. وجعلا الطواف تحية الكعبة، والاعتماد على الأول. والله أعلم.

قال: ولا يرمل في جميع طوافه إلا هذا.

(3/193)


ش: لا يرمل في طواف الزيارة، ولا طواف الوداع [ولا غيرهما] إلا في الطواف أول ما يقدم مكة، وهو طواف القدوم، أو طواف العمرة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه إنما رملوا في ذلك، هذا اختيار الشيخين وغيرهما، وزعم القاضي وصاحب التلخيص أنه لو ترك الرمل في القدوم، أتى به في الزيارة، وأنه لو رمل في القدوم ولم يسع عقبه، فإذا طاف للزيارة رمل، حذارا من أن يكون التابع - وهي السعي - أكمل من المتبوع لوجود الرمل فيه، والله أعلم.

قال: وليس على أهل مكة رمل.
ش: قال أحمد: ليس على أهل مكة رمل عند البيت، ولا بين الصفا والمروة، وذلك لأن الرمل [في الأصل] كان لإظهار الجلد، وذلك معدوم في أهل مكة، وحكم من أحرم من مكة حكم أهلها.
(تنبيه) : يسن الاضطباع لمن يسن له الرمل، والله أعلم.

قال: ومن نسي الرمل فلا إعادة عليه.
ش: لأنه هيئة فلا تجب إعادته، كهيئات الصلاة، ولا فرق في ذلك بين العامد والناسي، بناء على أنه سنة.

(3/194)


وظاهر كلام الخرقي أن من تركه عامدا عليه الإعادة، وقد يحمل على استحباب الإعادة، ليأتي بما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[وأصحابه] وليخرج من الخلاف، فإن بعض العلماء أوجب في تركه دما، والله أعلم.

[شروط صحة الطواف وسننه]
قال: ويكون طاهرا في ثياب طاهرة.
ش: يشترط للطائف أن يكون طاهرا من الحدث والخبث، في ثياب صفتها أنها طاهرة في المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين.
1629 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الطواف حول البيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير» رواه النسائي والترمذي وهذا لفظه، وحكم المشبه حكم المشبه به، فيثبت له ما يثبت له.

(3/195)


1630 - وقد عمل على هذا الصحابة فقال ابن عمر: أقلوا من الكلام، فإنما أنتم في صلاة. رواه النسائي.
1631 - وفي الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -[لما حاضت] «فعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي» » .
1632 - وفي حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يطوف بالبيت عريان» والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
(والرواية الثانية) : أن ذلك واجب، يجبر بالدم، وليس بشرط، لإطلاق: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ومن طاف

(3/196)


وهو كذلك فقد طاف به، ولأن الطواف فعل من أفعال الحج، فلم تكن الطهارة شرطا فيه، كالسعي، والوقوف.
وأجيب بأن هذين لا تجب لهما الطهارة، والطواف تجب له الطهارة، وعن الآية بأن الطواف والحالة هذه منهي عنه، فلا يدخل تحت الأمر.
(تنبيه) : نص أحمد الذي أخذ منه الرواية الثانية فيما إذا تركه ناسيا قال: يهريق دما [وقال: الناسي أهون] . فأخذ من ذلك القاضي ومن بعده رواية الوجوب، فيجبر [بالدم] مطلقا. وأجرى أبو حفص العكبري النص على ظاهره، فقال: لا يختلف قوله إذا تعمد أنه لا يجزئه، واختلف قوله في الناسي على قولين، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ليس في كلامه تصريح بالاشتراط ولا عدمه، إنما يدل على الوجوب، والله أعلم.

قال: ولا يستلم ولا يقبل من الأركان إلا الأسود واليماني.
ش: أما كونه لا يستلم الركن العراقي ولا الشامي - وهما اللذان يليان الحجر -.
1633 - «فلقول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لم أر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستلم من البيت إلا الركنين اليمانين» . متفق عليه.

(3/197)


1634 - وعن أبي الطفيل قال: كنت مع ابن عباس، ومعاوية لا يمر بركن إلا استلمه، فقال له ابن عباس: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يستلم إلا الحجر الأسود، والركن اليماني. فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورا. رواه الترمذي وغيره.
1635 - وفي أبي داود «أن ابن عمر قال: إني لأظن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يترك استلامهما إلا أنهما ليسا على قواعد البيت، ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك» .
وأما كونه لا يقبلهما؛ فلعدم ورود ذلك.
وأما كونه يستلم الأسود واليماني؛ فلما تقدم من حديث ابن

(3/198)


عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
1636 - وعن عبيد بن عمير «أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يزاحم على الركنين، فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنك تزاحم على الركنين زحاما ما رأيت أحدا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزاحمه. فقال: إن أفعل فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن مسحهما كفارة للخطايا» وسمعته يقول: «من طاف بهذا البيت أسبوعا فأحصاه، كان كعتق رقبة» وسمعته يقول: «لا يرفع قدما، ولا يحط قدما إلا حط الله عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة» رواه النسائي والترمذي.

(3/199)


وأما كونه يقبلهما، أما الأسود فلما تقدم، ولا نزاع فيه، وأما اليماني فظاهر كلام الخرقي أنه يقبله.
1637 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل الركن اليماني، ويضع خده عليه» . رواه الدارقطني.
1638 - وعنه أيضا قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استلم الركن اليماني قبله» رواه البخاري في تاريخه.
وقال أحمد في رواية الأثرم: يضع يده. فقيل له: ويقبل؟ فقال: يقبل الحجر الأسود. وعلى هذا الأصحاب، القاضي، والشيخان، وجماعة، لأن المعروف المشهور في الصحاح والمسانيد إنما هو تقبيل الأسود. وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال ابن المنذر: لا يصح.

(3/200)


(وفي المذهب) قول ثالث أنه يقبل يده إذا مسه تنزيلا له منزلة بين منزلتين، والله أعلم.

قال: ويكون الحجر داخلا في الطواف، لأن الحجر من البيت.
ش: أي يكون طوافه خارجا عن الحجر، فلو طاف في الحجر، أو على جداره لم يجزئه، لما علل به الخرقي من أن الحجر من البيت، والله سبحانه قد أمر بالطواف بالبيت [جميعه بقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ومن ترك بعضه لم يطوف به، إنما طاف ببعضه.
1639 - والدليل على أن الحجر من البيت ما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه، فأخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي، فأدخلني في الحجر فقال لي: «صلي فيه إن أردت دخول البيت، فإنما هو قطعة منه، وإن قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة، فأخرجوه من البيت» رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه الترمذي.

(3/201)


1640 - وعنها أيضا «قالت: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحجر، أمن البيت هو؟ قال: «نعم» قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ فقال: «إن قومك قصرت بهم النفقة» قالت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: «فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا، ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديث عهد بالجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الحجر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض» متفق عليه.
(تنبيه) : المشي على شاذروان البيت كالمشي على الجدار، لأنه من البيت، نعم لو مس الجدار بيده في موازاة الشاذروان صح، لأن معظمه خارج من البيت، وقدر الشاذروان ستة أذرع، قاله في التلخيص، وقال ابن أبي الفتح نحو سبعة أذرع، والله أعلم.

(3/202)


قال: ويصلي ركعتين خلف المقام.
ش: أي إذا فرغ من الطواف صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم، لما تقدم من حديث جابر، وقد بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستنده في ذلك، وهو قوله سبحانه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] والمستحب أن يقرأ فيهما بـ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لما تقدم من حديث جابر، ولو قرأ فيهما بغير ذلك، أو لم يصلهما خلف المقام فلا بأس.
1641 - وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه ركعهما بذي طوى، وهما أيضا سنة.
1642 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة» الحديث.

(3/203)


1643 - وقول الأعرابي للنبي: «هل علي غيرها؟ لما أخبره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله فرض عليه خمس صلوات - قال: «لا إلا أن تطوع» . (وهل) تجزئ عنهما المكتوبة، اختاره أبو محمد، كركعتي الإحرام، أو لا تجزئ فيفعلهما بعدها، اختاره أبو بكر، كركعتي الفجر لا تجزئ عنهما الفجر؟ فيه قولان والمنصوص عن أحمد الإجزاء، مع أن الأفضل عنده فعلهما، والله أعلم.

[السعي بين الصفا والمروة]
قال: ويخرج إلى الصفا من بابه.
ش: إذا فرغ من الركعتين فالمستحب له أن يمضي إلى الحجر الأسود فيستلمه، وقد أهمل ذلك الخرقي، ثم يخرج إلى الصفا من باب الصفا، لما تقدم في حديث جابر، والله أعلم.

قال: فيقف عليه فيكبر الله تعالى، ويهلله، ويحمده، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويسأل الله تعالى ما أحب.
ش: أما الرقي على الصفا، والتكبير، والتهليل، والتحميد، والدعاء بما أحب من أمر الدنيا والآخرة ما لم يتضمن مأثما، فلما تقدم من حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه رقي على الصفا، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة،

(3/204)


فوحد الله، وكبره وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله [وحده] ، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات» .
1644 - وفي الموطأ عن نافع أنه سمع ابن عمر يدعو على الصفا يقول: اللهم إنك قلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وإنك لا تخلف الميعاد، وأنا أسألك كما هديتني للإسلام أن لا تنزعه مني، حتى تتوفاني وأنا مسلم.
1645 - وورد عنه أنه كان يطيل الدعاء هناك.
1646 - وأما الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما روى فضالة بن عبيد قال: «سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يدعو في صلاته، فلم يصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «عجل هذا» ثم دعاه فقال له أو لغيره «إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي

(3/205)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم ليدع بما شاء» رواه الترمذي وصححه.
(تنبيه) : جميع ما تقدم مستحب، والواجب قطع ما بين الصفا والمروة [بأن يلصق عقبيه] بأصل الصفا، وأصابع رجليه بأصل المروة، ولا يسن للمرأة الرقي، والله أعلم.

قال: ثم ينحدر من الصفا، فيمشي حتى يأتي العلم الذي في بطن الوادي، فيرمل من العلم إلى العلم، ثم يمشي حتى يأتي المروة، فيقف عليها، فيقول كما قال على الصفا، وما دعا به أجزأه، ثم ينزل ماشيا إلى العلم، ثم يرمل حتى يأتي العلم، يفعل ذلك سبع مرات، يحتسب بالذهاب سعية، وبالرجوع سعية.
ش: أما كونه ينحدر من الصفا ويمشي حتى يأتي العلم الذي في بطن الوادي، وهو الميل الأخضر المعلق في ركن المسجد، فلأن في «حديث جابر: ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي» . وأما كونه يرمل من العلم المذكور إلى العلم الأخضر - وهما الميلان الأخضران اللذان بفناء المسجد، وحذاء دار العباس فلأن في «حديث

(3/206)


جابر: حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة» ، وفي رواية أبي داود: «حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي، حتى إذا صعدتا مشى» .
والخرقي - والله أعلم - تبع هذا الحديث فقال: يرمل. وظاهره أنه بالرمل السابق في الطواف، والأصحاب قالوا: إنه هنا يسعى سعيا شديدا.
1647 - لما روى أحمد في المسند «عن حبيبة بنت أبي تجراة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطوف بين الصفا والمروة، والناس بين يديه وهو وراءهم، وهو يسعى، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي، يدور به إزاره، وهو يقول: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» » .

(3/207)


وأما كونه يمشي بعد ذلك حتى يأتي المروة، فيقف عليها فيقول كما قال على الصفا، فلأن في حديث جابر كذلك، وأما كونه ما دعا به أجزأه فلأنه لم يرد فيه شيء مؤقت وفي قوله هنا وقوله: ثم دعا بما أحب. إشعار بأنه لا يجب عليه الاقتصار على ما وردت به الآثار، بخلاف الصلاة يمنع الكلام فيها بخلاف هذا. وأما كونه ينزل ماشيا إلى العلم، ثم يرمل

(3/208)


حتى يأتي العلم، يفعل ذلك سبع مرات. فلأن ذلك مما ورثه الخلف، عن السلف، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكالمرة الأولى. وأما كونه يحتسب بالذهاب سعية، وبالرجوع سعية، فلأن في حديث جابر: حتى إذا كان آخر الطواف عند المروة. وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بدأ بالصفا، وإنما يكون آخر طوافه عند المروة إذا احتسبت بالذهاب سعية وبالرجوع سعية، وهذا كله على سبيل الاستحباب والواجب قطع ما بينهما على ما تقدم وإكمال السبع، والله أعلم.

قال: ويفتتح بالصفا ويختم بالمروة.
ش: هذا على سبيل الوجوب، فلو بدأ بالمروة لم يحتسب بذلك الشوط، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بالصفا، اتباعا لما بدأ الله به.
1648 - وقد قال «خذوا عني مناسككم» .
1649 - مع أن في النسائي في حديث جابر «ابدءوا بما بدأ الله به» » وهذا أمر، والله أعلم.

(3/209)


قال: وإن نسي الرمل في بعض سعيه فلا شيء عليه.
ش: القول في ترك الرمل في السعي كالقول في تركه للطواف، وقد تقدم، والله أعلم.

قال: وإذا فرغ من السعي فإن كان متمتعا قصر من شعره ثم قد حل.
ش: لما تقدم في حديث جابر: «فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان معه هدي» .
1650 - وفي حديث ابن عمر الصحيح قال: فلما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة قال للناس «من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت، وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل» » .
ويستثنى من ذلك من كان معه هدي فإنه لا يتحلل، بل يقيم على إحرامه، ثم يدخل الحج على العمرة، على المختار من الروايات [لما تقدم] .
1651 - وفي الصحيحين «عن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من عمرتهم ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: «إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر» » .
وعن أحمد: يحل له التقصير من شعر رأسه خاصة، قال: كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك:

(3/210)


1652 - لما «روى معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قصرت شعر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمشقص» . متفق عليه، ولأبي داود والنسائي: «رأيته يقصر على المروة بمشقص» .
وبهذا يتخصص عموم ما تقدم، [ويجاب] عنه بأن المشهور والأكثر في الرواية ما تقدم.
1653 - وقد «قال معاوية لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أعلمت أني قصرت من رأس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند المروة؟ فقال: لا» . انتهى.
1654 - وقال قيس: الناس ينكرون هذا على معاوية.
ونقل عنه يوسف بن موسى فيمن قدم متمتعا وساق الهدي: إن قدم في شوال نحر الهدي وحل، وعليه هدي آخر، وإن قدم في العشر أقام على إحرامه. وقيل له: معاوية

(3/211)


[يقول] : قصرت شعر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمشقص؟ فقال: إنما حل بمقدار التقصير، ورجع حراما مكانه، وكأن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لحظ قبل العشر أن في البقاء مشقة، وأن الذي وقع من عدم الحل إنما هو في العشر، واستثنى مقدار تقصير الشعر فقط للنص، وبه يتخصص عموم كلامه الأول في رواية حنبل: إذا قدم في أشهر الحج وقد ساق الهدي، فلا يحل حتى ينحره. [والعشر أوكد، فإذا قدم في العشر لم يحل، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم في العشر ولم يحل. ومن وجه آخر وهو أنه قال: إذا قدم لم يحل حتى ينحر] وقال في رواية يوسف بن موسى: ينحر ويحل. وليس بين الروايتين تناف، بل متى قدم قبل العشر ونحر حل على مقتضى الروايتين، ويؤيد هذا أنه قال: إذا قدم في العشر لم يحل، فأطلق ولم يقل: حتى ينحر.
وهذا كله في المتمتع، أما المعتمر غير المتمتع فإنه يحل وإن كان معه هدي.
وقول الخرقي: قصر من شعره. يدل على أن الأفضل للمتمتع التقصير، وعلى هذا جرى أبو

(3/212)


محمد، وقال أحمد: يعجبني إذا دخل متمتعا أن يقصر، ليكون الحلق للحج.
1655 - وذلك لما تقدم من فعل الصحابة، ومن أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم بذلك، ولما علل به أحمد، إذ الحج هو النسك الأكبر، فاستحب أن يكون الحلق الذي هو الأفضل فيه، وقال صاحب التلخيص فيه: الحلق أفضل من التقصير في الحج والعمرة. وتبعه على ذلك أبو البركات، فقال: إن كان في عمرة حلق أو قصر وحل.
وقول الخرقي: قصر ثم حل. يقتضي أن التقصير نسك، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

قال: وطواف النساء وسعيهن مشي كله.
ش: أي لا رمل فيه ولا اضطباع أيضا، وهذا بالإجماع [قاله ابن المنذر] ولأن الأصل في مشروعيتها إظهار الجلد، وهو غير مطلوب من المرأة، والله أعلم.

قال: ومن سعى بين الصفا والمروة على غير طهارة كرهنا له ذلك وقد أجزأه.
ش: المذهب المشهور المنصوص، والمختار للأصحاب

(3/213)


من الروايتين عدم اشتراط الطهارتين للسعي بين الصفا والمروة.
1656 - لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا نذكر إلا الحج، حتى جئنا سرف فطمثت، فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أبكي، فقال: «ما لك لعلك نفست؟» فقلت: نعم. فقال: «هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي» .
1657 - وأصرح من هذا ما في المسند عنها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحائض تقضي المناسك إلا الطواف» رواه أحمد، والطواف ينصرف إلى المعهود وهو الطواف بالبيت، (وعن أحمد) رواية أخرى حكم السعي في الطهارة [حكم الطواف] قال في رواية ابن إبراهيم: الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ولأنه طواف فيدخل أو يقاس على ما تقدم، ودليل الوصف قوله سبحانه وتعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] .
1658 - «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة «طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة، يكفيك لحجك وعمرتك» رواه أبو داود وغيره، ولا نزاع أن

(3/214)


المستحب أن يسعى على طهارة، خروجا من الخلاف.
وحكم طهارة الخبث حكم طهارة الحدث، لأنها أخف منها.
أما الستارة فالأكثرون لا يذكرون في عدم اشتراطها خلافا، وأجرى أبو محمد في الكافي والمقنع الخلاف فيها. والله أعلم.

قال: وإن أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة وهو يطوف أو يسعى صلى فإذا صلى بنى.
1659 - ش: أما إذا أقيمت الصلاة فلعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» وفي لفظ «إلا التي أقيمت» والصلاة قد أقيمت والحال هذه، فلا يصلي إلا هي، وكذلك لا يسعى بطريق الأولى، وأما صلاة الجنازة فلأن التشاغل عنها

(3/215)


ربما فوتها، وتأخيرها ربما أفسد الميت، مع أن الزمن يسير. ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يترك الطواف لغير هذين، وهو كذلك، ومتى ترك وطال الفصل بطل، لفوات شرطه وهو الموالاة على المذهب، وإن لم يطل لم يبطل فيبني، ودليل اشتراطها أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شبه الطواف بالصلاة، والموالاة تشترط في الصلاة، فكذلك في الطواف، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والى في طوافه وقال: «خذوا عني مناسككم» (وفي المذهب قول ثان) لا تشترط الموالاة، فلو طاف أول النهار شوطا، وآخر النهار بقية الأسبوع أجزأه، حكاه أبو الخطاب تخريجا، وصاحب التلخيص وجها، وأبو البركات رواية، وكذلك أبو محمد في الكافي والمغنى، لكنه خصها بحال العذر، ونص الإمام إنما يدل على ذلك، قال: إذا أعيى في الطواف لا بأس أن يستريح.
1660 - وقال: الحسن غشي عليه فحمل إلى أهله، فلما أفاق أتمه.

(3/216)


وظاهر كلام الخرقي أن حكم السعي حكم الطواف في الموالاة، وعلى هذا اعتمد القاضي، وصاحب التلخيص، وأبو البركات وغيرهم، وخالفهم أبو محمد، فاختار أنها لا تشترط هنا بخلاف ثم، وهو ظاهر كلام أحمد، واختيار أبي الخطاب، والله أعلم.

قال: وإن أحدث في بعض طوافه تطهر وابتدأ الطواف إن كان فرضا.
ش: الطواف في حكم الصلاة، فيثبت له ما يثبت لها إلا ما استثناه الشارع، فإذا أحدث في طوافه فإن كان عمدا أبطله واستأنف، وإن سبقه الحدث فهل يتطهر ويستأنف، أو يبني، أو يستأنف إن كان الحدث غائطا أو بولا، ويبني إن كان غيرهما؟ على ثلاث روايات، كالروايات الثلاث في الصلاة، كذا ذكره القاضي في روايتيه، وبناه أيضا على القول باشتراط الطهارة للطواف، وفيه نظر، فإنه وإن لم يشترطها، فالخلاف جار، ليأتي بالواجب، فإنه لا نزاع في وجوبها، نعم ينبغي البناء على أصل آخر وهو الموالاة، فإنا إن لم نشترطها ينبغي البناء مطلقا.

(3/217)


وقول الخرقي: وابتدأ الطواف إن كان فرضا. يحترز به عن النفل، فإنه لا يلزمه أن يبتدئ به، لأنه لا يلزم بالشروع، بخلاف الفرض، فإنه لازم له، ولا يتوهم أن مراده إذا كان نفلا أنه يبني، فإنه لا فرق في البناء وعدمه في الفرض والنفل، والله أعلم.

قال: ومن طاف أو سعى محمولا لعلة أجزأه.
ش: إذا طاف راكبا أو محمولا لعذر من مرض أو غيره أجزأه بلا ريب.
1661 - لما في الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «طاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع على بعير، يستلم الركن بمحجن» ، وفي رواية لأبي داود «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم مكة وهو يشتكي، فطاف على راحلته» .
1662 - «وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: شكوت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني أشتكي، فقال: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» فطفت ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى جنب البيت، يقرأ بـ {وَالطُّورِ} [الطور: 1] {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 2] » متفق عليه.
وإن طاف راكبا أو محمولا لغير عذر فمفهوم كلام الخرقي

(3/218)


- وهو إحدى الروايات وأشهرها عن الإمام محمد، واختيار القاضي أخيرا، والشريف أبي جعفر -[لا يجزئه. لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] شبه الطواف بالصلاة، والصلاة لا تفعل كذلك إلا لعذر، فكذلك الطواف، وطواف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكبا كان لعذر، إما لشكاية به كما تقدم في رواية أبي داود، وإما ليراه الناس فيأتموا به، ويتعلموا منه.
1663 - قال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «طاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع على راحلته بالبيت، يستلم الركن بمحجنه، وبين الصفا والمروة ليراه الناس، وليشرف وليسألوه، فإن الناس غشوه» . رواه مسلم، وأبو داود والنسائي. وكذلك قال أحمد في رواية محمد بن أبي حرب، وحنبل. (والرواية الثانية) يجزئه ولا شيء عليه، على ظاهر كلام أحمد، اختارها أبو بكر. في زاد المسافر، وابن حامد، والقاضي قديما، قال في تعليقه: كنت أنصر أنه يجزئه [ولا دم عليه] ثم رأيت كلام أحمد أنه لا يجزئه، فنصرت نفي الإجزاء، وذلك لأن الله تعالى ذكر الطواف ولم

(3/219)


يبين صفته، فكيف ما طاف أجزأه، ولطوافه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكبا، وقد تقدم الجواب عن ذلك. وحكى أبو محمد (رواية ثانية) : يجزئه ويجبره بدم. ولم أرها لغيره، بل قد أنكر ذلك أحمد في رواية محمد بن منصور الطوسي، في الرد على أبي حنيفة قال: طاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعيره. وقال هو: إذا حمل فعليه دم. انتهى. وحكم السعي حكم الطواف عند الخرقي، وصاحب التلخيص، وأبي البركات وغيرهم، قال القاضي: وهو ظاهر كلام أحمد، قال في رواية حرب: لا بأس بالسعي بين الصفا والمروة على الدواب للضرورة، وخالفهم أبو محمد فقطع بالإجزاء، كما اختار أنه لا تشترط له الطهارة.
(تنبيه) : إذا طاف أو سعى راكبا لم يرمل، نص عليه أحمد، واختاره أبو محمد، لأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واختار القاضي - أظنه في المجرد - أن بعيره يخب به، والله أعلم.

(3/220)


[طواف وسعي القارن والمفرد]
قال: ومن كان قارنا أو مفردا أحببنا له أن يفسخ إذا طاف وسعى، ويجعلها عمرة، إلا أن يكون قد ساق معه هديا فيكون على إحرامه.
ش: قد ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة، ثبوتا لا ريب فيه، وقد تقدم في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمره بذلك، «قال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حتى إذا كان آخر الطواف على المروة قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة» فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: «دخلت العمرة في الحج» مرتين «لا بل لأبد أبد» .
1664 - وعن «أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قدمت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو منيخ بالبطحاء، فقال لي: «حججت؟» فقلت: نعم. قال «بما أهللت؟» قال: قلت لبيك بإهلال كإهلال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «فقد أحسنت، طف بالبيت، وبالصفا والمروة، وأحل» قال: فطفت بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من بني قيس، ففلت رأسي، ثم أهللت بالحج، قال: فكنت أفتي به الناس، حتى كان في خلافة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له رجل: يا أبا موسى - أو يا عبد الله بن قيس - رويدك بعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، فقال: يا أيها الناس من كنا أفتيناه

(3/221)


فتيا فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم، فبه فأتموا، قال: فقدم عمر، فذكرت ذلك له فقال: إن نأخذ بكتاب الله فإن كتاب الله يأمرنا بالتمام، وإن نأخذ بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحل حتى بلغ الهدي محله. متفق عليه واللفظ لمسلم. وفي رواية له قال: «هل سقت من هدي؟» قال: لا. قال: «فطف بالبيت، وبالصفا والمروة ثم حل» وفي رواية له أيضا أن عمر قال: قد علمت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم» .
1665 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «تمتع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد» . مختصر متفق عليه واللفظ لمسلم.
1666 - «وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(3/222)


ونحن نصرخ بالحج صراخا، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي، فلما كان يوم التروية ورجعنا إلى منى أهللنا بالحج» . رواه أحمد ومسلم.
1667 - وقد روي ذلك [أيضا من حديث أسماء، وعائشة، وابن عباس، وأنس بن مالك وكلها في الصحاح، وروي] أيضا عن البراء بن عازب وغيرهم، قال أبو عبد الله بن بطة: سمعت أبا بكر بن أيوب يقول: سمعت إبراهيم الحربي يقول - وسئل عن فسخ الحج فقال -: [قال] سلمة بن شبيب لأحمد: كل شيء منك حسن غير خلة واحدة، قال: ما هي؟ قال: تقول بفسخ الحج، قال أحمد: كنت أرى لك عقلا، عندي ثمانية عشر حديثا صحيحا أتركها لقولك. انتهى.
ولا نزاع بين المسلمين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابه بذلك، وإنما النزاع هل كان ذلك خاصا بأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

(3/223)


أو لمعنى آخر لا يشركهم فيه غيرهم، أو لأن إحرامهم وقع مطلقا. فقيل - وهو أضعفها - لم يكونوا أحرموا بالحج.
1668 - قال: لأن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أحرموا مطلقا ينتظرون القضاء. فلما نزل عليهم القضاء قال: «اجعلوها عمرة» ولا نزاع أن من لم يعين ما أحرم به له أن يجعله عمرة، وهذا ذهول أو مكابرة في الأحاديث، فإن في حديث جابر: لسنا نريد إلا الحج، لسنا نعرف العمرة. وفي حديث أبي موسى أنه أهل كإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد تقدم نسك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والخصم يدعي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مفردا أو قارنا، وفي حديث أبي سعيد: نصرخ بالحج صراخا.
1669 - وفي «حديث أسماء في رواية لمسلم: قدمنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مهلين بالحج» . وفي حديث عائشة: «لا نرى إلا أنه الحج» .
1670 - وفي حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بات بذي الحليفة حتى أصبح، ثم أهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما» .

(3/224)


1671 - «وفي حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفرا، ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر، فقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه صبيحة رابعة، مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال: «الحل كله» متفق عليه.
وهذه الأحاديث - مع جملة أيضا من الأحاديث - تنفي أنهم أحرموا مطلقا.
وقيل: لأن الفسخ كان لمعنى في حقهم، وهو معدوم في حقنا، وهو أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج، بدليل حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - المتقدم. ورد بأنه لو كان كذلك لما خص بالفسخ من لم يسق الهدي، لأن الجميع كانوا في الاعتقاد على حد سواء، ولكان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل امتناعه من الفسخ بكونه يعتقد جواز العمرة، ولم يعلل بذلك، وإنما علل بسوق الهدي.
وقيل - وهو أقواها عندهم -: إن ذلك كان خاصا لأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1672 - بدليل ما روي «عن الحارث بن بلال، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله أفسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: «بل لنا خاصة» رواه الخمسة إلا الترمذي.

(3/225)


1673 - وعن أبي ذر قال: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصة. وفي رواية قال: كانت رخصة. يعني متعة الحج، رواه مسلم، ولأبي داود: كان يقول - فيمن حج ثم فسخها بعمرة -: لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد أجاب أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن هذا، فقال عبد الله: قيل لأبي: حديث بلال بن الحارث؟ قال: لا أقول به، فلا يعرف هذا الرجل. وقال في رواية الميموني: أرأيت لو عرف بلال بن الحارث، إلا أن أحد عشر رجلا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يروي ما يروي، أين يقع بلال بن الحارث منهم؟ وقال في رواية أبي داود: ليس يصح حديث في أن الفسخ

(3/226)


كان لهم خاصة، وهذا أبو موسى الأشعري يفتي به في خلافة أبي بكر، وشطرا من خلافة عمر. انتهى.
فقد أشار أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى ضعف الحديث، ثم على تقدير صحته عارضه بالجم الغفير من الصحابة الذي رووا خلاف ذلك، ويشهد بذلك حديث جابر «لا بل لأبد الأبد» وهذا خبر لا يقبل الفسخ والتغيير، ويؤيد هذا أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يذكر تخصيصا، وإنما استدل بظاهر الكتاب، وبفعل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل قد أقر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه فعلوا ذلك، واعتذر بما ذكر من أنهم يظلون معرسين، وقد تقدم الجواب عن قولهم، في أي الأنساك أفضل، وقول أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - موقوف عليه، وهو مخالف لقول صاحب الشريعة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قد خالفه أبو موسى وأفتى به في خلافة أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وخالفه أيضا ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله

(3/227)


عنهما، بل كان من مذهبه أنه متى طاف بالبيت حل.
1674 - فعن عطاء قال: كان ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول: لا يطوف بالبيت حاج ولا غير حاج إلا حل. قيل لعطاء: من أين يقول ذلك؟ قال: من قول الله سبحانه: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] قيل لعطاء: فإن ذلك بعد المعرف، قال: فكان ابن عباس يقول: هو بعد المعرف وقبله، وكان يأخذ ذلك جوازا من أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حين أمرهم أن يحلوا من حجة الوداع.
إذا تقرر هذا فشرط جواز الفسخ عدم سوق الهدي، أما من ساق الهدي فإنه لا يجوز له الفسخ، لما تقدم من النصوص، (وشرطه) أيضا عدم الوقوف، أما بعد الوقوف فلا فسخ، لوجود معظمه، ولأنه إذا يشرع في تحلله، فلا يليق فسخه، مع أن النص لم يرد بذلك، ولو فسخ السائق أو الواقف لم ينفسخ.
ومعنى الفسخ أنه إذا طاف وسعى فسخ نية الحج، ونوى عمرة مفردة، فيصير متمتعا، فيقصر ويحل، هذا ظاهر الأحاديث، ومقتضى كلام الخرقي وأبي محمد، وعن ابن عقيل: الطواف بنية العمرة هو الفسخ، وبه حصل رفض الإحرام لا غير، فهذا تحقيق الفسخ وما ينفسخ به. (قلت) : وهذا جيد، والأحاديث لا تأباه، والقاضي وأبو الخطاب وغيرهما لم يفصحا بالمسألة، بل قالوا: يفسخ

(3/228)


نيته بالحج، وينويان إحرامهما ذلك لعمرة، فإذا فرغا منها أحرما بالحج، ولا يغرنك كلام ابن المنجا فإنه قال: إن ظاهر كلام المصنف أن الطواف والسعي شرط في استحباب الفسخ، قال: وليس الأمر كذلك، لأن الأخبار تقتضي الفسخ قبل الطواف والسعي، ولأنه إذا طاف وسعى ثم فسخ يحتاج إلى طواف وسعي لأجل العمرة، ولم يرد مثل ذلك، قال: ويمكن تأويل كلام المصنف على أن (إذا) ظرف لأحببنا له أن يفسخ وقت طوافه، أي وقت جواز طوافه. انتهى كلامه.
وقد غفل - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن كلام الخرقي - وعن كلام الشيخ في المغني فإن نصه ما قلته، وكلام القاضي ومن وافقه لا يأبى ذلك، فإنهم لم يشترطوا للفسخ إلا عدم سوق الهدي والوقوف، وكلامه صريح بأنه لو فسخ بعد الطواف صح ذلك، وليس في كلامهم ما يقتضي أنه يطوف [طوافا] ثانيا كما زعم، ولا بدع أن ينقلب الطواف فيصير للعمرة، [كما ينقلب إحرامه للحج فيصير للعمرة] ، وقوله: إن الأخبار تقتضي

(3/229)


الفسخ قبل الطواف والسعي. ليس كذلك، بل قد يقال: إن ظاهرها أن الفسخ إنما هو بعد الطواف، ويؤيد ذلك حديث جابر المتقدم، فإنه كالنص، فإن الأمر بالفسخ إنما كان بعد طوافهم. انتهى.
وظاهر كلام الخرقي - وتبعه أبو محمد، وصاحب التلخيص [وغيرهم]- أن الفسخ على سبيل الاستحباب، وهو مقتضى النصوص، والقاضي وأبو الخطاب وأبو البركات جعلوا ذلك جائزا.
(تنبيه) : «اتئد في فتياك» «يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم» .
«الفجور» الميل عن الواجب «الدبر» جمع دبرة وهي العقرة في ظهر البعير يقول: دبر البعير بالكسر، وأدبره القتب. «وعفا الأثر» .

(3/230)


قال: ومن كان متمتعا قطع التلبية إذا وصل إلى البيت، والله أعلم.
ش: منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الجماعة - الميموني، والأثرم، وحنبل، وأبي داود - أنه يقطع التلبية إذا استلم الحجر، لأنه إذا شرع في التحلل، أشبه الحاج إذا شرع في رمي جمرة العقبة.
1675 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يرفع الحديث: «أنه كان يمسك عن التلبية في العمرة حين يستلم الحجر» . رواه الترمذي وصححه.
1676 - وعنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر» رواه أبو داود، قال: وقد روي موقوفا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وقول الخرقي: إذا وصل إلى البيت، يجوز أن يحمل على منصوص الإمام، لأن الرائي للبيت غالبا يشرع في الطواف،

(3/231)


وعلى هذا حمله [أبو محمد، ويجوز أن يحمل على ظاهره، وأن يقطع بمجرد الرؤية وإن لم يشرع في الطواف، وعلى هذا حمله] أبو البركات، وجوز القاضي في التعليق الاحتمالين، والله سبحانه وتعالى أعلم.