شرح الزركشي على مختصر الخرقي

[باب ذكر الحج]
قال: وإذا كان يوم التروية أهل بالحج.
ش: ظاهر هذا الكلام أن كل من كان بمكة لم يحرم بالحج فإنه يحرم به يوم التروية، سواء كان من المقيمين بمكة، أو من المتمتعين الذين حلوا، أو لم يحلوا لسوق الهدي، ويحتمله كلام أبي البركات، وكلام صاحب التلخيص يقتضي أن من ساق الهدي من المتمتعين يحرم بالحج [عقب] طوافه وسعيه، قال: إلا أن يكون قد ساق الهدي، فيحرم بالحج إذا طاف وسعى لعمرته قبل التحلل منها، وكذلك قال القاضي قبله: المتمتع السائق للهدي إذا طاف وسعى لعمرته لا يحل منها، ولكن يحرم بالحج، ويحتمل هذا كلام أبي محمد، وأن استحباب الإحرام يوم التروية لمن كان حلالا، ويشهد لهذا حديث جابر المتقدم، قال: «فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان معه هدي، فلما كان

(3/232)


يوم التروية ووجهوا إلى منى أهلوا بالحج» . وظاهره أن الذين حلوا هم الذين أحرموا يوم التروية.
وقوله: أهل بالحج: يعني من مكة، لما تقدم له من أن ميقات أهل مكة من مكة، ولو أحرم من خارج مكة من الحرم جاز، لقول جابر: فأهللنا بالحج من الأبطح. ويستحب أن يغتسل ويتنظف، ونحو ذلك مما يفعله عند الإحرام [ويطوف أسبوعا، ثم يصلي ركعتين، ويحرم، ولا يسن تطويف بعد الإحرام] .
(تنبيه) : يوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي بذلك قيل: لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده. وقيل: لأن قريشا كانت تحمل الماء من مكة إلى منى للحاج تسقيهم وتطعمهم، فيرتوون منه وقيل: لأن الإمام يروي للناس

(3/233)


فيه من أمر المناسك. وقيل: لأن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تروى فيه في ذبح ولده، والله أعلم.

[ذهاب الحاج إلى منى يوم التروية]
قال: ومضى إلى منى فيصلي بها الظهر إن أمكنه، لأنه يروى عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلى بمنى خمس صلوات» .
ش: كذا في حديث جابر، قال: «فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، وأهلوا بالحج، فركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى بها الظهر، والعصر والمغرب، والعشاء، والفجر» .
وقول الخرقي: إن أمكنه. لأن كثيرا من الناس يشتغل يوم التروية بمكة إلى آخر النهار، قال أبو محمد: وهذا كله على سبيل الاستحباب. وظاهره أن المبيت بمنى في هذه الليلة لا يجب.
(تنبيه) : لو صادف يوم التروية يوم الجمعة وجب فعلها لمن تجب عليه [وأقام حتى زالت الشمس، وإلا لم تجب] ، والله أعلم.

[الدفع إلى عرفة والوقوف بها]
قال: فإذا طلعت الشمس دفع إلى عرفة.
ش: من المستحب أيضا أن لا يدفع من منى حتى تطلع الشمس، كما صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والله أعلم.

قال: فأقام بها حتى يصلي مع الإمام الظهر والعصر بإقامة لكل صلاة، وإن أذن فلا بأس.

(3/234)


ش: إذا دفع من منى إلى عرفة فالأولى أن يقيم بنمرة، ثم يخطب الإمام خطبة يعلم الناس فيها حكم الوقوف، والمبيت بمزدلفة، ويحثهم على المهم من أمر الإسلام، تأسيا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد ثبت ذلك عنه في حديث جابر، ثم ينزل الإمام فيصلي بهم الظهر والعصر، ويجمع بينهما بأذان يعقب الخطبة، ثم بإقامة لكل صلاة، كما في حديث جابر، وحكى صاحب التلخيص في الأذان روايتين، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - خير في الأذان، وكذا قال أحمد، لأن كلا يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإطلاق الخرقي يشمل كل من كان بعرفة من مكي وغيره، وصرح به أبو محمد. معتمدا على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع فجمع معه من حضره، ولم يأمرهم بترك الجمع.
1677 - كما أمر بترك القصر في محل آخر، حيث قال «أتموا فإنا قوم

(3/235)


سفر» وإلا يكون تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقد قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وكذلك من صلى مع الإمام.
وشرط القاضي وأصحابه ومتابعوهم - كأبي البركات وصاحب التلخيص كذلك - أن يكون ممن يجوز له الجمع.
(تنبيه) : «نمرة» موضع بعرفة، وهو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم، على يمينك إذا خرجت من مأزمي عرفة تريد الموقف، قاله المنذري، وبهذا يتبين أن قول صاحب التلخيص: أقام بنمرة، وقيل بعرفة. ليس بجيد، إذ نمرة من عرفة، وكلام الخرقي قد يشهد لهذا، لأنه قال: دفع إلى عرفة. ثم قال: ثم يسير إلى موقف عرفة. والله أعلم.

قال: وإن فاته مع الإمام صلى في رحله.

(3/236)


1678 - ش: أي إذا فاته الجمع مع الإمام جمع في رحله، كذا يروى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأنه يجمع مع الإمام، فجمع وحده كغير هذا الجمع، والله أعلم.

قال: ثم يصير إلى موقف عرفة عند الجبل.
ش: كذا قال جابر: «ثم أذن ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصوى إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة» . والوقوف عند الجبل، واستقبال القبلة، ونحو ذلك من المستحبات، اتباعا للنبي – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

(3/237)


قال: وعرفة كلها موقف، ويرفع عن بطن عرنة فإنه لا يجزئه الوقوف فيه.
1679 - ش: في رواية لمسلم في حديث جابر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نحرت ها هنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف، ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف» ورواه أحمد، وأبو داود وابن ماجه أيضا.
1680 - وعن مالك: بلغه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة، والمزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن محسر» .
1681 - وعن ابن الزبير من قوله كذلك، رواهما مالك في موطئه.

(3/238)


(تنبيه) : الوقوف بعرفة ركن إجماعا.
1682 - وقد روي «عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو واقف بعرفة، فسألوه، فأمر مناديا فنادى «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فتم حجه، أيام منى ثلاثة أيام، {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] وأردف رجلا ينادي بمنى» . رواه الخمسة.
وعن عروة بن مضرس نحو ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى، والمشترط الحصول بعرفة. عاقلا، فلا وقوف لمجنون، ولا لمغمى عليه، ولا لسكران، قاله ابن عقيل وغيره، لعدم شعورهم بها، وفي النائم وجهان، أصحهما عند صاحب التلخيص - وبه جزم أبو محمد - الإجزاء لأنه في حكم المنتبه، وكذلك في الجاهل بكونها عرفة [وجهان] ،

(3/239)


الإجزاء، قطع به أبو محمد، وعدمه قاله أبو بكر في التنبيه.
1683 - ويشهد لقول أبي محمد عموم «حديث عروة بن مضرس الطائي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالموقف، يعني بجمع قلت: جئت يا رسول الله من جبلي طيئ، فأكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا، فقد تم حجه، وقضى تفثه» رواه الخمسة وهذا لفظ أبي داود وصححه الترمذي، ولا يشترط للوقوف طهارة، ولا نية،

(3/240)


ولا استقبال، ولا ستارة.
(تنبيه) : «جمع» اسم علم للمزدلفة.
1684 - وسميت بذلك قيل لاجتماع آدم بحواء فيه، كذا روى ابن عباس و «الحبل» بالحاء المهملة أحد حبال الرمل، وهو ما اجتمع منه واستطال، وروى «جبل» بالجيم.
1685 - و «التفث» قال الأزهري لا يعرف في كلام العرب إلا في قول ابن عباس وأهل التفسير، وقال غيره: هو قص الأظفار، والشارب، وحلق العانة، والرأس، ورمي الجمار والنحر، وأشباه ذلك. وقيل: هو إذهاب الشعث والدرن، والوسخ مطلقا، والله أعلم.

(3/241)


قال: ويكبر ويهلل، ويجتهد في الدعاء إلى غروب الشمس.
1686 - ش: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «أكثر دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» رواه أحمد والترمذي ولفظه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» » قيل لسفيان بن عيينة: هذا ثناء وليس بدعاء؟ فقال: أما سمعت قول الشاعر:

(3/242)


أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء
انتهى.
1687 - «وعن أسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت ردف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات، فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته، فسقط خطامها، فتناول الخطام بإحدى يديه، وهو رافع يده الأخرى» . رواه النسائي. ولمطلوبية الدعاء في هذا اليوم استحب الإفطار كما تقدم، وإن كان صومه يكفر سنتين.
1688 - وقد روى ابن ماجه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من

(3/243)


يوم عرفة، فإنه ليدنو عز وجل، ثم يباهي بكم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء» ؟» .
وقول الخرقي: ويكبر ويهلل، ويجتهد في الدعاء إلى غروب الشمس. التكبير والتهليل والدعاء مستحب، وأما الوقوف إلى غروب الشمس فواجب، ليجمع بين الليل والنهار، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف حتى غربت الشمس كذا في حديث جابر، وفي حديث غيره، وقد قال: «خذوا عني مناسككم» والواجب عليه إذا وقف نهارا أن يكون قبيل الغروب بعرفة، لتغرب الشمس عليه وهو بها، فلو لم يأت عرفة إلا بعد الغروب فلا شيء عليه، وكذلك لو دفع منها نهارا ثم عاد قبل الغروب، فوقف إلى الغروب، هذا تحصيل المذهب. والله أعلم.

[الدفع من عرفة إلى المزدلفة والمبيت بها]
قال: فإذا دفع الإمام دفع معه إلى مزدلفة.
ش: الإمام هو الذي إليه أمر الحج، ولا نزاع في مطلوبية

(3/244)


اتباعه، وأن لا يدفع إلا بعد دفعه، لأنه الأعرف بأمور الحج، وما يتعلق بها، وأضبط للناس من أن يتعدى بعضهم على بعض، ولا ريب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه معه دفعوا من عرفة، وكان يأمرهم بالرفق في السير.
1689 - فعن «ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه دفع مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة، فسمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وراءه زجرا شديدا، وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم، وقال: «أيها الناس عليكم السكينة، فإن البر ليس بالإيضاع» متفق عليه، والإيضاع ضرب من سير الإبل سريع، والله أعلم.

قال: ويكون في الطريق يلبي ويذكر الله عز وجل.
ش: أما الذكر فلأنه مطلوب في كل وقت إلا أن يمنع منه مانع، وهنا أجدر، لكونه في عبادة.
1690 - وأما التلبية فلما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن أسامة كان ردف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عرفة إلى مزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، فكلاهما قال: لم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي حتى رمى جمرة العقبة» .

(3/245)


1691 - وعن «محمد بن أبي بكر الثقفي قال: قلت لأنس غداة غرفة: ما تقول في التلبية هذا اليوم؟ قال: سرت هذا المسير مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، فمنا المكبر، ومنا المهلل، لا يعيب أحدنا على صاحبه» ، متفق عليهما، والله أعلم.

قال: ثم يصلي مع الإمام المغرب وعشاء الآخرة.
ش: يعني بمزدلفة، ولا نزاع والحال هذه [أن المطلوب] تأخير المغرب ليجمع بينها وبين العشاء بمزدلفة، كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما تقدم في حديث جابر، ولو ترك ذلك صح، والله أعلم.

قال: بإقامة لكل صلاة، وإن جمع بينهما بإقامة فلا بأس.
ش: يجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، بإقامة لكل صلاة، بلا أذان.
1692 - لما روى أسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «دفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عرفة، حتى إذا كان بالشعب نزل فبال، ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء، فقلت: الصلاة يا رسول الله؟ فقال «الصلاة أمامك» فركب فلما جاء المزدلفة نزل، فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب، ثم أناخ كل

(3/246)


إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء، فصلى ولم يصل بينهما» . متفق عليه. وإن جمع بينهما بإقامة فلا بأس.
1693 - لأنه يروى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين المغرب والعشاء بجمع، صلى المغرب ثلاثا، والعشاء ركعتين، بإقامة واحدة» ، رواه مسلم.
والأول قال ابن المنذر: إنه قول أحمد، لأنه رواية أسامة، وهو أعلم بحال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه كان رديفه، وإنما لم يؤذن للأولى لأنها في غير وقتها، بخلاف المجموعتين بعرفة، قال أبو محمد: وإن أذن للأولى وأقام، ثم أقام لكل صلاة فحسن، لما تقدم في حديث جابر، وهو متضمن لزيادة، وكسائر الفوائت والمجموعات، قلت: وقد يقال: إن حديث جابر لا يخالف حديث أسامة، إذ قوله: ثم أقيمت الصلاة، أي دعي إليها، وذلك قد يكون بأذان وإقامة، والارتداف لا يرجح روايته والحال هذه، لأنه لم يخبر عن شيء وقع من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو رديفه، إنما أخبر بعد زوال الارتداف، والله أعلم.

(3/247)


قال: وإن فاته مع الإمام صلى وحده.
ش: أي يجمع منفردا كما يجمع مع الإمام، وهذا إجماع والحمد لله، إذ الثانية منهما تفعل في وقتها، بخلاف العصر مع الظهر، والله أعلم.

قال: فإذا صلى الفجر وقف مع الإمام عند المشعر الحرام فدعا.
ش: كذا في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «ثم اضطجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصوى حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله تعالى وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس» . وقد قال الله سبحانه: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] وجميع هذا مستحب إلا المبيت بمزدلفة كما سيأتي، وفيه نظر، لأن الله سبحانه أمر بالذكر عند المشعر الحرام، وفعله المبين لكتاب ربه، مع قوله «خذوا عني مناسككم» وهذا لا يتقاصر عن الوجوب، بل قد قال بعض العلماء بركنيته، ويشهد له حديث عروة بن مضرس.
(تنبيه) : المشعر الحرام بفتح الميم، قال المنذري: وأكر كلام العرب بكسرها، وحكى القتيبي وغيره أنه لم يقرأ

(3/248)


بها أحد، وحكى الهذلي أن أبا السمال قرأ المشعر بالكسر، وسمي مشعرا لأنه من علامات الحج، وكل علامات الحج مشاعر، والله أعلم.

قال: ثم يدفع قبل طلوع الشمس.
ش: لما تقدم في حديث جابر.
1694 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير. قال: فخالفهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأفاض قبل طلوع الشمس» . رواه البخاري وغيره، والله أعلم.

(3/249)


قال: فإذا بلغ محسرا أسرع ولم يقف فيه حتى يأتي منى.
ش: «محسر» قيل: واد بين عرفة ومنى، وهو مقتضى قول الخرقي، لأنه غيا الإسراع فيه إلى إتيان منى، وقيل: موضع بمنى، وقيل: ما صب [من محسر في المزدلفة فهو منها، وما صب] منه في منى فهو من منى، قال المنذري: وصوبه بعضهم، ويستحب الإسراع فيه إن كان ماشيا، أو يحرك دابته إن كان راكبا، تأسيا بمن المأمور اتباعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، [قال أصحابنا: وذلك بقدر رمية حجر] . قال جابر في حديثه: حتى أتى محسرا فحرك قليلا. قال المنذري: لعله سمي بذلك لأنه يحسر سالكيه ويتبعهم. وقال الشافعي في الإملاء: يجوز أن يكون فعل ذلك لسعة الموضع. وقيل: يجوز أن يكون فعله لأنه مأوى الشياطين. وقيل: سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي أعيى. والله أعلم.

(3/250)


قال: وهو مع ذلك ملب.
ش: يعني من الدفع من مزدلفة إلى منى، لما تقدم في الصحيحين من حديث ابن عباس، والله أعلم.

[رمي الجمرات]
قال: ثم يأخذ حصى الجمار من طريقه أو من مزدلفة.
ش: الرمي تحية منى، فلا يشتغل عند الوصول إليها بغيره، فلذلك ندب أن يأخذ الحصى من طريقه أو من مزدلفة.
1695 - ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كان يأخذ الحصى من جمع.
1696 -[وفعله سعيد بن جبير، وقال: كانوا يتزودون الحصى من جمع] وعن أحمد: خذ الحصى من حيث شئت. وهذا اختيار أبي محمد، وهو الذي فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1697 - «قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداة العقبة وهو على راحلته «هات القط لي» فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلما وضعتهن في يده قال «بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين» رواه النسائي وابن ماجه ولهذا الخبر قلنا: الالتقاط أولى من التكسير. والله أعلم.

(3/251)


قال: والاستحباب أن يغسله.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
1698 - لأنه يروى عن ابن عمر أنه غسله، وكان يتحرى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(والثانية) : - واختارها أبو محمد - لا يستحب، وقال: لم يبلغنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله. انتهى، وهو مقتضى حديث ابن عباس السابق، وعلى هذا لو رمى بحجر نجس فهل يجزئه لوجود الحجرية، أو لا يجزئه لأنه يؤدي به عبادة، أشبه حجر الاستجمار؟ فيه قولان، والله أعلم.

(3/252)


قال: فإذا وصل إلى منى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات.
ش: جمرة العقبة هي آخر الجمرات مما يلي منى، وأولها مما يلي مكة، وهي عند العقبة، وبها سميت، فإذا قدم من مزدلفة إلى منى فأول ما يبدأ برميها بسبع حصيات، كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال جابر: حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات. وكذلك في حديث غيره.
وقول الخرقي: رمى. يخرج منه ما لو وضعها بيده في المرمى، فإنه لا يجزئه، لعدم الرمي، نعم لو طرحها طرحا أجزأته، لوجود الرمي.
وقوله: حصيات. المستحب كونها مثل حصى الخذف، لحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وفي حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بمثل حصى الخذف. وفسره الأثرم بأن يكون أكبر من الحمص، ودون البندق.
1699 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: مثل بعر الغنم. وهو قريب

(3/253)


من ذلك، فإن خالف ورمى بحجر كبير أجزأه على قول، وهو المشهور، لوجود الحجرية، وعن أحمد: لا يجزئه حتى يأتي بما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك القولان في الصغير قاله أبو محمد، وشرطه على كل حال الحجرية، فلا يجزئ الرمي بغيره كالكحل، والجواهر المنطبعة، والفيروزج، والياقوت، ونحو ذلك، على المشهور والمختار من الروايات، (وعنه) : يجزئ مع الجهل دون القصد، والرخام والكذان والرام ونحو ذلك ملحق بالحجر عند أبي محمد، وعند القاضي بالفيروزج، وجعل الدراهم،

(3/254)


والدنانير، والحديد، والنحاس، والرصاص أصلا قاس عليه المنع.
ولا بد أن يقع الحصى في المرمى، فلو وقع دونه لم يجزئه، نعم لو وقعت الحصاة على [ثوب] إنسان فطارت فوقعت في المرمى أجزأه، لاختصاصه بالفعل، فلو نفضها الإنسان فوقعت في المرمى أجزأت، قاله أبو بكر في الخلاف، حاكيا له عن أحمد في رواية بكر بن محمد، ولم يجز عند ابن عقيل، والله أعلم.

قال: يكبر في أثر كل حصاة.
ش: في حديث جابر: يكبر مع كل حصاة، وكذلك في الصحيح من حديث ابن مسعود وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

قال: ولا يقف عندها. والله أعلم.
1700 - ش: لما روى سالم «أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة طويلا ويدعو، ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال، فيسهل فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلا، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ويقول: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله» . رواه البخاري وغيره. والسنة أن

(3/255)


يستبطن الوادي، وأن يستقبل القبلة لهذا الخبر، كذا قال أصحابنا، وفيه نظر، إذ ليس في هذا الحديث أنه استقبل القبلة في جمرة العقبة ولا في غيرها.
1701 - وقد ورد في الصحيحين عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال: «رمى عبد الله بن مسعود جمرة العقبة من بطن الوادي، بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، وجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، فقيل له: إن ناسا يرمونها من فوقها. فقال عبد الله: هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة» .
1702 - لكن قد ورد في رواية النسائي والترمذي «أنه استبطن الوادي، واستقبل الكعبة، وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن، وقال: من ههنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة» ، ولو رماها من فوقها جاز.

(3/256)


1703 - لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رماها كذلك للزحام، والله أعلم.

قال: ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي.
1704 - ش: لما تقدم في الصحيحين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن أسامة والفضل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنهما قالا: «لم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي حتى رمى جمرة العقبة» . وفي رواية للنسائي «فلما رمى قطع التلبية» ، والله أعلم.

[نحر الهدي]
قال: وينحر إن كان معه هدي.
ش: في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر» . ولا فرق في ذلك بين الواجب والتطوع، فلو لم يكن معه هدي، وعليه هدي واجب اشتراه ونحره، وإلا فإن أحب الأضحية اشترى ما يضحي به.

(3/257)


وقوله: وينحر إن كان معه هدي. النحر مختص بالإبل، وأما غيره فيذبح، وكأنه أشار بذلك إلى أن الأولى في الهدي أن يكون من الإبل، اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا إشكال في ذلك، وفي مسنونية سوقه، ووقفه بعرفة، والجمع فيه بين الحل والحرم، والله أعلم.

[الحلق والتقصير]
قال: ويحلق أو يقصر.
1705 - ش: عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق «خذ» وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس» . متفق عليه، والسنة البداءة بالجانب الأيمن لهذا، ويخير بين الحلق والتقصير كما اقتضاه كلام الخرقي، ولا ريب فيه، وقد قال سبحانه: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] .
1706 - قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلق في حجة الوداع وأناس من أصحابه، وقصر بعضهم» ، متفق عليه.
1707 - وثبت عنه أنه دعا للمحلقين بالرحمة، وفي رواية بالمغفرة ثلاثا، وللمقصرين مرة، [والأولى الحلق] ، ولهذا قدمه الخرقي، اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(3/258)


1708 - وقد قال – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم اغفر للمحلقين» قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: «اللهم اغفر للمحلقين» قالوا: يا رسول الله وللمقصرين؟ قال: «وللمقصرين» قال: ذلك في الثالثة أو الرابعة» . والحكمة في ذلك - والله أعلم - أنه أبلغ في العبادة، وأدل على صدق النية لله تعالى، لأن المقصر مبق على نفسه بعض الزينة التي ينبغي للحاج أن يكون مجانبا لها.
1709 - وقيل: إن سبب دعائه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمحلقين ثلاثا أنه لما أمرهم يوم الحديبية [بالحلاق] لم يقم أحد منهم، لما في أنفسهم من أمر الصلح، فلما حلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودعا للمحلقين ثلاثا، وللمقصرين مرة، تبادروا إلى ذلك.

(3/259)


1710 - وقد ورد في مسلم من «حديث أم الحصين أنها سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا للمحلقين ثلاثا، وللمقصرين مرة» ، هذا يدل على أن الحديبية لم يكن لها اختصاص بذلك.
وهل يستثنى من ذلك من لبد أو عقص، أو ظفر؟ ظاهر كلام الخرقي وكثير من الأصحاب عدم استثنائه، وعموم كلام أحمد يقتضيه، قال في رواية حنبل والميموني: إن شاء قصر، وإن شاء حلق، والحلق أفضل، وذلك للعمومات المتقدمة، (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من فعل ذلك فليحلق.
1711 - وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من عقص رأسه أو ظفر أو لبد فقد وجب عليه الحلاق. رواه مالك في الموطأ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبد رأسه وحلق.
1712 - ويروى عنه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من لبد فليحلق» قال أبو محمد: والأول أصح إلا أن يثبت الخبر.

(3/260)


1713 - إذ عمر خالفه ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فتسلم العمومات المتقدمة، وفعل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكون الحلاق أفضل لا لتعينه. انتهى.
ولو لم يكن على رأسه شعر كالأصلع ومن رأسه محلوق، فظاهر كلام أحمد في رواية المروذي أنه يمر الموسى على رأسه، قال في رواية المروذي في المتمتع: إن دخل يوم التروية فأعجب إلي أن يقصر، فإن دخل في العشر فأراد أن يحلق حلق، [فإن دخل يوم التروية فحلق فلا بأس، ويمر الموسى على رأسه يوم الحلق] ، وحمله القاضي على الاستحباب، لقوله في رواية بكر بن محمد: لا يعتمر حتى يخرج شعره، فيمكن حلقه أو تقصيره. قال: فدل على أن إمرار الموسى لا يجب، فلا يقوم مقام الحلق، وفي أخذ الاستحباب من هذا نظر، لكن في الجملة هو قول الأصحاب، لقول الله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] ، أي: شعور رءوسكم، فمن لا شعر له لم تتناوله الآية.
1714 - وإنما استحب له إمرار الموسى اقتداء بقول عمر: الأصلع يمر الموسى على رأسه، رواه النجاد.

(3/261)


وقوله: يحلق أو يقصر. ظاهره أن الحكم متعلق بالجميع، فيحلق أو يقصر من جميع رأسه، فإن كان الشعر مضفورا قصر من رءوس الضفائر، وإلا جمعه وقصر من أطرافه، ولا يجب التقصير من كل شعرة، لأن ذلك لا يعلم إلا بحلقه، هذا أشهر الروايتين، والرواية الثانية) يجزئ حلق بعضه، أو تقصير بعضه، ومبنى الخلاف على المسح في الطهارة، قاله غير واحد، وعلى هذا «هل هذا» . البعض هو الأكثر أو قدر الناصية، أو إنما يكتفى بالبعض في حق المرأة دون الرجل؟ مبني على ما تقدم من الخلاف، والله أعلم.

قال: ثم قد حل من كل شيء إلا النساء.
ش: هذا المذهب والمشهور من الروايتين.
1715 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» . فقال رجل: والطيب؟ فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أما أنا فقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب ذلك أم لا؟» رواه أحمد، ورواه النسائي

(3/262)


موقوفا على ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
(والرواية الثانية) : يحل من كل شيء إلا الوطء في الفرج، فتحل له القبلة، واللمس لشهوة، وعقد النكاح، لأن الوطء هو الأغلظ، ولهذا اختص الفساد به، [فيختص المنع به] بخلاف غيره، ونقل الميموني في المتمتع إذا دخل الحرم حل له بدخوله كل شيء إلا النساء والطيب، قبل أن يقصر أو يحلق، وهذا يعطي رواية ثالثة.
1716 - ومرجعها قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما خطب الناس في عرفة فقال لهم فيما قال: إذا جئتم منى غدا فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب، لا يمس أحد نساء ولا طيبا حتى يطوف بالبيت، رواه مالك في الموطأ.

(3/263)


والمعنى يعضده، إذ الطيب من دواعي النكاح، فهو كالقبلة. انتهى.
وقد أشعر كلام الخرقي بأمرين (أحدهما) أن الحلق أو التقصير نسك، ويثاب على فعله، ويذم بتركه، وهذا المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين، حتى إن القاضي في التعليق، وغيره، لم يذكروا خلافا، وذلك لقوله سبحانه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] ، قيل: المراد به الحلق، وقيل: بقايا أفعال الحج، من الرمي ونحوه، وعلى كليهما فقد دخل الحلق في الأمر، وظاهره الوجوب، لا سيما وقد قرن بالوفاء بالنذور، وبالطواف، وأيضا قَوْله تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] ، فوصفهم وامتن عليهم بذلك، فدل على أنه من العبادة لتتميز به، وليعبر عنها به.
1717 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبد رأسه وأهدى، فلما قدم مكة أمر نساءه أن يحللن، قلن: ما لك أنت لم تحل؟ قال: «إني قلدت هديي، ولبدت رأسي، فلا أحل حتى أحل من حجتي، وأحلق رأسي» . رواه أحمد، ولو

(3/264)


لم يكن نسكا لم يتوقف الحل عليه، وقد تقدم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا للمقصرين والمحلقين، وفاضل بينهم، فلولا أنه نسك لما استحقوا لأجله الدعاء، ولما فاضل فيه، إذ لا تفاضل في المباح.
(والرواية الثانية) أنه إطلاق محظور كان محرما عليه بالإحرام، فأطلق فيه عند الحل، كاللباس والطيب، قال: «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «بما أهللت؟» . قال: بإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «هل سقت الهدي؟» . قلت: لا. قال: «فطف بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم حل» . فطفت بالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني، وغسلت رأسي. الحديث» ، وقد تقدم، فظاهره أن الحل مرتب على الطواف والسعي، وهو الذي فهمه أبو موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه لم يذكر أنه قصر، ولا أنه حلق.
1718 - «وعن سراقة بن مالك المدلجي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم. فقال: «إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجكم هذا عمرة، فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبالصفا والمروة، فقد حل، إلا من كان معه هدي» . رواه أبو داود، انتهى.

(3/265)


(الأمر الثاني) ظاهر كلام الخرقي أن الحل مرتب على الرمي والحلق أو التقصير، لما تقدم من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «لا أحل حتى أحل من حجتي، وأحلق رأسي» .
1719 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أهل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بالحج، وليس مع أحد منهم هدي غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وطلحة، وقدم علي من اليمن معه هدي، فقال: أهللت بما أهل به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أن يجعلوها عمرة، ويطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي» . مختصر متفق عليه.
1720 - وفي حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «وأمر من لم يكن ساق الهدي أن يطوف ويسعى، ويقصر، ثم يحل» . رواه أبو داود، وأصله في الصحيحين. (وعن أحمد) ، رواية أخرى، أن التحلل يحصل بالرمي وحده، لما تقدم من حديث أبي

(3/266)


موسى، وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: «إذا رميتم الجمرة حل لكم كل شيء» . وحديث سراقة.
(تنبيه) : الخلاف في توقف الحل على الحلق والتقصير مرتب على نسكيته ووجوبه، فإن قيل بذلك توقف الحل عليه، وإلا فلا، هذا مقتضى كلام جماعة، وصرح به بعضهم، وجعل القاضي في تعليقه الروايتين في توقف الحل عليه على القول بنسكيته، ولا نزاع في ذلك، إذ المبيت بمزدلفة ونحو ذلك نسك ولا يتوقف الحل عليه، وهذا - أعني: عدم البناء - إليه ميل أبي محمد في المغني، لأنه صحح القول بأنه نسك، والقول بأن الحل لا يتوقف عليه.
(تنبيه) : ليس عند أحمد فيما علمت قولا يدل على إباحته، حتى يقول إنه إطلاق محظور، بل نصوصه متوافرة على مطلوبيته، وذم تاركه، نعم عنه ما يدل على أنه غير واجب، قال في الذي يصيب أهله في العمرة: الدم كثير. وقال فيمن اعتمر فطاف وسعى ولم يقصر حتى أحرم بالحج: بئس ما صنع، وليس عليه شيء. ومن هذا وشبهه أخذ أنه

(3/267)


إطلاق محظور، ومن هنا يعلم أن جزم القاضي بأنه نسك - يثاب على فعله، ويذم على تركه - وأن حكاية أبي البركات الخلاف في وجوبه، أجود من عبارة غيرهما أنه نسك، أو إطلاق محظور، والله أعلم.

قال: والمرأة تقصر من شعرها مقدار الأنملة.
ش: المشروع في حق المرأة التقصير بالإجماع، حكاه ابن المنذر.
1721 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير» . رواه أبو داود.
1722 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تحلق المرأة رأسها» . رواه الترمذي.

(3/268)


وظاهر كلام الخرقي أن قدر الأنملة واجب، وهو ظاهر كلام أحمد والأصحاب.
1723 - قال أحمد: تقصر من كل قرن قدر الأنملة، وهو قول ابن عمر، وسئل أحمد: تقصر من كل رأسها؟ قال: نعم، تجمع رأسها إلى مقدم رأسها، ثم تأخذ من أطراف رأسها قدر الأنملة. وحمل أبو محمد ذلك على الاستحباب، قال: لأن الأمر به مطلق، وبأي شيء أزال الشعر أجزأه، وكذلك إن أزاله بنورة، أو بنتفه، إذ القصد إزالته، والله أعلم.

[من أركان الحج الطواف بالبيت]
قال: ثم يزور البيت، فيطوف به سبعا. وهو الطواف الواجب، الذي به تمام الحج.
ش: يعني أنه بعد رمي جمرة العقبة، والنحر، والحلق أو التقصير يزور البيت، فيطوف به سبعا، لأن في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد أن ذكر النحر قال: «ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأفاض إلى البيت» . وهذا الطواف هو الذي به تمام الحج بالإجماع، قاله ابن عبد البر، ويشهد له قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] .
1724 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: حججنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(3/269)


فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله إنها حائض، قال: «أحابستنا هي؟» . قالوا: يا رسول الله إنها أفاضت يوم النحر. قال: «اخرجوا» . متفق عليه. فدل على أنه حابس لمن لم يأت به، ولا بد في هذا الطواف من تعيينه بالنية، كما سينص عليه الخرقي، فلو أطلق، أو طاف للوداع لم يجزئه، لأن الأعمال بالنية، وليتميز عن بقية الأطوفة، ويسمى هذا: «طواف الفرض» . لأنه فرض عليه فعله بالحج، «وطواف الزيارة» . لأنه يزور به البيت، و «طواف الإفاضة» . لأنه يفعل بعد الإفاضة من منى، و «طواف الصدر» . لأنه يصدر إليه من منى، وقيل - قال المنذري: وهو المشهور -: إن طواف الصدر هو طواف الوداع، وهو أقرب، إذ الصدر رجوع المسافر من مقصده، والله أعلم.

قال: ثم يصلي ركعتين.
ش: كما تقدم في طواف القدوم. قال: إن كان مفردا أو قارنا، ثم قد حل له كل شيء.
ش: قد تقدم أن القارن والمفرد إذا دخلا مكة يطوفان للقدوم

(3/270)


ثم يسعيان، فإذا طافا، والحال هذه، لم يبق عليهما شيء من أركان الحج، فيحلان إذا الحل كله.
1725 - لحديث ابن عمر الصحيح: «ثم لم يحلل من شيء حرم عليه حتى قضى حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض. فطاف بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم عليه» ، وفعل مثل ما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهدى فساق الهدي من الناس. والله أعلم.

قال: وإن كان متمتعا فيطوف بالبيت [سبعا، وبالصفا والمروة سبعا، كما فعل للعمرة، ثم يعود فيطوف بالبيت] طوافا ينوي به الزيارة، وهو قوله عز وجل: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] .
ش: المتمتع إذا قدم على مكة فإنه يطوف للعمرة ويسعى لها، ثم يحرم بالحج يوم التروية، فيسن في حقه طواف القدوم، لكن على أشهر الروايتين لا يفعله إلا بعد رجوعه من منى، فإذًا يطوف للقدوم، ثم يسعى، ثم يطوف للزيارة، وأشار الخرقي بقوله: وهو قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، إلى آخره، بأن هذا [هو] الطواف المتحتم، المأمور به في كتاب الله عز وجل، بخلاف طواف القدوم.

(3/271)


1726 - واستدل أحمد على ذلك بحديث جابر: أنهم طافوا بعدما رجعوا من منى.
1727 - وبحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «طاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا» . انتهى.
1728 - وقد روى نافع أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان إذا أحرم من مكة لم يطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى. رواه مالك في الموطأ، ولأن طواف القدوم والحال هذه

(3/272)


كتحية المسجد، عند دخول المسجد قبل شروعه في الصلاة.
(والرواية الثانية) عن أحمد: يجوز فعله قبل الرجوع، فيفعله عقب الإحرام. ومنع أبو محمد مسنونية هذا الطواف رأسا، وقال: ولا أعلم أحدا وافق أبا عبد الله على هذا. واعتمد على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل أنه أمر من تمتع في حجة الوداع به، ولا أن الصحابة المتمتعين فعلوه، قال: وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يدل على هذا، لأنها إنما ذكرت طوافا واحدا، وأضافته للحج، وهذا هو طواف الزيارة، وإلا تكون قد أخلت بذكر الركن، وذكرت ما ليس بركن، ثم عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قد قرنت الحج والعمرة بأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم تكن طافت للقدوم، ثم لم ينقل أنها طافت للقدوم، ولا أمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به. انتهى.
والحكم في المكي إذا أحرم [من مكة] والمفرد، والقارن الآفاقيان إذا لم يأتيا مكة قبل يوم النحر، كالحكم في المتمتع على ما سبق، فعلى قول [أبي محمد] هؤلاء كلهم يسعون عقب طواف الإفاضة، ثم يحلون. وقد أشعر كلام الخرقي بأن الحل يتوقف على السعي، ونص عليه أحمد في رواية أبي طالب، في معتمر طاف فواقع أهله قبل أن [يسعى، فسدت عمرته وعليه مكانها، ولو طاف وسعى ثم وطئ قبل أن] يحلق أو يقصر، عليه دم، إنما

(3/273)


العمرة الطواف والسعي والحلاق. انتهى، ولا نزاع في هذا إن قلنا بركينة السعي، (وهو إحدى الروايتين) عن أحمد، واختيار القاضي في التعليق الكبير، أما إن قلنا بسنيته - (وهو الرواية الثانية) - فهل يتوقف الحل عليه؟ فيه وجهان (أحدهما) : نعم، وهو ظاهر كلام أبي البركات (والثاني) وبه قطع في التلخيص: لا، وعلى هذا إن قيل: بوجوبه - كما هو اختيار القاضي في المجرد، وأبي محمد في المغني، وحكاه صاحب التلخيص رواية - فالقياس توقف الحل عليه.
(تنبيه) : الطواف محلل من المحللات، فيحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة، الرمي والحلق والطواف، ويحصل التحلل الثاني بالثالث، هذا إن قلنا: الحلاق نسك، وإلا حصل الأول بواحد من اثنين: الرمي والطواف، ويحصل الثاني بالثاني، صرح به صاحب التلخيص، وقال أبو محمد: إنه مقتضى قول الأصحاب، فكأنه لم ير ذلك مصرحا به، والله أعلم.

قال: ثم يرجع إلى منى.

(3/274)


1729 - ش: في الصحيحين وغيرهما عن نافع، عن ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى، قال نافع: وكان ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، يفيض يوم النحر، ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى، ويذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله» ، والله أعلم.

قال: ولا يبيت بمكة ليالي منى.
ش: ظاهر هذا أن المبيت بمنى لياليها واجب، وهو المشهور، والمختار من الروايتين.
1730 - لما روي عن ابن عباس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «استأذن العباس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيت بمكة ليالي منى، من أجل سقايته، فأذن له» ، متفق عليه. فظاهر هذا أن غيره كان ممنوعا من ذلك.
1731 - وقد روي: «لم يرخص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأحد يبيت بمكة إلا للعباس من أجل سقايته» . رواه ابن ماجه، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بات بها، وقال: «خذوا عني مناسككم» .

(3/275)


1732 - وقال مالك في الموطأ: زعموا أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يبعث رجالا يدخلون الناس من وراء العقبة.
(والرواية الثانية) : يسن ولا يجب، لأنه قد حل من حجه، فلا يجب عليه المبيت بموضع معين، كليلة الحصبة.
1733 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت. انتهى ويجب الليالي الثلاث إن لم يرد التعجل، وإن أراد فليلتان، والله أعلم.

قال: فإذا كان من الغد وزالت الشمس رمى الجمرة الأولى بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عندها ويدعو فيطيل، ثم يرمي الوسطى بسبع حصيات يكبر أيضا

(3/276)


ويدعو، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات، ولا يقف عندها.
ش: الجمرة الأولى هي أبعد الجمرات من مكة، وتلي مسجد الخيف، فإذا كان غداة يوم النحر، بدأ بها فرماها بسبع [حصيات] .
1734 - «لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو، ويرفع يديه، ويقوم طويلا، [ثم يرمي الجمرة الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلا] ، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة، من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ويقول: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله» .
وهذا الترتيب شرط، فلو بدأ بجمرة العقبة، أو الوسطى لم يجزئه، على المنصوص والمختار من الروايتين أو الروايات، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رتبها، وفعله خرج بيانا لصفة الرمي المشروع.
1735 - لا سيما وقد عضده ما روى جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرمي على راحلته يوم النحر ويقول لنا: «خذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد

(3/277)


حجتي هذه» . رواه مسلم وغيره، وهذا أمر بالاقتداء به، فإن فعله ورد بيانا لمجملات الحج، والأشهر في الرواية: يقول لنا: بلام مفتوحة وبالنون، وروي: «لتأخذوا» ، بكسر اللام للأمر، وبالتاء باثنين من فوق، وهي لغة.
(والثانية) يجزئه. قال في رواية محمد بن يحيى الكحال - فيمن رمى جمرة قبل جمرة: أرجو أن لا يكون عليه شيء.
1736 - وذلك لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من قدم نسكا بين يدي نسك فلا حرج» . وحكى أبو البركات الرواية بالإجزاء مع الجهل. وشرط صحة الرمي في الجميع أن يكون بعد الزوال، على المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين.
1737 - لما «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرمي يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس» . رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.

(3/278)


1738 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرمي الجمار إذا زالت الشمس» . رواه الترمذي، وفعله خرج بيانا كما تقدم، وقد فهمت هذا الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.
1739 - قال وبرة بن عبد الرحمن السلمي: سألت ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارمه.
فأعدت عليه المسألة فقال: كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا. رواه البخاري وغيره.
(والرواية الثانية) : إن رمى في اليوم الآخر قبل الزوال أجزأه ولا ينفر إلا بعد الزوال.
(والثالثة) : كالثانية، إلا أنه إن نفر قبل الزوال لا شيء عليه. قال في رواية ابن منصور: إذا رمى عند طلوع الشمس في النفر الأول ثم نفر، كأنه لم ير عليه دما.
واختلف في عدد الحصا، فعنه: لا بد من سبع. كما قال الخرقي، اتباعا لفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه قد ثبت ذلك عنه من حديث ابن عمر المتقدم، ومن حديث ابن مسعود، وعائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وفعله خرج بيانا كما تقدم.

(3/279)


1740 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الاستجمار تو، ورمي الجمار تو، والسعي بين الصفا والمروة تو، وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو» . [رواه مسلم وغيره] والتو: الوتر. (وعنه) تجزئ الست، ولا يجزئ ما دونها.
1741 - لما «روى سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: رجعنا في الحجة مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبعضنا يقول: رميت بسبع. وبعضنا يقول: رميت بست، فلم يعب بعضهم على بعض» . رواه النسائي وأحمد. وهذا اتفاق منهم على جواز الاكتفاء بالست.
1742 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا أبالي رميت بست أو بسبع. (وعنه) : تجزئ الخمس، إذ الأكثر يعطى حكم

(3/280)


الجميع، وقد ثبت عن الصحابة التساهل في البعض. ويسن أن يكبر مع كل حصاة، لما تقدم من حديث جابر، وابن عمر، وابن مسعود، ويقف يدعو، ويطيل في الجمرتين الأوليين، ولا يقف في جمرة العقبة، لما تقدم من حديث ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والخرقي قال: يقف عندها. ولعله يريد قريبا منها، إذ السنة التقدم كما في الحديث، والله أعلم.

قال: ويفعل في اليوم الثاني كما فعل بالأمس.
1743 - ش: لا نزاع في ذلك، وعلى ذلك فعل الخلف، اقتداء بالسلف، وقد قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أفاض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آخر يوم النحر حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية، فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها» . رواه أبو داود، والله أعلم.

(3/281)


قال: فإن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل المغرب.
ش: أيام منى وأيام التشريق: ثلاثة أيام بعد النحر، فمن أحب أن يتعجل في يومين منها خرج قبل المغرب، لقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] الآية، والتخيير هنا، والله أعلم، نظرا لجواز الأمرين، وإن كان التأخر أفضل، وكلام الخرقي وعامة الأصحاب يشمل مريد الإقامة بمكة، وكذلك عموم الآية الكريمة.
1744 - وعن يحيى بن يعمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه» . مختصر، رواه أبو داود وغيره. (وعن أحمد) : لا يعجبني لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة.
1745 - وذلك لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من شاء من الناس كلهم أن ينفر في الأول، إلا آل خزيمة، فلا ينفروا إلا في النفر الأخير، فجعل [أحمد وإسحاق معنى قول عمر رضي

(3/282)


الله عنه: إلا آل خزيمة. أي أنهم أهل حرم، وحمل أبو محمد] هذا على الاستحباب، محافظة على العموم، والله أعلم.

قال: فإذا غربت الشمس، وهو بها، لم يخرج حتى يرمي في غد بعد الزوال، كما رمى بالأمس.
ش: شرط جواز التعجل في اليومين أن ينفر قبل غروب الشمس، فلو أقام حتى غربت الشمس، لزمه المبيت والرمي من الغد، لأن الله سبحانه وتعالى جعل التعجل في اليوم، [وكذلك المبين] لكلامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واليوم اسم للنهار، فمن غربت الشمس عليه خرج عن أن يكون في اليوم، فهو ممن تأخر.
1746 - وعن نافع أن ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، كان يقول: من غربت له الشمس من أوسط أيام التشريق وهو بمنى، فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد. رواه مالك في الموطأ.

(3/283)


وقول الخرقي: حتى يرمي في غد بعد الزوال، يحترز به عن [مذهب] الحنفية من أنه يجوز في هذا اليوم الرمي قبل الزوال، وهي رواية مرجوحة قد تقدمت، والله أعلم.

قال: ويستحب أن لا يدع الصلاة في مسجد منى مع الإمام.
ش: يعني مسجد الخيف، تأسيا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1747 - «قال عبد الله بن مسعود: صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى ركعتين، ومع أبي بكر، وعمر، وعثمان، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ركعتين، صدرا من خلافته» . وهذا إن لم يمنع [مانع، فإن منع مانع] من فسق أو غيره [صلى] في رحله، والله أعلم.

قال: ويكبر في دبر كل صلاة، من صلاة الظهر يوم النحر، إلى آخر أيام التشريق.
ش: قد تقدم الكلام في التكبير في عيد النحر، وفي صفته، ومحله ووقته، وأن المحل يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة، وأما المحرم فيكبر من صلاة الظهر يوم النحر، لأنه قبل ذلك مشتغل بالتلبية حتى يرمي جمرة العقبة، وليس بعد جمرة العقبة صلاة يكبر فيها إلا الظهر، فلو رمى جمرة العقبة قبل

(3/284)


الفجر - إذ وقتها يدخل بانتصاف ليلة النحر، على المشهور من الروايتين - فعموم كلام أصحابنا يقتضي أنه: لا فرق، حملا على الغالب، ويؤيد هذا أنه لو أخر الرمي إلى بعد صلاة الظهر فإنه يجتمع في حقه التكبير والتلبية، ومنصوص أحمد في رواية ابنه عبد الله أنه يبدأ بالتكبير ثم يلبي، إذ التلبية قد خرج وقتها المستحب، وهو الرمي ضحى، فبذلك قدم التكبير عليها، والله أعلم.

[طواف الوداع]
قال: فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت، يطوف به سبعا، ويصلي ركعتين.
1748 - ش: لما «روي عن ابن عباس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» . رواه أحمد ومسلم، وليس بركن اتفاقا، بل واجب، يجبر بالدم، لهذا الحديث، هذا المشهور والمعروف عند الأصحاب.
وقال أحمد - في رواية ابن إبراهيم -: إذا نسي طواف الزيارة، فطاف للصدر لا يجزئه، وكيف يجزئه التطوع عن الفريضة، وكذلك نقل المروذي، وظاهر هذا أنه سنة لا واجب. إلا أن يقال: أطلق على الواجب تطوعا حيث قابله بالركن، إذ واجبات الحج تترك،

(3/285)


وتصح العبادة بدونها، فلها شبه بالتطوع.
وقول الخرقي: لم يخرج. يقتضي أنه لو أراد المقام بمكة لا وداع عليه، وهو كذلك، سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده. وقوله: لم يخرج. ظاهره أنه لو خرج ولو إلى دون مسافة القصر أنه يلزمه الطواف، وهو ظاهر إطلاق الحديث، والمراد بالخروج: الخروج عن الحرم. ويجزئه طواف الزيارة إذا طافه عند الخروج عن طواف الوداع، في أشهر الروايتين لأنه حصل آخر عهده بالبيت طواف، والله أعلم.

قال: إذا فرغ من جميع أموره، حتى يكون آخر عهده بالبيت.
ش: يعني أن هذا الطواف يكون في وقت فراغه من جميع أموره، كي يكون آخر عهده بالبيت، اتباعا لنص حديث ابن عباس، والله أعلم.

قال: فإن ودع واشتغل في تجارة عاد فودع ثم رحل.
ش: يعني يتفرع على ما تقدم أنه لو ودع ثم اشتغل في تجارة، أو حاجة، أو عيادة مريض، أنه يعيد الوداع، عملا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حتى يكون آخر عهده بالبيت» . ومن أقام في تجارة أو زيارة لم يكن آخر عهده بالبيت الطواف، وقد بالغ أحمد في ذلك، فقال له أبو داود: إذا ودع البيت ثم نفر

(3/286)


يشتري طعاما يأكله؟ قال: لا، يقولون حتى يجعل الردم وراء ظهره. وقال في رواية أبي طالب: إذا ودع لا يلتفت، فإن التفت رجع حتى يطوف بالبيت، وأبو محمد، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، يجوز شراء اليسير، وقضاء الحاجة في الطريق، لأنه لا يسمى إقامة، والله أعلم.

قال: فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب، وإن أبعد بعث بدم.
ش: نص أحمد، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، على هذا، محافظة على الإتيان بالواجب، إذ القريب في حكم المقيم، أما البعيد فمسافر، مع أن المشقة تلحقه غالبا، بخلاف القريب، ولو تعذر على القريب الرجوع فهو كالعبيد.
1749 - وعن يحيى بن سعيد الأنصاري، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رد رجلا من مر الظهران - لم يكن ودع البيت - حتى ودع، رواه مالك في الموطأ.

(3/287)


ومقتضى كلام الخرقي، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أنه لو رجع القريب لا دم عليه، وهو كذلك، لأنه في حكم المقيم أما البعيد إذا رجع؛ فعن القاضي: لا يسقط عنه الدم، لاستقراره بالبعد، ولأبي محمد احتمال، وحد البعد مسافة القصر، نص عليه أحمد، واعتبرها أبو محمد من مكة، وقد يقال من الحرم، والله أعلم.

قال: والمرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت، ولا وداع عليها ولا فدية.
ش: أما سقوط طواف الوداع عن الحائض فقول العامة.
1750 - لما «روى ابن عباس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض» . متفق عليه.
1751 - وعن نافع، «أن ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت، إلا الحيض، رخص لهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه الترمذي.
1752 - وفي مسلم وغيره «عن عائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: حاضت صفية، قالت عائشة: فذكرت حيضها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال

(3/288)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحابستنا هي؟» . قلت: يا رسول الله إنها قد كانت أفاضت، وطافت بالبيت، ثم حاضت بعد الإفاضة. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فلتنفر» .
أما انتفاء الفدية فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يذكرها في شيء من الأحاديث، ولو وجبت لذكرها، وحكم النفساء حكم الحائض.
(تنبيه) : إذا طهرت الحائض أو النفساء قبل مفارقة البنيان لزمها الرجوع والوداع، فإن لم ترجع ولو لعذر فعليها الدم، ولو كان الطهر بعد مفارقة البنيان فلا رجوع عليها، والله أعلم.

قال: ومن خرج قبل طواف الزيارة رجع من بلده حراما، حتى يطوف بالبيت.
ش: قد تقدم أن طواف الزيارة ركن لا يتم الحج إلا به، فإذا تركه الإنسان، ورجع إلى بلده، فإنه لا بد أن يرجع من بلده، ليأتي بركن الحج، ويرجع حراما عن النساء، إن كان قد رمى جمرة العقبة، وإلا فحراما عن كل شيء كما تقدم، وقد دل على الأصل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصفية: أحابستنا هي؟» . فدل على أن الطواف يحبس صاحبه. والله أعلم.

(3/289)


قال: وإن كان قد طاف للوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة.
ش: لا بد من تعيين النية لطواف الزيارة، فإذا طاف للوداع، أو مطلقا، لم يجزئه عن طواف الزيارة، [نظرا] لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى» . الحديث، وهذا لم ينو طواف الزيارة، فلا يكون له، ونبه بهذا على مذهب مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، في أنه يجزئه ذلك، والله أعلم.
قال: وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد.
ش: هذا هو المذهب المختار للأصحاب، والمشهور عن أحمد في الروايتين، حتى إن القاضي في تعليقه لم يذكر غيره، ورواه عن أحمد سبعة من أصحابه، وذلك لما تقدم من أن الصحيح أن النبي

(3/290)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان نسكه القرآن، والخصم يسلم ذلك، ولم ينقل عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه طاف إلا طوافا واحدا.
1753 - كما صرح به جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرن الحج والعمرة، وطاف لهما طوافا واحدا» . رواه الترمذي والنسائي.
1754 - وعنه أيضا قال: «لم يطف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا، طوافه الأول» . رواه الجماعة إلا البخاري.
1755 - وروى عبد الله بن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما، حتى يحل منهما جميعا» . رواه الترمذي وهذا لفظه، والنسائي وقال: «إن ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قرن الحج والعمرة، فطاف لهما طوافا واحدا، وقال: هكذا رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله» .

(3/291)


1756 - وفي الصحيحين أيضا معنى هذا عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، في حديث طويل، لما حج حين نزل الحجاج لقتال ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
1757 - وعن عائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، في حديثها الصحيح - وسيأتي إن شاء الله تعالى - قالت: «وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا» .
1758 - ولمسلم في هذا الحديث: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» .
1759 - ولأبي داود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة، يكفيك لحجك وعمرتك» . لا يقال: الطواف اسم جنس مضاف لها، فيشمل كل طواف صدر منها، لأنا نقول: طواف. يقتضي ما يقع عليه اسم الطواف، وهو

(3/292)


يصدق بواحد، كذا أجاب القاضي، وفيه شيء، إذ لا يظهر لي فرق بين [طوافك] وعبدك، ونحوه، وهو وإن صدق بواحد، لكن لا يدل على تعيين الواحد، وإنما الجواب: أن المعلوم من قصتها أنها طافت طوافا واحدا، والخصم يسلم ذلك، لأن عنده أن أمرها آل إلى الإفراد، ثم لو لم يكن كذلك لم يكن [في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» .
فائدة، إذ لا يتوهم أن في القران ثلاثة أطواف، ولأنهما عبادتان [من جنس واحد] فإذا اجتمعا دخلت الصغرى في الكبرى كالطهارتين.
(والرواية الثانية) : يلزمه طواف وسعي للعمرة، وطواف وسعي للحج، لا يدخل أحدهما في الآخر، حكاها جماعة، وهي نظير الرواية المذكورة في الوضوء والقاضي جعل في التعليق بدل هذه الرواية رواية أن عمرة القران لا تجزئ عن عمرة الإسلام، (وبالجملة) قد استدل لهذه الرواية بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، وإتمامها أن يأتي بأفعالها على الكمال.

(3/293)


1760 - وبأنه قد روي «عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه طاف طوافين، وسعى سعيين» من رواية علي، وابن مسعود، وابن عمر، وعمران بن حصين، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
1761 - وروي عنه أيضا أنه قال: «من جمع بين الحج والعمرة فعليه طوافان» .
1762 - وأجيب عن الآية بأن الإتمام أن يحرم بهما من دويرة أهله، كما

(3/294)


قال عمر وعلي، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، على أنا نقول بموجبه، لأنا نقول: إذا طاف وسعى لهما فقد أتمهما، وعن الأحاديث بضعفها، قال الحافظ المنذري: ليس فيها شيء يثبت. وينبني على الخلاف إذا قتل القارن صيدا أو أفسد نسكه، فالمنصوص جزاء واحد للصيد، وبدنة للوطء، وخرج جزاآن للصيد، وبدنة وشاة، كما لو فعل ذلك في كل من النسكين.
(تنبيه) : لا نزاع في اتحاد الإحرام والحلق، والله أعلم.

قال: إلا أن عليه دما، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، يكون آخرها يوم عرفة، وسبعة إذا رجع إلى أهله.
ش: هذا استثناء منقطع، لأن الدم ليس من عمل القارن، فالتقدير: لكن عليه دم. أو التقدير: ليس في عمل القارن، ولا في حكمه زيادة على عمل المفرد، ولا في حكمه، إلا أن عليه دما. وبالجملة وجوب الدم قول الجمهور، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] الآية، وقد تقدم أن القارن يدخل في ذلك.
1763 - ويؤيد ذلك ما «قال سعيد بن المسيب قال: اجتمع علي وعثمان بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال له

(3/295)


علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنهى الناس عنه. فقال له عثمان: دعنا. قال: إني لا أستطيع أن أدعك. فلما رأى ذلك أهل بهما جميعا» ، متفق عليه، وفي رواية: لما رأى ذلك عليٌّ أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة. ففهم عليٌّ دخول القران في لفظ التمتع، ففعله ليعلم الناس أنه غير منهي عنه.
1764 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بقرة يوم النحر» . رواه مسلم. وقد تقدم أنها كانت قارنة، ولأنه ترفه بأحد السفرين، فلزمه دم كالمتمتع. وإذا لم يجد الهدي صام على الصفة المذكورة كالمتمتع، وسيأتي [ذلك] إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

[دم التمتع وصيامه]
قال: ومن اعتمر في أشهر الحج، فطاف وسعى وحل، ثم أحرم بالحج من عامه، ولم يكن خرج من مكة إلى ما تقصر فيه الصلاة، فهو متمتع، وعليه دم.
ش: وجوب الدم على المتمتع في الجملة إجماع، وقد شهد له الآية الكريمة: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، أي: فعليه، أو فالواجب: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] .

(3/296)


1765 - وفي مسلم وغيره عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنا نتمتع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرة فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها» .
ويشترط لذلك شروط: (أحدها) أن يعتمر في أشهر الحج، فلو اعتمر بها في غير أشهره، لم يكن متمتعا، لأن قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، أي: أوصل ذلك بالحج، وهذا إنما يكون إذا كان في أشهر الحج، والاعتبار عندنا بالشهر الذي أحرم فيه، لا بالشهر الذي حل فيه، فلو أحرم بالعمرة في رمضان، ثم حل في شوال لم يكن متمتعا، نص عليه أحمد في رواية جماعة.
1766 - ويروى ذلك عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعليه اعتمد أحمد، - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
(الشرط الثاني) أن يحل من عمرته ثم يحرم بالحج، فلو أدخل الحج على العمرة قبل طوافها صار قارنا، إذ أحد نوعي القران أن يدخل الحج على العمرة.

(3/297)


1767 - كما صنع ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عام حجة الحرورية، وقال: هكذا صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد تقدم.
(الثالث) أن يحج من عامه، لظاهر الآية الكريمة، مع أن هذا كالإجماع.
(الرابع) أن لا يخرج من مكة إلى ما تقصر فيه الصلاة، فإن خرج إلى ما تقصر فيه الصلاة لم يكن متمتعا، نص عليه أحمد، إلا أن لفظه: إن خرج من الحرم سفرا تقصر في مثله الصلاة، ثم رجع فحج، فليس بمتمتع. وبينه وبين كلام الخرقي فرق، إذ الخرقي اعتبر الخروج من مكة، وأحمد اعتبر الخروج من الحرم.
1768 - وبالجملة: العمدة في ذلك ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا اعتمر في أشهر الحج فهو متمتع، فإن خرج ورجع فليس بمتمتع. وعن ابنه نحو ذلك، رواه أبو حفص، وهذه الشروط الأربعة لا أعلم فيها خلافا بين الأصحاب.
ويشترط أيضا (شرط خامس) : لا نزاع فيه بينهم وهو أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، إلى قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ، أي: (ذلك)

(3/298)


الحكم - وهو وجوب الدم - (لمن لم يكن أهله) من (حاضري المسجد الحرام) ، أي: ثابت، (لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) ، وهذا أجود من جعل اللام بمعنى (على) ، أي: ذلك الواجب على من لم يكن أهله حاضري، كما في قَوْله تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] ، إذ هذا [مجاز] للمقابلة، ومهما أمكن استعمال اللفظ في موضوعه الأصلي فهو أولى، لا يقال: (ذلك) إشارة إلى قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، أي: هذا التمتع، (لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) فيخرج المكي، لأنا نقول: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} [البقرة: 196] شرط، و {فَمَا اسْتَيْسَرَ} [البقرة: 196] جزاء، و {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ} [البقرة: 196] استثناء، [والاستثناء] يرجع إلى الجزاء دون الشرط، كقول القائل: من دخل داري فأعطه درهما، إلا أن يكون أعجميا. انتهى، وهذا الشرط يعم المتمتع والقارن.
(تنبيه) : إلا حاضري المسجد الحرام المقيم بالحرم، سواء كان من أهله أو داخلا إليه، فلو دخل الآفاقي بعمرة

(3/299)


في غير أشهر الحج، ثم أقام بمكة، فاعتمر في أشهر الحج، وحج من عامه فهو متمتع، نص عليه، وبالغ القاضي فقال: في الآفاقي: إذا تجاوز الميقات إلى أن بقي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، فلا دم عليه، لأنه من حاضريه. وخالفه أبو محمد، لأن الحضور بالإقامة. انتهى.
واختلف في ثلاثة شرائط، (أحدها) : هل يشترط أن لا يحرم من الميقات، فإن أحرم منه فليس بمتمتع؟ وفيه روايتان، أنصهما - وبه جزم أبو البركات - الاشتراط، قال أحمد في رواية يوسف بن موسى، وأحمد بن الحسن: إذا أقام فأنشأ الحج من مكة فهو متمتع، فإن خرج إلى الميقات فأحرم

(3/300)


بالحج فليس بمتمتع، وذلك لأنه لم يترفه بترك أحد الميقاتين، فلم يلزمه الدم، كما لو لم يحج من عامه.
(والثانية) : لا يشترط ذلك، إنما المشترط مفارقة الحرم بمسافة القصر، قال أحمد - في رواية حرب في من أحرم بعمرة في أشهر الحج - فهو متمتع إذا أقام حتى يحج، فإن خرج من الحرم سفرا تقصر في مثله الصلاة، ثم رجع فحج فليس بمتمتع، وهذا اختيار القاضي في تعليقه، وبالغ فحمل الأولى على أن بين الميقات وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة، ولا يعرف أبو محمد غير هذا، نظرا إلى أن القريب في حكم الحاضر، ويظهر أثر هذا الشرط في «قرن» ميقات أهل نجد، فإنه [على] يوم وليلة من مكة، أما ما عداه فإن بينها وبين مكة مسافة القصر فأزيد، فلا حاجة إلى هذا الشرط فيها.:
(الثاني) هل تشترط النية في ابتداء العمرة أو أثنائها؟ فيه وجهان، والاشتراط اختيار القاضي وأبي الخطاب، وصاحب التلخيص، وعدمه هو اختيار أبي محمد.
(الثالث) هل يشترط أن يكون النسكان عن رجل واحد، فلو كانا عن شخصين فلا تمتع؟ اشترط ذلك صاحب التلخيص، قال: لأنه لا يختلف أصحابنا أنه لا بد للإحرام بالنسك الثاني من

(3/301)


الميقات، إذا كان عن غير الأول، يعني: والإحرام من الميقات يسقط التمتع، ولم يشترط ذلك الشيخان، وأبو محمد يخالف صاحب التلخيص في الأصلين اللذين بني عليهما كما عرفت، أما أبو البركات فيوافقه في الأصل الثاني، فظاهر كلامه مخالفته في الأول، وإذا يزول البناء.
(تنبيه) : هذه الشروط كلها للتمتع الموجب للدم، لا للتمتع المطلق كما تقدم التنبيه عليه، والله أعلم.

قال: فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، آخرها يوم عرفة، وسبعة إذا رجع.
ش: أي إذا لم يجد الدم صام ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة، وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله، لقوله سبحانه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] ،

(3/302)


ويعتبر الوجدان بالموضع الذي هو فيه، دون بلده، ولا ريب في وجوب الصوم على العادم للهدي في الجملة. والكلام فيه في ثلاثة أشياء؛ في وقت وجوبه، ووقت استحبابه، ووقت جوازه، فأما وقت الوجوب فهو وقت وجوب الهدي، لأنه بدل عنه، قاله القاضي وأبو محمد، وقد سئل أحمد في رواية ابن القاسم: متى يجب صيام المتعة؟ فقال: إذا عقد الإحرام، قال القاضي في التعليق: أي إن عقده سبب للوجوب، لأن الوجوب يتعلق به، وهذا التأويل بعيد، لتصريح السائل بالوجوب، ووقت وجوب الهدي عند القاضي في تعليقه، ومن تابعه - كصاحب التلخيص وغيره - بطلوع فجر يوم النحر، واعتمد القاضي على قول أحمد في رواية المروذي، وقيل له: متى يجب على المتمتع الدم؟ قال: إذا وقف بعرفة. قال القاضي: معناه إذا مضى وقت الوقوف. وأجرى أبو محمد الرواية على ظاهرها، فحكى الرواية أنه يجب بالوقوف، وقال: إنها اختيار القاضي، ولعله في المجرد.
وحكى أبو محمد وغيره رواية أخرى أنه يجب بالإحرام بالحج، ولعلهم أخذوه من رواية ابن القاسم التي أولها القاضي، وهي محتملة، إذ الإحرام يحتمل إحرام الحج وإحرام العمرة، ويتلخص على هذا أربعة أقوال، ومدركها - والله أعلم - أن قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ} [البقرة: 196] ، أي: فمن تمتع بالعمرة قاصدا إلى الحج، أو: فمن

(3/303)


تمتع بالعمرة موصلا بها إلى الحج. وذلك إنما يكون بالإحرام بالحج، وهذا أظهر، أو أن الحج إنما يتحقق بالحصول بعرفة، إذ هو الركن الأعظم، وقبل ذلك هو معرض للفوات، أو أن وقت نحر الهدي هو يوم النحر، فلا يجب قبله، لعدم قدرته على الفعل، وعلله القاضي بأن الهدي من جنس ما يحصل به التحلل، فكان وقته بعد وقت الوقوف، كالطواف والحلق، وفي كلا التعليلين نظر.
(تنبيه) : على كل الأقوال لا ينحر إلا يوم النحر، على ظاهر إطلاق أحمد في رواية ابن منصور، واختيار الجمهور، والمنصوص عنه في رواية أبي طالب وغيره أنه إن قدم [في] العشر فكذلك، اتباعا لفعل الصحابة، وقبله ينحر حذارا من ضياع الهدي أو تلفه، انتهى.
وأما وقت الاستحباب (ففي الثلاثة) يكون آخرها يوم عرفة، كما ذكره الخرقي، ونص عليه أحمد في رواية الأثرم، وأبي طالب، واختاره القاضي في تعليقه، وأبو محمد وغيرهما، فيصوم السابع، والثامن، والتاسع، وفي المجرد: ويكون

(3/304)


آخرها يوم التروية، فيصوم السادس، والسابع، والثامن، حذارا من صوم يوم عرفة، والأولون قالوا: يوم فاضل، فكان أولى بصوم الواجب، وحذارا من تقديم الإحرام، فعلى الأول قال أبو محمد: يقدم الإحرام على يوم التروية، فيحرم يوم السابع، وعلى ما في المجرد يحرم يوم السادس، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، أي: بعد الإحرام بالحج، وخروجا من الخلاف، (وفي السبعة) إذا رجع إلى أهله، للآية الكريمة.
1769 - وفي حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتفق عليه: «فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله» . وأما وقت الجواز (ففي الثلاثة) إذا أحرم بالعمرة، على المختار للأصحاب، إناطة [للحكم] بالسبب، كالتكفير قبل الحنث ونحوه، وقد أشار أحمد إلى هذا، قال: إذا عقد الإحرام فصام، أجزأه إذا كان في أشهر الحج، وهذا قد يدخل على من قال: لا تجزئ الكفارة إلا بعد الحنث، ولعل هذا ينصرف فلا يحج. انتهى.
ومن هذا أخذ القاضي هذا الحكم، وقال: قوله: عقد الإحرام. أي إحرام العمرة

(3/305)


قال: لتشبيهه بالكفارة، وإنما يقع التشبيه إذا كان صومه قبل الإحرام بالحج، لأنه وجد أحد السببين، قال: ولأنه قال: إذا عقد الإحرام في أشهر الحج، وهذا إنما يقال في إحرام العمرة، ليوجد شرط التمتع، انتهى.
(وعن أحمد رواية ثانية) حكاها أبو محمد: وقت الجواز إذا حل من العمرة. ليتحقق وجود السبب (وحكى بعضهم رواية ثالثة) : يجوز تقديم الصوم على إحرام العمرة، قال أبو محمد: وليست بشيء، لما فيه من تقديم الصوم على سببه ووجوبه، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينزه عن هذا. انتهى.
وكأن هذه الرواية أخذت من قول أحمد في رواية الأثرم في قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] : يجعل آخرها يوم عرفة، ولا يبالي أن يقدم أولها، بعد أن يصومها في أشهر الحج، وإن صامها قبل أن يحرم فجائز، انتهى، فجعل أشهر الحج ظرفا وقال: قبل أن يحرم. وأطلق، والقاضي قال: أراد قبل أن يحرم بالحج. وقد أورد على هذا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] فظاهره أن الصوم إنما يكون بعد أن يصل العمرة بالحج، وذلك إنما يكون بالإحرام بالحج،

(3/306)


وقد أكد سبحانه هذا المعنى بقوله: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، جعل الحج ظرفا للصوم، وإنما يكون ذلك بعد الإحرام به (وأجيب) بأن المحرم بالعمرة وهو يريد الحج يصير متمتعا، بدليل لو ساق هديا كان هدي متعة، فإذا معنى الآية الكريمة، والله أعلم: فمن تمتع بالعمرة مريدا إيصالها بالحج، وأما الأمر بالصوم فلا بد فيه من تقدير، إذ نفس الحج لا يصام فيه، فالخصم يقدر: في إحرام الحج. ونحن نقدر: في وقت الحج. وهو أولى، لأن الوقت ظرف للفعل حقيقة، والإحرام ليس بظرف له حقيقة، مع أنا نقول بموجب تقدير الخصم، والآية إذا إنما دلت على الوجوب حالة الإحرام بالحج، ونحن نلتزمه.
قال أحمد في رواية ابن القاسم وسندي - وسئل عن صيام المتعة: متى يجب؟ قال -: إذا عقد الإحرام. والكلام هنا في الجواز. انتهى.
ووقت الجواز في السبعة بعد الفراغ من الحج، هذا قول القاضي، وحكى أبو محمد: بعد أيام التشريق. وهما

(3/307)


متقاربان، وقد قال أحمد في رواية أبي طالب: إن قدر على الهدي، وإلا يصوم بعد الأيام، قيل له: بمكة أم في الطريق؟ قال: كيف شاء. ومراده بالأيام - والله أعلم: أيام التشريق، وذلك لأنه متمتع صام بعد الفراغ من النسك، في وقت يصح فيه الصوم، فوجب أن يجزئه إذا لم يكن معه هدي، كما لو رجع إلى وطنه. وأما قَوْله تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] ، فيحتمل: إذا رجعتم من الحج. أي: رجعتم إلى ما كنتم عليه من الحل، وعلى هذا فحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السابق بين الاستحباب، والآية بينت الجواز، ويحتمل أن المراد بالرجوع في الآية الرجوع إلى الأهل كالحديث، ولا ينافي ذلك مدعانا، لأن معنى الآية إذا: وسبعة في وقت رجوعكم إلى أهليكم، وبالفراغ من الحج غالبا يشرع في الرجوع إلى الأهل فيجوز الصوم، ولو سلم أن المراد بالرجوع إلى الأهل الحصول في الأهل فذلك رخصة من الشارع، تخفيفا على المكلف ورفقا به، ولا إشكال في مطلوبية ذلك، ويجوز معه الأخذ بالعزيمة والفعل وقت الوجوب.
(تنبيه) : هنا سؤالات (أحدها) كيف جاز تقديم الصوم قبل وجوبه؟ وجوابه أنه كتقديم الزكاة والكفارة ونحوهما،

(3/308)


مما يقدم بعد سببه، وقبل وجوبه.
(ثانيها) أن الصوم بدل عن الهدي ولا ينتقل إلى البدل إلا عند العجز عن المبدل، ولا يتحقق العجز إلا في وقت الوجوب ووقت الوجوب عندهم على المشهور يوم النحر؟ وجوابه أنا اكتفينا بالعجز الظاهر، إذ الأصل استمراره.
(وثالثها) أن وقت الوجوب على زعمهم يدخل بيوم النحر، ولا يجوز الصوم إذا، بل ولا يصح، وإذا فعله بعد، فعله قضاء كما صرح به القاضي وغيره، فهذا واجب ليس له وقت أداء أصلا، وإنما يفعل قبل وقته على سبيل التعجيل، وأبلغ من هذا أنه لو لم يعجل وأخر إلى وقت الوجوب وجب عليه دم على رواية، ولا يعرف لهذا نظير إلا أن يقال: الحائض يتعلق بها وجوب الصوم، ولا يتصور في حقها، وكذلك من أدرك من الوقت قدر تكبيرة، لأنا نقول ثم: الفعل له وقت إذا في الجملة، وإن تعذر في فرد. ولو قيل: إن الوجوب بالإحرام بالحج، كما هو ظاهر كلام أحمد، بل ليس في كلامه ما يدل على خلافه، لسلمنا من هذه الإيرادات أو غالبها، والله أعلم.

(3/309)


قال: فإن لم يصم قبل يوم النحر صام أيام منى، في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والرواية الأخرى: لا يصوم أيام منى، ويصوم بعد ذلك عشرة أيام، وعليه دم.
ش: أيام منى أيام التشريق، وقد تقدم كلام الخرقي في أنه هل يصومها عن الفرض أو لا؟ وتقدم الكلام عليه، فلا حاجة إلى إعادته. لكن هنا شيء آخر، وهو أنه إذا أخر صوم الثلاثة عن يوم النحر، وعن أيام منى، لمنعه من الصوم فيها أو مطلقا، فإنه يقضيها فيما بعد، لأنه واجب، فلا يسقط [بخروج] وقته، كصوم رمضان، وبناء على أصلنا، وهو أن القضاء بالأمر الأول لا بأمر جديد. (وهل عليه دم) والحال هذه؟ فيه ثلاث روايات (إحداها) نعم، اختارها الخرقي، ونص عليها أحمد.
1770 - معتمدا على [أن] هذا قول ابن عباس ولأنه أخر واجبا من مناسك الحج عن وقته، فلزمه دم [كرمي الجمار] (والثانية) لا دم عليه، وهي التي نص عليها القاضي في تعليقه، ونص عليها أحمد في الهدي إذا أخره، وذلك لأنه أخره إلى وقت

(3/310)


جواز فعله، فلم يجب به دم، كما لو أخر الوقوف إلى الليل ونحوه، (والثالثة) يجب الدم إلا مع العذر، حملا عليه، نص عليها أحمد في الهدي أيضا إذا أخره، ويحكى هذا عن القاضي في المجرد، وصرح في التعليق بأن المذهب عدم التفرقة، وقد علمت أن المنصوص في الصوم وجوب الدم، وفي الهدي عدم الوجوب، والوجوب مع انتفاء العذر، فحصل من المجموع ثلاث روايات في المسألتين.
والخرقي، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، خص وجوب الدم بما بعد أيام منى، فمقتضاه أنه لو صام أيام منى لا دم عليه، ويقرب منه كلام القاضي، قال: إذا لم يصم قبل يوم النحر صامها قضاء، وهل عليه دم لتأخيرها عن أيام الحج؟ انتهى، وأيام منى هي أيام الحج، والله أعلم.

قال: ومن دخل في الصوم ثم قدر على الهدي، لم يكن عليه أن يخرج من الصوم إلى الهدي إلا أن يشاء.
ش: لأنه تلبس بالصوم، فلم يلزمه الانتقال إلى الهدي، كما إذا دخل في صوم السبعة فإنه اتفاق، ودعوى الخصم بأن الهدي بدل عن الثلاثة لا السبعة، فإذا وجد الهدي في الثلاثة بطل حكمها، للقدرة على المبدل، لا نسلم، بل نقول: الهدي بدل عن الجميع وهو ظاهر الآية الكريمة:

(3/311)


{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] ، [والمعطوف والمعطوف عليه في حكم الشيء الواحد، ويرجح هذا قوله سبحانه] : {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] . ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا قدر على الهدي قبل الشروع في الصوم أنه يلزمه الانتقال إليه، وهو إحدى الروايتين، ومبنى الخلاف على ما قال في التلخيص: هل الاعتبار في الكفارات بحال الوجوب، أو بأغلظ الأحوال؟ فيه روايتان مشهورتان، تأتيان إن شاء الله تعالى في محلهما، والله أعلم.

قال: والمرأة إذا دخلت متمتعة فحاضت، وخشيت فوات الحج أهلت بالحج، وكانت قارنة.
ش: إذا دخلت المرأة متمتعة وحاضت ولم تطف، فإنها ممنوعة من الطواف كما تقدم، ولا يمكن أن تحل من عمرتها إلا به، فحينئذ إن خشيت فوات الحج، بأن كان ذلك قريب وقت الوقوف، وخشيت أنها إن بقيت في عمرتها فاتها الحج، فإنها تحرم بالحج، وتصير قارنة، لتأمن بذلك الفوات، إذ إدخال الحج على العمرة مع الأمن جائز، فكيف مع عدمه.

(3/312)


1771 - وقد وقع هذا «لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، موافين هلال ذي الحجة، فلما كان بذي الحليفة قال: «من شاء أن يهل بحجة فليهل، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل، وإني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة» . قالت: فكنت فيمن أهل بعمرة، فلما كان في بعض الطريق حضت، فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أبكي، فقال: «ما يبكيك؟» . قلت: وددت أني لم أكن خرجت العام. فقال: «ارفضي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج» . فلما كان ليلة الصدر أمر - تعني: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الرحمن فذهب بها إلى التنعيم، فأهلت بعمرة مكان عمرتها، فطافت بالبيت، رواه الشيخان وغيرهما بألفاظ مختلفة.
1772 - ولمسلم في رواية: قال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» .
1773 - ولأبي داود: قال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طوافك بالبيت، وبين الصفا والمروة، يكفيك لحجك وعمرتك» . وإنما يسعها أو يكفيها طوافها لحجها وعمرتها إذا حصلا لها.
1774 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حديث له قال: «وأقبلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مهلة بعمرة، حتى إذا كانت بسرف عركت. وذكر

(3/313)


الحديث إلى أن قال: ثم دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فوجدها تبكي، فقال: «ما شأنك؟» . قالت: شأني أني قد حضت، وقد أحل الناس ولم أحل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، قال: «إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج» . ففعلت ووقفت المواقف كلها، حتى إذا طهرت طافت بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم قال: «قد حللت من حجك وعمرتك جميعا» . قالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت، قال: «فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم» . وذلك ليلة الحصبة» ، رواه مسلم، والنسائي، وأبو داود وهذا لفظه. وهو صريح في حصول النسكين لها كما قلناه. (وقد اعترض) على حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بأنها إنما كانت مفردة.
1775 - بدليل أن في رواية في الصحيح قالت: «فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أبكي، فقال: «ما يبكيك يا هنتاه؟» . فقلت: سمعت قولك لأصحابك، فمنعت العمرة، قال: «وما شأنك؟» . قلت: لا أصلي. قال: «فلا يضرك، إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب عليك ما كتب عليهن، فكوني في حجك، فعسى الله أن يرزقكيها» . وفي رواية: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا نذكر إلا الحج، [حتى جئنا سرف] فطمثت.

(3/314)


وذكرت القصة، وفيها: قال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «افعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» .
1776 - وأيضا ففي لفظ لمسلم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «فقضى الله حجتنا وعمرتنا، ولم يكن في ذلك هدي، ولا صدقة، ولا صوم» . والقارن على قول العامة لا يخلو من أحدها. (ويجاب) بأنها قد أخبرت عن نفسها كما سبق بأنها كانت ممن أهل بعمرة.
1777 - وكذلك أخبر عنها جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكذلك قول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارفضي العمرة» . ونحو ذلك، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» . يدل على أنها كانت معتمرة، وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «افعلي ما يفعل الحاج» . أي: أنشئ ما ينشئ الحاج من الإهلال به والاغتسال [له، كما جاء مصرحا به، «وأهلي بالحج» . وكذلك يحمل «فكوني في حجك» . أي ادخلي في الحج] ونحو ذلك، إذ هذا ونحوه مما نقل بالمعنى قطعا، فإن الواقعة واحدة، واللفظ واحد، وأما قولها: ولم يكن في ذلك هدي، ولا صدقة، ولا صوم. [فهو نفي،

(3/315)


وقد جاء في مسلم من رواية جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «نحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن عائشة بقرة. يوم النحر» . والمثبت مقدم على النافي، ويحتمل أن تريد: لم يكن في ذلك علي هدي، ولا صوم، ولا صدقة] ويكون الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحمل عنها ذلك، وهو يعلم رضاها بذلك، فلا يحتاج إلى أذنها في التكفير. والنعمان - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: آل أمرها إلى الإفراد، ويوافق [على] أن إحرامها كان بعمرة، ثم لما حاضت أمرها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بترك العمرة، ثم بالإهلال بالحج.
1778 - مستدلا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها: «ارفضي العمرة، وانقضي رأسك وامتشطي» . وفي رواية: «اتركي العمرة» . وفي رواية «دعي العمرة» . وهذه الألفاظ كلها في الصحيح والسنن.
1779 - ويرشح هذا ما في الحديث: فأهلت بعمرة مكان عمرتها، وفي رواية: «أرسلني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت، فقال: «هذه مكان عمرتك» . وفي رواية: «قالت يا رسول الله أترجع صواحبي بحج وعمرة، وأرجع أنا بحج؟ فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الرحمن بن أبي بكر فذهب

(3/316)


بها إلى التنعيم، فلبت بالعمرة» . وقد أجيب عن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها: «انقضي رأسك، وامتشطي» . أن ذلك [يجوز أن] يكون لعذر، كما جوز لكعب بن عجرة الحلق، مع أن المحرم يجوز له نقض الشعر، والامتشاط غايته أن يكون برفق، حذارا من نتف الشعر، وإنما قال ذلك الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هنا لأجل اغتسالها للحج، وأما قوله: «ارفضي العمرة» . ونحو ذلك فحمله الإمام الشافعي وغيره على ترك أفعال العمرة، لا على ترك العمرة رأسا، ليوافق قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قد حللت من حجك وعمرتك» . وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في رواية أبي طالب: إنما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة: «أمسكي عن عمرتك، وامتشطي وأهلي بالحج» . وقال في رواية الميموني وذكر له عن أبي معاوية يرويه: «انقضي عمرتك» . فقال: غير واحد يرويه: «أمسكي عن عمرتك» . أيش معنى: انقضي، هو شيء تنقضه، هو ثوب تلقيه؟ وعجب من أبي معاوية.

(3/317)


وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذه مكان عمرتك» . [أي: مكان عمرتك] التي أحرمت بها مفردة، وقولها: أترجع صواحبي بحج وعمرة. إلى آخره أي بحج، وعمرة مفردة عن الحج، وأرجع بحج اندرجت فيه العمرة، وأما إعمارها من التنعيم فتطييب لقلبها، كذا قال الإمام أحمد وغيره، ويشهد له حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم، انتهى.
وظاهر كلام الخرقي وغيره أنه يلزمها إدخال الحج والحال هذه، وكذلك كل من خشي فوات الحج، حذارا من تفويت الحج الواجب على الفور.
(تنبيه) : «هنتاه» ، كناية عن البله، وقلة المعرفة بالأمور. «وليلة الصدر» ، و «ليلة الحصبة» ، «وليلة البطحاء» ، كل ذلك واحد، وهو نزوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمحصب ليلة النفر الآخر، والمحصب والأبطح، والمعرس وخيف بني كنانة واحد، وهو بطحاء مكة [وهو بين مكة] ومنى. و «سرف» ، على فرسخين من مكة، وقيل: على أربعة أميال. و «عركت» ، بفتح العين والراء، أي: حاضت، والعارك: الحائض، وكذلك «طمثت» ، حاضت، والله أعلم.

(3/318)


قال: ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم.
ش: أي إذا طهرت، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بقضائه، وهذا مما يورد على المتمتع في قضائه طواف القدوم، ويجاب عنه بأنه هنا سقط عنها لمكان العذر، كما يسقط طواف الوداع عن الحائض، أما ثم فلا عذر، والله أعلم.

قال: ومن وطئ قبل أن يرمي جمرة العقبة فقد أبطل حجهما.
ش: قد تقدمت هذه المسألة في قوله: فإن وطئ محرم في الفرج. إلا أنه ثم فصل بين أن يطأ في الفرج أو دونه، وبين هنا أن شرط بطلان الحج أن يكون قبل رمي جمرة العقبة، أما إن كان بعد رمي الجمرة فإن النسك لا يبطل، لما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

قال: وعليه دم إن كان استكرهها، ولا دم عليها.
ش: تقدمت هذه المسألة أيضا، وأن الدم بدنة، وأنها إذا طاوعته فعلى كل واحد منهما [بدنه] . والله أعلم.

قال: وإن وطئ بعد رمي جمرة العقبة فعليه دم.
ش: وإذا كان الوطء بعد التحلل الأول - كما إذا رمى جمرة العقبة - فإن النسك لا يفسد.
1780 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن رجل وقع

(3/319)


بأهله وهو بمنى، قبل أن يفيض، فأمره أن ينحر بدنة، وفي رواية عن عكرمة قال: لا أظنه إلا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: الذي يصيب أهله قبل أن يفيض يعتمر ويهدي. رواه مالك في الموطأ.
1781 - ولعموم: «الحج عرفة، من صلى صلاتنا، ووقف معنا، حتى ندفع، وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة في ليل أو نهار، فقد تم حجه، وقضى تفثه» . وقد تقدم ذلك.
ويلزمه دم، وهل هو بدنة، كما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أو شاة، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد، كالوطء دون الفرج إذا لم ينزل، والجامع عدم البطلان بهما؟ فيه روايتان، والله أعلم.

قال: ويمضي إلى التنعيم فيحرم، ليطوف وهو محرم [وكذلك المرأة] .
ش: قد تقرر أن الحج لا يبطل بالوطء بعد رمي جمرة العقبة، وإذا لم يبطل فما بقي من الإحرام يبطل، لحصول

(3/320)


الوطء فيه، وإذا يلزمه أن يحرم، ليأتي بطواف الركن في إحرام صحيح، ويحرم من الحل، ليجمع في الإحرام بين الحل والحرم، وأقرب الحل إلى مكة التنعيم، فلذلك ذكره الخرقي، - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وظاهر كلام الخرقي وجماعة أنه إذا أحرم أتى بالطواف، وإن كان لم يسع أتى بالسعي، على ما تقدم، ثم قد حل، لأن هذا هو الذي بقي عليه من حجه، قال أبو محمد: والمنصوص عن أحمد أنه يعتمر، قال: فيحتمل أنه يريد هذا، وهو يسمى عمرة، لأنه هو أفعال العمرة، ويحتمل أنه يريد عمرة حقيقية، فيلزمه سعي وتقصير.
وظاهر كلامه أيضا أن الوطء بعد رمي جمرة العقبة لا يفسد، وإن كان قبل الحلق وظاهر كلام جماعة أنه إذا أوقفنا الحل عليه فسد النسك به، لأنهم ينيطون الحكم بالحل الأول.

(3/321)


والخرقي ظاهر كلامه أنه متوقف على الحلق، وقرر أبو محمد الأول على ظاهره، وقال: إنه ظاهر كلام أحمد وغيره من الأئمة.
(تنبيهان) : «أحدهما» . إذا وطئ بعد الطواف وقبل الرمي فظاهر كلام جماعة أنه كالأول، لإناطتهم الحكم بالوطء بعد التحلل الأول، ولأبي محمد في موضع في لزوم الدم - والحال هذه احتمالان، وله في موضع القطع بلزوم الدم متابعة للأصحاب.
«الثاني» . لم يتعرض الخرقي لحكم الوطء في العمرة، والحكم أنه يجب بالوطء فيها شاة، وهل تفسد؟ إن كان قبل السعي فسدت، وإن كان بعده وجب دم ولم تفسد، نص عليه أحمد، وقاله الشيخان، ومقتضى كلامهما وإن قلنا: الحلق نسك، بل هو صريح كلام أبي محمد، وبني [ذلك] صاحب التلخيص على الحلق، إن قيل: إطلاق محظور فكذلك، وإن قيل: نسك فسدت، والله أعلم.

قال: ومباح لأهل السقاية والرعاء أن يرموا بالليل.
ش: تخفيفا، ودفعا للحرج والمشقة عنهما، إذ أهل السقاية مشتغلون بالسقي [نهارا] ، وكذلك الرعاة مشتغلون بالرعي [كذلك] فعلى هذا يرمون كل يوم في الليلة التي تعقبه، فجمرة العقبة في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق، ورمي اليوم الأول في ليلة الثاني، ورمي الثاني في ليلة الثالث، والثالث

(3/322)


إذا أخروه إلى الغروب سقط عنهم، كسقوطه عن غيرهم.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يباح الرمي في الليل لغير الصنفين، وهو ظاهر كلام أحمد، قال في رواية ابن منصور - وقد سئل عن الرمي في الليل إذا فاته فقال: - أما الرعاء فقد رخص لهم، وأما غيرهم فلا يرمون إلا بالنهار من الغد إذا زالت الشمس يرمي رميين، وكذلك صرح صاحب التلخيص بأن آخر الوقت غروب الشمس، والليل على هذا كقبل الزوال.
(تنبيه) : «أهل السقاية» : هم الذين يسقون على زمزم. «والرعاة» : بضم الراء، وبهاء في آخره، وبكسر الراء ممدودا بلا هاء، لغتان مشهورتان، والثانية لغة الكتاب والسنة، والله أعلم.

قال: ومباح للرعاء أن يؤخروا الرمي، فيقضوه في اليوم الثاني، والله أعلم.
ش: الرعاء يشق عليهم المبيت، ليرموا في كل يوم، فلذلك رخص لهم في ترك رمي يوم، ليرموه في الذي بعده.
1782 - وقد روى أبو البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للرعاء أن يرموا يوما، ويدعوا يوما» ، رواه أبو

(3/323)


داود، والنسائي والترمذي وصححه، وفي رواية: «أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يجمعون رمي يومين بعد يوم النحر، فيرمونه في آخرهما» ، قال مالك: ظننت أنه قال: في الأول منهما، ثم يرمون يوم النفر.
وقد تضمن هذا الكلام أن للرعاء ترك المبيت بمنى، وكذلك الحكم في أهل السقاية، إلا أن الخرقي لم يتعد هذا الحديث، وقد تقدم أن العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيت بمكة ليالي منى، من أجل سقايته فأذن له. إلا أن بين الرعاء وأهل السقاية فرقا، وذلك أن الرعاء متى غربت الشمس وهم بمنى لزمهم المبيت، بخلاف أهل السقاية. ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يباح تأخير الرمي من يوم إلى آخر لغير من تقدم، ولعل مراده نفي الإباحة الاصطلاحية، وهو ما استوى طرفاه، لا الإباحة التي هي بمعنى الإذن في الفعل، ومراده بالإباحة في التأخير إلى الليل الإذن في الفعل، والذي ألجأ إلى هذا أن ظاهر كلام الأصحاب أنه يجوز تأخير الرمي كله إلى آخر أيام التشريق، ولا يجوز مجاوزة أيام

(3/324)


التشريق، قال أبو محمد، وصاحب التلخيص: إذا أخر إلى آخر أيام منى [ترك السنة ولا شيء عليه، وقال أبو البركات: إذا أتى بالرمي كله في آخر أيام منى] جاز، وأصرح من هذا كلام القاضي في التعليق قال: أيام التشريق كلها بمنزلة اليوم [الواحد، واعتمد على نص أحمد المتقدم في رواية ابن منصور]- ثم قال بعد - لما قيل له: إن التأخير لليوم الثاني منهي عنه. قال -: لا نسلم، بل جميع الثلاثة وقت للرمي، إذًا لا قضاء وإنما يكون تاركا للفضيلة، انتهى.
وقوة كلام الخرقي يقتضي المنع من ذلك، وهو ظاهر الحديث، وكلام أحمد - في [غير] رواية - إنما يدل على أن اليوم الثاني [والثالث] يرمي فيه، ولا دم عليه، وليس فيه - فيما رأيت - تصريح بجواز التأخير.
(تنبيه) : وحيث أخر فرمى في اليوم الثاني أو الثالث فإنه لا بد من ترتيب ذلك بالنية، والله أعلم.