شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب البيوع]
ش: البيوع جمع بيع، مصدر: باع يبيع. بمعنى: ملك، وبمعنى: اشترى، وكذلك شرى، يكون بالمعنيين، وعن أبي عبيدة وغيره: أباع بمعنى باع، وهو (في اللغة) قيل: أن يدفع عوضا ويأخذ معوضا منه. وقال أبو عبد الله السامري: إنه الإيجاب والقبول إذا تناول عينين، أو عينا بثمن.
(وفي الشرع) قال القاضي وابن الزاغوني وغيرهما: إنه عبارة عن الإيجاب والقبول، إذا تضمن عينين للتمليك، وأبدل السامري: عينين. بمالين، ليحترز عما ليس بمال، فلا يطرد لدخول الربا، وقد يدخل القرض على الثاني، فلا ينعكس، لخروج بيع المعاطاة، على رواية مختارة، وخروج المنافع كممر الدار ونحوه، والبيع في الذمة. وقال أبو محمد:

(3/378)


مبادلة المال بالمال لغرض التمليك، فدخلت المعاطاة، وقد يدخل القرض، إلا أنه وإن قصد فيه التملك لكن المقصود الأعظم فيه الإرفاق، لكنه يدخل عليه الربا. وحده بعض المتأخرين بأنه: تمليك عين مالية، أو منفعة مباحة، على التأبيد، بعوض مالي على التأبيد، ويدخل عليه أيضا القرض والربا، وبالجملة الحدود قل ما يسلم منها، انتهى.
واشتقاقه قال أبو محمد وكثير من الفقهاء: إنه مشتق من الباع، لأن كل واحد منهما يمد باعه للأخذ. ورد (من جهة الصناعة) بأنه مصدر، والمصدر على رأي البصريين منبع

(3/379)


الاشتقاق، فهو مشتق منه، لا أنه مشتق، فإن أجيب بالتزام مذهب الكوفيين بأن الأصل والاشتقاق للفعل رد بأنه الفعل الذي منه المصدر، لا فعل مقدر آخر، لأن الباع عينه واو، إذ هو من: بوع. والبيع عينه ياء، من: بيع. وشرط الاشتقاق موافقة الأصل والفرع في الحروف الأصول، وقد يجاب عن هذا وعن كثير من اشتقاقات الفقهاء بأن هذا من الاشتقاق الأكبر، الذي يلحظ فيه المعنى، دون الموافقة في الحروف، ولا ريب أن بين البيع والباع مناسبة ما كما تقدم، على أن بعض البيانيين لم يشترط الموافقة على المعنى [أيضا] فقال في قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168] : إنه من الاشتقاق الكبير، المشبه للاشتقاق الصغير، مع أن قال

(3/380)


من القول، (والقالين) من القلي، وهو البغض، فالحروف لم تتفق، والمعنى لم يتحد. (ومن جهة المعنى) بالبيع في الذمة ونحوه، لانتفاء مد الباع فيه.
وقيل: إنه مشتق من البيعة، وفيه نظر، إذ المصدر لا يشتق من المصدر، ثم معنى البيع غير معنى المبايعة. انتهى.
وهو مما علم جوازه من دين الله سبحانه بالضرورة، وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على ذلك، قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ، إن قيل: إن الألف واللام فيه للاستغراق أو للعهد، بناء على أنه منقول شرعي، أما إن قيل: إنه مجمل، فلا، وأما السنة فما لا يحصى كثرة، وسيأتي جملة منه إن شاء الله، وأما الإجماع فبنقل الأثبات، ثم الحكمة تقتضيه، إذ الإنسان قد يحتاج إلى ما في يد

(3/381)


صاحبه من مأكول، وملبوس، وغير ذلك، وليس كل أحد يسمح أن يبذل ماله مجانا، فاقتضت الحكمة جواز ذلك، تحصيلا للمصلحة من الطرفين.
واعلم أن ماهية البيع مركبة من ثلاثة أشياء، عاقد، ومعقود عليه، ومعقود به (أما العاقد) فيشترط له أهلية التصرف، وهو أن يكون بالغا، عاقلا، مأذونا له، مختارا، غير محجور عليه، (وأما المعقود به) فهو كل ما دل على الرضا، ولا يتعين: بعت واشتريت. على أشهر الروايتين، وهل يتعين [اللفظ] فلا يصح بيع المعاطاة، أو لا يتعين، فيصح، أو يتعين فيما له خطر دون المحقرات؟ على ثلاثة أقوال، وفصل الخطاب في ذلك أن قوله سبحانه: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، هل المعتبر حقيقة الرضى، فلا بد من صريح القول، أو ما يدل عليه، فيكتفى بما يدل على ذلك؟ فيه قولان للعلماء.
ثم رتبة الإيجاب التقدم، ورتبة القبول التعاقب له، فإن تقدم القبول الإيجاب بلفظ الطلب نحو: بعني. فروايتان منصوصتان، وخرجهما أبو الخطاب وجماعة فيما إذا تقدم بلفظ الماضي، نحو: ابتعت منك.
وظاهر كلام أبي محمد في الكافي منع ذلك، والجزم بالصحة، أما الاستفهام نحو:

(3/382)


أتبيعني؟ فليس بقبول، وإذا لا مدخل له في التقسيم، وإن تراخى القبول عن الإيجاب صح ما داما في مجلس العقد، ولم يتشاغلا بما يقطعه. وأما المعقود [عليه] فيشترط له شروط: (أحدها) كونه مما فيه منفعة مباحة لغير حاجة.
(الثاني) : كونه مأذونا للعاقد في بيعه، بملك أو إذن.
(الثالث) : كونه معلوما للمتعاقدين برؤية حال العقد بلا ريب، وكذلك على المذهب بصفة ضابطة لما يختلف به الثمن غالبا، أو برؤية متقدمة بشرط عدم تغير المبيع غالبا.
(الرابع) كونه مقدورا على تسليمه، ثم مع [جميع] ذلك لا بد من انتفاء مانعه، وهو مقارنة نهي من الشارع، وتحقيق ذلك يحتاج إلى بسط طويل، لا يليق بهذا الكتاب، والله أعلم.